صفحة 1 من 3 123 الأخيرةالأخيرة
النتائج 1 إلى 15 من 34
  1. #1
    تاريخ التسجيل
    Jul 2004
    الدولة
    هناك
    المشاركات
    28,205

    افتراضي إقتصادنا >>> للشهيد السيد محمد باقر الصدر >>>

    [align=center]

    بسم الله الرحمن الرحيم
    يسرني أن أقدم للطبعة الثانية لكتاب اقتصادنا وقد ازددت إيماناً واقتناعاً
    بأن الأمة قد بدأت فعلاً تنفتح على رسالتها الحقيقية التي يمثلها الإسلام وتدرك
    بالرغم من ألوان التَضليل الاستعماري أن الإسلام هو طريق الخلاص وأن
    النظام الإسلامي هو الإطار الطبيعي الذي يجب أن تحقق حياتها و تفجر طاقاتها
    ضمنه و تنشىء كيانها على أساسه.
    وقد كان بودي أن تتاح لي فرصة للتوسع في بعض مواضيع الكتاب
    وتسليط المزيد من الأضواء على عدد من النقاط التي تناولها ولكني
    إذ لا أجد الآن مجالاً للحديث عن بحوث الكتاب فلن أدع هذه المناسبة دون
    كلمة عن موضوع الكتاب ذاته وصلة هذا الموضوع الخطير بحياة الأمة
    ومشاكلها وأهميتها المتنامية على مر الزمن على الصعيد الإسلامي و الصعيد
    البشري على السواء.
    فالأمة على الصعيد الإسلامي وهي تعيش جهادها الشامل ضد تخلفها
    وانهيارها وتحاول التحرك السياسي والاجتماعي نحو وجود أفضل وكيان
    أرسخ واقتصاد أغني وارفه سوف لن تجد أمامها عقيب سلسلة من محاولات


    الخطأ والصواب إلا طريقاً واحداً للتحرك وهو التحرك في الخط الإسلامي
    ولن تجد إطاراً تضغ ضمنه حلولها لمشاكل التخلف الاقتصادي سوى إطار
    النظام الاقتصادي في الإسلام.
    والإنسانية على الصعيد البشري وهي تقاسي أشد ألوان القلق والتذبذب
    بين تيارين عالميين ملغمين بقنابل الذرة والصواريخ ووسائل الدمار لن تجد
    لها خلاصاً إلا على الباب الوحيد الذي بقي مفتوحاً من أبواب السماء وهو
    الإسلام.
    ولنأخذ في هذه المقدمة الصعيد الإسلامي بالحديث.
    على الصعيد الإسلامي:
    حينما أخذ العالم الإسلامي ينفتح على حياة الإنسان الأوروبي ويذعن
    لإمامته الفكرية وقيادته لموكب الحضارة بدلاً عن إيمانه برسالته الأصيلة
    وقيمومتها على الحياة البشرية بدأ يدرك دوره في الحياة ضمن إطار التقسيم
    التقاليدي لبلاد العالم الذي درج عليه الإنسان الأوروبي حين قسم العالم على
    أساس المستوي الاقتصادي للبلد وقدرته المنتجة إلى بلاد راقية اقتصادياً وبلاد
    فقيرة أو متخلفة اقتصادياً وكانت بلاد العالم الإسلامي كلها من القسم الثاني
    الذي كان يجب عليه في منطق الإنسان الأوروبي أن يعترف بإمامة البلاد
    الراقية ويفسح المجال لها لكي تنفث روحها فيه وتخطط له طريق الإرتفاع.
    وهكذا دشن العالم الإسلامي حياته مع الحضارة الغريب بوصفه مجموعة
    من البلاد الفقيرة اقتصادياً ووعى مشكلته على أساس أنها هي التخلف
    الاقتصادي عن مستوي البلاد المتقدمة الذي أتاح لها تقدمها الاقتصادي
    زعامة العالم ولقنته تلك البلاد المقتدمة أن الأسلوب الوحيد للتغلب على هذه


    المشكلة والالتحاق بركب البلاد المتقدمة هو اتخاذ حياة الإنسان الأوروبي
    تجربة رائدة وقائدة وترسّم خطوات هذه التجربة لبناء اقتصاد كامل شامل
    قادر على الارتفاع بالبلاد الإسلامية المتخلفة إلى مستوي الشعوب الأوروبية
    الحديثة.
    وقد عبّرت التبعية في العالم الإسلامي لتجربة الإنسان الأوروبي الرائد
    للحضارة الحديثة عن نفسها بأشكال ثلاثة مترتبة زمنياً ولا تزال هذه الأشكال
    الثلاثة متعاصرة في أجزاء مختلفة من العالم الإسلامي.
    الأول: التبعية السياسية التي تمثلت في ممارسة الشعوب الأوروبية الراقية
    اقتصادياً حكم الشعوب المتخلفة بصورة مباشرة.
    الثاني: التبعية الاقتصادية التي رافقت قيام كيانات حكومية مستقلة
    من الناحية السياسية في البلاد المتخلفة وعبرت عن نفسها في فسح المجال
    للاقتصاد الأوروبي لكي يلعب على مسرح تلك البلاد بأشكال مختلفة ويستثمر
    موادها الأولية ويملأ فراغاتها برؤوس أموال أجنبية و يحتكر عدداً من مرافق
    الحياة الاقتصادية فيها بحجة تمرين أبناء البلاد المتخلفين على تحمل أعباء
    التطوير الاقتصادي لبلادهم.
    الثالث: التبعية في المنهج التي مارستها تجارب عديدة في داخل العالم
    الإسلامي حاولت أن تستقل سياسياً وتتخلص من سيطرة الاقتصاد الأوروبي
    اقتصادياً وأخذت تفكر في الاعتماد على قدرتها الذاتية في تطوير اقتصادها
    والتغلب على تخلفها غير أنها لم تستطع أن تخرج في فهمها لطبيعة المشكلة التي
    يجسدها تخلفها الاقتصادي عن إطار الفهم الأوروبي لها فوجدت نفسها
    مدعوة لاختيار نفس المنهج الذي سلكه الإنسان الأوروبي في بنائه الشامخ
    لاقتصاده الحديث.
    وبالرغم من اختلافات نظرية كبيرة نشأت بين تلك التجارب خلال


    رسم المنهج و تطبيقه فإن هذه الاختلافات لم تكن دائماً إلا اختلافاً حول
    اختيار الشكل العام للمنهج من بين الأشكال المتعددة التي اتخذها المنهج في
    تجربة الإنسان الأوروبي الحديث فاختيار المنهج الذي سلكته التجربة الرائدة
    للإنسان الأوروبي الحديث كان موضع وفاق لأنه ضريبة الأمانة الفكرية
    للحضارة الغربية وإنما الخلاف في تحديد شكل واحد من أشكالها.
    وتواجه التجارب الحديثة للبناء الاقتصادي في العالم الإسلامي عادة
    شكلين لتجربة البناء الاقتصادي في الحضارة الغربية الحديثة وهما الاقتصاد
    الحر القائم على أساس رأسمالي والاقتصاد المخطط القائم على أساس اشتراكي.
    فإن كلاً من هذين الشكلين قد عاش تجربة ضخمة في بناء الاقتصاد
    الأوروبي الحديث والصيغة التي طرحت للبحث على مستوي التطبيق في
    العالم الإسلامي على الأكثر ما هو الشكل الأجدر بالأتباع من هذين الشكلين
    وأقدر على إنجاح كفاح الأمة ضد تخلفها الاقتصادي وبناء اقتصاد رفيع على
    مستوى العصر.
    و كان الاتجاه الأقدم حدوثاً في العالم الإسلامي يميل إلى اختيار الشكل
    الأول للتنمية وبناء الاقتصاد الداخلة للبلاد أي الاقتصاد الحر القائم على أساس
    رأسمالي نتيجة لأن المحور الرأسمالي للاقتصاد الأوروبي كان أسرع
    المحورين للنفوذ إلى العالم الإسلامي واستقطابه كمراكز نفوذ.
    وعبر صراع الأمة سياسياً مع الاستعمار ومحاولتها التحرر من نفوذ
    المحور الرأسمالي وجدت بعض التجارب الحاكمة أن النقيض الأوروبي
    للمحور الرأسمالي هو المحور الاشتراكي فنشأ اتجاه آخر يميل إلى اختيار
    الشكل الثاني للتنمية أي التخطيط القائم على أساس اشتراكي نتيجة للتوفيق
    بين الإيمان بالإنسان الأوروبي كرائد للبلاد المتخلفة وواقع الصراع مع
    الكيان السياسي للرأسمالية فما دامت تبعية البلاد المتخلفة للبلاد الراقية اقتصادياً


    تفرض عليها الإيمان بالتجربة الأوروبية كرائد وما دام الجناح الرأسمالي من
    هذه التجربة يصطدم مع عواطف المعركة ضد الواقع الاستعماري المعاش
    فليؤخذ بالتخطيط الاشتراكي بوصفه الشكل الآخر للتجربة الرائدة.
    ولكل من الاتجاهين أدلته التي يبرر بها وجهة نظره فالاتجاه الأول يبرر
    عادة التقدم العظيم الذي حصلت عليه الدول الأوروبية الرأسمالية و ما أحرزته
    من مستويات في الإنتاج والتصنيع نتيجة لانتهاج الاقتصاد الحر كأسلوب
    للتنمية و يضيف إلى ذلك أن بإمكان البلاد المتخلفة إذا انتهجت نفس الأسلوب وعاشت نفس التجربة أن تختصر الطريق و تقفز في زمن أقصر إلى المستوى
    المطلوب من التنمية الاقتصادية لأنها سوف تستفيد من خبرات التجربة
    الرأسمالية للإنسان الأوروبي و تستخدم كل القدرات العلمية الناجزة التي
    كلفت الإنسان الأوروبي مئات السنين حتى ظفر بها.
    والاتجاه الثاني يفسر اختياره للاقتصاد المخطط على أساس اشتراكي
    بدلاً عن الاقتصاد الحر بأن الاقتصاد الحر إن كان قد استطاع أن يحقق
    للدول الأوروبية الرائدة في العالم الرأسمالي مكاسب كبيرة و تقديماً مستمراً
    في التكنيك والإنتاج ونمواً متزايداً للثروة الداخلية للبلاد فليس بالإمكان أن
    يؤدي دوراً مماثلاً للبلاد المتخلفة اليوم لأن البلاد المتخلفة تواجه اليوم تحدياً
    اقتصادياً هائلاً يمثله التقدم العظيم الذي أحرزته دول الغرب وتقابل إمكانات
    هائلة منافسة لا حد لها على الصعيد الاقتصادي بينما لم تكن الدول المتقدمة
    فعلاً تواجه هذا التحدي الهائل وتقابل هذه الإمكانات المنافسة حين بدأت
    عملية التنمية الاقتصادية وشنت حربها ضد أوضاع التخلف الاقتصادي واتخذت
    من الاقتصاد الحر منهجاً وأسلوباً فلا بد للبلاد المتخلفة اليوم من تعبئة كل
    القوى والطاقات لعملية التنمية الاقتصادية بصورة سريعة ومنظمة في نفس
    الوقت وذلك عن طريق الاقتصاد المخطط القائم على أساس اشتراكي.

    ويعتمد كل من الاتجاهين في تفسيره لما يمنى به من فشل في مجال التطبيق
    على الظروف المصطنعة التي يخلقها المستعمرون في المنطقة لكي يعرقلوا فيها
    عمليات النمو ولا يسمح لنفسه على أساس ذلك أن يفكر حين الإحساس
    بالفشل في أي منهج بديل للشكلين التقليديين اللذين اتخذتهما التجربة الأوروبية الحديثة في الغرب والشرق بالرغم من وجود بديل جاهز لا يزال يعيش نظرياً
    وعقائدياً في حياة الأمة وإن كان منعزلاً عن مجال التطلبيق وهو المنهج الإسلامي
    والنظام الاقتصادي في الإسلام.
    و أنا لا أريد هنا أن أقارن بين الاقتصاد الإسلامي والاقتصادين الرأسمالي والاشتراكي من وجهة نظر اقتصادية مذهبية فإن هذا ما أتركه للكتاب نفسه
    فقد قام كتاب اقتصادنا بدراسة مقارنة بهذا الصدد وإنما أريد أن أقارن بين
    الاقتصاد الأوروبي بكلا جناحيه الرأسمالي والاشتراكي والاقتصاد الإسلامي
    من ناحية قدرة كل منهما على المساهمة في معركة العالم الإسلامي ضد
    التخلف الاقتصادي ومدى قابلية كل واحد من هذه المناهج ليكون إطاراً
    لعملية التنمية الاقتصادية.
    ونحن حين نخرج من نطاق المقارنة بين هذه المناهج الاقتصادية في محتواها
    الفكري والمذهبي إلى المقارنة بينها في قابليتها التطبيقية لإعطاء إطار للتنمية
    الاقتصادية يجب أن لا نقيم مقارنتنا على أساس المعطيات النظرية لكل واحد
    من تلك المناهج فحسب بل لابد أن نلاحظ بدقة الظروف الموضوعية للأمة
    وتركيبها النفسي والتاريخي لأن الأمة هي مجال التطبيق لتلك المناهج فمن
    الضروري أن يدرس المجال المفروض للتطبيق وخصائصه وشروطه بعناية
    ليلاحظ ما يقدر لكل منهج من فاعلية لدى التطبيق. كما أن فاعلية الاقتصاد
    الحر الرأسمالي أو التخطيط الاشتراكي في تجربة الإنسان الأوروبي لا تعني
    حتماً أن هذه الفاعلية نتيجة للمنهج الاقتصادي فحسب لكي تتوفر متي اتبع
    نفس المنهج بل قد تكون الفاعلية ناتجة عن المنهج باعتباره جزءاً من كل


    مترابط و حلقة من تاريخ فإذا عزل المنهج عن إطاره وتاريخه لم تكن له تلك
    الفاعلية ولا تلك الثمار.
    ومن خلال دراسة مقارنة للمذاهب الاقتصادية المتعددة وإمكانات
    نجاحها عملياً في العالم الإسلامي يجب إبراز حقيقة أساسية يرتبط بها تقدير
    الموقف إلى درجة كبيرة وهي أن حاجة التنمية الاقتصادية إلى منهج اقتصادي
    ليست مجرد حاجة إلى أطار من أطر التنظيم الاجتماعي تتبناه الدولة فحسب
    لكي يمكن أن توضع التنمية ضمن هذا الإطار أو ذاك بمجرد تبنّي الدولة
    له والتزامها به بل لا يمكن للتنمية الاقتصادية والمعركة ضد التخلف
    أن تؤدي دورها المطلوب إلا إذا اكتسبت إطاراً يستطيع أن يدمج الأمة
    ضمنه وقامت على أساس يتفاعل معها. فحركة الأمة كلها شرط أساسي
    لإنجاح أي تنمية وأي معركة شاملة ضد التخلف لأن حركتها تعبير عن
    نموها ونمو إرادتها وانطلاق مواهبها الداخلية وحيث لا تنمو الأمة لا يمكن
    أن تمارس عملية تنمية فالتنمية للثروة الخارجية والنمو الداخلي للأمة يجب أن يسيرا في خط واحد.
    و تجربة الإنسان الأوروبي الحديث هي بالذات تعبير تاريخي واضح عن
    هذه الحقيقة. فإن مناهج الاقتصاد الأوروبي كإطارات لعملية التنمية لم
    تسجل نجاحها الباهر على المستوى المادي في تاريخ أوروبا الحديث إلا بسبب
    تفاعل الشعوب الأوروبية مع تلك المناهج وحركتها في كل حقول الحياة
    وفقاً لاتجاه تلك المناهج ومتطلباتها واستعدادها النفسي المتناهي خلال تاريخ
    طويل هذا الاندماج والتفاعل.
    فحين نريد أن نختار منهجاً أو إطاراً عاماً للتنمية الاقتصادية داخل العالم
    الإسلامي يجب أن نأخذ هذه الحقيقة أساساً ونفتش في ضوئها عن مركب
    حضاري قادر على تحريك الأمة وتعبئة كل قواها وطاقاتها للمعركة ضد


    التخلف ولابد حينئذ أن نُدخل في هذا الحساب مشاعر الأمة ونفسيتها
    وتاريخها وتعقيداتها المختلفة.
    ومن الخطأ ما يرتكبه كثير من الاقتصاديين الذين يدرسون اقتصاد
    البلاد المتخلفة وينقلون إليها المناهج الأوروبية للتنمية دون أن يأخذوا بعين
    الاعتبار درجة إمكان تفاعل شعوب تلك البلاد مع هذه المناهج ومدى قدرة
    هذه المناهج المنقولة على الالتحام مع الأمة.
    فهناك مثلاً الشعور النفسي الخاص الذي تعيشه الأمة في العالم الإسلامي
    تجاه الاستعمار الذي يتسم بالشك والاتهام والخوف نتيجة لتاريخ مرير طويل
    من الاستغلال والصراع، فإن هذا الشعور خلق نوعاً من الإنكماش لدى
    الأمة عن المعطيات التنظيمية للإنسان الأوروبي وشيئاً من القلق تجاه الأنظمة
    المستمدة من الأوضاع الاجتماعية في بلاد المستعمرين وحساسية شديدة ضدها
    وهذه الحساسية تجعل تلك الأنظمة حتى لو كانت صالحة ومستقلة عن الاستعمار
    من الناحية السياسية غير قادرة على تفجير طاقات الأمة وقيادتها في معركة
    البناء فلا بد للأمة إذن بحكم ظروفها النفسية التي خلقها عصر الاستعمار
    وانكماشها تجاه ما يتصل به أن تقيم نهضتها الحديثة على أساس نظام اجتماعي
    ومعالم حضارية لا تمت إلى بلاد المستعمرين بنسب.
    وهذه الحقيقة الواضحة هي التي جعلت عدداً من التكتلات السياسية في
    العالم الإسلامي تفكر في اتخاذ القومية فلسفة وقاعدة للحضارة وأساساً للتنظيم الاجتماعي حرصاً منهم على تقديم شعارات منفصلة عن الكيان الفكري
    للاستعمار انفصالاً كاملاً غير أن القومية ليست إلا رابطة تاريخية ولغوية
    وليست فلسفة ذات مبادىء ولا عقيدة ذات أسس بل حيادية بطبيعتها تجاه
    تخلف الفلسفات والمذاهب الاجتماعية والعقائدية والدينية، وهي لذلك بحاجة
    إلى الأخذ بوجهة نظر معينة تجاه الكون والحياة وفلسفة خاصة تصوغ على
    أساسها معالم حضارتها ونهضتها وتنظيمها الاجتماعي.

    ويبدو أن كثيراً من الحركات القومية أحست بذلك أيضاً و أدركت
    أن القومية كمادة خام بحاجة إلى الأخذ بفلسفة اجتماعية ونظام اجتماعي
    معين وحاولت أن توفق بين ذلك وبين أصالة الشعار الذي ترفعه وانفصاله
    عن الإنسان الأوروبي فنادت بالاشتراكية العربية. نادت بالإشتراكية لأنها
    أدركت أن القومية وحدها لا تكفي بل هي بحاجة إلى نظام ونادت بها في
    إطار عربي تفادياً لحساسية الأمة ضد أي شعار أو فلسفة مرتبطين بعالم
    المستعمرين فحاولت عن طريق توصيف الاشتراكية بالعربية تغطية
    الأجنبي المتمثل في الاشتراكية من الناحية التاريخية والفكرية وهي تغطية
    فاشلة لا تنجح في استغفال حساسية الأمة لأن هذا الإطار القلق ليس إلا مجرد
    تأطير ظاهري وشكليّ للمضمون الأجنبي الذي تمثله الاشتراكية وإلا فأي
    دور يلعبه هذا الإطار في مجال التنظيم الاشتراكي وأي تطوير للعامل العربي
    في المواقف وما معنى أن العربية كلغة وتاريخ أو دم وجنس تطوّر فلسفة
    معينة للتنظيم الاجتماعي بل كل ما وقع في المجال التطبيقي نتيجة للعامل
    العربي إن هذا العامل أصبح يعني في مجال التطبيق استثناء ما يتنافى من
    الاشتراكية مع التقاليد السائدة في المجتمع العربي والتي لم تحن الظروف
    الموضوعية لتغييرها كالنزعات الروحية بما فيها الإيمان بالله فالإطار العربي
    إذن لا يعطي الاشتراكية روحاً جديدة تختلف عن وضعها الفكري والعقائدي
    المعاش في بلاد المستعمرين وإنما يراد به التعبير عن استثناءات معينة وقد تكون
    موقوتة والاستثناء لا يغير جوهر القضية والمحتوى الحقيقي للشعار ولا يمكن
    لدعاة الاشتراكية العربية أن يميزوا الفوارق الأصلية بين اشتراكية عربية
    واشتراكية فارسية واشتراكية تركية ولا أن يفسروا كيف تختلف الإشتراكية
    بمجرد إعطائها هذا الإطار القومي أو ذاك لأن الواقع أن المضمون والجوهر
    لا يختلف وإنما هذه الأطر تعبر عن استثناءات قد تختلف من شعب إلى آخر
    تبعاً لنوعية التقاليد السائدة في تلك الشعوب.

    وبالرغم من أن دعاة الاشتراكية العربية قد فشلوا في تقديم مضمون
    حقيقي جديد لهذه الاشتراكية عن طريق تأطيرها بالإطار العربي فإنهم أكدوا
    بموقفهم هذا تلك الحقيقة التي قلناها وهي أن الأمة بحكم حساسيتها الناتجة
    عن عصر الاستعمار لا يمكن بناء نهضتها الحديثة إلا على أساس قاعدة أصيلة
    لا ترتبط في ذهن الأمة ببلاد المستعمرين أنفسهم.
    وهنا يبرز فارق كبير بين مناهج الاقتصاد الأوروبي التي ترتبط في
    ذهن الأمة بإنسان القارة المستعمرة مهما وضعت لها من إطارات وبين المنهج
    الإسلامي الذي يرتبط في ذهن الأمة بتاريخها وأمجادها الذاتية ويعبر عن
    أصالتها ولا يحمل أي طابع لبلاد المستعمرين فان شعور الأمة بأن الإسلام
    هو تعبيرها الذاتي وعنوان شخصيتها التاريخية ومفتاح أمجادها السابقة يعتبر
    عاملاً ضخماً جداً لإنجاح المعركة ضد التخلف وفي سبيل التنمية إذا استمد
    لها المنهج من الإسلام واتخذ من النظام الإسلامي إطاراً للانطلاق.
    وإلى جانب الشعور المعقد للأمة في العالم الإسلامي تجاه الاستعمار وكل
    المناهج المرتبطة ببلاد المستعمرين يوجد هناك تعقيد آخر يشكّل صعوبة كبيرة
    أيضاً في طريق نجاح المناهج الحديثة للاقتصاد الأوروبي إذا طبقت في العالم
    الإسلامي وهو التناقض بين هذه المناهج والعقيدة الدينية التي يعيشها المسلمون.
    وهنا لا أريد أن أتحدث عن هذا التناقض لكي أقارن بين وجهة النظر الدينية
    ووجهة النظر التي تتبناها تلك المناهج وأحاول أن أفضّل الأولى على الثانية
    _ أي أني لا أريد أن أبحث هذا التناقض بحثاً عقائدياً مذهبياً _ وإنما أحاول
    إبراز هذا التناقض بين مناهج الإنسان الأوروبي والعقيدة الدينية للإنسان
    المسلم بوصفها قوة تعيش داخل العالم الإسلامي بقطع النظر عن أي تقييم لها
    فإن هذه القوة مهما قدرنا لها من تفكك وانحلال نتيجة لعمل الاستعمار
    ضدها في العالم الإسلامي لا يزال لها أثرها الكبير في توجيه السلوك وخلق
    المشاعر وتحديد النظرة نحو الأشياء. وقد عرفنا قبل لحظات أن عملية التنمية


    الاقتصادية ليست عملية تمارسها الدولة وتتبناها وتشرّع لها فحسب وإنما هي
    عملية يجب أن تشترك فيها وتساهم بلون وآخر الأمة كلها. فإذا كانت
    الأمة تحس بتناقض بين الإطار المفروض للتنمية وبين عقيدة لا تزال تعتز
    بها وتحافظ على بعض وجهات نظرها في الحياة فسوف تحجم بدرجة تفاعلها
    مع تلك العقيدة عن العطاء لعملية التنمية والاندماج في إطارها المفروض.
    وخلافاً لذلك لا يواجه النظام الإسلامي هذا التعقيد ولا يمني بتناقض
    من ذلك القبيل بل إنه إذا وضع موضع التطبيق سوف يجد في العقيدة الدينية
    سنداً كبيراً له وعاملاً مساعداً على إنجاح التنمية الموضوعة في إطاره لأن
    أساس النظام الإسلامي أحكام الشريعة الإسلامية وهي أحكام يؤمن المسلمون
    عادة بقدسيتها وحرمتها ووجوب تنفيذها يحف عقيدتهم الإسلامية وإيمانهم
    بأن الإسلام دين نزل من الشماء على خاتم النبيين (ص).
    وما من ريب في أن من أهم العوامل في نجاح المناهج التي تتخذ لتنظيم
    الحياة الاجتماعية احترام الناس لها وإيمانهم بحقها في التنفيذ والتطبيق.
    وهب أن تجربة للتنمية الاقتصادية على أساس مناهج الاقتصاد الأوروبي
    استطاعت أن تقضي على العقيدة الدينية وقوتها السلبية تجاه تلك المناهج فإن
    هذا لا يكفي للقضاء على كل البناء العلوي الذي قام على أساس تلك العقيدة
    عبر تاريخ طويل امتد أكثر من أربعة عشر قرناً وساهم على درجة كبيرة في
    تكوين الإطار النفسي والفكري للإنسان داخل العالم الإسلامي. كما أن
    القضاء على العقيدة الدينية لا يعني إيجاد الأرضية الأوروبية لتلك المناهج التي
    نجحت على يد الإنسان الأوروبي لأنها وجدت الأرضية الصالحة لها والقادرة
    على التفاعل معها.
    فهناك في الواقع أخلاقية إسلامية تعيش بدرجة وأخرى داخل العالم
    الإسلامي وهناك أخلاقية الاقتصاد الأوروبي التي واكبت الحضارة الغربية


    الحديثة ونسجت لها روحها العامة ومهدت لنجاحها على الصعيد الاقتصادي.
    والأخلاقيتان تختلفان اختلافاً جوهرياً في الاتجاه والنظرة والتقييم وبقدر
    ما تصلح أخلاقية الإنسان الغربي الحديث لمناهج الاقتصاد الأوروبي تتعارض
    أخلاقية إنسان العالم الإسلامي معها وهي أخلاقية راسخة لا يمكن استئصال
    جذورها بمجرد تمييع العقيدة الدينية.
    والتخطيط_ أي تخطيط للمعركة ضد التخلف_ كما يجب أن يدخل
    في حسابه مقاومة الطبيعة في البلد الذي يراد التخطيط له درجة تمردها على
    عمليات الإنتاج كذلك يجب أن يدخل في حسابه مقاومة العنصر البشري
    ومدي انسجامه مع هذا الخطط أو ذاك.
    إن الإنسان الأوروبي ينظر إلى الأرض دائماً لا إلى السماء وحتى
    المسيحية بوصفها الدين الذي آمن به هذا الإنسان مئات السنين لم تستطع أن
    تتغلب على النزعة الأرضية في الإنسان الأوروبي بل بدلاً عن أن ترفع
    نظره إلى السماء استطاع هو أن يستنزل إله المسيحية من السماء إلى الأرض
    ويجسده في كائن أرضي.
    وليست المحاولات العلمية للتفتيش عن نسب الإنسان في فصائل الحيوان
    وتفسير إنسانيته على أساس التكييف الموضوعي من الأرض والبيئة التي
    يعيش فيها أو المحاولات العلمية لتفسير الصرح الإنساني كله على أساس
    القوى المنتجة التي تمثل الأرض وما فيها من إمكانات ليست هذه المحاولات
    إلا كمحاولة استنزال الإله إلى الأرض في مدلولها النفسي وارتباطها الأخلاقي
    بتلك النظرة العميقة في نفس الإنسان الأوروبي إلى الأرض وإن اختلفت
    تلك المحاولات في أساليبها وطابعها العلمي أو الأسطوري.
    وهذه النظرة إلى الأرض أتاحت للإنسان الأوروبي أن ينشيئ قيماً
    للمادة والثروة والتملك تنسجم مع تلك النظرة.

    وقد استطاعت هذه القيم التي ترسخت عبر الزمن في الإنسان الأوروبي
    أن تعبّر عن نفسها في مذاهب اللذة والمنفعة التي اكتسحت التفكير الفلسفي
    الأخلاقي في أوروبا فإن لهذه المذاهب بوصفها نتاجاً فكرياً أوروبياً سجّل
    نجاحاً كبيراً إلى الصعيد الفكري الأوروبي لها مغزاها النفسي ودلالتها على
    المزاج العام للنفس الأوروبية.
    وقد لعبت هذه التقييمات الخاصة للمادة والثروة والتملك دوراً كبيراً
    في تفجير الطاقات المختزنة في كل فرد من الأمة ووضع أهداف لعملية
    التنمية تتفق مع تلك التقييمات. وهكذا سرت في كل أوصال الأمة حركة
    دائبة نشيطة مع مطلع الاقتصاد الأوروبي الحديث لا تعرف الملل أو الارتواء
    من المادة وخيراتها وتملّك تلك الخيرات.
    كما أن انقطاع الصلة الحقيقة للإنسان الأوروبي بالله تعالى ونظرته إلى
    الأرض بدلاً عن النظرة إلى السماء انتزع من ذهنه أي فكرة حقيقية عن
    قيمومة رفيعة من جهة أعلى أو تحديدات تفرض عليه من خارج نطاق ذاته
    وهيأه ذلك نفسياً وفكرياً للإيمان بحقه في الحرية وغمره بفيض من الشعور
    بالاستقلال والفردية الأمر الذي استطاعت بعد هذا أن تترجمه إلى اللغة
    الفلسفية أو تعبر عنه على الصعيد الفلسفي فلسفة كبرى في تاريخ أوروبا
    الحديثة وهي الوجودية إذ توجت تلك المشاعر التي غمرت الإنسان الأوروبي
    الحديث بالصيغة الفلسفية فوجد فيها إنسان أوروبا الحديث أماله وأحاسيسه.
    وقد قامت الحرية بدور رئيسي في الاقتصاد الأوروبي وأمكن لعملية
    التنمية أن تستفيد من الشعور الراسخ لدى الإنسان الأوروبي بالحرية
    والاستقلال والفردية في نجاح الاقتصاد الحر بوصفه وسيلة تتفق مع الميول
    الراسخة في نفوس الشعوب الأوروبية وأفكارها وحتى حينما طرح الاقتصاد
    الأوروبي منهجاً اشتراكياً حاول فيه أن ينطلق من الشعور بالفردية والأنانية
    أيضاً مع تحويلها من فردية شخص إلى فردية طبقية.

    وكلنا نعلم أن الشعور العميق بالحرية كان يوفر شرطاً أساسيا لكثير من
    النشاطات التي ساهمت في عملية التنمية وهو انعدام الشعور بالمسؤولية
    الأخلاقية الذي لم تكن تلك النشاطات لتتم بدونه.
    والحرية نفسها كانت أداة لانفتاح الإنسان الأوروبي على مفهوم الصراع
    لأنها جعلت لكل إنسان أن ينطلق دون أن يحده في انطلاقه شيء سوى وجود
    الشخص الآخر إلذي يقف في الطرف المقابل كمحدد له فكان كل فرد
    يشكّل بوجوده النفي لحرية الشخص الآخر.
    وهكذا نشأت فكرة الصراع في ذهن الإنسان الأوروبي وقد عبرت
    هذه الفكرة عن نفسها على الصعيد الفلسفي كما رأينا في سائر الأفكار الأساسية
    التي كونت مزاج الحضارة الغربية الحديثة. عبرت هذه الفكرة_ فكرة
    الصراع_ عن نفسها في الأفكار العلمية والفلسفية عن تنازع البقاء كقانون
    طبيعي بين الأحياء أو عن حتمية الصراع الطبقي داخل المجتمع أو عن
    الديالكتيك وتفسير الكون على أساس الأطروحة ونقضيها والمركب الناجم
    عن الصراع بين النقيضين. إن كل هذه الاتجاهات ذات الطابع العلمي أو
    الفلسفي هي قبل كل شيء تعبير عن واقع نفسي عام وشعور حاد لدى
    إنسان الحضارة الحديثة بالصراع.
    وكان للصراع أثره الكبير في توجيه الاقتصاد الأوروبي الحديث وما
    واكبه من عمليات التنمية سواء ما اتخذ منه الشكل الفردي وعبر عن نفسه
    بالتنافس المحموم وغير المحدود بين المؤسسات والمشاريع الرأسمالية الشخصية
    في ظل الاقتصاد الحر التي كانت تنمو وتنمي الثروة الكلية من خلال صراعها
    وتنافسها على البقاء أو ما اتخذ منه الشكل الطبقي وعبر عن نفسه بتجمعات
    ثورية تتسلم مقاليد الإنتاج في البلاد وتحرك كل الطاقات لصالح التنمية
    الاقتصادية.

    هذه هي أخلاقية الاقتصاد الأوروبي وعلى هذه الأرضية استطاع هذا
    الاقتصاد أن يبدأ حركته ويحقق نموه ويسجل مكاسبه الضخمة.
    وهذه الأخلاقية تختلف عن الأخلاقية التي تعيشها الأمة داخل العالم
    الإسلامي نتيجة لتاريخها الديني فالإنسان الشرقي الذي ربته رسالات السماء
    وعاشت في بلاده ومر بتربية دينية مديدة على يد الإسلام ينظر بطبيعته إلى
    السماء قبل أن ينظر إلى الأرض ويؤخذ بعالم الغيب قبل أن يؤخذ بالمادة
    والمحسوس.
    وافتتانه العميق بعالم الغيب قبل عالم الشهادة هو الذي عبر عن نفسه
    على المستوي الفكري في حياة المسلمين باتجاه الفكر في العالم الإسلامي إلى
    المناحي العقلية من المعرفة البشرية دون المناحي التي ترتبط بالواقع المحسوس.
    وهذه الغيبية العميقة في مزاج الإنسان المسلم حددت من قوة أغراء
    المادة للإنسان المسلم وقابليتها لأثارته الأمر الذي يتجه بالإنسان في العالم
    الإسلامي حين يتجرد عن دوافع معنوية للتفاعل مع المادة وإغرائه باستثمارها
    إلى موقف سلبي تجاهها يتخذ شكل الزهد تارة والقناعة أخرى والكسل ثالثة.
    وقد روّضته هذه الغيبية على الشعور برقابة غير منظورة قد تعبر في وعي
    المسلم التقي عن مسؤولية صريحة بين يدي الله تعالى وقد تعبر في ذهن مسلم
    آخر عن ضمير محدّد وموجّه وهي على أي حال تبتعد بإنسان العالم الإسلامي
    عن الإحساس بالحرية الشخصية والحرية الأخلاقية بالطريقة التي أحس بها
    الإنسان الأوروبي.
    ونتيجة لشعور الإنسان المسلم بتحديد داخلي يقوم على أساس أخلاقي
    لصالح الجماعة التي يعيش ضمنها يحس بارتباط عميق بالجماعة التي ينتسب
    إليها وانسجام بينه وبينها بدلاً عن فكرة الصراع التي سيطرت على الفكر
    الأوروبي الحديث. وقد عزز فكرة الجماعة لدى الإنسان المسلم الإطار


    العالمي لرسالة الإسلام الذي ينيط بحملة هذه الرسالة مسؤولية وجودها عالمياً
    وامتدادها مع الزمان والمكان فإن تفاعل إنسان العالم الإسلامي على مر التاريخ
    مع رسالة عالمية منفتحة على الجماعة البشرية يرسخ في نفسه الشعور بالعالمية
    والارتباط بالجماعة. وهذه الأخلاقية التي يعيشها إنسان العالم الإسلامي إذا
    لاحظناها بوصفها حقيقة مائلة في كيان الأمة يمكن الاستفادة منها في المنهجة
    للاقتصاد داخل العالم الإسلامي ووضعه في إطار يواكب تلك الأخلاقية
    لكي تصبح قوة دفع وتحريك كما كانت أخلاقية مناهج الاقتصاد الأوروبي
    الحديث عاملاً كبيراً في إنجاح تلك المناهج لما بينهما من انسجام.
    فنظرة إنسان العالم الإسلامي إلى السماء قبل الأرض يمكن أن تؤدي إلى
    موقف سلبي تجاه الأرض وما في الأرض من ثروات وخيرات يتمثل في
    الزهد أو القناعة أو الكسل إذا فصلت الأرض عن السماء وأما إذا ألبست
    الأرض إطار السماء وأعطي العمل مع الطبيعة صفة الواجب ومفهوم العبادة
    فسوف تتحول تلك النظرة الغيبية لدى الإنسان المسلم إلى طاقة محركة وقوة
    دفع نحو المساهمة بأكبر قدر ممكن في رفع المستوى الاقتصادي. وبدلاً عما
    يحسه اليوم المسلم السلبي من برود تجاه الأرض أو ما يحسه المسلم النشيط
    الذي يتحرك وفق أساليب الاقتصاد الحر أو الاشتراكي من قلق نفسي في
    أكثر الأحيان ولو كان مسلماً متميعاً سوف يولد انسجام كامل بين نفسية
    إنسان العالم الإسلامي ودوره الايجابي المرتقب في عملية التنمية.
    ومفهوم إنسان العالم الإسلامي عن التحديد الداخلي والرقابة الغيبية الذي
    يجعله لا يعيش فكرة الحرية بالطريقة الأوروبية يمكن أن يساعد إلى درجة
    كبيرة في تفادي الصعاب التي تنجم عن الاقتصاد الحر والمشاكل التي
    تواجهها التنمية الاقتصادية في ظله عن تخطيط عام يستمد مشروعيته في ذهن
    إنسان العالم الإسلامي من مفهومه عن التحديد الداخلي و الرقابة غير المنظورة
    أي يستند إلى مبررات أخلاقية.

