صفحة 2 من 3 الأولىالأولى 123 الأخيرةالأخيرة
النتائج 16 إلى 30 من 34
  1. #16
    تاريخ التسجيل
    Jul 2004
    الدولة
    هناك
    المشاركات
    28,205

    افتراضي

    [align=center]الاشتراكية
    ولنأخذ الآن بدراسة الأركان والمعالم الرئيسية للاشتراكية، بشيء من
    التفصيل.
    فالركن الأول: هو محو الطبقية، الذي يضع حداً فاصلاً لما زخر به
    تاريخ البشرية_ على مر الزمن_ من ألوان الصراع. لأن مرد تلك الألوان
    إلى فإذا اقامت الاشتراكية وحولت المجتمع إلى طبقة واحدة، زال التناقض التناقض الطبقي، الذي نتج عن انقسام المجتمع إلى مالكين ومعدمين
    الطبقي، واختفت كل ألوان الصراع، وساد الوئام والسلام إلى الأبد.
    وتقوم الفكرة في هذا على أساس رأى المادية التاريخية القائل: إن العامل
    الاقتصادي هو العامل الأساسي الوحيد في حياة المجتمع. فقد أدى هذا الرأي بالماركسية إلى القول: بأن حالة الملكية الخاصة التي قسمت المجتمع إلى
    مالكين ومعدمين، هي الأساس الواقعي للتركيب الطبقي في المجتمع،
    ولكن ما يتمخض عنه هذا التركيب من تناقض وصراع. وما دام المجتمع
    الاشتراكي يلغى الملكية الخاصة، ويؤمم وسائل الإنتاج، فهو ينسف


    الأساس التاريخي للطبقية، ويصبح من المستحيل أن يواصل التركيب الطبقي
    وجوده، بعد زوال الشروط الاقتصادية التي كان يرتكز عليها.
    وقد عرفنا في دراستنا للمادية التاريخية: إن العامل الاقتصادي، ووضع
    الملكية الخاصة، ليس هو الأساس الوحيد لكل التركيبات الطبقية على
    مسرح التاريخ. فكم من تركيب طبقي كان يقوم على أسس عسكرية أو
    سياسية أو دينية؟! كما رأينا فيما سبق. فليس من الضروري تاريخياً أن
    تختفي الطبقية بإزالة الملكية الخاصة، بل من الممكن أن يحدث للمجتمع
    الاشتراكي تركيب طبقي على أساس آخر.
    ونحن إذا حلّلنا المرحلة الاشتراكية، وجدنا أنها تؤدي_ بطبيعتها
    الاقتصادية والسياسية_ إلى خلق لون جديد من التناقض الطبقي، بعد
    القضاء على الأشكال الطبقية السابقة.
    أما الطبيعة الاقتصادية للمرحلة الاشتراكية، فتمثل في مبدأ التوزيع
    القائل(من كل حسب طاقته ولكل حسب عمله) وسوف نرى عند
    دراسة هذا المبدأ: كيف أنه يؤدي إلى خلق التفاوت من جديد؟ فلنأخذ
    الآن الطبيعة السياسية للمرحلة الاشتراكية بالبحث والتمحيص.
    إن الشرط الأساسي للتجربة الثورة الاشتراكية، أن تتحقق على أيدي
    ثوريين محترفين يتسلمون قيادتها. إذ ليس من المعقول أن تباشر البروليتاريا،
    بجميع عناصرها، قيادة الثورة وتوجيه التجربة، وإنما يجب أن تمارس
    نشاطها الثوري في ظل القيادة والتوجيه. لذلك أكد لينين، بعد فشل
    ثورة (1905) على: أن الثوريين المحترفين، هم وحدهم الذين يستطيعون
    أن يؤلفوا حزباً جديداً بلشفي الطراز... وهكذا نجد أن القيادة الثورية
    للطبقة العاملة، كانت ملكاً طبيعياً لمن يدعون أنفسهم بالثوريين المحترفين،
    كما كانت القيادة الثورية للفلاحين والعمال في ثورات سابقة، ملكاً لأشخاص


    ليسوا من الفلاحين والعمال، مع فارق واحد بين الحالين، وهو أن الامتياز
    القيادي للأشخاص في المرحلة الاشتراكية لا يعبّر عن نفوذ اقتصادي،
    وإنما ينشأ عن خصائص فكرية وثورية وحزبية خاصة. وقد كان هذا
    اللون الثوري والحزبي ستاراً على واقع التجربة الاشتراكية التي مرت بها
    أوروبا الشرقية، حجب الحقيقة عن الناس، فلم يستطيعوا أن يتبينوا_
    باديء الأمر_ في تلك القيادة الثورية للتجربة الاشتراكية، بذرة لأفظع
    ما تصف الماركسية من ألوان الطبقية في التاريخ. لأن هذه القيادة يجب
    أن تستلم السلطة بشكل مطلق لطبيعة المرحلة الاشتراكية في رأي الماركسية
    القائل: بضرورة قيام دكتاتورية وسلطة مركزية مطلقة، لتصفية حسابات
    الرأسمالية نهائياً. فقد وصف لينين طبيعة السلطة في جهاز الحزب، التي
    تمتلك السلطة الحقيقة في البلاد خلال الثورة قائلاً:
    (في المرحلة الراهنة من الحرب الإهلية الحادة،
    لا يمكن لحزب شيوعي أن يقدر على أداء واجبه، إلا
    إذا كان منظماً بأقصى نمط مركزي وإلا إذا سيطر
    عليه نظام حديدي يوازي النظام العسكري وإلا إذا كان جهازه المركزي جهازاً قوياً تسلطاً يتمتع بصلاحيات
    واسعة وبثقة أعضاء الحزب الكلية).
    وأضاف ستالين إلى ما تقدم:
    (هذا هو الوضع فيما بتعلق بالنظام في الحزب،
    أثناء فترة الكفاح التي تسبق تحقيق الديكتاتورية، ويجب
    _ بل حتى إلى درجة أعظم_ أن يقال الشيء ذاته عن
    النظام في الحزب بعد أن يكون قد تم تحقيق الدكتاتورية).
    فالتجربة الاشتراكية إذن تتميز بصورة خاصة عن سائر التجارب
    الثورية، بأنها مضطرة كما يرى أقطابها_ إلى الاستمرار في النهج الثوري،


    والأسلوب المطلق في الحكم، داخل نطاق الحزب وخارجه، من أجل
    خلق الإنسان الاشتراكي الجديد، البريء من أمراض المجتمعات الطبقية
    وميولها الاستغلالية التي عاشتها الإنسانية آلاف السنين.
    وهكذا يصبح من الضروري أن يباشر الثوريون القادة، ومن يدور
    في فلكهم الحزبي، السلطة بشكل غير محدود، ليتأتى لهم تحقيق المعجزة
    وصنع الإنسان الجديد.
    وحين نصل إلى هذه المرحلة من تسلسل التجربة الاشتراكية، نجد أن
    هؤلاء القادة في الجهاز الحزبي والسياسي وأنصارهم، يتمتعون بإمكانات
    لم تتمتع بها أكثر الطبقات على مر التاريخ، ولا يفقدون من خصائص الطبقة
    شيئاً، فهم قد كسبوا سلطة مطلقة على جميع الممتلكات، ووسائل الإنتاج
    المؤممة في البلاد، ومركزاً سياسياً يتيح لهم الانتفاع بتلك الممتلكات،
    والتصرف بها طبقاً لمصالحهم الخاصة. وإيماناً راسخاً بأن سيطرتهم المطلقة
    تكفل السعادة والرخاء لجميع الناس كما كانت تؤمن بذلك الفئات السابقة.
    التي مارست الحكم في العهود الإقطاعية والرأسمالية.
    والفرق الوحيد بين طبقة هؤلاء الثوريين الحاكمين، وسائر الطبقات
    التي حدثتنا الماركسية عنها: أن تلك الطبقات كانت توجد وتنمو_ في
    رأي الماركسين_ تبعاً لعلاقات الملكية القائمة بين الناس. وطبيعة هذه
    العلاقات هي التي كانت تحدد اندراج هذا الشخص ضمن هذه الطبقة أو
    تلك. وأما هؤلاء المالكون الجدد في المرحلة الاشتراكية، فليست طبيعة
    الملكية هي التي تحدد اندراجهم في الطبقة الحاكمة. فلا يندرج هذا الشخص
    أو ذاك في الطبقة الحاكمة لأن له ملكية خاصة بدرجة معينة في المجتمع،
    كما كانت تفترض الماركسية بالنسبة إلى المجتمعات الطبقية السابقة، بل
    العكس هو الذي يصدق على المجتمع الاشتراكي الماركسي. فإن هذا أو


    ذلك يتمتع بامتيازات خاصة، أو المحتوى الحقيقي للملكية لأنه مندرج في
    الطبقة الحاكمة.
    وتفسير هذا الفرق بين الطبقة في المجتمع الاشتراكي، وغيرها من
    الطبقات.. واضح. فإن هذه الطبقة لم تولد على الصعيد الاقتصادي، الذي
    ولدت عليه سائر الطبقات في زعم الماركسية، وإنما نشأت ونمت على
    الصعيد السياسي، ضمن تنظيم ذي طراز معين، قائم على أسس فلسفية
    وعقائدية وفكرية خاصة، أي ضمن الحزب الثوري الذي يتزعم التجربة.
    فالحزب بنظامه وحدوده الخاصة هو مصنع هذه الطبقة الحاكمة.
    وتنحصر مظاهر هذه الطبقة الحزبية، فيما يتمتع به أفراد هذه الطبقة
    من امتيازات الإدارة غير المحدودة، التي تمتد من إدارة الدولة وإدارة
    المؤسسات الصناعية ومشاريع الإنتاج.. إلى كل مناحي الحياة كما تنعكس
    أيضاً في التناقضات الشديدة، بين أجور العمال ورواتب موظفي الحزب.
    وفي ضوء الظروف الطبقية، التي تؤدي إليها المرحلة الاشتراكية
    الماركسية، يمكن أن نفسر ألوان التناقض والصراع على الصعيد السياسي،
    في العالم الاشتراكي، التي تتمثل أحياناً في عمليات تطهير هائلة. فإن الطبقة
    الممتازة في ظل التجربة الاشتراكية، وإن نشأت في داخل الحزب كما رأينا،
    إلا أنها من ناحية لا تشمل الحزب كله ومن ناحية أخرى يمكن أن تمتد إلى
    خارج نطاق الحزب، طبقاً للظروف التي تكتنف القيادة ومتطلباتها.
    ولذلك كان من الطبيعي أن تواجه الطبقة المتفردة بالامتياز، معارضة
    شديدة في داخل الحزب، من الأشخاص الذين لم تستوعبهم تلك الطبقة
    بالرغم من حزبيتهم، أو طردتهم من حضريتها فأخذوا يعتبرون هذا التركيب
    الطبقي الجديد، خيانة للمباديء التي ينادون بها.
    وكذلك تواجه الطبقة الممتازة معارضة هائلة في خارج الحزب، ممن


    أتاح الواقع السياسي للفئة الممتازة أن تستثمرهم، على شكل امتيازات خاصة،
    وحقوق معينة، واحتكارات للأجهزة الإدارية والمرافق الحيوية في البلاد.
    ويبدو من المنطقي_ بعد ذلك_ أن تحدث عمليات تطهير واسعة
    النطاق_ كما يسميها الشيوعيون_ بوصفها انعكاساً لتلك الظروف والتناقضات الطبقية. ومن الطبيعي أيضاً أن تكون تلك العمليات هائلة في صرامتها
    وشمولها، تبعاً لقوة المركز الطبقي الذي تتمتع به الفئة الحاكمة في الحزب
    والدولة.
    ويكفينا لكي نتبين مدى الصرامة وقوة الشمول، التي تتسم بها تلك
    العمليات، أن تعلم أنها كانت تجري في الذروة العليا في كيان الحزب كما
    تجري في القاعدة، باستمرار وعنف قد يفوق كثيراً العنف الذي تعرضه
    الماركسية كطابع عام لأشكال التناقض الطبقي المختلفة في التاريخ. فقد
    شملت عمليات التطهير في مرة تسعة وزراء من أعضاء الوزارة الأحد عشر،
    الذين كانوا يديرون دفة الحكومة السوفياتية عام(1936)، وشملت أيضاً
    خمسة رؤساء من الرؤساء السبعة للجنة السوفيات التنفيذية المركزية،
    التي وضعت دستور 1936، واكتسحت ثلاثة وأربعين أميناً من أمناء سر
    منظمة الحزب المركزية، الذين كان يبلغ مجموعهم ثلاثة وخميسين أميناً،
    وكذلك سبعين عضواً من أعضاء مجلس الحزب الثمانين، وثلاثة من
    مارشالات الجيش السوفياتي الخمسة، و60% تقريباً من مجموع جنرالات
    السوفيات، وجميع أعضاء المكتب السياسي الأول الذي أنشأه لينين بعد
    الثورة، باستثناء ستالين. كما أدت عمليات التطهير إلى طرد ما يزيد على
    مليونين من أعضاء الحزب، وما حل عام(1939) حتى كان عدد أعضاء
    الحزب الرسمي مليونين ونصف المليون عضو، وعدد المطرودين مليونين
    عضو، وبذلك كاد الحزب الشيوعي المطرود أن يوازي الحزب الشيوعي
    نفسه.

    ولا نرمي من وراء هذا إلى التشهير بالجهاز الحاكم في المجتمع الإشتراكي
    _ وليس التشهير من شأن هذا الكتاب_ وإنما نرمي إلى تحليل المرحلة
    الاشتراكية تحليلاً علمياً، لنجد: كيف تؤدي بطبيعتها المادية الدكتاتورية،
    إلى ظروف طبقية تتمخض عن ألوان رهيبة من الصراع؟! وإذا بالتجربة
    التي جاءت لتمحو الطبقية، قد أنشأتها من جديد.
    * * *
    والسلطة الدكتاتورية_ التي هي الركن الثاني في المرحلة الاشتراكية_
    ليست ضرورية لأجل تصفية حساب الرأسمالية فحسب، كما تزعم الماركسية،
    إذ تعتبرها ضرورة مؤقتة، تستمر حتى يقضى على كل خصائص الرأسمالية
    الروحية والفكرية والاجتماعية.. وإنما تعبّر عن ضرورة أعمق في طبيعة
    الاشتراكية الماركسية، المؤمنة بضرورة التخطيط الاقتصادي الموجه،
    لكل شعب النشاط الاقتصادي في الحياة. فإن وضع مثل هذا التخطيط
    وتنفيذه يتطلب سلطة قوية لا تخضع للمراقبة، وتتمتع بامكانات هائلة،
    ليتاح لها أن تقبض بيد حديدية على كل مرافق البلاد، وتقسمها وفقاً لمخطط
    دقيق شامل. فالتخطيط الاقتصادي المركزي يفرض على السلطة السياسية
    طبيعة دكتاتورية إلى حد بعيد وليست مهمة تصفية الجو من التراث الرأسمالي،
    وهي وحدها التي تفرض هذا اللون السياسي من الحكم.
    * * *
    ونصل بعد هذا إلى التأميم، بوصفه الركن الثالث للمرحلة الاشتراكية.
    والفكرة العلمية في التأميم تقوم على: أساس تناقضات القيمة الفائضة،
    التي تتكشف عنها الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج، في رأس ماركس. فإن
    هذه التناقضات تتراكم، حتى يصبح تأميم كل وسائل الإنتاج ضرورة
    تاريخية لا محيد عنها.

    وقد مر بنا الحديث عن هذا التناقضات المزعومة، وكيف أنها تقوم
    على أسس تحليلية خاطئة؟! ومن الطبيعي أن تمنى النتائج بالخطأ إذا كانت
    الأسس التي يقوم عليها التحليل مضلله وغير صحيحة.
    وأما الفكرة المذهبية في التأميم فتتلخص: في محو الملكية الخاصة وتتويج
    المجموع بملكية وسائل الإنتاج في البلاد، ليصبح كل فرد_ في نطاق
    المجموع_ مالكاً لثروات البلاد كلها كما بملكها الآخرون.
    غير أن هذه الفكرة تصطدم بواقع هو الواقع السياسي للمرحلة الإشتراكية
    الذي يتجسم في طبقة تتمتع بحكم دكتاتوري مطلق في أجهزة الحزب
    والدولة. فلا يكفي في هذا الحال أن تلغي الملكية الخاصة قانونياً، ويتم
    الإعلان عن ملكية المجموع للثروة.. ليتمتع هذا المجموع بملكيتها حقاً،
    ويجد محتواها الحقيقي في حياته التي يعيشها. بل أن طبيعة الموقف السياسي
    سوف تجعل حظ المجموع في تملّكه خطاً قانونياً فحسب، وتسمح للطبقة
    الحاكمة أن تتمتع بالمحتوى الحقيقي للملكية، الذي يتمثل في سيطرتها المطلقة
    على مقدرات البلاد وثرواتها. وهكذا تحصل هذه الطبقة على نفس الفرص.
    التي كان الرأسماليون الاحتكاريون يتمتعون بها في المجتمع الرأسمالي،
    إذ تقف_ فوق الأنظمة_ وراء كل عمل من أعمال الدولة، وتحتكر
    لنفسها حق تمثيل المجتمع اللاطبقي والتصرف في ممتلكاته، وتصبح_ في
    هذه اللحظة_ أقدر من أي رأسمالي آخر على سرقة القيمة الفائضة، فما
    هي الضمانات العلمية في هذا المجال؟!
    وإذا أردنا أن نستعير من الماركسية لغتها، أمكننا القول: بأن التأميم في
    المجتمع الاشتراكي الماركسي، يبرز تناقضاً بين الملكية الاشتراكية للمجموع
    والجوهر الحقيقي للملكية الذي تتمتع به الطبقة الحاكمة. فإن الملكية_
    بجوهرها الواقعي_ ليست إلا السلطة على الثروة والقدرة على التمتع بها
    بمختلف الأساليب. وهذا الجوهر هو الذي تتمتع به القوى السياسية،

    المهيمنة على كل كيانات المجتمع وينعكس على الصعيد القانوني بشكل
    امتيازات وحقوق ليست في الحقيقة إلا ستاراً مزيفاً، وترجمة قانونية لجوهر
    الملكية الحقيقي، غير أن هذا المالك الجديد في المجتمع الاشتراكي الماركسي،
    يختلف عن أي مالك سابق في نقطة، وهي أنه لا يستطيع أن يعترف بملكيته
    قانونياً، لأن ذلك يناقض طبيعة موقفه السياسي. فالاشتراكية_ بحكم
    طبيعتها السياسية_ تحمل بذرة هذا المالك الجديد وتخلقه عبر تجربتها، وإن
    كانت تفرض عليه في نفس الوقت أن ينكر دوره الحقيقي في الحياة الإقتصادية
    وتجعله أكثر حياء وخجلاً من الرأسمالي، الذي كان يعلن بكل وقاحه عن
    ملكيته الخاصة.
    وليس التأميم في الاشتراكية الماركسية حدثاً فريداً في التاريخ، فقد
    وقعت تجارب سابقة لفكرة التأميم عبر التاريخ، إذ قامت بعض الدول
    القديمة بتأميم كل وسائل الإنتاج، وحصلت بسبب ذلك على مكاسب تشابه
    تماماً المكاسب، التي حصلت عليها الاشتراكية الماركسية في تجربتها. ففي
    بعض الممالك الهيلينستية وفي مصر خاصة اتبعت الدولة مبدأ التأميم، وأخضعت
    الإنتاج والمبادلة لإشرافها، وتولت بنفسها إدارة معظم فروع الإنتاج،
    فجلب هذا النظام للدولة فوائد كبيرة، ولكنه حيث كان ينفذ في إطار
    سلطة فرعونية مطلقة، لم يستطع بعد ذلك أن يخفي جوهره. فإن التأميم في
    ظل سلطة مطلقة تنشيء الملكية الجماعية لتوسعة الإنتاج، لا يمكن أن يؤدي
    واقعياً إلا إلى تملك السلطة نفسها، وتحكمها في الممتلكات المؤممة.. ولهذا
    ظهرت في التجربة القديمة خيانة الموظفين، واستبداد السلطة التي كانت
    تتجسد في شخص الملك، حتى قفز الملك إلى درجة(إله) وأصبحت القوى
    الهائلة تنفق كلها لحساب هذا الإله الحاكم، وتحقيق رغباته من بناء المعابد
    والقصور والقبور.
    ولم يكن من الصفة أن تقترن تجربة التأميم في أقدم العهود الفرعونية...


    بنفس الظواهر التي اقترنت بها تجربة التأميم الماركسية في العصر الحديث،
    من التقدم السريع في حركة الإنتاج. وتمتع السلطة بقوة تشتد وتنمو بشكل
    هائل، وانحرافها واستبدادها بعد ذلك بالثروة المؤممة. فقد تقدمت حركة
    الإنتاج في ظل التجربة الحديثة للتأميم، كما تقدمت في ظل التأميم الفرعوني،
    لأن التسخير غير الحر، في الإنتاج، يثمر دائماً التقدم السريع الموقت في
    حركة الإنتاج. ونشأ التأميم في كل من التجربتين في ظل سلطة عليا،
    لا تعترف لنفسها بحدود لأن التأميم حينما يقصد منه تنمية الإنتاج فحسب،
    يتطلب مثل هذه السلطة الحديدية.
    ونتج عن ذلك في كل من التجربتين أيضاً، استفحال أمر السلطة
    وتمتعها بالجوهر الحقيقي للملكية، لأن التأميم لم يقم على أساس روحي، أو
    قناعة بقيم خليقة للإنسان وإنما قام على أساس مادي، لتحقيق أكبر نصيب
    من الإنتاج فمن الطبيعي أن لا تجد السلطة تعارضاً بين هذا الهدف المادي،
    وبين ما تحيط به نفسها من امتيازات ومتعة. ومن الطبيعي أيضاً أن لا يقر
    الجهاز الحاكم الملكية العامة عملياً، إلا في حدود الدافع المادي الذي يدفعه
    إلى مضاعفة الإنتاج وتنميته.
    ولا يبدو غريباً بعد ذلك، أن نجد جهاز الدولة في التجربة القديمة،
    وهو يضج بخيانات الموظفين وإثرائهم على حساب الممتلكات العامة، ونجد
    ستالين في التجربة الحديثة، وهو يضطر إلى الاعتراف بأن كبار رجال
    الدولة والحزب قد استغلوا فرصة انشغال دولتهم بالحرب الأخيرة، فجمعوا
    الأموال والثروات حتى أنه أذاع ذلك في منشور عممه على جميع أبناء
    الشعب.
    فالتشابه بين التجربتين الاشتراكيتين واضح كل الوضوح، في الظواهر
    والنتائج، وبالرغم من اختلاف ظروفهما المدنية وأشكال الإنتاج فيهما.

    وهذا يشير إلى أن الجوهر في كلتا التجربتين واحد مهما اختلفت الألوان
    والإطارات.
    وهكذا نعرف أن كل تجربة للتأميم، تمنى بنفس النتائج إذا كانت في
    نفس الإطار السياسي للتجربة الماركسية، إطار السلطة المطلقة، وكان
    المبرر الموضوعي لها في رأي قادة التجربة، هو نفس المبرر الذي يباشر
    قادة الماركسية تجربتهم على أساسه، وهو تنمية الإنتاج التي هي القوة الدافعة
    للتاريخ على مر الزمن في مفاهيم المادية التاريخية.
    * * *
    وأما الركن الأخير من المرحلة الاشتراكية، فهو_ كما سبق_ مبدأ
    التوزيع القائل: من كل حسب طاقته ولكل حسب عمله.
    ويرتكز هذا المبدأ_ من الناحية العلمية_ على قوانين المادية التاريخية.
    فإن المجتمع بعد أن يصبح طبقة واحدة، بموجب قانون الاشتراكية الحديثة،
    ولا تبقى طبقة عاملة وأخرى مالكة.. يكون من الضروري لكل فرد أن
    يعمل ليعيش. كما أن القانون الماركسي للقيمة القائل: أن العمل هو أساس
    القيمة.. يجعل لكل عامل نصيباً من الإنتاج، بالقدر الذي يتفق مع كمية
    عمله. وهكذا يسير التوزيع على أن(من كل حسب طاقته ولكل حسب
    عمله).
    وهذا المبدأ يأخذ بالتناقض مع الطبيعة اللاطبقية للمرحلة الاشتراكية،
    منذ أن يوضع موضع التنفيذ. فإن الأفراد يختلفون في أعمالهم تبعاً لاختلاف
    كفاءاتهم، ولنوعية العمل ودرجة تعقيده. فهذا عامل لا يطيق من العمل
    ست ساعات، وذلك عامل أقوى منه بنية، يستطيع أن يعمل عشر ساعات
    في كل يوم، وهذا عامل موهوب يملك من القريحة والنباهة ما يجعله يدخل
    تحسينات على طريقة الإنتاج، وينتج ضعف ما ينتجه الآخرون، وذلك
    عامل لم يواته الحظ، قد خلق للتقليد لا للابتكار، وهذا عامل في مدرب

    يمارس إنتاج الأجهزة الكهربائية الدقيقة، وذاك عامل بسيط لا يمكن أن
    يستخدم إلا في حمل الأثقال، وثالث يعمل في الحقل السياسي ويتوقف على
    عمله مصير البلاد كلها.
    واختلاف هذه الأعمال يؤدي إلى تفاوت القيم التي تخلقها تلك الأعمال.
    وليست هذا الألوان الصارخة من التفاوت بين نفس الأعمال، أو
    القيم الناتجة عنها، مستمدة من واقع اجتماعي معين، بل إن الماركسية
    نفسها تعترف بذلك، إذ تقسم العمل إلى: بسيط ومركب، وترى أن
    قيمة ساعة عمل مركب شديد التعقيد، قد تفوق بأضعاف قيمة ساعة من
    العمل البسيط.
    والمجتمع الاشتراكي إذ يواجه هذه المشكلة، لا يوجد أمامه إلا
    سبيلان للحل.
    أحدهما: أن يحتفظ بمبدأ التوزيع القائل:(لكل حسب عمله)،
    فيوزع الناتج على الأفراد بدرجات مختلفة، وبذلك ينشيء الفروق الطبقية
    مرة أخرى، فيمنى المجتمع الاشتراكي بالتركيب الطبقي بأسلوب جديد.
    والآخر: أن يستعير المجتمع الاشتراكي من الرأسمالي طريقته في
    اقتطاع القيمة الفائضة، على رأي ماركس، فيساوي بين جميع الأفراد
    في الأجور.
    وللنظرية والتطبيق اتجاهان مختلفان في حل هذه المشكلة.
    فالتطبيق_ أو واقع المجتمع الاشتراكي القائم اليوم_ يتجه إلى حل
    المشكلة بسلوك السبيل الأول، الذي يدفع المجتمع إلى التناقضات الطبقية من
    جديد ولذلك نجد أن النسبة بين الدخل المنخفض، والدخل الراقي في روسيا
    تبلغ على ما قيل 5% و1.5%، تبعاً لاختلاف التقديرات، فقد وجد القادة الاشتراكيون: أن من المستحيل عملياً تنفيذ المساواة المطلقة، والنزول


    بأعمال العلماء والسياسيين والعسكريين إلى مستوى العمل البسيط، لأن
    ذلك يجمد النمو الفكري، ويعطل الحياة الفنية والعقلية، ويجعل أكثر
    الأفراد ينصرفون إلى أتفه الأعمال ما دام الأجر هو الأجر، مهما اختلف
    العمل وتعقد. ولهذا السبب نشأت الفوارق والتناقضات في ظل التجربة
    الاشتراكية وقامت بعد ذلك السلطة الحاكمة بتعميق هذه الفوارق والتناقضات
    وفقاً لطبيعتها السياسية، فأنشأت طبقة البوليس السري، وميزت عملها
    الجاسوسي بامتيازات ضخمة، وسخرتها لتدعيم كيانها الدكتاتوري، ولم
    يستيقظ المجتمع بعد أن أسفر الصبح إلا عن نفس الواقع، الذي كانت
    تمنيه الاشتراكية بالخلاص منه.
    وأما اتجاه النظرية في حل المشكلة: فقد جاءت إشارة إلى تجديد هذا
    الاتجاه في كتاب(ضد دوهرنك)، إذ عرض انجلز المشكلة، وكتب
    في الجواب عليها.
    ((كيف سنحل إذن مسألة دفع أعلى الأجور عن العمل المركب، وهي مسألة هامة برمتها؟. يدفع
    الأفراد أو عائلاتهم في مجتمع المنتجين الخاصين تكاليف تدريب العامل الكفؤ، لذا فإن الثمن العالي الذي يدفع
    عن القوة العاملة الكفؤة ناجم عن الأفراد أنفسهم.
    فالرقيق الماهر يباع بثمن عال، وكاسب الأجر والماهر
    تدفع له أجور عالية. إن المجتمع إذ يكون منظماً تنظيماً اشتراكياً فإنه هو الذي يتحمل هذه التكاليف. فإليه
    إذن تعود ثمراتها وهي القيم العالية التي ينتجها العمل
    المركب، ولا تكون زيادة الأجور مطلباً من مطالب العامل))( ).

    وهذا الحل النظري للمشكلة الذي يقدمه انجلز، يفترض أن القيم العالية
    التي يمتاز بها العمل المركب عن العمل البسيط، تعادل تكاليف تدريب
    العامل الكفؤ على العمل المركب. ونظراً إلى أن الفرد في المجتمع الرأسمالي
    يتحمل بنفسه تكاليف تدريبه، فيستحق تلك القيم التي نجمت عن تدريبه.
    وأما في المجتمع الاشتراكي فالدولة هي التي تنفق على تدريبه، فتكون
    وحدها صاحبة الحق في القيم العالية للعمل المركب، وليس للعامل الفني
    حينئذ أن يطالب بأجر يزيد على أجر العامل البسيط.
    ولكن هذا الافتراض يناقض الواقع، فإن القيم العالية التي يحصل عليها
    العامل السياسي العسكري، في مجتمع المنتجين الخاصين_ في المجتمع
    الرأسمالي_ تزيد كثيراً عن تكاليف دراسته للعلوم السياسية والعسكرية،
    كما مر سابقاً.
    أضعف إلى ذلك أن انجلز لم يضع معالجته للمشكلة في صيغة دقيقة،
    تنفق مع الأسس العلمية المزعومة في الاقتصاد الماركسي،فقد غاب عن
    ذهن انجلز أن السلعة التي ينتجها العامل الفني المدرب، لا يدخل في قيمتها
    _ التي يخلقها العامل_ ثمن تدريبه وأجور دراسته، وإنما الذي يحدد قيمتها
    كمية العمل المنفقة على إنتاجها فعلاً، مع كمية العمل التي أنفقها العامل
    خلال الدراسة والتدريب. فمن الممكن أن ينفق العامل عشر سنوات من
    العمل في التدريب، ويكلفه، ذلك ألف دينار. ويكون ثمن التدريب هذا
    _ هو ألف دينار_ معبراً عن كمية من العمل المختزن فيه، تقل عن عمل
    عشر سنوات. فأجرة التدريب_ في هذا الفرض_ تصبح أقل من القيمة
    التي ساهم عمل العامل خلال تدريبه في إيجادها، نظير تكاليف تجديد قوة
    العمل، التي تقل عن القيمة التي يخلقها العمل نفسه، كما تزعم نظرية القيمة
    الفائضة.
    فما يصنع انجلز إذا أصبحت كمية العمل، الماثلة في تكاليف تدريب


    العامل.. أقل من كمية العمل التي ينفقها العامل خلال التدريب؟! إن
    الدولة ليس من حقها في هذه الحال_ على أساس الاقتصاد الماركسي_
    أن تقتطف ثمرات التدريب، وتسلب من العامل القيمة التي خلقها بعمله.
    في السلعة خلال التدريب، بوصفها قد دفعت أجرة التدريب، لأن القيمة
    الزائدة التي يتمتع بها منتوج العامل الفني، لا تعبر عن تكاليف تدريبه وأجرة
    دراسته، بل عن العمل الذي قضاه العامل خلال الدراسة. فإذا زاد هذا
    العمل على كمية العمل المتمثلة في نفقات التدريب، كان للعامل الحق في
    زيادة الأجر على إنتاجه الفني.
    وشيء آخر فات انجلز أيضاً وهو: أن تعقيد العمل لا ينشأ دائماً من
    التدريب، بل قد يحصل بسبب مواهب طبيعية في العامل، تجعله ينتج في
    ساعة من العمل ما لا ينتج اجتماعياً إلا خلال ساعتين. فهو يخلق في الساعة
    القيمة التي يخلقها غيره في ساعتين، بسبب من كفاءته الطبيعية، لا من
    تدريس سابق. فهل يأخذ هذا العامل ضعف ما يأخذه غيره، فيمنى المجتمع
    الاشتراكي بالفوارق والتناقضات، أو يساوى بينه وبين غيره ولا يعطي
    إلا نصف ما يخلقه من القيمة. فيرتكب المجتمع الاشتراكي بذلك سرقة
    القيمة الفائضة؟!
    وهكذا يتلخص: أن الحكومة في المرحلة الاشتراكية الماركسية،
    لا محيد لها عن أحد أمرين: فأما أن تطبق النظرية، كما يفرضه القانون
    الماركسي للقيمة، فتوزع على كل فرد حسب عمله. فتخلق بذرة التناقض
    الطبقي من جديد. وإما أن تنحرف عن النظرية في مجال التطبيق، وتساوي
    بين العمل البسيط والمركب، والعامل الاعتيادي والموهوب. فتكون قد
    اقتطعت من العامل الموهوب القيمة الفائضة، التي يتفوق بها عن العامل
    البسيط، كما كان يصنع الرأسمالي تماماً في حساب المادية التاريخية.
    [/align]
    يا محوّل الحول والاحوال ، حوّل حالنا إلى أحسن الحال......