    والإحساس بالجماعة والارتباط بها يمكن أن يساهم إلى جانب ما تقدم
    في تعبئة طاقات الأمة الإسلامية للمعركة ضد التخلف إذا أعطي للمعركة
    شعار يلتقي مع ذلك الإحساس كشعار الجهاد في سبيل الحفاظ على كيان
    الأمة وبقائها الذي أعطاه القرآن الكريم حين قال (وأعدوا لهم ما استطعتم
    من قوة) فأمر بإعداد كل القوى الاقتصادية التي يمثلها مستوى
    الإنتاج باعتباره جزءاً من معركة الأمة وجهادها للاحتفاظ بوجودها وسيادتها.
    وهنا تبرز أهمية الاقتصاد الإسلامي بوصفه المنهج الاقتصادي القادر
    على الاستفادة من أخلاقية إنسان العالم الإسلامي التي رأيناها وتحويلها إلى
    طاقة دفع وبناء كبيرة في عمليات التنمية وإنجاح تخطيط سليم للحياة الاقتصادية.
    فنحن حينما نأخذ بالنظام الإسلامي سوف نستفيد من هذه الأخلاقية
    ونستطيع أن نعبأها في المعركة ضد التخلف على عكس ما إذا أخذنا بمناهج
    في الاقتصاد ترتبط نفسياً وتاريخياً بأرضية أخلاقية أخرى.
    وقد أخذ بعض المفكرين الأوروبيين يدركون هذه الحقيقة أيضاً ويلمحون
    إليها معترفين بأن مناهجهم لا تتفق مع طبيعة العالم الإسلامي واذكر كمثال
    على ذلك جاك أو ستروى فقد سجل هذه الملاحظة بكل وضوح في كتابه
    ((التنمية الاقتصادية)) بالرغم من أنه لم يستطع أن يبرز التسلسل الفني والمنطقي
    لتكوّن الأخلاقية الأوروبية وتكوّن الأخلاقية الإسلامية وترتب حلقاتها ولا
    الأبعاد الكاملة لمحتوى كل من الأخلاقيتين وتورط في عدة أخطاء وبالرغم
    من أمكان الاعتماد بصورة كاملة في إبراز هذه الأخطاء على ما كتبه الأستاذ
    الجليل محمد المبارك في مقدمة الكتاب والأستاذ الدكتور نبيل صبحي الطويل
    الذي ترجم الكتاب إلى العربية فإن بودي أن أتوسع في فرصة مقبلة بهذا
    الصدد مكتفياً الآن بالقول بأن اتجاه إنسان العالم الإسلامي إلى السماء لا يعني


    بمدلوله الأصيل استسلام الإنسان للقدر واتكاله على الظروف والفرص
    وشعوره بالعجز الكامل عن الخلق والإبداع كما حاول ذلك جاك أو ستروي
    بل إن هذا الاتجاه لدى الإنسان المسلم يعبر في الحقيقة عن مبدأ خلافة الإنسان
    في الأرض فهو يميل بطبيعته إلى إدراك موقفه في الأرض باعتباره خليفة لله
    ولا أعرف مفهوماً أغنى من مفهوم الخلافة لله في التأكيد على قدرة الإنسان
    وطاقاته التي تجعل منه خليفة السيد المطلق في الكون كما لا أعرف
    مفهوماً أبعد من مفهوم الخلافة لله عن الاستسلام للقدر والظروف لأن
    الخلافة تستبطن معنى المسؤولية تجاه ما يستخلف عليه ولا مسؤولية بدون
    حرية وشعور بالاختيار والتمكن من التحكم في الظروف وإلا فأي استخلاف
    هذا إذا كان الإنسان مقيداً أو مسيّراً ولهذا قلنا إن إلباس الأرض إطار
    السماء يفجر في الإنسان المسلم طاقاته ويثير إمكاناته بينما قطع الأرض عن
    السماء يعطل في الخلافة معناها ويجمد نظرة الإنسان المسلم إلى الأرض في
    صيغة سلبية فالسلبية لا تنبع عن طبيعة نظرة إنسان العالم الإسلامي إلى السماء
    بل عن تعطيل قوى التحريك الهائلة في هذه النظرة بتقديم الأرض إلى هذا
    الإنسان في إطار لا ينسجم مع تلك النظرة.
    وإضافة إلى كل ما تقدم نلاحظ أن الأخذ بالإسلام أساساً للتنظيم العام
    يتيح لنا أن تقيم حياتنا كلها بجانبيها الروحي والاجتماعي على أساس واحد
    لأن الإسلام يمتد إلى كلا الجانبين بينما تقتصر كثير من المناهج الاجتماعية
    الأخرى غير الإسلام على جانب العلاقات الاجتماعية والاقتصادية من
    حياة الإنسان ومثله فإذا أخذنا مناهجنا العامة في الحياة من مصادر بشرية
    بدلاً عن النظام الإسلامي لم نستطع أن نكتفي بذلك عن تنظيم آخر للجانب
    الروحي ولا يوجد مصدر صالح لتنظيم حياتنا الروحية إلا الإسلام فلا بد


    حينئذ من إقامة كل من الجانبين الروحي والاجتماعي على أساس خاص به
    مع أن الجانبين ليسا منعزلين أحدهما عن الآخر بل هما متفاعلان إلى درجة
    كبيرة وهذا التفاعل يجعل إقامتهما على أساس واحد أسلم وأكثر انسجاماً
    مع التشابك الأكيد بين النشاطات الروحية والاجتماعية في حياة الإنسان.

    العراق _ النجف الأشر ف محمد باقر الصدر
    [/align]

  2. #2
    تاريخ التسجيل
    Jul 2004
    الدولة
    هناك
    المشاركات
    28,205

    افتراضي

    [align=center][align=center]مقـدمة الطـبعة الأولى
    بسم الله الرحمن الرحيم
    كلمة المؤلف

    كنا يا قرائي الأعزاء على موعد منذ افترقنا في كتاب فلسفتنا، فقد
    حدثتكم. أن(فلسفتنا) هي الحلقة الأولى من دراستنا الإسلامية، بوصفها
    دراسة تعالج الصرح الإسلامي الشامخ، الصرح العقائدي للتوحيد، وتتلوها
    بعد ذلك الدراسات التي تتعلق بالبنيات الفوقية في ذلك الصرح الإسلامي،
    لتكتمل لنا في نهاية المطاف صورة ذهنية كاملة عن الإسلام، بوصفه عقيدة
    حية في الأعماق، ونظاماً كاملاً للحياة، ومنهجاً خاصاً قي التربية والتفكير.
    قلنا هذا في مقدمة(فلسفتنا)، وكنا نقدّر أن يكون(مجتمعنا) هو
    الدراسة الثانية في بحوثنا، نتناول فيها أفكار الإسلام عن الإنسان وحياته
    الاجتماعية، وطريقته في تحليل المركب الاجتماعي وتفسيره، لننتهي
    من ذلك إلى المرحلة الثالثة، إلى النظم الإسلامية للحياة التي تتصل بأفكار
    الإسلام الاجتماعية، وترتكز على صرحه العقائدي الثابت. ولكن شاءت
    رغبة القراء الملحة أن نؤجل مجتمعنا، ونبدأ بإصدار اقتصادنا عجلة منهم في


    الإطلاع على دراسة مفصلة للاقتصاد الإسلامي: في فلسفته وأسسه وخطوطه وتعاليمه.
    وهكذا كان، فتوفرنا على أنجاز(اقتصادنا) محاولين أن نقدم فيه
    الصورة الكاملة نسبياً عن الاقتصاد الإسلامي، كما نفهمه اليوم من مصادره
    وينابيعه.
    وكنت أرجو أن يكون لقاؤنا هذا أقرب مما كان، ولكن ظروفاً قاهرة
    اضطرت إلى شيء من التأخير، بالرغم من الجهود التي بذلتها بالتضامن
    مع عضدي المفدى العلامة الجليل السيد محمد باقر الحكيم، في سبيل إنجاز
    هذه الدراسة ووضعها بين أيديكم في أقرب وقت ممكن.
    * * *
    وبودّي أن أقول هنا وفي المقدمة شيئاً عن كلمة(اقتصادنا) أو كلمة
    الاقتصاد الإسلامي الذي تدور حوله بحوث الكتاب، وما أعنيه بهذه الكلمة
    حين أطلقها لأن كلمة الاقتصاد ذات تاريخ طويل في التفكير الإنساني،
    وقد أكسبها ذلك شيئاً من الغموض نتيجة للمعاني التي مرت بها، وللازدواج
    في مدلولها بين الجانب العلمي من الاقتصاد والجانب المذهبي. فحين نريد
    أن نعرف مدلول الاقتصاد الإسلامي بالضبط، يجب أن نميز علم الاقتصاد
    عن المذهب الاقتصادي، وندرك مدى التفاعل بين التفكير العلمي والتفكير
    المذهبي، لننتهي من ذلك إلى تحديد المقصود من الاقتصاد الإسلامي، الذي
    نتوفر على دراسته في هذا الكتاب.
    فعلم الاقتصاد هو: العلم الذي يتناول تفسير الحياة الاقتصادية وأحداثها
    وظواهرها، وربط تلك الأحداث والظواهر بالأسباب والعوامل العامة التي
    تتحكم فيها.

    وهذا العلم حديث الولادة، فهو لم يحدث_ بالمعني الدقيق للكلمة_
    إلا في بداية العصر الرأسمالي منذ أربعة قرون تقريباً، وإن كانت جذوره
    البدائية تمتد إلى أعماق التاريخ، فقد ساهمت كل حضارة في التفكير
    الاقتصادي بمقدار ما أتيح لها من إمكانات، غير أن الاستنتاج العلمي الدقيق
    الذي نجده لأول مرة في علم الاقتصاد السياسي، مدين للقرون الأخيرة.
    وأما المذهب الاقتصادي للمجتمع فهو: عبارة عن الطريقة التي يفضّل
    المجتمع أتباعها في حياته الاقتصادية، وحل مشاكلها العملية.
    وعلى هذا الأساس لا يمكن أن نتصور مجتمعاً دون مذهب اقتصادي،
    لأن كل مجتمع يمارس إنتاج الثروة وتوزيعها لا بد له من طريقة يتفق عليها
    في تنظيم هذه العمليات الاقتصادية، وهذه الطريقة هي التي تحدد موقفه
    المذهبي من الحياة الاقتصادية.
    ولا شك في أن اختيار طريقة معينة لتنظيم الحياة الاقتصادية ليس اعتباطاً
    مطلقاً، وإنما يقوم دائماً على أساس أفكار ومفاهيم معينة، ذات طابع أخلاقي
    أو علمي أو أي طابع آخر. وهذه الأفكار والمفاهيم تكوّن الرصيد الفكري
    للمذهب الاقتصادي القائم على أساسها. وحين يدرس أي مذهب اقتصادي
    يجب أن يتناول من ناحية: طريقته في تنظيم الحياة الاقتصادية، ومن ناحية:
    رصيده من الأفكار والمفاهيم التي يرتبط المذهب بها. فإذا درسنا مثلاً
    المذهب الرأسمالي القائل: بالحرية الاقتصادية.. كان لزاماً علينا أن نبحث
    الأفكار والمفاهيم الأساسية، التي يقوم على أساسها تقديس الرأسمالية للحرية
    وإيمانها بها.. وهكذا الحال في أي دراسة مذهبية أخرى.
    ومنذ بدأ علم الاقتصاد السياسي يشق طريقه في مجال التفكير الاقتصادي،
    أخذت بعض النظريات العلمية في الاقتصاد تكوّن جزءاً من هذا الرصيد
    الفكري للمذهب.

    فالتجاريون مثلاً_ وهم طلائع التفكير الاقتصادي الحديث_ حين
    زعموا أنهم فسروا من ناحية علمية كمية الثروة لدى كل أمة: بالمقدار الذي
    تمكله من النقد، استخدموا هذه الفكرة في وضع مذهبهم التجاري، فدعوا
    إلى تنشيط التجارة الخارجية بوصفها الأداة الوحيدة بجلب النقد من الخارج،
    ووضعوا معالم سياسة اقتصادية، تؤدي إلى زيادة قيمة البضائع المصدرة على
    قيمة البضائع المستوردة، لتدخل إلى البلاد نقود بقدر الزيادة في الصادرات.
    والطبيعيون حين جاؤا بتفسير جديد للثروة، قائم على أساس الإيمان:
    بأن الإنتاج الزراعي وحده هو الإنتاج الكفيل بتنمية الثروة وخلق القيم
    الجديدة، دون التجارة والصناعة. . وضعوا في ضوء التفسير العلمي المزعوم
    سياسة مذهبية جديدة، تهدف إلى العمل على ازدهار الزراعة وتقدمها،
    بوصفها قوام الحياة الاقتصادية كلها.
    و(مالتس) حين قرر في نظريته الشهيرة على ضوء إحصاءاته العلمية:
    إن نمو البشر أسرع نسبياً من نمو الإنتاج الزراعي، مما يؤدي حتماً إلى مجاعة
    هائلة في مستقبل الإنسانية، لزيادة الناس على المواد الغذائية.. تبنّى الدعوة
    إلى تحديد النسل، ووضع لهذه الدعوة أساليبها السياسية والاقتصادية والأخلاقية.
    وحين فسر الاشتراكيون قيمة السلعة: بالعمل المنفق على إنتاجها..
    شجبوا الربح الرأسمالي، وتبنوا المذهب الاشتراكي في التوزيع الذي يجعل
    الناتج من حق العامل وحده، لأنه الخالق الوحيد للقيمة التي يتمتع بها الناتج.
    وهكذا أخذت جملة من النظريات العلمية تؤثر على النظرة المذهبية،
    وتنير الطريق أمام الباحثين المذهبيين( ).

    وجاء بعد ذلك دور ماركس، فأضاف إلى الرصيد الفكري للمذهب
    الاقتصادي شيئاً حديداً، وهو علم التاريخ أو ما أسماه بالمادية التاريخية،
    التي زعم فيها: أنه كشف القوانين الطبيعية التي تتحكم في التاريخ، واعتبر
    المذهب نتاجاً حتمياً لتلك القوانين. فلكي نعرف المذهب الاقتصادي الذي
    يجب أن يسود في مرحلة معينة من التاريخ، يجب أن نرجع إلى تلك القوانين
    الحتمية لطبيعة التاريخ ونكشف عن مقتضياتها في تلك المرحلة.
    ولأجل ذلك آمن ماركس: بالمذهب الاشتراكي والشيوعي بوصفه
    النتاج الحتمي لقوانين التاريخ التي بدأت تتمخض عنه في هذه المرحلة من
    حياة الإنسان. وبهذا ارتبط المذهب الاقتصادي بدراسة علم التاريخ كما
    ارتبط قبل ذلك ببعض الدراسات في علم الاقتصاد السياسي.
    وعلى هذا الأساس، فنحن حين نطلق كلمة: (الاقتصاد الإسلامي)
    لا نعني بذلك علم الاقتصاد السياسي مباشرة، لأن هذا العلم حديث الولادة
    نسبياً، ولأن الإسلام دين دعوة ومنهج حياة وليس من وظيفته الأصيلة
    ممارسة البحوث العلمية.. وإنما نعني بالاقتصاد الإسلامي: المذهب الاقتصادي
    للإسلام، الذي تتجسد فيه الطريقة الإسلامية في تنظيم الحياة الاقتصادية،
    بما يملك هذا المذهب ويدل عليه من رصيد فكري، يتألف من أفكار الإسلام
    الأخلاقية والأفكار العلمية الاقتصادية أو التاريخية التي تتصل بمسائل الاقتصاد
    السياسي أو بتحليل تاريخ المجتمعات البشرية.
    وهكذا فنحن نريد بالاقتصاد الإسلامي: المذهب الاقتصادي منظوراً
    إليه في إطاره الكامل، وفي ارتباطه بالرصيد الفكري الذي يعتمد عليه،
    ويفسر وجهة نظر المذهب في المشاكل التي يعالجها.
    وهذا الرصيد الفكري يتحدد لدينا وفقاً لبيانات مباشرة في الإسلام،
    أو للأضواء التي يلقيها نفس المذهب على مسائل الاقتصاد والتاريخ. فإن



    المزاج العلمي للإسلام في بحوث علم الاقتصاد السياسي، أو في بحوث
    المادية التاريخية وفلسفة التاريخ... يمكن أن يدرس ويستكشف من خلال
    المذهب الذي يتبناه ويدعو إليه.
    فحينما نريد أن نعرف مثلاً: رأي الإسلام من الناحية العلمية في تفسير
    قيمة السلعة وتحديد مصدرها، وكيف تتكون للسلعة قيمتها؟ وهل تكتسب
    هذه من العمل وحده أو من شيء آخر؟.. يجب أن نتعرف على ذلك من
    خلال وجهة نظر الإسلام المذهبية إلى الربح الرأسمالي، ومدي اعترافه
    بعدالة هذا الربح.
    وحينما نريد أن نعرف: رأي الإسلام في حقيقة الدور الذي يلعبه كل
    من رأس المال ووسائل الإنتاج والعمل في عملية الإنتاج... يجب أن ندرس
    ذلك من خلال الحقوق التي أعطاها الإسلام لكل واحد من هذه العناصر في
    مجال التوزيع، كما هو مشروع في أحكام: الإجارة، والمضاربة، والمساقاة،
    والمزارعة، والبيع، والقرض.
    وحين نريد أن نعرف: رأي الإسلام في نظرية مالتس الآنفة الذكر
    عن زيادة السكان، يمكننا أن نفهم ذلك في ضوء موقفه من تحديد النسل في
    سياسته العامة.
    وإذا أردنا أن نستكشف: رأي الإسلام في المادية التاريخية وتطورات
    التاريخ المزعومة فيها، يمكننا أن نكشف ذلك من خلال الطبيعة الثابتة للمذهب الاقتصادي في الإسلام، وإيمانه بإمكان تطبيق هذا المذهب في كل مراحل
    التاريخ التي عاشها الإنسان منذ ظهور الإسلام، وهكذا...
    * * *
    والآن، بعد أن حددنا مدلول الاقتصاد الإسلامي بالقدر الذي ييسر
    فهم الدراسات المقبلة، يجب أن نتحدث بشكل خاطف عن فصول الكتاب:


    فالكتاب يتناول في الفصل الأول المذهب الماركسي. ونظراً إلى أنه يملك
    رصيداً علمياً يتمثل في المادية التاريخية، فقد درسنا أولاً هذا الرصيد الفكري.
    ثم انتهينا من ذلك إلى نقد المذهب بصورة مباشرة، وخرجنا من ذلك بنسف
    الأسس العلمية المزعومة التي قوم عليها الكيان المذهبي للماركسية: وأما
    الفصل الثاني: فقد خصص لدرس الرأسمالية ونقدها، في أسسها وتحديد
    علاقتها بعلم الاقتصاد السياسي.
    وتبدأ دراسة الاقتصاد الإسلامي بصورة مباشرة من الفصل الثالث،
    فنتحدث في هذا الفصل عن مجموعة من الأفكار الأساسية لهذا الاقتصاد،
    ثم ننتقل إلى التفاصيل في الأصول الأخرى، لنشرح نظام التوزيع ونظام
    الإنتاج في الإسلام، بما يشتمل عليه النظامان من تفاصيل عن تقسيم الثروات
    الطبيعية، وتحديدات الملكية الخاصة، ومباديء التوازن، والتكافل،
    والضمان العام، والسياسة المالية وصلاحيات الحكومة في الحياة الاقتصادية،
    ودور عناصر الإنتاج: من العمل، ورأس المال ووسائل الإنتاج، وحق
    كل واحد منها في الثروة المنتجة، وما إلى ذلك من الجوانب المختلفة،
    التي تشترك بجموعها في تقديم الصورة الكاملة المحددة عن الاقتصاد الإسلامي...
    * * *
    وأخيراً، فقد بقيت عدة نقاط تتصل ببحوث الكتاب، وخاصة
    الفصول الأخيرة التي تستعرض تفصيلات الاقتصاد الإسلامي، يجب تسجيلها
    منذ البدء.
    1- إن الآراء الإسلامية فيما يتصل بالجوانب الفقهية من الاقتصاد
    الإسلامي، تعرض في هذا الكتاب عرضاً مجرداً عن أساليب الاستدلال


    وطرق البحث العلمي في الدراسات الفقهية الموسعة. وحين تسند تلك الآراء
    بمدارك إسلامية من آيات وروايات لا يقصد من ذلك الاستدلال على الحكم
    الشرعي بصورة علمية، لأن البرهنة على الحكم بآية أو رواية لا يعني مجرد
    سردها، وإنما يتطلب عمقاً ودقة واستيعاباً بدرجة لا تلتقي مع الغرض الذي
    ألّف لأجله هذا الكتاب، وإنما نرمي من وراء عرض تلك الآيات والروايات
    أحياناً، إلى إيجاد خبرة عامة للقاريء بالمدارك الإسلامية.
    2- الآراء الفقهية التي تعرض في الكتاب، لا يجب أن تكون مستنبطة
    من المؤلف نفسه، بل قد يعرض الكتاب لآراء تخالف من الناحية الفقهية
    اجتهاد الكاتب في المسألة، وإنما الصفة العامة التي لوحظ توفرها في تلك
    الآراء هي: أن تكون نتيجة لاجتهاد أحد المجتهدين، بقطع النظر عن
    عدد القائلين بالرأي وموقف الأكثرية منه.
    3- قد يعرض الكتاب أحكاماً شرعية بشكل عام دون أن تتناول
    تفصيلاتها، وبعض الفروض الخارجة عن نطاقها، نظراً إلى أن الكتاب
    لا يتسع لكل التفاصيل والتفريعات.
    4- يؤكد الكتاب دائماً على الترابط بين أحكام الإسلام، وهذا
    لا يعني أنها أحكام ارتباطية وضمنية بالمعني(الأصولي)، حتى إذا عطل
    بعض تلك الأحكام سقطت سائر الأحكام الأخرى، وإنما يقصد من ذلك
    أن الحكمة التي تُستهدف من وراء تلك الأحكام لا تحقق كاملة دون أن
    يطبق الإسلام، بوصفه كلاً لا يتجزأ، وإن وجب في واقع الحال امتثال
    كل حكم بقطع النظر عن امتثال حكم آخر أو عصيانه.
    5- توجد تقسيمات في الكتاب في بعض جوانب الاقتصاد الإسلامي،
    لم ترد بصراحة في نص شرعي، وإنما انتزعت من مجموع الأحكام الشرعية
    الواردة في المسألة، ولذلك فإن تلك التقسيمات تتبع في دقتها مدى انطباق
    تلك الأحكام الشرعية عليها.

    6-جاءت في الكتاب ألفاظ قد يساء فهمها. ولهذا شرحنا مدلولها
    وفقاً لمفهومنا عنها، خوفاً من الالتباس، كملكية الدولة التي تعني في
    مفهومنا: كل مال كان ملكاً للمنصب الإلهي في الدولة، فهو ملك للدولة.
    ولمن يشغل المنصب أصالة أو وكالة التصرف فيه، وفقاً لما قرره الإسلام.
    * * *
    وبعد فإن هذا الكتاب لا يتناول السطح الظاهري للاقتصاد الإسلامي
    فحسب، ولا يعني بصبه في قالب أدبي حاشد بالكلمات الضخمة والتعميمات
    الجوفاء.. وإنما هو محاولة بدائية_مهما أوتي من النجاح وعناصر الابتكار_
    للغوص إلى أعماق الفكرة الاقتصادية في الإسلام، وصبها في قالب فكري
    ليقوم على أساسها صرح شامخ للاقتصاد الإسلامي، ثري بفلسفته وأفكاره
    الأساسية، واضح في طابعه ومعلمه واتجاهاته العامة، محدد في علاقته وموقفه
    من سائر المذاهب الاقتصادية الكبرى، مرتبط بالتركيب العضوي الكامل
    للإسلام...
    فيجب إذن أن يدرس هذا الكتاب بوصفه بذرة بدائية لذلك الصرح
    الإسلامي، ويطلب منه أن يفلسف الاقتصاد الإسلامي في نظرته إلى الحياة
    الاقتصادية وتاريخ الإنسان، ويشرح المحتوي الفكري لهذا الاقتصاد.
    ((وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب)).
    النجف الأشر ف محمد باقر الصدر
    [/align][/align]

  3. #3
    تاريخ التسجيل
    Jul 2004
    الدولة
    هناك
    المشاركات
    28,205

    افتراضي

    [align=center][all1=FF3300]مـع الماركسّيـة
    نظرية المادية التاريخية
    [/all1]
    1_ تمهيد
    2_ النظرية على ضوء الأسس الفلسفية
    3_ النظرية بما هي عامة
    4_ النظرية بتفاصيلها

    المذهب الماركسي
    1_ الاشتراكية
    2_ الشيوعية






    نظرية المادية التاريخيّة
    1_ تمهيد
    حين نتناول الماركسية على الصعيد الاقتصادي، لا يمكننا أن نفصل بين
    وجهها المذهبي، المتمثل في الاشتراكية والشيوعية الماركسية، ووجهها
    العلمي المتمثل في المادية التاريخية، أو المفهوم المادي للتاريخ، الذي زعمت
    الماركسية أنها حددت فيه القوانين العلمية العامة، المسيطرة على التاريخ
    البشري واكتشفت في تلك القوانين النظام المحتوم لكل مرحلة تاريخية من
    حياة الإنسان، وحقائقها الاقتصادية المتطورة على مر الزمن.
    وهذا الترابط الوثيق بين المذهب الماركسي، والمادية التاريخية، سوف
    ينكشف خلال البحوث الآتية أكثر فأكثر إذ يبدو في ضوئها بكل وضوح،
    أن الماركسية المذهبية، ليست في الحقيقة إلا مرحلة تاريخية معينة، وتعبيراً
    محدوداً نسبياً عن المفهوم المادي المطلق للتاريخ، فلا يمكن أن نصدر حكماً
    في حق الماركسية المذهبية، بصفتها مذهباً له اتجاهاته و خطوطه الخاصة،
    إلا إذا استوعبنا الأسس الفكرية التي ترتكز عليها، وحددنا موقفنا من


    المادية التاريخية، بوصفها القاعدة المباشرة للمذهب، والهيكل المنظم لقوانين
    الاقتصاد والتاريخ، التي تملي_في زعم الماركسية_على المجتمع مذهبه
    الاقتصادي، وتصنع له نظامه في الحياة طبقاً، لمرحلته التاريخية وشروطه
    المادية الخاصة.
    والمادية التاريخية إذا أدت امتحانها العلمي، ونجحت فيه، كانت هي
    المرجع الأعلى في تحديد المذهب الاقتصادي، والنظام الاجتماعي، لكل
    مرحلة تاريخية من حياة الإنسان. وأصبح من الضروري أن يدرس كل
    مذهب اقتصادي واجتماعي، من خلال قوانينها، وفي ضوئها. كما وجب
    أن يرفض تصديق أي مذهب اقتصادي واجتماعي، يزعم لنفسه القدرة على
    استيعاب عدة أدوار تاريخية مختلقة، كالإسلام، المؤمن بإمكانية إقامة
    المجتمع، وعلاقاته الاقتصادية والسياسية على أساسه بقطع النظر عما طرأ
    على المجتمع من تغيير في شروطه المدنية والمادية، خلال أربعة عشر قرناً،
    ولأجل هذا يقرر انجلز_على أساس المادية التاريخية_بوضوح:
    ((إن الظروف التي ينتج البشر تحت ظلها،تختلف
    بين قطر و آخر. وتختلف في القطر الواحد من جيل
    لآخر.لذا فليس من الممكن أن يكـون للأقطار كافة،
    وللأدوار التاريخية جمعاء، اقتصاد سياسي واحد))( )
    وأما إذا فشلت المادية التاريخية في أداء مهمتها العلمية المزعومة، وثبت
    لدى التحليل أنها لا تعبّر عن القوانين الصارمة الأبدية، للمجتمعات البشرية،
    فمن الطبيعي عندئذ أن تنهار الماركسية المذهبية، المرتكزة عليها. ويصبح من


    الممكن علمياً عند ذاك، أن يتبنى الشخص المذهب الذي لا تقره قوانين
    المادية التاريخية، كالمذهب الإسلامي، ويدعو إليه، بل وأن يزعم له من
    العموم وقدرة الاستيعاب، ما لا يتفق مع منطق الماركسية في التاريخ.
    ولهذا نجد لزاماً على كل باحث مذهبي في الاقتصاد، أن يلقي نظرة
    شاملة على المادية التاريخية، لكي يبرر وجهة نظره المذهبية، ويستطيع أن يحكم
    في حق الماركسية المذهبية، حكماً أساسياً شاملاً.
    وعلى هذا الأساس سوف نبدأ في بحثنا_مع الماركسية_بالمادية التاريخية،
    ثم نتناول المذهب الماركسي، الذي يرتكز عليها. وبمعني آخر ندرس:
    أولاً: علم الاقتصاد والتاريخ الماركسي. وثانياً: مذهب الماركسية في
    الاقتصاد.

    نظريات العامل الواحد
    والمادية التاريخية طريقة خاصة في تفسير التاريخ، تتجه إلى تفسيره بعامل
    واحد وليس هذا الاتجاه في المادية التاريخية فريداً من نوعه، فقد جنح
    جمهور من الكتاب والمفكرين، إلى تفسير المجتمع والتاريخ بعامل واحد،
    من العوامل المؤثرة في دنيا الإنسان، إذ يعتبرونه المفتاح السحري الذي يفتح
    مغاليق الأسرار، ويمتلك الموقف الرئيسي في عمليات التاريخ. ويفسرون
    العوامل الأخرى على أنها مؤثرات ثانوية، تتبع العامل الرئيسي في وجودها
    وتطورها، وفي تقلباتها واستمرارها.
    * * *
    فمن ألوان هذا الاتجاه إلى توحيد القوة المحركة للتاريخ في عامل واحد،
    الرأي القائل: بالجنس كسبب أعلى في المضمار الاجتماعي فهو يؤكد أن


    الحضارات البشرية، والمدنيات الاجتماعية، تختلف بمقدار الثروة المذخورة
    في صميم الجنس، وما ينطوي عليه من قوى الدفع والتحريك، وطاقات
    الإبداع والبناء. فالجنس القوي النقي المحض، هو مبعث كل مظاهر الحياة في
    المجتمعات الإنسانية، منذ الأزل إلى العصر الحديث، وقوام التركيب
    العضوي والنفسي في الإنسان وليس التأريخ إلا سلسلة مترابطة من ظواهر
    الكفاح بين الأجناس والدماء التي تخوض معركة الحياة في سبيل البقاء،
    فيكتب فيها النصر للدم النقي القوي، وتموت في خضمه الشعوب الصغيرة،
    وتضمحل وتذوب، بسبب ما تفقده من طاقات في جنسها، وما تخسره من
    قابلية المقاومة النابعة من نقاء الدم.
    * * *
    ومن تفسيرات التاريخ بالعامل الواحد: المفهوم الجغرافي للتأريخ، الذي
    يعتبر العامل الجغرافي والطبيعي أساساً لتأريخ الأمم والشعوب، فيختلف تأريخ
    الناس، باختلاف ما يكتنفهم من العوامل الجغرافية والطبيعية،لأنها هي التي
    تشق لهم طريق الحضارة الراقية، وتوفر لهم أسباب المدنية، وتفجّر في
    عقولهم الأفكار البنّاءة أحياناً، وتوصد في وجوههم الأبواب، وتفرض
    عليهم السير في مؤخر القافلة البشرية أحياناً أخرى، فالعامل الجغرافي هو الذي
    يكيّف المجتمعات، بما يتفق مع طبيعته ومتطلباته.
    * * *
    وهناك تفسير ثالث بالعامل الواحد، نادى به بعض علماء النفس قائلاً:
    إن الغريزة الجنسية، هي السر الحقيقي الكامن وراء مختلف النشاطات


    الإنسانية، التي يتألف منها التاريخ والمجتمع فليست حياة الإنسان إلا سلسلة
    من الاندفاعات الشعورية، أو اللاشعورية عن تلك الغريزة.
    * * *
    وآخر هذه المحاولات، التي جنحت إلى تفسير التأريخ والإنسان بعامل
    واحد، هي المادية التاريخية التي بشر بها كارل ماركس، مؤكداً فيها: إن
    العامل الاقتصادي، هو العامل الرئيسي، والرائد الأول للمجتمع في نشوئه
    وتطوره والطاقة الخلاقة لكل محتوياته الفكرية والمادية، وليست شتى العوامل
    الأخرى، إلا بنيات فوقية في الهيكل الاجتماعي للتأريخ، فهي تتكيف وفقاً
    للعامل الرئيسي، وتتغير بموجب قوته الدافعة، التي يسير في ركبها التأريخ
    والمجتمع.
    * * *
    وكل هذه المحاولات لا تتفق مع الواقع ولا يقرّها الإسلام، لأن كل
    واحد منها قد حاول أن يستوعب بعامل واحد، تفسير الحياة الإنسانية كلها،
    وأن يهب هذا العامل من ادوار التأريخ وفضول المجتمع، ما ليس جديراً به
    لدى الحساب الشامل الدقيق.
    والهدف الأساسي من بحثنا هذا، هو: دراسة المادية التاريخية من تلك
    المحاولات وإنما استعرضناها جميعاً لأنها تشترك في التعبير عن اتجاه فكري
    في تفسير الإنسان المجتمعي بعامل واحد.
    العامل الاقتصادي أو المادية التاريخية
    ولنكوّن الآن فكرة عامة عن المفهوم الماركسي للتاريخ، الذي يتبنى
    العامل الاقتصادي، بصفته المحرك الحقيقي لموكب البشرية في كل الميادين.

    فالماركسية تعتقد أن الوضع الاقتصادي لكل مجتمع، هو الذي يحدد أوضاعه الاجتماعية، والسياسية، والدينية، والفكرية، وما إليها من ظواهر الوجود
    الاجتماعي. والوضع الاقتصادي بدوره له سببه الخاص به، ككل شيء في
    هذه الدنيا. وهذا السبب_السبب الرئيسي لمجموع التطور الاجتماعي، وبالتالي
    لكل حركة تاريخية في حياة الإنسان_هو وضع القوة المنتجة ووسائل الإنتاج.
    فوسائل الإنتاج هي القوة الكبرى، التي تصنع تاريخ الناس وتطورهم وتنظمهم.
    وهكذا تضع الماركسية يدها على رأس الخيط، وتصل إلى تسلسلها الصاعد
    إلى السبب الأول، في الحركة التاريخية بمجموعها.
    وهنا يبدو سؤالان: ما هي وسائل الإنتاج؟. وكيف تنشأ عنها الحركة
    التاريخية، والحياة الاجتماعية كلها؟.
    وتجيب الماركسية على السؤال الأول: بأن وسائل الإنتاج هي الأدوات
    التي يستخدمها الناس في إنتاج حاجاتهم المادية ذلك أن الإنسان مضطر إلى
    الصراع مع الطبيعة في سبيل وجوده، وهذا الصراع يتطلب وجود قوي
    وأدوات معينة، يستعملها الإنسان في تذليل الطبيعة واستثمار خيراتها. وأول
    أداة استخدمها الإنسان في هذا المجال، هي: يده وذراعه. ثم أخذت الأداة
    تظهر في حياته شيئاً فشيئاً، فاستفاد من الحجر بصفته كتله ذات ثقل خاص
    في، القطع، والطحن، والطرق. واستطاع بعد مرحلة طويلة من التأريخ،
    أن يثبت هذه الكتلة الحجرية على مقبض فنشأت المطرقة. وأصبحت اليد
    تستخدم في تكوين الأداة المنتجة، لا في الإنتاج المباشر، وصار الإنتاج يعتمد
    على أدوات منفصلة، وأخذت هذه الأدوات تنمو وتتطور كلما ازدادت سلطة
    الإنسان على الطبيعة، فصنع الفؤوس، والحراب، والسكاكين الحجرية،
    ثم تمكن بعد ذلك أن يخترع القوس والسهم ويستعملهما في الصيد. وهكذا
    تدرّجت القوى المنتجة تدرجاً بطيئاً، خلال آلاف السنين، حتى وصلت
    إلى مرحلتها التاريخية الحاضرة، التي أصبح فيها البخار، والكهرباء،


    والذرة، هي الطاقات التي يعتمد عليها الإنتاج الحديث. فهذه هي القوى
    المنتجة التي تصنع للإنسان حاجاته المادية.
    وتجيب الماركسية على السؤال الثاني أيضاً: بأن الوسائل المنتجة تولد
    الحركة التاريخية، طبقاً لتطوراتها وتناقضاتها. وتشرح ذلك قائلة إن القوى
    المنتجة في تطور ونمو مستمر، كما رأينا وكل درجة معينة من تطور هذه
    القوى والوسائل، لها شكل خاص من أشكال الإنتاج. فالإنتاج الذي يعتمد
    على الأدوات الحجرية البسيطة، يختلف عن الإنتاج القائم على السهم،
    والقوس، وغير هما، من أدوات الصيد، وإنتاج الصائد، يختلف عن
    إنتاج الراعي أو المزارع، وهكذا يصبح لكل مرحلة من تاريخ المجتمع
    البشري، أسلوبه الخاص في الإنتاج، وفقاً لنوعية القوى المنتجة، ودرجة
    نموها وتطورها.
    ولما كان الناس في نضالهم مع الطبيعة، لاستثمارها في إنتاج الحاجات
    المادية ليسوا منفردين، منعزلاً بعضهم عن بعض، بل ينتجون في جماعات
    وبصفتهم أجزاء من مجتمع مترابط، فالإنتاج دائماً ومهما تكن الظروف
    إنتاج اجتماعي. ومن الطبيعي حينئذ، أن يقيم الناس بينهم علاقات معينة،
    بصفتهم مجموعة مترابطة خلال عملية الإنتاج.
    وهذه العلاقات_علاقات الإنتاج_التي تقوم بين الناس، بسبب
    خوضهم معركة موحدة ضد الطبيعة، هي في الحقيقة علاقات الملكية،
    التي تحدد الوضع الاقتصادي، وطريقة توزيع الثروة المنتجة في المجتمع
    وبمعني آخر: تحدد شكل الملكية_المشاعية، أو العبودية،أو الإقطاعية،
    أو الرأسمالية، أو الاشتراكية_ونوعية المالك، وموقف كل فرد من
    الناتج الاجتماعي.
    وتعتبر هذه العلاقات(علاقات الإنتاج، أو علاقات الملكية)_من


    وجهة رأي الماركسية_الأساس الواقعي، الذي يقوم عليه البناء العلوي
    للمجتمع كله فكل العلاقات السياسية، والحقوقية، والظواهر الفكرية،
    والدينية مرتكزة على أساس علاقات الإنتاج(علاقات الملكية). لأن
    علاقات الإنتاج، هي التي تجدد شكل الملكية السائد في المجتمع، والأسلوب
    الذي يتم بموجبه تقسيم الثروة على أفراده. وهذا بدوره، هو الذي يحدد
    الوضع السياسي، والحقوقي والفكري، والديني، بصورة عامة.
    ولكن إذا كانت كل الأوضاع الاجتماعية، تنشأ وفقاً للوضع
    الاقتصادي وبتعبير آخر: تنشأ وفقاً لعلاقات الملكية(علاقات الإنتاج)،
    فمن الضروري أن نتساءل عن علاقات الإنتاج هذه كيف تنشأ؟ وما هو
    السبب الذي يكوّن ويكيف الوضع الاقتصادي للمجتمع؟.
    وتجيب المادية التاريخية على ذلك: أن علاقات الإنتاج(علاقات
    الملكية)، تتكون في المجتمع بصورة ضرورية، وفقاً لشكل الإنتاج،
    والدرجة المعينة التي تعيشها القوي المنتجة. فلكل درجة من نمو هذه القوى،
    علاقات ملكية ووضع اقتصادي، يطابق تلك الدرجة من تطورها. فالقوى
    المنتجة هي التي تنشيء الوضع الاقتصادي، الذي تتطلبه وتفرضه على المجتمع
    ويتولد عن الوضع الاقتصادي، وعلاقات الملكية عندئذ، جميع الأوضاع
    الاجتماعية، التي تطابق ذلك الوضع الاقتصادي و تتفق معه.
    ويستمر الوجود الاجتماعي على هذه الحال، حتى تبلغ قوى المجتمع
    المنتجة درجة جديدة من النمو والتطور فتدخل في تناقض مع الوضع
    الاقتصادي القائم لأن هذا الوضع، إنما كان نتيجة للمرحلة أو الدرجة،
    التي تخطتها قوى الإنتاج إلى مرحلة جديدة، تتطلب وضعاً اقتصادياً جديداً،
    وعلاقات ملكية من نمط آخر، بعد أن أصبح الوضع الاقتصادي السابق،
    معيقاً لها عن النمو. وهكذا يبدأ الصراع بين القوى المنتجة لوسائل الإنتاج،


    في مرحلتها الجديدة من ناحية، وعلاقات الملكية والأوضاع الاقتصادية،
    التي خلفتها المرحلة السابقة لقوى الإنتاج من ناحية أخرى.
    وهنا يأتي دور الطبقية في المادية التاريخية. فإن الصراع بين القوى
    المنتجة النامية، وعلاقات الملكية القائمة، ينعكس على الصعيد الاجتماعي
    دائماً، في الصراع بين طبقتين: أحداهما: الطبقة الاجتماعية، التي تتفق
    مصالحها مع نمو القوي المنتجة، ومستلزماته الاجتماعية. والأخرى الطبقة
    الاجتماعية، التي تتفق مصالحها مع علاقات الملكية القائمة، وتتعارض
    منافعها مع متطلبات المد التطوري للقوى المنتجة.ففي المرحلة التاريخية
    الحاضرة_مثلاً-يقوم التناقض بين نمو القوى المنتجة، والعلاقات الرأسمالية
    في المجتمع. ويشب الصراع تبعاً لذلك، بين الطبقة العاملة، التي تقف إلى
    صف القوي المنتجة في نموها، وترفض بإصرار ووعي طبقي علاقات
    الملكية الرأسمالية، وبين الطبقة المالكة، التي تقف جانب العلاقات
    الرأسمالية في الملكية، وتستميت في الدفاع عنها.
    وهكذا يجد التناقض، بين قوى الإنتاج، وعلاقات الملكية_دائماً_
    مدلوله الاجتماعي، في التناقض الطبقي.
    ففي كيان المجتمع_إذن_تناقضان: الأول: التناقض بين نمو
    القوي المنتجة، وعلاقات الملكية السائدة، حين تصبح معيقة لها عن التكامل.
    والثاني: التناقض الطبقي، بين طبقة من المجتمع، تخوض المعركة لحساب
    القوى المنتجة، وطبقة أخرى، تخوضها لحساب العلاقات القائمة. وهذا
    التناقض الأخير، هو التعبير الاجتماعي والانعكاس المباشر، للتناقض الأول.
    ولما كانت وسائل الإنتاج، هي القوى الرئيسية في دنيا التاريخ فمن
    الطبيعي أن تنتصر في صراعها، مع علاقات الملكية ومخلفات المرحلة القديمة.

    فتقضي على الأوضاع الاقتصادية، التي أصبحت في تناقض معها وتقيم
    علاقات وأوضاعاً اقتصادية تواكبها في نموها وتنسجم مع
    مرحلتها.
    ومعنى ذلك بالتعبير الاجتماعي: أن الطبقة الاجتماعية التي كانت
    تقف في المعركة إلى صف القوى المنتجة، هي التي يكتب لها النصر على
    الطبقة الأخرى التي كانت تناقضها، وتحاول الاحتفاظ بعلاقات الملكية
    كما هي.
    وحين تنتصر قوى الإنتاج على علاقات الملكية، وبمعنى آخر: تفوز
    الطبقة الحليفة لوسائل الإنتاج، على نقيضتها حينئذ تتحطم علاقات الملكية
    القديمة، ويتغير الوجه الاقتصادي للمجتمع. وتغير الوضع الاقتصادي
    بدوره، يزعزع كل البناء العلوي الهائل للمجتمع، من سياسة، وأفكار،
    وأديان، وأخلاق لأن هذه الجوانب كلها، كانت تقوم على أساس الوضع
    الاقتصادي فإذا تبدل الأساس الاقتصادي، تغير وجه المجتمع كله.
    والمسألة لا تنتهي عند هذا الحد فان التناقض بين قوى الإنتاج، وعلاقات
    الملكية، أو التناقض بين الطبقتين الممثلتين لتلك القوى والعلاقات، إن هذا
    التناقض وإن وجد حله الآتي، في تغير اجتماع شامل، غير أنه حل موقوت.
    لأن القوى المنتجة، تواصل نموها وتطورها حتى تدخل مرة أخرى في
    تناقض، مع علاقات الملكية والأوضاع الاقتصادية الجديدة. ويتمخض
    هذا التناقض، عن ولادة طبقة اجتماعية جديدة، تتفق مصالحها مع النمو
    الجديد في قوى الإنتاج ومتطلباته الاجتماعية. بينما تصبح الطبقة، التي
    كانت حليفة لقوى الإنتاج، خصماً لها منذ تلك اللحظة، التي بدأت
    الوسائل المنتجة تتناقض مع مصالحها، وما تحرص عليه من علاقات الملكية.
    فتشتبك الطبقتان في معركة جديدة، كمدلول اجتماعي للتناقض بين قوى


    الإنتاج، وعلاقات الملكية. وينتهي هذا الصراع إلى نفس النتيجة، التي
    أدى إليها الصراع السابق. فتنتصر قوى الإنتاج على علاقات الملكية.
    وبالتالي تنتصر الطبقة الحليفة لها، ويتغير تبعاً لذلك الوضع الاقتصادي.
    وكل الأوضاع الاجتماعية.
    وهكذا، فإن علاقات الملكية، والأوضاع الاقتصادية، تظل محتفظة
    بوجودها الاجتماعي، ما دامت القوى المنتجة تتحرك ضمنها وتنمو، فإذا
    أصبحت عقبة في هذا السبيل، أخذت التناقضات تتجمع، حتى
    تجد حلها في انفجار ثوري، تخرج منه وسائل الإنتاج منتصرة، وقد حطمت
    العقبة من أمامها. وأنشأت وضعاً اقتصادياً جديداً، لتعود بعد مدة من
    نموها، إلى مصارعته من جديد، طبقاً لقوانين الديالكتيك، حتى يتحطم
    ويندفع التاريخ إلى مرحلة جديدة.
    المادية التاريخية والصفة الواقعة
    وقد دأب الماركسيون، على القول بأن المادية التاريخية، هي الطريقة
    العلمية الوحيدة لإدراك الواقع الموضوعي، التي قفزت بالتاريخ إلى مصاف
    العلوم البشرية الأخرى، كما حاول بعض الكتّاب الماركسيين بإصرار.
    اتهام المناوئون للمادية التاريخية، والمعارضين لطريقتها، في تفسير الإنسان
    المجتمعي: بأنهم أعداء علم التاريخ وأعداء الحقيقة الموضوعية، التي
    تدرسها المادية التاريخية وتفسرها. ويبرر هؤلاء اتهامهم هذا. بأن المادية
    التاريخية تقوم على أمرين: أحدهما: الإيمان بوجود الحقيقة الموضوعية
    والآخر: أن الأحداث التاريخية لم تخلق صدفة، وإنما وجدت وفقاً لقوانين
    عامة: يمكن دراستها وتفهمها. فكل معرضة للمادية التاريخية، مردها
    إلى المناقشة في هذين الأمرين.

    وعلى هذا الأساس كتب بعض الماركسيين يقول:
    ((قد دأب أعداء المادية التاريخية، أعداء علم التاريخ على أن يفسروا الاختلافات في إدراك الأحداث التاريخية، على أنها دليل على عدم وجود حقيقة ثابتة، ويؤكدون أننا قد نختلف في وصف حادث وقع قبل يوم، فكيف بأحداث قد وقعت قبل قرون؟!.)) ( ).
    وقد شاء الكاتب بهذا، أن يفسر كل معارضة للمادية التاريخية، على
    أساس أنها محاولة للتشكيك في الجانب الموضوعي للتاريخ، وفي الحقائق
    الموضوعية للأحداث التاريخية. وهكذا يحتكر الكاتب، الإيمان بالواقع
    الموضوعي، لمفهومه التاريخي الخاص.
    ولكن من حقنا أن نتساءل: هل أن عداء المادية التاريخية، يعني حقاً
    التشكيك في وجود الحقيقة، خارج شعور الباحث وإدراكه أو إنكارها؟.
    والواقع أننا لا نجد في هذه المزاعم. شيئاً جديداً على الصعيد التاريخي،
    فقد استمعنا إلى هذا اللون من المزاعم قبل ذلك في الحقل الفلسفي، حين
    تناولنا في(فلسفتنا) المفهوم الفلسفي للعالم. فان الماركسيين كانوا يصرون:
    أن المادية، أو المفهوم المادي للعالم، هون وحده الاتجاه الواقعي، في مضمار
    البحث الفلسفي. لأنه اتجاه قائم على أساس الإيمان بالواقع الموضوعي للمادة،
    وليس للمسألة الفلسفية جواب إذا انحرف البحث عن الاتجاه المادي، إلا
    المثالية. التي تكفر بالواقع الموضوعي، وتنكر وجوده المادة. فالكون إما
    أن يفسر تفسيراً مثالياً لا مجال فيه لواقع موضوعي مستقل عن الوعي
    والشعور، وإما أن يفسر بطريقة علمية، على أساس المادية الديالكتيكه..


    وقد مر بنا في(فلسفتنا) أن هذه الثنائية تزوير على البحث الفلسفي.
    يستهدف من وارئه اتهام كل خصوم المادية الجدلية، بأنهم تصوريون
    مثاليون، لا يؤمنون بالواقع الموضوعي للعالم، بالرغم من أن الإيمان بهذا
    الواقع، ليس وقفاً على المادية الجدلية فحسب ولا يعني رفضها بحال من
    الأحوال، التشكيك في هذا الواقع أو إنكاره...
    وكذلك القول في حقلنا الجديد، فإن الإيمان بالحقيقة الموضوعية
    للمجتمع، ولأحداث التاريخ، لا ينتج الأخذ بالمفهوم المادي، فهناك واقع
    ثابت لأحداث التاريخ، وكل حدث في الحاضر أو الماضي قد وقع فعلاً
    بشكل معين، خارج شعورنا بتلك الأحداث وهذا ما نتفق عليه جميعاً.
    وليس هو من مزايا المادية التاريخية فحسب، بل يؤمن به كل من يفسر
    أحداث التاريخ أو تطوراته، بالأفكار، أو بالعامل الطبيعي، أو الجنسي،
    أو بأي شيء آخر من هذه الأسباب. كما تؤمن به الماركسية، التي تفسر
    التاريخ بتطور القوى المنتجة. فالإيمان بالحقيقة الموضوعية، هو نقطة
    الإنطلاق لكل تلك المفاهيم عن التاريخ، والبديهة الأولى التي تقوم تلك
    التفسيرات المختلفة على أساسها.
    * * *
    وشيء آخر: أن أحداث التاريخ بصفتها جزءاً من مجموعة أحداث
    الكون، تخضع للقوانين العامة، التي تسيطر على العالم. ومن تلك القوانين.
    مبدأ العلية القائل: إن كل حدث، سواء أكان تاريخياً أو طبيعياً، أم أي
    شيء آخر لا يمكن أن يوجد صدفة وارتجالاً، وإنما هو منبثق عن سبب.
    فكل نتيجة مرتبطة بسببها، وكل حادث متصل بمقدماته وبدون تطبيق هذا
    المبدأ_مبدأ العلية_على المجال التاريخي يكون البحث التاريخي غير ذي معنى.
    فالإيمان بالحقيقة الموضوعية لأحداث التاريخ، والاعتقاد بأنها تسير


    وفقاً لمبدأ العلمية، هما الفكرتان الأساسيتان لكل بحث علمي، في تفسير
    التأريخ وإنما يدور النزاع بين التفاسير والاتجاهات المختلفة، في درس
    التأريخ، حول العلل الأساسية، والقوى الرئيسية التي تعمل في المجتمع.
    فهل هي القوى المنتجة؟، أو الأفكار؟، أو الدم؟ أو الأوضاع الطبيعية؟،
    أو كل هذه الأسباب مجتمعة؟. والجواب على هذا السؤال_أياً كان
    اتجاهه_لا يخرج عن كونه تفسيراً للتاريخ، قائماً على أساس الإيمان بحقيقة
    الإحداث التاريخية وتتابعها وفقاً لمبدأ العلية.
    * * *
    وفيما يلي سنتناول المادية التاريخية، بصفتها طريقة عامة في فهم التاريخ
    وتفسيره وندرسها:
    أولاً: على ضوء الأسس الفلسفية والمنطقية، التي يتكون منها مفهوم
    الماركسية العام عن الكون.
    وثانياً:بما هي نظرية عامة تحاول استيعاب التاريخ الإنساني.
    وثالثاً: بتفاصيلها، التي تحدد مراحل التاريخ البشري، والقفزات
    الاجتماعية على رأس كل مرحلة.
    [/align]

  4. #4
    تاريخ التسجيل
    Jul 2004
    الدولة
    هناك
    المشاركات
    28,205

    افتراضي

    [align=center]النظرية على ضوء ألاسس الفلسفية
    في ضوء المادية الفلسفية

    تؤمن الماركسية، بأن التفسير المادي للتاريخ، من أهم مزايا المادية
    الحديثة. إذ لا يمكن بدونه، إعطاء التاريخ تفسيراً صحيحاً، يتجاوب مع
    المادية الفلسفية، ويتسق مع المفهوم المادي للحياة والكون.وما دام التفسير
    المادي صادقاً_في رأي الماركسية_على الوجود، بصورة عامة، فيجب
    أن يصدق بالنسبة إلى التاريخ، لأن التاريخ ليس إلا جانباً من جوانب الوجود
    العام.
    وعلى هذا الأساس، تعيب الماركسية على مادية القرن الثامن عشر، موقفها
    من تفسير التاريخ. لأن مادية القرن الثامن عشر الميكانيكية، لم توفق إلى هذا
    الكشف المادي الجبار، في الحقل التاريخي، بل كانت مثالية في مفاهيمها
    عن التاريخ، بالرغم من اعتناقها المادية في المجال الكوني العام. ولماذا
    كانت في مفهومها التاريخي مثالية؟. كانت كذلك_في رأي الماركسية_
    لأنها آمنت بالأفكار والمحتويات الروحية للإنسان، ومنحتها دوراً رئيسياً


    في التاريخي، ولم تستطع خلال العلاقات الاجتماعية، التي كانت تعيشها،
    أن تتخطى هذه العوامل المثالية، إلى السبب الأعمق، إلى القوى المادية،
    الكامنة في وسائل الإنتاج. فلم تصل لأجل هذا، إلى العلة المادية للتاريخ،
    ولم يحالفها التوفيق في وضع تصميم علمي، لمادية تاريخية، تتجاوب مع
    المادية الكونية. وإنما ظلت تتعلق بالتفسيرات المثالية السطحية، التي تدرس
    السطح التاريخي ولا تنفذ إلى الأعماق. قال أنجلز:
    ((وبالنسبة إلينا نجد في ميدان التاريخ، أن المادية القديمة، لا تصدق مع ذاتها، لأنها تعتبر القوى المثالية المحركة في التاريخ عللا نهائية، وذلك بدلاً من البحث عما وراءها أي البحث عن القوى المحركة الفعلية، الكامنة وراء هذه القوي المحركة ويبدو التناقض، لا في الاعتراف بهذه القوى المثالية فحسب، بل في عدم مواصلة البحث وراء هذه القوى، حتى يمكن إزاحة الستار عن العلل المحركة)) ( ).
    وأنا لا أريد في مجال بحثي هذا أن أتناول المادية الفلسفية، لأن ذلك
    ما قمت به في الحلقة الأولى(فلسفتنا). وإنما أقصد أن أدرس هذا الربط،
    الذي تزعمه الماركسية، أو بعض كتّابها، بين المادية الفلسفية، والمادية
    التاريخية، بطرح السؤال التالي: هل من الضروري، على أساس المادية
    الفلسفية، أن، نفسر التاريخ كما تفسره الماركسية، ونشد عجلته منذ فجر
    الحياة إلى الأبد، بوسائل الإنتاج؟.
    ولدى الجواب على هذا السؤال، يجب أن نميز بوضوح، المفهوم

    الفلسفي للمادية، عن مفهومها التاريخي عند الماركسية. فإن التباس أحد
    المفهومين بالآخر، هو الذي أدى إلى التأكيد الآنف الذكر:على الارتباط
    بينهما، وعلى أن كل فلسفة مادية لا تتبنى تفكير ماركس للتاريخ فهي
    لا تستطيع أن تقف على قدميها، في ميدان البحث التاريخي، ولا أن تتحرر
    من المثالية، في مفاهيمها التاريخية، تحرراً نهائياً.
    والحقيقة هي: أن، المادية بمفهومها الفلسفي، تعني أن، المادة بظواهرها
    المتنوعة، هي الواقع الوحيد، الذي يشمل كل ظواهر العالم، وألوان
    الوجود فيه. وليست الروحيات، وكل ما يدخل في نطاقها، من أفكار،
    ومشاعر، وتجريدات، إلا نتاجا مادياً، وحصيلة للمادة في درجات خاصة،
    من تطورها ونموها. فالفكر مهما بدا رفيعاً وعالياً عن مستوى المادة فهو
    لا يبدو في منظار المادية الفلسفية، إلا نتاجاً للنشاط الوظيفي للدماغ. ولا
    يوجد واقع خارج حدود المادة، ووجوهها المختلفة، وليست هي بحاجة
    إلى أي معنى لا مادي.
    فأفكار الإنسان ومحتوياته الروحية، والطبيعة التي يمارسها على أساس
    هذا المفهوم الفلسفي، ليست كلها إلا أوجهاً مختلفة للمادة، وتطوراتها
    ونشاطاتها.
    هذه هي المادية الفلسفية، ونظرتها العامة إلى الإنسان والكون. ولا
    يختلف في حساب هذه النظرة الفلسفية، أن يكون الإنسان نتاجاً للشروط
    المادية، والقوى المنتجة، أو أن تكون شروط الإنتاج وقواه، نتاجاً للإنسان.
    فما دام الإنسان، وأفكاره. والطبيعة، وقواها المنتجة، كلها ضمن حدود
    المادة_ كما تزعم المادية الفلسفية_ فلا يضيرها من ناحية فلسفية أن يبدأ
    التفسير التاريخي، بأي حلقة من الحلقات، فيعتبرها الحلقة الأولى في التسلسل الاجتماعي. فكما يصح أن نبدأ بالأداة المنتجة، فنسبغ عليها صفة الألوهية


    للتاريخ، و نعتبرها السبب الأعلى، لكل التيارات التاريخية. كذلك يمكن
    _ من وجهة النظر المادية الفلسفية_ أن نبدأ بالإنسانية، بصفتها نقطة الابتداء
    في تفسير التاريخ فكلاهما في حساب المادية الفلسفية سواء.
    وبهذا يتضح أن الاتجاه المادي في الفاسفة، الذي يفسر الإنسان والطبيعة
    تفسيراً مادياً، لا يحتم مفهوم الماركسية عن التاريخ، ولا يفرض النزول
    بالإنسان، إلى درجة ثانوية في السلم التاريخي، واعتباره عجينة رخوة،
    تكفيها أدوات الإنتاج كما تشاء.
    فالمسألة التاريخية إذن، يجب أن تدرس بصورة مستقلة، عن المسألة
    الفلسفية للكون.

    في ضوء قوانين الديالكتيك

    إن قوانين الديالكتيك، هي القوانين التي تفسر كل تطور وصيرورة،
    بالصراع بين الأضداد، في المحتوى الداخل للأشياء، فكل شيء يحمل في
    صميمه جرثومة نقيضة، ويخوض المعركة مع النقيض، ويتطور طبقاً
    لظروف الصراع( ).
    والماركسية تتجة في مفهومها الخاص، إلى تطبيق قوانين الديالكتيك
    هذه، على الصعيد الاجتماعي، واستعمال الطريقة الديالكتيكية، في تحليل
    الأحداث التاريخية. فهي ترى أن التناقض الطبقي في صميم المجتمع،
    تعبير عن قانون التناقضات في الديالكتيك، القائل: إن كل شيء يحتوي في
    أعماقه، على تناقضات وأضداد. وتنظر إلى التطور الاجتماعي، بوصفه
    حركة ديناميكية، منبثقة عن التناقضات الداخلية، طبقاً لقانون الحركة
    الديالكتيكية العام، القائل: أن كل كائن يتطور، لا بحركة ميكانيكية


    وقوة خارجية تدفعه من ورائه، بل بسبب التناقضات التي تنمو في صميمه
    وتنفجر. وتؤمن بتراكم التناقضات الطبقية، شيئاً فشيئاً، حتى تحين اللحظة
    المناسبة لتتفجر عن تحول شامل، في بناء المجتمع ونظامه، وفقاً للقانون
    الديالكتيكي، القائل: إن التغيرات الكمية التاريخية، تتحول إلى تغير كيفي
    آني. وهكذا حاولت الماركسية، أن تجعل من المجال التاريخي_ عن طريق
    ماديتها التاريخية_ حقلاً خصباً، لقوانين الديالكتيك العامة.
    ولنقف لحظة لنتبين مدى التوفيق، الذي احرزته الماركسية في
    ديالكتيكها التاريخي؟. إن الماركسية استطاعت، أن تجعل من طريقتها في
    التحليل التاريخي، طريقة ديالكتيكية إلى حد ما، ولكنها تناقضت في النتائج
    التي انتهت إليها، مع طبيعة الديالكتيك. وبهذا كانت ديالكتيكية في
    طريقتها، ولم تكن كذلك في مضمونها النهائي، ونتائجها الحاسمة،
    كما سنرى.
    أ_ ديالكيكية الطريقة:
    لم تقتصر الماركسية على الطريقة الديالكتيكية، في البحث التاريخي،
    بل اتخذتها شعاراً لها في بحوثها التحليلية، لكل مناحي الكون والحياة، كما
    مر في (فلسفتنا). غير أنها لم تنج بصورة نهائية، من التذبذب بين
    تناقضات الديالكتيك، وقانون العلية. فهي بوصفها ديالكتيكية، تؤكد:
    أن النمو والتطور ينشأ عن التناقضات الداخلية فالتناقض الداخلي، هو الكفيل
    بأن يفسر كل ظاهرة من ظواهر الكون، دون حاجة إلى قوة أو
    علة خارجية، ومن ناحية أخري تعترف: بعلاقة العلة والمعلول.
    وتفسر هذه الظاهرات أو تلك بأسباب خارجية، وليس بالتناقضات المخزونة
    في أعماقها. وهذا التذبذب ينعكس في تحليلها التاريخي أيضاً. فهي بينما


    تصر على وجود تناقضات جذرية، في صميم كل ظاهرة اجتماعية: كفيلة بتطويرها وحركتها، تقرر من ناجية أخرى. إن الصراح الاجتماعي الهائل
    يقوم كله على قاعدة واحدة، وهي قوى الإنتاج، وطريقته الخاصة،
    وإن الأوضاع السياسية، والاقتصادية، والفكرية، وغيرها ... ليست
    إلا بنى فوقية في ذلك الصرح، وانعكاسات بشكل آخر لطريقة الإنتاج،
    التي قام البناء عليها. فالعلاقة إذن بين هذه النبى المتنوعة الألوان، وبين
    طريقة الإنتاج، هي علاقة معلول بعلة. ويعني هذا، أن الظاهرات الاجتماعية
    الفوقية، لم تنشأ بطريقة ديالكتيكية، وفقاً للتناقضات الداخلية فيها، وإنما
    وجدت بأسباب خارجة عن محتواها الداخلي، وبتأثير القاعدة فيها. بل إنا
    نجد أكثر من هذا، فإن التناقض الذي يطور المجتمع_ في رأي الماركسية_
    ليس هو التناقض الطبقي، الذي قد يعتبر بمعنى من المعاني تناقضاً داخلياً
    للمجتمع، وإنما هو التناقض بين علاقات الملكية القديمة وقوي الإنتاج
    الجديد. فهناك إذن شيئان مستقلان، يقوم التناقض بينهما، لا شيء واحد
    يحمل في صميمه نقضيه.
    وكأن الماركسية أدركت موقفها هذا المتأرجح، بين التناقضات
    الداخلية، وقانون العلية، وحاولت أن توفق بين الأمرين. فأعطت العلة
    والمعلول مفهوماً ديالكتيكياً، ورفضت مفهومهما الميكانيكي، وسمحت
    لنفسها على هذا الأساس، أن تستعمل في تحليلها طريقة العلة والمعلول،
    في اطارهما الديالكتيكي الخاص. فالماركسية ترفض السببية التي تسير على
    خط مستقيم، والتي تظل فيها العلة خارجية بالنسبة إلى معلولها، والمعلول
    سلبياً بالنسبة إلى علته. لأن هذه السببية، تتعارض مع الديالكتيك، مع
    عملية النمو والتكامل الذاتي في الطبيعة. إذ إن المعلول طبقاً لهذه السببية،
    لا يمكن أن يجيء حينئذ أثرى من علته. وأكثر نمواً. لأن هذه الزيادة
    في الثراء والنمو، تبقى دون تعليل. وأما المعلول الذي يولد من نقيضه،


    فيتطور وينمو بحركة داخلية، طبقاً لما يحتوي من تناقضات، ليعود إلى
    النقيض الذي أولده، فيتفاعل معه، ويحقق عن طريقة الاندماج به،
    مركباً جديداً، أكثر اغتناء وثراء، من العلة والمعلول منفردين. فهذا هو
    ما تعنيه الماركسية بالعلة والمعلول، لأنه يتفق مع الديالكتيك، ويعبر عن
    الثالوث الديالكتيكي:(الأطروحة، والطباق، والتركيب)( ). فالعلة
    هي الأطروحة، والمعلول هو الطباق، والمجموع المترابط منهما هو
    التركيب. والعلية هنا عملية نمو وتكامل، عن طريق ولادة المعلول من
    العلة، أي الطباق من الأطروحة. والمعلول في هذه العملية لا يولد سلبياً،
    بل يولد مزدواً بتناقضاته الداخلية، التي تنميه وتجعله يحتضن علته إليه،
    في مركب أرقى وأكمل.
    وقد استعملت الماركسية علاقات العلة والمعلول، بمفهومهما الديالكتيكي
    هذا في المجال التاريخي. فلم تشذ بصورة عامة عن الطريقة الديالكتيكية
    التي تتبناها، وإنما فسرت المجتمع على أساس أن له قاعدة، تقوم عليها
    ظواهر فوقية، تنشأ عن تلك القاعدة، وتنمو وتتفاعل مع القاعدة. وتنتج
    عن التأثير المتبادل، مراحل التطور الاجتماعي، طبقاً لقصة الأطروحة
    والطباق والتركيب(الإثبات، والنفي، ونفي النفي).
    وينطبق هذه الوصف على الماركسية، إذا استثنينا بعض الحالات،
    التي سجلت فيها الماركسية فشلها في تفسير الحدث التاريخي، بالطريقة
    الديالكتيكية فاضطرت إلى تفسير الحدث التاريخي، بالطريقة
    الديالكتيكية فاضطرت إلى تفسير التطور الاجتماعي، والأحداث التاريخية،
    في تلك الحالات، تفسيراً ميكانيكياً، وإن لم تسمح لنفسها بالاعتراف بهذا
    الفشل. فلقد كتب انجلز يقول:
    ((كان في إمكان المجتمعات البدائية القديمة،
    التي ذكرناها آنفاً، أن تظل باقية في الوجود لعدة آلاف
    من السنين، كما هي الحال في الهند وبين السلافيين إلى
    يومنا هذه قبل أن يؤدي تعاملها مع العالم الخارجي،
    إلى أن تنشأ في أوساطها اللامساواة في الملكية، التي ينجم عنها شروع هذه المجتمعات في التفكك))( ).
    ب_ تزييف الديالكتيك التاريخي:
    ومن الضروري أن نشير بهذا الصدد، إلى رأينا في الطريقة الديالكتيكية
    والسببية بمعناها الديالكتيكي، وهو: أن هذه السببية القائمة على أساس التناقض(الأطروحة، والطباق، والتركيب) لا تستند على العلم، ولا إلى
    التحليل الفلسفي، ولا توجد تجربة واحدة في الحقل العلمي يمكن أن تبرهن
    على هذا اللون من السببية كما يرفضها البحث الفلسفي رفضاً تاماً. ولا نريد
    التوسع في درس هذه النقطة، لأننا قمنا بدراسة مفصلة لذلك، في نقدنا
    العام للديالكتيك.(راجع فلسفتنا). وإنما يعنينا ونحن في المجال التاريخي،
    أن نعرض نموذجاً للديالكتيك التاريخي، كي يتجلى عجزه في المجال التاريخي،
    كما تجلى في(فلسفتنا) عجزه في المجال الكوني العام. ولنأخذ هذا النموذج،
    من كلام(ماركس) إمام الديالكتيك التاريخي، إذ حاول أن يصطنع
    الديالكتيك، في تفسير تطور المجتمع إلى رأسمالي، ثم إلى الاشتراكية.
    فكتب يقول_ عن ملكية الصانع الخاصة لوسائل إنتاجه:
    ((إن الاستملاك الرأسمالي، المطابق لنمو الإنتاج الرأسمالي. يشكّل النفي الأول لهذه الملكية الخاصة،
    التي ليست إلا تابعاً للعمل المستقل الفردي. ولكن الإنتاج


    الرأسمالي ينسل هو ذاته، نفيه بالحتمية ذاتها، التي
    تخضع لها تطورات الطبيعة. إنه نفي النفي. وهو يعيد
    ليس ملكية الشغيل الخاصة، بل ملكيته الفردية،
    المؤسسة على مقتنيات ومكاسب العصر الرأسمالي، وعلى التعاون والملكية المشتركة، لجميع وسائل الإنتاج بما
    فيها الأرض))( ).
    هل رأيتم كيف ينمو المعلول، حتى يندمج مع علته في تركيب أغني
    وأكمل؟. إن ملكية الصانع أو الحرفي الصغير، لوسائل إنتاجه، هي
    الأطروحة والعلة. وانتزاع الرأسمالي لتلك الوسائل منه، وتملكه لها، هو
    الطباق والمعلول. وحيث إن المعلول ينمو ويزدهر، ويؤلف مع العلة
    تركيباً أكمل، فإن الملكية الرأسمالية تتمخض عن الملكية الاشتراكية،
    التي يعود فيها الحرفي مالكاً لوسائل إنتاجه، بشكل أكثر كمالاً.
    ومن حسن الحظ، أنه لا يكفي أن يفترض الإنسان، أطروحة وطباقاً
    وتركيباً، في أحداث التاريخ والكون، لكي يكون التاريخ والكون
    ديالكتيكياً. فإن هذا الديالكتيك، الذي افترضه ماركس، لا يعدو أن
    يكون لوناً من الجدل التجريدي في ذهنه، وليس جدلاً أو ديالكتيكاً ( )
    للتاريخ. وإلا فمتي كانت ملكية الحرفي الخاصة، لوسائل إنتاجه، هي
    العلة لتملك الرأسمالي لها؟! ليقال: إن النقيض، ولد من نقيضه، وإن
    الأطروحة أنشأت طباقاً.
    إن ملكية الحرفيين الخاصة، لوسائل إنتاجهم، لم تكن هي السبب في


    وجود الإنتاج الرأسمالي. وإنما وجد الإنتاج الرأسمالي، نتيجة لتحول
    طبقة التجار_ضمن شروط معينة، وبسبب تراكم ثرواتهم_ إلى منتجين
    رأسماليين. وكانت ملكية الحرفيين، لوسائل إنتاجهم، بصورة مبعثرة
    ومتفرقة عقبة في وجه أولئك التجاريين، الذين أصبحوا يمارسون الإنتاج
    الرأسمالي، ويطعمون في السيطرة على مزيد من وسائل الإنتاج، فاستطاعوا
    بنفوذهم، أن يسحقوا تلك العقبة، وينتزعوا_ بشكل أو آخر_ وسائل
    الإنتاج، من أيدي الحرفيين، ليثبتوا بذلك أركان الإنتاج الرأسمالي،
    ويوسعوا من مداه. فالإنتاج الرأسمالي وإن احتل مكان الإنتاج الفردي،
    القائم على أساس ملكية الحرفي لوسائل إنتاجه، ولكنه لم ينشأ عن ملكية
    الحرفي لأدوات إنتاجه، كما ينشأ الطباق من الأطروحة، وإنما نشأ من
    ظروف الطبقة التجارية، وتراكم رأس المال عندها، بدرجة جعلها تمارس
    الإنتاج الرأسمالي، وبالتالي تسيطر على ممتكلات طبقة الحرفيين. وبكلمة
    واحدة: إن الشروط الخارجية_ كالتجارة، واستغلال المعمرات،
    واكتشاف المناجم_ لو لم تمنح التجاريين ملكية ضخمة، وقدرة على
    الإنتاج الرأسمالي، وعلى تجريد الحرفيين في نهاية المطاف من وسائلهم...
    لو لم تنتج تلك الشروط لهم هذه الإمكانات، لما برز الإنتاج الرأسمالي إلى
    الوجود، ولما استطاعت ملكية الحرفيين أن تخلق نقيضها، وتوجد الإنتاج
    الرأسمالي، وتطور نفسها بالتالي إلى ملكية اشتراكية.
    وهكذا لا نجد في المجال التاريخي_ كما سنرى بصورة أكثر وضوحاً،
    لدى دراستنا للمادية التاريخية، في تفاصيلها ومراحلها_ كما لم يوجد في
    المجال الكوني العام، مثال واحد تنطبق عليه قوانين الديالكتيك ومفاهيمه
    عن السببية.