  2. #17
    تاريخ التسجيل
    Jul 2004
    الدولة
    هناك
    المشاركات
    28,205

    افتراضي

    [align=center]الشيوعية
    وننتهي من دراسة المرحلة الاشتراكية، إلى المرحلة النهائية التي يولد
    فيها المجتمع الشيوعي. ويحشر البشر إلى الفردوس الأرضي الموعود، في
    نبوءات المادية التاريخية.
    وللشيوعية ركنان رئيسيان:
    الأول: محو الملكية الخاصة، لا في مجال الإنتاج الرأسمالي فحسب،
    بل في مجال الإنتاج بصورة عامة، وفي مجال الاستهلاك أيضاً، فتؤمم كل
    وسائل الإنتاج وكل البضائع الإستهلاكية.
    والثاني: محو السلطة السياسية وتحرير المجتمع من الحكومة بصورة
    نهائية.
    أما محو الملكية الخاصة في كل المجالات، فهو لا يستمد وجوده في
    المذهب من قانون علمي للقيمة، كما كان تأميم وسائل الإنتاج الرأسمالي يقوم
    على أساس نظرية القيمة الفائضة، والقانون الماركسي للقيمة.. وإنما تقوم
    الفكرة في تعميم التأميم: على افتراض أن المجتمع يبلغ بفضل النظام الاشتراكي


    درجة عالية من الثروة، كما تنمو القوى المنتجة نمواً هائلاً، فلا يبقى
    موقع للملكية الخاصة لبضائع الاستهلاك، فضلاً عن ملكية وسائل الإنتاج
    لأن كل فرد سوف يحصل في المجتمع الشيوعي على ما يحتاج إليه، ويتوق
    إلى استهلاكه في أي وقت شاء. فأي حاجة له في الملكية الخاصة؟!.
    وعلى هذا الأساس يقوم مبدأ التوزيع في المجتمع الشيوعي، على قاعدة:
    إن لكل حسب حاجته لا حسب عمله، أي أن كل فرد يعطى قدر ما يشبع
    رغبة ويحقق سائر طلباته، لأن الثروة التي يملكها المجتمع قادرة على إشباع
    كل الرغبات...
    ونحن لا نعرف فرضية أكثر إمعاناً في الخيال وتجنيحاً في آفاقه البعيدة،
    من هذه الفرضية التي تعتبر: إن كل إنسان في المجتمع الشيوعي قادر على
    إشباع جميع رغباته وحاجته إشباعاً كلياً، كما يشبع حاجاته من الهواء
    والماء، فلا تبقى ندرة ولا تزاحم على السلع، ولا حاجة إلى الاختصاص
    بشيء.
    ويبدو من هذا، أن الشيوعية كما تصنع المعجزات في الشخصية الإنسانية،
    فتحول الناس إلى عمالقة في الإنتاج، بالرغم من انطفاء الدوافع الذاتية
    والأنانية في ظل التأميم.. كذلك تصنع المعجزة مع الطبيعة نفسها، فتجردها
    عن الشح والتقتير، وتمنحها روحاً كريمة تسخو دائما بكل ما يتطلبه الإنتاج
    الهائل، من موارد ومعادن وأنهار.
    ومن سوء الحظ أن قادة التجربة الماركسية، حاولوا أن يخلقوا الجنة
    الموعودة على الأرض ففشلوا، وظلت التجربة تتأرجح بين الاشتراكية
    والشيوعية، حتى أعلنت بصراحة عجزها عن تحقيق الشيوعية بالفعل،
    كما تعجز كل تجربة تحاول اتجاهاً خيالياً يتناقض مع طبيعة الإنسان. فقد
    اتجهت الثورة الاشتراكية في باديء الأمر اتجاهاً شيوعياً خالصاً، إذ حاول
    لينين أن يكون كل شيء شائعاً بين المجموع. فانتزاع الأرض من أصحابها


    وجرد الفلاحين من وسائل إنتاجهم الفردية فتمرد الفلاحون وأعلنوا إضرابهم
    عن العمل والإنتاج، فنشأت المجاعة الهائلة التي زعزعت كيان البلاد،
    وأرغمت السلطة على العدول عن تصميمها، فردت للفلاح حق التملك،
    واستعادت البلاد حالتها الطبيعية، إلى أن جاءت سنة(28-30) فحدث
    انقلاب آخر أريد به تحريم الملكية من جديد، فاستأنف الفلاحون ثورتهم
    وإضرابهم، وأمعنت الحكومة في الناس قتلاً وتشريداً وغصت السجون
    بالمعتقلين، وبلغت الضحايا_ على ما قيل_ مائة ألف قتيل، باعتراف
    التقارير الشيوعية. وأضعاف هذا العدد في تقدير أعدائها. وراح ضحية
    المجاعة الناجمة عن الاضراب والقلق سنة(1932)، ستة ملايين نسمة
    باعتراف الحكومة نفسها، فاضطرت السلطة إلى التراجع، وقررت منح
    الفلاح شيئاً من الأرض وكوخاً وبعض الحيوانات للاستفادة منها، على
    أن تبقى الملكية الأساسية للدولة، وينضم الفلاح إلى جمعية(الكلخوز
    الزراعية الاشتراكية) التي تتعهدها الدولة، وتستطيع أن تطرد أي عضو
    منها متى شاءت.
    * * *
    وأما الركن الثاني للشيوعية(زوال الحكومة)، فهو أطرف ما في
    الشيوعية من طرائف. وتقوم الفكرة فيه على أساس رأي المادية التاريخية في
    تفسير الحكومة القائل: بأن الحكومة وليدة التناقض الطبقي، لأنها الهيئة
    التي تخلقها الطبقة المالكة لاخضاع الطبقة العاملة لها. ففي ضوء هذا التفسير
    لا يبقى للحكومة أي مبرر في مجتمع لا طبقي، بعد أن يتخلص من كل
    آثار الطبقية وبقاياها، ويصبح من الطبيعي أن تتلاشى الحكومة تبعاً لزوال
    الأساس التاريخي لها.
    ومن حقنا أن نتساءل عن هذا التحول، الذي ينقل التاريخ من مجتمع
    الدولة إلى مجتمع متحرر منها، من المرحلة الاشتراكية إلى المرحلة الشيوعية:

    كيف يتم هذا التحول الاجتماعي؟!. وهل يحصل بطريقة ثورية وانقلابية،
    فينتقل المجتمع من الاشتراكية إلى الشيوعية في لحظة حاسمة، كما انتقل
    من الرأسمالية إلى الاشتراكية؟!. أو أن التحول يحصل بطريقة تدريجية،
    فتذبل الدولة وتتقلص حتى تضمحل وتتلاشى؟!.
    فإذا كان التحول ثورياً آنياً، وكان القضاء على حكومة البروليتاريا
    سيتم عن طريق الثورة، فمن هي الطبقة الثائرة التي سيتم على يدها هذا
    التحول؟!. وقد علمتنا الماركسية أن الثورة الاجتماعية على حكومة،
    إنما تنبثق دائماً من الطبقة التي لا تمثلها تلك الحكومة. فلا بد إذن في هذا
    الضوء أن يتم التحول الثوري إلى الشيوعية، على أيدي غير الطبقة التي تمثلها
    الحكومة الاشتراكية وهي طبقة البروليتاريا. فهل تريد الماركسية أن تقول
    لنا أن الثورة الشيوعية تحصل على أيدي رأسماليين؟!.
    وإذا كان التحول من الاشتراكية وزوال الحكومة تدريجياً.. فهذا
    يناقض_قبل كل شيء_ قوانين الديالكتيك التي ترتكز عليها الماركسية.
    فإن قانون الكمية والكيفية في الديالكتيك يؤكد: أن التغيرات الكيفية
    ليست تدريجية، بل تحصل بصورة فجائية، وتحدث بقفزة من حالة إلى
    أخرى. وعلى أساس هذا القانون آمنت الماركسية بضرورة الثورة في مطلع
    كل مرحلة تاريخية، بوصفها تحولاً آنياً. فكيف بطل هذا القانون عند
    تحول المجتمع من الاشتراكية إلى الشيوعية.
    والتحول التدريجي السلمي من المرحلة الاشتراكية إلى الشيوعية، كما
    يناقض قوانين الديالكتيك، كذلك يناقض طبيعة الأشياء. إذ كيف يمكن
    أن نتصور أن الحكومة في المجتمع الاشتراكي، تتنازل في التدريج عن
    السلطة وتقلص ظلها، حتى بنفسها على نفسها، بينما كانت كل
    حكومة أخرى على وجه الأرض تتمسك بمركزها، وتدافع عن وجودها
    السياسي إلى آخر لحظة من حياتها؟!. فهل هناك أغرب من هذا التقليص


    التدريجي تتبرع بتحقيقه الحكومة نفسها، فتسخو بجياتها في سبيل تطوير
    المجتمع؟!، بل هل هناك ما هو أبعد من هذا عن طبيعة المرحلة الاشتراكية،
    والتجربة الواقعية التي تجسد اليوم في العالم؟! فقد عرفنا أن من ضرورات
    المرحلة الاشتراكية قيام حكومة دكتاتورية مطلقة السلطان، فكيف تصبح
    هذه الدكتاتورية المطلقة مقدمة لتلاشي الحكومة واضمحلالها نهائياً؟!،
    وكيف يمهد استفحال السلطة واستبدادها إلى زوالها واختفائها؟!!.
    وأخيراً: فلنجنح مع الماركسية في أخيلتها، ولنفترض أن المعجزة
    قد تحققت، وإن المجتمع الشيوعي قد وجد، وأصبح كل شخص يعمل
    حسب طاقته ويأخذ حسب حاجته، أفلا يحتاج المجتمع إلى سلطة تحدد
    هذه الحاجة، وتوفق بين الحاجات المتناقضة فيما إذا تزاحمت على سلعة
    واحدة، وتنظم العمل وتوزعه على فروع الإنتاج.
    [/align]
    يا محوّل الحول والاحوال ، حوّل حالنا إلى أحسن الحال......








  3. #18
    تاريخ التسجيل
    Jul 2004
    الدولة
    هناك
    المشاركات
    28,205

    افتراضي

    [align=center]مع الرأسمالية

    1_ الرأسمالية المذهبية في خطوطها الرئيسية
    2_ الرأسمالية المذهبية ليست نتاجاً للقوانين العلمية
    3_ القوانين العلمية في الإقتصاد الرأسمالي ذات إطار مذهبي
    4_ دراسة الرأسمالية المذهبية في أفكارها وقيمها الأساسية


    كما يقسم الإقتصاد الماركسي إلى علم ومذهب، كذلك ينقسم الإقتصاد
    الرأسمالي إلى هذين القسمين. ففيه الجانب العلمي، الذي تحاول الرأسمالية
    فيه أن تفسر مجرى الحياة الإقتصادية وأحداثها تفسيراً موضوعياً، قائماً على
    أساس الاستقرار والتحليل. وفيه أيضاً الجانب المذهبي، الذي تدعو
    الرأسمالية إلى تطبيقه وتتبنى الدعوة إليه.
    وقد اختلط هذان الجانبان أو الوجهان للاقتصاد الرأسمالي، في كثير
    من البحوث والأفكار، مع أنهما وجهان مختلفان، ولكل منهما طبيعة
    الخاصة وأسسة ومقاييسه. فإذا حاولنا أن نسبغ على أحد الوجهين الطابع
    المميز للآخر، فنعتبر القوانين العلمية مذهباً خالصاً، أو نضفي الطابع العلمي
    على المذهب، فسوف نقع في خطأ كبير كما سنرى.
    والرأسمالية وإن اتفقت مع الماركسية، في تشعبها إلى جانب علمي
    وجانب مذهبي ولكن العلاقة بين علم الاقتصاد الرأسمالي، والمذهب
    الرأسمالي في الاقتصاد، تختلف اختلافاً جوهرياً عن العلاقة بين الجانب العلمي
    من الماركسية، والجانب المذهبي منها، أي بين المادية التاريخية من ناحية،
    والإشتراكية والشيوعية من ناحية أخرى وهذا الاختلاف هو الذي سيجعل
    طريقة بحثنا مع الرأسمالية، تختلف عن طريقة دراستنا للماركسية، كما
    ينضح خلال هذا الفصل(مع الماركسية).
    وسوف نستعرض فيما يلي: الإقتصاد الرأسمالي في خطوطه الرئيسية،
    ونعالج بعد ذلك علاقة المذهب الرأسمالي بالجانب العلمي من الرأسمالية،
    وندرس أخيراً الرأسمالية في ضوء أفكارها المذهبية التي ترتكز عليها.





    الرأسمالية المذهبية في خطوطها الرئيسية
    يرتكز المذهب الرأسمالي على أركان رئيسية ثلاثة، يتألف منها كيانه
    العضوي الخاص، الذي يميزه عن الكيانات المذهبية الأخرى. وهذه
    الأركان هي:
    أولاً: الأخذ بمبدأ الملكية الخاصة بشكل غير محدود. فبينما كانت
    القاعدة العامة في المذهب الماركسي، هي: الملكية الاشتراكية التي لا يجوز
    الخروج عنها إلا بصورة استثنائية.. تنعكس المسألة في المذهب الرأسمالي
    تماماً. فالملكية الخاصة في هذا المذهب، هي القاعدة العامة التي تمتد إلى كل
    المجالات وميادين الثروة المتنوعة ولا يمكن الخروج عنها إلا بحكم ظروف
    استثنائية، تضطر أحياناً إلى تأميم هذا المشروع أو ذاك، وجعله ملكاً للدولة.
    فما لم تبرهن التجربة الاجتماعية على ضرورة تأميم أي مشروع، تبقى الملكية
    الخاصة هي القاعدة النافذة المفعول.
    وعلى هذا الأساس تؤمن الرأسمالية بحرية التملك، وتسمح للملكية
    الخاصة بغزو جميع عناصر الإنتاج من: الأرض والآلات والمباني والمعادن،
    وغير ذلك من ألوان الثروة. ويتكفل القانون في المجتمع الرأسمالي بحماية
    الملكية الخاصة، وتمكين المالك من الاحتفاظ بها.

    ثانياً: فسح المجال أمام كل فرد لاستغلال ملكية وامكاناته على الوجه
    الذي يروق له، والسماح له بتنمية ثروته بمختلف الوسائل والأساليب التي
    يتمكن منها. فإن كان بتملك أرضاً زراعية مثلاً، فله أن يستغلها بنفسه
    في أي وجه من وجوه الاستغلال، وله أن يؤجرها للغير، وأن يفرض على
    الغير شروطه التي تهمه، كما له أن يترك الأرض دون استغلال.
    وتستهدف هذه الحرية الرأسمالية التي يمنحها المذهب الرأسمالي للمالك:
    أن تجعل الفرد هو العامل الوحيد في الحركة الاقتصادية، إذ ما من أحد
    أعرف منه بمنافعه الحقيقة، ولا أقدر منه على اكتسابها. ولا يتأتى للفرد
    أن يصبح كذلك ما لم يزود بالحرية في مجال استغلال المال وتهيئته ويستبعد
    من طريقه التدخل الخارجي من جانب الدولة وغيرها. فبذلك يصبح لكل
    فرد الفرصة الكافية، لاختيار نوع الاستغلال الذي يستغل به ماله، والمهنة
    التي يتخذها، والأساليب التي يتبعها لتحقيق أكبر مقدار ممكن من الثروة.
    وثالثاً: ضمان حرية الاستهلاك، كما تضمن حرية الاستغلال. فلكل
    شخص الحرية في الإنفاق من ماله كما يشاء على حاجاته ورغباته، وهو
    الذي يختار نوع السلع التي يستهلكها، ولا يمنع عن ذلك قيام الدولة أحياناً
    بتحريم استهلاك بعض السلع، لاعتبارات تتعلق بالمصلحة العامة، كاستهلاك المخدرات.
    فهذه هي المعالم الرئيسية في المذهب الرأسمالي التي يمكن تلخيصها في
    حريات ثلاث: حرية التملك، والاستغلال، والاستهلاك.
    ويظهر منذ النظرة الأولى: التناقض الصارخ بين المذهب الرأسمالي
    والمذهب الماركسي، الذي يضع الملكية الاشتراكية مبدءاً بدلاً عن الملكية
    الفردية، ويقضي على الحريات الرأسمالية التي ترتكز على أساس الملكية
    الخاصة، ويستبدلها بسيطرة الدولة على جميع مرافق الحياة الإقتصادية.

    ومن القول الشائع: أن اختلاف المذهبين الرأسمالي والماركسي في
    معالمهما، يعكس اختلافهما في طبيعة نظرتهما إلى الفرد والمجتمع لأن المذهب
    الرأسمالي مذهب فردي، يقدس الدوافع الذاتية، ويعتبر الفرد هو المحور
    الذي يجب على المذهب أن يعمل لحسابه، ويضمن مصالحه الخاصة. وأما
    المذهب الماركسي فهو مذهب جماعي، يرفض الدوافع الذاتية والأنانية،
    ويفني الفرد في المجتمع، ويتخذ المجتمع محوراً له. وهو لأجل هذا لا يعترف
    بالحريات الفردية، بل يهدرها في سبيل القضية الأساسية، قضية المجتمع
    بكاملة.
    والواقع: أن كلا المذهبين يرتكز على نظرة فردية، ويعتمد على
    الدوافع الذاتية والأنانية. فالرأسمالية تحترم في الفرد السعيد الحظ أنانيته،
    فتضمن له حرية الاستغلال والنشاط في مختلف الميادين، مستهترة بما سوف
    يصيب الآخرين من حيف وظلم نتيجة لتلك الحرية التي أطلقتها لذلك الفرد
    ما دام الآخرون يتمتعون بالحرية مبدئياً، كما يتمتع بها الفرد المستغل.
    وبينما توفر الرأسمالية للمحظوظين إشباع دوافعهم الذاتية، وتنمّى نزعتهم
    الفردية.. تتجه الماركسية إلى غيرهم من الأفراد الذين لم تتهيأ لهم تلك
    الفرص، فتركز دعوتها المذهبية على أساس إثارة الدوافع الذاتية والأنانية
    فيهم، والتأكيد على ضرورة إشباعها. وتسعى بمختلف الأساليب إلى تنمية
    هذه الدوافع، بوصفها القوة التي يستخدمها التاريخ في تطوير نفسه، حتى
    تتمكن من تفجيرها تفجيراً ثورياً. وتشرح لأولئك الذين تتصل بهم:
    أن الآخرين يسرقون جهودهم وثروتهم، فلا يمكن لهم أن يقروا هذه
    السرقة بحال، لأنها اعتداء صارخ على كيانهم الخاص.
    وهكذا نجد أن الوقود الذي يعتمد عليه المذهب الماركسي، هو نفس
    الدوافع الذاتية والفردية التي تتبناها الرأسمالية. فكل من المذهبين يتبنى إشباع
    الدوافع الذاتية وينميها، وإنما يختلفان في نوع الأفراد، الذين تتجاوب


    دوافعهم الذاتية والأنانية مع هذا المذهب أو ذاك.
    وأما المذهب الجدير بصفة المذهب الجماعي، فهو المذهب الذي يعتمد
    على وقود من نوع آخر، على قوى غير الأنانية والدوافع الذاتية.
    إن المذهب الجماعي هو: المذهب الذي يربي في كل فرد شعوراً
    عميقاً بالمسؤولية تجاه المجتمع ومصالحه، ويفرض عليه لذلك أن يتنازل عن
    شيء من ثمار أعماله وجهوده وأمواله الخاصة، في سبيل المجتمع وفي سبيل
    الآخرين، لا لأنه سرق الآخرين وقد ثاروا عليه لاسترداد حقوقهم الخاصة،
    بل لأنه يحس بأن ذلك جزء من واجبه، وتعبير عن القيم التي يؤمن بها.
    إن المذهب الجماعي هو: المذهب الذي يحفظ حقوق الآخرين وسعادتهم
    لا بإثارة دوافعهم الذاتية، بل بإثارة الدوافع الجماعية في الجميع، وتفجير
    منابع الخير في نفوسهم. وسوف نرى في بحوث مقبلة ما هو هذا المذهب؟.









    الرأسمالية المذهبية ليست نتاجاً للقوانين العلمية
    في فجر التاريخ العلمي للاقتصاد، حين كان يضع أقطاب الاقتصاد
    الطبيعي الكلاسيكي بذور هذا العلم وبنياته الأولية، سادت الفكر الإقتصادي
    يومذاك فكرتان.
    إحدهما: أن الحياة الاقتصادية تسير وفقاً لقوى طبيعة محددة، تتحكم
    في كل الكيان الاقتصادي للمجتمع. كما تسير شتى مناحي الكون طبقاً لقوى
    الطبيعة المتنوعة. والواجب العلمي تجاه تلك القوى التي تسيطر على الحياة
    الإقتصادية. هو استكشاف قوانينها العامة وقواعدها الأساسية، التي تصلح
    لتفسير مختلف الظواهر والأحداث الاقتصادية.
    والفكرة الأخرى: هي أن تلك القوانين الطبيعية، التي يجب على علم
    الاقتصاد استكشافها، كفيلة بضمان السعادة البشرية إذا عملت في جو حر،
    وأتيح لجميع أفراد المجتمع التمتع بالحريات الرأسمالية، حريات: التملك.
    والاستغلال، والاستهلاك.
    وقد وضعت الفكرة الأولى البذرة العلمية للاقتصاد الرأسمالي، ووضعت
    الفكرة الثانية بذرته المذهبية، غير أن الفكرتين أو البذرتين ارتبطتا في باديء


    الأمر ارتباطاً وثيقاً، حتى خيل للمفكرين الاقتصاديين يومئذ: أن تقييد
    حرية الأفراد والتدخل في الشؤون الاقتصادية من الدولة، يعني الوقوف
    في وجه الطبيعة وقوانينها، التي كفلت للإنسانية رخاءها وحل جميع
    مشاكلها... فكل محاولة لإهدار شيء من الحريات الرأسمالية، تعتبر
    جريمة في حق القوانين الطبيعية العادلة.. وهكذا انتهى بهم هذا القول:
    بأن تلك القوانين الخيرة تفرض بنفسها المذهب الرأسمالي، وتحتم على المجتمع
    ضمان الحريات الرأسمالية.
    غير أن هذا اللون من التفكير يبدو الآن مضحكاً وطفولياً إلى حد كبير،
    لأن الخروج على قانون طبيعي علمي لا يعني أن هناك جريمة ارتكبت في
    حق هذا القانون، وإنما يبرهن على خطأ القانون نفسه، وينزع عنه وصفه
    العلمي الموضوعي. لأن القوانين الطبيعية لا تتخلف في ظل الشروط والظروف
    اللازمة لها، وإنما قد تتغير الشروط والظروف، فمن الخطأ أن تعتبر الحريات
    الرأسمالية، تعبيراً عن قوانين طبيعية، وتعتبر مخالفتها جريمة في حق تلك
    القوانين. فقوانين الاقتصاد الطبيعية تعمل ولا تكف عن العمل، في جميع
    الأحوال ومهما اختلفت درجة الحرية التي يتمتع بها الأفراد في حقول
    التملك والاستغلال والاستهلاك.. وإنما قد يحدث أن يختلف مفعول تلك
    القوانين. تبعاً لاختلاف الشروط والظروف التي تعمل في ظلها، كما
    تختلف قوانين الفيزياء في آثارها ونتائجها، طبقاً لاختلاف شروطها وظروفها.
    فيجب إذن أن تدرس الحريات الرأسمالية، لا بوصفها ضرورات علمية
    تحتمها القوانين الطبيعية من وجهة رأي الرأسماليين، حتى تكتسب بذلك
    الطابع العلمي.. وإنما تدرس على أساس مدى ما تتيح للإنسان من سعادة
    وكرامة، وللمجتمع من قيم ومثل. وهذا هو الأساس الذي اتبعه بعد ذلك
    علماء الاقتصاد الرأسمالي، في دراسة الرأسمالية المذهبية.
    وفي ضوء ذلك نستطيع أن نفهم الفرق الجوهري_ الذي ألمعنا إليه في


    مستهل هذا الفصل_ بين الماركسية والرأسمالية، إذ تختلف العلاقة بين
    الجانب العلمي والجانب المذهبي من الماركسية اختلافاً أساسياً، عن العلاقة
    بين الاقتصاد العلمي والاقتصاد المذهبي للرأسمالية. فإن الماركسية المذهبية
    التي تتمثل في الاشتراكية والشيوعية، تعتبر نتيجة حتمية لقوانين المادية
    التاريخية التي تعبر عن القوانين الطبيعية للتاريخ، من وجهة رأي الماركسية.
    فإذا كانت المادية التاريخية على صواب في تفسير التاريخ، فهي تبرهن على
    الجانب المذهبي من الماركسية. ولذلك يعتبر درس الجانب العلمي من
    الماركسية، أساساً لدرس الجانب المذهبي منها، وشرطاً ضرورياً للحكم
    في صالح المذهب الماركسي أو ضده. ولا يمكن لباحث مذهبي أن ينقد
    الاشتراكية والشيوعية، بصورة مستقلة عن أساسها العلمي، عن المادية
    التاريخية.
    أما الرأسمالية المذهبية، فليست هي نتيجة لعلم الاقتصاد الذي شاده
    الرأسماليون، ولا يرتبط مصيرها بمدى نجاح الجانب العلمي للرأسمالية في
    تفسير الواقع الموضوعي.. وإنما ترتكز الرأسمالية المذهبية، على قيم وأفكار
    خلقية وعملية معينة، يجب أن تعتبر هي المقياس للحكم في حق المذهب
    الرأسمالي.
    وهكذا يتضح أن موقفنا_ بوصفنا نؤمن بمذهب اقتصادي يتميز عن
    الرأسمالية والماركسية_ تجاه الماركسية، يختلف عن موقفنا من الرأسمالية.
    فنحن تجاه الماركسية أمام مذهب اقتصادي، يزعم: أنه يرتكز على قوانين
    علم التاريخ (المادية التاريخية). فمن الضروري لنقد هذا المذهب، أن
    نتناول تلك القوانين العلمية المزعومة، بالدرس والتمحيص. ولأجل ذلك
    عرضنا المادية التاريخية بمفاهيمها، ومراحلها، تمهيداً إلى إصدار الحكم
    في حق المذهب الماركسي نفسه. وأما بالنسبة إلى موقفنا تجاه الرأسمالية
    المذهبية، أي الحريات الرأسمالية.. فنحن نواجه مذهباً لا يستمد كيانه من


    القوانين العلمية، ليكون المنهج الضروري لدراسته هو بحث تلك القوانين
    وتدقيقها.. وإنما نواجه مذهباً يستمد كيانه من تقديرات خلقية وعملية معينة.
    ولهذا فسوف لن نتحدث عن الجانب العلمي من الرأسمالية، إلا بالقدر الذي
    يوضح: أن الجانب المذهبي ليس نتيجة حتمية له، ولا يحمل طابعه العلمي،
    ثم ندرس المذهب الرأسمالي في ضوء الأفكار العملية والقيم الخلقية التي يرتكز
    عليها. لأن بحوث هذا الكتاب تحمل كلها الطابع المذهبي، ولا تتسع
    للجوانب العلمية إلا بمقدار ما يتطلبه الموقف المذهبي.
    ودراسة المذهب الرأسمالي على هذا الأساس، وإن كانت تتوقف أيضاً
    على شيء من البحث العلمي، غير أن دور البحث العلمي في هذه الدراسة،
    يختلف كل الاختلاف عن دوره في دراسة المذهب الماركسي. فإن البحث
    العلمي في قوانين المادية التاريخية، كان وحده هو الذي يستطيع أن يصدر
    الحكم النهائي في حق الماركسية المذهبية، كما سبق. وأما البحث العلمي في
    مجال نقد الرأسمالية المذهبية، فليس هو المرجع الأعلى للحكم في حقها،
    لأنها لا تدّعى لنفسها طابعاً علمياً.
    وإنما يستعان بالبحث العلمي، لتكوين فكرة كاملة عن النتائج الواقعية (الموضوعية)، التي تتمخض عنها الرأسمالية على الصعيد الاجتماعي،
    ونوعية الاتجاهات التي تتجها قوانين الحركة الاقتصادية في ظل الرأسمالية،
    لكي تقاس تلك النتائج والاتجاهات التي يسفر عنها تطبيق المذهب بالمقاييس
    الخلقية والأفكار العملية التي يؤمن بها الباحث. فوظيفة البحث العلمي في
    دراسة المذهب الرأسمالي، إعطاء صورة كاملة عن واقع المجتمع الرأسمالي
    لنقيس تلك الصورة بالمقاييس العملية الخاصة. وليست وضيفته تقديم البرهان
    على حتمية المذهب الرأسمالي أو خطأه.
    فكم يخطيء الباحث_ على هذا الأساس الذي قدمناه_ إذا تلقى المذهب
    الرأسمالي من العلماء الرأسماليين، بوصفه حقيقة علمية، أو جزءاً من علم


    الاقتصاد السياسي، ولم يميز بين الصفة العلمية والصفة المذهبية لأولئك
    الاقتصاديين. فيخيل له مثلاً، حين يحكم هؤلاء بأن توفير الحريات
    الرأسمالية خير وسعادة للجميع: إن هذا رأي علمي أو قائم على أساس علمي
    كالقانون الاقتصادي القائل مثلاً:(إذا زاد العرض انخفض الثمن)،
    مع أن هذا القانون تفسير علمي لحركة الثمن كما توجد في السوق. وأما
    الحكم السابق بشأن الحريات الرأسمالية، فهو حكم مذهبي يصدره أنصاره
    بوصفهم المذهبي، ويستمدونه من القيم والأفكار الخلقية والعلمية التي
    يؤمنون بها. فلا تعني صحة ذلك القانون العلمي أو غيره من القوانين العلمية:
    أن يكون هذا الحكم المذهبي صحيحاً وإنما يتوقف هذا الحكم على صحة
    القيم والأفكار التي أقيم على أساسها.

    [/align]
    يا محوّل الحول والاحوال ، حوّل حالنا إلى أحسن الحال......








  4. #19
    تاريخ التسجيل
    Jul 2004
    الدولة
    هناك
    المشاركات
    28,205

    افتراضي

    [align=center]
    القوانين العلمية الإقتصاد الرأسمالي ذات إطار مذهبي
    عرفنا فيما سبق: أن المذهب الرأسمالي ليس له طابع علمي، ولا
    يستمد مبرراته ووجوده من القوانين العلمية في الاقتصاد. ونريد هنا أن
    نصل إلى نقطة أعمق في تحليل العلاقة، بين الجانب المذهبي والجانب العلمي
    من الرأسمالية، لنرى: كيف أن المذهب الرأسمالي يحدد إطار القوانين
    العلمية في الاقتصاد الرأسمالي، ويؤثر عليها في اتجاهها ومجراها؟. ومعنى
    هذا أن القوانين العلمية في الاقتصاد الرأسمالي، قوانين علمية في إطار مذهبي
    خاص، وليست قوانين مطلقة تنطبق على كل مجتمع وفي كل زمان ومكان،
    كالقوانين الطبيعية في الفيزياء والكيمياء.. وإنما يعتبر كثير من تلك القوانين
    حقائق موضوعية، في الظروف الاجتماعية التي تسيطر عليها الرأسمالية،
    بجوانبها الاقتصادية وأفكارها ومفاهيمها، فلا تنطبق على مجتمع لا تسيطر
    عليه الرأسمالية ولا تسوده أفكارها.
    ولكي يتضح هذا، يجب أن نلقي ضوءاً على طبيعة القوانين الاقتصادية
    التي يدرسها الاقتصاد الرأسمالي، لكي نعرف: كيف وإلى أي درجة يمكن
    الاعتراف لها بصفة القانون العلمي؟.
    * * *

    إن القوانين العلمية للاقتصاد تنقسم إلى فئتين:
    إحداهما: القوانين الطبيعية التي تنبثق ضرورتها من الطبيعة نفسها
    _ لا من الإرادة الإنسانية_ كقانون التحديد الكلي القائل: إن كل إنتاج كان
    يتوقف على الأرض وما تشتمل عليه من مواد أولية، محدود طبقاً للكمية
    المحدودة للأرض وموادها الأولية. أو قانون الغلة المتزايدة، القائل: إن
    كل زيادة في الإنتاج تعوض على المنتج تعويضاً أكبر نسبياً مما زاده في
    الإنفاق، حتى تبلغ الزيادة إلى درجة خاصة، فتخضع عندئذ لقانون
    معاكس، وهو قانون الغلة المتناقصة، الذي ينص على أن زيادة الغلة تبدأ
    بالتناقص النسبي عند درجة معينة.
    وهذا القوانين لا تختلف في طبيعتها وجانبها الموضوعي عن سائر
    القوانين الكونية التي تكشف عنها العلوم الطبيعية، ولذلك فهي لا تحمل
    شيئاً من الطابع المذهبي، ولا تتوقف على ظروف اجتماعية أو فكرية معينة،
    بل لا تختلف في شأنها أبعاد الزمان والمكان، ما دامت الطبيعة التي يتعلق
    بها الإنتاج هي الطبيعة في كل زمان ومكان.
    والفئة الأخرى: من القوانين العلمية للاقتصاد السياسي، تحتوي على
    قوانين للحياة الاقتصادية ذات صلة بإرادة الإنسان نفسه، نظراً إلى أن الحياة
    الاقتصادية ليست إلا مظهراً من مظاهر الحياة الإنسانية العامة، التي تلعب
    فيها الإرادة دوراً إيجابياً فعالاً، في مختلف شعبها ومناحيها. فقانون العرض
    والطلب مثلاً_ القائل: إن الطلب على سلعة إذا زاد، ولم يكن في المقدور
    زيادة الكميات المعروضة استجابة للزيادة في الطلب،فإن ثمن السلعة لا بد
    وأن يرتفع_ ليس قانوناً موضوعياً، يعمل بصورة منفصلة عن وعي
    الإنسان، كما تعمل قوانين الفيزياء والفلك، وكما تعمل القوانين الطبيعية
    في الإنتاج التي عرضناها في الفئة الأولى.. وإنما يمثل قانون العرض والطلب
    ظواهر الحياة الواعية للإنسان. فهو يوضح أن المشتري سيقدم_ في الحالة


    التي ينص عليها القانون الآنف الذكر_ على شراء السلعة بثمن أكبر
    من ثمنها في حالة مساواة الطلب للعرض. وإن البائع سيمتنع في تلك الحالة
    عن البيع إلا بذلك الثمن.
    وتدخل الإرادة الإنسانية في مجرى الحياة الاقتصادية، لا يعني إبعاد
    الحياة الاقتصادية عن مجال القوانين العلمية، واستحالة البحث العلمي فيها،
    كما ذهب إلى ذلك وهم بعض المفكرين، في بداية ولادة الاقتصاد السياسي،
    إذ اعتقدوا: أن طابع الحتمية والضرورة للقوانين العلمية، يتنافى مع طبيعة
    الحرية التي تعكسها الإرادة الإنسانية. فإذا أخضعت الحياة الإنسانية لقوانين
    علمية صارمة، كان ذلك مناقضاً لما يتمتع به الإنسان في حياته من حرية
    وانطلاق، إذ يصبح لدى خضوعه لتلك القوانين آلة جامدة، تسير وتتكيف
    ميكانيكياً، طبقاً للقوانين الطبيعية التي تتحكم في مجرى حياته الاقتصادية.
    وهذا الوهم يرتكز على مفهوم خاطىء عن الحرية الإنسانية، وإدراك
    معكوس للعلاقة بين الحرية والإرادة، وبين تلك القوانين. فإن وجود
    قوانين طبيعية لحياة الإنسان الاقتصادية، لا يعني أن الإنسان يفقد حريته
    وإرادته، وإنما هي قوانين للإرادة البشرية تفسر: كيف يستعمل الإنسان
    حريته في المجال الاقتصادي، فلا يمكن أن تعتبر إلغاء لإرادة الإنسان
    وحريته.
    * * *
    ولكن هذه القوانين الاقتصادية، تختلف عن القوانين العلمية في مناحي
    الكون الأخرى في نقطة، وهي: أن هذه القوانين نظراً إلى علاقتها بإرادة
    الإنسان تتأثر بكل المؤثرات التي تطرأ على الوعي الإنساني، وبكل العوامل
    التي تتدخل في إرادة الإنسان وميوله. وبدهي أن إرادة الإنسان التي تعالجها
    تلك القوانين تتحدد وتتكيف وفقاً لأفكار الإنسان ومفاهيمه، ولنوعية


    المذهب السائد في المجتمع. ولون التشريعات التي تقيد سلوك الأفراد. فهذه
    العوامل هي التي تملي على الإنسان إرادته وموقفه العملي، وحين تتغير تلك
    العوامل يختلف إتجاه الإنسان وإرادته، وبالتالي تختلف القوانين العلمية العامة
    التي تفسر مجرى الحياة الإقتصادية، فلا يمكن في كثير من الأحيان، إعطاء
    قانون عام للإنسانية في الحياة الاقتصادية، بمختلف إطاراته الفكرية
    والمذهبية والروحية. وليس من الصحيح علمياً أن نترقب من الإرادة
    الإنسانية في مجرى الحياة الاقتصادية أن تسير وتنشط_ دائما وفي كل
    مجتمع_ كما تسير وتنشط في المجتمع الرأسمالي، الذي درسه الاقتصاديون
    الرأسماليون، ووضعوا قوانين الاقتصاد السياسي في ضوئه. ما دامت
    المجتمعات قد تختلف في إطاراتها الفكرية والمذهبية والروحية، بل يجب
    أن تؤخذ هذه الإطارات كمدلولات ثابتة في مجال البحث العلمي. ومن
    الطبيعي أن تتكشف نتائج البحث حينئذ عن القوانين الجارية ضمن تلك
    الإطارات خاصة.
    وعلى سبيل المثال نذكر القاعدة الرئيسية، التي وضع في ضوئها كثير
    من قوانين الاقتصاد الكلاسيكي، وهي: القاعدة التي تجرد من الإنسان
    الاجتماعي المحسوس: إنساناً اقتصادياً، يؤمن بالمصلحة الشخصية كهدف
    أعلى له في كل ميادين النشاط الاقتصادي. فقد افترض الاقتصاديون_ منذ
    البدء_ أن كل فرد في المجتمع يستوحي اتجاهه العملي في نشاطه الاقتصادي،
    من مصلحته المادية الخاصة دائماً، وأخذوا يستكشفون القوانين العلمية التي
    تتحكم في مثل هذا المجتمع. وقد كان افتراضهم هذا على نصيب كبير
    من الواقع، بالنسبة إلى المجتمع الرأسمالي الأوروبي، وطابعة الفكري
    والروحي ومقاييسه الخلقية والعملية. غير أن من الممكن أن يحدث
    تحول أساسي في القوانين الاقتصادية لحياة المجتمع، بمجرد تغيير هذا
    الأساس، ومواجهة مجتمع يختلف عن المجتمع الرأسمالي، في القاعدة العامة


    لسلوك أفراده، وفي الأفكار والقيم التي يؤمنون بها. وليس هذا افترضاً
    نفترضه، وإنما هو واقع نتحدث عنه. فإن المجتمعات تختلف في العوامل
    التي تحدد لها دوافع السلوك، والقيم العملية في الحياة.
    ولنأخذ مثلاً لذلك، المجتمع الرأسمالي، والمجتمع الذي دعا إليه
    الإسلام، وتمكن من إخراجه إلى حيز الوجود. فقد عاش في ظل الإسلام
    مجتمع بشري من لحم ودم، تختلف القاعدة العامة لسلوكه ومقاييسه العملية،
    ومحتوياته الروحية والفكرية.. عن المجتمع الرأسمالي كل الاختلاف.
    فإن الإسلام_ بوصفه ديناً و مذهباً خاصاً في الحياة_ وإن كان لا يعالج أحداث الاقتصاد معاجلة علمية، ولكنه يؤثر على هذه الأحداث ومجراها الاجتماعي
    تأثيراً كبيراً، بوصفه يعالج محور تلك الأحداث، وهو الإنسان في مفاهيمه
    عن الحياة ودوافعه وغاياته، يصهره في قالبه الخاص، ويصوغه في إطاره
    الروحي والفكري، وبالرغم من أن التجربة التي خاضها الإسلام في سبيل
    إيجاد هذا المجتمع كانت قصيرة، فقد أسفرت عن أروع النتائج التي
    شهدتها حياة الإنسان، وبرهنت على إمكان التحليق بالإنسان إلى آفاق،
    لم يستطع أن يتطلع إليها أفراد المجتمع الرأسمالي، الغارقون في ضرورات
    المادة ومفاهيمها إلى رؤوسهم. وفي النزر اليسير مما يحدثنا به التاريخ عن
    نتائج التجربة الإسلامية وروائعها، ما يلقي ضوءاً على إمكانات الخير
    المكتنزة في نفس الإنسان، ويكشف عن الطاقة الرسالية في الإسلام، التي
    استطاع بها أن يجند تلك الإمكانات، ويستثمرها لصالح القضية الإنسانية
    الكبرى. فقد ورد في تاريخ تلك التجربة الذهبية: إن جماعة من غير ذوي
    اليسار والثروة جاءوا إلى رسول الله(ص) قائلين)يا رسول الله ذهب
    الأغنياء بالأجور، يصلون كما نصلي، ويصومون كما نصوم، ويتصدقون
    بفضول أموالهم. فأجاب النبي قائلاً: أو ليس قد جعل الله لكم
    ما تصدقون به، إن لكم بكل تسبيحة صدقة، وبكل تكبيرة صدقة،


    وأمر بالمعروف صدفة ونهي عن المنكر صدقة). فهؤلاء المسلمون الذين
    احتجوا بين يدي الرسول(ص) على واقعهم، لم يكونوا يريدون الثروة،
    بوصفها أداة من أدوات المنعة والقوة أو ضماناً لإشباع الرغبات الشخصية،
    وإنما عز عليهم أن يسبقهم الأغنياء في المقاييس المعنوية، بألوان البر والإحسان وبالمساهمة في المصالح العامة على الصعيد الاجتماعي. وهذا يعكس مفهوم
    الثروة وطبيعة الإنسان المسلم، في ظل تجربة إسلامية كاملة للحياة.
    وجاء في وصف الإجارات والتجارات في المجتمع الإسلامي، ما حدث
    به الشاطبي، إذ كتب يقول:
    ((نجدهم في الإجارات والتجارب لا يأخذون إلا بأقل ما يكون من الربح أو الأجرة، حتى يكون ما حاول أحدهم من ذلك كسباً لغيره لاله. ولذلك بالغوا في
    النصيحة فوق ما يلزمهم، كأنهم وكلاء للناس لا لأنفسهم
    بل كانوا يرون المحاباة لأنفسهم_ وإن جازت_
    كالغش لغيرهم)).
    وتحدث محمد بن زياد عن شيء من مظاهر التعاون والتكافل في المجتمع
    الإسلامي فقال: (ربما نزل على بعضهم الضيف، وقدر أحدهم على النار،
    فيأخذ صاحب الضيف لضيفه، فيفقد القدر صاحبها، فيقول: من أخذ
    القدر، فيقول صاحب الضيف: نحن أخذناها لضيفنا، فيقول صاحب
    القدر: بارك الله لكم فيها).
    وهكذا ندرك الدور الإيجابي الفعال للإسلام، في تغيير مجرى الحياة
    الاقتصادية وقوانينها الطبيعية، بتغيير الإنسان نفسه وخلق شروط روحية
    وفكرية جديدة له. وكذلك نعرف مدى الخطأ في إخضاع مجتمع، يتمتع
    بهذه الخصائص والمقومات، لنفس القوانين التي يخضع لها مجتمع رأسمالي،
    زاخر بالأنانية والمفاهيم المادية.