    ج _ النتيجة تناقض الطريقة:
    ومن أقسى ما منيت به الماركسية، في طريقتها الديالكتيكة، أنها
    استعملت هذه الطريقة، بشكل انتهى بها إلى نتائج غير ديالكتيكية، ولأجل هذا
    قلنا_ منذ البدء_ : إن طريقة الماركسية في التحليل التاريخي ديالكتيكية،
    ولكن مضمون الطريقة يناقض الديالكتيك. لأن الماركسية تقرر من ناحيتها،
    أن التناقض الطبقي الذي يعكس تناقضات وسائل الإنتاج، وعلاقات
    الملكية، هو الأساس الرئيسي الوحيد، للصراع في داخل المجتمع. وليست
    التناقضات الأخرى، إلا نابعة منه. وتقرر في نفس الوقت، أن القافلة
    البشرية سائرة- حتماً_ في طريق محو الطبقية، من المجتمع إلى الأبد.
    وذلك حين تدق أجراس النصر، للطبقة العاملة، ويولد المجتمع اللاطبقي،
    وتدخل الإنسانية في الاشتراكية والشيوعية. فإذا كانت الطبقة وتناقضاتها،
    ستزول في تلك المرحلة من حياة المجتمع، فسوف ينقطع عنه المد التطوري
    وتنطفيء شعلة الحركة الأبدية، وتحصل المعجزة التي تشل قوانين
    الديالكتيك عن العمل. وألا فكيف تفسر الماركسية حركة الديالكتيك في
    المجتمع اللاطبقي، ما دام التناقض الطبقي قد لاقي مصيره المحتوم، وما
    دامت حركة الديالكتيك لا توجد إلا على أساس التناقض؟!.
    ولا يزال في متناول يدنا، كلام ماركس الآنف الذكر، الذي جعل
    ملكية الحرفي الخاصة أطروحة واعتبر أن الرأسمالية هي النفي الأول(الطباق)
    والاشتراكية هي نفي النفي(التركيب)... فبإمكاننا أن نسأل ماركس:
    هل سوف تكف قصة الأطروحة، والطباق، والتركيب، عن العمل،
    بعد ذلك، بالرغم من قوانين الديالكتيك العامة؟ أو أنها ستستأنف ثالوثاً
    جديداً؟. وإذا كانت ستستمر، فسوف تكون الملكية الاشتراكية هي
    الأطروحة. فما هو النقيض الذي ستلده وتنمو بالاندماج معه؟. يمكننا أن


    نفترض أن الملكية الشيوعية هي النقيض، أو النفي الأول للاشتراكية،
    ولكن ما هو نفي النفي(التركيب)؟. إن الديالكتيك سوف يبقى حائراً،
    بإزاء تأكيد الماركسية، على أن الشيوعية هي المرحلة العليا من التطور
    البشري.
    في ضوء المادية التاريخية
    ولندرس الآن المادية التاريخية في ضوء جديد، في ضوء المادية
    التاريخية ذاتها. وقد يبدو غريباً لأول وهلة، أن تكون النظرية، أداة
    للحكم على نفسها. غير أننا سنجد فيما يلي، أن المادية التاريخية، تكفي
    بمفردها للحكم على نفسها، في مجال البحث العلمي.
    إن المادية التاريخية لما كانت نظرية فلسفية عامة، لتركيب المجتمع
    وتطوره، فهي تعالج الأفكار والمعارف الإنسانية عامة، بوصفها جزءاً من
    تركيب المجتمع الإنساني. فتعطي رأيها في كيفية تكوّن المعرفة الإنسانية
    وتطورها، كما تعطي رأيها في كيفية نشوء سائر الأوضاع السياسية والدينية
    وغيرها... ولما كان الوضع الاقتصادي في رأي المادية التاريخية هو الأساس
    الواقعي للمجتمع بكل نواحيه، فمن الطبيعي لها أن تفسر الأفكار والمعارف
    على أساسه ولذلك نجد المادية التاريخية، تؤكد أن المعرفة الإنسانية، ليست
    وليدة النشاط الوظيفي للدماغ فحسب، وإنما يمكن سببها الأصيل، في الوضع الاقتصادي. ففكر الإنسان، انعكاس عقلي للأوضاع الاقتصادية، والعلاقات الاجتماعية، التي يعيشها وهو ينمو ويتطور، طبقاً لتطور تلك الأوضاع
    والعلاقات.
    وعلى هذا الأساس، شيّدت الماركسية نظريتها في المعرفة، وقالت
    بالنسبية التطورية، وإن المعرفة ما دامت وليدة ظروفها الاقتصادية والاجتماعية،
    فهي ذات قيمة نسبية، محدودة بتلك الظروف، ومتطورة تبعاً لها. فلا توجد


    حقيقة مطلقة، وإنما تتكشف الحقائق بشكل نسبي، من خلال العلائق
    الاجتماعية، وبالمقدار الذي تسمح به هذه العلائق.
    هذه هي النتيجة التي وصلت إليها المادية التاريخية في تحليل المجتمعات
    وهي النتيجة التي كان لابد لها أن تصل إليها، وفقاً لطريقة فهمها للمجتمع
    والتاريخ.
    وبالرغم من وصول الماركسية إلى هذه النتيجة، في تحليلها الاجتماعي، أبت
    أن تطبق هذه النتيجة على نظريتها التاريخية نفسها. فنادت بالمادية التاريخية
    كحقيقة مطلقة، وأعلنت على قوانينها الصارمة، بوصفها القوانين الأبدية،
    التي لا تقبل التغيير والتعديل، ولا يصيبها شيء من عطل أو عجز، في المجرى
    التاريخي الطويل للبشرية. حتى كان المفهوم الماركسي للتاريخ، نقطة انتهاء
    للمعرفة البشرية كلها، ولم تكلف الماركسية نفسها، أن تتساءل. من أين نشأ
    هذا المفهوم الماركسي؟ أو أن تخضعه لنظريتها العامة في المعرفة. ولو كلفت
    الماركسية نفسها شيئاً من ذلك_ كما يحتمه عليها الحساب العلمي_ لاضطرت
    إلى القول: بأن المادية التاريخية، بوصفها نظرية معينة، قد انبثقت من خلال
    العلاقات الاجتماعية والاقتصادية. فهي ككل نظرية أخرى، نابعة من
    الظروف الموضوعية التي تعيشها.
    وهكذا نجد، كيف أن المادية التاريخية تحكم على نفسها، من ناحية أنها
    تعتبر كل نظرية انعكاساً محدوداً للواقع الموضوعي الذي تعيشه. ولا تعدو هي
    بدورها أيضاً، أن تكون نظرية قد تبلورت في ذهن إنساني، عاش ظروفاً
    اجتماعية واقتصادية معينة. فيجب أن تكون انعكاساً محدوداً لتلك الظروف
    ومتطورة تبعاً لتطورها، ولا يمكن أن تكون هي الحقيقة الأبدية للتاريخ.
    ونحن وإن كنا لا نؤمن بأن العلاقات الاجتماعية والاقتصادية، هي السبب
    الوحيد لولادة النظريات والأفكار. ولكننا لا ننكر تأثيرها في تكوين كثير من


    الأفكار والنظريات. ولنضرب لذلك مثلاً على مفاهيم المادية التاريخية، وهو
    مفهوم ماركس الثوري للتاريخ فقد ظن ماركس، أن إزالة المجتمع الرأسمالي،
    أو أي مجتمع آخر، لايتم إلا باتصال ثوري، بين طبقتيه الأساسيتين، وهما
    طبقة البورجوازية، وطبقة البروليتاريا. وعلى هذا الأساس اعتبر الثورة من
    أعم القوانين، التي تسيطر على التاريخ البشري كله، وجاء الماركسيون بعد
    ذلك. فبدلاً عن محاولة استكشاف الظروف الاجتماعية، التي أوحت إلى
    ماركس بحتمية الثورة وضرورتها التاريخية. آمنوا بأن الثورة من القوانين الأبدية
    للتاريخ. مع أنها لم تكن في الحقيقة، إلا فكرة استوحاها ماركس، من
    الظروف التي عاشها، ثم قفز بها إلى مصاف القوانين المطلقة للتاريخ.
    فقد عاصر ماركس، رأسمالية القرن التاسع عشر، تلك الرأسمالية
    المطلقة، المتميزة بظروفها السياسية والاقتصادية الخاصة. فبدا له أن التلاحم
    الثوري، أقرب ما يكون إلى الوقوع، وأوضح ما يكون ضرورة. لأن البؤس
    والنعيم والفقر والغنى، في ظل الرأسمالية المطلقة، كانا يتزايدان باستمرار ودون
    عائق. وكانت الظروف السياسية مظلمة إلى حد كبير فتفتق ذهن ماركس،
    عن فكرة النضال الطبقي، الذي يستشري ويزداد تناقضاً، يوماً بعد يوم،
    حتى ينفر البركان ويحل التناقض بالثورة. فآمن بأن الانقلاب الثوري من
    قوانين التاريخ العامة. ومات ماركس واختلفت الأوضاع الاجتماعية في
    أوروبا الغربية، وأخذت الظروف السياسية والاقتصادية تسير سيراً معاكساً،
    للاتجاه الذي قدره ماركس. فلم يتفاقم التناقض، ولم يتسع البؤس، بل أخذ
    بالانكماش نسبياً وأثبتت التجارب السياسية، أن بالإمكان تحقيق مكاسب
    مهمة للجمهور البائس، بخوض المعترك السياسي دونما ضرورة لتفجير
    البركان بالدماء.
    وسار الماركسيون الاشتراكيون في اتجاهين مختلفين: أحدهما: الاتجاه
    الإصلاحي الديمقراطي والآخر: الاتجاه الانقلابي الثوري.فالاتجاه الأول،


    كان هو الاتجاه العام للاشتراكية، في عدة من الأقطار الأوروبية الغربية،
    التي بدا للاشتراكيين، في ضوء ما حصل لها من تقدم سياسي واقتصادي،
    أن الثورة أصبحت غير ضرورية. وأما الاتجاه الثاني، فقد سيطر على الحركة
    الاشتراكية في أوروبا الشرقية، التي لم تشهد ظروفاً فكرية وسياسية واقتصادية،
    مماثلة لظروف الغرب. وقام الصراع بين الاتجاهين الماركسيين، حول
    تفسير الماركسية، لحساب هذا الاتجاه أو ذاك. وقدّر أخيراً للاتجاه الثوري،
    في أوروبا الشرقية أن ينجح. فهلل له الاشتراكيون الثوريون، واعتبروه
    الدليل الحاسم على: أن الاتجاه الثوري، هو الذي تتجسد فيه الماركسية
    بمطلقاتها وأبدياتها النهائية.
    وفات هؤلاء جميعاً كما فات ماركس قبلهم، أنهم ليسوا إزاء حقيقة مطلقة
    أبدية، وإنما هم إزاء فكرة استوحاها ماركس من ظروفه، والأجواء
    الفكرية والسياسية التي كان يعيشها، ثم وضع عليها المساحيق العلمية، وأعلنها
    قانوناً مطلقاً، لاتقبل التخصيص والاستثناء.
    وليس من شاهد على ذلك أقوى، من تناقض الاشتراكية الماركسية
    _ كما أشرنا سابقاً_ واتخاذها في الشرق طابعاً ثورياً، وفي الغرب طابعاً
    ديمقراطياً إصلاحيا. فإن هذا التناقض، لا يعبر في الحقيقة عن الاختلاف
    في فهم الماركسية، بمقدار ما يعبر عن مدى محدودية المفهوم الماركسي،
    لظروفه الاجتماعية الخاصة. حيث نستنتج منه أن الثورية الماركسية، لم تكن
    من حقائق التاريخ المطلقة، التي تكشفت الماركس في لحظة من الزمن، وإنما
    هي تعبير عن الظروف التي عاشها ماركس، وحين تطورت هذه الظروف
    في أوروبا الغربية، وتكشفت عن أشياء جديدة، أصبحت تلك الفكرة غير
    ذات معنى، بالرغم من احتفاظها بقيمتها في أوروبا الشرقية، التي لم تحدث
    فيها تلك الأشياء.
    ولا نريد بهذا أننا نؤمن، بأن كل نظرية لا بد أن تكون نابعة من


    الأوضاع الاجتماعية والسياسية، وإنما هدفنا أن نقرر:
    أولاً: أن بعض الأفكار والنظريات، تتأثر بالظروف الموضوعية
    للمجتمع فتبدو وكأنها حقائق مطلقة مع أنها لا تعبر إلا عن الحقيقة، في
    حدود تلك الظروف الخاصة. ومن تلك الأفكار والنظريات بعض مفاهيم
    ماركس عن التاريخ.
    ثانياً: أن جميع مفاهيم ماركس عن التاريخ، يجب أن تكون_ في
    حكم المادية التاريخية ووفقاً لنظرية المعرفة الماركسية_ حقائق نسبية، نابعة
    عن العلاقات الاجتماعية والاقتصادية، التي عاصرتها، ومتطورة تبعاً لتطورها.
    ولا يمكن أن تؤخذ المادية التاريخية، بوصفها حقيقة للتاريخ. ما دامت
    النظريات نتاجاً للظروف النسبية المتطورة كما تؤكد ذلك الماركسية نفسها.




    النظرية بما هي عامّة
    بعد أن درسنا المادية التاريخية، في ضوء القواعد الفكرية الماركسية، من
    المادية الفلسفية، والديالكتيك، والمادية التاريخية نفسها، أو بتعبير آخر
    طريقة المادية التاريخية في تفسر المعرفة. وحددنا صلتها بتلك القواعد. بعد أن
    درسنا ذلك كله، حان الوقت للانتقال إلى المرحلة الثانية من دراسة المادية
    التاريخية. وذلك أن نتناولها بما هي نظرية عامة، تستوعب بتفسيرها حياة
    الإنسان، وتاريخه الاجتماعي كله. وندرسها بصفتها العامة هذه. بقطع النظر
    عن تفاصيلها، وخصائص كل مرحلة من مراحلها.
    وحين نتناولها بهذا الوصف، نجد بين يدي البحث عدة أسئلة، تنتظر
    الجواب عليها:
    فأولاً: ما هو نوع الدليل، الذي يمكن تقديمه لإثبات الفكرة الأساسية،
    في المادية التاريخية وهي: أن، الواقع الموضوعي لقوى الإنتاج، هو القوة
    الرئيسية للتاريخ، والعامل الأساسي في حياة الإنسان؟
    وثانياً: هل يوجد مقياس أعلى، توزن به النظريات العلمية؟. وما هو
    موقف هذا المقياس من النظرية الماركسية عن التاريخ؟

    وثالثاً: هل استطاعت المادية التاريخية حقاً أن تملأ بتفسيرها الافتراضي،
    كل الشواغر في التاريخ الإنساني، أو بقيت عدة جوانب عامة من الحياة
    الإنسانية، خارج حدود التفسير المادي للتاريخ؟
    [/align]

  5. #5
    تاريخ التسجيل
    Jul 2004
    الدولة
    هناك
    المشاركات
    28,205
    [align=center]وسوف ندير البحث، حول الجواب على هذه الأسئلة الثلاثة. حتى إذا
    انتهينا من ذلك، انتقلنا إلى المرحلة الثالثة، من درس المادية التاريخية، درس
    تفاصيلها ومراحلها المتعاقبة.

    أولاً: ما هو نوع الدليل على المادية التاريخية؟
    ولكي تتاح لنا معرفة الأساليب، التي تستعملها الماركسية، للتدليل على
    مفهومها المادي للتاريخ، يجب استيعاب مجموعة ضخمة، من أفكار المادية
    التاريخية وكتبها لأن الأساليب معروضة بشكل متقطع، وموزع في مجموع
    كتابات الماركسية.
    ويمكننا تلخيص الأدلة التي تستند إليها المادية التاريخية، في أمور ثلاثة:
    ( أ ) الدليل الفلسفي.
    ( ب ) الدليل السيكولوجي
    ( جـ ) الدليل العلمي.



    [all1=FFCC00]أ_ الدليل الفلسفي:[/all1]أما الدليل الفلسفي_ ونعني به: الدليل الذي يعتمد على التحليل
    الفلسفي للمشكلة، وليس على التجارب والملاحظة المأخوذة عن مختلف
    عصور التاريخ_ فهو: أن خضوع الأحداث التاريخية لمبدأ العلية، الذي
    يحكم العالم بصورة عامة، يرغمنا على التساؤل عن سبب التطورات التاريخية،
    التي تعبر عنها أحداث التاريخ المتعاقبة، وتياراته الاجتماعية، والفكرية


    والسياسية المختلفة. فمن الملاحظ بكل سهولة، أن المجتمع الأوروبي الحديث
    مثلاً يختلف في محتواه الاجتماعي وظواهره المتنوعة، عن المجتمعات
    الأوروبية قبل عشرة قرون. فيجب أن يكون لهذا الاختلاف الاجتماعي
    الشامل سببه، وأن نفسر كل تغير في الوجود الاجتماعي، في ضوء الأسباب
    الأصيلة، التي تصنع هذا الوجود وتغيره، كما يدرس العالم الطبيعي، في
    الحقل الفيزيائي، كل ظاهرة طبيعية، في ضوء أسبابها، ويفسرها بعلتها
    لأن المجالات الكونية كلها_ الطبيعية والإنسانية_ خاضعة لمبدأ العلية.فما هو
    السبب_ إذن_ لكل التغييرات الاجتماعية، التي تبدو على مسرح التاريخ؟.
    قد يجاب على هذا السؤال: بأن السبب هو الفكر أو الرأي السائد في
    المجتمع. فالمجتمع الأوروبي الحديث، يختلف عن المجتمع الأوروبي_
    القديم، تبعاً لنوعية الأفكار والآراء الاجتماعية العامة، السائدة في كل من
    المجتمعين.
    ولكن هل يمكن أن نقف عند هذا في تفسير التاريخ والمجتمع؟.
    إننا إذا تقدمنا خطوة إلى الأمام، في تحليلنا التاريخي، نجد أنفسنا مرغمين
    على التساؤل: عما إذا كانت آراء البشر وأفكارهم خاضعة لمجرد المصادفة.
    ومن الطبيعي أن يكون الجواب على هذا السؤال_ في ضوء مبدأ العلية_
    سلبياً. فليست آراء البشر وأفكارهم، خاضعة للمصادفة، كما أنها ليست
    فطرية، تولد مع الناس، وتموت بموتهم. وإنما هي آراء وأفكار مكتسبة،
    تحدث وتتغير وتخضع، في نشوئها وتطورها لأسباب خاصة فلا يمكن
    _ إذن_ اعتبارها السبب النهائي، للأحداث التاريخية والاجتماعية، ما دامت
    هي بدورها أحداثاً خاضعة لأسباب وقوانين محددة. بل يجب أن نفتش عن
    العوامل المؤثرة، في نشوء الآراء والأفكار وتطورها. فلماذا_ مثلاً_ ظهر
    القول بالحرية السياسية في العصر الحديث، ولم يوجد في قرون أوروبا
    الوسطى وكيف شاعت الآراء التي تعارض الملكية الخاصة، في المرحلة التاريخية
    الحاضرة، دون المراحل السابقة؟

    وهنا قد نفسر، بل من الضروري أن نفسر نشوء الآراء وتطورها، عن
    طريق الأوضاع الاجتماعية. بصورة عامة، أو بعض تلك الأوضاع
    _ كالوضع الاقتصادي_ بوجه خاص. ولكن هذا لا يعني أننا تقدمنا في حل
    المشكلة الفلسفية شيئاً. لأننا لم نصنع أكثر من أننا فسرنا تكون الآراء وتطورها
    تبعاً لتكون الأوضاع الاجتماعية وتطورها. ولذلك انتهينا إلى النقطة التي
    ابتدأنا بها، انتهينا إلى الأوضاع الاجتماعية، التي كنا نريد منذ البدء أن
    نفسرها، ونستكشف أسبابها. فإذا كانت الآراء وليدة الأوضاع الاجتماعية،
    فما هي الأسباب التي تنشأ عنها الأوضاع الاجتماعية، وتتطور طبقاً لها؟
    وبكلمة أخرى ما وهو السبب الأصيل للمجتمع والتاريخ؟
    وليس أمامنا_ في هذا الحال_ لاستكشاف أسباب الوضع الاجتماعي
    وتفسيره إلا أحد سبيلين:
    الأول: أن نرجع إلى الوراء خطوة، فنكرر الرأي السابق، القائل
    بتفسير الأوضاع الاجتماعية بمختلف ألوانها السياسية والاقتصادية وغيرها
    بالأفكار والآراء. ونكون حينئذ قد درنا في حلقة مفرغة. لأننا قلنا أولاً:
    أن الآراء والأفكار وليدة الأوضاع الاجتماعية. فإذا عدنا لنقول: أن هذه
    الأوضاع نتيجة للأفكار والآراء، رسمنا بذلك خطاً دائرياً، ورجعنا من
    حيث أردنا أن نتقدم.
    وهذا السبيل هو الذي سار فيه المفسرون المثاليون للتاريخ جميعاً. قال
    بليخانوف:
    ((وجد هيجل نفسه، في ذات الحلقة المفرغة، التي وقع فيها علماء الاجتماع، والمؤرخون الفرنسيون. فهم يفسرون الوضع الاجتماعي، بحالة الأفكار وحالة الأفكار بالوضع الاجتماعي... وما دامت هذه المسألة بلا حل،


    كان العلم لا ينفك عن الدوران في حلقة مفرغة، بإعلانه:
    أن (ب) سبب (أ)، مع تعيينه(أ) كسبب
    (ب)( ))).
    والسبيل الآخر_ سبيل الماركسية_: أن نواصل تقدمنا في التفسير
    والتعليل، وفقاً لمبدأ العلية. ونتخطى أفكار الإنسان وآرائه، وعلاقاته
    الاجتماعية بمختلف أشكالها، نتخطاها لأنها كلها ظواهر اجتماعية، تحدث
    وتتطور، فهي بحاجة إلى تعليل وتفسير. ولا يبقى علينا في هذه اللحظة
    الحاسمة، من تسلسل البحث، إلا أن نفتش عن سر التاريخ، خارج نطاق
    الطبيعة التي يمارسها الإنسان منذ أقدم العصور. أن قوى الإنتاج هذه، هي
    وحدها التي يمكّنا أن تجيب على السؤال، الذي كنا نعالجه: لماذا وكيف
    حدثت الأحداث التاريخية، وتطورت وفقاً للضرورة الفلسفية، القائلة: بأن
    الأحداث لا تخضع للمصادفة، وإن لكل حادثة سببها الخاص (مبدأ العلية)؟.
    وهكذا لا يمكن للتفسير التاريخي، أن ينجو من الحركة الدائرية العقيمة
    في مجال البحث، إلا إذا وضع يده على وسائل الإنتاج، كسبب أعلى للتاريخ
    والمجتمع.
    هذا هو الدليل الفلسفي. وقد حرصنا على عرضه بأفضل صورة ممكنة،
    ويعد أهم كتاب استهدف بمجموعة بحوثه كلها، التركيز على هذا اللون
    من الاستدلال: (فلسفة التاريخ)، للكاتب الماركسي الكبير بليخانوف وقد
    لخصنا الدليل الآنف الذكر من مجموعة بحوثه.
    والآن بعد أن أدركنا، الدليل الفلسفي للنظرية، بشكل جيد، أصبح
    من الضروري تحليل هذا الدليل ودرسه، في حدود الضرورة الفلسفية،
    القائلة: أن الأحداث لا تنشأ صدفة(مبدأ العلية).

    فهل هذا الدليل الفلسفي صحيح؟. هل صحيح أن التفسير الوحيد
    الذي تنحل له المشكلة الفلسفية للتاريخ هو تفسيره بوسائل الإنتاج؟.
    ولكي نمهد للجواب على هذا السؤال، نتناول نقطة واحدة بالتحليل،
    تتصل بوسائل الإنتاج، التي اعتبرتها الماركسية السبب الأصيل للتاريخ.
    وهذه النقطة هي: أن وسائل الإنتاج ليست جامدة ثابتة، بل هي بدورها
    أيضاً تتغير وتتطور على مر الزمن، كما تتغير أفكار الإنسان وأوضاعه الاجتماعية، فتموت وسيلة إنتاج، وتولد وسيلة أخرى. فمن حقنا أن نتساءل: عن
    السبب الأعمق الذي يطور القوى المنتجة، ويكمن وراء تاريخها الطويل،
    كما تساءلنا عن الأسباب والعوامل التي تصنع الأفكار، أو تصنع الأوضاع
    الاجتماعية.
    ونحن حين فتقدم بهذا السؤال إلى بليخانوف_ صاحب الدليل الفلسفي_
    وأضرابه. من كبار الماركسيين، لا ننتظر منهم الاعتراف بوجود سبب
    أعمق للتاريخ، وراء القوى المنتجة لأن ذلك يناقض الفكرة الأساسية، في
    المادية التاريخية، القائلة بأن وسائل الإنتاج هي المرجع الأعلى في دنيا
    التاريخ. ولهذا فإن هؤلاء حين يجيبون على سؤالنا، يحاولون أن يفسروا
    تاريخ القوى المنتجة وتطورها بالقوى المنتجة ذاتها، قائلين: إن قوى
    الإنتاج، هي التي تطور نفسها، فيتطور تبعاً لها المجتمع كله. ولكن كيف
    يتم ذلك؟. وما هو السبيل الذي تنهجه القوى المنتجة لتطوير نفسها؟. إن
    جواب الماركسية على هذا السؤال جاهز أيضاً، فهي تقول في تفسير ذلك:
    إن القوى المنتجة_ خلال ممارسة الإنسان لها_ تولّد وتنمي، في ذهنه
    باستمرار، الأفكار والمعارف التأملية( ). فالأفكار التأملية، والمعارف
    العلمية، تنتج كلها عن التجربة، خلال ممارسة الإنسان لقوى الطبيعة
    المنتجة، وحين يكسب الإنسان تلك الأفكار والمعارف، عن طريق
    ممارسة القوى الطبيعية المنتجة، تصبح هذه الأفكار التأملية والمعارف
    العلمية، قوى يستعين بها الإنسان على إيجاد وسائل إنتاج، وتجديد القوى
    المنتجة، وتطويرها باستمرار.
    ومعنى هذا: أن تاريخ تطور القوى المنتجة، تم وفقاً للتطور العلمي
    والتأملي، ونشأ عنه. والتطور العلمي بدوره، نشأ عن تلك القوى خلال
    تجربتها. وبهذا استطاعت الماركسية، أن تضمن لوسائل الإنتاج، موقعها
    الرئيسي من التاريخ وتفسر تطورها عن طريق الأفكار التأملية، والمعارف
    العلمية المتزايدة، الناشئة بدورها عن قوى الإنتاج، دون أن تعترف بسبب
    أعلى من وسائل الإنتاج.
    وقد أكد انجلز على إمكان هذا اللون من التفسير_ تفسير كل من قوى
    الإنتاج والأفكار التأملية في تطورهما بالآخر_ ونوّه: بأن الديالكتيك لا يقر
    تصور العلة والمعلول بوصفهما قطبين متعارضين، تعارضاً حاداً، كما اعتاد
    غير الديالكتيكيين إدراكهما كذلك. فهم يرون دائماً العلة هنا، والمعلول
    هناك وإنما يفهم الديالكتيك العلة والمعلول، على شكل فعل ورد فعل للقوى.

    هذه هي النقطة التي أوضحناها تمهيداً لتحليل الدليل الفلسفي ونقده كي
    نقول: إذا كان هذا ممكناً من الناحية الفلسفية، وجاز أن يسير التفسير في
    حلقة دائرية_ كما صنعت الماركسية بالنسبة إلى القوى المنتجة وتطورها_ فلماذا
    لا يمكن فلسفياً، أن نصطنع نفس الأسلوب، في تفسير الوضع الاجتماعي؟!
    فنقرر: أن الوضع الاجتماعي_ في الحقيقة_ عبارة عن التجربة الاجتماعية،
    التي يخوضها الإنسان خلال علاقاته بالأفراد الآخرين، كما يخوض تجربته
    الطبيعية، مع القوى المنتجة، خلال عمليات الإنتاج. فكما أن الأفكار التأملية
    للإنسان، تنمو وتتكامل في ظل التجربة الطبيعية ثم تؤثر بدورها في تطوير
    التجربة وتجديد وسائلها كذلك الأفكار العملية للمجتمع، تنمو وتتطور
    في ظل التجربة الاجتماعية وتؤثر في تطويرها وتجديدها.
    فوعي الإنسان العلمي للكون، ينمو باستمرار من خلال التجربة
    الطبيعية، وتنمو بسببه التجربة الطبيعية وقواها المنتجة نفسها. وكذلك وعي
    الإنسان العملي، للعلاقات الاجتماعية. ينمو باستمرار من خلال التجربة
    الاجتماعية، وتتطور بسببه التجربة الاجتماعية نفسها، وعلاقاتها السائدة.
    وعلى هذا الأساس لا مانع من ناحية فلسفية يمنع الماركسية من أن تفسر
    الوضع الاجتماعي، عن طريق الآراء العملية. ثم تفسر تغير الآراء وتطورها،
    عن طريق التجربة الاجتماعية، المتمثلة في الأوضاع السياسية والاقتصادية
    وغيرها... لأن هذا التفسير المتبادل للوضع الاجتماعي والوعي العملي نظير
    تفسير الماركسية_ تماماً_ لكل من تاريخ القوى المنتجة والوعي العلمي، بالآخر.
    والسؤال بعد هذا كله، لماذا يجب أن ندخل وسائل الإنتاج، في حساب
    التفسير التاريخي والاجتماعي؟! ولماذا لا يمكن أن نكتفي بهذا التفسير المتبادل،
    للوضع الاجتماعي والأفكار، أحدهما بالآخر.
    إن الضرورة الفلسفية، ومفاهيم العلة والمعلول، التي أكد عليها انجلز،


    تسمح لنا بمثل هذا التفسير، فإن كانت توجد أسباب تمنع عن الأخذ به،
    فإنما هي الملاحظات والتجارب التاريخية. وذلك ما سوف نتناوله في الدليل
    العلمي.
    [all1=66CCFF]ب_ الدليل السيكولوجي:[/all1]
    نقطة البدء في هذا الدليل، هي: محاولة التدليل على أن نشوء الفكر في
    حياة الإنسانية، كان نتاجاً لظواهر وأوضاع اجتماعية معينة. وينتج عن ذلك
    أن الكيان الاجتماعي، سبق في وجوده التاريخي، وجود الفكر، فلا يمكن
    أن نفسر الظواهر الاجتماعية، في تكوينها الأول، ونشوئها، بعامل مثالي
    _ كأفكار الإنسان- ما دامت هذه الأفكار لم تظهر في التاريخ، إلا بصورة
    متأخرة عن حدوث ظواهر اجتماعية معينة، في حياة الناس. وليس من اتجاه
    علمي بعد ذلك، لتفسير المجتمع وتعليل ولادته، إلا الاتجاه المادي، الذي
    يطرح العوامل الفكرية جانباً ويفسر المجتمع بالعامل المادي، بوسائل الإنتاج.
    فالنقطة الرئيسية في هذا الدليل- إذن- أن نبرهن على أن الأفكار، لم
    تحدث في عالم الإنسانية، إلا كنتيجة ظاهرة اجتماعية سابقة. لكي يستنتج
    _ من ذلك_ أن المجتمع سابق تاريخياً على الفكر، وناشيء عن العوامل
    المادية، وليس ناشئاً عن الأفكار والآراء.
    أما كيف عالجت الماركسية هذه النقطة الرئيسية؟ وبرهنت عليها؟
    فهذا ما يتضح في تأكيد الماركسية، على أن الأفكار وليدة اللغة، وليست
    اللغة إلا ظاهرة اجتماعية. قال ستالين:
    ((يقال أن الأفكار تأتي في روح الإنسان، قبل أن تعبر عن نفسها في الحديث. وأنها تولد دون أدوات اللغة،
    أي دون إطار اللغة، أو بعبارة أخرى: تولد عارية.
    إلا أن هذا خطأ تماماً مهما كانت الأفكار، التي تأتي في


    روح الإنسان، فلا يمكن أن تولد وتوجد إلا على أساس أدوات اللغة، أي على أساس الألفاظ والجمل اللغوية.
    فليس هناك أفكار عارية متحررة، من أدوات اللغة،
    أو متحررة من المادة الطبيعية التي هي اللغة. فاللغة هي
    الواقع المباشر للفكر، ولا يمكن أن يتحدث عن فكر،
    بدون لغة، إلا المثاليون وحدهم))( ).
    وهكذا ربط ستالين، بين الفكر واللغة. واعتبر اللغة أساساً لوجود
    الفكر. فلا يمكن الحديث عن أفكار عارية، دون أدوات اللغة.
    وجاء بعد ذلك الكاتب الماركسي الكبير(جورج بولتزير)، ليبرهن
    على هذه الحقيقة المزعومة، في ضوء بعض الاكتشافات السيكولوجية، أو
    بالأحرى في ضوء الأساس الفيسولوجي لعلم النفس، الذي وضعه العالم
    الشهير (بافلوف) مستخلصاً له من تجارب عديدة قام بها.
    فقد كتب(بولتزير) معلقاً على كلام(ستالين) الآنف الذكر:
    ((ولقد لاقت مباديء المادية الجدلية هذه، تدعيماً باهراً في العلوم الطبيعية، بفضل الأبحاث الفسيولوجية،
    التي قام بها العالم العظيم(بافلوف). فقد اكتشف
    (بافلوف): أن العمليات الأساسية في النشاط ألمخي،
    هي الأفعال المنعكسة الشرطية، التي تكون في ظروف محدودة، والتي تطلقها الاحساسات، سواء الخارجية
    أو الداخلية وأثبت(بافلوف): إن هذه الاحساسات،


    تقوم بدور الإشارات الموجهة، بالنسبة لكل نشاط
    الكائن العضوي الحي. وقد اكتشف من ناحية أخرى:
    أن الكلمات_ بمضمونها و معناها_ يمكن أن تحل محل الاحساسات_ التي تحدثها الأشياء_ التي تدل عليها.
    وهكذا تكون الكلمات إشارات للإشارات، أي نظاماً
    ثانياً في العملية الاشارية، يتكون على أساس النظام
    الأول، ويكون خاصاً بالإنسان وهكذا تعتبر اللغة،
    هي شرط النشاط الراقي في الإنسان وشرط نشاطه الاجتماعي وركيزة الفكر المجرد، الذي يتخطى الإحساس ألوقتي، وركيزة النظر العقلي. فهي التي تتيح للإنسان
    أن يعكس الواقع، بأكبر درجة من الدقة. وبهذه الطريقة أثبت(بافلوف) أن ما يحدد_ أساساً_شعور الإنسان
    ليس جهازه العضوي، وظروفه البيولوجية، بل يحدده_
    على عكس ذلك_ المجتمع الذي يعيش فيه الإنسان))( ).
    ولنأخذ بشيء من التوضيح محاولة(بولتزير) هذه، التي استدل فيها
    على رأي الماركسية، بأبحاث(بافلوف).
    يرى(بولتزير)، أن من رأي(بافلوف) في العمليات الأساسية للمخ،
    أنها كلها استجابات المنبهات وإشارات معينة. وهذه المنبهات والإشارات،
    هي بالدرجة الأولى الإحساسات. ومن الواضح أن الاستجابة التي تحصل
    عن طريق الإحساسات، ليست فكرة عقلية مجردة عن الشيء، لأنها لا
    تحصل إلا لدى الإحساس بالشيء المعين. فهي لا تتيح للإنسان أن يفكر
    في شيء غائب عنه. وبالدرجة الثانية يأتي دور اللغة، والأدوات اللفظية،


    لتقوم بدور المنبهات والإشارات الثانوية. فيشرط كل لفظ بإحساس معين،
    من تلك الاحساسات، فيصبح منبهاً شرطياً بالدرجة الثانية. ويتاح للإنسان
    أن يفكر، عن طريق الاستجابات، التي تطلقها المنبهات اللغوية إلى ذهنه،
    فاللغة_ إذن_ هي أساس الفكر. وحيث أن اللغة ليست إلا ظاهرة
    اجتماعية، فالفكر ليس_على هذا_ إلا ظاهرة ثانوية للحياة الاجتماعية.
    هذه هي الفكرة التي عرضها(بولتزير).
    وبدورنا نتساءل: هل اللغة هي أساس الفكر حقاً، (فليس هناك
    أفكار عارية متحررة من أدوات اللغة)، على حد تعبير ستالين؟. ولأجل
    التوضيح نطرح المسألة على الوجه التالي: هل أن اللغة هي التي خلقت من
    الإنسان كائناً مفكراً، بصفتها ظاهرة اجتماعية معينة، كما يقرر بولتزير؟
    أو أنها وجدت في حياة الإنسان المفكر، نتيجة لأفكار كانت تريد الوسيلة
    للتعبير عنها، وعرضها على الآخرين؟. ونحن لا نستطيع أن نأخذ بالتقدير
    الأول، الذي حاول(بولتزير) التأكيد عليه، حتى حين ننطلق في البحث
    من تجارب(بافلوف)، والقاعدة التي وضعها عن المنبهات الطبيعية والشرطية.
    * * *
    ولكي نكون أكثر وضوحاً، يجب اعطاء فكرة مبسطة عن آراء
    (بافلوف)، وطريقته في تفسير الفكر، تفكيراً فسيولوجياً: فإن هذا العالم
    الشهير، استطاع أن يدلل بالتجربة، على أن شيئاً معيناً إذا ارتبط بمنبه طبيعي،
    اكتسب نفس فعاليته، وأخذ يقوم بدوره، ويحدث نفس الاستجابة التي يحدثها
    المنبه الطبيعي. فتقديم الطعام إلى الكلب مثلاُ_ منبه طبيعي، يحدث فيه
    استجابة معينة: إذ يسيل لعابه، أول ما يرى الاناء الذي يحتوي على الطعام.
    وقد لاحظ ذلك (بافلوف)، فأخذ يدق جرساً عند تقديم الطعام إلى الكلب.
    و كرر هذا عدة مرأت. أخذ يدق الجرس من دون تقديم الطعام. فوجد
    أن لعاب الكلب يسيل. واستنتج من هذه التجربة: أن دق الجرس أصبح

    يحدث نفس الاستجابة، التي كان المنبه الطبيعي (تقديم الطعام) يحدثها،
    ويؤدي نفس دوره، بسبب اقترانه واشتراطه به عدة مرات ولهذا أطلق
    على دق الجرس أسم:(ألمنبه الشرطي) وسمي تحلب اللعاب وسيلانه،
    الذي يحدث بسبب دق الجرس: (استجابة شرطية).
    وعلى هذا الأساس حاول جماعة، أن يفسروا الفكر الإنساني كله،
    تفسيراً فسيولوجياً، كما يفسر تحلب اللعاب عند الكلب تماماً. فأفكار الإنسان
    كلها استجابات لمختلف أنواع المنبهات. وكما أن تقديم الطعام إلى الكلب،
    منبه طبيعي، يستثير استجابة طبيعية وهي سيلان اللعاب، كذلك توجد بالنسبة
    إلى الإنسان منبهات طبيعية، تطلق استجابات معينة، اعتدنا أن نعتبرها ألواناً
    من الإدراك. وتلك المنبهات، التي تطلق هذه الاستجابات، هي الإحساسات
    الداخلية والخارجية. وكما أن دق الجرس، اكتسب نفس الاستجابة، التي
    يحدثها تقديم الطعام إلى الكلب، بالاقتران والاشتراط، كذلك توجد أشياء
    كثيرة، اقترنت بتلك المنبهات الطبيعية للإنسان، فأصبحت منبهات شرطية
    له ومن تلك المنبهات الشرطية: كل أدوات اللغة. فلفظة الماء_ مثلاً_
    تطلق نفس الاستجابة، التي يطلقها الإحساس بالماء. بسبب اقترانها واشتراطها
    به. فالإحساس بالماء، أو الماء المحسوس: منبه طبيعي، ولفظ.(الماء):
    منبه شرطي، وكلاهما يطلقان في الذهن، استجابة من نوع خاص.
    وقد افترض بافلوف لأجل ذلك نظامين أشاريين.
    أحدهما: النظام الاشاري، الذي يتكون من مجموعة المنبهات الطبيعية،
    والمنبهات الشرطية، التي لا تتدخل فيها الألفاظ.
    والآخر: النظام الاشاري المشتمل على الألفاظ والأدوات اللغوية،
    بصفتها منبهات شرطية ثانوية: فهي منبهات ثانوية، أشرطت بمنبهات
    النظام الاشاري الأول، واكتسبت بسبب ذلك، قدرتها على إثارة استجابات
    شرطية معينة.

    والنتيجة التي تنتهي إليها آراء (بافلوف) هي: أن الإنسان لا يمكنه
    أن يفكر بدون منبه، لأن الفكر ليس إلا استجابة من نوع خاص للمنبهات.
    كما أنه لا يتاح له الفكر العقلي المجرد، إلا إذا وجدت بالنسبة إليه منبهات
    شرطية، اكتسبت عن طريق اقترانها بالاحساسات، نفس الاستجابات التي
    تطلقها تلك الأحاسيس. وأما إذا بقي الإنسان رهن إحساساته، فلا يستطيع
    أن يفكر تفكيراً مجرداً، أي أن يفكر في شيء غائب عن حسه. فلكي يكون
    الإنسان كائناً مفكراً، لا بد من أن توجد له منبهات، وراء نطاق الإحساسات
    نطاق المنبهات الطبيعية.
    * * *
    ولنفترض أن هذا كله صحيح. فهل يعني ذلك أن اللغة هي أساس
    وجود الفكر في الحياة الإنسانية؟. كلا فإن إشراط شيء معين بالمنبه الطبيعي،
    لكي يكون منبهاً شرطياً، يحصل تارة، بصورة طبيعية. كما إذا اتفق أن
    اقترنت رؤية الماء بصوت معين، أو بحالة نفسية معينة، مرات عديدة،
    حتى أصبح ذلك الصوت أو هذه الحالة، منبهاً شرطياً، يطلق نفس
    الاستجابة التي كان يطلقها الإحساس بالماء. فالاشراط في هذه الحالات
    إشراط طبيعي. ويحصل هذا الاشراط، تارة أخرى، نتيجة لقصد معين،
    كما في سلوكنا مع الطفل، إذ نقدم له شيئاً كالحليب، ونكرر له إسمه،
    حتى يربط بين الكلمة والشيء. ويصبح الاسم منبهاً شرطياً للطفل، نتيجة
    للطريقة التي اتبعناها معه.
    ولا شك في أن عدة من الأصوات والأحداث، قد اقترنت بمنبهات
    طبيعية، عبر حياة الإنسان، وأشرطت بها إشراطاً طبيعياً. وأصبحت بذلك
    تطلق استجابات معينة، في ذهن الإنسان. وأما أدوات اللغة_ على وجه
    العموم_ وألفاظها، التي تم إشراطها خلال عملية اجتماعية، فهي إنما
    أشرطت نتيجة لحاجة الإنسان، إلى التعبير عن أفكاره ونقلها إلى الآخرين،

    أي أنها وجدت في حياة الإنسان، لأنه كائن مفكر، يريد التعبير عن
    أفكاره. إلا أن الإنسان أصبح كائناً مفكراً، بسبب أن اللغة وجدت في
    حياته. وإلا فلماذا وجدت في حياته خاصة، ولم توجد في حياة سائر أنواع
    الحيوان؟!. فاللغة ليست أساس الفكر، وإنما هي أسلوب خاص للتعبير
    عنه، اتخذه الإنسان منذ أبعد العصور، حين وجد نفسه_ وهو يخوض
    معركة الحياة، مع أفراد آخرين_ بحاجة ملحة إلى التعبير عن أفكاره،
    وتفهم أفكار الآخرين، في سبيل تيسير العمليات التي يقومون بها،
    وتحديد الموقف المشترك أمام الطبيعة، وضد القوى المعادية.
    وإنما تعلم الإنسان أن يتخذ هذا الأسلوب_ أسلوب اللغة_ بالذات،
    للتعبير عن أفكاره في ضوء ما تم بفعل الطبيعة، أو المصادفة، من إشراط
    بعض الأصوات ببعض المنبهات الطبيعية، عن طريق اقترانها بها مراراً.
    فقد استطاع الإنسان أن ينتفع بذلك، في نطاق أوسع، فوجدت اللغة في
    حياته.
    وهكذا نعرف، أن اللغة بوصفها ظاهرة اجتماعية، إنما نجمت عن
    إحساس الإنسان، خلال العمل الاجتماعي المشترك، بالحاجة إلى ترجمة
    أفكاره، والإعلان عنها، وليست هي التي خلقت من الإنسان كائناً مفكراً.
    وعلى هذا الاساس، نستطيع أن نعرف: لماذا ظهرت اللغة في حياة
    الإنسان، دون غيره من أنواع الحيوان، كما ألمحنا سابقاً؟. بل أن نعرف
    أكثر من ذلك: لماذا وجد المجتمع الإنساني، ولم يوجد مجتمع كهذا، لأي
    كائن حي آخر؟. فإن الإنسان، لما كان قادراً على التفكير، فقد أتيح له
    وحده، أن يتخطى حدود الإحساس، فيغير من الواقع الذي يحسه، وبالتالي
    يغير من إحساساته نفسها، تبعاً لتغيير الواقع المحسوس. ولم يتح هذا لأي
    حيوان آخر، لا يملك قدرة على التفكير، لأنه لا يستطيع أن يدرك ويفكر


    في شيء، سوى الواقع المحسوس، بأشكاله الخاصة، فلا يمكنه أن يغير
    الواقع إلى شيء آخر.
    وهكذا كان التفكير،هو الذي خص الإنسان بالقدرة، على تغيير
    الواقع المحسوس، تغييراً حاسماً.
    ولما كانت عملية تغيير الواقع هذه، تتطلب في كثير من الأحايين،
    جهوداً متنوعة وكثيرة، فهي تتخذ لأجل ذلك طابعاً اجتماعياً، إذ يقوم
    بها أفراد متعددون، وفقاً لنوعية العملية ومدى الجهود التي تتطلبها، وبذلك
    توجد علاقة اجتماعية بينهم، لم يكن من الممكن أن توجد علاقة من لونها.
    بين أفراد نوع آخر من الحيوان. لأن الحيوانات الأخرى، حيث أنها
    ليست كائنات مفكرة، فهي عاجزة عن القيام بعمليات تغيير حاسم للواقع
    المحسوس، وبالتالي لا توجد فيما بينها علاقة اجتماعية، من ذلك اللون.
    ومنذ يدخل الناس في عمليات مشتركة، لتغيير الواقع المحسوس،
    يصبحون بحاجة إلى لغة. لأن الإشارات الحسية إنما تعبر عن الواقع
    المحسوس، ولا تستطيع أن تعبر عن فكرة تغييره، وعن الروابط الخاصة
    بين الأشياء المحسوسة، التي يراد تعديلها أو تغييرها. فتوجد اللغة في حياة
    الإنسان، إشباعاً لهذه الحاجة، وإنما وجدت في حياته وحده، لأن الحيوان
    لم يشعر بمثل هذه الحاجة الإنسانية التي كانت وليدة العمل الاجتماعي،
    القائم على أساس التفكير، لتغيير الواقع المحسوس، وإيجاد تعديلات
    حاسمة فيه.

    [all1=6633FF]ﺟ _ الدليل العلمي:[/all1]
    يسير التفسير العلمي لظواهر الكون المتنوعة، في خط متدرج. فهو
    يبدأ بوصفه فرضية، أي تفسيراً افتراضياً للواقع، الذي يعالجه العالم،


    وحاول استكشاف أسراره وأسبابه. ولا يصل هذا التفسير الافتراضي،
    إلى الدرجة العلمية، إلا إذا استطاع الدليل العلمي، أن يبرهن، وينفي
    إمكان أي تفسير آخر، للظاهرة موضوعة البحث، عداه. فما لم يقم الدليل
    على ذلك، لا يصل التفسير المفترض إلى درجة اليقين العلمي، ولا يوجد
    مبرر لقبوله، دون سواه من الافتراضات والتفاسير. فمثلاً قد نجد شخصاً
    معيناً، يلتزم في ساعة معينة، بالعبور من شارع خاص. وقد نفترض
    لتفسير هذه الظاهرة: أن هذا الشخص يسلك هذا الطريق بالذات، في كل
    يوم، لأن له عملاً يومياً في معمل، يقع في منتهى الشارع. وهذا الافتراض
    وإن كان يصلح لتفسير الواقع، غير أن ذلك لا يعني قبوله، ما دام من
    الممكن أن نفسر سلوك هذا الشخص، في ضوء آخر: كما إذا افترضنا أنه
    يزور صديقاً له، يسكن بيتاً في ذلك الشارع. أو يراجع طبيباً يقطن في
    تلك المنطقة، ليستشيره في حالة مرضية. أو يقصد مدرسة معينة، تلقى
    فيها المحاضرات بصورة رتيبة.
    وهكذا الأمر في التفسير الماركسي للتاريخ (المادية التاريخية)، فإنه
    لا يمكن _ حتى إذا افترضنا كفاءته لتفسير الواقع التاريخي_ أن يكتسب
    الدرجة العلمية أو الوثوق العلمي، ما لم يخرج عن كونه افتراضاً، ويحصل
    على دليل علمي، يدحض كل افتراض عداه، في تفسير التاريخ.
    ولنأخذ تفسير المادية التاريخية للدولة مثالاً لذلك. فهي تفسر نشوء
    الدولة ووجودها في حياة الإنسان، على أساس العامل الاقتصادي، والتناقض
    الطبقي، فالمجتمع المتناقض طبقياً، يلتهب فيه الصراع، بين الطبقة القوية
    المالكة لوسائل الإنتاج، والطبقة الضعيفة التي لا تملك شيئاً، فتقوم الطبقة
    الغالبة، بإنشاء أداة سياسية لحماية مصالحها الاقتصادية، والحفاظ على
    مركزها الرئيسي. وهذه الأداة السياسية هي الحكومة، بمختلف أشكالها
    التاريخية.

    وهذا التفسير الماركسي للدولة أو الحكومة، لا يكتسب قيمة علمية
    مؤكدة، إلا إذا أفلست كل التفاسير، التي يمكن أن يبرر بها نشوء الدولة
    في المجتمع البشري، سوى كونها أداة سياسية للاستغلال الطبقي. وأما
    إذا استطعنا، أن نفسر هذه الظاهرة الاجتماعية على أساس آخر،
    ولم يدحض الدليل العلمي ذلك، فليس التفسير الماركسي عندئذ، إلا
    افتراضاً من عدة افتراضات.
    فلن يكون التفسير الماركسي، تفسيراً علمياً، إذا أمكن_ مثلاً_
    أن نفسر نشوء الدولة، على أساس تعقيد الحياة المدنية. ونبرر بذلك قيام
    الدولة في كثير من المجتمعات البشرية. ففي مصر القديمة_ مثلاً_ لم
    تكن الحياة الاجتماعية فيها ممكنة، بدون جهود معقدة جسمية، وعمل
    واسع شامل، لتنظيم جريان وفيضان الأنهر الكبيرة، وتنظيم شؤون الري.
    فظهرت الدولة لتسيير الحياة الاجتماعية، والإشراف على العمليات المعقدة،
    التي تتوقف الحياة العامة عليها. ولأجل هذا نجد أن طائفة الاكليروس
    المصريين، كانوا يتمتعون بمكانة عليا في جهاز الدولة المصرية القديمة،
    لا على أساس طبقي، وإنما على أساس الدور الخطير، الذي لعبته معارفهم
    العلمية، في نظام الزراعة المصرية. وكذلك أيضاُ نجد أن رجال الكنسية،
    تمتعوا بمركز كبير في جهاز الدولة الرومانية، عندما دخل الجرمان في
    الدولة الرومانية، أفوجاً متبربرة تلو أفواج. إذ بدت الكنيسة_ على إثر
    ما أدى إليه الغزو الجرماني، من انهيار التعليم والثقافة_ صاحبة الصدارة
    الفكرية في البلاد، حيث صار الرجل من رجال الدين الكنيسي، هو
    الوحيد الذي يعرف القراءة والكتابة، والتكلم باللاتينية. وهو الذي يفهم
    دون غيره_ حساب الشهور، ويستطيع أن يمارس العمل الرتيب، لتصريف
    شؤون الإدارة الحكومية، بينما انصرف ملوك الجرمان، والقادة العسكريون
    منهم، إلى صيد الخنازير والإبل والغزال، وخوض معارك الغزو والتخريب.


    فكان من الطبيعي، أن يسيطر رجال الكنيسة على الإدارة الحكومية في
    البلاد، ويكون لهم أثر كبير في الجهاز السياسي الحاكم، الأمر الذي
    جلب لهم من المغانم والمكاسب، ما جعلهم _ في رأي الماركسية_ طبقة
    ذات مصالح اقتصادية معينة. فالنفوذ الاقتصادي أو المصالح الاقتصادية،
    إنما حصلت عن طريق الوجود السياسي. وأما وجودهم السياسي في جهاز
    الحكم، فلم يكن قائماً على أساس ذلك النفوذ الاقتصادي، الذي اكتسبوه
    بعد ذلك، وإنما قام على أساس امتيازاتهم الفكرية والإدارية.
    ولن يكون التفسير الماركسي للدولة، تفسيراً علمياً، إذا أمكن أن
    نفترض: أن للعقيدة الدينية، تأثيراً في تكوين كثير من الدول والسلطات
    السياسية، التي كانت ترتكز على أساس ديني، وتتمثل في جماعات
    لا تشترك في مصلحة طبقية، وإنما تشترك في طابع ديني واحد.
    وكذلك إذا أمكن أن نفترض: أن نشوء الدولة في المجتمع الإنساني،
    كان إشباعاً لنزعة أصيلة في النفس الإنسانية، التي تملك استعداداً كامناً
    للميل إلى السيطرة والتفوق على الآخرين. فكانت الحكومة من وحي هذا
    الميل، وتعبيراً عملياً عنه.
    ولا أريد أن أستقصي كل الفرضيات، التي يمكن تفسير الدولة على
    أساسها، وإنما أرمي من وراء هذا، على القول بأن تفسير الماركسية للدولة،
    لا يمكن أن يكتسب طابعاً علمياً، ما لم يستطع أن يدحض سائر تلك
    الافتراضات، ويقدم الدليل من الواقع على زيفها.
    وقد سقنا تفسير الماركسية للدولة، كنموذج لسائر مفاهيمها وفرضياتها
    التاريخية، التي تفسر المجتمع الإنساني على أساسها. فإن جميع تلك
    الفرضيات تتطلب من الماركسية_ لكي تصبح نظريات علمية جديرة
    بالقبول_ أن تقدم الدليل على كذب كل فرضية سواها. ولا يكفي لقبولها
    أن تكون فرضيات ممكنة صالحة للانطباق على الواقع وتفسيره.

    فلنرى_ إذن_ ماذا يمكن للماركسية أن تقدمه من دليل علمي بهذا
    الصدد؟. أن أول وأهم عقبة تواجه الماركسية في هذا المجال، هي العقبة
    التي تضعها في طريقها، طبيعة البحث التاريخي. ذلك أن البحث في المجال
    التاريخي، (نشوء المجتمع، وتطوره، والعوامل الأساسية فيه). يختلف
    عن البحوث العلمية في مجالات العلوم الطبيعية، التي يستخلصها العالم
    الفيزيائي_ مثلاً_ من تجاربه العملية في المختبر.
    فالباحث التاريخي، والعالم الفيزيائي، وإن كانا يلتقيان عند نقطة
    واحدة، وهي: أن كلاً منهما يتناول مجموعة من الظواهر_ ظواهر
    المجتمع البشري كالدولة والأفكار والملكية. أو ظواهر الطبيعة كالحرارة
    والصوت والنور_ ويحاولان تنظيم تلك الظواهر، بصفتها مواداً للبحث،
    واستكشاف أسبابها، والعوامل الأساسية فيها... غير أنهما يختلفان في
    موقفهما العلمي، من تلك الظواهر موضوعة الدرس ومرد اختلافهما إلى
    سببين: فان الباحث التاريخي، الذي يريد أن يفسر المجتمع البشري،
    ونشوءه وتطوره ومراحله، في ضوء الظواهر التاريخية والاجتماعية،
    لا يستطيع أن يتبين هذه الظواهر بصورة مباشرة، كما يتبين العالم الفيزيائي
    ٍظواهر الطبيعة، التي يدرسها في مختبره الخاص، وإنما هو مضطر إلى
    تكوين فكرة عنها، ترتكز على النقل والرواية، وشتى المخلوقات العمرانية
    وغيرها من الآثار، ذات الدلالة الناقصة. فالفرق إذن كبير جداً، بين الظواهر
    الطبيعية، التي يرتكز عليها البحث العلمي، في العلوم الطبيعية، بصفتها
    المواد الرئيسية له، وبين الظواهر التاريخية، التي يقوم على أساسها البحث
    التاريخي، بصفتها مواداً أولية له. فالمواد في العلوم الطبيعية، ظواهر
    معاصرة للعالم الطبيعي، موجودة في مختبره، يستطيع مشاهدتها، وتسليط
    الضوء العلمي عليها، وبالتالي وضع تفسير كامل لها.. وعلى العكس من
    ذلك تماماً، المواد التي يملكها الباحث التاريخي. فإنه لدى محاولة استكشاف


    العوامل الأساسية في المجتمع، وكيفية نشوئه وتطوره، مضطر على الإعتماد
    في تكوين مواد البحث، وفي الاستنتاج والتفسير، على كثير من الظواهر
    التاريخية للمجتمع، التي لا يستطيع الباحث مشاهدتها، إلا من خلال النقل
    والرواية، أو من خلال بعض الآثار التاريخية الباقية ونذكر على سبيل المثال
    انجلز، بوصفه باحثاً تاريخياً، حاول في كتابه (أصل العائلة) تفسير الظواهر
    الاجتماعية علمياً، فاضطر إلى الاعتماد_ بصورة رئيسية_ في استنتاجاته،
    على روايات ومزاعم مؤرخ أو رحالة معين، هو مورغان.
    وهكذا يختلف البحث التاريخي، عن البحث الطبيعي من ناحية المادة
    (الظواهر)، التي يملكها الباحث، ويقيم عليها تفسيره واستنتاجه. ولا
    يقف اختلافهما عند هذا الحد. فإنهما كما يختلفان من ناحية المادة، كذلك
    يوجد سبب آخر لاختلافهما، من ناحية الدليل الذي يمكن للباحث استخدامه،
    في سبيل تدعيم هذا التفسير العلمي أو ذاك.
    فإن الباحث التاريخي حين يحصل على مجموعة من الظواهر والأحداث
    التاريخية، لا يملك تجاهها تلك الإمكانيات، التي يملكها الفيزيائي مثلاً،
    تجاه الذرة وظواهرها، ونواتها وكهاربها وإشعاعاتها. لأن الباحث التاريخي،
    مضطر لأخذ الظواهر والأحداث التاريخية كما هي، ولا يمكنه أن يطور
    أو يغير شيئاً منها، عن طريق التجربة. وأما العالم الفيزيائي، فهو يستطيع
    أن يجري تجاربه المختلفة على المادة التي يعالجها. ويستبعد منها ما يشاء،
    ويضم إليها ما يشاء. وحتى في المجال الذي لا تخضع المادة المدروسة فيه
    للتغيير، كعلم الفلك، يمكن للعالم الفلكي أن يغير من علاقاته بتلك المادة،
    بواسطة التلسكوب، ومن موقعه واتجاهاته.
    وعجز الباحث التاريخي عن القيام بتجارب على الظواهر التاريخية
    والاجتماعية يعني عدم تمكنه من تقديم دليل تجريبي على نظرياته، التي
    يفسر بها التاريخ، ويستكشف أسراره.

    فلا يستطيع_ مثلاً لدى محاولة الكشف عن العامل الأساسي لظاهرة
    تاريخية معينة_ أن يستعمل الأساليب العلمية الأساسية، التي يقررها المنطق
    التجريبي، ويستعملها العلماء الطبيعيون، كطريقتي:الاتفاق والاختلاف،
    الطريقتين الرئيسيتين في الاستدلال التجريبي. لأن هاتين الطريقتين تتوقفان
    كلاهما، على إضافة عامل بأسره، أو حذف عامل بأسره، لنرى مدى
    ارتباطه مع عامل آخر. فلكي يثبت علمياً، أن (ب) هي سبب (أ) يجمع
    بينهما في ظروف مختلفة. وهذه هي طريقة الاتفاق. ثم يعزل (ب)،
    ليرى هل يزول (أ) تبعاً لذلك. وهذه هي طريقة الاختلاف. ومن
    الواضح أن الباحث التاريخي، لا يتمكن من تغيير الواقع التاريخي للإنسانية،
    ولا يقدر على شيء من ذلك.
    ولنأخذ_مثلاً على ذلك_ الدولة بوصفها ظاهرة تاريخية، والحرارة
    بوصفها ظاهرة طبيعية. فإن العالم الطبيعي إذا حاول أن يفسر الحرارة،
    تفسيراً علمياً ويستكشف السبب الرئيسي لها، أمكنه أن يفترض: أن
    الحركة هي سبب الحرارة، إذا أدرك اقترانهما في حالات عديدة. ولكي
    يتأكد من صحة هذا الافتراض، يستعمل طريقة الاتفاق، فيقوم بعدة
    تجارب، يحاول في كل واحدة منها، إبعاد شيء من الأشياء، التي تقترن
    بالحركة والحرارة، ليتأكد من أن الحرارة توجد بدونه، وأنه ليس سبباً
    لها. ويستعمل أيضاً طريقة الاختلاف، فيحاول أن يقوم بتجربة: يفصل
    فيها الحركة عن الحرارة، ليتبين ما إذا كان من الممكن إن توجد حرارة
    بدون حركة، فإذا كشفت التجربة: إن الحرارة توجد متى ما وجدت
    الحركة، مهما كانت الظروف والأحداث الأخرى وأنها تختفي في الحالات
    التي لا توجد فيها حركة.. ثبت علمياً إن الحركة هي سبب الحرارة.
    وأما الباحث التاريخي، حين يتناول الدولة بصفتها ظاهرة تاريخية في
    حياة الإنسان، فهو قد يفترض أنها نتاج مصلحة اقتصادية، لفئة معينة من


    المجتمع، ولكنه لا يستطيع أن يدحض الافتراضات الأخرى بالتجربة.
    فلا يمكنه_ مثلاً أن يبرهن تجريبياً، على أن الدولة ليست نتاجاً لنزعة
    سياسية في نفس الإنسان أو لحالة تعقيد معينة في الحياة المدنية والاجتماعية.
    لأن غاية ما يتاح للباحث التاريخي، أن يضع إصبعه على عدد من الحالات
    التاريخية، التي اقترن فيها ظهور الدولة بمصلحة اقتصادية معينة، ويحشد
    عدداً من الأمثلة التي وجد فيها الدولة والمصلحة الاقتصادية معاً (وهذا
    ما يسمى في المنطق التجريبي أو العلمي بطريقة التعداد البسيط).
    ومن الواضح أن طريقة التعداد البسيط هذه، لا تبرهن علمياً على أن
    المصلحة الاقتصادية الطبقية هي السبب الأساسي الوحيد، لظهور الدولة
    إذ من الجائز أن يكون للعوامل الأخرى أثرها الخاص، في تكوين الدولة،
    وحيث إن الباحث لا يستطيع أن يغير الواقع التاريخي_ كما يغير الفيزيائي
    الظواهر الطبيعية بتجاربه_ فهو لا يتمكن من إفراز وعزل سائر العوامل
    الأخرى، عن واقع المجتمع ليدرس نتيجة هذا العزل. ويتبين: ما إذا
    كانت الدولة_ كظاهرة اجتماعية_ ستزول بعزل تلك العوامل، أولا.
    ويستخلص مما سبق أن البحث التاريخي يختلف عادة عن البحوث العلمية
    الطبيعية! من ناحية المادة التي يقوم على أساسها الإستنتاج، أولاً. ومن
    ناحية الدليل الذي يدعم ذلك الإستنتاج، ثانياً.
    وإذا استبعدنا الدليل التجريبي الدقيق، عن نطاق البحث التاريخي،
    لم يبق لدى مفسري التاريخ إلا الملاحظة المنظمة، التي تحاول أن تستوعب
    أكبر مقدرا ممكن، من أحداث التاريخ وظواهره، حيث يأخذها الباحث
    التاريخي كما هي، ويحاول أن يفسرها، ويضع لها مفاهيمها العامة، على
    طريقة التعداد البسيط.
    وعلى هذا الأساس نعرف: أن الماركسية لم تكن تملك_ حين وضعت
    مفهومها الخاص عن التاريخ_ سنداً علمياً لها، سوى الملاحظة، التي رأتها


    الماركسية كافية، للتدليل على وجهة نظرها المعينة إلى التاريخ. وأكثر من
    هذا، أنها زعمت: أن الملاحظة المحدودة في نطاق تاريخي ضيق، تكفي
    وحدها لإستكشاف قوانين التاريخ كلها، واليقين العلمي بها. فقد قال أنجلز:
    ((ولكن فيما كان البحث عن هذه الأسباب المحركة في التاريخ مستحيلاً تقريباً، في سائر المراحل السابقة،
    بسبب تعثر علاقتها وتخفيها مع ردود الفعل، التي تؤثر
    بها، فإن عصرنا قد بسط هذه العلائق كثيراً، بحيث
    أمكن حل اللغز. فمنذ انتصار الصناعة الكبرى، لم يعد
    خافياً على أحد في إنكلترا، بأن النضال السياسي كله
    يدور فيها حول طموح طبقتين إلى السلطة، ألا وهما: الأرستقراطية العقارية، البرجوازية ))( ).
    ومعني هذا: أن ملاحظة الوضع الإجتماعي، في فترة معينة من حياة
    أوروبا أو انكلترا خاصة، كانت كافية في رأي المفكر الماركسي الكبير
    انجلز، لليقين العلمي، بأن العامل الاقتصادي، والتناقض الطبقي، هو
    العامل الأساسي في التاريخ الإنساني كله، بالرغم من أن فترات التاريخ
    الأخرى، لا تكشف عن ذلك لأنها غائمة معقدة، كما اعترف بذلك
    (انجلز) نفسه، فمشهد واحد من مشاهد التاريخ في القرن الثامن عشر أو
    التاسع عشر، استطاع أن يقنع الماركسية بأن القوى المحركة للتاريخ،
    عبر عشرات الآلاف من السنين، هي قوى العامل الاقتصادي، يقنعها
    بذلك لا لشيء، إلا لأن هذا العامل، هو الذي بدا لها أنه مسيطر على ذلك
    المشهد التاريخي الخاص، مشهد انكلترا في تلك الفترة المحدودة من تاريخها.

    مع أن سيطرة عامل معين، على مجتمع في فترة خاصة، لا تكفي للتدليل
    على سيطرته الرئيسية، في كل أدوار التاريخ، وفي كل المجتمعات، إذ
    قد يكون لهذه السيطرة نفسها أسبابها وعواملها الخاصة. فيجب قبل إصدار
    الأحكام النهائية في حق التاريخ، أن يقارن المجتمع الذي بدا العامل الإقتصادي
    مسيطراً عليه، بالمجتمعات الأخرى، حتى يبحث عما إذا كان لهذه السيطرة،
    ظروفها وأسبابها الخاصة؟.
    ومن الجدير بنا بهذا الصدد أن نلاحظ كلاماً آخر لأنجلز، ساقه في
    مناسبة أخرى، وهو يعتذر عن أخطاء وقع فيها، من جراء تطبيق الديالكتيك
    على غير المجتمع، من مجالات الكون والحياة، قائلاً:
    ((وغني عن البيان، بأنني كنت قد عمدت إلى
    سرد المواضيع في الرياضيات والعلوم الطبيعية، سرداَ
    عاجلاً وملخصاً، بغية أن أطمئن تفصيلاً إلى ما لم أكن
    في شك منه بصورة عامة، إلى أن نفس القوانين
    الديالكتيكية للحركة، التي تسيطر على العفوية الظاهرة للحوادث في التاريخ، تشق طريقها في الطبيعة... ))( ).
    ونحن إذا قارنا هذا الكلام بالكلام السابق لأنجلز، استطعنا أن نعرف
    كيف أتيح لمفكر ماركسي مثل أنجلز، أن يكون مفهومه العام عن التاريخ،
    وبالتالي مفهومه الفلسفي عن الكون والحياة وكل ظواهرها، من خلال
    الضوء الذي يلقيه مشهد تاريخي واحد لمجتمع خاص من المجتمعات البشرية.
    في فترة محدودة من الزمن بطريقة سهلة جداً. فما دام هذا المشهد التاريخي
    المعين، يكشف عن صراع بين جماعتين في المجتمع، فيجب أن يكون
    التاريخ كله صراعاً بين المتناقضات. وإذا كان التناقض هو الذي يسود


    التاريخ، فيكفي هذا ليؤمن أنجلز بأن نفس قوانين التناقض هذه، تشق
    طريقها في الطبيعة، على حد تعبيره، وأن الكون كله صراع بين مختلف
    التناقضات الداخلية.


    .[/align]

  6. #6
    تاريخ التسجيل
    Jul 2004
    الدولة
    هناك
    المشاركات
    28,205

    افتراضي

    [align=center]ثانياً_ هل يوجد مقياس أعلى؟[/align]
    [align=center]إن المقياس الأعلى في رأي الماركسية، لاختبار صحة كل نظرية، هو
    مدى نجاحها في مجال التطبيق. فالنظرية عند الماركسيين لا يمكن أن تنفصل
    عن التطبيق وهذا ما يسمى في الديالكتيك بوحدة النظرية والتطبيق. قال
    ماوتسي تونغ:
    ((إن نظرية المعرفة في المادية الديالكتيكية تضع التطبيق في المقام الأول. فهي ترى أن اكتساب الناس للمعرفة يجب أن لا ينفصل بأية درجة كانت عن التطبيق وتشن نضالاً ضد كل النظريات الخاطئة التي تنكر أهمية التطبيق، أو تسمح بانفصال المعرفة عن التطبيق ))( ).
    وقال جورج بولتزير:
    ((فمن المهم إذن أن نفهم معنى وحدة النظرية والتطبيق، ومعنى ذلك: أن من يهمل النظرية يقع في
    فلسفة الممارسة. فيسلك كما يسلك الأعمى ويتخبط في الظلام، أما ذلك الذي يهمل التطبيق فيقع في الجمود
    المذهبي ))( ).

    على هذا الأساس نريد أن ندرس المادية التاريخية، وبكلمة أخرى:
    ندرس النظرية الماركسية العامة عن التاريخ، لنتعرف على نصيبها من النجاح،
    في مجال التطبيق الثوري الذي خاضه الماركسيون.
    ومن الواضح، أن الماركسيين إنما أتيحت لهم محاولة تطبيق النظرية،
    بالنسبة إلى جزء خاص منها، وهو الجزء الذي يتصل بتطوير المجتمع
    الرأسمالي إلى مجتمع إشتراكي، وإما الجوانب الأخرى من النظرية، فهي
    تتعلق بقوانين لمجتمعات تاريخية، وجدت في حياة الإنسان وانصرمت،
    ولم تعاصرها الماركسية ولا ساهمت في إيجادها.
    فلنأخذ الجزء الخاص من النظرية، الذي يتصل بتطوير المجتمع الرأسمالي
    ونشوء الإشتراكية، والذي مارست الماركسية تطبيقه، لنتبين وحدة النظرية
    والتطبيق أو تناقضهما، وبالتالي لنحكم على النظرية، وفقاً لمقدار نجاحها
    أو فشلها في مجال التطبيق ما دام التطبيق في رأي الماركسية هو المعيار الأساسي
    لتقويم النظريات، والعنصر الضروري للنظرية العلمية الصحيحة.
    وبهذا الصدد، يمكننا أن نقسم البلاد الاشتراكية، التي مارست تطبيق
    النظرية الماركسية جزئياً أو كلياً، إلى قسمين، جاء التطبيق في كل منهما
    بعيداً عن النظرية ونبوءاتها العلمية وما حددته من قوانين لمجرى التاريخ
    وتياراته الاجتماعية.
    فالقسم الأول هو: البلاد الاشتراكية، التي فرض عليها النظام
    الاشتراكي فرضاً، بقوة الجيش الأحمر، كعدة من أقطار أوروبا الشرقية،
    مثل: بولونيا وتشيكوسلوفاكيا والمجر، ففي هذه الأقطار ونظائرها،
    لم يحصل التحول الاشتراكي بحكم ضرورة من الضرورات التي تحددها
    النظرية، ولم تنبثق الثورة عن تناقضات المجتمع الداخلية، وإنما فرضت من
    الخارج ومن الأعلى بواسطة الحرب الأجنبية والغزو العسكري المسلح وإلا
    فأي قانون من قوانين التاريخ شق ألمانيا نصفين وأدرج جزءها الشرقي ضمن


    العالم الاشتراكي، وجزءها الآخر ضمن العالم الرأسمالي؟ أهو قانون القوى
    المنتجة؟ أو حكم الجيش الفاتح، الذي فرض على البقعة التي ملكها نظامه
    وأفكاره؟!.
    وأما القسم الثاني من البلاد الاشتراكية: فقد أقيمت فيها الأنظمة
    الاشتراكية بقوة الثورات الداخلية، ولكن هذه الثورات الداخلية لم تتجسد
    فيها قوانين الماركسية، ولم تجيء طبقاً للنظرية التي حل بها الماركسيون كل
    ألغاز التاريخ.
    فروسيا_ وهي البلد الأول في العالم الذي سيطر عليه النظام الاشتراكي
    بفعل الثورات الداخلية_قد كانت في مؤخرة الدول الأوروبية، من
    الناحية الصناعية، ولم يكن نمو القوى المنتجة فيها، قد بلغ الدرجة التي
    تحددها النظرية لإمكانية التحول، واندلاع الثورة الاشتراكية. فلم يلعب
    تزايد القوى المنتجة دوره الرئيسي في تقرير شكل النظام، وتكوين جوهر
    المجتمع وفقاً للنظرية، بل لعب دوراً معكوساً، إذ نمت القوى المنتجة في
    بلاد كفرنسا وبريطانيا وألمانيا نمواً هائلاً، ودخلت تلك البلاد في درجة
    عالية من التصنيع، وبمقدار ارتقائها في هذا المضار، كان بعدها عن
    الثورة، ونجاتها من الانفجار الثوري الشيوعي المحتوم، في مفاهيم المادية
    التاريخية.
    وأما روسيا فقد كانت الحركة التصنيعية فيها منخفضة جداً، وكان
    الرأسمال المحلي عاجزاً تماماً عن حل مشاكل التصنيع السريع، في ظل
    ظروفها السياسية والاجتماعية، ولم يكن هناك موضع للقياس: بين الرأسمالية
    الصناعية في تلك البلاد المتخلفة، وبين قوى الصناعة وضخامة الرأسمال
    الصناعي في الغرب الأوروبي، ومع ذلك أخصب الاتجاه الثوري فيها
    وتفجر، وجاءت الثورة الصناعية، كنتيجة للثورة السياسية، فكان الجهاز
    الانقلابي في الدولة، هو الأداة الفعالة لتصنيع البلاد، وتطوير قواها


    المنتجة، ولم يكن التصنيع وتطور قوى البلاد المنتجة، هو السبب في خلق
    ذلك الجهاز وإنشاء تلك الأداة.
    وإذا كان من الضروري، أن نربط بين الثورة من ناحية، وحركة
    التصنيع والقوى المنتجة من ناحية أخرى، فالشيء المعقول أن نعكس العلاقة
    الماركسية المفترضة بين الثورة والتصنيع، فنعتبر أن انخفاض المستوى الصناعي
    والإنتاج، من العوامل المهمة، التي أدت إلى دق أجراس الثورة في بلد
    كروسيا، على العكس تماماً من افتراض النظرية الماركسية، القائل: إن
    الثورة الاشتراكية، بموجب القوانين المادية للتاريخ، لا تكون إلا نتاجاً
    لنمو الرأسمالية الصناعية وبلوغها الذروة. فروسيا مثلاً_ لم يدفعها نمو
    قوى الإنتاج إلى الثورة، بمقدار ما دفعها انخفاض تلك القوٍ وتخلفها الخطر،
    عن ركب الدول الصناعية، التي قفزت بخطوات العمالقة في مضمار
    الصناعة والإنتاج، فكان لا بد لكي تحتفظ روسيا بوجودها الحقيقي في
    الأسرة الدولية، أن تنشيء الجهاز السياسي و الاجتماعي، الذي يحل
    مشاكل التصنيع حلاً سريعاً، ويدفع بها إلى الأمام، في حلبات التصنيع
    ومجالات السباق الدولي الهائل، وبدون خلق الجهاز القادر على حل هذه
    المشاكل تقع روسيا حتماً فريسة الإحتكارات، التي تقيمها الدول السباقة،
    وينتهي وجودها كدولة حرة على مسرح التاريخ.
    وهكذا نجد_ إذا نظرنا إلى روسيا من زاوية القوى المنتجة، والحالة
    الصناعية_ كما تنظر الماركسية دائماً_ أن المشكلة الرئيسية هي: مشكلة إيجاد
    التصنيع، لا تناقض نمو التصنيع مع كيانات المجتمع السياسية والاقتصادية.
    وقد تسلمت الثورة الاشتراكية الحكم واستطاعت بطبيعة كيانها السياسي
    (القائم على سلطة مطلقة لا حدود لها) وطبيعة كيانها الاقتصادي (القائم
    على تركيز كل عمليات الإنتاج في وجهة واحـدة هي الدولة) أن تخطو
    خطوات جبارة في تصنيع البلاد. فكانت الحكومة الاشتراكية هي التي


    تخلق أسباب وجودها، والمبررات الماركسية لنشوئها، وتنشيء الطبقة التي
    تزعم أنها تمثلها، وتنقل القوى المنتجة في البلد إلى المرحلة التي أعدها
    (ماركس) لاشتراكيتة العلمية.
    ومن حقنا بعد هذا أن نتساءل عما إذا كانت تقوم حكومة ثورية في
    روسيا تحمل الطابع السياسي والاقتصادي للإشتراكية، لو أن روسيا لم
    تكن متأخرة صناعياً وسياسياً وفكرياً، عن مستوى الدول الصناعية الكبرى؟!.
    والصين_ وهي البلد الآخر الذي ساد فيه النظام الإشتراكي بالثورة_
    نجد فيها_ كما وجدنا في روسيا_ التناقض الواضح بين النظرية والتطبيق.
    فلم تكن الثورة الصناعية هي العامل الأساسي في تكوين الصين الجديدة،
    وقلب نظام الحكم فيها، ولم يكن لوسائل الإنتاج، وفائض القيمة،
    وتناقضات رأس المال، التي تقررها قوانين المادية التاريخية، أي دور
    رئيسي في المعترك السياسي.
    وشيء آخر جدير بالملاحظة هو: أن الثورات الداخلية، التي مارست
    عملية تطبيق الإشتراكية الماركيسة، لم تكن تعتمد في انتصارها على الصراع
    الطبقي، وانهيار الطبقة الحاكمة أمام الطبقة المحكومة، بسبب شدة التناقضات
    الطبقية بينهما، بمقدار ما اعتمدت على انهيار الجهاز الحاكم، انهياراً
    عسكرياً، في ظروف حربية قاسية، كانهيار الحكم القيصري في روسيا
    عسكرياً، بسبب ظروف الحرب العالمية الأولى، الأمر الذي مكن للقوى
    المعارضة_ وعلى رأسها الحزب الشيوعي_ من الإنتصار السياسي،بشكل
    ثوري، أدى إلى امتلاك الحزب الشيوعي لأزمة الحكم، بصفته أبرع
    القوى المعارضة تنظيماً وتكتلاً، وأقواها وحدة من الناحية الفكرية القيادية،
    وكذلك الثورة الشيوعية في الصين، فإنما وإن بدأت قبل الغزو الياباني،
    ولكنها ظلت لمدة عقد كامل، تنتشر وتتوسع، لتخرج نهائياً منتصرة
    بانتهاء الحرب. فلم يستطع التطبيق مرة واحدة حتى الآن أن يحقق النصر.