    ويمكننا أن نأخذ على سبيل المثال أيضاً، قوانين توزيع الدخل وقوانين
    العرض والطلب. فقوانين توزيع الدخل في الإقتصاد الرأسمالي كما يشرحها
    (ريكاردو) وغيره من الأقطاب الكلاسيكيين تقضي: بتخصيص جزء
    منه أجراً للعامل، يحدد وفقاً لقيمة المواد الغذائية، القادرة على إعاشة العامل
    والاحتفاظ بقواه، ويقسم الباقي على شكل ربح وفائدة وريع. وقد استخلص
    الاقتصاد الرأسمالي من ذلك: أن للأجور قانوناً حديدياً، لا يمكن بموجبه
    أن تزيد وتنقص وإن زادت أو انخفضت كمية النقد التي يتسلم بها العامل
    أجره، تبعاً لارتفاع قيمة المواد الغذائية وهبوطها. ويتلخص هذا القانون
    الحديدي: في أن العمال إذا ازدادت أجورهم لسبب ما، فسوف تتحسن
    حالتهم المعيشية ويقدمون بصورة أكثر على الزواج والتناسل، فتكثر الأيدي
    العاملة، ويتضاعف العرض، وتنخفض الأجور إلى الحد الطبيعي. وإذا
    حدث العكس، فهبط الأجر عن مستواه الطبيعي، أدى ذلك إلى انتشار
    البؤس والمرض في صفوف العمال، فيقل عددهم وتنخفض كمية العرض،
    فترتفع الأجور.
    يتقدم إلينا بهذا الاقتصاديون الكلاسيكيون، بوصفه تفسيراً علمياً
    للواقع، وقانوناً طبيعياً للحياة الاقتصادية، وهو في الحقيقة لا ينطبق إلا
    ضمن حدود خاصة، وفي مجتمعات رأسمالية لا يوجد فيها ضمان اجتماعي
    عام، ويعتمد التسعير فيها على جهاز السوق. وأما في مجتمع يسود فيه مبدأ
    الضمان العام لمستوى كريم من المعيشة، كالمجتمع الإسلامي، أو في
    مجتمع يلغى فيه جهاز السوق، ويجرد عن وظيفته في تحديد الأسعار تبعاً
    لنسبة العرض إلى الطلب، كالمجتمع الاشتراكي.. فلا تتحكم فيه تلك
    القوانين، بالشكل الذي تعمل به في المجتمع الرأسمالي.
    وهكذا يتضح أن الهيكل العلمي العام للإقتصاد الرأسمالي، ذو إطار
    مذهبي خاص، وليس له قدسية القوانين العلمية المطلقة.





    دراسة الرأسمالية المذهبية في أفكارها وقيمتها الأساسية

    إن المقومات الأساسية للمذهب الرأسمالي_ التي استعرضناها سابقاً_
    تدل على أن حجر الزاوية في المذهب، هو: حرية الإنسان في الحقل
    الإقتصادي بمختلف مجالاته، من تملك واستغلال واستهلاك. فالحرية
    _ بأشكالها المتنوعة_ هي الأساس الذي تنبثق منه كل الحقوق والقيم المذهبية،
    التي تنادي بها الرأسمالية، بل إن القوانين العلمية للإقتصاد الرأسمالي نفسها،
    ليست إلا تفسيراً للواقع الموضوعي المتجمد في إطار هذه الحرية كما مر بنا.
    وإذا كانت فكرة الحرية هي الجوهر والمحتوى الأساسي للرأسمالية
    المذهبية فيجب عند دراسة المذهب الرأسمالي، نقد هذه الفكرة وتحليلها،
    ودرس بذورها الفكرية، وما ترتكز عليه من أفكار وقيم.
    أول سؤال يقفز إلى مجال البحث: لماذا يجب أن يقام المجتمع على
    أساس الحرية الاقتصادية؟. وكيف نشأ حق الإنسان فيها، الأمر الذي
    تؤكد عليه الرأسمالية المذهبية، وترفض الاعتراف بأي تحديد أساسي له؟.
    ويجب أن نعرف في سبيل الإجابة على هذا السؤال: أن الحرية في
    التفكير الرأسمالي ترتبط عادة بعدة أفكار وقيم، تستمد منها وجودها
    المركزي في المذهب وصفتها كضرورة اجتماعية أو إنسانية للكيان البشري.

    فهي تارة: ترتبط بالفكرة القائلة: بالتوافق بين مصالح الفرد التي
    يندفع إلى تحقيقها بدوافعه الذاتية، ومصالح المجتمع التي يتوقف عليها
    كيانه العام. فإن مصالح الفرد والمجتمع إذا كانت متوافقة، فليس على
    المذهب الاجتماعي الذي يستهدف ضمان الصالح الاجتماعي، إلا أن
    يطلق الحرية للفرد، ويفسح المجال لدوافعه الذاتية أن تقوده إلى تحقيق
    مصالحه الخاصة، التي تؤدي بصورة آلية توفير المصالح العامة. فالحرية
    على أساس هذه الفكرة، ليست إلا أداة لتوفير تلك المصالح العامة وضمان
    ما يتطلبه المجتمع من خير ورفاه، وبصفتها أداة لذلك تكون جديرة بمركزها
    القاعدي في المذهب.
    وهي تارة أخرى: ترتبط بفكرة تنمية الإنتاج، وترتكز على الرأي
    القائل: أن الحرية الاقتصادية هي أفضل قوة دافعة للقوى المنتجة، وأكفأ
    وسيلة لتفجير كل الطاقات والإمكانات وتجنيدها للإنتاج العام، وبالتالي
    لمضاعفة الثروة الاجتماعية في البلاد. ومرد هذا في الحقيقة إلى الفكرة
    الأولى، لأنه يعبر عن جانب من جوانب الصالح العام، وهو توفير الإنتاج
    الاجتماعي الذي يمكن تحقيقه عن طريق الحرية.
    وهناك فكرة ثالثة: يرتبط بها مفهوم الحرية الرأسمالية، وهي فكرة
    ذات طابع خلقي خالص، يستعمل الرأسماليون عادة في التعبير عنها عبارات
    غائمة، أو غير واضحة كل الوضوح. فيكررون القول:بأن الحرية بوجه
    عام حق إنساني أصيل، وتعبير عملي عن الكرامة البشرية، وعن شعور
    الإنسان بها. فليست هي مجرد أداة للرفاه الاجتماعي أو لتنمية الإنتاج،
    وإنما هي تحقيق لإنسانية الإنسان، ووجوده الطبيعي الصحيح.
    ومن الواضح أن القيمة المذهبية للحرية الاقتصادية، على أساس الفكرتين
    الأوليتين، قيمة موضوعية، مردها إلى النتائج والآثار التي تؤدي إليها
    في واقع الحياة. وأما على أساس الفكرة الثالثة، فللحرية بوجه عام_ التي


    تعتبر الحرية الاقتصادية جانباً منها_ قيمة ذاتية يمليها شعور الإنسان بكرامته
    وإنسانيته.
    هذه هي الأفكار التي تبرر الرأسمالية عادة عن طريقها مفهومها عن
    الحرية، وضرورة اعتبارها قاعدة في التصميم الاجتماعي الذي يدعو إليه
    المذهبيون.
    فهي: وسيلة لتحقيق المصالح العامة.
    وهي: سبب لتنمية الإنتاج والثروة العامة.
    وهي: تعبير أصيل عن الكرامة الإنسانية وحق الإنسان في الحياة.
    * * *
    والآن وبعد أن استعرضنا الأسس الفكرية لفكرة الحرية الاقتصادية،
    يجب أن نتناولها بالدرس والتمحيص.
    أ_ الحرية وسيلة لتحقيق المصالح العامة
    ترتكز هذه الفكرة: على أساس الإيمان بأن الدوافع الذاتية تلتقي دائماً
    بالمصالح العامة والرفاه الاجتماعي، إذا توفرت الحرية في المجال العملي
    لجميع الأفراد، فإن الإنسان في المجتمع الحر يسعى إلى تحقيق مصالحه الخاصة،
    والتي تؤدي في النهاية إلى توفير المصالح العامة.
    وعلى هذا الأساس خيل للاقتصاديين الرأسماليين في باديء الأمر:
    أن ضمان سعادة المجتمع ومصالحه ليس بحاجة إلى القيم الخلقية والروحية،
    وتغذية الناس بها، لأن كل إنسان_ وحتى من لا يعرف شيئاً من تلك
    القيم_ يسير طبقاً لمصلحته الخاصة، إذا كفلت له الحرية في المجال العملي.
    وهذه المصلحة نفسها تواكب مصلحة المجتمع، وتتفق معها في نتائجها،
    وإن كان الفرد مدفوعاً نحوها بدافع خاص. وهكذا يمكن للمجتمع أن


    يستغني عن الخدمات التي تقدمها القيم الخلقية والروحية، ويصل على مصالحه
    بالطريقة الرأسمالية، التي توفر لكل فرد حريته، وتمنحه القدرة على تقدير
    موقفه في ضوء مصالحه الخاصة، التي تلتقي في آخر الشوط بالمصالح العامة.
    ولهذا السبب كانت الحرية التي تنادي بها الرأسمالية، مجردة من كل
    الإطارات والقيم الخلقية والروحية، لأنها(حرية) حتى في تقدير هذه
    القيم. ولا يعني هذا أن تلك القيم لا وجود لها في مجتمع رأسمالي، وإنما
    يعني أن الرأسمالية لا تعترف بضرورة هذه القيم لضمان مصلحة المجتمع،
    وتزعم إمكان الاستغناء عنها عن طريق توفير الحريات للأفراد، وإن كان
    الناس أحرار في التقليد القيم ورفضها.
    ويذكر أنصار الرأسمالية في سياق الاستدلال على ذلك: أن الحرية
    الاقتصادية تفتح مجال التنافس الحر بين مختلف مشاريع الإنتاج. وصاحب
    المشروع_ في ظل هذا التنافس الحر الذي يسود الحياة الاقتصادية_ يخاف
    دائماً من تفوق مشروع آخر على مشروعه واكتساحه له، فيعمل بدافع
    من مصلحته الخاصة على تحسين مشروعه والاستزادة من كفاءاته، حتى
    يستطيع أن يخوض معركة السباق مع المشاريع الأخرى، ويصمد في أتون
    هذا النضال الأبدى، ومن أهم الوسائل التي تتخذ في هذا السبيل، إدخال
    تحسينات فنية على المشروع. وهذا يعني: أن صاحب المشروع في المجتمع
    الرأسمالي الحر يظل دائماً يتلقف كل فكرة أو تحسين جديد على الإنتاج،
    أو أي شيء آخر من شأنه أن يمكنه من الإنتاج بنفقة أقل. فإذا أدخل هذه
    التحسينات، فإنه لا يلبث أن يرى باقي المشروعات قد لحقت به، فيبدأ
    مرة ثانية في البحث عن فكرة أخرى جديدة، حتى يحتفظ بأسبقيته على
    سائر المشروعات. وجزاء من يتخلف في هذا السباق هو إفلاس مشروعه،
    فالمنافسة الحرة في النظام الرأسمالي سيف مسلط على رقاب المنظمين، يطيح
    بالضعيف والمهمل والمتكاسل، ويضمن البقاء للأصلح. وواضح أن هذه


    المنافسة تؤدي إلى مصلحة المجتمع، لأنها تدفع إلى الاستفادة الدائمة بنتاج
    العقل العلمي والفني، وإشباع الحاجات الإنسانية بأقل نفقة ممكنة.
    فلا ضرورة_ بعد هذا_ إلى ارهاق صاحب المشروع بتربية خلقية
    معينة، وترويضه على القيم الروحية، أو ملء أذنية بالمواعظ والنصائح،
    ليجعل إشباع الحاجات الإنسانية بأقل نفقة ممكنة، ويزيد من اتقان السلع
    وجودتها. فإن مصلحته الخاصة كفيلة بدفعه إلى تحقيق ذلك، ما دام يعيش
    في مجتمع حر يسوده التنافس.
    كما لا حاجة له إلى مواعظ تحثه على المساهمة في أعمال البر والإحسان،
    والإهتمام بمصالح المجتمع، لأنه يندفع إلى ذلك بدافع من مصلحته الخاصة
    بوصفه جزءاً من المجتمع.
    * * *
    وقد أصبح اليوم حديث التوافق بين المصالح العامة والدوافع الذاتية،
    في ظل الحرية الرأسمالية.. أدعى إلى السخرية منه إلى القبول، بعد أن ضج
    تاريخ الرأسمالية بفجائع وكوارث يقل نظيرها في التاريخ، وتناقضات
    صارخة بين المصالح الخاصة والمصالح العامة، وفراغ هائل أحدثه الاستغناء
    عن الكيان الخلقي والروحي للمجتمع، فامتلأ بدلاً عن القيم الخلقية
    والروحية، بألوان من الظلم والاستهتار والطمع والجشع.
    ونستطيع بكل سهولة أن نتبين من خلال التاريخ التطبيقي للرأسمالية،
    جنايات هذه الحرية الرأسمالية، التي رفضت كل التحديدات الخلقية
    والروحية، وآثارها الخطيرة: في مجرى الحياة الاقتصادية أولاً، وفي
    المحتوى الروحي للمجتمع ثانياً، وفي علاقات المجتمع الرأسمالي بغيره من
    المجتمعات ثالثاً حتى عاد الرأسماليون أنفسهم يؤمنون بحاجة الرأسمالية إلى
    التعديل والتحديد، ويحاولون شيئاً من الترقيع والترميم، للتخلص من تلك


    الآثار أو إخفائها عن الأبصار، وأصبحت الرأسمالية في صيغتها المذهبية
    الكاملة مذهباً تاريخياً، أكثر من كونه مذهباً يعيش في واقع الحياة.
    أما في مجرى الحياة الاقتصادية للمجتمع الرأسمالي: فليست الحرية
    الرأسمالية المطلقة إلا سلاحاً جاهزاً بيد الأقوياء يشق لهم الطريق، ويعبد
    أمامهم سبيل المجد والثروة على جماجم الآخرين. لأن الناس ما داموا
    متفاوتين في حظوظهم من المواهب الفكرية والجسدية والفرص الطبيعية...
    فمن الضروري أن يختلفوا في أسلوب الاستفادة من الحرية الاقتصادية الكاملة
    التي يوفرها المذهب الرأسمالي لهم، وفي درجات هذه الاستفادة. ويؤدي
    هذا الاختلاف المحتوم بين القوى والضعيف، إلى أن تصبح الحرية التعبير
    القانوني عن حق القوي في كل شيء، بينما لا تعني بالنسبة إلى غيره شيئاً.
    ولما كانت الحرية الرأسمالية لا تقر بالرقابة مهما كان لونها_ فسوف يفقد
    الثانويون في معركة الحياة كل ضمان لوجودهم وكرامتهم، ويظلون في
    رحمة منافسين أقوياء لا يعرفون لحرياتهم حدوداً من القيم الروحية والخلقية،
    ولا يدخلون في حسابهم إلا مصالحم الخاصة.
    وقد بلغ من هدر الكرامة الإنسانية، نتيجة لهذه الحرية الرأسمالية أن
    بات الإنسان نفسه سلعة خاضعة لقوانين العرض والطلب، وأصبحت الحياة
    الإنسانية رهن هذه القوانين، وبالتالي رهن القانون الحديدي للأجور.
    فإذا زادت القوى البشرية العاملة، وزاد المعروض منها على مسرح الإنتاج
    الرأسمالي، انخفض سعرها لأن الرأسمالي سوف يعتبر ذلك، فرصة حسنة
    لامتصاص سعادته من شقاء الآخرين، فيهبط بأجورهم إلى مستوى قد
    لا يحفظ لهم حياتهم، ولا يمكنهم حتى من إشباع بعض ضروراتهم، كما
    قد يقذف بعدد هائل منهم إلى الشارع يقاسون آلام الموت جوعاً، لا لشيء
    إلا لأنه يتمتع بحرية غير محدودة. ولا بأس على العمال من الدمار والموت
    جوعاً، ما دام الاقتصاد الرأسمالي يقدم لهم بصيصاً من الأمل، وكوة من


    نور. ولكن ما هو هذا الأمل الذي يبعثه في نفوسهم؟! إنه هو الأمل في
    انخفاض عددهم، بسبب تراكم البؤس والمرض. أي والله إن هذا هو
    الأمل الذي يقدمه القانون الحديدي للأجور إلى العمال، قائلاً لهم: اصبروا
    قليلاً، حتى يصرع الجوع والبؤس قسماً كبيراً منكم، فيقل عددكم
    ويصبح العرض مساوياً للطلب، فترتفع أجوركم وتتحسن حالتكم.
    هذا هو التوافق الأسطوري المزعوم، بين الدوافع الذاتية في ظل الحرية
    الرأسمالية والمصالح العامة. هذا التوافق الذي اضطر الرأسماليون أنفسهم
    إلى التنازل عن الإيمان به، والاتجاه إلى فكرة تحديد الحرية بالقيم والضمانات.
    وإذا كان هذا هو حظ الحياة الاقتصادية في المجتمع الرأسمالي من
    الحرية الرأسمالية وآثارها، فإن ما يصيب المحتوى الروحي للأمة من شرارة
    تلك الحرية المجردة، أقسى وأمر، حيث تتلاشى بصورة عامة مشاعر
    البر والخير والإحسان، وتطغى مفاهيم الأنانية والجشع، وتسود في المجتمع
    روح الصراع في سبيل البقاء، بدلاً عن روح التعاون والتكافل. وما ظنك
    بفرد يتجاوب مع المفهوم المطلق للحرية الرأسمالية؟! إذا تطلبت منه القيم
    الخلقية والموقف الاجتماعي شيئاً من المفاداة والتضحية بمصالحه الخاصة،
    وحتى إذا دفعته مصلحته الخاصة أحياناً إلى تحقيق المصالح العامة، بوصفها
    في صالحه أيضاً، فإن هذا وإن كان قد يؤدي إلى نفس النتيجة، التي
    تستهدفها القيم الروحية والخلقية من ناحية موضوعية، ولكنها لا تحقق
    الجانب الذاتي من تلك القيم، ولا تصنع من الإنسان إنساناً في عواطفه ومشاعره ودوافعه وبواعثه. فإن الأخلاق ليست ذات قيمة موضوعية فحسب، بل
    هي ذات قيمة ذاتية أيضاً، لا تقل عن قيمتها الموضوعية في تكميل الحياة
    الإنسانية، وإشاعة روح السعادة والهناء النفسي فيها. وسوف نبحث في
    الفصل المقبل مسألة الدوافع الذاتية، وعلاقتها بالمصالح العامة بصورة أوسع.
    ولندع الآن آثار الحرية الرأسمالية في المحتوى الداخلي للمجتمع


    الرأسمالي، ولنفترض_ مع الأسطورة الرأسمالية_: أن الدوافع الذاتية
    تضمن بنفسها تحقيق المصالح العامة. فهل يمكن لهذا الخيال المجنح، أن
    يقول مثل ذلك عن مصالح مختلف المجتمعات، وأن يزعم التوافق بين
    المصالح الخاصة للمجتمع الرأسمالي، وغيره من المجتمعات البشرية؟!
    وماذا يمنع المجتمع الرأسمالي، إذا كان يؤمن بالحرية الرأسمالية مجردة
    عن كل الإطارات الروحية والخلقية.. أن يسخّر سائر الكتل البشرية
    لحسابه، ويستعبدها لقضاء مآربه؟!.
    والواقع التاريخي للرأسمالية، هو الذي يجيب على هذا السؤال. فقد
    قاست الإنسانية أهوالاً مروعة، على يد المجتمعات الرأسمالية، نتيجة
    لخوائها الخلقي وفراغها الروحي، وطريقتها الخاصة في الحياة. وسوف
    تبقى تلك الأهوال وصمة في تاريخ الحضارة المادية الحديثة، وبرهاناً على:
    أن الحرية الاقتصادية التي لا تحدها حدود معنوية، من أفتك أسلحة الإنسان
    بالإنسان، وأفظعها إمعاناً في التدمير والخراب. فقد كان من نتاج هذه
    الحرية مثلاً، تسابق الدول الأوروبية بشكل جنوني على استعباد البشر
    الآمنين، وتسخيرهم في خدمة الإنتاج الرأسمالي. وتاريخ أفريقيا وحدها
    صفحة من صفحات ذلك السباق المحموم، تعرضت فيه القارة الأفريقية
    لطوفان من الشقاء، إذ قامت دول عديدة كبريطانيا وفرنسا وهولنده وغيرها
    باستيراد كميات هائلة من سكان أفريقيا الآمنين، وبيعهم في سوق الرقيق،
    وتقديمهم قرابين للعملاق الرأسمالي. وكان تجار تلك البلاد يحرقون القرى
    الأفريقية، ليضطر سكانها إلى الفرار مذعورين، فيقوم التجار بكسبهم
    وسوقهم إلى السفن التجارية، التي تنقلهم إلى بلاد الأسياد. وبقيت هذه
    الفظائع ترتكب إلى القرن التاسع عشر، حيث قامت بريطانيا خلاله بحملة
    واسعة النطاق ضدها حتى استطاعت أبرام معاهدات دولة تستنكر الاتجار
    في الرقيق، ولكن هذه المحاولة نفسها كانت تحمل الطابع الرأسمالي،


    ولم تصدر عن إيمان روحي بالقيم الخلقية والمعنوية، بدليل أن بريطانيا التي
    أقامت الدنيا في سبيل وضع حد لأعمال القرصنة، استبدلتها بأسلوب آخر
    من الاستعباد المبطن، إذ أرسلت أسطولها الضخم إلى سواحل أفريقية،
    لمراقبة التجارة المحرمة من أجل القضاء عليها. أي والله هكذا زعمت، من
    أجل القظاء عليها. ولكنها مهدت بذلك إلى احتلال مساحات كبيرة على
    الشواطيء الغربية، وبدأت عملية الاستعباد تجري في القارة نفسها، تحت
    شعار الاستعمار، بدلاً عن أسواق أوروبا التجارية!!
    فهل نستطيع القول بعد ذلك كله مع الرأسماليين: بأن الحرية الرأسمالية
    جهاز سحري، يعمل بشكل تلقائي ودون أي اعتبار روحي وخلقي، على
    تحويل سعي الناس في سبيل مكاسبهم الخاصة، إلى آلة تضمن المصالح العامة
    والرفاه الاجتماعي.
    ب_ الحرية سبب لتنمية الإنتاج
    هذه هي الفكرة الثانية التي ترتكز عليها الحرية الرأسمالية، كما مر بنا
    سابقاً وهي تقوم على خطأ في فهم نتائج الحرية الرأسمالية، وخطأ آخر في
    تقدير قيمة الإنتاج.
    فمشاريع الإنتاج في المجتمع الرأسمالي، ليست وحدات ذرية تخوض
    معترك السباق والتنافس، في درجة واحدة من التكافؤ والإمكانات...
    ليكون كل مشروع كفؤاً لمنافسة المشاريع الأخرى، الأمر الذي يحافظ
    على بقاء التنافس الحر، ويجعله أداة لتنمية الإنتاج وتحسينه. بل إن مشاريع
    الإنتاج في المجتمع الرأسمالي، تختلف في حجمها وكفاءتها وقدرتها على
    الاندماج بعضها مع البعض. والحرية الرأسمالية في هذه الحال تفسح المجال
    للتنافس، الذي سرعان ما يؤدي إلى صراع عنيف، تحطم فيه المشاريع
    القوية غيرها، وتبدأ باحتكار الإنتاج تدريجياً، حتى تختفي كل ألوان


    التنافس وثمراته في مضمار الإنتاج. فالتنافس الحر بالمعنى الذي ينمي الإنتاج
    لا يواكب الحرية الرأسمالية إلا شوطاً محدوداً، ثم يخلي الميدان بعد ذلك
    للاحتكار، ما دامت الحرية الرأسمالية هي التي تمتلك الموقف الإقتصادي.
    أما الخطأ الآخر الأساسي في الفكرة. فهو في تقدير قيمة الإنتاج كما ذكرنا.
    فهب أن الحرية الرأسمالية تؤدي إلى وفرة الإنتاج، وتنميته نوعياً وكمياً،
    وإن التنافس الحر سيستمر في ظل الرأسمالية. ويحقق إنتاج السلعة بأقل
    نفقة ممكنة فإن هذا لا يبرهن على قدرة الرأسمالية على توفير سعادة المجتمع،
    وإنما يشير إلى قدرة المجتمع في ظلها على تحسين الإنتاج وتحقيق أكبر كمية
    ممكنة من السلع والخدمات. وليست هذه القدرة هي كل شيء في حساب
    الرفاه الاجتماعي، الذي يعتبر المذهب مسؤولاً عن ضمانه، وإنما هي
    قدرة أو طاقة قد تنفق بالشكل الذي يكفل الرفاه والسعادة للمجتمع، كما
    قد تنفق بشكل معاكس. والشيء الذي يحدد الشكل الذي تنفق به الطاقة
    الاجتماعية للإنتاج، هو الأسلوب المتبع في توزيع الناتج العام على أفراد
    المجتمع. فالرفاه العام إذن لا يتعلق بكمية الناتج العام، بمقدار ما يتعلق
    بكيفية تقسيم هذا الناتج على الأفراد.
    والمذهب الرأسمالي أعجز ما يكون عن امتلاك الكفاءة التوزيعية، التي
    تضمن رفاه المجتمع وسعادة الجميع، لأن الرأسمالية المذهبية تعتمد في
    التوزيع على جهز الثمن، وهو يعني: أن من لا يملك ثمن السلعة ليس
    له حق في العيش والحياة. وبذلك يقضى بالموت أو الحرمان على من كان
    عاجزاً عن اكتساب هذا الثمن لعدم قدرته على المساهمة في إنتاج السلع
    والخدمات، أو لعدم تهيء فرصة للمساهمة، أو لوقوعه فريسة بيد منافسين
    أقوياء قد سدوا في وجهه كل الفرص. ولهذا كانت بطالة الأيدي العاملة
    في المجتمعات الرأسمالية، من أفجع الكوارث الإنسانية، لأن العامل حين
    يستغني الرأسمالي عن خدماته، لأي سبب من الأسباب، لا يجد الثمن الذي


    يحصل به على ضروراته وحاجاته، ويصبح مرغماً على حياة البؤس والجوع،
    لأن الثمن هو جهاز التوزيع، وما دام لم يحصل منه على شيء في السوق فلا
    نصيب له من الثروة المنتجة مهما كانت فاحشة.
    فليست المبالغة في كفاءة المذهب الرأسمالي، وقدرته على تنمية الإنتاج،
    إلا تضليلاً وستراً للجانب المظلم منه، الذي يحكم في مجال التوزيع بالحرمان
    والإعدام دون مبالاة على من لم يعرف كلمة السر، ولم يحصل على القطع
    السحرية، على النقود.
    [/align]
    يا محوّل الحول والاحوال ، حوّل حالنا إلى أحسن الحال......








  5. #20
    تاريخ التسجيل
    Jul 2004
    الدولة
    هناك
    المشاركات
    28,205

    افتراضي

    [align=center]وفي هذا الضوء، لا يمكننا أن نعتبر مجرد الإنتاج مبرراً من الناحية
    الخلقية والعلمية، لمختلف الوسائل التي تتيح لحركة الإنتاج انطلاقاً أوسع،
    وحقلاً أخصب لأن وفرة الإنتاج_ كما عرفنا_ ليست هي التعبير الكامل
    عن الرفاه الاجتماعي العام.
    ج_ الحرية تعبير أصيل عن الكرامة الإنسانية:
    ولم يبق بعد هذا إلا الفكرة الثالثة عن الحرية، التي تقدر الحرية بمعيار
    ذاتي وتضفي عليها قيمة معنوية وخلقية أصلية، بوصفها المظهر الجوهري
    للكرامة وتحقيق الذات، اللذين لا يعود للحياة بدونهما أي معنى.
    * * *
    ويجب أن نشير_ قبل كل شيء_ إلى أن هناك لونين من الحرية،
    وهما: الحرية الطبيعية، والحرية الاجتماعية. فالحرية الطبيعية هي: الحرية
    الممنوحة من قبل الطبيعة نفسها. والحرية الاجتماعية هي: الحرية التي
    يمنحها النظام الاجتماعي، ويكفلها المجتمع لأفراده، ولكل من هاتين
    الحرتين طابعها الخاص. فلا بد لنا_ ونحن ندرس مفاهيم الرأسمالية عن
    الحرية_ أن نميز إحدى هاتين الحريتين عن الأخرى. لئلا نمنح أحداهما
    صفات الأخرى وخصائصها.

    فالحرية الطبيعية عنصر جوهري في كيان الإنسان، وظاهرة أساسية
    تشترك فيها الكائنات الحية بدرجات مختلفة، تبعاً لمدى حيويتها. ولذلك
    كان نصيب الإنسان من هذه الحرية أوفر من نصيب أي كائن حي آخر،
    وهكذا كلما ازداد حظ الكائن من الحياة، عظم نصيبه من الحرية الطبيعية.
    ولكي نعرف جوهر هذه الحرية الطبيعية، نبدأ بملاحظة الكائنات غير
    الحية في سلوكها. فإن الطبيعة ترسم لهذه الكائنات إتجاهات محددة، وتفرض
    لكل كائن السلوك الذي لا يمكن أن يحيد عنه، فالحجر مثلاً فرضت عليه
    الطبيعة سلوكاً محدداً، وفقاً لقوانين كونية عامة. فلا نترقب منه مثلاً أن
    يتحرك ما لم نحركه، ولا نترقب منه إذا حركناه أن يتحرك في غير الإتجاه
    الذي نحركه فيه، كما لا نتصور من الحجر أن يتراجع تفادياً للاصطدام
    بجدار يعترض طريقه. فهو يفقد كل لون من القوة الإيجابية، والقدرة على
    تكيفات جديدة، ولهذا لم يكن له نصيب من الحرية الطبيعية. وأما الكائن
    الحي فليس موقفه تجاه البيئة والظروف سلبياً، أو مضغوطاً في اتجاه محدد
    لا محيد عنه، بل يمتلك قدرة وطاقة إيجابية على تكييف نفسه، وابتداع
    أسلوب جديد إذا لم يكن الأسلوب الاعتيادي، ملائماً لظروفه. وهذه
    الطاقة الإيجابية هي التي توحي إلينا بمفهوم الحرية الطبيعية، نظراً إلى أن
    الطبيعة وضعت بين يدي الكائن الحي بدائل متعددة، ليأخذ في كل حال
    بأكثرها ملاءمة لظروفه الخاصة. فالنبات الذي يعتبر في الدرجة الدنيا من
    سلم الكائنات الحية، نجد لديه تلك الطاقة أو الحرية في مستوى منخفض
    وبدائي، فإن بعض النباتات تغير من اتجاهها ولمجرد اقترابها من حاجز
    يصلح لمنعها عن الامتداد في ذلك الاتجاه المعين، وتسارع إلى تكييف نفسها
    واتجاهها تكييفاً جديداً. وإذا أخذنا الحيوان_ بوصفه درجة ثانية في سلم
    الحياة_ وجدنا عنده تلك الحرية والطاقة، في نطاق أوسع، وعلى مستوى
    أعلى. إذ وضعت الطبيعة بين يديه بدائل كثيرة، ينتخب منها في كل حين


    وما هو أكثر ملاءمة لشهواته وميوله.. فبينما كنا نجد الحجر لا يحيد عن
    اتجاهه المعين حين نرمي به، والنبات لا يحيد عن اتجاهه، إلا في حدود
    معينة.. نرى الحيوان قادراً على اتخاذ مختلف الاتجاهات في كل حين.
    فالحقل الذي سمحت له الطبيعة بممارسة نشاطه الحيوي فيه، أوسع وأغنى
    بالبدائل من الحقل الذي ظفر به النبات.
    وتبلغ الحرية الطبيعية ذروتها في الإنسان، لأن الحقل العملي الذي
    منحته الطبيعة له أوسع الحقول جميعاً. فبينما كانت الميول والشهوات
    الغريزية في الحيوان حدوداً نهائية للحقل الذي يعمل فيه فلا يستعمل الحيوان
    حريته إلا في حدود تلك الميول والشهوات.. لم يعد لها في حقل النشاط
    الحيوي للإنسان تلك المنزلة، لأن الإنسان ركب تركيباً نفسياً وعضوياً
    خاصاً، يمكنه من قهر تلك الشهوات، أو التحديد من مفعولها. فهو حر
    حتى في الانسياق مع تلك الشهوات أو معاكستها.
    وهذه الحرية الطبيعية التي يتمتع بها الإنسان، هي التي تعتبر بحق
    إحدى المقومات الجوهرية للإنسانية، لأنها تعبير عن الطاقة الحيوية فيها.
    فالإنسانية بدون هذه الحرية لفظ بدون معنى.
    ومن الواضح أن الحرية بهذا المعنى خارجة عن نطاق البحث المذهبي،
    وليس لها أي طابع مذهبي، لأنها منحة الله للإنسان، وليست منحة مذهب
    معين دون مذهب، لتدرس على أساس مذهبي.
    وأما الحرية التي تحمل الطابع المذهبي، وتميز المذهب الرأسمالي،
    وتحتل القاعدة الرئيسية في كيانه.. فهي الحرية الاجتماعية، أي الحرية،
    التي يكسبها الفرد من المجتمع لا من الطبيعة. فإن هذه الحرية هي التي
    تتصل بالوجود الاجتماعي للإنسان وتدخل ضمن نطاق الدراسات المذهبية والاجتماعية.

    وإذا استطعنا أن نميز بوضوح، بين الحرية الطبيعية والحرية الاجتماعية.
    أمكننا أن ندرك مدى الخطأ في منح الحرية الاجتماعية خصائص الحرية
    الطبيعية وفي القول: بأن الحرية التي يوفرها المذهب الرأسمالي، مقوم
    جوهري للإنسانية وعنصر حيوي في كيانها. فإن هذا القول يرتكز على
    أساس: عدم التمييز بين الحرية الطبيعية بوصفها مقوماً جوهرياً للوجود
    الإنساني، والحرية الاجتماعية بوصفها مسألة اجتماعية، يجب أن يدرس
    مدى كفاءتها لبناء مجتمع سعيد، وانسجامها مع القيم الخلقية التي نؤمن بها.
    * * *
    ولنأخذ الآن الحرية الاجتماعية بهذا الوصف لندرس موقف المذهب
    الرأسمالي منها، بعد أن استبعدنا من نطاق البحث المذهبي الحرية الطبيعية،
    وتعرفنا على الطابع المميز لكل من الحريتين.
    ولدى تحليل هذا المفهوم، مفهوم: الحرية الاجتماعية.. نجد للحرية
    الاجتماعية محتوى حقيقي، وشكلاً ظاهرياً. فهي ذات جانبين: أحدهما:
    المحتوى الحقيقي للحرية أو_ كما سنعبر عنه فيما بعد_: الحرية الجوهرية.
    والآخر: الشكل الظاهري للحرية، ولنطلق عليه اسم: الحرية الشكلية.
    فهناك إذن الحرية الاجتماعية الجوهرية، والحرية الاجتماعية الشكلية.
    أما الحرية الاجتماعية الجوهرية: فهي القدرة التي يكسبها الإنسان
    من المجتمع على القيام بفعل شيء معين، وتعني هذه القدرة: أن المجتمع
    يوفر للفرد كل الوسائل والشروط التي يتطلبها القيام بذلك الفعل. فإذا كفل
    لك المجتمع أن تملك ثمن سلعة معينة، ووفر هذه السلعة في السوق، ولم
    يسمح لأي شخص آخر بالحصول على حق احتكاري في شراء السلعة...
    فأنت عندئذ حر في شراء السلعة، لأنك تتمتع اجتماعياً بكل الشروط التي
    يتوقف عليها شراء تلك السلعة. وأما إذا كان المجتمع لا يوفر لك ملكية


    الثمن، أو عرض السلعة في السوق، أو يمنح لغيرك وحده الحق في شرائها..
    فليس لديك في الواقع حرية جوهرية، أو قدرة حقيقية عل الشراء.
    وأما الحرية الشكلية: فهي لا تتطلب كل ذلك، بل قد يكون الفعل
    مستحيلاً بالنسبة إلى الفرد، كشراء السلعة بالنسبة إلا من لا يملك ثمنها..
    ولكنه بالرغم من ذلك يعتبر حراً اجتماعياً من الناحية الشكلية، وإن لم يكن
    لهذه الحرية الشكلية أي محتوى حقيقي. لأن الحرية الشكلية في الشراء،
    لا تعني القدرة على الشراء فعلاً، وإنما تعني بمدلولها الاجتماعي: سماح
    المجتمع للمرء_ ضمن نطاق امكاناته وفرصه، التي يحددها موقفه في حلبة
    التنافس مع الآخرين_ باتخاذ أي أسلوب يتيح له شراء تلك السلعة. فالإنسان الاعتيادي حر شكلياً في شراء قلم، كما هو حر في شراء شركة رأسمالية،
    بقدر رأسمالها بمئات الملايين.. ما دام النظام الاجتماعي يسمح له بالقيام
    بأي عمل، واتخاذ أي أسلوب في سبيل شراء تلك الشركة الضخمة. أو
    ذلك القلم المتواضع. وأما قلة الفرص أو الشروط التي تتيح له شراء الشركة،
    أو انعدام تلك الفرص في حلبة التنافس نهائياً، وعدم توفير المجتمع لها..
    فلا يتناقض مع الحرية الشكلية في إطارها الظاهري العام.
    غير أن الحرية الشكلية ليست خاوية هكذا تماماً، بل إنها تعني أحياناً
    معنى إيجابياً. فرجل الأعمال الذي بدأ وجوده التجاري بشكل ناجح، وإن
    لم يكن قادراً بالفعل على شراء شركة ضخمة، ولكنه ما دام يتمتع بالحرية
    الشكلية اجتماعياً فهو قادر على القيام بمختلف الأعمال، في سبيل الظفر
    بالقدرة على شراء تلك الشركة، في المدى القريب أو البعيد. وعلى هذا
    الأساس تكون الحرية الشكلية في شراء الشركة وامتلاكها، ذات معنى
    إيجابي، لأنها وإن لم تسلم إليه الشركة فعلاً، ولكنها تسمح له بامتحان
    مواهبه، والقيام بمختلف النشاطات في سبيل الظفر بملكية تلك الشركة.
    والشيء الذي يفقده في ظل هذه الحرية الشكلية، هو ضمان المجتمع له


    الحصول على الشركة، أو الحصول على ثمنها. فإن هذا الضمان الذي هو
    معنى الحرية الاجتماعية الجوهرية، لا تكلفه الحرية الشكلية للأفراد.
    فالحرية الشكلية اجتماعياً ليست إذن خاوية دائماً، بل هي أداة لاستثارة
    القوى والطاقات في الأفراد، وتعبئتها في سبيل الوصول إلى مستويات أعلى،
    وإن لم تقدم شيئاً من ضمانات الفوز والنجاح.
    وفي هذا الضوء نعرف أن الحرية الشكلية، وإن لم تكن تعني القدرة
    فعلاً، ولكنها شرط ضروري لتوفر هذه القدرة. فرجل الأعمال الناجح
    الذي تحدثنا عنه لم يكن ليتاح له أن يحلم بامتلاك الشركة الرأسمالية الكبيرة،
    وبالتالي لم يكن ليمتلكها بالفعل بعد جهد متواصل.. لو لم يكن يتمتع بالحرية الشكلية، ولو لم يكن يسمح له المجتمع بتجربة حظه وامكاناته في حلبة
    التنافس، وهكذا تكون الحرية الشكلية بالنسبة إليه أداة فعالة وشرطاً
    ضرورياً، لاكتساب الحرية الجوهرية، والقدرة الحقيقية على شراء الشركة
    بينما تبقى حرية الأفراد الفاشلين شكلياً في تملك الشركة، حرية اسمية
    فحسب، لا تشع بذرة من الحقيقة.
    * * *
    والمذهب الرأسمالي يتبنى الحرية الاجتماعية الشكلية، مؤمناً بأن
    الحرية الشكلية هي التجسيد الكامل لمفهوم الحرية. و(أما الحرية الجوهرية)
    _ على حد تعبيرنا فيما سبق_ فهي تعني في رأيه القدرة على الاستفادة من
    الحرية، وليست هي الحرية نفسها. ولذلك فهو لا يعنى بتوفير القدرة لدى
    المرء ومنحه الحرية الجوهرية، وإنما يترك ذلك إلى ما تسنح له من فرص
    ويظفر به من إمكانات، مكتفياً بتوفير الحرية الشكلية، بالسماح له بممارسة
    مختلف ألوان النشاط الاقتصادي في سبيل الغايات التي يسعى إلى تحقيقها،
    ورفض أي سلطة اجتماعية تمارس الضغط والإكراه، في حقل من حقول
    الحياة.