    عن طريق التناقض الداخلي فحسب، أو أن يحطم جهاز الدولة ما لم تحطم
    الجهاز ظروف حربية وخارجية، تدعو إلى زعزعته وانهياره.
    فملامح النظرية وسماتها العامة، لم تبد على التطبيق، وإنما كل ما بدا
    من خلال التطبيق، إن مجتمعاً حدثت فيه ثورة قلبت نظامه، وعصفت
    بالجهاز الحاكم فيه، بعد أن تصدع هذا الجهاز لظروف عسكرية وخارجية
    واجتاح الناس شعور قوي بالحاجة إلى لون جديد من الحياة السياسية والإجتماعية.
    ونفس هذه العوامل التي أنجحت الثورة في روسيا، أو هيأت لها،
    كانت موجودة_ كلياً أو جزئياً_ في عدة أقطار أخرى، شهدت نفس
    ما شاهدته روسيا من ظروف عسكرية، وتمخضت على أثر الحرب العالمية
    الأولى بثورات مماثلة، لعب فيها تصدع السلطات الحاكمة، والشعور
    القوي بعدم كفاءتها، والاحساس بالحاجة المتزايدة إلى التقدم السريع،
    للإلتحاق بالركب الأمامي للعالم. دوراً خطيراً، غير أن الثورة الوحيدة
    التي اتخذت الطابع الإشتراكي، هي الثورة الروسية. ولا يمكننا أن نجد
    سبب ذلك في اختلاف قوى الإنتاج، التي كانت متشابهة إلى حد ما في
    تلك الأقطار، وإنما نجده في الظروف الفكرية التي كانت تمر بها تلك
    الأقطار، والتيارات المتناقضة التي كانت تعمل في الحقل السياسي، والمجال
    الثوري هنا وهناك.
    فإذا كان من الحق ما يزعمه المنطق الديالكتيكي للماركسية، من وحدة
    النظرية والتطبيق، وإن التطبيق هو الأساس الوحيد لتدعيم النظرية، فمن
    الحق أيضاً أن المادية التاريخية، لا تزال تفقد حتى الآن هذا الدليل، لأن
    التطبيق الذي حققته الماركسية، لم يحمل خصائص النظرية، ولم تنعكس
    عليه ملامحها. حتى أن لينين_ وهو الثوري الروسي الأول، الذي كان
    يخوض معركة التطبيق ويقودها_ لم يستطع أن يتنبأ بموعد وبشكل اندلاع
    الثورة، إلا بعد أن أصبحت الثورة على قاب قوسين أو أدنى. وليس ذلك


    إلا لأن دلائل المجتمع وأحداثه، لم تكن لتنطبق على الدلائل والأحداث،
    التي تحدد النظرية على أساسها، سمات المجتمع، المشرف على العمل الثوري
    الاشتراكي. فقد خطب لينين في اجتماع للشباب الاشتراكي السويسري،
    قبل شهر واحد من ثورة شباط وقبل عشرة أشهر من ثورة أكتوبر الشيوعية،
    فقال في خطابه:
    ((لعلنا نحن أبناء الجيل الذي يكبركم، لن نعيش لنرى المعارك الحاسمة للثورة الإشتراكية، الموشكة على الاندلاع، ولكن يبدو لي، أنني أستطيع أن أعرب
    بأقصى ثقة، عن الأمل بأن يتاح للشبان العاملين في
    الحركة الإشتراكية الرائعة في سويسرا، وبقية أنحاء
    العالم، الحظ الطيب، ليس فحسب بالمساهمة في القتال
    أثناء الثورة البروليتارية الوشيكة، بل كذلك في الخروج ظافرين منها)).
    قال لينين هذا، وبعد عشرة أشهر فقط، تزعم الثورة الإشتراكية التي
    انفجرت في روسيا، وجاءت به إلى الحكم. وأما الشبان العاملون في الحركة
    الاشتراكية الرائعة في سويسرا، على حد تعبيره، فلا يزالون حتى اليوم،
    لم يتح فهم الحظ الطيب، الذي تمناه لهم بالمساهمة في الثورة البروليتارية،
    والخروج منها ظافرين.

    ثالثاً_ هل استطاعت الماركسية إستيعاب التاريخ؟
    المادية التاريخية(الماركسية)_ كما سبق_ مجموعة من الإفتراضات
    العلمية يختص كل واحد منها بمرحلة محدودة من مراحل التاريخ، وتتكون
    من مجموعها الفرضية العامة في تفسير التاريخ، القائلة: بأن المجتمع دائماً


    وليد الوضع الاقتصادي الذي تحدده وتفرضه قوى الإنتاج.
    والواقع أن أروع ما في الماركسية، وأكثر قواها التحليلية إغراءً
    وإستهواءً إنما هو قوة هذا الشمول والاستيعاب، الذي تتميز به على أكثر
    التفاسير الأخرى، للعمليات الإجتماعية أو الإقتصادية، وتعبر من خلاله
    عن ترابط وثيق محدد، بين مختلف تلك العمليات، في كل الميادين الإنسانية.
    فليست الماركسية فكرة نظرية محدودة، أو تحليلاً اجتماعياً أو اقتصادياً
    فحسب، وإنما هي تعبير تحليلي شامل عن كل العمليات الاجتماعية
    والاقتصادية والسياسية كما تجري منذ آلاف السنين في مجراها التاريخي الطويل، لتتكون منها في كل لحظة تاريخية حاسمة، حالة معينة، تحدد بنفسها
    وبطريقة جدلية ما يعقبها من حالات متلاحقة على مدار المزمن، تتتابع في
    لحظات تاريخية فاصلة.
    ومن الطبيعي أن تستأثر مثل هذه النظرية بتقدير الناس، وتوحي إليهم
    بالإعجاب أكثر من أي نظرية أخرى ما دامت قد زعمت لهم أنها وضعت
    في أيديهم كل أسرار الإنسانية، وألغاز التاريخ، وما دامت قد تفوقت
    على كل النظريات العلمية، عن الاجتماع والاقتصاد، في نقطة ذات وزن
    جماهيري كبير، وهي: أنها استطاعت أن تمزج آمال الناس بالتحليل
    العلمي، وأن تقدم إليهم أمانيهم التقليدية في إطار تحليلي، قائم على أسس
    مادية ومنطقية، بالمقدار الذي أتيح لماركس أن يصل إليه، بينما لم تكن
    النظريات العلمية الأخرى في الاجتماع والاقتصاد، تظفر_ على أفضل
    تقدير_ إلا بعناية حفنة من العلماء والأخصائيين.
    والمادية التاريخية، بوصفها فرضية عامة، تقرر_ كما عرفنا سابقاً_:
    أن جميع الأوضاع والظواهر الاجتماعية، نابعة من الوضع الاقتصادي،
    وهو بدوره يتكون نتيجة لوضع القوى المنتجة. فالوضع الاقتصادي هو


    همزة الوصل، بين قوة الإنتاج الرئيسية، وجميع الظواهر والأوضاع
    الاجتماعية، كما قال بليخانوف:
    ((إن الوضع الاقتصادي لشعب ما، هو الذي يحدد وضعه الاجتماعي، والوضع الاجتماعي لهذا الشعب، يحدد بدوره وضعه السياسي والديني، وهكذا دواليك.
    ولكنكم ستتساءلون عما إذا لم يكن للوضع الاقتصادي
    من سبب أيضاً؟.. لا ريب إن لهذا الوضع سببه الخاص
    به، ككل شيء في هذه الدنيا، وهذا السبب...هو
    الصراع الذي يخوضه الإنسان مع الطبيعة ))( ).
    ((إن علاقات الإنتاج، تحدد جميع العلاقات
    الأخرى التي توحد بين الناس في حياتهم الاجتماعية. وأما علاقات الإنتاج فيحددها وضع القوى المنتجة ))( ).
    فالقوى المنتجة هي التي تخلق الوضع الاقتصادي، وتطوره تبعاً
    لتطورها، والوضع الاقتصادي هو الأساس العام لهيكل البناء الاجتماعي،
    وما فيه من ظواهر وأوضاع. هذه هي الوجهة العامة للمادية التاريخية.
    * * *
    وتتردد في أوساط الكتاب المناهضين للأفكار الماركسية، مناقشتان
    للماركسية التاريخية، بوصفها نظرة عامة عن التاريخ:
    الأولى: إن التاريخ إذا كان محكوماً للعامل الاقتصادي، وللقوى
    المنتجة، وفقاً لقوانين طبيعية تسير به من الإقطاع إلى الرأسمالية مثلاً، ومنها


    إلى الاشتراكية، فماذا تبذل هذه الجهود الجبارة من الماركسيين، في سبيل
    تكتيل أكبر عدد ممكن، لشن ثورة فاصلة على الرأسمالية؟! ولم يدع
    الماركسيون قوانين التاريخ تعمل، فتكفيهم هذه المهمة الشاقة؟!.
    الثانية: أن كل إنسان يحس_ بالضرورة_ أن له دوافع أخرى،
    لا تمت إلى الطابع الاقتصادي بصلة، بل قد يضحي في سبيلها بمصالحه
    الاقتصادية وبحياته كلها في بعض الأحايين، فكيف يعتبر العامل الاقتصادي
    هو المحرك للتاريخ؟!.
    ومن البحث العلمي الموضوعي، أن نسجل رأينا في هاتين المناقشتين
    بوضوح. فهما تعبران عن عدم استيعاب المفهوم الماركسي للتاريخ، أكثر
    مما تعبران عن خطأ المفهوم نفسه.
    ففيما يتصل بالمناقشة الأولى، يجب أن نعرف موقف الماركسية من
    الثورة. فإنها لا تعتبر الثورة والجهود التمهيدية التي تبذل في سبيلها، شيئاً
    منفصلاً عن قوانين التاريخ، بل هي جزء من تلك القوانين، التي يجب
    _ علمياً_ أن توجد كي ينتقل التاريخ من مرحلة أخرى.
    فالثوريون حين يتجمعون في سبيل الثورة، إنما يعبرون بذلك عن الحتمية
    التاريخية.
    ونحن حين نقرر هذا، نعلم أن الماركسية_ نفسها_ لم تستطع أحياناً،
    أن تتفهم_ بوضوح_ متطلبات مفهومها العلمي عن التاريخ ومستلزماته،
    حتى لقد كتب ستالين يقول:
    ((إن المجتمع غير عاجز إمام القوانين. وإن في
    وسعه عن طريق معرفة القوانين الاقتصادية، وبالاستناد
    إليها، إن يحد من دائرة فعلها، وإن يستخدمها في مصلحة


    المجتمع، وأن يروضها،مثلما يجري حيال قوى الطبيعة وقوانينها)) ( ).
    وكتب بولتزير_ نظير هذا_ قائلاً:
    ((إن المادية الجدلية، في تأكيدها للطابع الموضوعي لقوانين المجتمع، تؤكد_ في نفس الوقت_ الدور الموضوعي الذي تلعبه الأفكار، يعني النشاطات العلمية الواعية، مما يتيح للناس أن يؤخروا أو يقدموا، وأن يشجعوا أو يعرقلوا، تأثير قوانين المجتمع)) ( ).
    ومن الواضح، أن هذا الاعتراف الماركسي، بسيطرة الإنسان عن
    طريق أفكاره ونشاطاته الواعية، على تأثير قوانين المجتمع، وعلى تقديمه
    وتأخيره لا يتفق مع الفكرة العلمية عن التاريخ لأن التاريخ إذا كان مسيراً
    وفق قوانين طبيعية عامة، فوعي الإنسان وعلمه بقوانين التاريخ، إنما يعبر
    عن جزء من الحقل الذي تحكمه تلك القوانين. فكل ما يقوم به هذا الوعي
    والنشاط الإنساني من أدوار، فهو تعبير حتمي عن تلك القوانين، وعن
    تأثيرها المحتوم، وليس تقديماً لهذا التأثير أو تأخيراً له. فالماركسيون حينما
    يمعنون_مثلاً_ في خلق الفتن، لتعميق التناقضات ومضاعفاتها، ينفذون
    قوانين التاريخ. لأن نشاطهم الواعي جزء من الكل التاريخي، لا أنهم
    يستعجلون تلك القوانين. وليس موقف الفئات التي تعمل بوعي سياسي،
    من قوانين التاريخ، كموقف العالم الطبيعي من قوانين الطبيعة، التي يجرب
    عليها في مختبر، فإن العالم الطبيعي، يستطيع أن يقدم أو يؤخر من تأثير
    قوانين الطبيعة، بما يحدث من تغيرات في وضع الطبيعة التي يجربها. لأن


    قوانين الطبيعة التي يجربها، لا تتحكم في عمله، فهو يستطيع أن يسيطر
    على تأثيرها، بما يهيء للتجربة من شروط. وأما العاملون في الحقل السياسي،
    فلا يمكنهم أن يتحرروا من قوانين التاريخ، وأن يسيطروا على تأثيرها.
    لأنهم دائماً يعبرون عن جزء من العملية التاريخية، التي تتحكم فيها تلك
    القوانين.
    فمن الخطأ_ إذن_ أن تقول الماركسية شيئاً عن السيطرة على قوانين
    المجتمع، كما أن من الخطأ أيضاً أن توجه إليها المناقشة السابقة، التي ترمي
    إلى اعتبار النشاط العملي لغواً لا مبرر له، ما دمنا عرفنا أن النشاط العملي
    بما فيه الثورة جزء من قوانين التاريخ.
    ولنأخذ الآن المناقشة الثانية: إن هذه المناقشة تسرد_ عادة_ قائمة من
    الدوافع، التي لا تمت إلى الاقتصاد بصلة، لتنفيذ القول بالعامل الاقتصادي، كعامل رئيسي. وليست هذه المناقشة بأذنى إلى التوفيق من المناقشة الأولى. فإن الماركسية
    لا تعني: أن العامل الإقتصادي هو الدافع الشعوري، لكل أعمال الإنسان،
    على مر التاريخ، وإنما ترتكز على القول: بأنه هو القوة التي تعبر عن نفسها،
    في وعي الناس، بمختلف التعبيرات. فالسلوك الواعي للإنسان. يصدر عن
    غايات ودوافع إيديولوجية مختلفة، قد لا تمت إلى الاقتصاد بصلة، إلا
    أنها في الحقيقة تعبيرات سطحية عن قوة أعمق لأنها ليست إلا أدوات
    يستخدمها العامل الاقتصادي، يحرك بها الناس، في الاتجاه التاريخي المحتوم.
    ويجب أن نتجاوز بهذا الصدد عن بعض النصوص الماركسية، التي لم
    تقتصر على هذا القول، بل جنحت إلى التأكيد على إعتبار الاقتصاد غاية
    عامة للنشاط الاجتماعي، وليس قوة محركة من الخلف فحسب. فقد
    كتب انجلز يقول:
    ((إن القوة ليست سوى وسيلة، وان الغاية هي المنفعة الاقتصادية. ولما كانت الغاية أكثر جوهرية من

    الوسيلة، التي تستخدم لضمانها، فإن الجانب الاقتصادي
    من المسألة، هو أكثر جوهرية في التاريخ، من الجانب السياسي. في جميع قضايا السيطرة والإخضاع، حتى
    يومنا الحاضر، كان الإخضاع دوماً وكالة لإملاء
    المعدة، بأوسع ما في إملاء المعدة من مدلول))( ).
    ولا شك عندنا في أن هذا النص، قد كتبه انجلز على عجل وبقلة أناة
    فجاء يسابق الماركسية_نفسها_ في غلوها بالعامل الاقتصادي، ويناقض
    الواقع الذي يمكننا أن نلمسه في كل حين. فكثيراً ما نجد أن المعدة قد تمتليء
    بأوسع ما في إملاء المعدة من مدلول_ على حد تعبير انجلز_ ولا يمنع ذلك
    هؤلاء الممتلئين، عن القيام بنشاطات مهمة في الحقل الإجتماعي، لأجل
    تحقيق مثل أعلى، أو إشباع نزعة نفسية.
    * * *
    ولنترك هذا، إلى درس المشاكل الحقيقية، التي تثيرها المادية التاريخية،
    وتعترض سبيلها، ولا يمكن للماركسية أن توفق في حلها. فهي لا تستطيع
    أن تفسر_في ضوء المادية التاريخية_ عدة نقاط جوهرية في التاريخ،
    لا بد من دراستها بشيء من التفصيل
    [/align]

  7. #7
    تاريخ التسجيل
    Jul 2004
    الدولة
    هناك
    المشاركات
    28,205

    افتراضي

    [align=center]
    1_ تطور القوى المنتجة والماركسية
    فهناك_ أولاً_ السؤال عن القوى المنتجة، التي يتطور التاريخ تبعاً
    لتطورها كيف تتطور هذه القوى؟، وما هي العوامل التي تسيطر على
    تطورها وتكاملها؟، ولماذا لا تكون هذه العوامل هي القوة العليا التي تتحكم


    في التاريخ، بدلاً عن القوى المنتجة الخاضعة لتلك العوامل، في نموها
    وتكاملها؟.
    وقد اعتاد الماركسيون أن يجيبوا على هذا السؤال: بأن الأفكار التي
    يستفيدها الإنسان خلال ممارسة قوى الطبيعة، وتنشأ عنها، هي التي تطور
    بدورها هذه القوى، وتعمل في تنميتها. فالأسباب التي تطور قوى الإنتاج
    نابعة منها. وليست قوى تعمل بصورة مستقلة عنها، أو في درجة أعلى
    وتعتقد الماركسية، أنها تقدم في هذا التأثير المتبادل، بين قوى الإنتاج،
    والأفكار المنبثقة عنها خلال ممارستها: صورة ديالكتيكية لتطور الإنتاج،
    تعبر عن حركة تكامل ديالكتيكية للقوى المنتجة، بوصفها تولد دائماً
    الأفكار الجديدة، ثم تعود لتنمو ضمنها وتتكامل.
    وهذا الوصف الديالكتيكي، تطور القوى المنتجة، يقوم على أساس
    مفهوم خاص للتجربة، يجعل منها الممون الأساسي الوحيد للإنسان،
    بالأفكار والآراء. فتصبح العلاقة بين قوى الطبيعة المنتجة التي يجربها الإنسان،
    وبين أفكاره وآرائه عن الكون وحقائقه، علاقة علة بمعلول ينشأ عن علته،
    ثم يتفاعل معها، فيزيدها ثراء واغتناء. ولكننا يجب أن لا ننسى النتائج
    التي استخلصناها من دراستنا لنظرية المعرفة في (فلسفتنا) فقد برهنت تلك
    النتائج، على أن التجارب الطبيعية، لا تقدم إلى الإنسان إلا المواد الخام،
    ولا تتحفه إلا بالتصورات الحسية لمضمون التجربة. وهذه المواد والتصورات
    تبقى غير ذات معنى، لو لم تصادف في ذهن معين، الشروط الطبيعية
    والسيكولوجية الخاصة، هو ذهن الإنسان، الذي يملك_ دون سائر
    الحيوانات التي تشترك معه في التصور والاحساس_ قدرة عقلية على الإستنتاج والتحليل، ومعرف ضرورية لا تخضع للتجربة، يأخذ الإنسان بتطبيقها على
    المواد الخام التي يستوردها عن طريق التجربة، فينتهي إلى نتائج جديدة.
    وكلما تكررت عمليات الاستنتاج وتكامل رصيدها، ازدادت خصباً


    وثراءً. فلم تكن قوى الطبيعة المنتجة، هي التي تشق_بمفردها_ طريق
    تكاملها ونموها، أو تولد عوامل تطورها واغتنائها، وإنما تولد الإحساسات
    والتصورات فحسب فليس تطورها_ إذن_ ديالكتيكياً ذاتياً، وليست
    القوة الإيجابية التي تطورها منبثقة عنها. وهكذا تصبح قوى الإنتاج محكومة
    لعامل أعلى منها درجة في تسلسل التاريخ.
    وقد كنا حتى الآن نتساءل، عن العوامل التي تطور الإنتاج وقواه على
    مر الزمن، الأمر الذي انتهينا فيه إلى نتيجة لا تسر الماركسية. غير أن من
    الممكن_ بل يجب_ أن نتخطى هذا السؤال إلى نقطة أعمق، وأكثر
    إحراجاً للمادية التاريخية، فنطرح السؤال على الوجه التالي: كيف مارس
    الإنسان عملية الإنتاج، ونشأت في حياته، ولم تنشأ في حياة أي كائن
    حي آخر؟.
    نحن نعلم من عقيدة الماركسية، أنها تؤمن بالإنتاج قاعدة رئيسية
    للمجتمع يقوم على أساسها الوضع الإقتصادي، وتبتني على الوضع
    الاقتصادي كل الأوضاع الأخرى. ولكنها لم تكلف نفسها أن تقف قليلاً
    عند الإنتاج نفسه، لتفسر: كيف وجد الإنتاج في حياة الإنسان؟. فإذا
    كان الإنتاج يصلح لتفسير نشوء المجتمع، وكل علاقاته وظواهره،
    أفليس للإنتاج نفسه شروط تصلح لتفسير وجوده ونشوئه؟.
    إن بالإمكان الجواب على ذلك، إذا عرفنا ما هو الإنتاج: إن الإنتاج
    _ كما تعرفه لنا الماركسية_ عملية كفاح ضد الطبيعة، يشترك فيها مجموعة
    من الناس، لإنتاج حاجاتهم المادية، وتقوم على أساسها كل العلاقات.
    فهي إذن عملية يقوم بها عدد من الناس، لتغيير الطبيعة، وجعلها بالشكل
    الذي يوافق حاجاتهم ويشبع رغباتهم.
    وعملية تغيير كهذه، يقوم بها عدد من الناس، لا يمكن أن توجد
    تاريخياً، ما لم تسبقها شروط معينة، يمكن تلخيصها في أمرين جوهريين.

    إحداهما:(الفكر)، فإن الكائن الحي لا يستطيع أن يغير من شكل
    الطبيعة بقصد إشباع حاجاته، فيجعل الحنطة دقيقاً، أو الدقيق خبزاً.. مالم
    يكن يملك فكراً عن الشكل الذي سوف يمنحه للطبيعة، فعملية التغيير
    لا يمكن أن تنفصل بحال، عن التفكير فيما ستتمخض عنه العملية من أشكال
    وأوضاع للطبيعة لا تزال في ابتداء العمل غيبية. ولأجل هذا لم يكن من
    الممكن للحيوان، إن يقوم بعملية إنتاج، عملية تغيير حاسم للطبيعة.
    والأمر الآخر: هو، اللغة بوصفها المظهر المادي للفكر، الذي يتيح
    للمشتركين في عملية الإنتاج أن يتفاهموا، ويتخذوا موقفاً موحداً خلال
    العملية فما لم يملك كل منتج أداة التعبير عن فكره، وتفهم أفكار شركائه
    في العمل لا يستطيع أن ينتج.
    وهكذا نجد_ بوضوح_ أن الفكر_ بأي درجة كان_ يجب أن يسبق
    عملية الإنتاج، وأن اللغة ليست نابعة من عملية الإنتاج، كما تنبع كل
    العلاقات والظواهر الاجتماعية، في زعم الماركسية.. وإنما تنبع من الحاجة
    إلى تبادل الأفكار، بوصفها المظهر المادي للفكر. فلم تنشأ اللغة_ أذن_
    من القاعدة الرئيسية المزعومة، من عملية الإنتاج، بالرغم من أنها أهم
    ظاهرة اجتماعية على الإطلاق.. وإنما كانت هي الشرط الضروري تاريخياً،
    في وجود هذه القاعدة المزعومة.
    وأكبر دليل يمكننا أن نقدمه على ذلك، هو استقلال اللغة في تطورها
    عن الإنتاج وقواه. فلو كانت اللغة وليدة الإنتاج، وليدة القاعدة المزعومة،
    لتطورت وتغيرت، تبعاً لتطور أشكال الإنتاج وتغيرها، كما تتغير تبعاً
    لذلك جميع الظواهر والعلاقات الاجتماعية. في رأي الماركسية، ولا يوجد
    ماركسي واحد_ وحتى ستالين_ يجرأ على القول: بأن اللغة الروسية
    _ مثلاً_ تغيرت بعد الثورة الاشتراكية، وتبدلت إلى لغة جديدة، أو
    أن الآلة البخارية التي غيرت القاعدة الأساسية للمجتمع، وأحدثت ثورة


    كبرى في أسلوب الإنتاج قد جاءت بلغة جديدة للانكليز، غير اللغة التي
    كانوا يتكلمون بها قبل ذلك. فالتاريخ يؤكد_ إذن_ أن اللغة مستقلة عن
    الإنتاج، في استمراريتها وتطورها. وليس ذلك إلا لأنها لم تنبع من هذا
    الشكل أو ذاك، من أشكال الإنتاج، وإنما نبعت عن فكر وحاجة هما
    أعمق وأسبق من كل ممارسة للإنتاج الاجتماعي مهما كان شكلها.

    2- الفكر والماركسية

    ويمكن أن نعتبر أخطر وأهم النقاط الجوهرية في المفهوم المادي للتاريخ
    عند الماركسية، هذه العلاقة، التي تؤكد عليها بين الحياة الفكرية للإنسان،
    بشتى ألوانها ومناحيها، وبين الوضع الاقتصادي، وبالتالي وضع القوى
    المنتجة الذي يحدد كل المضمون التاريخي لكيان الإنسان فالفكر مهما اتخذ
    من أشكال عليا، ومهما ابتعد في مجاله الاجتماعي عن القوة الأساسية،
    واتخذ سبيله في منعطفات تاريخية معقدة، فلا يعدو عند التحليل أن يكون
    _ بشكل أو آخر_ نتاجاً للعامل الاقتصادي. وعلى هذا الأساس تفسر
    الماركسية تاريخ الفكر، وما يزخر به من ثورات وتطورات عن طريق
    الظروف المادية، والتكوين الاقتصادي للمجتمع والقوى المنتجة.
    وهذا الإطار الاقتصادي، الذي تضع الماركسية ضمنه كل أفكار
    الإنسان جدير بالبحث العلمي والفلسفي، أكثر من سائر الجوانب الأخرى
    في البناء الماركسي للتاريخ لما يؤدي إليه من نتائج خطيرة في (نظرية المعرفة)
    وتحديد قيمتها ومقاييسها المنطقية. ولهذا كان من الضروري دراسة هذا
    الرأي، خلال البحث الفلسفي في(نظرية المعرفة) وقد عرضنا في(فلسفتنا)
    لهذا الرأي في نظرة عابرة، ونحن الآن نتوفر على تطوير تلك النظرة، إلى
    دراسة مفصلة لهذا الرأي، في الطبعة الثانية من كتاب(فلسفتنا). ولأجل
    هذا، فسوف نترك إليه مهمة البحث المستوعب لرأي الماركسية في الفكر،

    غير أن هذا لا يمنعنا عن دراسته ونقده، في الحدود التي يتسع لها البحث في
    هذا الكتاب.
    ولكي نشرح رأي الماركسية بشكل واضح. نركز الحديث على
    المظاهر الرئيسية في الحياة العقلية وهي: الأفكار الدينية، والفلسفية،
    والعلمية، والاجتماعية.
    وقبل أن نتناول التفاصيل، نود أن نسجل نصاً لأنجلز، كتبه بصدد
    عرض رأي الماركسية الذي ندرسه. فقد قال في رسالته إلى فرانز مهرنج:
    ((إن الايدولوجيا عملية يقوم بها المفكر، عن وعي وشعور من جانبه، ولكنه شعور باطل حقاً. فالبواعث الحقيقة التي تدفعه، تظل غير معروفة له، وإلا لما كانت عملية إيديولوجية مطلقاً. ومن هنا تراه يتخيل دوافع باطلة أو ظاهرية... دون البواعث الحقيقة التي تدفعه، تظل غير معروفة له، وإلا لما كانت عملية إيديولوجية مطلقاً. ومن هنا تراه يتخيل دوافع باطلة أو ظاهرية... دون تمحيص أو بحث عن عملية أخرى أبعد، مستقلة عن الفكر))( ).
    ويريد انجلز بهذا، أن يبرر جهل المفكرين جميعاً، بالأسباب الحقيقية
    التي خلفت لهم أفكارهم، ولم يتح اكتشافها إلا للمادية التاريخية. فلم يكن
    يعني جهلهم بالأسباب، التي تحددها المادية التاريخية لمجرى التفكير الإنساني،
    إنها لم تكن أسباباً حقاً، وإن المادية التاريخية على خطأ في نظرتها، وإنما كان
    من الضروري إن لا تتكشف حقيقة تلك الأسباب، أمام أبصارهم، وإلا
    لما كانت هناك عملية إيديولوجية.

    ومن حقنا أن نقول_ بدورنا_لأنجلز: إذا كان من الضروري حقاً،
    أن تظل الدوافع الحقيقة لكل إيديولوجية مجهولة عند أصحابها، لئلا تخرج
    عن صفتها عملية إيديولوجية.. فكيف جاز لأنجلز نفسه أن يحطم هذه
    الضرورة، ويصنع المعجزة، ويتقدم إلى البشرية بايديولوجية جديدة،
    ظلت تتمتع بصفتها الفكرية والايديولوجية، بالرغم من علمه بأسبابها
    وبواعثها الحقيقة؟!.
    ولنبدأ الآن بالتفاصيل:

    أ_ الدين:

    فالدين يحتل جزاءاً بارزاً على الصعيد الفكري، وقد لعب لأجل هذا
    أدواراً فعالة، في تكوين العقلية الإنسانية أو بلورتها، واتخذ على مر الزمن
    أشكالاً مختلفة ومظاهر متنوعة. فلا بد للماركسية_ وقد استبعدت عن
    تصميمها المذهبي كل حقائق الدين الموضوعية، من الوحي والنبوة والصانع
    _ أن تصطنع للدين وتطوراته تفسيراً مادياً. وكان من الشائع في أوساط
    المادية، أن الدين نشأ نتيجة لعجز الإنسان القديم وإحساسه بالضعف،
    بين يدي الطبيعة وقواها المرعبة، وجهله بأسرارها وقوانينها.. ولكن
    الماركسية لا ترتضي هذا التفسير، لأنه يشذ عن قاعدتها المركزية، فلا
    يربط الدين بالوضع الاقتصادي، القائم على أساس الإنتاج الذي يجب أن
    يكون هو المفسر والسبب الوحيد، لكل ما يحتاج إلى تفسير وسبب. قال كونستانيوف:
    ((ولكن الماركسية اللينينية، قد حاربت دائماً مثل هذا المسخ للمادية التاريخية، وأثبتت أنه ينبغي البحث


    عن منبع الأفكار: الاجتماعية والسياسية والحقوقية والدينية، في الإقتصاد قبل كل شيء))( ).
    ولهذا أخذت الماركسية تفتش عن السبب الأصيل لنشوء الدين، من
    خلال الوضع الاقتصادي للمجتمع، حتى وجدت هذا السبب المزعوم في
    التركيب الطبقي للمجتمع. فالواقع الشيء الذي تعيشه الطبقة المضطهدة في
    المجتمع الطبقي، تفجّر في ذهنيتها البائسة الأفكار الدينية، لتستمد منها
    السلوة والعزاء.
    قال ماركس:
    ((إن البؤس الديني، لهو التعبير عن البؤس
    الواقعي، والاحتجاج على هذا البؤس الواقعي في وقت
    معاً. الدين زفرة الكائن المثقل بالألم، وروح عالم لم
    تبق فيه روح، وفكر عالم لم يبق فيه فكر، إنه أفيون
    الشعب. إذن فنقد الدين هو الخطوة الأولى، لنقد هذا
    الوادي الغارق في الدموع))( ).
    وتنفق محاولات الماركسية بهذا الصدد، على نقطة واحدة هي: أن
    الدين حصيلة التناقض الطبقي في المجتمع، ولكنها تختلف في الطريقة التي
    نشأ بها الدين عن هذا التناقض. فتجنح الماركسية أحيانا إلى القول: بأن
    الدين هو الأفيون الذي تستقيه الطبقة الحاكمة المستغلة، للطبقة المحكومة
    المضطهدة، كي تنسى مطالبها ودورها السياسي، وتستسلم إلى واقعها
    الشيء. فهو على هذا أحبولة تنسجها الطبقة الحاكمة للصيد، وإغراء
    الكادحين البائسين.

    تقول الماركسية هذا، وهي تتغافل عن الواقع التاريخي الصارخ، الذي
    يدلل_ بكل وضوح_ على أن الدين كان ينشأ دائماً في أحضان الفقراء
    والبائسين، ويشع في نفوسهم قبل أن يغمر بنوره المجتمع كله. فهذه هي
    المسيحية، لم يحمل لواءها في أرجاء العالم، وفي الإمبراطورية الرومانية على
    وجه خاص، إلا أولئك الرسل الفقراء، الذين لم يكونوا يملكون شيئاً سوى
    الجذوة الروحية، التي تشتعل في نفوسهم. وكذلك لم يكن التكتل الأول،
    الذي اختضن الدعوة الإسلامية، وكان النواة للأمة الإسلامية، ليضم
    _ على الأكثر_ إلا الفقراء وأشباه الفقراء، من المجتمع المكي. فكيف يمكن
    أن يفسر الدين على أنه نتاج للطبقة الحاكمة، خلقته لتخدير المضطهدين
    وحماية مصالحها؟!.
    وإذا كان يحلو للماركسية، أن تؤمن بأن الطبقة المالكة المسيطرة،
    هي التي تصنع الدين لحماية مصالحها، فمن حقنا أن نتساءل: هل كان
    من مصلحة هذه الطبقة، أن تجعل من هذا الدين أداة فعالة في القضاء على
    الرأسمال الربوي، الذي كان يدر عليها أرباحاً طائلة في المجتمع الملكي،
    قبل أن يحرّمه الإسلام تحريماً باتاً؟!. أو هل كان من مصلحتها، أن
    تتنازل عن كل مزاعمها الأرستقراطية، فتسخّر الدين للدعوة إلى المساواة
    بين الناس، في الكرامة الإنسانية، بل إلى الاستهانة بالأغنياء، والتنديد
    بتعاظمهم دون حق، حتى قال المسيح:(من أرد أن يكون فيكم عظيماً،
    فليكن لكم خادماً، وأنه أيسر أن يدخل الجمل في ثقب إبرة، من أن
    يدخل غني إلى ملكوت الله).
    ونجد الماركسية أحياناً أخرى، تشرح تفسيرها الطبقي للدين بطريقة
    أخرى، فتزعم أن الدين نابع من أعماق اليأس والبؤس، اللذين يملآن
    نفوس الطبقة المضطهدة. فالمضطهدون هم الذين ينسجون لأنفسهم الدين،
    الذي يجدون فيه السلوة، ويستشعرون في ظله الأمل. فالدين ايديولوجية


    البائسين والمضطهدين، وليس من صنع الحاكمين.
    ومن حسن الحظ. أن نعلم من تاريخ المجتمعات البدائية، أن الدين
    ليس من الظواهر الفكرية للمجتمعات الطبقية فحسب، بل إن المجتمعات
    البدائية التي تحسبها الماركسية، تعيش في حالة شيوعية لا طبقية، قد مارست
    هذا اللون من التفكير، وظهرت فيها العقيدة الدينية بأشكال شتى. فلا
    يمكن أن يفسر الدين تفسيراً طبقياً، أو أن يعتبر انعكاسا عقلياً لظروف
    الاضطهاد، التي تحيط بالطبقة المستغلة، ما دام قد وجد في حياة الإنسان
    العقلية، قبل أن يوجد التركيب الطبقي، وقبل أن يغرق الوادي بدموع
    البائسين والمتسغلين. فكيف تستطيع الماركسية بعد هذا أن تجعل من الوضع
    الاقتصادي أساساً لتفسير الدين؟!.
    وهناك شيء آخر، فالدين إذا كان إيديولوجية المضطهدين، النابعة
    من واقعهم السيء، وظروفهم الاقتصادية، كما تزعم الماركسية في طريقتها
    الثانية في التفسير.. فكيف يمكن أن نفسر وجود العقيدة الدينية، منفصلة
    عن الواقع السيء، وظروف الاضطهاد الاقتصادي؟!. وكيف أمكن
    لغير المضطهدين، أن ينقبلوا من الطبقة المضطهدة، إيديولوجيتها التي
    نبعت من واقعها الاقتصادي، ودينها الذي تبشر به؟!.
    إن الماركسية لا يمكنها أن تنكر وجود العقيدة الدينية، عند أشخاص
    لا يمتون إلى ظروف الاضطهاد الاقتصادي بصلة، وصلابة العقيدة في
    نفوس بعضهم، إلى درجة تدفعهم إلى التضحية بنفوسهم في سبيلها. وهذا
    يبرهن_ بوضوح_ على أن المفكر لا يستوحي فكرة إيديولوجية_ دائماً_
    من واقعه الاقتصادي، لأن الفكرة الدينية عند أولئك الأشخاص، لم تكن
    تعبيراً عن بؤسهم، وتنفيساً عن شقائهم، وبالتالي لم تكن انعكاساً لظروفهم
    الاقتصادية، وإنما كانت عقيدة تجاوبت مع شروطهم النفسية والعقلية،
    فآمنوا بها على أساس فكري.