    فللرأسمالية موقف سلبي تجاه الحرية الجوهرية، وموقف إيجابي تجاه
    الحرية الشكلية، أي أنها لا تعنى بتوفير الحرية الأولى، وإنما تكفل للأفراد
    الحرية الشكلية فقط.
    وتوجد في رأي الرأسمالية مبررات لذلك الموقف السلبي تجاه الحرية
    الجوهرية تتلخص في أمرين:
    احدهما: أن طاقة المذهب الاجتماعي_ أي مذهب كان_ قاصرة
    عن توفير الحرية الجوهرية لكل شخص، وضمان القدرة على تحقيق كل
    مايسعى نحوه ويهدف إليه. لأن كثيراً من الأفراد يفقدون المواهب والكفاءات
    الخاصة، التي تعتبر ضرورية لتحقيق أهدافهم، وليس في إمكان المذهب
    أن يجعل من المغمور نابغاً، أو من البليد عبقرياً، كما أن كثيراً من الأهداف
    لا يمكن أن يضمن لكل الأفراد الفوز بها، فليس من المعقول_ مثلاً_
    أن يصبح كل فرد رئيساً للدولة، وأن يضمن للأفراد جميعاً القدرة على
    استلام منصب الرئاسة فعلاً، وإنما الشيء المعقول: أن يفسح المجال أمام
    كل فرد ليخوض المعترك السياسي أو الاقتصادي، ويجرب مواهبه. فإما
    أن ينجح ويصل إلى الذروة وإما أن يقف في منتصف الطريق، وإما أن
    يعود من المعركة خاسراً، وعلى أي يحال فهو المسؤول الأخير عن مصيره
    في المعترك، ومدى نجاحه أو فشله.
    والأمر الآخر: الذي تبرر به الرأسمالية تخليها عن الحرية الجوهرية:
    هو أن منح الفرد هذه الحرية، بتقديم الضمانات الكافية لنجاحه في أي
    سبيل يسلكه، يضعف إلى مدى بعيد شعور الفرد بالمسؤولية، ويخمد الجذوة
    الحرارية فيه، التي تدفعه إلى النشاط، وتفرض عليه مزيداً من اليقظة
    والانتباه. لأنه ما دام قد ضمن المذهب له نجاحه، فلا حاجة به إلى الإعتماد
    على شخصه، واستثمار قدرته ومواهبه، كما كان حرياً به أن يفعل لو لم
    يوفر المذهب له الحرية الجوهرية، والضمانات اللازمة.

    وكلا هذين المبررين صحيح إلى حد ما، ولكن لا بالشكل الذي تقرره
    الرأسمالية، وترفض على أساسه فكرة الحرية الجوهرية والضمان رفضاً تاماً.
    فإن ضمان الحصول على أي شيء، يسعى إليه الفرد في مجال نشاطه الإقتصادي وإن كان حلماً خيالياً غير ممكن التحقيق، ومن الشطط أن يكلف المذهب
    الاجتماعي بتحقيقه.. غير أن توفير حد أدنى من الحرية الجوهرية في المجال
    الاقتصادي، وإعطاء ضمانات كافية لمستوى معين من المعيشة، مهما كانت
    فرص الإنسان وشروطه.. ليس شيئاً مثالياً متعذر التحقيق، ولا سبباً في
    تجميد المواهب وطاقات النمو والتكامل في الإنسان، ما دامت المستويات
    الأكثر رقياً قيد التنافس الحر، فهي تتطلب من الأفراد جهداً ونشاطاً،
    وتنمي فيهم الاعتماد على أنفسهم.
    فالرأسمالية إذن لا تستطيع أن تستند في موقفها السلبي من الحرية
    الجوهرية والضمان، إلى استحالة اعطاء مثل هذا الضمان، أو القول: بأن
    هذا الضمان يشل الطاقة الحرارية في النشاط الإنساني.. مادام يمكن للمذهب
    أن يوفر درجة معقولة من الضمان، ويفتح خارج حدود هذه الدرجة مجالات
    للتنافس، الذي يذكي القابليات وينميها.
    والحقيقة: أن موقف الرأسمالية السلبي من فكرة الضمان والحرية
    الجوهرية كان نتيجة حتمية لموقفها الايجابي من الحرية الشكلية. لأنها حين
    تبنت الحرية الشكلية، وأقامت كيانها المذهبي عليها_ كان من الضروري
    لها أن ترفض فكرة الضمان، وتقف موقفها السلبي من الحرية الجوهرية،
    لأن الحرية الجوهرية والحرية الشكلية متعارضتان. فلا يمكن توفير الحرية
    الجوهرية في مجتمع يؤمن بمبدأ الحرية الشكلية، ويحرص على توفيرها لجميع
    الأفراد في مختلف المجالات، فإن حرية رجال الأعمال في استخدام العامل
    ورفضه، وحرية أصحاب الثروات في التصرف في أموالهم طبقاً لمصالحهم
    الخاصة، كما يقرره مبدأ الحرية الشكلية. يعني عدم إمكان وضع مبدأ

    ضمان العمل للعامل، أو ضمان المعيشة لغير العامل من العاجزين، لأن وضع
    مثل هذه الضمانات لا يمكن أن يتم بدون تحديد تلك الحريات، التي يتمتع
    بها أصحاب العمل وأرباب الثروة. فإما أن يسمح لأصحاب العمل أو المال
    بالتصرف وفقاً لإرادتهم، فتوفر بذلك لهم الحرية الشكلية، ويصبح من
    غير الممكن إعطاء ضمانات للعمل أو المعيشة. وإما أن تعطى هذه الضمانات
    فلا يسمح لأصحاب العمل والمال أن يتصرفوا كما يحلو لهم، وفي ذلك
    خروج على مبدأ الحرية الشكلية، القائل: بضرورة السماح لكل أحد
    بالتصرف في المجال الاقتصادي كما يريد. ولما كانت الرأسمالية تؤمن بهذا
    المبدأ، فقد وجدت نفسها مضطرة إلى رفض فكرة الضمان، فكرة الحرية
    الجوهرية، حفاظاً على توفير الحرية الشكلية لجميع الأفراد على السواء.
    وبينما أخذ المجتمع الرأسمالي بالحرية الشكلية، وطرح الحرية الجوهرية
    وفكرة الضمان جانباً، وقف المجتمع الاشتراكي موقفاً معاكساً، إذقضت
    الاشتراكية الماركسية فيه على الحرية الشكلية، بإقامة جهاز دكتاتوري
    يتولى السلطة المطلقة في البلاد. وزعمت أنها عوضت عن تلك الحرية الشكلية
    بحرية جوهرية، أي بما تقدمه للمواطنين من ضمانات للعمل والحياة.
    وهكذا أخذ كل من المذهبين بجانب من الحرية، وطرح الجانب الآخر
    ولم يحل هذا التناقض المستقطب بين الحرية الشكلية والحرية الجوهرية، أو
    بين الشكل والجوهر.. إلا في الإسلام، الذي آمن بحاجة المجتمع إلى كلا
    اللونين من الحرية، فوفر للمجتمع الحرية الجوهرية بوضع درجة معقولة
    من الضمان تسمح لجميع أفراد المجتمع الإسلامي بالحياة الكريمة، وممارسة
    متطلباتها الضرورية، ولم يعترف في حدود هذا الضمان بالحرية. وفي نفس
    الوقت لم يجعل من هذا الضمان مبرراً للقضاء على الحرية الشكلية، وهدر
    قيمتها الذاتية والموضوعية، بل فتح السبيل أمام كل فرد خارج حدود
    الضمان، ومنحه من الحريات ما ينسجم مع مفاهيمه عن الكون والحياة

    فالمرء مضمون بدرجة وفي حدود خاصة، وحر خارج هذه الحدود.
    وهكذا امتزجت الحرية الجوهرية والحرية الشكلية معاً، في التصميم الإسلامي،
    هذا الامتزاج الرائع الذي لم تنتجه الإنسانية_ في غير ظل الإسلام_ إلى
    التفكير فيه وتحقيقه، إلا في غضون هذا القرن الأخير، إذ بدأت المحاولات
    إلى إقرار مبدأ الضمان، والتوفيق بينه وبين الحرية، بعد أن فشلت تجربة
    الحرية الرأسمالية فشلاً مريراً.
    * * *
    وعلى أي حال فقد ضحت الرأسمالية بفكرة الضمان والحرية الجوهرية
    في سبيل الحرية الشكلية.
    وهنا نصل إلى النقطة الأساسية في دراستنا، لنتساءل: ما هي تلك القيم
    التي ترتكز عليها الحرية الشكلية في المذهب الرأسمالي، والتي سمحت
    للرأسمالية أن تهدر جوهر الحرية وضماناتها في سبيلها؟؟!
    ويجب أن نستبعد هنا كل المحاولات الرامية، إلى تبرير الحرية الشكلية
    بمبررات موضوعية اجتماعية، كوصفها بأنها أداة لتوفير الإنتاج العام،
    أو لتحقيق الرفاه الاجتماعي. فقد مرت بنا هذه المبررات ودرسناها،
    ولم تصمد للدرس والامتحان، وإنما نعنى الآن بمحاولة الرأسمالية، لتفسير
    قيمة الحرية تفسيراً ذاتياً.
    فقد يقال بهذا الصدد: إن الحرية جزء من كيان الإنسان، وإذا سلب
    الإنسان حريته فقد بذلك كرامته، ومعناه الإنساني يتميز به عن سائر
    الكائنات. وهذا التعبير المهلهل لا ينطوي على تحليل علمي للقيمة الذاتية
    للحرية، ولا يمكن أن يجذب سوى من يستهويه التلاعب بالألفاظ، لأن
    الإنسان إنما يتميز كيانه الإنساني الخاص عن سائر الكائنات، بالحرية
    الطبيعية، بوصفه كائناً طبيعياً، لا بالحرية الاجتماعية باعتباره كائناً


    اجتماعياً فالحرية التي تعتبر شيئاً من كيان الإنسان: هي الحرية الطبيعية،
    لا الاجتماعية التي تمنح وتسلب تبعاً للمذهب الاجتماعي السائد.
    وقد يقال: أن الحرية بمدلولها الاجتماعي تعبر عن نزعة أصيلة في
    نفس الإنسان، وحاجة من حاجاته الجوهرية. فالإنسان بوصفه يتمتع
    بالحرية الطبيعية. يميل ذاتياً إلى أن يكون حراً، من ناحية المجتمع الذي
    يعيش ضمنه في سلوكه وعلاقاته مع الآخرين، كما كان حراً من الناحية
    الطبيعية. ومن وظيفة المذهب الاجتماعي أن يعترف بالنزعات والميول
    الأصيلة في الإنسان، ويضمن إشباعها، لكي يصبح مذهباً واقعياً ينسجم
    مع الطبيعة الإنسانية التي يعالجها ويشرّع لها فلا يمكن لمذهب إذن أن يكبت
    في الإنسان نزعته الأصلية إلى الحرية.
    وهذا صحيح إلى حد ما. ولكننا نقول من الناحية الأخرى: أن من
    وظيفة المذهب الاجتماعي الذي يريد أن يرسي بنيانه على قواعد مكينة
    من النفس البشرية: أن يعترف بمختلف النزعات الأصلية في الإنسان،
    وبحاجاته الجوهرية المتنوعة. ويسعى إلى التوفيق والملائمة بينها. وليس من
    المستساغ لكي يكون المذهب واقعياً وإنسانياً. أن يعترف بإحدى تلك
    النزعات الأصيلة، ويضمن إشباعها إلى أقصى حد، على حساب النزعات
    الأخرى. فالحرية مثلاً وإن كانت نزعة أصيلة في الإنسان، لأنه يرفض
    بطبعه القسر والضغط والإكراه، ولكن لهذا الإنسان حاجات جوهرية،
    وميولاً أصيلة أخرى. فهو بحاجة ماسة_ مثلاً_ إلى شيء من السكينة
    والاطمئنان في حياته، لأن القلق يرعبه كما ينغصه الضغط والإكراه. فإذا
    فقد كل الضمانات التي يمكن للمجتمع أن يؤديها له في حياته ومعيشته،
    خسر بذلك حاجة من حاجاته الجوهرية، وحرم من إشباع ميله الأصيل إلى
    الاستقرار والثقة، كما أنه إذا خسر حريته تماماً، وقام جهاز اجتماعي يملي
    عليه ارادته بالضغط والإكراه. كان قد فقد حاجة جوهرية أخرى، وهي

    حاجته إلى الحرية التي تعبر نزعة أصيلة في نفسه، فالتوفيق الدقيق الحكيم
    بين حاجة الإنسان الأصيلة إلى الحرية، وحاجته الأصيلة إلى شيء من
    الإستقرار والثقة، وسائر حاجاته الأصيلة الأخرى. هو العملية التي يجب
    أن يؤديها المذهب للإنسانية، إذا حاول أن يكون واقعياً، قائماً على أسس
    راسخة من الواقع الإنساني. وإما أن تطرح الميول والحاجات الأخرى
    جانباً، ويضحي بها لحساب حاجة أصيلة واحدة، كي يتوفر إشباعها إلى
    ابعد الحدود كما فعل المذهب الرأسمالي. فهذا يتعرض مع أبسط
    الواجبات المذهبية.
    * * *
    وأخيراً: فإن موقف الرأسمالية من الحرية والضمان، لئن كان خطأ
    فهو مع هذا ينسجم مع الإطار العام للتفكير الرأسمالي كل الانسجام. لأن
    الضمان ينطوي على فكرة تحديد حريات الأفراد والضغط عليها، ولا
    تستطيع الرأسمالية أن تجد لهذا الضغط والتحديد مسوغاً، على أساس مفاهيمها
    العامة عن الكون والإنسان.
    وذلك أن الضغط والتحديد، قد يستمد مبرره من الضرورة التاريخية،
    كما تعتقد الماركسية في ضوء المادية التاريخية، إذ ترى أن دكتاتورية
    البروليتاريا، التي تمارس سياسة الضغط والتحديد من الحريات في المجتمع
    الاشتراكي.. تنبع من الضرورة الحتمية لقوانين التاريخ.
    ولكن الرأسمالية لا تؤمن بالمادية التاريخية، بتسلسلها الماركسي الخاص.
    وقد يستمد الضغط والتحديد مبررة من الإيمان بسلطة عليا، تمتلك حق
    تنظيم الإنسانية وتوجيهها في حياتها، ووضع الضمانات المحددة لحريات
    الأفراد، كما يعتقد الدين، إذ يرى أن للإنسان خالقاً حكيماً من حقه أن
    يصنع له وجوده الاجتماعي، ويحد طريقته في الحياة.
    وهذا ما لا يمكن للرأسمالية أن تقره، في ضوء مفهومها الأساسي

    القائل: بفصل الدين عن واقع الحياة، وسحبه من كل الحقول الاجتماعية
    العامة.
    وقد يبرر الضغط والتحديد، بوصفه قوة نابعة من داخل الإنسان،
    ومفروضة عليه من ضميره الذي يفرض عليه قيماً خلقية، وحدوداً معينة
    لسلوكه مع الآخرين وموقفه من المجتمع.. ولكن الضمير ليس بمفهومه
    في فلسفة الأخلاق عند الرأسمالية، إلا انعكاساً داخلياً للعرف أو العادات،
    أو أي تحديد آخر يفرض على الفرد من الخارج. فالضمير في نهاية التحليل
    ضغط خارجي، وليس نابعاً من الأعماق الداخلية.
    وهكذا تنتهي الرأسمالية إلى العجز عن تفسير الضغط على الحرية،
    عن طريق الضرورة التاريخية، أو الدين، أو الضمير.
    وهكذا يرتبط موقفها من الحرية بجذورها الفكرية، ومفاهيمها الرئيسية
    عن الكون والإنسان، عن التاريخ والدين والأخلاق.
    وعلى هذا الأساس وضعت الرأسمالية مفهومها السياسي عن الحكومة،
    ومختلف السلطات الاجتماعية. فهي لا ترى مبرراً لتدخل هذا السلطات
    في حريات الأفراد، إلا بالقدر الذي يتطلبه الحفاظ عليها، وصيانتها عن
    الفوضى والاصطدام، لأن هذا هو القدر الذي يسمح به الأفراد أنفسهم.
    وأما التدخل خارج هذه الحدود، فلا مسوغ له من حتمية تاريخية، أو دين،
    أو قيم وأخلاق. ومن الطبيعي عندئذ أن تنتهي الرأسمالية من تسلسلها
    الفكري إلى: التأكيد على الحرية في المجال الاقتصادي، ورفض فكرة
    قيام السلطة بوضع أي ضمانات أو تحديدات.
    هذه هي مفاهيم الرأسمالية في ترابطها العام، الذي ينتهي إلى الأسس
    الفكرية العامة.
    وهذه هي وجهة النظر التي يجب تمحيص تلك المفاهيم، وبالتالي تفنيدها
    على أساس تلك النظرة.
    [/align]
    يا محوّل الحول والاحوال ، حوّل حالنا إلى أحسن الحال......








  6. #21
    تاريخ التسجيل
    Jul 2004
    الدولة
    هناك
    المشاركات
    28,205

    افتراضي

    [align=center]إقتصادنا في معالمه الرئيسية

    1_ الهيكل العام للاقتصاد الإسلامي
    2_ الاقتصاد الإسلامي جزء من كل
    3_ الإطار العام للاقتصاد الإسلامي
    4_ الاقتصاد الإسلامي ليس علماً
    5_ علاقات التوزيع منفصلة عن شكل الإنتاج
    6_ المشكلة الاقتصادية في نظر الإسلام، وحلولها































    الهيكل العام للاقتصاد الإسلامي
    يتألف الهيكل العام للاقتصاد الإسلامي من أركان رئيسية ثلاثة يتحدد
    وفقاً لها محتواه المذهبي، ويتميز بذلك عن سائر المذاهب الاقتصادية
    الأخرى في خطوطها العريضة. وهذه الأركان هي كما يلي:
    1_ مبدأ الملكية المزدوجة.
    2_ مبدأ الحرية الاقتصادية في نطاق محدود.
    3_ مبدأ العدالة الاجتماعية.
    وسوف نتناول هذه الأركان الرئيسية بالشرح والتفسير، فنكوّن
    فكرة عامة عن الاقتصاد الإسلامي، كي يتاح لنا مجال البحث بصورة
    أوسع، في تفاصيله وخصائصه المذهبية.

    1_ مبدأ الملكية المزدوجة
    يختلف الإسلام عن الرأسمالية والاشتراكية، في نوعية الملكية التي يقررها اختلافاً جوهرياً.

    فالمجتمع الرأسمالي يؤمن بالشكل الخاص الفردي للملكية، أي بالملكية
    الخاصة، كقاعدة عامة. فهو يسمح للأفراد بالملكية الخاصة لمختلف أنواع
    الثروة في البلاد تبعاً لنشاطاتهم وظروفهم. ولا يعترف بالملكية العامة إلا
    حين تفرض الضرورة الاجتماعية، وتبرهن التجربة على وجوب تأميم
    هذا المرفق أو ذاك. فتكون هذه الضرورة حالة استثنائية، يضطر المجتمع
    الرأسمالي_ على أساسها_ إلى الخروج عن مبدأ الملكية الخاصة، واستثناء
    مرفق أو ثروة معينة من مجالها.
    والمجتمع الاشتراكي على العكس تماماً من ذلك. فإن الملكية الاشتراكية
    فيه هي المبدأ العام، الذي يطبق على كل أنواع الثروة في البلاد. وليست
    الملكية الخاصة لبعض الثروات في نظره إلا شذوذاً واستثناءاً، قد يعترف
    به أحياناً بحكم ضرورة اجتماعية قاهرة.
    وعلى أساس هاتين النظرتين المتعاكستين، للرأسمالية والاشتراكية،
    يطلق اسم:(المجتمع الرأسمالي)، على كل مجتمع يؤمن بالملكية الخاصة
    بوصفها المبدأ الوحيد، وبالتأميم باعتباره استثناءاً ومعالجة لضرورة اجتماعية،
    كما يطلق اسم:(المجتمع الاشتراكي) على كل مجتمع يرى أن الملكية
    الاشتراكية هي المبدأ، ولا يعترف بالملكية الخاصة إلا في حالات استثنائية.
    وأما المجتمع الإسلامي فلا تنطبق عليه الصفة الأساسية لكل من
    المجتمعين. لأن المذهب الإسلامي لا يتفق مع الرأسمالية في القول: بأن
    الملكية الخاصة هي المبدأ، ولا مع الاشتراكية في اعتبارها للملكية الاشتراكية
    مبدأ عاماً، بل إنه يقرر الأشكال المختلفة للملكية في وقت واحد، فيضع
    بذلك مبدأ الملكية المزدوجة(الملكية ذات الأشكال المتنوعة) بدلاً عن
    مبدأ الشكل الواحد للملكية، الذي أخذت به الرأسمالية والاشتراكية.
    فهو يؤمن بالملكية الخاصة، والملكية العامة، وملكية الدولة. ويخصص
    لكل واحد من هذه الأشكال الثلاثة للملكية حقلاً خاصاً تعمل فيه، ولا


    يعبر شيئاً منها شذوذاً واستثناءً، أو علاجاً موقتاً اقتضته الظروف.
    ولهذا كان من الخطأ أن يسمى المجتمع الإسلامي: مجتمعاً رأسمالياً
    وإن سمح بالملكية الخاصة، لعدة من رؤوس الأموال ووسائل الإنتاج،
    لأن الملكية الخاصة عنده ليست هي القاعدة العامة. كما أن من الخطأ أن
    نطلق على المجتمع الإسلامي اسم المجتمع الاشتراكي، وإن أخذ بمبدأ
    الملكية العامة، وملكية الدولة في بعض الثروات ورؤوس الأموال، لأن
    الشكل الاشتراكي للملكية ليس هو القاعدة العامة في رأيه. وكذلك من
    الخطأ أيضاً أن يعتبر مزاجاً مركباً من هذا وذاك، لأن تنوع الأشكال
    الرئيسية للملكية في المجتمع الإسلامي، لا يعني أن الإسلام مزج بين
    المذهبين: الرأسمالي والاشتراكي، وأخذ من كل منهما جانباً.. وإنما
    يعبر ذلك التنوع في أشكال الملكية عن: تصميم مذهبي أصيل، قائم على
    أسس وقواعد فكرية معينة، وموضوع ضمن إطار خاص من القيم والمفاهيم،
    تناقض الأسس والقواعد والقيم والمفاهيم التي قامت عليها الرأسمالية الحرة،
    والاشتراكية الماركسية.
    وليس هناك أدل على صحة الموقف الإسلامي من الملكية، القائم على
    أساس مبدأ الملكية المزدوجة. من واقع التجربتين الرأسمالية والاشتراكية.
    فإن كلتا التجربتين اضطرتا إلى الاعتراف بالشكل الآخر للملكية، الذي
    يتعارض مع القاعدة العامة فيهما، لأن الواقع برهن على خطأ الفكرة القائلة
    بالشكل الواحد للملكية. فقد بدأ المجتمع الرأسمالي منذ أمد طويل يأخذ
    بفكرة التأميم، وينزع عن بعض المرافق إطار الملكية الخاصة. وليست
    حركة التأميم هذه إلا اعترافاً ضمنياً من المجتمعات الرأسمالية: بعدم
    جدارة المبدأ الرأسمالي في الملكية، ومحاولة لمعالجة ما نجم عن ذلك المبدأ
    من مضاعفات وتناقضات.
    كما أن المجتمع الاشتراكي من الناحية الأخرى، وجد نفسه_ بالرغم


    من حداثته_ مضطراً أيضاً إلى الاعتراف بالملكية الخاصة، قانونياً حيناً
    وبشكل غير قانوني أحياناً أخرى. فمن اعترافه القانوني بذلك، ماتضمنته
    المادة السابعة في الدستور السوفياتي، من النص على أن لكل عائلة من عوائل
    المزرعة التعاونية، بالإضافة إلى دخلها الأساسي الذي يأتيها من اقتصاد
    المزرعة التعاونية المشترك قطعة من الأرض خاصة بها، وملحقة بمحل السكن،
    ولها في الأرض اقتصاد إضافي ومنزل للسكنى وماشية منتجة وطيور وأدوات
    زراعية بسيطة.. كملكية خاصة. وكذلك سمحت المادة التاسعة بتملك
    الفلاحين الفرديين والحرفيين، لمشاريع اقتصادية صغيرة، وقيام هذه
    الملكيات الصغيرة إلى جانب النظام الاشتراكي السائد.
    2_ مبدأ الحرية الاقتصادية في نطاق محدود
    والثاني من أركان الاقتصاد الإسلامي، السماح للأفراد على الصعيد
    الاقتصادي بحرية محدودة، بحدود من القيم المعنوية والخلقية التي يؤمن
    بها الإسلام.
    وفي هذا الركن نجد أيضاً الاختلاف البارز بين الاقتصاد الإسلامي،
    والاقتصادين الرأسمالي والاشتراكي. فبينما يمارس الأفراد حريات غير
    محدودة في ظل الاقتصاد الرأسمالي، وبينما يصادر الاقتصاد الاشتراكي
    حريات الجميع.. يقف الإسلام موقفه الذي يتفق مع طبيعته العامة، فيسمح
    للأفراد بممارسة حرياتهم ضمن نطاق القيم والمثل، التي تهذب الحرية
    وتصقلها، وتجعل منها أداة خير للإنسانية كلها.
    والتحديد الإسلامي للحرية الاجتماعية في الحقل الاقتصادي على قسمين:
    أحدهما: التحديد الذاتي الذي ينبع من أعماق النفس، ويستمد قوته
    ورصيده من المحتوى الروحي والفكري للشخصية الإسلامية.



    والآخر: التحديد الموضوعي الذي يعبر عن قوة خارجية، تحدد
    السلوك الاجتماعي وتضبطه.
    أما التحديد الذاتي: فهو يتكون طبيعياً في ظل التربية الخاصة، التي
    ينشيء الإسلام عليها الفرد في المجتمع الذي يتحكم الإسلام في كل مرافق
    حياته(المجتمع الإسلامي).فإن للإطارات الفكرية والروحية التي يصوغ
    الإسلام الشخصية الإسلامية ضمنها، حين يعطي فرصة مباشرة واقع الحياة
    وصنع التاريخ على أساسه.. إن لتلك الإطارات قوتها المعنوية الهائلة،
    وتأثيرها الكبير في التحديد ذاتياً وطبيعياً من الحرية، الممنوحة الأفراد
    المجتمع الإسلامي، وتوجيهها توجيهاً مهذباً صالحاً، دون أن يشعر لأفراد
    بسلب شيء من حريتهم، لأن التحديد نبع من واقعهم الروحي والفكري،
    فلا يجدون فيه حداً لحرياتهم. ولذلك لم يكن التحديد الذاتي تحديداً للحرية
    في الحقيقة، وإنما هو عملية إنشاء للمحتوى الداخلي للإنسان الحر، إنشاءاً
    معنوياً صالحاً، حيث تؤدي الحرية في ظله رسالتها الصحيحة.
    وقد كان لهذا التحديد الذاتي نتائجه الرائعة، وآثاره الكبيرة في تكوين
    طبيعة المجتمع الإسلامي ومزاجه العام، وبالرغم من أن التجربة الإسلامية
    الكاملة كانت قصيرة الأمد، فقد آتت ثمارها، وفجّرت في النفس البشرية
    امكاناتها المثالية العالية، ومنحتها رصيداً روحياً زاخراً بمشاعر العدل
    والخير والإحسان ولو قدر لتلك التجربة أن تستمر وتمتد في عمر الإنسانية،
    أكثر مما امتدت في شوطها التاريخي القصير، لاستطاعت أن تبرهن على
    كفاءة الإنسانية لخلافة الأرض، ولصنعت عالماً جديداً زاخراً بمشاعر
    العدل والرحمة، واجتثت من النفس البشرية أكثر ما يمكن استئصاله من
    عناصر الشر، ودوافع الظلم والفساد.
    وناهيك من نتائج التحديد الذاتي، أنه ظل وحده هو الضامن الأساسي
    لأعمال البر والخير في مجتمع المسلمين، منذ خسر الإسلام تجربته للحياة.

    وفقد قيادته السياسية وإمامته الاجتماعية، وبالرغم من ابتعاد المسلمين عن
    روح تلك التجربة والقيادة، بعداً زمنياً امتد قروناً عديدة، وبعداً روحياً
    يقدر بانخفاض مستوياتهم الفكرية والنفسية، واعتيادهم على ألوان أخرى
    للحياة الاجتماعية والسياسية.. بالرغم من ذلك كله فقد كان للتحديد
    الذاتي، الذي وضع الإسلام نواته في تجربته الكاملة للحياة، دوره الإيجابي
    الفعال، في ضمان أعمال البر والخير، التي تتمثل في إقدام الملايين من
    المسلمين بملء حريتهم، المتبلورة في إطار ذلك التحديد، على دفع الزكاة
    وغيرها من حقوق الله، والمساهمة في تحقيق مفاهيم الإسلام عن العدل
    الاجتماعي، فماذا تقدر من نتائج في ضوء هذا الواقع، لو كان هؤلاء
    المسلمون يعيشون التجربة الإسلامية الكاملة، وكان مجتمعهم تجسيداً كاملاً
    للإسلام، في أفكاره وقيمه وسياسته، وتعبيراً عملياً عن مفاهيمه ومثله.
    * * *
    وأما التحديد الموضوعي للحرية، فنعني به: التحديد الذي يفرض على الفرد
    في المجتمع الإسلامي من خارج، بقوة الشرع. ويقوم هذا التحديد
    الموضوعي للحرية في الإسلام، على المبدأ القائل: إنه لا حرية للشخص
    فيما نصت عليه الشريعة المقدسة، من ألوان النشاط التي تتعارض مع المثل
    والغايات التي يؤمن الإسلام بضرورتها.
    وقد تم تنفيذ هذا المبدأ في الإسلام بالطريقة التالية:
    أولاً: كفلت الشريعة في مصادرها العامة، النص على المنع عن
    مجموعة من النشاطات الاقتصادية والاجتماعية، المعيقة_ في نظر الإسلام_
    عن تحقيق المثل والقيم التي يتبناها الإسلام، كالربا والاحتكار وغير ذلك.
    وثانياً: وضعت الشريعة مبدأ إشراف ولي الأمر على النشاط العام،
    وتدخل الدولة لحماية المصالح العامة وحراستها، بالتحديد من حريات


    الأفراد فيما يمارسون من أعمال. وقد كان وضع الإسلام لهذا المبدأ ضرورياً
    لكي يضمن تحقيق مثله ومفاهيمه في العدالة الاجتماعية على مر الزمن.
    فإن متطلبات العدالة الاجتماعية التي يدعو إليها الإسلام، تختلف باختلاف
    الظروف الاقتصادية للمجتمع، والأوضاع المادية التي تكتنفه فقد يكون
    القيام بعمل مضراً بالمجتمع وكيانه الضروري، في زمان دون زمان، فلا
    يمكن تفصيل ذلك في صيغ دستورية ثابتة وإنما السبيل الوحيد هو فسح
    المجال لولي الأمر، ليمارس وظيفته بصفته سلطة مراقبة وموجهة، ومحددة
    لحريات الإفراد فيما يفعلون أو يتركون من الأمور المباحة في الشرع،
    وفقاً للمثل الإسلامي في المجتمع.
    والأصل التشريعي لمبدأ الإشراف والتدخل هو القرآن الكريم، في
    قوله تعالى:( وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم). فإن
    هذا النص دل بوضوح على وجوب إطاعة أولي الأمر. ولا خلاف بين
    المسلمين، في أن أولي الأمر هم أصحاب السلطة الشرعية في المجتمع
    الإسلامي، وإن اختلفوا في تعيينهم وتحديد شروطهم وصفاتهم، فللسلطة
    الإسلامية العليا إذن حق الطاعة والتدخل، لحماية المجتمع وتحقيق التوازن
    الإسلامي فيه، على أن يكون هذا التدخل ضمن دائرة الشرعية المقدسة.
    فلا يجوز للدولة أو لولي الأمر أن يحلل الربا، أو يجيز الغش، أو يعطل
    قانون الإرث، أو يلغي ملكية ثابتة في المجتمع على أساس إسلامي.. وإنما
    يسمح لولي الأمر في الإسلام، بالنسبة إلى التصرفات والأعمال المباحة في
    الشريعة أن يتدخل فيها، فيمنع عنها أو يأمر بها وفقاً للمثل الإسلامي
    للمجتمع. فإحياء الأرض، واستخراج المعادن، وشق الأنهار، وغير
    ذلك من ألوان النشاط والاتجار.. أعمال مباحة سمحت بها الشريعة سماحاً
    عاماً ووضعت لكل عمل نتائجه الشرعية التي تترتب عليه، فإذا رأى
    ولي الأمر أن يمنع عن القيام بشيء من تلك التصرفات أو يأمر به، في

    حدود صلاحياته.. كان له ذلك، وفقا ًللمبدأ الآنف الذكر.
    وقد كان رسول الله_ صلى الله عليه وآله_ يطبق مبدأ التدخل هذا،
    حين تقضي الحاجة ويتطلب الموقف شيئاً من التدخل والتوجيه. ومن أمثلة
    ذلك ما جاء في الحديث الصحيح_ عنه صلى الله عليه وآله_ من أنه قضى
    بين أهل المدينة في مشارب النخل: إنه لا يمنع نفع الشيء. وقضى بين
    أهل البادية: إنه لا يمنع فضل ماء ليمنع فضل كلاء، وقال لا ضرر ولا
    ضرار( ). فإن من الواضح لدى الفقهاء: أن منع نفع الشيء أو فضل
    الماء، ليس محرماً بصورة عامة في الشريعة المقدسة. وفي هذا الضوء نعرف:
    أن النبي لم يحرم على أهل المدينة منع نفع الشيء، أو منع فضل الماء بصفته
    رسولاً مبلغاً للأحكام الشرعية العامة وإنما حرم ذلك بوصفه ولي الأمر،
    المسؤول عن تنظيم الحياة الاقتصادية للمجتمع وتوجيهها توجيهاً لا يتعارض
    مع المصلحة العامة التي يقدرها. وقد يكون هذا هو السبب الذي جعل
    الرواية تعبر عن تحريم النبي(ص): بالقضاء لا بالنهي، نظراً إلى أن
    القضاء لون من الحكم( ).

    وسوف نتناول هذا المبدأ( مبدأ الأشراف والتدخل)، بشكل أوسع
    وبصورة أكثر وضوحاً وتحديداً في بحث مقبل.
    3_ مبدأ العدالة الاجتماعية
    والركن الثالث في الاقتصاد الإسلامي. هو مبدأ العدالة الاجتماعية التي
    جسدها الإسلام، فيما زود به نظام توزيع الثروة في المجتمع الإسلامي من
    عناصر وضمانات، تكفل للتوزيع قدرته على تحقيق العدالة الإسلامية،
    وانسجامه مع القيم التي يرتكز عليها. فإن الإسلام حين أدرج العدالة
    الاجتماعية ضمن المباديء الأساسية، التي يتكون منها مذهبه الاقتصادي
    لم يتبن العدالة الاجتماعية بمفهومها التجريدي العام، ولم يناد بها بشكل مفتوح
    لكل تفسير، ولا أوكله إلى المجتمعات الإنسانية التي تختلف في نظرتها
    للعدالة الاجتماعية، باختلاف أفكارها الحضارية ومفاهيمها عن الحياة..
    وإنما حدد الإسلام هذا المفهوم وبلوره، في مخطط اجتماعي معين،
    واستطاع_ بعد ذلك_ أن يجسد هذا التصميم في واقع اجتماعي حي،
    تنبض جميع شرايينه وأوردته بالمفهوم الإسلامي للعدالة.
    فلا يكفي أن نعرف من الإسلام مناداته بالعدالة الاجتماعية، وإنما يجب أن نعرف أيضاً تصوراته التفصيلية للعدالة، ومدلولها الإسلامي الخاص.
    والصورة الإسلامية للعدالة الاجتماعية تحتوي على مبدئين عامين،
    لكل منهما خطوطه وتفصيلاته: أحدهما: مبدأ التكافل العام، والآخر:
    مبدأ التوازن الاجتماعي. وفي التكافل والتوازن بمفهومهما الإسلامي،
    تحقق القيم الاجتماعية العادلة، ويوجد المثل الإسلامي للعدالة الاجتماعية،
    كما سنرى في فصل قادم.
    وخطوات الإسلام التي خطاها في سبيل إيجاد المجتمع الإنساني الأفضل،



    عبر تجربته التاريخية المشعة، كانت واضحة وصريحة في اهتمامه بهذا الركن
    الرئيسي من اقتصاده.
    وقد انعكس هذا الاهتمام_ بوضوح_ في الخطاب الأول الذي
    ألقاه النبي (ص)، وفي أول عمل سياسي باشره في دولته الجديدة.
    فإن الرسول الأعظم دشن بياناته التوجيهية_ كما في الرواية_ بخطابه
    هذا:
    ((أما بعد أيها الناس فقدموا لأنفسكم، تعلمن والله
    ليصعقن أحدكم ثم ليدعن غنمه ليس لها راع، ثم
    ليقولن له ربه ألم يأتك رسولي فبلغك، وآتيتك مالاً
    وأفضلت عليك؟! فما قدمت لنفسك؟! فلينظرن يميناً
    وشمالاً فلا يرى شيئاً، ثم لينظرن قدامه فلا يرى غير
    جهنم. فمن استطاع أن يقي وجهه من النار_ ولو بشق
    تمرة_ فليفعل، ومن لم يجد فبكلمة طيبة، فإنها تجزي
    الحسنة عشرة أمثالها إلى سبعمائة ضعف، والسلام عليكم
    ورحمة الله وبركاته)).
    وبدأ عمله السياسي بالمؤاخاة بين المهاجرين والأنصار، وتطبيق مبدأ
    التكافل بينهم، بغية تحقيق العدالة الاجتماعية التي يتوخاها الإسلام.
    فهذه هي الأركان الأساسية في الاقتصاد الإسلامي:
    أولاً: ملكية ذات أشكال متنوعة، يتحدد التوزيع في ضوئها.
    ثانياً: حرية محدودة بالقيم الإسلامية، في مجالات: الإنتاج، والتبادل،
    والاستهلاك.
    ثالثاً: عدالة اجتماعية تكفل للمجتمع سعادته، قوامها التكافل والتوازن.
    * * *


    وللمذهب الاقتصادي في الإسلام صفتان أساسيتان، تشعان في مختلف
    خطوطه وتفاصيله، وهما: الواقعية، والأخلاقية. فالاقتصاد الإسلامي
    اقتصاد واقعي وأخلاقي معاً، في غاياته التي يرمي إلى تحقيقها، وفي الطريقة
    التي يتخذها لذلك.
    فهو اقتصاد واقعي في غايته، لأنه يستهدف في أنظمته وقوانينه الغايات
    التي تنسجم مع واقع الإنسانية، بطبيعتها ونوازعها وخصائصها العامة،
    ويحاول دائماً أن لا يرهق الإنسانية في حسابه التشريعي، ولا يحلق بها في
    أجواء خيالية عالية فوق طاقاتها وإمكاناتها.. وإنما يقيم مخططه الاقتصادي
    دائماً على أساس النظرة الواقعية للإنسان، ويتوخى الغايات الواقعية التي
    تتفق مع تلك النظرة. فقد يلذ لاقتصاد خيالي كالشيوعية مثلاً، أن يتبنى
    غاية غير واقعية، ويرمي إلى تحقيق إنسانية جديدة طاهرة من كل نوازع
    الأنانية، قادرة على توزيع الأعمال والأموال بينها، دون حاجة إلى أداة
    حكومية تباشر التوزيع، سليمة من كل ألوان الاختلاف أو الصراع...
    غير أن هذا لا يتفق مع طبيعة التشريع الإسلامي، وما اتصف به من واقعية
    في غاياته وأهدافه.
    وهو_ إلى هذا_ واقعي في طريقته أيضاً. فكما يستهدف غايات
    واقعية ممكنة التحقيق، كذلك يضمن تحقيق هذه الغايات ضماناً واقعياً
    مادياً، ولا يكتفي بضمانات النصح والتوجيه، التي يقدمها الوعاظ
    والمرشدون، لأنه يريد أن يخرج تلك الأهداف إلى حيز التنفيذ، فلا يقنع
    بإيكالها إلى رحمة الصدف والتقادير. فحين يستهدف مثلاً إيجاد التكافل
    العام في المجتمع، لا يتوسل إليه بأساليب التوجيه واستثارة العواطف فحسب،
    وإنما يسنده بضمان تشريعي، يجعله ضروري التحقيق على كل حال.
    والصفة الثانية للاقتصاد الإسلامي، وهي الصفة الأخلاقية، تعني
    _ من ناحية الغاية_: أن الإسلام لا يستمد غاياته التي يسعى إلى تحقيقها

    في حياة المجتمع الاقتصادية، من ظروف مادية وشروط طبيعة مستقلة عن
    الإنسان نفسه، كما تستوحي الماركسية غاياتها من وضع القوى المنتجة
    وظروفها.. وإنما ينظر إلى تلك الغايات، بوصفها معبرة عن قيم عملية
    ضرورية التحقيق من ناحية خلقية. فحين يقرر ضمان حياة العامل مثلاً،
    لا يؤمن بأن هذا الضمان الاجتماعي الذي وضعه، نابع من الظروف
    المادية للإنتاج مثلاً، وإنما يعتبره ممثلاً لقيمة عملية يجب تحقيقها، كما
    سندرس ذلك بصورة مفصلة خلال بحوث هذا الفصل.
    وتعني الصفة الخلقية_ من ناحية الطريقة_: أن الإسلام يهتم بالعامل
    النفسي، خلال الطريقة التي يضعها لتحقيق أهدافه وغاياته. فهو في الطريقة التي
    يضعها لذلك، لا يهتم بالجانب الموضوعي فحسب_ وهو أن تحقق تلك
    الغايات_ وإنما يعنى بوجه خاص بمزج العامل النفسي والذاتي بطريقة
    التي تحقق تلك الغايات. فقد يؤخذ من الغني مال لإشباع الفقير مثلاً،
    ويتأتى بذلك للفقير أن يشبع حاجاته، وتوجد بذلك الغاية الموضوعية التي
    يتوخاها الاقتصاد الإسلامي، من وراء مبدأ التكافل. ولكن هذا ليس
    هو كل المسألة في حساب الإسلام، بل هناك الطريقة التي تم بها تحقيق
    التكافل العام. لأن هذه الطريقة قد تعني مجرد استعمال القوة في انتزاع
    ضريبة من الأغنياء لكفالة الفقراء. وهذا وإن كفى في تحقيق الجانب
    الموضوعي من المسألة، أي إشباع الفقير... ولكن الإسلام لا يقر ذلك،
    ما دامت طريقة تحقيق التكافل مجردة عن الدافع الخلقي، والعامل الخير
    في نفس الغني. ولأجل ذلك تدخل الإسلام، وجعل من الفرائض المالية
    _التي استهدف منها إيجاد التكافل_ عبادات شرعية، يجب أن تنبع عن
    دافع نفسي نيّر، يدفع الإنسان إلى المساهمة في تحقيق غايات الاقتصاد
    الإسلامي، بشكل واع مقصود، طلباً بذلك رضا الله تعالى والقرب منه.
    ولا غرو أن يكون للإسلام هذا الاهتمام بالعامل النفسي، وهذا

    الحرص على تكوينه روحياً وفكرياً، طبقاً لغاياته ومفاهيمه، فإن لطبيعة
    العوامل الذاتية التي تعتلج في نفس الإنسان، أثرها الكبير في تكوين شخصية
    الإنسان، وتحديد محتواه الروحي، كما أن للعامل الذاتي أثره الكبير على
    الحياة الاجتماعية ومشاكلها وحلولها. وقد بات من الواضح لدى الجميع
    اليوم: أن العامل النفسي يلعب دوراً رئيسياً في المجال الاقتصادي، فهو
    يؤثر في حدوث الأزمات الدورية، التي يضج من ويلاتها الاقتصاد
    الأوروبي. ويؤثر أيضاً على منحنى العرض والطلب، وفي الكفاية الإنتاجية
    للعامل إلى غير ذلك من عناصر الاقتصاد.
    فالإسلام إذن لا يقتصر_ في مذهبه وتعاليمه_ على تنظيم الوجه
    الخارجي للمجتمع، وإنما ينفذ إلى أعماقه الروحية والفكرية، ليوفق بين
    المحتوى الداخلي، وما يرسمه من مخطط اقتصادي واجتماعي. ولا يكتفي
    في طريقته أن يتخذ أي أسلوب يكفل تحقيق غاياته، وإنما يمزج هذا الأسلوب بالعامل
    النفسي والدافع الذاتي الذي ينسجم مع تلك الغايات ومفاهيمها.
    [/align]
    يا محوّل الحول والاحوال ، حوّل حالنا إلى أحسن الحال......








  7. #22
    تاريخ التسجيل
    Jul 2004
    الدولة
    هناك
    المشاركات
    28,205

    افتراضي

    [align=center]
    الاقتصاد الإسلامي جزء من كل
    إننا في وعينا للاقتصاد الإسلامي، لا يجوز أن ندرسه مجزءاً بعضه
    عن بعض. نظير أن ندرس حكم الإسلام بحرمة الربا، أو سماحه
    بالملكية الخاصة، بصورة منفصلة عن سائر أجزاء المخطط العام.
    كما لا يجوز أيضاً أن ندرس مجموع الاقتصاد الإسلامي، بوصفه شيئاً
    منفصلاً وكياناً مذهبياً مستقلاً، عن سائر كيانات المذهب: الاجتماعية
    والسياسية، الأخرى، وعن طبيعة العلاقات القائمة بين تلك الكيانات...
    وإنما يجب أن نعي الاقتصاد الإسلامي ضمن الصيغة الإسلامية العامة، التي
    تنظم شتى نواحي الحياة في المجتمع. فكما ندرك الشيء المحسوس
    ضمن صيغة عامة تتألف من مجموعة أشياء، وتختلف النظرة إلى الشيء
    ضمن الصيغة العامة عن النظرة إليه خارج تلك الصيغة، أو ضمن صيغة
    أخرى، حتى لقد يبدو الخط قصيراً ضمن تركيب معين من الخطوط،
    ويبدو أطول من ذلك إذا تغير تركيب الخطوط.. كذلك أيضاً تلعب
    الصيغ العامة للمذاهب الاجتماعية، دوراً مهماً في تقدير مخططاتها الإقتصادية.
    فمن الخطأ أن لا نعير الصيغة الإسلامية العامة أهميتها، وأن ندخل في





    الحساب طبيعة العلاقة بين الاقتصاد وسائر أجزاء المذهب، والتأثير المتبادل
    بينها في كيانه العضوي العام.
    كما يجب أيضاً أن لا نفصل بين المذهب الإسلامي بصيغته العامة، وبين
    أرضيته الخاصة التي أعدت له، وهيأ فيها كل عناصر البقاء والقوة للمذهب.
    فكما ندرك الصيغ المحسوسة على أرضيات مختلفة، وينسجم كل شكل مع
    أرضية معينة، فقد لا تصلح أرضية لشكل آخر، ولا يصلح ذلك الشكل
    لأرضية أخرى. كذلك الصيغة العامة للمذهب_ أي مذهب كان_ تحتاج
    إلى أرضية وتربة، تتفق مع طبيعتها، وتمدها بالعقيدة والمفاهيم والعواطف
    التي تلائمها فلا بد لدى تقدير الصيغة العامة للمذهب أن ندرسها على أساس
    التربة والأرضية المعدة لها، أي ضمن إطارها العام.
    وهكذا يتضح أن الاقتصاد الإسلامي مترابط في خطوطه وتفاصيله،
    وهو بدوره جزء من صيغة عامة للحياة، وهذه الصيغة لها أرضية خاصة
    بها، ويوجد المجتمع الإسلامي الكامل حين يكتسب الصيغة والأرضية
    معاً، حين يحصل على النبتة والتربة كليهما. ويستقيم منهج البحث في
    الاقتصاد الإسلامي، حين يدرس الاقتصاد الإسلامي بما هو مخطط مترابط،
    وبوصفه جزءاً من الصيغة الإسلامية العامة للحياة، التي ترتكز بدورها على
    التربة والأرضية التي أعدها الإسلام للمجتمع الإسلامي الصحيح.
    * * *
    وتتكون التربة أو الأرضية للمجتمع الإسلامي، ومذهبه الاجتماعي،
    من العناصر التالية:
    أولاً: العقيدة، وهي القاعدة المركزية في التفكير الإسلامي، التي
    تحدد نظرة المسلم الرئيسية إلى الكون بصورة عامة.



    وثانياً: المفاهيم التي تعكس وجهة نظر الإسلام في تفسير الأشياء،
    على ضوء النظرة العامة التي تبلورها العقيدة.
    وثالثاً: العواطف والأحاسيس التي يتبنى الإسلام بثها وتنميتها، إلى
    صف تلك المفاهيم، لأن المفهوم_ بصفته فكرة إسلامية عن واقع معين_
    يفجر في نفس المسلم شعوراً خاصاً تجاه ذلك الواقع، ويحدد اتجاهه العاطفي
    نحوه. فالعواطف الإسلامية وليدة المفاهيم الإسلامية، والمفاهيم الإسلامية
    بدورها موضوعة في ضوء العقيدة الإسلامية الأساسية. ولنأخذ لذلك مثلاً
    من التقوى. ففي ظل عقيدة التوحيد ينشأ المفهوم الإسلامي عن التقوى
    القائل: إن التقوى هي ميزان الكرامة والتفاضل بين أفراد الإنسان،
    وتتولد عن هذا المفهوم عاطفة إسلامية بالنسبة إلى التقوى والمتقين، وهي
    عاطفة الإجلال والاحترام.
    فهذه هي العناصر الثلاثة: العقيدة، والمفاهيم، والعواطف، التي
    تشترك في تكوين التربة الصالحة للمجتمع.
    ثم يأتي_ بعد التربة_ دور الصيغة الإسلامية العامة للحياة، كلاً
    لا يتجزأ، يمتد إلى مختلف شعب الحياة. وعندما يستكمل المجتمع الإسلامي
    تربته وصيغته العامة، عندئذ فقط نستطيع أن نترقب من الاقتصاد الإسلامي،
    أن يقوم برسالته الفذة في الحياة الاقتصادية، وأن يضمن للمجتمع أسباب
    السعادة والرفاه، وأن نقطف منه أعظم الثمار. وأما أن ننتظر من الرسالة
    الإسلامية الكبرى، أن تحقق كل أهدافها من جانب معين من جوانب
    الحياة، إذا طبقت في ذلك الجانب بصورة منفصلة عن سائر شعب الحياة
    الأخرى.. فهذا خطأ. لأن الارتباط القائم في التصميم الإسلامي الجبار
    للمجتمع، بين كل جانب منه وجوانبه الأخرى، يجعل شأنه شأن خريطة
    يضعها أبرع المهندسين لإنشاء عمارة رائعة، فليس في إمكان هذه الخريطة
    أن تعكس الجمال والروعة_ كما أراد المهندس_ إلا إذا طبقت بكاملها،

    وأما إذا أخذنا بها في بناء جزء من العمارة فقط، فليس من حقنا أن نترقب
    ومن هذا الجزء أن يكون كما أراد المهندس، في تصميمه للخريطة كلها.
    وكذلك للتصميم الإسلامي، فإن الإسلام اشترع نهجه الخاص به، وجعل
    منه الأداة الكاملة لاسعاد البشرية، على أن يطبق هذا النهج الإسلامي العظيم
    في بيئة إسلامية، قد صبغت على أساس الإسلام في وجودها وأفكارها
    وكيانها كله وإن يطبق كاملاً غير منقوص يشد بعضه بعضاً، فعزل كل
    جزء من النهج الإسلامي عن بيئته_ وعن سائر الأجزاء_ معناه عزله عن
    شروطه التي يتاح له في ظلها تحقيق هدفه الاسمى، ولا يعتبر هذا طعناً
    في التوجيهات الإسلامية، أو تقليلاً من كفاءتها وجدارتها بقيادة المجتمع
    فإنها في هذا بمثابة القوانين العلمية، التي تؤتى ثمارها متى توافرت
    الشروط التي تقضيها هذه القوانين.
    * * *
    ونحن لا نستطيع في عرضنا هذا، أن نبرز جميع أوجه الارتباط في
    الاقتصاد الإسلامي، وأوجه الارتباط والتفاعل بينه وبين سائر ما يتصل
    به من خصائص وعناصر إسلامية أخرى، وإنما نقتصر على نماذج من ذلك
    كما يلي.
    1_ ارتباط الاقتصاد الإسلامي بالعقيدة، التي هي مصدر التموين
    الروحي للمذهب. فإن العقيدة تدفع المسلم إلى التكيف وفقاً للمذهب،
    بوصفه نابعاً من تلك العقيدة، وتضفي على المذهب طابعاً إيمانياً وقيمة ذاتية،
    بقطع النظر عن نوعية النتائج الموضوعية التي يسجلها في مجال المذهب، باعتباره
    منبثقاً عن تلك العقيدة التي يدين بها. فقوة ضمان التنفيذ، والطابع الإيماني
    والروحي، والاطمئنان النفسي.. كل تلك الخصائص يتميز بها الاقتصاد
    الإسلامي، عن طريق العقيدة الأساسية التي يرتكز عليها، ويتكون ضمن


    إطارها العام. وهي لذلك لا تظهر لدى البحث، إلا إذا درس الاقتصاد
    الإسلامي على ضوء العقيدة ومدى تفاعله بها.
    2_ ارتباط الاقتصاد الإسلامي بمفاهيم الإسلام عن الكون والحياة،
    وطريقة الخاصة في تفسير الأشياء، كالمفهوم الإسلامي عن الملكية الخاصة
    وعن الربح. فالإسلام يرى أن الملكية حق رعاية يتضمن المسؤولية، وليس
    سلطاناً مطلقاً. كما يعطي للربح مفهوماً أرحب_ بمدلوله الإسلامي_ كثير من
    النشاطات التي تعتبر خسارة بمنظار آخر غير إسلامي.
    ومن الطبيعي أن يكون لمفهوم الإسلام ذاك عن الملكية أثره في كيفية
    الاستفادة من حق الملكية الخاصة وتحديدها، وفقاً لإطارها الإسلامي.
    كما أن من الطبيعي أيضاً أن يتأثر الحقل الاقتصادي بمفهوم الإسلام عن
    الربح أيضاً. بالدرجة التي يحددها مدى عمق المفهوم وتركزه، وبالتالي
    يؤثر المفهوم على مجرى الاقتصاد الإسلامي خلال تطبيقه. فلا بد أن يدرس
    من خلال ذلك، ولا يجوز أن يعزل عن تأثير المفاهيم الإسلامية المختلفة
    خلال التطبيق.
    3_ ارتباط الاقتصاد الإسلامي بما يبثه الإسلام في البيئة الإسلامية من
    عواطف وأحاسيس، قائمة على أساس مفاهيمه الخاصة، كعاطفة الأخوة
    العامة، التي تفجر في قلب كل مسلم ينبوعاً من الحب للآخرين، والمشاركة
    لهم في آلامهم وأفراحهم. ويثرى هذا الينبوع ويتدفق، تبعاً لدرجة الشعور
    العاطفي بالأخوة، وانصهار الكيان الروحي للإنسان بالعواطف الإسلامية،
    والتربية المفروضة في المجتمع الإسلامي. وهذه العواطف والمشاعر تلعب
    دوراً خطيراً في تكييف الحياة الاقتصادية، وتساند المذهب فيما يستهدفه
    من غايات.
    4_ الارتباط بين المذهب الاقتصادي والسياسة المالية للدولة، إلى درجة


    تسمح باعتبار السياسة المالية جزءاً من برنامج المذهب الاقتصادي للإسلام.
    لأنها وضعت بصورة تلتقي مع السياسة الاقتصادية العامة، وتعمل لتحقيق
    أهداف الاقتصاد الإسلامي. فالسياسة المالية في الإسلام لا تكتفي بتموين
    الدولة بنفقاتها اللازمة، وإنما تستهدف المساهمة في إقرار التوازن الاجتماعي
    والتكافل العام. ولهذا كان من الضروري اعتبار السياسة المالية جزءاً من
    السياسة الاقتصادية العامة، وإدراج الأحكام المتعلقة بالتنظيم المالي للدولة
    ضمن هيكل التشريع العام للحياة الاقتصادية، كما سنرى في البحوث الآتية.
    5_ الارتباط بين الاقتصاد الإسلامي والنظام السياسي في الإسلام،
    لما تؤدي عملية الفصل بينهما في البحث إلى خطأ في الدراسة. فللسلطة
    الحاكمة صلاحيات اقتصادية واسعة، وملكيات كبيرة تتصرف فيها طبقاً
    لاجتهادها. وهذه الصلاحيات والملكيات يجب أن تقرن في الدرس دائماً،
    بواقع السلطة في الإسلام، والضمانات التي وضعها الإسلام لنزاهة ولي
    الأمر واستقامته: من العصمة أو الشورى والعدالة، على اختلاف المذاهب
    الإسلامية. ففي ضوء هذه الضمانات نستطيع أن ندرس مكانة الدولة في
    المذهب الاقتصادي، ونؤمن بصحة إعطائها الصلاحيات والحقوق المفروضة
    لها في الإسلام.
    6_ الارتباط بين إلغاء رأس المال الربوي، وأحكام الإسلام الأخرى
    في المضاربة والتكافل العام والتوازن الاجتماعي. فإنه إذا درس تحريم الربا
    بصورة منفردة، كان مثاراً لمشاكل خطيرة في الحياة الاقتصادية. وأما إذا
    أخذناه بوصفه جزءاً من عملية واحدة مترابطة، فسوف نجد أن الإسلام
    وضع لتلك المشاكل حلولها الوضاحة، التي تنسجم مع طبيعة التشريع
    الإسلامي وأهدافه وغاياته، وذلك خلال أحكام المضاربة والتوازن والتكافل
    والنقد، كما سنرى في موضع قادم.
    7_ الارتباط بين بعض أحكام الملكية الخاصة في الاقتصاد الإسلامي،

    وأحكام الجهاد التي تنظم علاقات المسلمين بغيرهم في حالات الحرب.
    فقد سمح الإسلام لولي الأمر باسترقاق الأسرى بوصفهم جزءاً من الغنيمة،
    وتوزيعهم على المجاهدين كما توزع سائر عناصر الغنيمة. وقد اعتاد أعداء
    الإسلام الصليبيون أن يعرضوا هذا الحكم من الشريعة الإسلامية منفصلاً
    عن شروطه وملابساته، ليبرهنوا على أن الإسلام شريعة من شرائع الرق
    والاستعباد، التي مني بها الإنسان منذ ظلمات التاريخ، ولم ينقذه منها
    سوى الحضارات الأوروبية الحديثة، التي حررت الإنسانية لأول مرة،
    ومسحت عنها الوحل والهوان.
    ولكننا في دراسة مخلصة للإسلام وحكمه في الغنيمة، يجب أن نعرف
    _قبل كل شيء_ متى يعتبر الشيء غنيمة في نظر الإسلام؟. ونعرف
    بعد ذلك كيف وفي أي حدود سمح الإسلام لولي الأمر باسترقاق الأسير
    بوصفه غنيمة؟ ومن هو هذا الحاكم الذي أبيح له استرقاق الأسير بهذا
    الوصف؟ فإذا استوعبنا هذه النواحي كلها، استطعنا أن ننظر إلى حكم
    الإسلام في الغنيمة نظرة صحيحة.
    فالشرط الأساسي لمفهوم الغنيمة في نظر الإسلام، الحصول عليها
    في حرب جهادية مشروعة، ومعركة عقائدية. فما لم تكتسب الحرب طابع
    الجهاد لا يكون المال غنيمة. وهذا الطابع يتوقف على أمرين:
    أحدهما: أن تكون الحرب بإذن من ولي الأمر في سبيل حمل الدعوة
    الإسلامية. فليس من الجهاد بشيء حروب السلب والنهب كالمعارك
    الجاهلية، أو القتال في سبيل الظفر بثروات البلاد وأسواقها كالحروب
    الرأسمالية.
    والأمر الآخر: أن يبدأ الدعاة الإسلاميون قبل كل شيء بالاعلان
    عن رسالتهم الإسلامية، وإيضاح معالمها الرئيسية معززة بالحجج والبراهين،
    حتى إذا تمت للإسلام حجته. ولم يبق للآخرين مجال للنقاش المنطقي السليم،

    وظلوا بالرغم من ذلك مصرين على رفض النور.. عند ذاك لا يوجد أمام
    الدعوة الإسلامية_ بصفتها دعوة فكرية عالمية تتبنّى المصالح الحقيقة
    للإنسانية_ إلا أن تشق طريقها بالقوى المادية، بالجهاد المسلح. وفي هذا
    الظرف فقط تعتبر مكاسب الحرب غنيمة في نظر الإسلام.
    وأما حكم الأسير في الغنيمة، فهو تطبيق أحد أمور ثلاثة عليه. فإما
    أن يعفى عنه، وإما أن يطلق بفدية، وإما أن يسترق. فالاسترقاق هو أحد
    الأمور الثلاثة التي يجب على ولي الأمر معاملة الأسير على أساسها.
    وإذا عرفنا بهذا الصدد أن ولي الأمر مسؤول عن تطبيق أصلح الحالات
    الثلاث على الأسير، وأوفقها بالمصلحة العامة، كما صرح بذلك الفاضل
    والشهيد الثاني وغيرهما من فقهاء الإسلام. وأضفنا إلى ذلك حقيقة إسلامية
    أخرى، وهي: أن الحرب في سبيل حمل الدعوة إلى بلاد الكفر لم يسمح
    بها الإسلام سماحاً عاماً، وإنما سمح بها في ظرف وجود قائد معصوم،
    يتولى قيادة الغزو وتوجيه الزحف الإسلامي في معاركه الجهادية، إذا
    جمعنا بين هاتين الحقيقتين، نتج عنها أن الإسلام لم يأذن باسترقاق الأسير
    إلا حين يكون أصلح من العفو والفداء معاً، ولم يسمح بذلك إلا لولي الأمر
    المعصوم الذي لا يخطيء في معرفة الأصلح وتمييزه عن غيره.
    وليس في هذا الحكم شيء يؤاخذ الإسلام عليه، بل هو حكم
    لا تختلف فيه المذاهب الاجتماعية مهما كانت مفاهيمها فإن الاسترقاق
    قد يكون أحياناً أصلح من العفو والفداء معاً، وذلك فيما إذا كان العدو
    يتبع مع أسراه طريقة الاسترقاق، ففي مثل هذه الحالة يصبح من الضروري
    أن يعامل العدو بالمثل، وتتبع معه نفس الطريقة. فإذا كانت توجد حالات
    يصبح فيها الاسترقاق أصلح من العفو والفداء، فلماذا لا يسمح به الإسلام
    حين يكون أصلح الحالات الثلاث؟ صحيح أن الإسلام لم يبين تلك الحالات
    التي يكون الاسترقاق فيها أصلح من غيره، ولكنه استغنى عن ذلك بإيكال

    الأمر إلى الحاكم المعصوم من الخطأ والهوى، الذي يقود معركة الجهاد
    سياسياً، فهو المسؤول عن تمييز تلك الحالات والعمل وفقاً لرأيه.
    ونحن إذا لاحظنا حكم الإسلام بشأن الأسير، خلال التطبيق في الحياة
    السياسية للدولة الإسلامية، وجدنا أن الاسترقاق لم يحدث إلا في
    تلك الحالات، التي كان الاسترقاق فيها أصلح الحالات الثلاث، لأن
    العدو الذي اشتبكت معه الدولة الإسلامية في معاركها كان يتبع نفس
    الطريقة مع أسراه.
    فلا موضع لنقد أو اعتراض. لا موضع للنقد أو الاعتراض على الحكم
    العام بجواز الاسترقاق، لأن الإسلام سمح باسترقاق الأسير حين يكون
    ذلك أوفق بالمصلحة العامة في رأي الحاكم المعصوم. ولا موضع للنقد أو
    الاعتراض على تطبيقه، لأن تطبيقه كان دائماً في تلك الحدود التي يكون
    الاسترقاق فيها أصلح الاجراءات الثلاثة.
    8_ الارتباط بين الاقتصاد والتشريع الجنائي في الإسلام. فالتكافل
    العام والضمان الاجتماعي في الإقتصاد الإسلامي، يلقيان ضوءاً على طبيعة
    العقوبة التي فرضت في بعض الجنايات. فقد تكون عقوبة السارق بقطع
    يده قاسية إلى حد ما في بيئة رأسمالية، تركت فيها الكثرة الهائلة من أفراد
    المجتمع لرحمة القدر وزحمة الصراع، وأما حيث تكون البيئة إسلامية،
    وتوجد التربة الصالحة للاقتصاد الإسلامي، ويعيش المجتمع في كنف
    الإسلام، فليس من القسوة في شيء أن يعامل السارق بصرامة، بعد أن
    وفر له الاقتصاد الإسلامي أسباب الحياة الحرة الكريمة، ومحا من حياته
    كل الدوافع التي تضطره إلى السرقة.








    الإطار العام للاقتصاد الإسلامي
    يمتاز المذهب الاقتصادي في الإسلام عن بقية المذاهب الاقتصادية التي
    درسناها، بإطاره الدين العام. فإن الدين هو الإطار الشامل لكل أنظمة
    الحياة في الإسلام. فكل شعبة من شعب الحياة حين يعالجها الإسلام يمزج
    بينها وبين الدين، ويصوغها في إطار من الصلة الدينية للإنسان بخالقه وآخرته.
    وهذا الإطار هو الذي يجعل النظام الإسلامي قادراً على النجاح،
    وضمان تحقيق المصالح الاجتماعية العامة للإنسان، لأن هذه المصالح
    الاجتماعية لا يمكن أن يضمن تحقيقها إلا عن طريق الدين.
    ولكي يتضح ذلك يجب أن ندرس مصالح الإنسان في حياته المعيشية،
    ومدى إمكان توفيرها وضمان تحقيقها. لننتهي من ذلك إلى الحقيقة الآنفة
    الذكر، وهي: أن المصالح الاجتماعية للإنسان لا يمكن أن توفر ويضمن
    تحقيقها إلا عن طريق نظام يتمتع بإطار ديني صحيح.
    وحين ندرس مصالح الإنسان في حياته المعيشية، يمكننا تقسيمها إلى
    فئتين:
    إحداهما: مصالح الإنسان التي تقدمها الطبيعة له بوصفه كائناً خاصاً





    كالعقاقير الطبية مثلاً فإن مصلحة الإنسان الظفر بها من الطبيعة، وليست
    لهذه المصلحة صلة بعلاقاته الاجتماعية مع الآخرين، بل الإنسان بوصفه
    كائناً معرضاً للجراثيم الضارة، بجاجة إلى تلك العقاقير، سواء كان يعيش
    منفرداً أم ضمن مجتمع مترابط.
    والفئة الأخرى: مصالح الإنسان التي يكفلها له النظام الاجتماعي،
    بوصفه كائناً اجتماعياً يرتبط بعلاقات مع الآخرين، كالمصلحة التي يجنيها
    الإنسان من النظام الاجتماعي حين يسمح له بمبادلة منتوجاته بمنتوجات
    الآخرين، أو حين يوفر له ضمان معيشته في حالات العجز والتعطل عن العمل.
    وسوف نطلق على الفئة الأولى اسم: المصالح الطبيعية، وعلى الفئة
    الثانية اسم المصالح الاجتماعية.
    ولكي يتمكن الإنسان من توفير مصالحه الطبيعية والاجتماعية، يجب
    أن يجهّز بالقدرة على معرفة تلك المصالح وأساليب إيجادها، وبالدافع الذي
    يدفعه إلى السعي في سبيلها. فالعقاقير التي تستحضر للعلاج من السل مثلاً،
    توجد لدى الإنسان حين يعرف أن للسل دواءاً، ويكتشف كيفية استحضاره،
    ويملك الدافع الذي يحفزه على الانتفاع باكتشافه واستحضار تلك العقاقير.
    كما أن ضمان المعيشة في حالات العجز_ بوصفه مصلحة اجتماعية_ يتوقف
    على معرفة الإنسان بفائدة هذا الضمان، وكيفية تشريعه، وعلى الدافع الذي
    يدفع إلى وضع هذا التشريع وتنفيذه.
    فهناك إذن شرطان أساسيان، لا يمكن بدونهما للنوع الإنساني أن يظفر
    بحياة كاملة تتوفر فيها مصالحه الطبيعية والاجتماعية: أحدهما: أن يعرف
    تلك المصالح، وكيف تحقق، والآخر: أن يملك دافعاً يدفعه بعد معرفتها
    إلى تحقيقها.
    * * *


    ونحن إذا لاحظنا المصالح الطبيعية للإنسان_ كاستحضار عقاقير للعلاج
    من السل_ وجدنا أن الإنسانية قد زودت بامكانات الحصول على تلك
    المصالح، فهي تملك قدرة فكرية تستطيع أن تدرك بها ظواهر الطبيعة،
    والمصالح التي تكمن فيها. وهذه القدرة وإن كانت تنمو على مر الزمن
    نمواً بطيئاً، ولكنها تسير على أي حال في خط متكامل على ضوء الخبرة
    والتجارب المستجدة، وكلما نمت هذه القدرة كان الإنسان أقدر على
    إدراك مصالحه، ومعرفة المنافع التي يمكن أن يجنيها من الطبيعة.
    وإلى جانب هذه القدرة الفكرية تملك الإنسانية دافعاً ذاتياً، يضمن
    اندفاعها في سبيل مصالحها الطبيعية، فإن المصالح الطبيعية للإنسان تلتقي
    بالدافع الذاتي لكل فرد. فليس الحصول على العقاقير الطبية مثلاً مصلحة
    لفرد دون فرد. أو منفعة لجماعة دون آخرين. فالمجتمع الإنساني دائماً
    يندفع في سبيل توفير المصالح الطبيعية بقوة من الدوافع الذاتية للأفراد،
    التي تتفق كلها على الاهتمام بتلك المصالح وضرورتها، بوصفها ذات نفع
    شخصي للأفراد جميعاً.
    وهكذا نعرف أن الإنسان ركب تركيباً نفسياً وفكرياً خاصاً، يجعله
    قادراً على توفير المصالح الطبيعية، وتكميل هذه الناحية من حياته عبر
    تجربته للحياة والطبيعة..
    * * *
    وأما المصالح الاجتماعية فهي بدورها تتوقف أيضاً_ كما عرفنا_
    على إدراك الإنسان للتنظيم الاجتماعي الذي يصلحه، وعلى الدافع النفسي
    نحو إيجاد ذلك التنظيم وتنفيذه. فما هو نصيب الإنسان من هذين الشرطين
    بالنسبة إلى المصالح الاجتماعية؟ وهل جهز الإنسان بالقدرة الفكرية على
    إدراك مصالحه الاجتماعية، وبالدافع الذي يدفعه إلى تحقيقها، كما جهز
    بذلك بالنسبة إلى مصالحه الطبيعية؟؟

    ولنأخذ الآن الشرط الأول، فمن القول الشائع: أن الإنسان لا يستطيع
    أن يدرك التنظيم الاجتماعي الذي يكفل له كل مصالحه الاجتماعية، وينسجم
    مع طبيعته وتركيبه العام، لأنه أعجز ما يكون عن استيعاب الموقف
    الاجتماعي بكل خصائصه، والطبيعة الإنسانية بكل محتواها ويخلص
    أصحاب هذا القول إلى نتيجة هي: أن النظام الاجتماعي يجب أن يوضع
    للإنسانية، ولا يمكن أن تترك الإنسانية لتضع بنفسها النظام، ما دامت
    معرفتها محدودة، وشروطها الفكرية عاجزة عن استكناه أسرار المسألة
    الاجتماعية كلها.
    وعلى هذا الأساس يقدمون الدليل على ضرورة الدين في حياة الإنسان،
    وحاجة الإنسانية إلى الرسل والأنبياء، بوصفهم قادرين عن طريق الوحي
    على تحديد المصالح الحقيقية للإنسان في حياته الاجتماعية وكشفها للناس.
    غير أن المشكلة في رأينا تبدو بصورة أكثر وضوحاً حين ندرس الشرط
    الثاني.
    فإن النقطة الأساسية في المشكلة ليست هي: كيف يدرك الإنسان
    المصالح الاجتماعية( ) ؟ بلى المشكلة الأساسية هي: كيف يندفع هذا
    الإنسان إلى تحقيقها وتنظيم المجتمع بالشكل الذي يضمنها؟ ومثار المشكلة
    هو أن المصلحة الاجتماعية لا تتفق في أكثر الأحايين مع الدافع الذاتي،
    لتناقضها مع المصالح الخاصة للأفراد. فإن الدافع الذاتي الذي كان يضمن
    اندفاع الإنسان نحو المصالح الطبيعية للإنسانية، لا يقف الموقف نفسه من


    مصالحها الاجتماعية، فبينما كان الدافع الذاتي يجعل الإنسان يحاول إيجاد
    دواء للسل، لأن إيجاد هذا الدواء من مصلحة الأفراد جميعاً.. نجد أن
    هذا الدافع الذاتي نفسه يحول دون تحقيق كثير من المصالح الاجتماعية، ويمنع
    عن إيجاد التنظيم الذي يكفل تلك المصالح أو عن تنفيذه. فضمان معيشة
    العامل حال التعطل يتعارض مع مصلحة الأغنياء، الذين سيكلفون بتسديد
    نفقات هذا الضمان. وتأميم الأرض يتناقض مع مصلحة أولئك الذين
    يمكنهم احتكار الأرض لأنفسهم. وهكذا كل مصلحة اجتماعية، فإنها
    تمنى بمعارضة الدوافع الذاتية من الأفراد، الذين تختلف مصلحتهم عن
    تلك المصلحة الاجتماعية العامة.
    وفي هذا الضوء نعرف الفارق الأساسي بين المصالح الطبيعية والمصالح
    الاجتماعية. فإن الدوافع الذاتية للأفراد لا تصطدم بالمصالح الطبيعية
    للإنسانية، بل تدفع الأفراد إلى إيجادها واستثمار الوعي التأملي في هذا
    السبيل، ولذلك كان النوع الإنساني يملك الإمكانات التي تكفل له مصالحه
    الطبيعية، بصورة تدريجية وفقاً لدرجة تلك الإمكانات التي تنمو عبر
    التجربة. وعلى العكس من ذلك المصالح الاجتماعية، فإن الدوافع الذاتية
    التي تنبع من حب الإنسان لنفسه، وتدفعه إلى تقديم صالحه على صالح
    الآخرين، إن تلك الدوافع تحول دون استثمار الوعي العملي عند الإنسان
    استثماراً مخلصاً، في سبيل توفير المصالح الاجتماعية، وإيجاد التنظيم
    الاجتماعي الذي يكفل تلك المصالح وتنفيذ هذا التنظيم.
    وهكذا يتضح أن المشكلة الاجتماعية التي تحول بين الإنسانية وتكاملها
    الاجتماعي، هي التناقض القائم بين المصالح الاجتماعية والدوافع الذاتية
    وما لم تكن الإنسانية مجهزة بإمكانات للتوفيق بين المصالح الاجتماعية
    والدوافع الأساسية التي تتحكم في الأفراد، لا يمكن للمجتمع الإنساني
    أن يظفر بكماله الاجتماعي. فما هي تلك الإمكانات؟؟

    إن الإنسانية بحاجة إلى دافع يتفق مع المصالح الاجتماعية العامة، كما
    وجدت المصالح الطبيعية الدافع الذاتي حليفاً لها.
    [/align]
    يا محوّل الحول والاحوال ، حوّل حالنا إلى أحسن الحال......