    ولا تكتفي الماركسية بتفسير الدين تفسيراً طبقياً اقتصادياً، بل تذهب
    إلى أكثر من هذا، فتحاول أن تفسر تطوره على أساس اقتصادي أيضاً.
    فكل شعب حين تطورت ظروفه الاقتصادية، وأتاحت له إقامة مجتمع
    قومي مستقل، كانت الآلهة التي يعبدها قومه آلهة قومية، لا تتجاوز
    سلطتها حدود الأراضي القومية، المدعوة إلى حمايتها. وبعد أن تلاشت
    قوميات هذه الشعوب، بالاندماج في إمبراطورية عالمية، هي الإمبراطورية
    الرومانية، ظهرت الحاجة إلى دين عالمي أيضاً. وكان هذا الدين العالمي،
    هو المسيحية، التي أصبحت ديناً رسمياً للدولة، بعد مرور (250) عاماً
    على نشأتها. وتكيفت المسيحية بعد ذلك بالظروف الإقطاعية، وحين بدأت
    تتعارض بشكلها الكاثوليكي، مع القوى البورجوازية المتنامية، ظهرت
    حركة الإصلاح الديني البروتستانتية( ).
    ونلاحظ في هذا المجال، أن المسيحية أو البروتستانتية، لو كانت
    تعبيراً عن الحاجات الموضوعية المادية، التي تشير إليها الماركسية، لكان
    من الطبيعي أن تولد المسيحية وتنمو في قلب الإمبراطورية الرومانية، الآخذة
    بزمام القيادة العالمية، وان تنشأ حركة الإصلاح الديني، في أكثر المجتمعات
    الأوروبية، تطوراً ونمواً من الناحية البورجوازية. مع أن الواقع التاريخي،
    يختلف عن ذلك تماماً.
    فالمسيحية لم تنشأ في نقاط التمركز السياسي، ولم تولد في أحضان
    الرومان الذين بنوا الدولة العالمية، وكانوا يعبرون في نشاطاتهم عنا،
    وإنما نشأت بعيدة عن ذلك كله، في إقليم من الأقاليم الشرقية المستعمرة
    للرومان، ونمت بين شعب يهودي مضطهد، لم يكن_ منذ استعمرته
    الإمبراطورية على يد القائد الروماني(بمبي) قبل الميلاد بستة عقود_ يحلم


    إلا بالاستقلال القومي، وتحطيم الأغلال التي تربطه بالمستعمرين، الأمر
    الذي كفله كثيراً من الثورات، وعشرات الألوف من الضحايا، خلال
    تلك العقود الستة فهل كانت ظروف هذا الشعب المادية والسياسية والإقتصادية
    جديرة بأن تتمخض عن الدين العالمي، الذي يلبي حاجات الإمبراطورية
    المستعمرة؟!.
    وحركة الإصلاح الديني، التي نشأت عن طلائع التحرر الفكري في
    أوروبا، هي الأخرى لم تكن وليدة القوى البورجوازية، وإن حصلت
    منها البورجوازية على مكاسب، غير أن هذا لا يعني أنها بوصفها إيديولوجية
    معينة قد نشأت عن مجرد التطور الاقتصادي البورجوازي. وإلا لكانت
    انكلترا أجدر بها من البلاد، التي انبثقت عنها حركة الإصلاح، لأن
    البورجوازية في إنكلترا، كانت أقوى منها في أي بلد أوروبي آخر.
    والتطور الاقتصادي والسياسي، الذي أحرزته خلال ثورات، منذ عام
    (1215)، جعلها في موضع لا تصل إلى مستواه البلدان الأخرى، وبالرغم
    من ذلك لم يظهر ((لوثر)) في انكلترا استجابة للوعي البورجوازي فيها،
    وإنما ظهر بعيداً عنها، ومارس نشاطه ودعوته في ألمانيا، كما ظهر في فرنسا
    الزعيم الثاني للحركة في شخص( كالفن) البروتستانتي العنيد، الذي جرت
    في فرنسا على عهده عدة مذابح واشتباكات مروعة، بين الكاثوليك
    والبرتستانت، ووقف الأمير الألماني(وليم أورانج) يدافع عن الحركة
    الجديدة بجيش جرار.
    صحيح أن انكلتر_ بعد ذلك_ تبنت البروتستانتية رسمياً،
    ولكنها لم تكن_ بحال_ من نسيج وعيها البورجوازي، وإنما كانت نتيجة
    وعي عاش في بلاد إقطاعية.
    وإذا أخذنا فكرة الماركسية، عن التطور التاريخي للأديان، لنطبقها
    على الإسلام، الدين العالمي الآخر، لوجدنا مدى التناقض الفاضح، بين


    الفكرة والواقع. فلئن كانت أوروبا دولة عالمية، تتطلب ديناً عالياً،
    فلم تكن في جزيرة العرب دولة عالمية كذلك، بل لم تكن توجد دولة
    قومية، تضم الشعب العربي، وإنما كان العرب موزعين فئات متعددة،
    وكان لكل قبيلة إلهها الذي تؤمن به، وتتذلل إليه وتصنعه من الحجر،
    ثم تدين له بالطاعة والعبودية، فهل كانت هذه الظروف المادية والسياسية،
    تدعو إلى انبثاق دين عالمي واحد، من قلب تلك الجزيرة المبضعة، وهي
    بعد لم تعرف كيف تدرك وجودها كقوم وشعب، فضلاً عن أن تعي
    وحدة من نمط أرقى، تتمثل في دين يوحد العالم برمته؟!. وإذا كانت
    الآلهة الدينية تتطور، من آلهة قومية إلى إله عالمي، تبعاً للحاجات المادية
    والأوضاع السياسية فكيف طفر العرب من آلهة قبلية يصنعونها بأيديهم،
    إلى إله عالمي دانوا له بأعلى درجات التجربة؟!.

    ب_ الفلسفة:
    والفلسفة في رأي الماركسية_ هي الأخرى أيضاً_ مظهر عقلي للحياة
    المادية والشروط الاقتصادية، التي يعيشها المجتمع، ونتاج حتمي لها.
    قال كونستانتيوف:
    ((من القوانين المشتركة بين جميع التكوينات الاجتماعية، والصالحة_ على الخصوص_ للمجتمع الاشتراكي، يمكن أن نذكر القانون القائل: أن الوجود الاجتماعي يحدد الإدراك الاجتماعي. إن الأفكار
    الاجتماعية والسياسية والحقوقية والفنية والفلسفية، هي انعكاس للشروط المادية في الحياة الاجتماعية))( ).

    وموقفنا تجاه هذا يتلخص في كلمات، فنحن لا ننكر بالمرة الصلة
    بين الفكر والشروط المادية والاقتصادية، التي يعيشها المفكرون، كما أننا
    لا ننكر ما للفكر من نظام وقوانين، لأنه بوصفه ظاهرة من ظواهر الكون،
    يخضع لما تخضع له تلك الظواهر من قوانين، ويجري وفقاً لمبدأ العلية.
    فلكل عملية إيديولوجية أسبابها وشروطها، التي ترتبط بها كما ترتبط كل
    ظاهرة بأسبابها وشروطها. ولكن الأمر الذي نختلف فيه مع الماركسية،
    هو تحديد هذه الأسباب والشروط. فالماركسية ترى أن السبب الحقيقي،
    لكل عملية إيديولوجية. إنما يكمن في الشروط الاقتصادية والمادية.
    فلا يمكن_ في رأيها_ أن نفسر الفكرة، في ضوء علاقاتها بالأفكار الأخرى
    وتفاعلاتها معها، وعلى أساس الشروط السيكولوجية والعقلية، وإنما يمكن
    تفسيرها_ فقط_ عن طريق العامل الاقتصادي. فليس للفكر تاريخ مستقل
    أو تطور خاص له، وإنما هو تاريخ للانعكاسات الحتمية، التي تثيرها في
    العقل الإنساني ظروف المجتمع الاقتصادية والمادية والطريقة العلمية التي
    يمكن أن نختبر بها هذه الحتمية، أن نقارن بين النظرية ومجرى الأحداث في
    مجرى الحياة العقلية والاجتماعية للإنسان.
    وللماركسية نصوص عديدة في شرح هذه النظرية، وتطبيقها على
    الحقل الفلسفي. فهي تارة تفسر الفلسفة بحالة القوى المنتجة، وأخرى تفسرها
    بمستوى العلوم الطبيعية، وثالثة تعتبرها ظاهرة طبقية، تحددها ظروف
    التركيب الطبقي في المجتمع، كما سنرى في النصوص الآتية!
    قال الفيلسوف الشيوعي البريطاني(موريس كونفورث):
    ((شيء آخر تجدر بنا ملاحظته، ذلك هو تأثير المخترعات التكنيكية والاكتشافات العلمية، على ظهور الأفكار الفلسفية ))( ).

    ويريد بهذا، أن يربط بين التفكير الفلسفي، وتطور وسائل الإنتاج
    ويوضح هذه الرابطة في مجال آخر بتقديم نموذج لها من مفهوم التطوير،
    الذي ساد العقلية الفلسفية، بسبب التطور الثوري في قوى الإنتاج، فهو
    يقول:
    ((إن التقدم نحو المفاهيم التطورية في العلم، والذي أعرب عن اكتشاف التطور الحقيقي في الطبيعة والمجتمع
    كان يطابق تطور الرأسمالية الصناعية في أواخر القرن
    الثامن عشر،بيد أن هذا التطابق، لم يكن مجرد تطابق فحسب، بل كان يعبر عن علاقة سببية... لا تعيش البورجوازية، إلا إذا أدخلت تغييرات ثورية مستمرة
    على أدوات الإنتاج... كانت هذه هي الشروط، التي
    أدت إلى ظهور مفهوم التطور العام في الطبيعة والمجتمع، ولذلك فإن مهمة الفلسفة، في تعميم قوانين التغير والتطور
    لا تنتج من مكتشفات العلوم فحسب، بل ومن الكل
    المعقد لحركة المجتمع الحديث بكليته))( ).
    وهكذا فإن أدوات الإنتاج، كانت تتطور وتتجدد، فتقذف إلى عقل
    الفلاسفة مفاهيم التطور، التي قضت على النظرة الفلسفية الجامدة إلى الكون،
    وحولتها إلى نظرة ثورية، تطابق التطورات المتواصلة في أدوات الإنتاج.
    ونكتفي هنا بالقول: بأن التطورات الثورية في أدوات الإنتاج، بدأت
    في أواخر القرن الثامن عشر، كما أشار إلى ذلك(كون فورث) نفسه،
    أي بعد اختراع الآلة البخارية سنة 1764، التي تعتبر أول ثورة حقيقية
    في وسائل الإنتاج، ومفهوم التطور_ على أساس مادي_ سبق هذا التاريخ،


    على يد إمام من كبار أئمة الفلسفة المادية، الذي تشيد الماركسية بمجدهم
    وآرائهم وهو (ديدرو)( ). الذي طلع على دنيا الفلسفة في النصف الأول
    من القرن الثامن عشر، بمادية صبها في إطار من التطور الذاتي، فقال:
    بأن المادة تتطور بنفسها، وفسر الحياة على أساس التطور. فالأحياء عنده
    تتطور، ابتداء من خلية تحدثها المادة الحية، بحيث تحدث الأعضاء الحاجات،
    وتحدث الحاجات الأعضاء... فهل استقى(ديدرو) هذا المفهوم الفلسفي
    للتطور، من الانقلابات الثورية في الأدوات المنتجة، التي لم تكن قد تعاقبت
    بعد على مسرح الإنتاج؟!.
    صحيح أن التغييرات الجذرية على الصعيد الإنتاجي، كانت تهيء
    الأذهان_ إلى حد ما_ لقبول فكرة التطور الفلسفي، وتطبيقها على كل
    مرافق الكون ولكن هذا لا يعني السببية الضرورية، وربط التطور الفلسفي
    بتطور الإنتاج، ربطاً حتمياً لا يأذن له بالتقدم أو التأخر، وإلا فكيف سمحت
    هذه الحتمية المزعومة (ديدرو)، أن يسبق تطور الإنتاج؟! بل كيف
    سمحت لفلاسفة عاشوا قبل ذلك بأكثر من ألفي سنة، أن يجعلوا من التطور
    قاعدة فلسفية لهم؟!.
    فهذا هو الفيلسوف اليوناني(انكسمندر)، عاش في القرن السادس
    قبل الميلاد( )، جاء بمفهوم فلسفي عن التطور، لا يختلف في جوهره عن
    مفاهيم التطور في عصر الإنتاج الرأسمالي. فقد قال: إن الكائنات كانت
    أول أمرها منحطة، ثم سارت في طريق التطور، درجات أعلى فأعلى،
    بما فطر فيها من دافع غريزي، يدفعها إلى الملاءمة بين أنفسها والبيئة الخارجية: فالإنسان_ مثلاً_ كان حيواناً يعيش في الماء، فلما انحسر الماء اضطر هذا


    الحيوان المائي إلى ملاءمة البيئة، فاكتسب على مر الزمن أعضاء صالحة
    للحركة على الأرض اليابسة. وهكذا حتى أصبح إنساناً.
    وفيلسوف آخر، كانت له مساهمة كبيرة في مفاهيم التطور الفلسفي،
    حتى اعتبرته الماركسية، شارحاً رائعاً لجوهر الديالكتيك ورأيه في التطور، وهو(هرقلطيس)، الذي عاش في القرن الخامس قبل الميلاد( ). وجاء
    في دنيا الفلسفة بمفهوم للتطور، يقوم على أساس التناقض والديالكتيك.
    فهو يؤكد أن الكون ليس على صورة واحدة، فهو متغير متحول دائماً،
    وهذه الصيرورة والحركة من صورة إلى صورة، هي حقيقة الكون،
    فلا تفتأ الأشياء تتقلب من حال لحال إلى آخر الأبد. ويفسر هذه الحركة
    بأنها تناقض، لأن الشيء المتحرك يكون موجوداً ومتغيراً في نفس الوقت،
    أي موجوداً وغير موجود في آن واحد، وهذا الاتحاد الآني بين الوجود
    واللاوجود، هو معنى الحركة، التي هي جوهر الكون وحقيقة.
    إن فلسفة(هرقليطس) هذه، لئن برهنت على شيء، فإنما تبرهن
    بوجودها التاريخي، على خطأ الماركسية في تفسيرها للفلسفة، وتأكيدها
    على مسايرتها حتماً لوسائل الإنتاج والمكتشفات التكنيكية، لا سيما إذا
    عرفنا أن(هرقليطس)، كان متأخر تأخراً فاضحاً عن موكب العلم،
    ومكتشفاته الطبيعية والفلكية، في عصره. فضلاً عن مواكبه الحديثة،
    حتى كان يعتقد أن قطر الشمس قدم واحد، كما يبدو للبصر، ويفسر
    غروبها بانطفائها في الماء.
    ولماذا نذهب بعيداً، وبين أيدينا الفيلسوف الإسلامي الكبير صدر الدين
    الشيرازي، الذي أحدث ثورة جبارة في الفلسفة الإسلامية، إذ أتحف الفكر
    الإسلامي في مطلع القرن السابع عشر، بأعمق فلسفة شهدها تاريخ هذا


    الفكر، وأثبت في فلسفته هذه، الحركة الجوهرية في الطبيعة، والتطور
    المستمر في جوهر الكون، على أسس فلسفية تجريدية وقد أثبت ذلك،
    يوم كانت وسائل الإنتاج ثابتة، بشكلها التقليدي على مر الزمن، وكان
    كل شيء في الحياة الاجتماعية ساكناً ثابتاً، غير أن الدليل الفلسفي، دفع
    فيلسوفنا الشيرازي إلى التأكيد على قانون التطور في الطبيعة، بالرغم من
    ذلك كله.
    فلا علاقة حتمية_ إذن_ بين المفاهيم الفلسفية، والوضع الاقتصادي
    للقوى المنتجة.
    وهناك شيء آخر له مغزاه الخاص بهذا الصدد، وهو أن الوضع
    الاقتصادي لقوى الإنتاج وعلاقاته، لو كان هو الأساس الحقيقي الوحيد،
    لتفسير الحياة العقلية للمجتمع، بما فيها الأفكار الفلسفية، لكانت النتيجة
    الطبيعية لذلك، أن التطورات الفلسفية تواكب في حركتها التقدمية، تطور
    الوضع الاقتصادي، وتجري وفقاً لحركة التكامل في علاقات الإنتاج وقواه
    ويصبح من الضروري بموجب ذلك، أن تنبع الاتجاهات التقدمية في الفلسفة،
    وأن تتولد الثورات الفلسفية الكبرى، في أرقى المجتمعات من الناحية
    الاقتصادية فيكون نصيب كل مجتمع من التفكير التقدمي، والفلسفة الثورية،
    بمقدار حظه من التطور الاقتصادي والسبق في ظروف الإنتاج وعلاقاته.
    فهل تنسجم هذه النتيجة مع الواقع التاريخي للفلسفة؟ هذا ما نريد معرفته
    الآن.
    ولنأخذ حالة أوروبا، عندما لاحت في الأفق الأوروبي، تباشير
    الثورة الفكرية الجديدة. فقد كانت انكلترة تتمتع بدرجة عالية نسبياً من
    التطور الاقتصادي، لم تظفر بنظيرها فرنسا ولا ألمانيا، وكان الشعب
    الإنكليزي، قد ظفر بمكاسب سياسية خطيرة، لم يكن قد حصل على شيء
    منها الشعب الفرنسي والألماني، وكانت القوى الاقتصادية الفنية في انكلترة


    (قوى البورجوازية) في نمو مستمر، لا يشبهه وضعها في البلدان الأخرى.
    وبكلمة مختصرة: إن الوضع الاجتماعي لإنكلترة، بشروطه الاقتصادية
    والسياسية، كان أعلى درجة_ في سلم التطور التاريخي، الذي تؤمن به
    الماركسية_ من فرنسا وألمانيا، بدليل أن انكلترة بدأت ثورتها التحررية،
    سنة(1215)، وخاضت في منتصف القرن السابع عشر(1648)، ثورتها
    الكبرى بقيادة(كرومويل)، بينما لم تتهيأ في فرنسا ظروف الثورة
    الحاسمة، إلا سنة(1789)ولا في ألمانيا، إلا عام(1848)، وهذه
    الثورات، بوصفها ثورات بورجوازية، منبثقة عن درجة التطور الاقتصادي
    في رأي الماركسية، تبرهن بما تشير إليه من تفاوت زمني بينها إلى سبق
    انكلترة في المجال الاقتصادي.
    وإذا كانت انكلترة هي الدولة المتطورة اقتصادياً، أكثر من غيرها،
    فمن الطبيعي_ على أساس النظرية الماركسية_ أن تسبق غيرها من البلدان
    في المضمار الفلسفي، وتصبح أكثر تقديمة منها في اتجاهها الفلسفي. والاتجاه
    التقدمي في الفلسفة_عند الماركسية_ هو الاتجاه المادي، وأكثر ما يكون
    الاتجاه المادي تقدمياً، حين يقوم على أساس التطور والحركة. وهنا نتساءل:
    أين ولدت المادية وشبت؟ وفي أي مجتمع ظهرت تباشير ها، ثم اندلعت
    عاصفتها؟ وتبدو لنا الماركسية هنا في موقف حرج، لأن نظريتها في تفسير
    الفلسفة، على أساس العامل الاقتصادي، تدعوها إلى القول: بأن تقدم
    انكلترة الاقتصادي، كان يفرض عليها أن تظهر على المسرح الفلسفي،
    بالاتجاه التقدمي، أو الاتجاه المادي بتعبير آخر. ولهذا حاول ماركس القول:
    بأن المادية ولدت في إنكلترة، على يد(فرنسيس بيكون)، وعلى يد
    (الاسميين)( ).
    ولكنا نعلم جميعاً، أن(بيكون) لم يكن فيلسوفاً مادياً، بل كان

    غارقاً في المثالية، وإنما دعا إلى التجربة فقط وشجع الطريقة التجريبية في
    البحث. وأما (الاسميون) الانجليز، فلئن كانت(الاسمية) لوناً فكرياً
    من الإعداد للمادية، فقد سبق إلى هذا اللون من التفكير الفلسفي، إثنان من
    الفلاسفة الفرنسيين، في مطلع القرن الرابع عشر: أحدهما(دوران دي
    سان بورسان)، والآخر:(بيير أوريول) وإذا أردنا أن نفتش بصورة
    أعمق عن المقدمات الفكرية، التي مهدت للاتجاه المادي. فسوف نجد قبل
    (الاسمية) الحركة(الرشدية اللاتينية) في الفلسفة، التي ظهرت في القرن
    الثالث عشر في فرنسا، وتشيّع لها معظم أساتذة كلية الفنون بباريس. وعلى
    يدهم فصلت الفلسفة عن الدين، وبدأت تتجة إلى إنكار المسلّمات الدينية.
    وأما الاتجاه المادي في شكله الصريح، فهو وإن كشف عن نفسه
    في شخص أو أشخاص معدودين في إنكلترة، نظير(هوبز). ولكن هذا
    الاتجاه لم يستطع أن يسيطر على الموقف الفلسفي في إنكلترة، أو يستلم
    الزمام من الفلسفة المثالية، بينما أثار أكبر عاصفة مادية على المسرح الفلسفي
    في فرنسا، حتى غرقت فرنسا في الاتجاهات المادية. وبينما كانت فرنسا
    الفكرية، تحتفل ب(فولتير) و(ديدرو) وأمثالها من أئمة المادية في القرن
    الثامن عشر.. نجد انكلترة زاخرة بأعمق وأفظع مثالية فلسفية. على يد
    ((جورج باركلي)) و ((ديفيد هيوم)) المبشرين الأساسيين بالمثالية في تاريخ
    الفلسفة الحديثية..
    وهكذا تجيء النتائج، على عكس ما ترتقبه الماركسية في التاريخ. إذ
    تزدهر الفلسفة المثالية، وبتعبير آخر: أشد الفلسفات رجعية عند الماركسية،
    في أرقى المجتمعات، وأكثرها تطوراً من الناحية الاقتصادية والتكنيكية.
    بينما تختار العاصفة المادية لها مكاناً، في مجتمعات متأخرة اقتصادياً واجتماعياً،
    كفرنسا، بل إن المادية التطورية والديالكتيك نفسهما، لم يظهرا إلا في
    ألمانيا، يوم كانت متأخرة في شروطها المادية على انكلترة، بعدة درجات.

    ومع هذا تريدنا الماركسية، أن نصدق تفسيرها للتفكير الفلسفي
    وتطوراته، على أساس الوضع الاقتصادي ونموه.
    وإذا حاولت الماركسية، أن تجد لها المفارقات مبرراً لتعبيرها استثناءً
    عن القانون. فماذا يبقي عندها من دليل على صحة القانون نفسه. لتكون
    هذه المفارقات استثنائية؟؟ ولماذا لا تكون دليلاً على خطأ القانون نفسه،
    بدلاً من أن نلتمس المعاذير لها من هنا وهناك؟!!.
    وهكذا نستنتج_ مما سبق_ أن لا علاقة حتمية بين المفاهيم الفلسفية
    للمجتمع والوضع الاقتصادي للقوى المنتجة فيه.
    * * *
    [/align]
    يا محوّل الحول والاحوال ، حوّل حالنا إلى أحسن الحال......








  8. #8
    تاريخ التسجيل
    Jul 2004
    الدولة
    هناك
    المشاركات
    28,205

    افتراضي

    [align=center]وأما العلاقة بين الفلسفة والعلوم الطبيعية، فتتوقف دراستها_ بصورة
    مفصلة_ على تحديد مفهوم الفلسفة، ومفهوم العلم، والأسس التي يرتكز
    عليها التفكير الفلسفي والتفكير العلمي، لنستطيع أن نعرف ما يمكن من
    تفاعل وارتباط بين الحلقتين. وهذا ما سنتركه إلى ((فلسفتنا)) ولكننا لا نترك
    هذا المناسبة دون أن نشير بإجمال، إلى شكنا في التبعية المفروضة على
    الفلسفة للعلوم الطبيعية فإن الفلسفة قد تسبق العلم أحياناً، إلى بعض الإتجاهات
    في تفسير الكون، ثم يجري العلم بعد ذلك في اتجاهها، بطريقته الخاصة.
    وأوضح مثل على ذلك التفسير الذري للكون، الذي قال به الفيلسوف
    اليوناني ديمقراطيس، وقامت على أساسه عدة مدارس فلسفية، على مر
    التاريخ، قبل أن تصل العلوم الطبيعية إلى مستوى تتمكن فيه من التدليل على
    هذا التفسير. واستمر التفسير يحمل الطابع الفلسفي الخالص، حتى حاول
    أن يدخل الحقل العلمي_ لأول مرة_ على يد(دالتن) عام(1805)،
    حيث استخدم الفرضية الذرية، لتفسير النسب الثابتة في الكيمياء.
    * * *

    ولم يبق علينا بعد هذا، إلا أن نفحص الطابع الطبقي للفلسفة. فإن
    الماركسية تؤكد أن الفلسفة لا يمكن أن تتجرد عن إطارها الطبقي، بل هي
    دائماً تعبير عقلي رفيع، عن مصالح طبقة معينة. قال موريس كونفورت:
    ((كانت الفلسفة دوماً تعبر، ولا تستطيع أن تعبر عن وجهة نظر طبقية. فكل فلسفة عبارة عن وجهة نظر طبقه ما، عن العالم. طريقة تدرك بها الطبقة، مركزها وأهدافها التاريخية. فكانت المدارس الفلسفية، تعبر عن نظرة الطبقة، ذات الإمتيازات، إلى العالم، أو عن وجهة نظر الطبقة التي كانت تكافح، لتصبح طبقة ذات امتيازات))( ).
    ولا تكتفي الماركسية بمجمل من القول كهذا، بل تضع النقاط على
    الحروف فتؤكد أن الفلسفة المثالية(وتعني بها كل فلسفة ترفض التفسير
    المادي البحث للعالم) هي فلسفة الطبقات الحاكمة، والأقليات المستغلة التي
    تتبني المثالية على مر التاريخ_ بوصفها فلسفة محافظة_ لتستعين بها على
    إبقاء القديم على قدمه. وأما المادية فهي على نقيض ذلك، لأنها كانت
    تعبر دائماً عن المفهوم الفلسفي للطبقات المضطهدة، وتقف إلى جانبها في
    كفاحها، وتسند الحكم الديمقراطي والقيم الشعبية( ).
    وتشرح الماركسية هذين الموقفين المتناقضين. من المثالية والمادية،
    على أساس اختلاف الفلسفتين في نظريتهما عن المعرفة. وفي هذا تقع
    الماركسية في خلط، بين نظرية المعرفة في المجال الكوني، وبينها في المجال
    الأخلاقي فتعتبر أن تأكيد المثالية على حقائق مطلقة الوجود، يتضمن إيمانهم


    بقيم مطلقة للوضع الاجتماعي أيضاً. فما دامت المثالية، أو الميتافيرية،
    تؤمن بأن الحقيقة العليا ((الله)) في الوجود مطلقة وثابتة، فهي تؤمن_
    أيضاً_ بأن الظواهر العليا في المجتمع، من حكومة وأوضاع سياسية
    واقتصادية، حقائق ثابتة مطلقة أيضاً. لا يجوز تغييرها واستبدالها بغيرها.
    والحقيقة هي: أن وجود حقائق مطلقة وفقاً لنظرية المعرفة الفلسفية
    عند الميتافيزية، ولمفهومها عن الوجود، لا يعني الاعتراف بنظير هذا
    الإطلاق والشمول، على الصعيد الاجتماعي والسياسي ولذلك نجد أرسطو
    زعيم الميتافيزية، الفلسفية، يؤمن بالنسبية، على الصعيد السياسي، ويقرر
    أن الحكومة الصالحة تختلف باختلاف الأحوال والظروف، ولم يمنعه القول
    بالصلاح النسبي_ هذا_ في المجال الاجتماعي، من الاعتقاد بالحقائق
    المطلقة في الفلسفة الميتافيزيقية.
    وسنترك درس هذه الناحية دراسة دقيقة، إلى(فسفتنا)، ونقف
    هنا لحظة لنرى: هل يصدق التاريخ هذه المزاعم، التي تقررها الماركسية
    عن الاتجاه التاريخي الطبقي للمثالية والمادية؟؟.
    ويمكننا أن نأخذ مثالين من التاريخ. من تاريخ المادية على الخصوص: أحدهما:(هرقلطيس) اكبر فيلسوف للمادية في العالم القديم. والآخر:
    (هوبز) الذي يعتبر من أقطاب المادية في الفلسفة الحديثة.
    أما (هرقليطس) فهو أبعد إنسان عن الروح الشعبية، التي تسلكها
    الماركسية في جوهر الفلسفة المادية. فقد كان سليل أسرة إرستقراطية نبيلة،
    لها المنزلة الأولى بين أهل المدينة وقد شاء الحظ أن يندرج في مناصبها الكبيرة،
    حتى أصبح حاكم المدينة المسيطر. وقد كان يعبر دائماً، وفي كل تصرفاته
    عن نزعته الأرستقراطية، وترفعه على الشعب، واستهانته به، حتى
    كان يصفه تارة بقوله: (أنعام تؤثر الكلأ على الذهب)، وأخرى بقوله:
    (كلاب تنبح كل من لا تعرفه).

    هكذا تجسّدت_ في العالم القديم_ المادية الديالكتيكية في شخص،
    يمكن أن يوصف بكل شيء إلا بالروح الديمقراطية ومساندة الحكم الشعبي.
    بينما كان إمام المثالية في دنيا اليونان، (أفلاطون)، يدعو إلى فكرة
    ثورية؟ تتجسد في نظام شيوعي مطلق، ويشجب الملكية الخاصة بكل
    ألوانها. فأي الفيلسوفين كان أقرب للثورية، والقيم التحررية في رأي
    الماركسية؟!
    و(هوبز) الذي حمل في مطلع عهد النهضة، لواء فلسفة مادية
    خالصة، معارضاً بها ميتافيزيقية(ديكارت)... لم يكن أحسن حالاً من
    (هرقليطس) فقد كان معلماً لأمير من الأسرة المالكة في انكلترة، (هو
    الذي اعتلى عرش انجلترا بعد ذلك باسم: شارل الثاني عام 1660)،
    وبحكم علاقته هذه، ناهض الثورة الشعبية الكبرى، التي فجّرها الشعب
    الانجليزي، بقيادة (كرومويل) حتى إذا دكّت الثورة عرش الملكية،
    وإقامت مكانها جمهورية يرأسها (كرومويل)، اضطر فيلسوفنا المادي،
    إلى الفرار والالتجاء إلى فرنسا، التي كانت معقلاً قوياً للملكيين. وهناك
    استمر في مناصرته الفكرية للملكية المطلقة، ووضع كتابه(التنين)،
    الذي ضمّنه فلسفته السياسية، وأكد فيه على ضرورة سلب أفراد الشعب
    حرياتهم، وإقامة الملكية على أساس من الإستبداد المطلق. وفي الوقت الذي
    كانت تؤكد فيه الفلسفة المادية، هذا الاتجاه السياسي، على يد(هوبز)
    كانت الفلسفة(الميتافيزيقية) تقف موقفاً معاكساً، يتمثل في عدة من
    أبطالها المفكرين، الذين عاصروا(هوبز) كالفيلسوف الصوفي الكبير
    (باروخ سبينوزا) الذي آمن بحق الشعب في انتقاد السلطة، بل وفي الثورة
    عليها. ودعا إلى الحكم الديمقراطي قائلاً:(كلما اتسعت مشاركة الشعب
    في الحكم، قوي التحاب والإتحاد).
    فأي الفلسفتين كانت تسير في ركاب الأرستقراطية والإستبداد؟!.

    فلسفة(هرقليطس) الأرستقراطي، أم فلسفة أفلاطون واضع كتاب
    الجمهورية. فلسفة(هوبز) الإستبدادي، أم فلسفة(سبينوزا)، القائل
    بحق الشعب في الحكم.
    بقي علينا أن نلاحظ شيئاً آخر، وهو: أن التفكير الفلسفي لمّا كان
    طبقياً في رأي الماركسية، فهو تفكير حزبي دائماً. فلا يمكن لأي باحث
    فلسفي، أن يدرس مسائل الفكر الإنساني، دراسة موضوعية نزيهة،
    بل الدراسات الفكرية كلها ذات لون حزبي صارخ، ولأجل هذا لا تتحاشى
    الماركسية عن إبراز الطابع الحزبي لفلسفتها وتفكيرها الخاص، والإعتراف
    باستحالة النزعة الموضوعية في البحث بالنسبة إليها، وإلى كل المفكرين،
    وتكرر دائماً: أن النزعة الموضوعية والنزاهة التامة في البحث، ليست إلا
    أسطورة بورجوازية يجب القضاء عليها قال الكاتب الماركسي الكبير
    (تشاغين):
    ((لقد ناضل لينين بثبات وإصرار... ضد النزعة الموضوعية في النظرية، وضد اللاتحيز واللاّحزبية البورجوازيين. ومنذ عام 1890 سدّد لينين طعنة نجلاء،
    إلى النزعة الموضوعية البورجوازية، التي كان ينادي
    بها الماركسيون الشرعيون، أولئك الذين كانوا ينتقدون الموقف الحزبي في النظرية، ويطالبون بالحرية في ميدان النظرية... لقد بيّن في نضاله ضد الماركسية الشرعية،
    وضد نزعة المراجعين: أن النظرية الماركسية من واجبها
    أن تعلن بصراحة، وحتى النهاية، مبدأ الروح الحزبية البروليتارية...ولكي نقدر حق قدره هذا الحدث أو ذالك، من أحداث التطور الاجتماعي، فينبغي النظر إليه من
    زاوية مصالح الطبقة العاملة، والتطور التاريخي لهذه


    الطبقة... فالروح الحزبية هي التي تمكّن الطبقة العاملة،
    من أن تبرّر علمياً، الضرورة التاريخية لإقامة (دكتاتورية البروليتاريا) ))( ).
    وقال لينين نفسه:
    ((إن المادية تفرض الموقف الحزبي، لأنها في تقدير
    كل حادث تجبر على الإنحياز صراحة، ودون مواربة،
    إلى وجهة نظر فئة اجتماعية معينة))( ).
    وعلى هذا الأساس، وجه جدانوف نقداً قاسياً لكتاب(الكسندروف)
    في تاريخ الفلسفة الغربية، إذ دعا فيه مؤلفه إلى التساهل والنزعة الموضوعية
    في البحث فنقده جدانوف بحرارة وكتب يقول:
    ((إن المهم في نظري، هو أن المؤلف يستشهد بـ (تشرينشفسكي)، لكي يبين: أنه يجب على مؤسسي
    الأنظمة الفلسفية المختلفة، وحتى المتناقضة فيما بينها،
    أن يكونوا أكثر تساهلاً واحدهم تجاه الآخر ولما كان
    المؤلف قد استشهد بهذه الفقرة( أي بفقرة من كلام تشرينشفسكي في تحبيذ التساهل والموضوعية) دون
    تعليق، فمن الواضح أنها تمثل وجهة نظره الخاصة.
    فإذا كان الأمر كذلك، كان من الجلي أنه يسير في
    طريق، إنكار مبدأ الموقف الحزبي في الفلسفة، ذلك
    المبدأ الجوهري في الماركسية اللينينية))( ).