  8. #23
    تاريخ التسجيل
    Jul 2004
    الدولة
    هناك
    المشاركات
    28,205

    افتراضي

    [align=center]هل يمكن للعلم أن يحل المشكلة
    ويتردد على بعض الشفاه أن العلم الذي تطور بشكل هائل، كفيل
    بحل المشكلة الاجتماعية، لأن الإنسان هذا المارد الجبار الذي استطاع أن
    يخطو خطوات العمالقة، في ميادين الفكر والحياة والطبيعة، وينفذ إلى
    أعمق أسرارها، ويحل أروع ألغازها، حتى أتيح له أن يفجّر الذرة ويطلق
    طاقتها الهائلة، وأن يكشف الأفلاك ويرسل إليها قذائفه، ويركب الطائرة
    الصاروخية، ويسخر قوى الطبيعة لنقل ما يحدث على بعد مئات الألوف
    من الأميال على شكل أصوات تسمع وصور ترى.. إن هذا الإنسان الذي
    سجل في تاريخ قصير كل هذه الفتوحات العلمية، وانتصر في جميع
    معاركه مع الطبيعة، لقادر بما أوتي من علم وبصيرة أن يبني المجتمع
    المتماسك السعيد، ويضع التنظيم الاجتماعي الذي يكفل المصالح الاجتماعية
    للإنسانية، فلم يعد الإنسان بحاجة إلى مصدر يستوحي منه موقفه الاجتماعي
    سوى العلم الذي قاده من نصر إلى نصر في كل الميادين.
    وهذا الزعم في الواقع لا يعني إلا الجهل بوظيفة العلم في الحياة الإنسانية،
    فإن العلم مهما نما وتطور ليس إلا أداة لكشف الحقائق الموضوعية في
    مختلف الحقول، وتفسير الواقع تفسيراً محايداً يعكسه بأعلى درجة ممكنة
    من الدقة والعمق. فهو يعلمنا مثلاً في المجال الاجتماعي: أن الرأسمالية
    تؤدي إلي تحكم القانون الحديدي بالأجور، وخفضها إلى المستوى الضروري
    للمعيشة، كما يعلمنا في المجال الطبيعي أن استعمال مادة كيمياوية معينة
    يؤدي إلى تحكم مرض خطير بحياة الشخص. والعلم حين يبرز لنا هذه



    الحقيقة أو تلك، يكون قد قام بوظيفته وأتحف الإنسانية بمعرفة جديدة،
    ولكن شبح هذا المرض الخطير أو ذلك القانون الرهيب(قانون الأجور
    الحديدي)، لا يتلاشى لمجرد أن العلم اكتشف العلاقة بين تلك المادة المعينة
    والمرض، أو بين الرأسمالية والقانون الحديدي، بل إن الإنسان يتخلص
    من المرض بالتجنب عما يؤدي إليه، ويتخلص من القانون الحديدي للأجور
    بمحو الإطار الرأسمالي للمجتمع. وهنا نتساءل ما الذي يضمن أن يتخلص
    الإنسان من ذلك المرض؟ ومن هذا الإطار؟ والجواب فيما يتصل بالمرض
    واضح كل الوضوح، فإن الدافع الذاتي عند الإنسان يكفي وحده لإبعاده
    عن تلك المادة الخاصة التي كشف العلم عن نتائجها الخطيرة لأنه يناقض
    المصلحة الخاصة للفرد. وأما فيما يتصل بالقانون الحديدي للأجور وإزالة
    الإطار الرأسمالي، فإن الحقيقة العلمية التي كشفت عن الصلة بين هذا الإطار
    وذلك القانون مثلاً، ليست قوة دافعة إلى العمل وتغيير الإطار، وإنما
    يحتاج العمل إلى دافع، والدوافع الذاتية للأفراد لا تلتقي دائماً، بل
    تختلف تبعاً لاختلاف المصالح الخاصة.
    وهكذا يجب أن نفرق بين اكتشاف الحقيقة العلمية، والعمل في
    ضوئها على إسعاد المجتمع. فالعلم إنما يكشف الحقيقة بدرجة ما، وليس
    هو الذي يطورها.
    المادية التاريخية والمشكلة
    وتقول الماركسية بهذا الصدد_ على أساس المادية التاريخية_ دعوا
    المشكلة نفسها، فإن قوانين التاريخ كفيلة بحلها في يوم من الأيام، أفليست
    المشكلة هي أن الدوافع الذاتية لا تستطيع أن تضمن مصالح المجتمع وسعادته،
    لأنها تنبع من المصالح الخاصة التي تختلف في أكثر الأحايين مع المصالح
    الاجتماعية العامة؟ إن هذه ليست مشكلة وإنما هي حقيقة المجتمعات


    البشرية منذ فجر التاريخ، فقد كان كل شيء يسير طبقاً للدافع الذاتي الذي
    ينعكس في المجتمع بشكل طبقي، فيثور الصراع بين الدوافع الذاتية
    للطبقات المختلفة، والغلبة دائماً تكون من حظ الدافع الذاتي للطبقة التي
    تسيطر على وسائل الإنتاج، وهكذا يتحكم الدافع الذاتي بشكل محتوم،
    حتى تضع قوانين التاريخ حلها الجذري للمشكلة بإنشاء المجتمع اللاطبقي،
    تزول فيه الدوافع الذاتية، وتنشأ بدلاً عنها الدوافع الجماعية، وفقاً للملكية
    الجماعية.
    وقد عرفنا في دراستنا للمادية التاريخية، أن أمثال هذه النبوءات التي
    تتنبأ بها المادية التاريخية لا تقوم على أساس علمي، ولا يمكن انتظار حل
    حاسم للمشكلة من ورائها.
    * * *
    وهكذا تبقى المشكلة كما هي مشكلة مجتمع يتحكم فيه الدافع الذاتي،
    وما دامت الكلمة العليا للدافع الذاتي الذي تمليه على كل فرد مصلحته الخاصة،
    فسوف تكون السيطرة للمصلحة التي تملك قوة التنفيذ فمن يكفل لمصلحة
    المجتمع في زحمة الانانيات المتناقضة أن يصاغ قانونه وفقاً للمصالح
    الاجتماعية للإنسانية. مادام هذا القانون تعبيراً عن القوة السائدة في المجتمع؟!
    ولا يمكننا أن ننتظر من جهاز اجتماعي كالجهاز الحكومي أن يحل
    المشكلة بالقوة ويوقف الدوافع الذاتية عند حدها، لأن هذا الجهاز منبثق
    عن المجتمع نفسه، فالمشكلة فيه هي المشكلة في المجتمع بأسره، لأن الدافع
    الذاتي هو الذي يتحكم فيه.
    ونخلص من ذلك كله إلى أن الدافع الذاتي هو مثار المشكلة الاجتماعية،
    وأن هذا الدافع أصيل في الإنسان لأنه ينبع من حبه لذاته.
    فهل كتب على الإنسانية أن تعيش دائماً في هذه المشكلة الاجتماعية


    النابعة من دوافعها الذاتية، وفطرتها وأن تشقى بهذه الفطرة؟!
    وهل استثنيت الإنسانية من نظام الكون الذي رود كل كائن فيه
    بإمكانات التكامل، وأودعت فيه الفطرة التي تسوقه إلى كماله الخاص،
    كما دلت على ذلك التجارب العلمية إلى جانب البرهان الفلسفي؟!.
    وهنا يجيء دور الدين بوصفه الحل الوحيد للمشكلة، فإن الدين هو
    الإطار الوحيد الذي يمكن للمسألة الاجتماعية أن تجد ضمنه حلها الصحيح.
    ذلك أن الحل يتوقف على التوفيق بين الدوافع الذاتية والمصالح الاجتماعية
    العامة، وهذا التوفيق هو الذي يستطيع أن يقدمه الدين للإنسانية، لأن
    الدين هو الطاقة الروحية التي تستطيع أن تعوض الإنسان عن لذائذه الموقوتة
    التي يتركها في حياته الأرضية أملاً في النعيم الدائم، وتستطيع أن تدفعه إلى
    التضحية بوجوده عن إيمان بأن هذا الوجود المحدود الذي يضحي به ليس
    إلا تمهيداً لوجود خالد وحياة دائمة، وتستطيع أن تخلق في تفكيره نظرة
    جديدة تجاه مصالحه، ومفهوماً عن الربح والخسارة أرفع من مفاهيمهما
    التجارية المادية. فالعناء طريق اللذة، والخسارة لحساب المجتمع سبيل
    الربح وحماية مصالح الآخرين تعني ضمناً حماية مصالح الفرد في حياة
    أسمى وأرفع... وهكذا ترتبط المصالح الاجتماعية العامة بالدوافع الذاتية،
    بوصفها مصالح للفرد في حسابه الديني.
    وفي القرآن الكريم نجد التأكيدات الرائعة على هذا المعنى منتشرة في
    كل مكان، وهي تستهدف جميعاً تكوين تلك النظرة الجديدة عند الفرد
    عن مصالحه و أرباحه فالقرآن يقول:
    ((ومن عمل صالحاً من ذكر أو أنثى وهو مؤمن
    فأولئك يدخلون الجنة يرزقون فيها بغير حساب )).
    (من عمل صالحاً فلنفسه ومن أساء فعليها).


    (يومئذ يصدر الناس أشتاتاً ليروا أعمالهم. فمن يعمل
    مثقال ذرة خيراً يره. ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره)
    (ولا تحسين الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً بل أحياء
    عند ربهم يرزقون)(ما كان لأهل المدينة ومن حولهم
    من الاعراب أن يتخلفوا عن رسول الله ولا يرغبوا
    بأنفسهم عن نفسه ذلك بأنهم لا يصيبهم ظمأ ولا نصب
    ولا مخمصة في سبيل الله ولا يطئون موطئاً يغيظ الكفار
    ولا ينالون من عدو نيلاً إلا كتب لهم به عمل صالح
    إن الله لا يضيع أجر المحسنين ولا ينفقون نفقة صغيرة
    ولا كبيرة ولا يقطعون وادياً إلا كتب لهم ليجزيهم
    الله أحسن ما كان يعملون)).
    هذه صور رائعة يقدمها الدين في نصوص القرآن ليربط بين الدوافع
    الذاتية وسبل الخير في الحياة ويطور من مصلحة الفرد تطويراً يجعله يؤمن
    بأن مصالحه الخاصة والمصالح الحقيقية العامة للإنسانية التي يحددها الإسلام
    مترابطتان.
    فالدين إذن هو صاحب الدور الأساسي في حل المشكلة الاجتماعية،
    عن طريق تجنيد الدافع الذاتي لحساب المصلحة العامة.
    وبهذا نعرف أن الدين حاجة فطرية للإنسانية، لأن الفطرة ما دامت
    هي أساس الدوافع الذاتية التي نبعت منها المشكلة فلا بد أن تكون قد جهزت
    بإمكانات لحل المشكلة أيضاً، لئلا يشذ الإنسان عن سائر الكائنات التي
    زودت فطرتها جميعاً بالامكانات التي تسوق كل كائن إلى كماله الخاص.
    وليست تلك الامكانات التي تملكها الفطرة الإنسانية لحل مشكلة إلا غريزة
    التدين والاستعداد الطبيعي لربط الحياة بالدين وصوغها في إطاره العام.
    فللفطرة الإنسانية إذن جانبان: فهي من ناحية تملي على الإنسان دوافعه

    الذاتية. التي تنبع منها المشكلة الاجتماعية الكبرى في حياة الإنسان( مشكلة
    التناقض بين تلك الدوافع والمصالح الحقيقية العامة للمجتمع الإنساني).
    وهي من ناحية أخرى تزود الإنسان بإمكانية حل المشكلة عن طريق الميل
    الطبيعي إلى التدين، وتحكيم الدين في الحياة بالشكل الذي يوفق بين المصالح
    العامة والدوافع الذاتية. وبهذا أتمت الفطرة وظيفتها في هداية الإنسان إلى
    كماله. فلو بقيت تثير المشكلة ولا تمون الطبيعة الإنسانية بحلها، لكان معنى
    هذا أن الكائن الإنساني يبقى قيد المشكلة، عاجزاً عن حلها، مسوقاً بحكم
    فطرته إلى شرورها ومضاعفاتها وهذا ما قرره الإسلام بكل وضوح في
    قوله تعالى:
    ((فإقم وجهك للدين حنيفاً فطرة الله التي فطر الناس
    عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن أكثر
    الناس لا يعلمون)) ( ).
    فإن هذه الآية الكريمة تقرر:
    أولاً: إن الدين من شؤون الفطرة الإنسانية التي فطر الناس عليها
    جميعاً، ولا تبديل لخلق الله.
    وثانياً: إن هذا الدين الذي فطرت الإنسانية عليه ليس هو إلا الدين
    الحنيف، أي دين التوحيد الخاص، لأن دين التوحيد هو وحده الذي
    يمكن أن يؤدي وظيفة الدين الكبرى، ويوجه البشرية على مقياس عملي
    وتنظيم اجتماعي، تحفظ فيه المصالح الاجتماعية. وأما أديان الشرك أو
    الأرباب المتفرقة على حد تعبير القرآن، فهي في الحقيقة نتيجة للمشكلة فلا
    يمكن أن تكون علاجاً لها، لأنها كما قال يوسف لصاحبي السجن ((ما تعبدون
    من دونه إلا أسماءً سميتموها أنتم وآباؤكم، ما أنزل الله بها من سلطان))


    يعني بذلك أنها وليدة الدوافع الذاتية، التي أملت على الناس أديان الشرك
    طبقاً لمصالحهم الشخصية المختلفة، لتصرّف بذلك ميلهم الطبيعي إلى الدين
    الحنيف تصريفاً غير طبيعي، وتحول بينهم وبين الاستجابة الصحيحة لميلهم
    الديني الأصيل.
    وثالثاً: إن الدين الحنيف الذي فطرت الإنسانية عليه يتميز بكونه ديناً
    قيماً على الحياة(ذلك الدين القيم)، قادراً على التحكم فيها وصياغتها في
    إطاره العام. وأما الدين الذي لا يتولى إمامة الحياة وتوجيهها، فهو لا يستطيع
    أن يستجيب استجابة كاملة للحاجة الفطرية في الإنسان، إلى الدين، ولا
    يمكنه أن يعالج المشكلة الأساسية في حياة الإنسان.
    * * *
    ونخلص من ذلك إلى عدة مفاهيم للإسلام عن الدين والحياة.
    فالمشكلة الأساسية في حياة الإنسان نابعة من الفطرة.
    لأنها مشكلة الدوافع الذاتية في اختلافاتها وتناقضاتها مع المصالح العامة.
    والفطرة في نفس الوقت تمون الإنسانية بالعلاج.
    وليس هذا العلاج إلا الدين الحنيف القيّم، لأنه وحده القادر على
    التوفيق بين الدوافع الذاتية، وتوحيد مصالحها ومقاييسها العملية.
    فلا بد للحياة الاجتماعية إذن من دين حنيف قيم.
    ولا بد للتنظيم الاجتماعي في مختلف شعب الحياة أن يوضع في إطار
    ذلك الدين، القادر على التجاوب مع الفطرة ومعالجة المشكلة الأساسية في
    حياة الإنسان.
    * * *
    وفي هذا الضوء نعرف أن الاقتصاد الإسلامي بوصفه جزءاً من تنظيم



    اجتماعي شامل للحياة، يجب أن يندرج ضمن الإطار العام لذلك التنظيم،
    وهو الدين، فالدين هو الإطار العام لاقتصادنا المذهبي.
    ووظيفة الدين_ بوصفه إطاراً للتنظيم الاجتماعي والاقتصادي في
    الإسلام_ أن يوفق بين الدوافع الذاتية والمصالح الخاصة من ناحية،
    والمصالح الحقيقة العامة للمجتمع الإنساني_ من وجهة رأي الإسلام_
    من ناحية أخرى.







    الاقتصاد الإسلامي ليس علماً

    يشكل كل واحد من مذاهب الاقتصاد التي عرضناها جزءاً من مذهب
    كامل يتناول مختلف شعب الحياة ومناحيها. فالاقتصاد الإسلامي جزء من
    المذهب الإسلامي الشامل لشتى فروع الحياة، والاقتصاد الرأسمالي جزء
    من الديمقراطية الرأسمالية التي تستوعب بنظرتها التنظيمية المجتمع كله،
    كما أن الاقتصاد الماركسي جزء أيضاً من المذهب الماركسي الذي يبلور
    الحياة الاجتماعية كلها في إطاره الخاص.
    وتختلف هذه المذاهب في بذورها الفكرية الأساسية، وجذورها الرئيسية
    التي تستمد منها روحها وكيانها، وتبعاً لذلك تختلف في طابعها الخاص.
    فالاقتصاد الماركسي يحمل في رأي الماركسية طابعاً علمياً، لأنه يعتبر
    في عقيدة أنصاره نتيجة محتومة للقوانين الطبيعة التي تهيمن على التاريخ
    وتتصرف فيه، وعلى العكس من ذلك المذهب الرأسمالي، فإنه لم يضعه
    أصحابه_ كما مر معنا في بحث سابق_ كنتيجة ضرورية لطبيعة التاريخ
    وقوانينه، وإنما عبروا به عن الصورة الاجتماعية. التي تتفق مع القيم
    العلمية والمثل التي يعتنقونها.




    وأما المذهب الإسلامي فهو لا يزعم لنفسه الطابع العلمي، كالمذهب
    الماركسي، كما أنه ليس مجرداً عن أساس عقائدي معين ونظرة رئيسية إلى
    الحياة والكون، كالرأسمالية( ).
    ونحن حين نقول عن الاقتصاد الإسلامي أنه ليس علماً نعني أن الإسلام
    دين يتكفل الدعوة إلى تنظيم الحياة الاقتصادية كما يعالج سائر نواحي الحياة
    وليس علماً اقتصادياً على طراز علم الاقتصاد السياسي، وبمعنى آخر:
    هو ثورة لقلب الواقع الفاسد وتحويله إلى واقع سليم، وليس تفسيراً موضوعياً
    للواقع. فهو حينما يضع مبدأ الملكية المزدوجة مثلاً، لا يزعم بذلك أنه
    يفسر الواقع التاريخي لمرحلة معينة من حياة الإنسانية، أو يعكس نتائج
    القوانين الطبيعية للتاريخ، كما تزعم الماركسية حين تبشر بمبدأ الملكية
    الاشتراكية، بوصفه الحالة الحتمية لمرحلة معينة من التاريخ والتفسير
    الوحيد لها.
    فالاقتصاد الإسلامي من هذه الناحية يشبه الاقتصاد الرأسمالي المذهبي،
    في كونه عملية تغيير الواقع لا عملية تفسير له. فالوظيفة المذهبية تجاه
    الاقتصاد الإسلامي هي: الكشف عن الصورة الكاملة للحياة الاقتصادية
    وفقاً للتشريع الإسلامي، ودرس الأفكار والمفاهيم العامة التي تشع من
    وراء تلك الصورة كفكرة انفصال شكل التوزيع عن نوعية الإنتاج،
    وما إليها من أفكار.
    وأما الوظيفة العلمية تجاه الاقتصاد الإسلامي فيأتي دورها بعد ذلك،
    لتكشف عن مجرى الحياة الواقعي وقوانينه، ضمن مجتمع إسلامي يطبق فيه
    مذهب الإسلام تطبيقاً كاملاً. فالباحث العلمي يأخذ الاقتصاد المذهبي


    في الإسلام قاعدة ثابتة للمجتمع، الذي يحاول تفسيره وربط الأحداث
    فيه بعضها ببعض. فهو في هذا نظير الاقتصاد السياسي لعلماء الاقتصاد
    الرأسماليين، الذين فرغوا من وضع خطوطهم المذهبية، ثم بدأوا يفسرون
    الواقع ضمن تلك الخطوط، ويدرسون طبيعة القوانين التي تتحكم في
    المجتمع الذي تطبق عليه، فنتج عن دراستهم هذه علم الاقتصاد السياسي.
    وهكذا يمكن أن يتكون للاقتصاد الإسلامي علم_ بعد أن يدرس
    دراسة مذهبية شاملة. من خلال دراسة الواقع في هذا الإطار_ والسؤال
    هو: متى وكيف يمكن وضع علم الاقتصاد الإسلامي، كما وضع
    الرأسماليون علم الاقتصاد السياسي، أو بتعبير آخر علم الاقتصاد الذي
    يفسر أحداث المجتمع الرأسمالي؟؟.
    والجواب على هذا السؤال: أن التفسير العلمي لأحداث الحياة
    الاقتصادية يرتكز على أحد أمرين:
    الأول: جمع الأحداث الاقتصادية من التجربة الواقعية للحياة،
    وتنظيمها تنظيماً عليماً يكشف عن القوانين التي تتحكم بها في مجال تلك
    الحياة، وشروطها الخاصة.
    الثاني: البدء في البحث العلمي من مسلّمات معينة تفترض افتراضاً،
    ويستنتج في ضوئها الاتجاه الاقتصادي ومجرى الأحداث.
    أما التفسير العلمي على الأساس الأول، فهو يتوقف على تجسيد المذهب
    في كيان واقعي قائم، ليتاح للباحث أن يسجل أحداث هذا الواقع،
    ويستخلص ظواهرها وقوانينها العامة. وهذا ما ظفر به الاقتصاديون
    الرأسماليون، حين عاشوا في مجتمع يؤمن بالرأسمالية ويطبقها، فأتيح
    لهم أن يضعوا نظرياتهم على أساس تجارب الواقع الاجتماعي التي عاشوها.
    ولكن شيئاً كهذا لا يتاح للاقتصاديين الإسلاميين، مادام الاقتصاد


    الإسلامي بعيداً عن مسرح الحياة، فهم لا يملكون من حياتهم اليوم
    تجارب عن الإقتصاد الإسلامي خلال التطبيق، ليدركوا في ضوئها طبيعة
    القوانين التي تتحكم في حياة تقوم على أساس الإسلام.
    وأما التفسير العلمي على أساس الثاني فمن الممكن استخدامه في سبيل
    توضيح بعض الحقائق التي تتميز بها الحياة الاقتصادية في المجتمع الإسلامي،
    بالانطلاق من نقاط مذهبية معينة، واستنتاج آثارها في مجال التطبيق المفترض،
    ووضع نظريات عامة عن الجانب الاقتصادي في المجتمع الإسلامي على
    ضوء تلك النقاط المذهبية.
    فمثلاً يمكن للباحث الإسلامي القول: بأن مصالح التجارة متفقة في
    المجتمع الإسلامي مع مصالح الماليين وأصحاب المصارف، لأن المصرف
    في المجتمع الإسلامي يقوم على أساس المضاربة لا على أساس الربا،
    فهو يتجر بأموال زبائنه ويوزع الأرباح بينه وبينهم بنسبة مئوية معينة من
    الربح، وفي النهاية يتوقف مصيره المالي على مدى الربح التجاري الذي
    يجنيه. لا على الفائدة التي يقتطعها من الديون. فهذه الظاهرة_ ظاهرة
    الإتفاق بين مصالح المصارف ومصالح التجارة_ هي بطبيعتها ظاهرة
    موضوعية، ينطلق الباحث إلى استنتاجها من نقطة هي: إلغاء النظام
    الربوي للمصارف في المجتمع الإسلامي.
    ويمكن للباحث أيضاً بالانطلاق من نقطة كهذه، أن يقرر ظاهرة
    موضوعية أخرى وهي: تجارة المجتمع الإسلامي من عامل رئيسي للأزمات
    التي تمنى بها الحياة الاقتصادية في المجتمع الرأسمالي، فإن دورات الإنتاج
    والاستهلاك في مجتمع قائم على أساس الربا، يعرقلها هذا الجزء الكبير من
    الثروة الأهلية الذي يدخر طمعاً بالفائدة الربوية، ويسحب بذلك من مجالات
    الإنتاج والاستهلاك، الأمر الذي يؤدي إلى كساد قسم كبير من الإنتاج


    الاجتماعي، للبضائع الرأسمالية والبضائع الاستهلاكية. فحين يقوم المجتمع
    على أساس الاقتصاد الإسلامي، ويحرم فيه الربا تحريماً تاماً، كما يمنع عن
    الاكتناز بالنهي عنه، أو يفرض ضريبة عليه، فسوف ينتج عن ذلك
    إقبال الناس جميعاً على إنفاق ثرواتهم.
    ففي هذه التفسيرات نفترض واقعاً اجتماعياً واقتصادياً قائماً على أسس
    معينة، ونأخذ بتفسير هذا الواقع المفترض واستكشاف خصائصه العامة،
    في ضوء تلك الأسس.
    ولكن هذه التفسيرات لا تكوّن لنا بدقة المفهوم العلمي الشامل،
    للحياة الاقتصادية في المجتمع الإسلامي، ما لم تجمع مواد الدراسة العلمية
    من تجارب الواقع المحسوس. فكثيراً ما تقع مفارقات بين الحياة الواقعية
    للنظام، وبين التفسيرات التي تقدم لهذه الحياة على أساس الافتراض، كما
    اتفق للاقتصاديين الرأسماليين الذين بنوا كثيراً من نظرياتهم التحليلية على
    أساس افتراضي، فانتهوا إلى نتائج تناقض الواقع الذي يعيشونه، لانكشاف
    عدة عوامل في الحقل الواقعي للحياة لم تؤخذ في مجال الافتراض.
    أضف إلى ذلك أن العنصر الروحي والفكري، أو بكلمة أخرى المزاج
    النفسي العام للمجتمع الإسلامي، ذو أثر كبير في مجرى الحياة الاقتصادية،
    وليس لهذا المزاج درجة محدودة أو صيغة معينة، يمكن أن تفترض مسبقاً
    وتقام على أساسها النظريات المختلفة.
    فعلم الاقتصاد الإسلامي لا يمكن أن يولد ولادة حقيقة، إلا إذا جسد
    هذا الاقتصاد في كيان المجتمع، بجذوره ومعالمه وتفاصيله، ودرست
    الأحداث والتجارب الاقتصادية التي يمر بها دراسة منظمة.
    [/align]
    يا محوّل الحول والاحوال ، حوّل حالنا إلى أحسن الحال......








  9. #24
    تاريخ التسجيل
    Jul 2004
    الدولة
    هناك
    المشاركات
    28,205

    افتراضي

    [align=center]
    علاقات التوزيع منفصلة عن شكل الإنتاج

    يمارس الناس في حياتهم الاجتماعية عمليتين مختلفتين: إحداهما عملية
    الإنتاج، والأخرى: عملية التوزيع، فهم من ناحية يخوضون معركة مع
    الطبيعة في سبيل إخضاعها لرغباتهم ويتسلحون في هذه المعركة بما تسمح
    به خبرتهم من أدوات الإنتاج، ومن ناحية أخرى يقيم هؤلاء الناس بينهم
    علاقات معينة، تحدد صلة الأفراد بعضهم ببعض في مختلف شؤون الحياة،
    وهذه العلاقات هي التي نطلق عليها اسم: النظام الاجتماعي، وتندرج
    فيها علاقات التوزيع للثروة التي ينتجها المجتمع. فالأفراد في عملية الإنتاج
    يحصلون على مكاسبهم من الطبيعة، وفي النظام الاجتماعي الذي يحدد
    العلاقات بينهم يتقاسمون تلك المكاسب.
    وبدهي أن عملية الإنتاج في تطور وتحول أساسي دائم، وفقاً لنمو
    العلم وعمقه، فبينما كان يستخدم الإنسان في إنتاجه المحراث، أصبح
    يستخدم الكهرباء والذرة، كما أن النظام الاجتماعي الذي يحدد علاقات الناس
    بعضهم ببعض_ بما فيها علاقات التوزيع_ هو الآخر أيضاً لم يتخذ صيغة
    ثابتة في تاريخ الإنسان، بل اتخذ ألواناً مختلفة باختلاف الظروف وتغيرها.






    والسؤال الأساسي بهذا الصدد: ما هي الصلة بين تطور أشكال الإنتاج
    وتطور العلاقات الاجتماعية بما فيها علاقات التوزيع( النظام الاجتماعي)؟
    وتعتبر هذه النقطة مركز الاختلاف الرئيسي بين الاقتصاد الماركسي
    والاقتصاد الإسلامي، ومن النقاط المهمة للخلاف بين الماركسية والإسلام
    بوجه عام.
    فالاقتصاد الماركسي يرى: أن كل تطور في عمليات الإنتاج وأشكاله،
    يواكبه تطور حتمي في العلاقات الاجتماعية عامة وعلاقات التوزيع خاصة،
    فلا يمكن أن يتغير شكل الإنتاج وتظل العلاقات الاجتماعية محتفظة بشكلها
    القديم، كما لا يمكن أيضاً أن تسبق العلاقات الاجتماعية شكل الإنتاج في
    تطورها. وتستخلص الماركسية من ذلك: أن من المستحيل أن يحتفظ نظام
    اجتماعي واحد بوجوده على مر الزمن، أو أن يصلح للحياة الإنسانية في
    مراحل متعددة من الإنتاج، لأن أشكال الإنتاج تتطور خلال التجربة
    البشرية دائماً وتتطور وفقاً لها العلاقات الاجتماعية فالنظام الذي يصلح لمجتمع
    الكهرباء والذرة غير النظام الذي كان يصلح لمجتمع الصناعة اليدوية،
    ما دام شكل الإنتاج مختلفاً في المجتمعين. وعلى هذا الأساس تقدم الماركسية
    المذهب الاشتراكي، باعتباره العلاج الضروري للمشكلة الاجتماعية في
    مرحلة تاريخية معينة، وفقاً لمقتضيات الشكل الجديد للإنتاج في تلك المرحلة.
    وأما الإسلام فهو يرفض هذه الصلة الحتمية المزعومة، بين تطور
    الإنتاج وتطور النظام الاجتماعي، ويرى أن للإنسان حقلين: يمارس
    في أحدهما عمله مع الطبيعة، فيحاول بمختلف وسائله أن يستثمرها ويسخرها
    لإشباع حاجاته، ويمارس في الآخر علاقاته مع الأفراد الآخرين في شتى
    مجالات الحياة الاجتماعية. وأشكال الإنتاج هي حصيلة الحقل الأول،
    والأنظمة الاجتماعية هي حصيلة الحقل الثاني. وكل من الحقلين_ بوجوده
    التاريخي_ تعرّض لتطورات كثيرة في شكل الإنتاج أو في النظام الاجتماعي،

    ولكن الإسلام لا يرى ذلك الترابط المحتوم بين تطورات أشكال الإنتاج
    وتطورات النظم الاجتماعية. ولأجل ذلك فهو يعتقد أن بالإمكان أن
    يحتفظ نظام اجتماعي واحد، بكيانه وصلاحيته على مر الزمن مهما اختلفت
    أشكال الإنتاج.
    وعلى أساس هذا المبدأ(مبدأ الفصل بين النظام الاجتماعي وأشكال
    الإنتاج)، يقدم الإسلام نظامه الاجتماعي بما فيه مذهبه الاقتصادي،
    بوصفه نظاماً إجتماعياً صالحاً للأمة في كل مراحل إنتاجها، وقادراً على
    إسعادها حين تمتلك سر الذرة، كما كان يسعدها يوم كانت تفلح الأرض
    بيدها.
    * * *
    ومرد هذا الاختلاف الأساسي بين الماركسية والإسلام في نظرتهما
    نحو النظام الاجتماعي، إلى اختلافهما_ بوجه عام_ في تفسير الحياة الاجتماعية
    التي يتكفل النظام الاجتماعي بتنظيمها وضبطها. فالحياة الاجتماعية للإنسان
    وليدة القوى المنتجة في رأي الماركسية، لأن قوى الإنتاج هي القاعدة
    الأساسية والعامل الأول في تاريخ الإنسان كله، فإذا تغير شكل القوى
    المنتجة كان طبيعياً أن يتغير تبعاً لذلك شكل الحياة الاجتماعية، الذي يعبر
    عنه النظام الاجتماعي السائد، ويولد نظام اجتماعي جديد يساير الشكل
    الجديد للإنتاج.
    وفي دراستنا السابقة للمادية التاريخية، ونقدنا الموسع لمفاهيمها عن
    التاريخ ما يغنينا عن التعليق في هذا المجال، فقد برهنا بكل وضوح على أن
    القوى المنتجة ليست هي العامل الأساسي في التاريخ.
    وأما في ضوء الإسلام، فليست الحياة الاجتماعية بأشكالها نابعة من
    الأشكال المتنوعة للإنتاج، وإنما هي نابعة من حاجات الإنسان نفسه، لأن


    الإنسان هو القوة المحركة للتاريخ لا وسائل الإنتاج، وفيه نجد ينابيع الحياة
    الاجتماعية. فقد خلق الإنسان مفطوراً على حب ذاته والسعي وراء حاجاته،
    وبالتالي استخدام كل ما حوله في سبيل ذلك، وكان من الطبيعي أن يجد
    الإنسان نفسه مضطراً إلى استخدام الإنسان الآخر في هذا السبيل أيضاً،
    لأنه لا يتمكن من إشباع حاجاته إلا عن طريق التعاون مع الأفراد الآخرين،
    فنشأت العلاقات الاجتماعية على أساس تلك الحاجات، واتسعت تلك
    العلاقات ونمت باتساع تلك الحاجات ونموها، خلال التجربة الحياتية
    الطويلة للإنسان. فالحياة الاجتماعية إذن وليدة الحاجات الإنسانية، والنظام
    الاجتماعي هو الشكل الذي ينظم الحياة الاجتماعية وفقاً لتلك الحاجات
    الإنسانية.
    ونحن إذا درسنا الحاجات الإنسانية، وجدنا أن فيها جانباً رئيسياً ثابتاً
    على مر الزمن، وفيها جوانب تستجد وتتطور طبقاً للظروف والأحوال.
    فهذا الثبات الذي نجده في تركيب الإنسان العضوي وقواه العامة، وما أودع
    فيه من أجهزة للتغذية والتوليد وامكانات للإدراك والإحساس، يعني حتماً
    اشتراك الإنسانية كلها في خصائص وحاجات وصفات عامة، الأمر الذي
    جعلها أمة واحدة في خطاب الله لأنبيائه )إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا
    ربكم فاعبدون). ومن ناحية أخرى نجد أن عدداً كبيراً من الحاجات يدخل
    في نطاق الحياة الإنسانية بالتدريج، وينمو من خلال تجارب الحياة وزيادة
    الخبرة بملابساتها، وخصائصها. فالحاجات الرئيسية ثابتة إذن، والحاجات
    الثانوية تستجد وتتطور وفقاً لنمو الخبرة بالحياة وتعقداتها.
    وإذا عرفنا إلى جانب ذلك: أن الحياة الاجتماعية نابعة من الحاجات
    الإنسانية، وإن النظام الاجتماعي هو الشكل الذي ينظم الحياة الاجتماعية
    وفقا لتلك الحاجات كما سبق.. إذا عرفنا ذلك كله، خرجنا بنتيجة وهي:
    أن النظام الاجتماعي الصالح للإنسانية ليس من الضروري لكي يواكب

    نمو الحياة الاجتماعية_ أن يتطور ويتغير بصورة عامة، كما أنه ليس من
    المعقول أن يصوغ كليات الحياة وتفاصيلها في صيغ ثابتة، بل يجب أن
    يكون في النظام الاجتماعي جانب رئيسي ثابت، وجوانب مفتوحة للتطور
    والتغير، ما دام الأساس للحياة الاجتماعية( الحاجات الإنسانية) يحتوي
    على جوانب ثابتة وجوانب متغيرة فتنعكس كل من جوانبه الثابتة والمتطورة
    في النظام الاجتماعي الصالح.
    وهذا هو الواقع في النظام الاجتماعي للإسلام تماماً، فهو يشتمل على
    جانب رئيسي ثابت يتصل بمعالجة الحاجات الأساسية الثابتة في حياة الإنسان،
    كحاجته إلى الضمان المعيشي والتوالد والأمن، وما إليها من الحاجات التي
    عولجت في أحكام توزيع الثروة، وأحكام الزواج والطلاق، وأحكام
    الحدود والقصاص، ونحوها من الأحكام المقررة في الكتاب والسنة.
    ويشتمل النظام الاجتماعي في الإسلام أيضاً على جوانب مفتوحة للتغير
    وفقاً للمصالح والحاجات المستجدة، وهي الجوانب التي سمح فيها الإسلام
    لولي الأمر أن يجتهد فيها وفقاً للمصلحة والحاجة، على ضوء الجانب الثابت
    من النظام. كما زود الجانب الثابت من النظام بقواعد تشريعية ثابتة في صيغها
    القانونية غير أنها تتكيف في تطبيقها بالظروف والملابسات وبذلك تحدد
    الأسلوب الصحيح لإشباع الحاجات الثابتة التي تتنوع أساليب إشباعها بالرغم
    من ثباتها وذلك كقاعدة نفي الضرر في الإسلام ونفي الحرج في الدين.
    * * *
    وهكذا_ وخلافاً للماركسية القائلة: بتبعية علاقات التوزيع، وبالتالي
    النظام الاجتماعي كله لأشكال الإنتاج_ نستطيع أن نقرر: انفصال علاقات
    التوزيع عن شكل الإنتاج. فمن الممكن لنظام اجتماعي واحد أن يقدم
    للمجتمع الإنساني علاقات توزيع صالحة له، في مختلف ظروف الإنتاج


    وأشكاله، وليس كل نوع من علاقات التوزيع مرهوناً بشكل معين من
    أشكال الإنتاج، لا يسبقه ولا يتأخر عنه كما ترى الماركسية.
    وعلى هذا الأساس يختلف الإسلام والماركسية في نظرتهما إلى أنظمة
    التوزيع الأخرى التي طبقت في التاريخ، وحكمهما في حق تلك الأنظمة.
    فالماركسية تدرس كل نظام للتوزيع من خلال ظروف الإنتاج السائدة في
    المجتمع، فتحكم بأنه نظام صالح إذا كان يواكب نمو القوى المنتجة،
    وبأنه نظام فاسد تجب الثورة عليه إذا كان عقبة في طريقها الصاعد. ولهذا
    نجد أن الماركسية تبارك الرق على أبعد مدى وبأفظع صورة، في المجتمع الذي
    يعيش على الإنتاج اليدوي للإنسان، لأن مثل هذا المجتمع لا يمكن أن يدفع
    إلى مضاعفة النشاط المنتج، إلا إذا رفعت السياط على رؤوس الكثرة
    الكاثرة من أفراده، وأجبروا على العمل تحت وقع السياط ووخز الخناجر،
    فمن يباشر عملية الارهاب الهائل ويمسك السوط بيده، هو الرجل التقدمي
    والطليعة الثورية في ذلك المجتمع، لأنه الساهر دون وعي على تحقيق إدارة
    التاريخ. وأما ذلك الفرد الآخر الذي يستنكف عن الاشتراك في عملية
    الاسترقاق، ويترك هذه الفرصة الذهبية.. فهو جدير بكل النعوت التي
    يطلقها الاشتراكيون اليوم على الرأسمالي، لأنه رجل يعارض عملية التقدم
    البشري.
    وأما الإسلام فهو يحكم على كل نظام في ضوء صلته بالحاجات الإنسانية
    المتنوعة، التي يجب على النظام تكييف الحياة تكييفاً يضمن إشباعها، بوصفها
    الأساس لنشوء الحياة الاجتماعية. ولا يعتبر هذا الشكل أو ذاك من أشكال
    الإنتاج، مبرراً لقيام نظام اجتماعي وعلاقات توزيع لا تكفل إشباع تلك
    الحاجات، لأنه ينكر تلك الصلة الحتمية المزعومة بين أشكال الإنتاج والنظم
    الاجتماعية.
    * * *

    والإسلام حين ينكر هذه الصلة لا يقرر ذلك نظرياً فحسب، بل هو
    يقدم الدليل العملي على ذلك من وجوده التاريخي. فقد سجل الإسلام في
    تجربته الواقعية للحياة نصراً فكرياً وبرهاناً حياً، على كذب تلك الصلة
    المزعومة بين النظام الاجتماعي وأشكال الإنتاج، ودلل على أن الإنسانية
    تستطيع أن تكيف وجودها الاجتماعي تكييفاً انقلابياً جديداً، بينما يظل
    أسلوبها في الإنتاج كما هو دونما تغيير.
    فإن الواقع الإسلامي الذي عاشته الإنسانية لحظة قصيرة من عمر الزمن
    المديد، وأحدث فيها أروع تطوير شهدته الأسرة البشرية..لم يكن هذا
    الواقع الانقلابي الذي خلق أمة، وأقام حضارة، وعدّل من سير التاريخ..
    وليد أسلوب جديد في الإنتاج، أو تغير في أشكاله وقواه. ولم يكن من
    الممكن في منطق التفسير الاشتراكي للتاريخ_ الذي يربط النظام الاجتماعي
    بوسائل الإنتاج_ أن يوجد هذا الانقلاب الشامل، الذي تدفق إلى كل
    جوانب الحياة دون أن يسبقه أي تحول أساسي في ظروف الإنتاج.
    وهكذا تحدى الواقع الإسلامي منطق الماركسية التاريخي، في كل
    حساباتها وفي كل شيء، نعم في كل شيء. فقد تحداها في فكرة المساواة،
    لأن الماركسية ترى أن فكرة المساواة من نتاج المجتمع الصناعي، الذي
    يتفتح عن الطبقة التي تحمل لواء المساواة وهي البورجوازية، وليس من
    الممكن في رأيها حمل هذا اللواء قبل أن يبلغ التطور التاريخي هذه المرحلة
    الصناعية. ويقف الإسلام من هذا المنطق_ الذي يرد كل وعي وفكرة إلى
    تطور الإنتاج_ هازئاً، لأنه استطاع أن يرفع لواء المساواة، وأن يفجر
    في الإنسانية وعياً صحيحاً وإدراكاً شاملاً، واستطاع أيضاً أن يعكس
    جوهرها في واقع العلاقات الاجتماعية، بدرجة لم تصل إليها البورجوازية.
    استطاع أن يقوم بذلك كله قبل أن يأذن الله بظهور الطبقة البورجوازية،
    وقبل أن توجد شروطها المادية بعشرة قرون.. فقد نادى بالمساواة يوم لم

    تكن قد وجدت الآله فقال) كلكم لآدم وآدم من تراب). و(الناس
    سواسية كأسنان المشط).(لا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى).
    فهل استوحى المجتمع الإسلامي هذه المساواة من وسائل الإنتاج
    البورجوازي، التي لم تظهر إلا بعد ذلك بألف سنة؟! أو استوحاها من
    وسائل الزراعة والتجارة البدائية التي كان المجتمع الحجازي يعيش عليها،
    وهي وسائل كانت توجد بدرجة أكثر نمواً وأعظم تطوراًُ في مجتمعات
    المساواة، وجندته للقيام بأروع دور تاريخي في سبيل تحقيق هذه الفكرة،
    ولم تصنع، نظير ذلك مع المجتمعات العربية في اليمن أو الحيرة أو الشام؟!
    وتحدى الإسلام أيضاً حسابات المادية التاريخية مرة أخرى، فبشر
    بمجتمع عالمي يجمع الإنسانية كلها على صعيد واحد، وعمل جاهداً في
    سبيل تحقيق هذه الفكرة، في بيئة كانت تضج بالصراع القبلي، وتزخر
    بآلاف المجتمعات العشائرية المتناقضة، فقفز بتلك الوحدات إلى وحدة
    إنسانية كبرى، وتسامى بالمسلمين من فكرة المجتمع القبلي الذي تحده حدود
    الدم والقرابة والجوار، إلى فكرة المجتمع الذي لا يحده شيء من تلك
    الحدود، وإنما تحده القاعدة الفكرية للإسلام. فأي أداة إنتاج حوّلت أولئك
    الذين كانت تضيق عقولهم عن فكرة المجتمع القومي، فجعلتهم أئمة
    المجتمع العالمي والدعاة إليه في فترة قصيرة؟!.
    وتحدى الإسلام المنطق التاريخي المزعوم مرة ثالثة، فيما أقام من
    علاقات التوزيع، التي لم يكن من الممكن في حساب الاقتصاد الاشتراكي،
    أن تقوم في مجتمع قبل أن يبلغ درجة من المرحلة الصناعية والآلية في الإنتاج.
    فقلّص من دائرة الملكية الخاصة، وضيق من مجالها، وهذّب من مفهومها،
    ووضع لها الحدود والقيود، وفرض عليها كفالة الفقراء، ووضع إلى
    جانبها الضمانات الكافية لحفظ التوازن والعدالة في التوزيع، وسبق بذلك


    الشروط المادية_ في رأى الماركسية_ لهذا النوع من العلاقات. فبينما يقول
    القرن الثامن عشر: (لا يجهلن سوى الأبله أن الطبقات الدنيا يجب أن تظل
    فقيرة، وإلا فإنها لن تكون مجتهدة)( ). ويقول القرن التاسع عشر:
    (ليس للذي يولد في عالم تم امتلاكه حق في الغذاء إذا ما تعذر عليه الظفر
    بوسائل عيشه عن طريق عمله أو أهله، فهو طفيلي على المجتمع لا لزوم
    لوجوده، إذ ليس له على خوان الطبيعة مكان، والطبيعة تأمره بالذهاب
    ولا تتوانى في تنفيذ أمرها هذا)( )، بينما يقول العالم هذا حتى بعد مجيء
    الإسلام بقرون، يقول الإسلام_ على ما جاء في الحديث_ معلناً مبدأ
    الضمان الاجتماعي.( من ترك ضياعاً فعلي ضياعه، ومن ترك ديناً فعلي
    دينه)، ويعلن الاقتصاد الإسلامي بوضوح: أن الفقر والحرمان ليس
    نابعاً من الطبيعة نفسها، وإنما هو نتيجة سوء التوزيع والانحراف عن العلاقات
    الصالحة التي يجب أن تربط الأغنياء بالفقراء، فيقول_ على ما جاء في
    الحديث_:( ما جاع فقير إلا بما متع غني).
    إن هذا الوعي الإسلامي لقضايا العدالة الاجتماعية في التوزيع، الذي
    لم يوجد نظيره حتى في مجتمعات أرقى من المجتمع الإسلامي في شروطه
    المادية، لا يمكن أن يكون وليد المحراث والتجارة البدائية أو الصناعية
    اليدوية. وما إليها من وسائل المعيشة التي كانت كل المجتمعات تعرفها.
    * * *
    يقولون: إن هذا الوعي، أو هذا الانقلاب الاجتماعي، بل هذا المد
    الإسلامي الهائل الذي امتد إلى تاريخ العام كله.. كان نتيجة للنمو التجاري
    وللأوضاع التجارية في مكة، التي كانت تتطلب إنشاء دولة ثابتة وتدعيمها
    بكل متطلباتها الاجتماعية والفكرية التي تلائم الوضع التجاري السائد!!

    وحقاً إنه تفسير طريف، أن يفسر هذا التحول التاريخي الشامل في
    حياة الإنسانية كلها بالظروف التجارية لبلدة من بلاد جزيرة العرب.
    ولا أدري كيف سمحت الظروف التجارية لمكة بهذا الدور التاريخي
    الجبار، دون غيرها من البلاد العالمية والعربية، التي شهدت مدنيات أضخم
    وشروطاً مادية أرقى، وكانت تفوق مكة في ظروفها السياسية والاقتصادية؟!
    أفلم يكن من المحتوم في المنطق المادي للتاريخ أن ينبثق التطور الاجتماعي
    الجديد من تلك البلاد؟! فكيف استطاعت ظروف تجارية معينة في بلد
    كمكة أن تخلق تاريخاً إنسانياً جديداً. بينما عجزت عن مثل ذلك ظروف
    مشابهة، أو ظروف أكثر منها تطوراً ونمواً؟
    فلئن كانت مكة تتمتع بظرف تجاري مناسب لمرور التجارة بها بين اليمن
    وسوريا، فقد كان الأنباط يتمتعون بظروف تجارية مهمة حين أنشأوا
    (بطرا) كمحطة للطرق التجارية، وأنشأوا فيها مدنية من أرقى المدنيات
    العربية، حتى امتد نفوذهم إلى ما يجاورهم من البلاد، وأقاموا فيها حاميات
    للقوافل التجارية وأماكن لاستغلال المناجم، وأصبحت مدينتهم ردحاً من
    الزمن المدينة الرئيسية للقوافل ومركزاً تجارياً مهماً، وامتد نشاطهم التجاري
    إلى مناطق واسعة، حتى وجدت آثار تجارتهم في سلوقية وموانيء سورية
    والإسكندرية، وكانوا يتاجرون بالأفاويه من اليمن، والحرير من الصين،
    والحناء من عسقلان، والزجاج وصبغ الأرجوان من صيدا وصور،
    واللؤلؤ من الخليج الفارسي، والخزف من روما، وينتجون في بلادهم
    الذهب والفظة والقار، وزيت السمسم... وبالرغم من هذا المستوى
    التجاري والإنتاجي الذي لم تصل إليه مكة، ظلت الانباط في علاقاتها
    الاجتماعية كما هي، تنتظر دور مكة الرباني في تطوير التاريخ.
    وهذه الحيرة التي شهدت على عهد المناذرة رقياً كبيراً في الصناعة
    والتجارة. فقد ازدهرت فيها صناعة الأنسجة والأسلحة والخزف وأواني

    الفخار والنقوش، واستطاع المناذرة أن يمدوا نفوذهم التجاري إلى أواسط
    وجنوب وغربي الجزيرة العربية، وكانوا يرسلون قوافل تجارية إلى
    الأسواق الرئيسية، وهي تحمل منتوجات بلادهم.
    والحضارة التدمرية التي استمرت عدة قرون، وازدهرت في ظلها
    التجارة وقامت علاقاتها التجارية بمختلف دول العالم، كالصين والهند
    وبابل والمدن الفنيقية وبلاد الجزيرة.
    والحضارات التي احتفل بها تاريخ اليمن منذ أقدم العهود...
    إن دراسة تلك الحضارات والمدنيات وظروفها التجارية والاقتصادية،
    ومقارنتها بمكة في واقعها الحضاري والمدني قبل الإسلام، يبرهن على أن
    الانقلاب الإسلامي في العلاقات الاجتماعية والحياة الفكرية، لم يكن مسألة
    شروط مادية وظروف اقتصادية وتجارية، وبالتالي إن العلاقات الاجتماعية
    بما فيها علاقات التوزيع منفصلة عن شكل الإنتاج والوضع الاقتصادي
    للقوى المنتجة.
    أفليس من حق الإسلام بعد هذا كله، أن يزيّف بكل اطمئنان وثقة
    تلك الحتمية التاريخية، التي تربط كل أسلوب من أساليب التوزيع بأسلوب
    من أساليب الإنتاج، ويعلن بالدليل المادي المحسوس: أن النظام يقوم
    على أسس فكرية وروحية، وليس على الطريقة المادية في كسب حاجات
    الحياة؟!.
    [/align]
    يا محوّل الحول والاحوال ، حوّل حالنا إلى أحسن الحال......








  10. #25
    تاريخ التسجيل
    Jul 2004
    الدولة
    هناك
    المشاركات
    28,205

    افتراضي

    [align=center]



    المشكلة الاقتصادية في نظر الإسلام، وحلولها
    ما هي المشكلة الاقتصادية؟

    تتفق التيارات الفكرية في الحقل الاقتصادي جميعاً على: أن في الحياة
    الاقتصادية مشكلة يجب أن تعالج، وتختلف_ بعد ذلك_ في تحديد طبيعة
    هذه المشكلة، والطريقة العامة لعلاجها.
    فالرأسمالية تعتقد: أن المشكلة الاقتصادية الأساسية هي قلة الموارد
    الطبيعية نسبياً، نظراً إلى أن الطبيعة محدودة. فلا يمكن أن يزاد في كمية
    الأرض التي يعيش عليها الإنسان، ولا في كمية الثروات الطبيعية المتنوعة
    المخبوءة فيها، مع أن الحاجات الحياتية للإنسان تنمو باطراد، وفقاً لتقدم
    المدينة وازدهارها، الأمر الذي يجعل الطبيعة عاجزة عن تلبية جميع تلك
    الحاجات بالنسبة إلى الأفراد كافة، فيؤدي ذلك إلى التزاحم بين الإفراد
    على إشباع حاجاتهم، وتنشأ عن ذلك المشكلة الاقتصادية.
    فالمشكلة الاقتصادية في رأي الرأسمالية هي: أن الموارد الطبيعية للثروة
    لا تستطيع أن تواكب المدنية، وتضمن إشباع جميع ما يستجد خلال التطور
    المدني من حاجات ورغبات.




    والماركسية ترى: أن المشكلة الاقتصادية دائماً هي مشكلة التناقض
    بين شكل الإنتاج وعلاقات التوزيع. فمتى تم الوفاق بين ذلك الشكل وهذه
    العلاقات ساد الاستقرار في الحياة الاقتصادية، مهما كانت نوعية النظام
    الاجتماعي الناتج عن التوفيق بين شكل الإنتاج وعلاقات التوزيع.
    وأما الإسلام فهو لا يعتقد مع الرأسمالية: أن المشكلة مشكلة الطبيعة
    وقلة مواردها، لأنه يرى أن الطبيعة قادرة على ضمان كل حاجات الحياة،
    التي يؤدي عدم إشباعها إلى مشكلة حقيقة في حياة الإنسان.
    كما لا يرى الإسلام أيضاً: أن المشكلة هي التناقض بين شكل الإنتاج
    وعلاقات التوزيع، كما تقرر الماركسية.. وإنما المشكلة_ قبل كل شيء_
    مشكلة الإنسان نفسه، لا الطبيعة، ولا أشكال الإنتاج.
    وهذا ما يقرره الإسلام في الفقرات القرآنية التالية:
    ((الله الذي خلق السماوات والأرض، وأنزل من
    السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقاً لكم، وسخّر
    لكم الفلك لتجري في البحر بأمره، وسخر لكم الأنهار
    وسخر لكم الشمس والقمر دائبين، وسخر لكم الليل
    والنهار، وآتاكم من كل ما سألتموه، وإن تعدوا نعمة
    الله لا تحصوها، إن الإنسان لظلوم كفار ))( ).
    فهذه الفقرات الكريمة تقرر بوضوح: أن الله تعالى قد حشد للإنسان
    في هذا الكون الفسيح كل مصالحه ومنافعه، ووفر له الموارد الكافية لإمداده
    بحياته وحاجاته المادية.. ولكن الإنسان هو الذي ضيع على نفسه هذه الفرصة
    التي منحها الله له، بظلمه وكفرانه( إن الإنسان لظلوم كفار). فظلم
    الإنسان في حياته العملية وكفرانه بالنعمة الإلهية، هما السببان الأساسيان
    للمشكلة الاقتصادية في حياة الإنسان.

    ويتجسد ظلم الإنسان على الصعيد الاقتصادي: في سوء التوزيع.
    ويتجسد كفرانه للنعمة: في إهماله لاستثمار الطبيعة وموقفه السلبي منها.
    فحين يمحى الظلم من العلاقات الاجتماعية للتوزيع، وتجند طاقات
    الإنسان للاستفادة من الطبيعة واستثمارها. تزول المشكلة الحقيقة على
    الصعيد الاقتصادي.
    وقد كفل الإسلام محو الظلم: بما قدمه من حلول لمسائل التوزيع
    والتداول، وعالج الكفران: بما وضعه للإنتاج من مفاهيم وأحكام.
    وهذا ما سنشرحه فيما يلي، بالمقدار الذي يتصل بالسبب الأول من المشكلة
    الاجتماعية في نظر الإسلام وهو الظلم في مجالات التوزيع والتداول وأما موقف الإسلام من السبب الثاني وهو كفران النعمة، فسوف نتناوله
    بالدرس بحث مقبل، أعددناه لعرض موقف الإسلام من الإنتاج
    وأحكامه ومفاهيمه عنه.
    جهاز التوزيع
    فبالنسبة إلى مجالات التوزيع منيت الإنسانية على مر التاريخ بألوان من
    الظلم، لقيام التوزيع تارة: على أساس فردي بحت، وأخرى على أساس
    لا فردي خالص. فكان الأول تعدياً على حقوق الجماعة وكان الثاني بخساً
    لحقوق الفرد.
    وقد وضع الإسلام جهاز التوزيع للمجتمع الإسلامي بالشكل الذي
    تلتقي فيه حقوق الفرد بحقوق الجماعة. فلم يحل بين الفرد وحقه وإشباع
    ميوله الطبيعية، كما لم يسلب الجماعة كرامتها ولم يهدد حياتها، وبذلك
    امتاز عن أجهزة التوزيع المختلفة، التي جرها الإنسان على مر التاريخ.
    وجهاز التوزيع في الإسلام يتكون من أداتين رئيسيتين، وهما: العمل
    والحاجة. ولكل من الأداتين دورهما الفعال في الحقل العام للثروة الاجتماعية.



    وسوف نتناول كلاً من الأداتين بالدرس، لنعرف دورها الذي
    تؤديه في مجال التوزيع، مع المقارنة بين مكانة العمل والحاجة في جهاز
    التوزيع الإسلامي للثروة، ومكانتهما في التصاميم والنظريات الأخرى
    للتوزيع، التي تقوم على أسس شيوعية واشتراكية ورأسمالية.
    دور العمل في التوزيع
    لكي نعرف دور العمل في التوزيع، يجب أن ندرس الصلة الاجتماعية
    بين العمل والثروة التي ينتجها. فالعمل ينصب على مختلف المواد الطبيعية:
    فيستخرج المعدن من الأرض، ويقتطع الخشب من الأشجار، ويغوص
    على اللؤلؤ في البحر، ويصطاد طائراً من الجو.. إلى غير ذلك من الثروات
    والمواد التي يحصل عليها الإنسان من الطبيعة عن طريق العمل. والسؤال
    الذي نعالجه بهذا الصدد هو: ماذا تكتسب المادة من طابع اجتماعي بسبب
    العمل؟ وما هي علاقة العامل بالثروة التي حصل عليها عن طريق عمله؟.
    فهناك الرأي القائل: بانقطاع الصلة الاجتماعية بين العمل و(العامل)
    وموضوعه، فليس للعمل أو العامل من حق إلا في إشباع حاجته مهما كان
    عمله، لأن العمل ليس إلا وظيفة اجتماعية يؤديها الفرد للمجتمع، فيكافئه
    عليها المجتمع بضمان حاجاته.
    ويتفق هذا الرأي مع وجهة نظر الاقتصاد الشيوعي، فإن الاقتصاد
    الشيوعي ينظر إلى المجتمع بوصفه كائناً كبيراً يذوب فيه الأفراد، ويحتل
    كل فرد منه موضع الخلية في الكائن العضوي الواحد. وعلى أساس هذه
    النظرة التي تصهر الأفراد في البوتقة الاجتماعية الكبرى، وتذيبهم في
    العملاق الكبير.. لا تبدو الأعمال التي يقوم بها أفراد المجتمع أعمالاً
    لأفراد، لأن الأفراد قد ذابوا جميعاً ضمن الكائن الكبير. فتنقطع بذلك
    صلة العامل بنتائج عمله، ويصبح المجتمع هو العامل الحقيقي والمالك لنتاج


    عمل الأفراد جميعاً، وليس للأفراد إلا إشباع حاجاتهم، وفقاً للصيغة
    الشيوعية_ التي مرت بنا سابقاً في دراستنا للمادية التاريخية_:(من كل
    وفقاً لطاقته ولكل وفقاً لحاجته). فالأفراد في المجتمع الشيوعي يشبهون
    تماماً الأجزاء التي يتكون منها جهاز ميكانيكي، فإن كل جزء في الجهاز له
    الحق في استهلاك ما يحتاجه من زيت، وعليه القيام بوظيفته الخاصة، وبذلك قد
    تستهلك الأجزاء الميكانيكية جميعاً حظوظاً متساوية من الزيت بالرغم من
    اختلاف وظائفها في أهميتها وتعقيدها. وكذلك أفراد المجتمع يعطى كل
    منهم في نظام التوزيع الشيوعي(وفقاً لحاجته)، وإن اختلفوا في مدى
    مساهمتهم العملية في إنتاج الثروة. فالشخص يعمل ولكنه لا يملك ثمرة
    عمله ولا يختص بنتائجه، وإنما له الحق في إشباع حاجته سواء زاد ذلك
    على عمله أم قل عنه( ).
    وعلى هذا الأساس يصبح موقف العمل من التوزيع سلبياً. فهو في
    ضوء المفهوم الشيوعي أداة إنتاج للسلع، وليس أداة توزيع لها، وإنما
    الحاجة وحدها هي التي تقرر الطريقة التي يتم بها توزيع السلع على أفراد
    المجتمع، ولهذا يختلف أفراد المجتمع في حظهم من التوزيع، وفقاً لاختلاف
    حاجاتهم، لا لاختلاف أعمالهم.
    وأما الاقتصاد الاشتراكي الماركسي، فهو يحدد صلة العامل بنتيجة
    عمله في ضوء مفهومه الخاص عن القيمة: فهو يرى أن العامل هو الذي
    يخلق القيمة التبادلية للمادة التي ينفق فيها عمله، فلا قيمة للمادة بدون العمل
    البشري المتجسد فيها. وما دام العمل هو الينبوع الأساسي للقيمة، فيجب
    أن يكون توزيع القيم المنتجة في مختلف فروع الثروة على أساس العمل،

    فيملك كل عامل نتيجة عمله والمادة التي انفق عمله فيها، لأنها أصبحت
    ذات قيمة بسبب العمل وينتج عن ذلك: أن(لكل حسب عمله) لا حسب
    حاجته، لأن من حق كل عامل أن يحصل على ما خلق من قيم. ولما كان
    العمل هو الخلاق الوحيد للقيم، فهو الأداة الوحيدة للتوزيع. فبينما كانت
    أداة التوزيع في المجتمع الشيوعي هي الحاجة، يصبح العمل أداة التوزيع
    الأساسية في المجتمع الاشتراكي.
    وأما الإسلام فيختلف عن الاقتصاد الشيوعي والاشتراكي معاً.
    فهو يخالف الشيوعية في قطعها الصلة بين عمل الفرد ونتائج عمله،
    وتأكيدها على المجتمع بوصفه المالك الوحيد لنتائج أعمال الأفراد جميعاً،
    لأن الإسلام لا ينظر إلى المجتمع بصفته كائناً كبيراً يختفي من وراء الأفراد،
    ويحركها في هذا الاتجاه وذاك، بل ليس المجتمع إلا الكثرة الكاثرة من
    الإفراد فالنظرة الواقعية إنما تنصب على الأفراد بوصفهم بشراً يتحركون
    ويعملون، فلا يمكن بحال من الأحوال أن تنقطع الصلة بين العامل ونتيجة عمله.
    ويختلف الإسلام أيضاً عن الاقتصاد الاشتراكي، القائل: أن الفرد
    هو الذي يمنح المادة قيمتها التبادلية بعمله، فالمواد الطبيعية كالخشب
    والمعادن وغير ذلك من ثروات الطبيعة.. لا تستمد قيمتها_ في رأي الإسلام_
    من العمل، بل قيمة كل مادة حصيلة الرغبة الاجتماعية العامة في الحصول
    عليها، كما أوضحنا ذلك في دراستنا للمادية التاريخية.
    وإنما العمل في نظر الإسلام سبب لملكية العامل لنتيجة عمله، وهذه
    الملكية الخاصة القائمة على أساس العمل، تعبير عن ميل طبيعي في الإنسان
    إلى تملك نتائج عمله، ومرد هذا الميل إلى شعور كل فرد بالسيطرة على
    عمله، فإن هذا الشعور يوحي طبيعياً بالميل إلى السيطرة على نتائج العمل
    ومكاسبه، وبذلك تكون الملكية القائمة على أساس العمل حقاً للإنسان،
    نابعاً من مشاعره الأصيلة. وحتى المجتمعات التي تحدثنا الشيوعية عن

    انعدام الملكية الخاصة فيها، لا تدحض حق الملكية القائم على أساس العمل
    بوصفه تعبيراً عن ميل أصيل في الإنسان.. وإنما تعني أن العمل في تلك
    المجتمعات كان يحمل طابعاً اشتراكياً، فكانت الملكية القائمة على أساسه
    اشتراكية أيضاً. فالحقيقة هي الحقيقة، والميل الطبيعي إلى التملك على
    أساس العمل ثابت على أي حال، وإن اختلفت نوعية الملكية لاختلاف
    شكل العمل: من ناحية كونه فردياً أو اجتماعياً.
    فالعمل إذن أساس لتملك العامل في نظر الإسلام، وعلى هذا الأساس
    فهو أداة رئيسية في جهاز التوزيع الإسلامي، لأن كل عامل يحظى بالثروات
    الطبيعية التي يحصل عليها بالعمل، ويمتلكها وفقاً لقاعدة: إن العمل سبب
    الملكية.
    وهكذا نستطيع أن نستخلص في النهاية المواقف المذهبية المختلفة،
    من الصلة الاجتماعية بين الفرد العامل ونتيجة عمله.
    فالقاعدة الشيوعية في هذا المجال:(إن العمل سبب لتملك المجتمع
    لا الفرد).
    والقاعدة الاشتراكية:( إن العمل سبب لقيمة المادة، وبالتالي سبب
    تملك العامل لها).
    والقاعدة الإسلامية:(إن العمل سبب لتملك العامل للمادة، وليس
    سبباً لقيمتها). فالعامل حين يستخرج اللؤلؤ لا يمنحه بعمله هذا قيمته
    وإنما يملكه بهذا العمل.
    دور الحاجة في التوزيع
    إن العمل هو الأداة الرئيسية الأولى في جهاز التوزيع، بوصفه أساساً
    للملكية كما عرفنا قبل لحظة. والأداة الأخرى التي تساهم في عملية التوزيع
    مساهمة رئيسية هي الحاجة.

    والدور المشترك الذي يؤديه العمل والحاجة معاً في هذا المجال، هو
    الذي يحدد الشكل الأولي العام للتوزيع في المجتمع الإسلامي.
    ويمكننا لإيضاح هذا الدور المشترك الذي تساهم فيه الحاجة أن نقسم
    أفراد المجتمع إلى ثلاث فئات: فإن المجتمع يحتوي عادة على فئة: قادرة
    _بما تتمتع به من مواهب وطاقات فكرية وعملية_ على توفير معيشتها في
    مستوى مرفه غني، وفئة أخرى: تستطيع أن تعمل، ولكنها لا تنتج في
    عملها إلا ما يشبع ضروراتها ويوفر لها حاجاتها الأساسية، وفئة ثالثة:
    لا يمكنها أن تعمل لضعف بدني أو عاهة عقلية. وما إلى ذلك من الأسباب
    التي تشل نشاط الإنسان، وتقذف به خارج نطاق العمل والإنتاج.
    فعلى أساس الاقتصاد الإسلامي تعتمد الفئة الأولى في كسب نصيبها من
    التوزيع على العمل، بوصفه أساساً للملكية وأداة رئيسية للتوزيع، فيحصل
    كل فرد من هذه الفئة على حظه من التوزيع وفقاً لإمكاناته الخاصة، وإن
    زاد ذلك على حاجاته، ما دام يستخدم إمكاناته في الحدود التي يضعها
    الاقتصاد الإسلامي للنشاطات الاقتصادية للأفراد. فالحاجة إذن لا تعمل
    شيئاً بالنسبة إلى هذه الفئة، وإنما العمل. هو أساس نصيبها من التوزيع.
    وبينما تعتمد الفئة الأولى على العمل وحده، يرتكز دخل الفئة الثالثة
    وكيانها الاقتصادي في الإسلام على أساس الحاجة وحدها، لأن هذه الفئة
    عاجزة عن العمل، فهي تحصل على نصيب من التوزيع يضمن حياتها كاملة
    على أساس حاجتها، وفقاً لمباديء الكفالة العامة والتضامن الاجتماعي في
    المجتمع الإسلامي.
    وأما الفئة الثانية: التي ولا تجني من عملها إلا الأدنى من
    المعيشة، فهي تعتمد في دخلها على العمل والحاجة معاً. فالعمل يكفل لها
    معيشتها الضرورية، والحاجة تدعو_ وفقاً لمباديء الكفالة والتضامن_


    إلى زيادة دخل هذه الفئة، بأساليب وطرق محددة في الاقتصاد الإسلامي
    كما سيأتي، ليتاح لأفراد هذه الفئة العيش بالدرجة العامة من الرفاه.
    ومن خلال هذا نستطيع أن ندرك أوجه الاختلاف ببن دور الحاجة
    في الاقتصاد الإسلامي بصفتها أداة توزيع ودورها في المذاهب الاقتصادية
    الأخرى.
    الحاجة في نظر الإسلام والشيوعية
    تعتبر الحاجة في نظر الشيوعية_ القائلة: أن من كل وفقاً لطاقته ولكل
    وفقاً لحاجته_ وحدها هي المعيار الأساسي في توزيع الناتج على الأفراد
    العاملين في المجتمع فلا تسمح للعمل بإيجاد ملكية أوسع نطاقاً من حاجة
    العامل.. بينما يعتر الإسلام بالعمل بوصفه أداة للتوزيع إلى جانب
    الحاجة، ويسند إليه دوراً إيجابياً في هذا المضمار، وبذلك يفتح المجال في
    الحياة الاقتصادية لظهور كل الطاقات والمواهب ونموها، على أساس من
    التنافس والسباق، ويدفع الأفراد الموهوبين إلى إنفاق كل إمكاناتهم في
    مضمار المدنية والاقتصاد وعلى العكس من ذلك الشيوعية، فإنها باقامتها
    للتوزيع على أساس حاجة العامل وحدها دون نوعية عمله ونشاطه، تؤدي
    إلى تجميد الدوافع الطبيعية في الإنسان الباعثة على الجد والنشاط، فإن الذي
    يبعث الفرد على ذلك إنما هو في الحقيقة مصلحته الخاصة، فإذا جرد العمل
    عن وصفه أداة توزيع واتخذت الحاجة وحدها مقياساً لنصيب كل فرد،
    كما تصنع الشيوعية، كان في ذلك القضاء على أهم قوة دافعة بالجهاز
    الاقتصادي إلى الأمام، ومحركة له في اتجاه متصاعد.
    الحاجة في نظر الإسلام والاشتراكية الماركسية
    تعتمد الاشتراكية القائلة_: من كل حسب طاقته ولكل حسب عمله_



    على العمل بصفته الجهاز الأساسي للتوزيع، فلكل عامل الحق في نتيجة
    عمله مهما كانت هذه النتيجة ضئيلة أو كبيرة. وبذلك يلغى دور الحاجة
    في التوزيع، فلا يقف نصيب العامل عند حاجته إذا كان ينتج في عمله
    أكثر من حاجته، كما لا يحظى العامل بما يشبع حاجته كاملة إذا قصر به
    عمله عن تقديم خدمة إنتاجية توازي ذلك، فلكل فرد إذن قيمة عمله
    مهما كانت حاجته ومهما حققه العمل من قيمة.
    وهذا يختلف عن وجهة نظر الإسلام في الحاجة، فإن لها في رأيه دوراً
    إيجابياً مهماً، لأنها وإن لم تكن سبباً لحرمان العامل الموهوب من ثمار عمله
    إذا زادت عن حاجته. غير أنها سبب فعال في التوزيع بالنسبة إلى الفئة
    الثانية من فئات المجتمع، التي استعرضناها قبل دقائق، وهي الفئة التي
    لا تملك من القدرة الفكرية والجسدية إلا الدرجة التي تسمح لها بالحصول على
    الحد الأدنى من ضرورات الحياة فإن هذه الفئة على الأسس الاشتراكية
    الماركسية للإقتصاد يجب أن تقنع بثمار عملها الضئيلة، وتستسيغ الفوارق
    الكبيرة بين مستوى معيشتها ومستوى المعيشة العام للفئة الأولى، القادرة على
    كسب العيش المرفه، لأن العمل وحده هو الذي يمارس التوزيع في ظل
    الاشتراكية، فلا يمكن للعامل أن يطمع بأكثر من العيش الذي يرشحه له
    عمله. وأما في ظل الاقتصاد الإسلامي فالأمر يختلف، لأن الإسلام لم
    يكتف بالعمل وحده لتنظيم جهاز التوزيع بين العاملين، بل جعل للحاجة
    نصيباً من ذلك، واعتبر عجز الفئة الثانية عن تحقيق المستوى العام للرفاه
    لوناً من الحاجة، ووضع الأساليب والطرق المعينة لمعالجة هذه الحاجة.
    فالعامل الموهوب الطيب الحظ لن يحرم مما زاد على حاجته من نتاج عمله،
    ولكن العامل الذي لم يمنح إلا الحد الأدنى من الطاقة العملية، سوف يحصل
    على نصيب أكبر من نتاجه.
    وهناك نقطة خلاف فكري أخرى بين الإسلام والاشتراكية الماركسية،

    حول الفئة الثالثة من فئات المجتمع الثلاث، التي حرمت من العمل بسبب
    طبيعة تكوينها الفكري والجسدي. والاختلاف بين الإسلام والاشتراكية
    الماركسية حول هذه الفئة المحرومة ينبع من تناقض مفاهيمها عن علاقات
    التوزيع.
    وأنا لا أريد أن أتناول بهذا الصدد موقف العالم الاشتراكي اليوم من
    الفئة الثالثة، ولا أحاول أن أكرر المزاعم القائلة: أن الفرد العاجز عن
    العمل محكوم عليه في المجتمعات الاشتراكية بالموت جوعاً، لأنني أريد أن
    أدرس المسألة من الوجهة النظرية لا التطبيقية، ولا أريد أن أتحمل مسؤولية
    تلك المزاعم التي يرددها أعداء العالم الاشتراكي عنه.
    فمن الناحية النظرية لا يمكن للاقتصاد الاشتراكي الماركسي أن يفسر
    حق الفئة الثالثة في الحياة، ويبرر حصولها على نصيب من الناتج العام في
    عملية التوزيع، لأن التوزيع لا يقوم في رأي الماركسية على أساس خلقي
    ثابت، وإنما يحدد وفقاً لحالة الصراع الطبقي في المجتمع التي يمليها شكل
    الإنتاج السائد، ولذلك تؤمن الماركسية: أن الرق وموت الرقيق تحت
    السياط وحرمانه من ثمرات عمله.. كان شيئاً سائغاً في ظروف الصراع
    الطبقي بين السادة والعبيد.
    وعلى هذا الأساس الماركسي يجب أن يدرس حظ الفئة الثالثة من
    التوزيع في ضوء مركزها الطبقي، ما دامت حظوظ الأفراد في التوزيع
    تحدد وفقاً لمراكزهم الطبقية في المعترك الاجتماعي.
    ولما كانت الفئة الثالثة مجردة عن ملكية وسائل الإنتاج وعن طاقة العمل
    المنتج، فهي لا تندرج ضمن إحدى الطبقتين المتصارعتين:(الطبقة
    الرأسمالية والطبقة العاملة)، ولا تشكل جزءاً من الطبقة العاملة في دور
    انتصار العمال وإنشاء المجتمع الاشتراكي.
    [/align]
    يا محوّل الحول والاحوال ، حوّل حالنا إلى أحسن الحال......








  11. #26
    تاريخ التسجيل
    Jul 2004
    الدولة
    هناك
    المشاركات
    28,205

    افتراضي

    [align=center]وإذا كان الأفراد العاجزون بطبيعتهم عن العمل منفصلين عن الصراع
    الطبقي بين الرأسماليين والعمال، وبالتالي عن الطبقة العاملة التي تسيطر
    على وسائل الإنتاج في المرحلة الاشتراكية فلا يوجد أي تفسير علمي على
    الطريقة الماركسية يبرر نصيب هؤلاء من التوزيع، وحقهم في الحياة وفي
    الثروة التي سيطرت عليها الطبقة العاملة، ما داموا خارج نطاق الصراع
    الطبقي... وهكذا لا تستطيع الماركسية أن تبرر بطريقتها الخاصة ضمان
    حياة الفئة الثالثة ومعيشتها في المرحلة الاشتراكية.
    وأما الإسلام فهو لا يحدد عملية التوزيع على أساس الصراع الطبقي في
    المجتمع، وإنما يحددها في ضوء المثل الأعلى للمجتمع السعيد، وعلى أساس
    من القيم الخلقية الثابتة التي تفرض توزيع الثروة بالشكل الذي يضمن تحقيق
    تلك القيم وإيجاد ذلك المثل، وتقليص آلام الحرمان بأكبر درجة ممكنة.
    وعملية التوزيع التي ترتكز على هذه المفاهيم تتسع بطبيعة الحال للفئة
    الثالثة، بوصفها جزءاً من المجتمع الإنساني الذي يجب أن توزع فيه الثروة.
    بشكل يقلص آلام الحرمان إلى أبعد حد ممكن، تحقيقاً للمثل الأعلى للمجتمع
    السعيد، وللقيم الخلقية التي يقيم الإسلام العلاقات الاجتماعية عليها.
    ويصبح من الطبيعي عندئذ أن تعتبر حاجة هذه الفئة المحرومة سبباً كافياً
    لحقها في الحياة، وأداة من أدوات التوزيع: (وفي أموالهم حق معلوم
    للسائل والمحروم).
    الحاجة في نظر الإسلام والرأسمالية
    وأما الاقتصاد الرأسمالي بشكله الصريح فهو على النقيض من الإسلام
    تماماً في موقفه من الحاجة، فإن الحاجة في المجتمع الرأسمالي ليست من
    الأدوات الإيجابية للتوزيع، وإنما هي أداة ذات صفة مناقضة ودور إيجابي
    معاكس لدورها في المجتمع الإسلامي. فهي كلما اشتدت عند الأفراد


    إنخفض نصيبهم من التوزيع، حتى يؤدي الإنخفاض في نهاية الأمر إلى
    انسحاب عدد كبير منهم عن مجال العمل والتوزيع. والسبب في ذلك:
    أن انتشار الحاجة وشدتها يعني: وجود كثرة من القوى العاملة المعروضة
    في السوق الرأسمالية، تزيد عن الكمية التي يطلبها أرباب الأعمال،
    ونظراً إلى أن الطاقة الإنسانية سلعة رأسمالية تتحكم في مصيرها قوانين
    العرض والطلب، كما تتحكم في سائر سلع السوق.. فمن الطبيعي أن
    ينخفض أجر العمل تبعاً لزيادة العرض على الطلب، ويستمر الانخفاض
    وفقاً لهذه الزيادة، وحين ترفض السوق الرأسمالية امتصاص كل الكمية
    المعروضة من القوى العاملة، ويمنى عدد كبير من ذوي الحاجة بالبطالة
    نتيجة لذلك، يتحتم على هذا العدد الكبير أن يفعل المستحيل في سبيل أن
    يبقى حياً، أو يتحمل آلام الحرمان والموت جوعاً.
    وهكذا فإن الحاجة لا تعني شيئاً إيجابياً في التوزيع الرأسمالي، وإنما
    تعني وفرة في المعروض من القوى العاملة، وليس أمام كل سلعة تمنى بزيادة
    العرض على الطلب إلا أن ينخفض ثمنها ويجمد إنتاجها حتى تستهلك،
    وتصحح النسبة بين العرض والطلب.
    فالحاجة في المجتمع الرأسمالي تعني: إنسجاب الفرد من مجال التوزيع
    وليست أداة للتوزيع.
    الملكية الخاصة
    حينما قرر الإسلام: أن العمل سبب للملكية وفقاً للميل الطبيعي في
    الإنسان إلى تملك نتائج عمله، واتخذ من العمل على هذا الأساس أداة
    رئيسية للتوزيع.. انتهى من ذلك إلى أمرين:
    أحدهما: السماح بظهور الملكية الخاصة على الصعيد الاقتصادي. فإن
    العمل إذا كان أساساً للملكية، فمن الطبيعي أن توجد للعامل ملكية خاصة


    للسلع التي تدخّل في إيجادها وجعلها مالاً، مثل المزروعات والمنسوجات
    وما شاكلها.
    ونحن حين نقرر: أن تملك الإنسان العامل للأموال التي أنتجها. تعبير
    عن ميل طبيعي فيه نعني بذلك: أن في الإنسان ميلاً طبيعياً إلى الاختصاص
    بنتائج عمله عن الآخرين، الأمر الذي يعبر عنه في المدلول الاجتماعي:
    بالتملك، وأما نوعية الحقوق التي تترتب على هذا الاختصاص فلا تقرر
    وفقاً لميل طبيعي، وإنما يقررها النظام الاجتماعي وفقاً لما يتبناه من أفكار
    ومصالح. فمثلاً: هي من حق العامل الذي تملك السلعة بالعمل، أن يبذر
    بها ما دامت مالاً خاصاً به؟ أو هل من حقه أن يستبدلها بسلعة أخرى، أو
    أن يتجر بها وينمي ثروته عن طريق جعلها رأس مال تجاري أو ربوي؟..
    إن الجواب على هذه الأسئلة وما شاكلها يقرره النظام الاجتماعي الذي
    يحدد للملكية الخاصة حقوقها، ولا يتصل بالفطرة والغريزة.
    ولأجل هذا تدخل الإسلام في تحديد حقوق الاختصاص هذه، فأنكر
    بعضها واعترف بالبعض الآخر، وفقاً للمثل والقيم التي تبناها. فقد أنكر
    مثلاً حق المالك في التبذير بماله أو الإسراف به في مجال الإنفاق، وأقر حقه
    في الاستمتاع به دون تبذير أو إسراف، وأنكر حق المالك في تنمية أمواله
    التي يملكه عن طريق الربا، وأجاز له تنميتها عن طريق التجارة ضمن
    حدود وشروط خاصة وتبعاً لنظرياته العامة في التوزيع التي سوف ندرسها
    في الفصول المقبلة إن شاء الله.
    * * *
    والأمر الآخر الذي يستنتج من قاعدة: إن العمل سبب الملكية: هو
    تحديد مجال الملكية الخاصة وفقاً لمقتضيات هذه القاعدة. فإن العمل إذا كان
    هو الأساس الرئيسي للملكية الخاصة، فيجب أن يقتصر نطاق الملكية الخاصة


    على الأموال التي يمكن للعمل أن يتدخل في إيجادها أو تركيبها، دون
    الأموال التي ليس للعمل فيها أدنى تأثير.
    وعلى هذا الأساس تنقسم الأموال بحسب طبيعة تكوينها وإعدادها:
    إلى ثروات خاصة وعامة.
    فالثروات الخاصة: كل مال يتكون أو يتكيف طبقاً للعمل البشري
    الخاص المنفق عليه، كالمزروعات والمنسوجات، والثروات التي أنفق
    عمل في سبيل استخراجها من الأرض والبحر أو اقتناصها من الجو فإن
    العمل البشري يتدخل هنا: إما في تكوين نفس المال كعمل الزراع بالنسبة
    إلى الناتج الزراعي، وإما في تكييف وجوده وإعداده بالصورة التي تسمح
    بالاستفادة منه، كالعمل المبذول في استخراج الكهرباء من القوى المنتشرة
    في الطبيعة، أو إخراج الماء أو البترول من الأرض. فالطاقة الكهربائية
    والكميات المستخرجة من الماء أو البترول.. ليست مخلوقة للعمل البشري،
    ولكن العمل هو الذي كيفها وأعدها بالصورة التي تسمح بالاستفادة منها.
    وهذه الثروات التي يدخل العمل البشري في حسابها هي المجال المحدد
    في الإسلام للملكية الخاصة، أي النطاق الذي سمح الإسلام بظهور الملكية
    الخاصة فيه، لأن العمل أساس الملكية، وما دامت تلك الأموال ممتزجة
    بالعمل البشري فللعامل أن يتملكها، ويستعمل حقوق التملك من استمتاع
    واتجار وغيرهما.
    وأما الثروات العامة فهي: كل مال لم تتدخل اليد البشرية فيه كالأرض،
    فإنها مال لم تصنعه اليد البشرية. والإنسان وإن كان يتدخل أحياناً في
    تكييف الأرض بالكيفية التي تجعلها صالحة للزراعة والاستثمار، غير أن
    هذا التكييف محدود مهما فرض أمده، فإن عمر الأرض أطول منه، فهو
    لا يعدو أن يكون تكييفاً لفترة محدودة من عمر الأرض. وتشابه الأرض


    في ذلك رقبة المعادن والثروات الطبيعية الكامنة فيها، فإن مادة هذه المعادن
    الكامنة في الأرض ليست مدينة للعمل البشري في تكوينها أو تكييفها،
    وإنما يتدخل العمل في الكميات المستخرجة منها، التي ينفق جهد في سبيل
    إخراجها وفصلها عن بقية المواد الأرضية.
    وهذه الثروات العامة بحسب طبيعتها_ أو عنوانها الأولي كما يقول
    الفقهاء_ ليست مملوكة ملكية خاصة لفرد من الأفراد لأن أساس الملكية
    الخاصة هو العمل، فالأموال التي لا يمتزج بها العمل لا تدخل في المجال
    المحدد للملكية الخاصة، وإنما هي أموال مباحة إباحة عامة أو مملوكة ملكية
    عامة.
    فالأرض مثلاً_،بوصفها مالاً لا تدخل للعمل البشري فيه_ لا تملك
    ملكية خاصة. والعمل الذي يبذل في إحياء الأرض وإعدادها، لما كان
    تكييفاً مؤقتاً بمدة محدودة أقصر من عمر الأرض.. فهو لا يدرج الأرض
    في مجال الملكية الخاصة، وإنما يجعل للعامل حقاً في الأرض يسمح له بالإنتفاع
    بها، ومنع الآخرين من مزاحمته في ذلك، لأنه يمتاز عليهم بما أنفق على
    الأرض من طاقة. فمن الظلم أن يساوي بين الأيدي التي عملت وتعبت،
    وبين أيد أخرى لم تعمل في الأرض ولم تتعب في سبيلها فلأجل ذلك ميز
    العامل بحق في الأرض دون أن يسمح له بتملكها، ويستمر هذا الحق مادامت
    الأرض متكيفة وفقاً لعمله، فإذا أهمل الأرض سقط حقه الخاص.
    وهكذا يتضح أن القاعدة العامة هي: أن الملكية الخاصة لا تظهر إلا
    في الأموال التي امتزجت في تكوينها وتكييفها بالعمل البشري، دون الأموال
    والثروات الطبيعية التي لم تمتزج بالعمل، لأن سبب الملكية الخاصة هو
    العمل، فما لم يكن المال مندرجاً ضمن نطاق العمل البشري لا يدخل في
    مجال الملكية الخاصة.


    وللقاعدة بالرغم من ذلك استثناءاتها، لاعتبارات تتعلق بمصلحة الدعوة
    الإسلامية كما سنشير إليه فيما يأتي.
    الملكية أداة ثانوية للتوزيع
    ويأتي بعد العمل والحاجة دور الملكية بوصفها أداة ثانوية للتوزيع.
    وذلك أن الإسلام حين سمح بظهور الملكية الخاصة على أساس العمل،
    خالف الرأسمالية والماركسية معاً في الحقوق التي منحها للمالك، والمجالات
    التي فسح له بممارستها. فلم يسمح له باستخدام ماله في تنمية ثروته سماحاً
    مطلقاً دون تحديد، كما صنعت الرأسمالية: فأجازت كل ألوان الربح.
    ولم يغلق عليه فرصة الربح نهائياً، كما تفعل الماركسية: إذ تحرم الربح
    والاستثمار الفردي للمال بمختلف أشكاله.. وإنما وقف الإسلام موقفاً
    وسطاً: فحرّم بعض ألوان الربح كالربح الربوي، وسمح ببعض آخر
    كالربح التجاري.
    وهو في تحريمه لبعض ألوان الربح يعبر عن خلافه الأساسي مع
    الرأسمالية في الحرية الاقتصادية، التي مر بنا نقدها في بحث(مع الرأسمالية)،
    بوصفها أساساً للتفكير المذهبي الرأسمالي.
    وسوف ندرس في بحوث مقبلة بعض ألوان الربح المحرم في الإسلام،
    كالربح الربوي، ووجهة نظر الإسلام، في إلغائه.
    كما أن الإسلام في سماحه بالربح التجاري يعبر عن خلافه الأساسي
    مع الماركسية، في مفهومها عن القيمة والقيمة الفائضة، وطريقتها الخاصة
    في تفسير الأرباح الرأسمالية، كما مر بنا في دراستنا للمادية التاريخية.
    وباعتراف الإسلام بالربح التجاري أصبحت الملكية بنفسها أداة لتنمية
    المال، عن طريق الاتجار وفقاً للشروط والحدود الشرعية، وبالتالي أداة



    ثانوية للتوزيع، محدودة بحدود من القيم المعنوية والمصالح الاجتماعية التي
    يتبناها الإسلام.
    * * *
    هذه هي الصورة الإسلامية للتوزيع، نستخلصها مما سبق ضمن هذه
    السطور.
    العمل أداة رئيسية للتوزيع بوصفه أساساً للملكية، فمن يعمل في حقل
    الطبيعة يقطف ثمار عمله ويتملكها.
    الحاجة أداة رئيسية للتوزيع بوصفها تعبيراً عن حق إنساني ثابت في
    الحياة الكريمة، وبهذا تكفل الحاجات في المجتمع الإسلامي ويضمن إشباعها.
    الملكية أداة ثانوية للتوزيع عن طريق النشاطات التجارية التي سمح بها
    الإسلام ضمن شروط خاصة لا تتعارض مع المباديء الإسلامية للعدالة
    الاجتماعية، التي ضمن الإسلام تحقيقها كما سيأتي في شرح التفاصيل.
    التداول
    التداول(المبادلة) أحد الأركان الأساسية في الحياة الاقتصادية،
    وهو لا يقل أهمية عن الإنتاج والتوزيع، وإن كان متأخراً عنهما تاريخياً.
    فإن الوجود التاريخي للإنتاج والتوزيع يقترن دائماً بالوجود الاجتماعي
    للإنسان، فمتى وجد مجتمع إنساني فمن الضروري_ ليواصل حياته ويكسب
    معيشته_ أن يمارس لوناً من ألوان الإنتاج، وأن يوزع الثروة المنتجة على
    أفراده بأي شكل من أشكال التوزيع التي يتفق عليها. فلا حياة اجتماعية
    للإنسان دون إنتاج وتوزيع. وأما المبادلة فليس من الضروري أن توجد
    في حياة المجتمع منذ البدء. لأن المجتمعات في بداية تكوينها تعيش على




    الأغلب لوناً من الاقتصاد البدائي المقفل، الذي يعني: قيام كل عائلة في
    المجتمع بإنتاج كل ما تحتاج إليه، دون الاستعانة بمجهودات الآخرين.
    وهذا اللون من الاقتصاد المقفل لا يفسح مجالاً للمبادلة، مادام كل منتوج
    يستوعب بإنتاجه كل حاجاته البسيطة ويكتفي بما ينتجه من سلع.. وإنما
    تبدأ المبادلة دورها الفعال على الصعيد الاقتصادي، حين تتنوع حاجات
    الإنسان وتنمو، وتتعدد السلع التي يحتاجها في حياته ويصبح كل فرد عاجزاً
    بمفرده عن إنتاج كل ما يحتاجه من تلك السلع بأنواعها وأشكالها المختلفة،
    فيضطر المجتمع إلى تقسيم العمل بين أفراده، ويأخذ كل منتج_ أو فئة
    من المنتجين_ بالتخصص في إنتاج سلعة معينة من السلع المختلفة التي يحسن
    إنتاجها أكثر من غيرها، ويشبع حاجاته الأخرى بمبادلة الفائض من السلع
    التي ينتجها، بما يحتاجه من السلع التي ينتجها الآخرون، فتبدأ المبادلة في
    الحياة الاقتصادية بوصفها وسيلة لإشباع حاجات المنتجين، بدلاً عن
    تكليف كل منتج بإشباع حاجاته كلها بإنتاجه المباشر.
    وهكذا تنشأ المبادلة تيسيراً للحياة، وتجاوباً مع اتساع الحاجات واتجاه
    الإنتاج إلى التخصص والتطور.
    وعلى هذا الأساس نعرف: أن المبادلة في الحقيقة تعمل في الحياة
    الاقتصادية للمجتمع بوصفها واسطة بين الإنتاج والاستهلاك، أو بتعبير
    آخر بين المنتجين والمستهلكين. فالمنتج يجد دائماً عن طريق المبادلة المستهلك
    الذي يحتاج إلى السلعة التي ينتجها، وهذا المستهلك بدوره ينتج سلعة من
    نوع آخر ويحصل في المبادلة على المستهلك الذي يشتريها.
    ولكن ظلم الإنسان_ كما يعبر القرآن الكريم_ الذي حرم الإنسانية
    من بركات الحياة وخيراتها، وتدخّل في مجال التوزيع على حساب هذا
    الحق أو ذاك.. سرى أيضاً إلى المبادلة حتى طوّرها وصيّرها أداة استغلال
    وتعقيد، لا أداة إشباع للحاجات وتيسير للحياة، وواسطة بين الإنتاج
    والادخار لا بين الإنتاج والإستهلاك. فنشأ عن الوضع الظالم للمبادلة من
    المآسي وألوان الاستغلال، نظير ما نشأ عن الأوضاع الظالمة للتوزيع في
    مجتمعات الرق والإقطاع، أو في مجتمعات الرأسمالية والشيوعية.
    ولكي نشرح وجهة نظر الإسلام عن المبادلة لا بد لنا أن نعرف رأي
    الإسلام في السبب الأساسي الذي جعل من المبادلة أداة ظالمة للاستغلال،
    وما هي النتائج التي تمخض عنها، ثم ندرس الحلول التي تقدم بها الإسلام
    للمشكلة، وكيف أعطى للمبادلة صيغتها العادلة وقوانينها التي تواكب
    أغراضها الرشيدة في الحياة؟؟
    * * *
    وقبل كل شيء يجب أن نلاحظ أن للمبادلة شكلين:
    أحدهما: المبادلة على أساس المقايضة.
    والآخر: المبادلة على أساس النقد.
    فالمبادلة على أساس المقايضة: مبادلة سلعة بأخرى وهذا الشكل هو
    أسبق أشكال المبادلة تاريخياً، فقد كان كل منتج_ في المجتمعات الآخذة
    بالتخصص وتقسيم العمل_ يحصل على السلع التي لا ينتجها نظير الفائض
    من السلعة التي اختص بإنتاجها. فمن ينتج مائة كيلو من الحنطة يحتفظ
    بنصف المبلغ مثلاً لإشباع حاجته، ويستبدل خمسين كيلو من الحنطة
    بمبلغ معين من القطن الذي ينتجه غيره.
    ولكن هذا الشكل من المبادلة(المقايضة)، لم يستطع أن ييسر التداول
    في الحياة الاقتصادية، بل أخذ يزداد صعوبة وتعقيداً على مر الزمن كلما
    ازداد التخصص وتنوعت الحاجات، لأن المقايضة تضطر منتج الحنطة أن
    يجد حاجته من القطن عند شخص يرغب في الحصول على الحنطة، وأما إذا
    كان صاحب القطن بحاجة إلى فاكهة لا إلى حنطة، وليس لدى صاحب


    الحنطة فاكهة.. فسوف يتعذر على صاحب الحنطة أن يحصل على حاجته
    من القطن. وهكذا تتولد الصعوبات من ندرة التوافق بين حاجة المشتري
    وحاجة البائع.
    أضف إلى ذلك صعوبة التوافق بين قيم الأشياء المعدّة للمبادلة. فمن
    كان يملك فرساً لا يستطيع أن يحصل عن طريقها على دجاجة، لأن قيمة
    الدجاجة أقل من قيمة الفرس، وهو غير مستعد بطبيعة الحال للحصول
    على دجاجة واحدة نظير فرس كاملة، ولا هي قابلة للقسمة حتى يحصل
    على دجاجة نظير جزء منها.
    وكذلك أيضاً كانت عمليات المبادلة تواجه مشكلة أخرى هي:
    صعوبة تقدير قيم الأشياء المعدة للمبادلة، إذ لا بد لقياس قيمة الشيء الواحد
    من مقارنته بباقي الأشياء الأخرى، حتى تعرف قيمته بالنسبة إليها جميعاً.
    لهذه الأسباب بدأت المجتمعات التي تعتمد على المبادلة تفكر في تعديل
    المقايضة بشكل يعالج تلك المشاكل، فنشأت فكرة استعمال النقد بوصفه
    أداة للمبادلة بدلاً عن السلعة نفسها. وظهر على هذا الأساس الشكل الثاني
    للمبادلة، أي المبادلة على أساس النقد. فأصبح النقد وكيلاًُ عن السلعة التي
    كان يضطر المشتري إلى تقديمها للبائع في المقايضة. فبدلاً عن تكليف صاحب
    الحنطة_ في مثالنا_ بتقديم الفاكهة إلى صاحب القطن نظير القطن الذي
    يشتريه منه.. يصبح بإمكانه أن يبيع حنطته نظير نقد، ثم يشتري بالنقد
    القطن الذي يرغب فيه، وصاحب القطن بدوره يشترى الفاكهة التي يطلبها
    بما حصل عليه من نقود.
    * * *
    ووكالة النقد عن السلعة في عمليات التداول، كفلت حل المشاكل
    التي نجمت عن المقايضة وتذليل صعوباتها.


    فصعوبة التوافق بين حاجة المشتري وحاجة البائع زالت، إذ لم يعد
    من الضروري للمشتري أن يقدم إلى البائع السلعة التي يحتاجها، وإنما يكفي
    أن يقدم له النقد الذي يمكّنه من شراء تلك السلعة من منتجيها بعد ذلك.
    وصعوبة التوافق بين قيم الأشياء قد ذللت، لأن قيمة كل سلعة أصبحت
    تقدر بالنسبة للنقود وهي قابلة للقسمة.
    كما أصبح من الميسور تقدير قيم الأشياء بسهولة، لأنها تقدر كلها
    بالنسبة لسلعة واحدة، وهي النقد بوصفه المقياس العام للقيمة.
    وكل هذه التسهيلات نتجت من وكالة النقد عن السلعة في مجالات
    التداول.
    وهذا هو الجانب المضيء المشرق من وكالة النقد عن السلعة، الذي
    يشرح: كيف تؤدي الوكالة وظيفتها الاجتماعية التي خلقت لأجلها،
    وهي تيسير عمليات التداول؟
    ولكن هذه الوكالة لم تقف عند هذا الحد على مر الزمن، بل أخذت
    تلعب دوراً خطيراً في الحياة الاقتصادية، حتى تمخض ذلك عن صعاب
    ومشاكل لا تقل عن مشاكل المقايضة وصعابها، غير أن تلك مشاكل
    طبيعية، وأما المشاكل الجديدة التي نتجت عن وكالة النقد فهي مشاكل
    إنسانية، تعبر عن ألوان الظلم والاستغلال التي مهدت لها وكالة النقد عن
    السلعة في مجالات التداول.
    ولكي نعرف ذلك، يجب أن نلاحظ التطورات التي حصلت في عمليات
    المبادلة نتيجة لتبدل شكلها، وقيامها على أساس النقد بدلاً عن قيامها على
    أساس المقايضة المباشرة.
    ففي المبادلة القائمة على أساس المقايضة، لم يكن يوجد حد فاصل بين
    البائع والمشتري، فقد كان كل من المتعاقدين بائعاً ومشترياً في نفس الوقت،


    لأنه يدفع سلعة إلى صاحبه ويتسلم نظيرها سلعة أيضاً. ولهذا كانت المقايضة
    تشبع بصورة مباشرة حاجة المتعاقدين معاً، فيخرجان من عملية التداول
    وقد حصل كل منهما على السلعة التي يحتاجها في استهلاكه أو إنتاجه،
    كالحنطة أو المحراث. وفي هذا الضوء نعرف: أن الشخص في عصر
    المقايضة لم يكن يتاح له أن يتقمص شخصية البائع، دون أن يكون مشترياً
    في نفس الوقت، فلا بيع بدون شراء. والبائع يدفع بإحدى يديه سلعته إلى
    المشتري بوصفه بائعاً، ليستلم منه بيده الأخرى سلعة جديدة بوصفه مشترياً.
    والبيع والشراء مزدوجان في عملية واحدة.
    وأما في المبادلات القائمة على أساس النقد فالأمر يختلف اختلافاً كبيراً،
    لأن النقد يضع حداً فاصلاً بين البائع والمشتري، فالبائع هو صاحب السلعة،
    والمشتري هو الذي يبذل نقداً إزاء تلك السلعة. والبائع الذي يبيع حنطة
    ليحصل على قطن، بينما كان يستطيع أن يبيع حنطة ويحصل على حاجته
    من القطن في مبادلة واحدة، على أساس المقايضة. يصبح مضطراً الآن:
    إلى القيام بمبادلتين ليحصل على طلبته، يقوم في إحداهما بدور البائع فيبيع
    حنطته بنقد معين، ويقوم في الأخرى بدور المشتري فيشتري قطناً بذلك
    النقد. وهذا يعني فصل البيع عن الشراء، بينما كانا مزدوجين في المقايضة.
    وفصل البيع عن الشراء في عمليات المبادلة القائمة على أساس النقد، فسح
    المجال لتأخير الشراء عن البيع. فالبائع لم يعد يمكنه أن يبيع حنطته نظير نقد
    معين ويحتفظ بالنقد لنفسه، ويؤجل شراء القطن إلى وقت آخر.
    وهذه الفرصة الجديدة التي وجدها البائعون بخدمتهم_ فرصة تأخير
    الشراء عن البيع_ غيرت الطابع العام للبيوع والمبادلات. فبينما كان
    البيع في عصر المقايضة، يستهدف منه دائماً شراء سلعة من السلع التي
    يحتاجها البائع، أصبح للبيع في عصر النقد هدف جديد. فالبائع يتخلص


    من سعته في المبادلة لا ليظفر بسلعة أخرى، بل ليحصل على مزيد من النقد
    بوصفه الوكيل العام عن السلع، الذي يجعل بإمكانه شراء أي سلعة شاء في
    كل حين.. وهكذا تحول البيع للشراء إلى البيع لامتصاص النقود، ونشأت
    عن ذلك ظاهرة اكتناز المال وتجميده مجسداً في تلك النقود. لأن النقد
    _ ونعني بوجه خاص النقود المعدنية والورقية_ يمتاز على سائر السلع فإن
    أية سلعة أخرى لم يكن يجدي اكتنازها، لأن أكثر السلع تنقص قيمتها على
    مر الزمن، وقد يتطلب الاحتفاظ بها وبجدتها إلى نفقات عديدة، ومن
    ناحية أخرى: قد لا يتيسر لمالك تلك السلعة المكتنزة الظفر بما يطلبه المكتنز
    من سلع أخرى في وقت الحاجة، فلا يكون في اكتنازها ضمان الحصول
    على شتى الطلبات في كل حين.
    وعلى العكس من ذلك كله النقد، فإنه قابل للبقاء والادخار، ولا
    يكلف اكتنازه شيئاً من النفقات، كما أنه بوصفه الوكيل العام عن السلع
    يضمن للمكتنز قدرته على شراء أي سلعة شاء، في كل وقت.
    وهكذا توفرت دواعي الاكتناز لدى المجتمعات التي بدأت المبادلة
    فيها تقوم على أساس النقود، وعلى أساس النقود الذهبية والفضية بوجه خاص.
    ونجم عن ذلك: أن تخلت المبادلة عن وظيفتها الصالحة في الحياة
    الاقتصادية، كواسطة بين الإنتاج والاستهلاك، وأصبحت واسطة بين
    الإنتاج والادخار. فالبائع ينتج ويبيع ويبادل منتوجه بنقد ليدخر هذا النقد
    ويضمه إلى ثروته المكتنزة، والمشتري يقدم النقد إلى البائع ليحصل على
    السلعة التي يبيعها، ثم لا يتمكن هو بعد ذلك أن يبيع منتوجه بدوره، لأن
    البائع اكتنز النقد وسحبه من مجال التداول.
    ونتج عن ذلك أيضاً اختلال كبير في التوازن بين كمية العرض وكمية
    الطلب: ذلك أن العرض والطلب كانا يميلان إلى التساوي في عصر المقايضة،
    لأن كل منتج كان ينتج لإشباع حاجاته واستبدال الفائض عن حاجته بسلع

    أخرى يحتاجها في حياته، من غير النوع الذي ينتجه. فالمنتوج دائماً يوازي
    حاجته، أي أن العرض دائماً يجد طلباً مساوياً له. وبذلك تتجه أثمان السوق
    إلى درجتها الطبيعية، التي تعبر عن القيم الحقيقية للسلع وأهميتها الواقعية في
    حياة المستهلكين وبعد أن بدأ عصر النقد وسيطر النقد على التجارة، واتجه
    الإنتاج والبيع اتجاهاً جديداً حتى أصبح الإنتاج والبيع لأجل اكتناز النقد
    وتنمية الملك لا لأجل إشباع الحاجة. عند ذلك يختل طبعاً التوازن بين العرض
    والطلب، وتلعب دواعي الاحتكار دورها الخطير في تعميق هذا التناقض
    بين العرض والطلب، حتى أن المحتكر قد يخلق طلباً كاذباً فيشتري كل
    أفراد السلعة من السوق لا لحاجته إليها بل ليرفع ثمنها، أو يعرض السلعة
    بأثمان دون كفلتها، بقصد إلجاء المنتجين والبائعين الآخرين إلى الانسحاب
    من ميدان التنافس وإعلان الإفلاس.. وهكذا تتخذ الأثمان وضعاً غير
    طبيعي، ويصبح السوق تحت سيطرة الاحتكار، ويتهاوى آلاف البائعين
    والمنتجين الصغار كل حين، بين أيدي المحتكرين الكبار الذين سيطروا على
    السوق.
    ثم ماذا بعد ذلك؟‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍! ليس بعد ذلك إلا أن نرى الأقوياء في الحقل
    الاقتصادي، يغتنمون هذه الفرص التي أتاحها لهم النقد، فيتجهون نحو
    الاكتناز بكل قواهم، نحو البيع لأجل الادخار، فيظلون ينتجون ويبيعون
    ليسحبوا النقد المتداول في المجتمع إلى كنوزهم، ويمتصوه بالتدريج،
    ويعطلوا وظيفة المبادلة كواسطة بين الإنتاج والاستهلاك، ويضطروا الكثرة
    الكاثرة إلى مهاوي البؤس والفقر، وبالتالي يتوقف الاستهلاك، نظراً إلى
    انخفاض المستوى الاقتصادي للجمهور وعجزهم عن الشراء، كما تتعطل
    حركة الإنتاج، لأن انعدام القدرة الشرائية عند المستهلكين أو انخفاضها
    يجرد الإنتاج من أرباحه، ويعم الكساد شعب الحياة الاقتصادية كلها.
    * * *

    ولا تقف مشاكل النقد عند هذا الحد، بل إن النقد قد أدى إلى مشكلة
    قد تكون أخطر من المشاكل التي عرضناها. فلم يقتصر النقد على أن يكون
    أداة اكتناز، بل أصبح أداة تنمية للمال عن طريق الفائدة التي يتقاضاها
    الدائنون من مدينيهم، أو يتقاضاها أصحاب الأموال من المصارف الرأسمالية
    التي يودعون أموالهم فيها.. وهكذا أصبح الاكتناز في البيئة الرأسمالية سبباً
    لتنمية الثروة بدلاً عن الإنتاج، وانسحبت بذلك رؤوس أموال كثيرة
    من حقل الإنتاج إلى صناديق الادخار في المصارف، وأصبح التاجر لا يقدم
    على مشروع من مشاريع الإنتاج والتجارة، إلا إذا اطمأن إلى أن الربح
    الذي يدرّه المشروع عادة أكثر من الفائدة التي يمكن أن يحصل عليها عن
    طريق إقراض ماله، أو إبداعه في المصارف.
    وأخذت الأموال على أساس الفائدة الربوية تتسرب إلى الصيارفة منذ
    بداية العصر الرأسمالي، حيث أخذ هؤلاء يجذبون الكميات المكتنزة من النقد
    عند مختلف الأفراد، عن طريق إغرائهم بالفائدة السنوية التي يتقاضاها
    زبائن المصرف عن أموالهم التي يودعونها فيه، فتجمعت تلك الكميات
    المختلفة في كنوز الصيارفة بدلاً عن استخدامها في الإنتاج المثمر، وقامت
    على أساس هذا التجمع المصارف والبيوت المالية الكبيرة التي امتلكت زمام
    الثروة في البلاد، وقضت على أي مظهر من مظاهر التوازن في الحياة
    الاقتصادية.
    * * *
    هذا عرض سريع لمشاكل التداول أو المبادلة، وهو يوضح بجلاء أن
    هذه المشاكل قد نبعت كلها من النقد وسوء استخدامه في مجال التداول،
    إذ اتخذ أداة اكتناز وبالتالي أداة تنمية للملك.
    وقد يلقي هذا ضوءاً على ما جاء في الحديث عن رسول الله (ص)


    أنه قال:(الدنانير الصفر والدراهم البيض مهلكاكم كما أهلكا من كان
    قبلكم).
    وعلى أي حال فقد عالج الإسلام هذه المشاكل النابعة من النقد،
    واستطاع أن يعيد إلى التداول وضعه الطبيعي ودوره الوسيط بين الإنتاج
    والاستهلاك.
    وتتلخص النقاط الرئيسية في الموقف الإسلامي من مشاكل التداول
    فيما يلي:
    أولاً: منع الإسلام من اكتناز النقد، وذلك عن طريق فرض ضريبة
    الزكاة على النقد المجمد بصورة تتكرر في كل عام، حتى تستوعب النقد
    المكتنز كله تقريباً إذا طال اكتنازه عدة سنين. ولهذا يعتبر القرآن اكتناز
    الذهب والفضة جريمة يعاقب عليها بالنار. لأن الاكتناز يعني بطبيعة الحال
    التخلف عن أداء الضريبة الواجبة شرعاً، لأن هذه الضريبة لدى أدائها
    لا تفسح مجالاً أمام النقد للتجمع والاكتناز، فلا غرو إذا هدد القرآن
    الذين يكنزون الذهب والفضة وتوعدهم بالنار قائلاً: (والذين يكنزون
    الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم، يوم يحمى
    عليها في نار جهنم فتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم، هذا ما كنز تم
    لأنفسكم فذوقوا ما كنت تكنزون).
    وعن هذا الطريق ضمن الإسلام بقاء المال في مجالات الإنتاج والتبادل
    والاستهلاك، وحال دون تسلله إلى صناديق الاكتناز والادخار.
    وثانياً: حرم الإسلام الربا تحريماً قاطعاً لا هوادة فيه، وبذلك قضي
    على الفائدة ونتائجها الخطيرة في مجال التوزيع، وما تؤدي إليه من إخلال
    بالتوازن الاقتصادي العام، وانتزع من النقد دوره بوصفه أداة تنمية للملك
    مستقلة بذاتها، ورده إلى دوره الطبيعي الذي يباشره بوصفه وكيلاً عاماً
    عن السلع، وأداة لقياس قيمتها وتسهيل تداولها.

    وقد يظن كثير ممن عاش التجربة الرأسمالية وألف ألوانها وأشكالها:
    أن القضاء على الفائدة يعني القضاء على البنوك والمصارف، وتعطيل أجهزة
    الحياة الاقتصادية وشل كل أعصابها وأوردتها التي تمونها تلك البنوك
    والمصارف. ولكن هذا الظن إنما ينشأ عند هؤلاء نتيجة للجهل بواقع الدور
    الذي تؤديه البنوك والمصارف في الحياة الاقتصادية، وبواقع الصورة
    الإسلامية للتنظيم الاقتصادي الكفيل بعلاج سائر المشاكل التي تنجم عن
    القضاء على الفائدة، وهذا ما سندرسه بتفصيل في بحث مقبل.
    وثالثاً: أعطى لولي الأمر صلاحيات تجعل له الحق في الرقابة الكاملة
    على سير التداول والإشراف على الأسواق، للحيلولة دون أي تصرف
    يؤدي إلى الضرر وزعزعة الحياة الاقتصادية، أو يمهد للتحكم الفردي
    غير المشروع في السوق وفي مجال التداول.
    وسوف نشرح هذه النقاط وندرسها بصورة موسعة في البحوث المقبلة
    من الكتاب، التي نعرض فيها لتفاصيل الاقتصاد الإسلامي.
    [/align]
    يا محوّل الحول والاحوال ، حوّل حالنا إلى أحسن الحال......








  12. #27
    تاريخ التسجيل
    Feb 2006
    المشاركات
    16

    افتراضي

    أثابكم الله وأحسن إليكم، ولكل من ساهم بتقديمه عبر شبكتكم الرائعة

  13. #28
    تاريخ التسجيل
    Jul 2004
    الدولة
    هناك
    المشاركات
    28,205

    افتراضي

    جميعاً إن شاء الله
    يا محوّل الحول والاحوال ، حوّل حالنا إلى أحسن الحال......








  14. #29
    تاريخ التسجيل
    Dec 2005
    المشاركات
    3

    افتراضي

    بارك الله فيكم لكن لو كان بصيغة فايل تنزيل اقصد PDF افضل وأكثر فائدة انشاء الله وبارك الله فيكم

  15. #30
    تاريخ التسجيل
    Jul 2004
    الدولة
    هناك
    المشاركات
    28,205

    افتراضي

    وبارك الله بكم

    أخي إن شاء الله ساقوم بتحويله وادرجه هنا

    تحياتي
    يا محوّل الحول والاحوال ، حوّل حالنا إلى أحسن الحال......








صفحة 2 من 3 الأولىالأولى 123 الأخيرةالأخيرة

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •  
 
شبكة المحسن عليه السلام لخدمات التصميم   شبكة حنة الحسين عليه السلام للانتاج الفني