    ونحن بدورنا نتساءل، في ضوء هذه النصوص: ماذا تقصد الماركسية
    من التشديد على الموقف الحزبي في الفلسفة، والتحيز في كل مجال فكري
    إلى وجهة نظر الطبقة التي تدافع عن مصالحها فإن كانت تعني بذلك أن من
    الضروري للفلاسفة الماركسيين أن يجعلوا مصلحة الطبقة العاملة، هي المعيار
    فيما يقبلون ويرفضون من آراء، فلا يسمجون لأنفسهم بتبني أي فكرة،
    تتعارض مع تلك المصلحة، وإن توفرت عليها الأدلة والبراهين.. فمعنى
    هذا أنها تنتزع من نفوسنا الثقة بأقوالها، وتجعلنا نشك في إيمانها بأي رأي
    تبديه، أو فكرة تتحمس لها. ويصبح من الجائز أن يكون ماركس، أعرف
    الناس بأخطائه، التي كان يكافح في سبيلها، ويعرضها بوصفها معاجز
    التفكير الحديث.
    وأما إذا كانت تعني الماركسية من الموقف الحزبي، أن كل فرد ينتمي
    إلى طبقة ويدافع عن مصالحها، ينساق دون قصد إلى ما يتفق مع مصالح
    تلك الطبقة من مفاهيم وآراء، ولا يمكن أن يتجرد عن وصفه الطبقي خلال
    البحث مهما حاول اصطناع النزعة الموضوعية وتكلفها، إذا كانت
    الماركسية تعني هذا، فإنه يؤدي بها إلى النسبية الذاتية التي تحاربها دائماً.
    ولعل القاريء يتذكر النسبية الذاتية، من بين المذاهب التي استعرضناها
    في نظرية المعرفة من(فلسفتنا) وهو المذهب القائل: بأن الحقيقة ليست
    مطابقة الفكرة للواقع الموضوعي، وإنما هي مطابقة الفكرة للشروط الخاصة،
    التي توجد في تركيب الفرد العضوي والنفسي، فالحقيقة بالنسبة إلى كل
    شخص، ما تتفق مع تركيبه الخاص، لا يطابق الواقع الخارجي، وهي
    لأجل ذلك نسبية ذاتية، بمعنى أنها تختلف من فرد لآخر. فما هو حقيقة
    بالنسبة إلى شخص، لا يكون كذلك بالنسبة إلى شخص آخر.
    والماركسية تشن حملة عنيفة ضد هذه النسبية الذاتية، وتعتبر الحقيقة
    هي مطابقة الفكرة للواقع الموضوعي، غير أن الواقع الموضوعي لمّا كان


    متطوراً، فالحقيقة التي تعكسه متطورة أيضاً، فهي حقيقة نسبية، ولكن
    النسبية هنا موضوعية، تابعة لتطور الواقع الموضوعي، وليست ذاتية تابعة
    للتركيب العضوي والنفسي للفرد المفكر. هذا ما تقوله الماركسية في نظرية
    المعرفة، ولكنها بتأكيدها على الطابع الطبقي والحزبي للتفكير، وعلى
    استحالة التجرد من مصالح الطبقة، التي ينتمي إليها المفكر، تسير في طريق
    النسبية الذاتية من جديد، إذ تصبح الحقيقة هي مطابقة الفكرة للمصالح
    الطبقية للمفكر لأن كل مفكر لا يستطيع أن يدرك الواقع إلا في حدود هذه
    المصالح. فلا يمكن للماركسية حين تقدم لنا مفهومها عن الكون والمجتمع،
    أن تزعم لهذا المفهوم القدرة على تصوير الواقع، وإنما كل ما تستطيع أن
    تقره هو: أنه يعكس ما يتفق مع مصالح الطبقة العاملة من جوانب الواقع.
    فمعيار الحقيقة عند كل مدرسة فكرية، هو مدى اتفاق الفكرة مع المصالح
    الطبقية، التي تدافع عنها. وبهذا تصبح الحقيقة نسبية، تختلف من مفكر إلى
    آخر، ولكن لا بحسب التركيب العضوي والنفسي للأفراد. بل بحسب
    التركيب الطبقي والمصالح الطبقية التي ينتمون إليها. فالحقيقة نسبية
    طبقية، تختلف باختلاف الطبقات ومصالحها، وليست نسبية موضوعية،
    ولا يمكن التأكد من احتواء الحقيقة على جانب موضوعي من الواقع، أو
    تحديد هذا الجانب فيها، ما دامت الماركسية لا تأذن للتفكير_مهما كان
    لونه_ أن يتجاوز حدود المصالح الطبقية وما دامت المصالح الطبقية توحي
    دائماً بما يشايعها من أفكار، بقطع النظر عن خطئها وصوابها وينتج من
    ذلك شك مطلق مرير، في كل الحقائق الفلسفية.

    جـ _ العلم:
    ولا أريد أن أقف عند الأفكار العلمية طويلاً، خوفاً من الإسهاب.
    ولكننا لن نستمع_ مهما وقفنا_ إلا نفس النغمة، التي كانت ترددها


    الماركسية في الحقل الفلسفي، وفي كل مرفق من مرافق الوجود الإنساني.
    فالعلوم الطبيعية_ في رأيها_ تتدرّج وتنمو طبقاً للحاجات المادية، التي
    يتفتح عنها الوضع الاقتصادي، وتستجد شيئاً فشيئاً تبعاً لتطور الظروف
    الاقتصادية وتكاملها. ولما كانت هذه الظروف، نتاجاً تاريخياً لوضع القوى
    المنتجة، وأساليب الإنتاج، فلا غرو أن تصل الماركسية في تفسيرها للحياة
    العلمية إلى الإنتاج أيضاً، كما تصل إليه عند نهاية كل شوط، في تحليل
    حركة التاريخ وعمليته المتعددة الجوانب. فكل مرحلة تاريخية تتكيف
    اقتصادياً وفقاً لأساليبها في الإنتاج، وتساهم في الحركة العلمية في المدى
    الذي يفرضه واقعها الاقتصادي، وحاجاتها المادية النابعة من هذا الواقع.
    فاكتشاف العلم للقوة البخارية المحركة، في أواخر القرن الثامن عشر مثلاً،
    كان وليد الظروف الاقتصادية، ونتيجة لحاجة الإنتاج الرأسمالي إلى
    قوة ضخمة، لتحريك الآلات التي يعتمد عليها هذا الإنتاج. وكذلك
    سائر الكشوف والتطورات، التي يحفل بها تاريخ العلم.
    وقد ذكر (روجيه غارودي)، لإيضاح تبعية العلوم للوضع الاقتصادي
    والتكنيكي، للقوى المنتجة: أن المستوى التكنيكي، الذي تبلغه القوى
    المنتجة، هو الذي يضع أمام العلم قضايا، ويحتم عليه بحثها وحلها، فيتقدم
    ويتكامل وفقاً لما يعالجه من هذه القضايا، النابعة من تطور القوى المنتجة،
    ووضعها الفني والتكنيكي. وعلى هذا الأساس يفسر لنا(غارودي)،
    كيف أن اكتشافاً واحداً قد يتوصل إليه عدة علماء في آن واحد كاكتشاف
    التعادل بين الحرارة والعمل، الذي حققه علماء ثلاثة، في وقت واحد،
    وهم: (كارنو) في فرنسا، و(جول) في إنجلترا، و(ماير) في ألمانيا؛
    وكما يقدّم تطور القوى المنتجة بين يدي العلم القضايا، التي يجب عليه حلها،
    كذلك يعبّر لنا(غارودي) عن وجه آخر، من تبعية العلوم لوضع القوى
    المنتجة وهو أن تطورها يهيء للعلم أدوات البحث التي يستخدمها، ويؤمّن


    له مجموعة الأدوات الضرورية للمراقبة والاختبار( ).
    وفيما يلي نلخص ملاحظاتنا، على هذا الموقف الماركسي في تفسير العلم:

    أ_ إذا استثنينا العصر الحديث، نجد أن المجتمعات التي سبقته إلى
    الوجود، كانت متقاربة إلى حد كبير في وسائل الإنتاج وأساليبه، ولم يكن
    بينها أي فرق جوهري من هذا الناحية. فالزراعة البسيطة، والصناعة
    اليدوية، هما الشكلان الرئيسيان للإنتاج، في مختلف تلك المجتمعات. ومعنى
    ذلك في العرف الماركسي، أن القاعدة التي تقوم عليها هذه المجتمعات كلها
    واحدة. وبالرغم من ذلك فإنها تختلف اختلافاً كبيراً، في مستوياتها العلمية.
    فلو كانت أشكال الإنتاج وأدواته، هي العامل الأساسي، الذي يحدد لكل
    مجتمع محتواه العلمي، ويطوّر الحركة العلمية وفقاً لدرجة التاريخية.. لما
    وجدنا تفسيراًًًًًً لهذا الإختلاف، ولا مبرراً لازدهار العلم في مجتمع دون
    مجتمع، ما دامت القوة الرئيسية التي تصنع التاريخ، واحدة في الجميع.
    فلماذا اختلف المجتمع الأوروبي في القرون الوسطى مثلاً، عن
    المجتمعات الإسلامية في الأندلس والعراق ومصر، مع إشتراكها في نوعية
    القاعدة!. وكيف ازدهرت في المجتمعات الإسلامية، الحركة
    العلمية في مختلف الحقول بدرجة عالية نسبياً، ولم يوجد لها أي تباشير في
    أوروبا الغربية، التي هالها ما رأته في حروبها الصليبية، من علوم المسلمين
    ومدنيتهم؟.
    ولماذا استطاعت الصين القديمة وحدها، أن تخترع الطباعة، ولم تتوصل
    إليها سائر المجتمعات إلا عن طريقها!.. فقد أخذ المسلمون هذه الصناعة،
    عن الصينيين في القرن الثامن الميلادي، ثم أخذتها أوروبا عن المسلمين في
    القرن الثالث عشر. فهل كانت القاعدة الاقتصادية التي قامت عليها الصين


    القديمة، تختلف في جوهرها عن قاعدة المجتمعات الأخرى؟!.

    ب_ إن الجهود العلمية، وإن كانت تعبّر في كثير من الأحايين عن
    حاجة مادية اجتماعية تتطلب الإبداع، ولكن هذه الحاجة لا يمكن أن
    تكون هي التفسير الأساسي الوحيد، لتاريخ العلم وتطوراته. فإن كثيراً
    من الحاجات، بقيت تنتظر آلاف السنين كلمة العلم بشأنها، ولم تستطع
    بمجرد وجودها في حياة الناس المادية، أن تظفر من العلم بمكسب، حتى
    آن للعلم أن يصل إلى الدرجة التي تتيح له قضاء هذه الحاجة. ولنأخذ المثال
    على ذلك من كشف علمي، قد يبدو الآن تافهاً ولكنه عبر في حينه عن
    تطور علمي جديد، وهو إختراع النظارات. فحاجة الناس إلى النظاّرات
    مثلاً قديمة، قدم الإنسان، ولكن هذه الحجة المادية، بقيت تنتظر دورها،
    حتى جاء القرن الثالث عشر، فاستطاعت أوروبا أن تأخذ عن المسلمين،
    معلوماتهم عن انعكاس الضوء وانكساره، وبالتالي تمكّن العلماء على
    أساس هذه المعلومات، أن يصنعوا النظارات فهل كان هذا الحدث العلمي
    وليد حاجة جديدة، نبعت عن الواقع الاقتصادي والمادي للمجتمع؟!
    أو كان نتيجة لعوامل فكرية، استطاعت أن تؤدي إلى اختراع النظارات
    عند وصولها إلى درجة معينة من تطورها وتكاملها؟!.
    ولو كان بإمكان الحاجة المنبثقة من الظروف الاقتصادية، أن تفسر
    العلم والكشوف العلمية، فكيف يمكن أن نفهم اكتشاف أوروبا لقدرة
    المغنطيس على تعيين الاتجاه، في القرن الثالث عشر، حين استعملت الإبرة
    المغنطيسية في إرشاد السفن؟!. مع أن الطريق البحري كان هو الطريق
    الرئيسي للتجارة في قرون خلت، وكان الرومان يعتمدون في التجارة على
    طريق البحر بصورة رئيسية، ولم يتح لهم_بالرغم من ذلك_ أن يكتشفوا
    للمغناطيس قدرته على توجيه السفن. ولم تشفع لهم حاجاتهم النابعة من
    واقعهم الإقتصادي بذلك، بينما تؤكد بعض الروايات التاريخية، أن الصين


    قد ظفرت بهذا الكشف قبل عشرين قرناً تقريباً.
    وقد يتفق للعلم أن يسبق بفتوحه الحاجة الاجتماعية إذا استكمل الشروط
    الفكرية للفتح الجديد. فالقوة المحركة للبخار هي من حاجات المجتمع
    الرأسمالي في رأي الماركسية، ولكن العلم قد اكتشفها_بالرغم من ذلك_
    في القرن الثالث الميلادي( ) قبل أن تظهر طلائع الرأسمالية الصناعية، على
    مسرح التاريخ، بأكثر من عشرة قرون. صحيح أن المجتمعات القديمة،
    لم تستثمر هذه القوة البخارية، ولكننا لا نتحدث عن مدى قدرة المجتمع
    على الاستفادة من العلوم، وإنما نبحث الحركة العلمية نفسها، وندرس
    ما إذا كانت تعبيراً عقلياً عن الحاجة الاجتماعية المتجددة بدورها، أو
    حركة أصيلة لها شروطها السيكولوجية وتاريخها الخاص.

    جـ _والماركسية حين تحاول أن تقصر نطاق العلم، على القضايا
    والمشاكل التي تضعها وسائل الإنتاج، وأوضاعها التكنيكية أمامها، تقع
    في خلط بين العلوم الطبيعية النظرية من ناحية، والفنون العملية من ناحية
    أخرى. فالفنون العملية الصناعية، التي نبعت من خلال التجارب والخبرات
    الإعتيادية، التي حصل عليها رجال الأعمال، وتوارثوها، كانت تسخر
    دائماً لحساب القوى المنتجة، وتنمو تبعاً لما تقدمه هذه القوى من مسائل
    ومشاكل، تتطلب منهم الجواب عنها، أو التغلب عليها. وأما العلوم
    النظرية التجريبية، فلم تكن وقفاً على تلك المسائل والمشاكل، بل إننا
    نجد أن التطور العلمي النظري، والتطور الفني العملي، سار لفترة كبيرة
    من الزمن، في خطين منفصلين، وذلك منذ القرن السادس عشر، إلى
    القرن الثامن عشر. فقد مضى على الفنون العملية_ بعد ميلاد العلم في القرن
    السادس عشر_ قرنان، قبل أن تتهيأ لها الاستفادة من العلم، وبقي الحال

    على هذا تقريباً، حتى بدأت صناعة الكهرباء سنة(1870).
    ومن المفيد بهذا الصدد أن نعلم، أن الثورة العلمية في الكيمياء، التي
    قام بها(لافوازيه)، لم يقلبها الناس عامة، إلا في نهاية القرن الثامن عشر.
    وقد استطاعت الفنون العملية خلال ذلك، إجراء تحسينات في صناعة الحديد،
    وصناعة الفولاذ، قبل أن يعرف هؤلاء الفنانون الفروق الكيمياوية الأصلية،
    بين الحديد الصلب، والحديد المطاوع، والفولاذ، تبعاً لإختلاف نسبة
    الكربون فيها.
    وهذا الانفصال بين خط التفكير العلمي، والخبرة البحتة في الفنون
    العملية، ردحاً من الزمن، يعني أن للعلم تاريخه الفكري، وليس نتاجاً
    لحاجات الإنتاج المتجددة، واستجابة لمستلزماتها الفنية فحسب.
    وأما ما لاحظه(غارودي)، من أن كشفاً علمياً واحداً، قد يصل
    إليه عدة علماء في وقت واحد... فهو لا يبرهن على أن الكشوف العلمية
    دائماً وليدة الظروف التكنيكية. لوسائل الإنتاج، كما شاءت الماركسية أن
    تستنتجه من هذه الظاهرة، زاعمة: أن الظروف الاقتصادية والمادية،
    حين تسمح لقوى الإنتاج، بطرح قضية جديدة إلى العلماء، وتدفعهم إلى
    التفكير في حلها، يصل هؤلاء العلماء إلى الكشف المطلوب، في أوقات
    متقاربة، لأن القوة الدافعة لهم قد وجدت في وقت واحد، من خلال
    تطور الإنتاج.
    ولكن هذا ليس هو التفسير الوحيد الممكن لهذه الظاهرة،. بل من الممكن
    تفسيرها عن طريق تشابه أولئك العلماء، في الخبرة والشروط الفكرية
    والسيكولوجية، والمستوى العلمي العام.
    والدليل على أمكان هذا التفسير، وجود هذه الظاهرة التي ندرسها،
    في الحقول العلمية النظرية، البعيدة عن مشاكل الإنتاج وتطوراته. فقد
    توصّل مثلاً ثلاثة من علماء الاقتصاد السياسي، في وقت واحد إلى (النظرية


    الحدّية) في تفسير القيمة، وهم(جيفونز) الانجليزي سنة(1871)
    و(فالراس) السويسري سنة(1874)، و(كارل منجر) النمساوي سنة
    (1871). ومن الواضح أن النظرية الحدّية، ليست إلا تفسيراً نظرياً معيّناً
    لظاهرة اقتصادية قديمة، في حياة المجتمع الإنساني، وهي القيمة التبادلية.
    فلا علاقة للمحتوى العلمي للنظرية، بمشاكل الإنتاج أو تطور القوى
    الطبيعية المنتجة، ولم تستمد دليلها من هذا التطور.
    فما هو تفسير وصول ثلاثة من أقطاب الاقتصاد، في وقت واحد تقريباً
    إلى وجهة نظر معينة، في تفسير القيمة، سوى أنهم كانوا متقاربين في
    شروطهم الفكرية، وقدرتهم التحليلية؟!.

    د_ وأما تبعية العلوم الطبيعية لتطور القوى المنتجة، بوصفه المصدر
    الذي يموّن العلم بأدوات البحث الضرورية له، فهي في الواقع علاقة مقلوبة،
    ذلك أن العلوم الطبيعية، وإن كانت تنمو وتتكامل طبقاً لما تظفر به من
    أدوات للتجربة والاختبار، من مراقب ومجاهر وآلات تسجيل، وما إليها..
    ولكن هذه الأدوات نفسها، ليست إلا نتاجاً للعلم، يقدمه العلم بين يدي
    العلماء، ليتيح لهم استخدامه في الوصول إلى مزيد من النظريات، واستكشاف
    الأسرار المجهولة. فاختراع المجهر في القرن السابع عشر، كان ثورة في
    وسائل الإنتاج، لأنه استطاع أن يزيح الستار عن دنيا مجهولة، لم يكن قد
    اطّلع عليها الإنسان قط، ولكن ما هو المجهر؟. إنه نفسه ليس إلا نتاجاً
    للعلم، ولاكتشاف قوانين الضوء، وكيفية انعكاسه على العدسات.
    ويجب أن نعرف بهذا الصدد، أن قصة العلم لا تتمثل كلها في الأدوات
    فما أكثر الحقائق التي كانت أدوات اكتشافها جاهزة، ولكنها ظلت مستورة
    عن عين الإنسان، حتى بلغ التفاعل والتكامل في الفكر العلمي إلى درجة
    سمحت له باكتشاف الحقيقة، وصوغها في مفهوم علمي خاص. ويمكننا
    أن نقدّم مثلاً بسيطاً على ذلك، من فكرة الضغط الجوي، هذه الفكرة التي


    تعتبر من الفتوح الكبرى للعلم، في القرن السابع عشر. فهل تدري كيف
    سجل العلم هذا الفتح العظيم؟. إنه سجله في فكرة طرأت على ذهن
    (تورتشيلي)، إذ لاحظ أن المضخة لا تستطيع أن ترفع الماء إلى أكثر من
    (34) قدماً. وقد سبقه إلى هذه الملاحظة آلاف من رجال الأعمال،
    خلال قرون، كما سبقه إليها بوجه خاص العالم الكبير(جاليلو)، ولكن
    الشيء العظيم الذي قدّر(لتروتشيلي)، أن يقدمه إلى العلم، هو تفسير
    الظاهرة، التي كانت معروفة منذ قرون. فقد قال أن الحد الذي ترفع
    المضخة إليه الماء، فلا تزيد عنه(34قدماً)، قد يكون هو مقياس ما للجو
    من ضغط، وإذا كان الضغط الجوي قادراً على حمل عمود من الماء طوله
    (34قدماً). فهو لابد حامل عموداً من الزئبق أقصر من العمود المائي
    لأن الزئبق أثقل من الماء، وسرعان ما تأكد من صحة هذه النتيجة، وأقام
    عن طريقها الدليل العلمي على وجود الضغط الجوي، الأمر الذي قام على
    أساسه عدد عظيم من الكشوف والاختراعات.
    فمن حقنا أن نقف عند هذا الكشف العلمي، بوصفه حادثاً تاريخياً،
    لنتساءل: لماذا وجد هذا الحدث العلمي في فترة معينة، من القرن السابع
    عشر، ولم يتحقق قبل ذلك؟! أفلم تكن هناك حاجة للإنسان قبل هذا،
    إلى الاستفادة من قوى الضغط وتخسيره، في قضاء مختلف الحاجات؟!،
    أو لم تكن الظاهرة التي وضع (تورتشيلي) نظريته في ضوئها، معروفة
    خلال قرون، منذ بدء استعمال المضخات المائية؟!، أو لم تكن التجربة
    التي قام بها لإثبات النظرية علمياً، ميسورة لغيره ممن التفت إلى الظاهرة،
    ولم يحاول أن يفسرها؟!.
    ونحن إذا لم نؤمن للحركة العلمية بأصالتها وتطورها، وفقاً لتراكم
    الأفكار وتفاعلها، وشروطها السيكولوجية والفكرية الخاصة فسوف لن
    يجد هذا الكشف العلمي، ولا العلم بوجه عام، تفسيره الكامل في قوى
    الإنتاج والأوضاع الاقتصادية.

    ولن نتكلم الآن عن الأفكار الاجتماعية، وعلاقتها، بالعامل الاقتصادي
    لأن لمعالجة هذه النقطة موضعها في بحث مقبل من هذا الكتاب.

    3_ الطبقية الماركسية

    ومن النقاط الجوهرية في الماركسية مفهومها الخاص عن الطبقية الذي
    كوّنته، وفقاً لطريقتها العامة في دمج الدراسة الاجتماعية الاقتصادية،
    والنظر دائماً إلى المدلولات الاجتماعية ضمن الإطار الاقتصادي، فهي
    ترى أن الطبقات بوصفها ظاهرة اجتماعية، ليست إلا تعبيراً ذا طابع
    اجتماعي عن القيم الاقتصادية السائدة في المجتمع، من الربح والفائدة والأجر
    وألوان الاستثمار، وتؤكد لأجل هذا، أن الأساس الواقعي للتركيب
    الطبقي، ولظهور أي طبقة في المجتمع، هو العامل الاقتصادي، لأن
    انقسام الناس إلى فئة تملك كل وسائل الإنتاج، وفئة لا تملك منها شيئاً،
    هو السبب التاريخي لوجود الطبقات في المجتمع، بأشكالها المتنوعة تبعاً
    لنوعية الاستغلال الذي تفرضه الطبقة الحاكمة على الطبقة المحكومة، من
    عبودية أو قنانة أو استخدام بالأجرة.
    والحقيقة أن الماركسية حين أعطت الطبقة مفهوماً اقتصادياً يتمثل في
    ملكية وسائل الإنتاج أو انعدام هذه الملكية، كان من الطبيعي لها أن تؤمن
    بقيام التركيب الطبقي في المجتمع، على أساس اقتصادي، ما دامت قد
    أدرجت ذلك في مفهومها عن الطبقية بالذات.
    ولعل هذه النقطة هي أوضح مثال من بين النقاط التحليلية في الماركسية،
    لما حرصت عليه الماركسية، وأدته ببراعة من تفسير المدلولات الاجتماعية
    كلها، تفسيراً اقتصادياً وتطعيمها بقيمها الاقتصادية الخاصة.
    غير أن هذا البراعة في التحليل، من الناحية النظرية، كلفت الماركسية


    الابتعاد عن المنطق الواقعي للتاريخ، وعن طبيعة الأشياء_ لا كما تبدو
    وتتعاقب في ذهن العلماء الماركسيين_ بل كما تبدو في الواقع، لأن التحليل
    الماركسي يفترض أن الواقع الاقتصادي_ ملكية وسائل الإنتاج، وعدم
    ملكيتها_ هو الأساس الواقعي والتاريخي للتركيب الطبقي، وانقسام المجتمع
    إلى طبقة حاكمة_لأنها تملك_ وطبقة محكومة_ لأنها لا تملك مع أن
    الواقع التاريخي ومنطق الأحداث يبرهن في أكثر الأحايين على العكس،
    ويوضح أن أوضاع الطبقات، هي السبب في الأوضاع الاقتصادية التي
    تتميز بها تلك الطبقات، فالوضع الاقتصادي للطبقة يتحدد وفقاً لكيانها
    الطبقي، وليس كيانها الطبقي نتيجة لوضعها الاقتصادي.
    وأكبر الظن، أن الماركسية حين قررت أن التركيب الطبقي قائم على
    أساس اقتصادي، وأكدت على أن الطبقة نتيجة للملكية لم تدرك النتيجة التي
    تترتب على ذلك منطقياً، وهي أن النشاط في ميادين الأعمال، هو الأسلوب
    الوحيد إلى كسب المقام الاجتماعي، وتكوين طبقة رفيعة في المجتمع،
    لأن التكوين الطبقي للطبقة الرفيعة الحاكمة، في المجتمع إذا كان نتاجاً
    للملكية_الوضع الاقتصادي_ فلا بد لها من إيجاد هذه الملكية، إلا
    النشاط في ميادين العمل. وقد تكون هذه أغرب نتيجة، يتمخض عنها
    التحليل الماركسي لبعدها عن الواقع، وإلا فمتى كان النشاط في ميادين
    العمل، هو الطريق الأساسي لتكوين الطبقة الحاكمة في المجتمع. وإن
    كانت هذه النتيجة_ التي تترتب منطقياً على التحليل الماركسي_ تنطبق على
    ظرف تاريخي، فإنما تنطبق فقط على المجتمع الرأسمالي في ظرف تكوّنه
    وتكامله، إذ يمكن لأحد أن يقول أن الطبقة الرأسمالية، قد بنت كيانها
    الطبقي عن طريق الملكية التي حصلت عليها بالنشاط الدائب في ميادين العمل
    والإنتاج وأما في الظروف التاريخية الأخرى، فلم يكن النشاط العملي،


    هو الأساس لتكوّن الطبقات، ولا الدعامة الرئيسية للطبقة الحاكمة في كل
    العصور، بل على العكس كانت حالة الملكية تظهر على الأكثر بوصفها
    نتيجة للوضع الطبقي، وليست أساساً له.
    وإلا فكيف نفسر الحدود الفاصلة التي كانت توضع في المجتمع الروماني
    بين طبقة الأشراف، ومجموع العامة بما فيهم طبقة رجال الأعمال الذين
    كانوا يدانون الأشراف في ثرواتهم، ويتمتعون بملكيات لا تقل عن ملكيات
    أولئك الأشراف بالرغم من التفاوت الكبير بين مقامهما الاجتماعي، ومن
    السلطات السياسية الخاصة التي كان الأشراف يمتازون بها على رجال الأعمال
    وغيرهم من الفئات.
    وكيف نفسر وجود طبقة(الساموراي) ذات النفوذ الكبير في المجتمع
    الياباني القديم التي كانت تأتي في السلم الاجتماعي بعد أمراء الاقطاع
    مباشرة، وترتكز في تكوينها الطبقي على خبرتها الخاصة بحمل السيف،
    وفنون الفروسية وأساليبها، وليس على الملكية وقيمها الاقتصادية.
    وكيف نفسر قيام التنظيم الطبقي في المجتمع الهندي، قبل التاريخ
    الحديث بألفي سنة على يد الفاتحين، من الآريين الفيديين الذين غزوا الهند،
    وسيطروا عليها، وأقاموا فيها تنظيماً طبقياً على أساس اللون والدم، ثم
    تطور التكوين الطبقي، فانقسمت الطبقة الفاتحة الحاكمة إلى طبقة(الكشاترية)
    المتميزة بكفاءتها العسكرية وبراعتها في القتال وطبقة(البراهمة)، القائمة
    على أساس ديني، وظلت الفئات الأخرى كلها محكومة لهاتين الطبقتين،
    بما فيها التجار والصناع الذين كانوا يملكون وسائل الإنتاج. واحتلت القبائل
    الوطنية التي ظلت متمسكة بدينها أدنى الدرجات في السلم الاجتماعي،
    وتكونت منها طبقة المنبوذين. فلم يكن للملكية أثر في هذا التكوين الطبقي،
    الذي ظل يمارس وظيفته الاجتماعية مئات السنين في القارة الهندية قائماً على
    أسس عسكرية ودينية وعنصرية، ولم يشفع للتجار والصناع ملكيتهم،

    لوسائل الإنتاج كي يرتقوا إلى مصاف الطبقات الحاكمة، أو ينافسوها في
    سلطانها السياسي والديني.
    وأخيراً كيف نفسر قيام الطبقة الإقطاعية في أوروبا الغربية نتيجة للفتح
    الجرماني، إذا لم نفسره تفسيراً عسكرياً وسياسياً، فإننا جميعاً نعلم_ وحتى
    انجلز نفسه فقد كان يعترف أيضاً_ بأن القواد الفاتحين الذين تكونت منهم
    تلك الطبقة لم يكن مقامهم الاجتماعي ناتجاً عن الملكية الإقطاعية وإنما تكونت ملكيتهم الإقطاعية هذه تبعاً لدرجتهم الاجتماعية، وامتيازاتهم العسكرية
    والسياسية الخاصة، بوصفهم غزاة فاتحين دخلوا أرضاً واسعة، وتقاسموها
    فكانت الملكية أثراً، ولم تكن هي العامل المؤثر.
    وهكذا نجد عناصر غير ماركسية، وتنتهي إلى نتائج غير ماركسية
    لدى تحليل كثير من التركيبات الطبقية في المجتمعات البشرية المختلفة.
    وقد تحاول الماركسية بهذا الصدد الدفاع عن مفهومها في الطبقية عن
    طريق القول بالعلاقة المتبادلة بين العامل الاقتصادي وشتى العوامل الاجتماعية
    الأخرى الأمر الذي يجعله يتأثر بها، ويتكيف وفقاً لها، كما يؤثر فيها
    ويساهم في تكوينها.
    غير أن هذا المحاولة وحدها تكفي لنسف المادية التاريخية، والقضاء على
    مجدها العلمي الشامخ في دنيا الماركسية، لأنها لا تختلف عندئذ عن التفاسير
    الأخرى للتاريخ، إلا في التأكيد على أهمية العامل الاقتصادي نسبياً مع
    الاعتراف بالعوامل الأخرى الأصيلة التي تساهم في صنع التاريخ.
    وإذا كانت الماركسية على خطأ في تعليل الطبقية بالوضع الاقتصادي
    وحده عرفنا من ذلك خطأها أيضاً في إعطاء الطبقة مفهوماً اقتصادياً خالصاً،
    لأن الطبقة إذا لم تكن قائمة دائماً على أساس اقتصادي في تركيبها الاجتماعي
    فليس من الصحيح إذن أن نعتبر الطبقية مجرد تعبير عن قيمة اقتصادية معيّنة

    كما زعمت الماركسية ذلك، الأمر الذي جعلها تصل إلى نتائج غريبة مشابهة
    لما أدت إليه نظرتها في تعليل الطبقية وتبريرها من نتائج، فقد رأينا أن
    الماركسية حين آمنت بأن الطبقة إنما تتكون وفقاً للشروط الاقتصادية،
    والحالة الملكية، كلفها ذلك القول بأن النشاط في ميادين العمل هو الطريق
    الوحيد إلى السمو الاجتماعي، وكذلك يمكننا أن نلاحظ الآن أننا إذا أعطينا
    الطبقة مفهومها الماركسي، وبالأحرى مفهومها الاقتصادي المبحث القائل
    بأن الجماعة التي تعيش على عملها طبقة واحدة، والجماعة التي تعيش على
    استثمار وسائل الإنتاج التي تملكها طبقة أخرى، ولم ندخل في مفهوم الطبقة
    أي اعتبار آخر سوى هذه القيم الاقتصادية كما تصر الماركسية على ذلك،
    لكان معنى هذا أننا أدرجنا كبار الأطباء والمهندسين، ومدراء المؤسسات
    التجارية والشركات الكبرى، في نفس الطبقة التي تضم عمال المناجم
    وأجراء الزراعة والصناعة، لأنهم جميعاً يعيشون على الأجور، بينما يلزمنا
    أن نضع حداً طبقياً فاصلاً بين هؤلاء الأجراء وبين مالكي وسائل الإنتاج
    مهما كانت أجور أولئك ومهما كانت نوعية الوسائل المنتجة المتوفرة عند
    هؤلاء. وحيث أن الصراع بين الطبقات ضريبة ماركسية لا محيد للطبقات
    عن القيام بها فسوف ينتهي بنا ذلك إلى تصور أن صغر مالكي الوسائل
    المنتجة سوف يقفون في صراعهم الطبقي إلى صف الطبقة المستثمرة من
    المالكين بينما يقف كبار الأجراء من المهندسين والأطباء الأخصائيين إلى
    صف الكادحين المستثمرين وهكذا ينقلب مدير المؤسسة التجارية الكبرى
    عاملاً كادحاً يخوض المعركة ضد المالكين المستثمرين نتيجة لدمج الحقائق
    الاجتماعية بالقيم الاقتصادية واتخاذ الجهاز الاقتصادي في توزيع الدخل أساساً
    للطبقات الاجتماعية.
    ونستنتج من دراستنا هذه للتحليل الماركسي للطبقة نتيجتين خطيرتين:
    إحداهما: أن من الممكن قيام الطبقات في المجتمع حتى ولو انعدمت


    فيه الملكية الخاصة بصورة قانونية لأن حالة الملكية_ كما عرفنا_ ليست
    هي الأساس الوحيد للتكوين الطبقي، وهذه هي النتيجة التي كانت الماركسية
    تخاشاها حين أكدت على حالة الملكية، بوصفها السبب الوحيد لوجود الطبقات
    كي تبرهن عن هذا الطريق على ضرورة زوال الطبقية واستحالة وجودها
    في المجتمع الاشتراكي الذي تلغي فيه الملكية الخاصة. وما دمنا قد تبينّا أن
    الملكية الخاصة بصيغتها القانونية ليست هي العامل الوحيد في وجود المجتمع
    الطبقي فمن الطبيعي أن ينهار هذا البرهان، ويصبح من الممكن أن توجد
    الطبقية. بشكل من الأشكال في المجتمع الاشتراكي بالذات، كما وجدت
    في غيره من المجتمعات. وهذا ما سندرسه إن شاء الله باستيعاب أكثر
    عند نقد المرحلة الاشتراكية من مراحل المادية التاريخية.
    والنتيجة الأخرى هي: أن الصراع في المجتمع_ حيث يوجد_ لا يجب
    أن يعكس القيم الاقتصادية التي يقررها جهاز التوزيع في المجتمع فليست
    نوعية الدخل الناحية الاقتصادية_ ككون الدخل أجراً أو ربحاً_ هي التي
    تفرض الصراع ولا جبهات الصراع مقسمة على أساس تلك الدخول والقيم الاقتصادية.
    [/align]
    يا محوّل الحول والاحوال ، حوّل حالنا إلى أحسن الحال......








  9. #9
    تاريخ التسجيل
    Jul 2004
    الدولة
    هناك
    المشاركات
    28,205

    افتراضي

    [align=center]
    4_ العوامل الطبيعية والماركسية
    ومن مظاهر النقصان البارزة في الفرضية الماركسية، تناسي العوامل
    الفيزيولوجية والسيكولوجية والفيزيائية، وإهمال دورها في التاريخ، مع
    أنها قد تكون في بعض الأحايين ذات تأثير كبير في حياة المجتمع وكيانه
    العام، لأنها هي التي تحدد للفرد اتجاهاته العلمية، وعواطفه وكفاءاته
    الخاصة، تبعاً لما تتحفه به من تركيب عضوي خاص، وهذه الاتجاهات
    والعواطف والكفاءات، التي تختلف في الأفراد وفقاً لتلك العوامل، وتساهم
    في صنع التاريخ، وتقوم بأدوار إيجابية متفاوتة في حياة المجتمع.

    فكلنا نعلم بالدور التاريخي، الذي لعبته مواهب نابليون العسكرية،
    وشجاعته الفريدة، في حياة أوروبا.
    وكلنا نعلم بميوعة لويس الخامس عشر، وآثارها التاريخية خلال حرب
    السنوات السبع، التي خاضتها فرنسا إلى جانب النمسا. فقد استطاعت امرأة
    واحدة، كمدام(بومبادور)، أن تملك إرادة الملك، وبالتالي أن تدفع
    فرنسا للاشتراك مع النمسا في حربها، وتحمّل العواقب الوخيمة التي أسفرت
    عنها.
    وكلنا نعلم بالدور التاريخي، الذي نجم عن حادثة غرام خاصة، في
    حياة ملك انجليزي كهنري، إذ أدت تلك الحادثة إلى انفصال العائلة المالكة،
    وبالتالي انكترا كلها، عن المذهب الكاثوليكي.
    وكلنا نعلم ما فعلته عاطفة الأبوة، التي دفعت بمعاوية بن أبي سفيان،
    إلى اتخاذ كل الأساليب الممكنة، لأخذ البيعة لإبنه يزيد، الأمر الذي عبّر
    في وقته عن تحوّل حاسم، في المجرى السياسي العام.
    فهل كان التاريخ سيتم بنفس الصورة التي وجدت فعلاً، لو لم يكن
    نابليون رجلاً عسكرياً حديدياً، ولم يكن لويس ذائباً مستسلماً لمحظياته،
    ولم يعشق هنري(آن بولين)، ولم تسيطر عاطفة خاصة على معاوية بن أبي
    سفيان.
    وليس أحد يدري ماذا كان يحدث؟ لو لم تسمح الشروط الطبيعية
    للوباء باكتساح أرجاء الإمبراطورية الرومانية، وامتصاص مئات الآلاف
    من سكانها مما ساعد على انهيارها وتغير الوجه التاريخي العام.
    ولا يدري أحد أيضاً أي اتجاه كان يتجه التاريخ القديم، لو أن جندياً
    مقدونياً لم ينقذ حياة الاسكندر، في اللحظة المناسبة، فيقطع اليد التي أهوت
    عليه بالسيف من خلفه، وهو في طريقه إلى فتح عسكري خطير، امتدت
    آثاره عبر الأجيال والقرون.

    وإذا كانت تلك الصفات من الصلابة، والميوعة، والغرام، والعاطفة،
    ذات تأثير في التاريخ، ومجرى الحوادث الاجتماعية. فهل من الممكن أن
    نفسر هذه الصفات، على أساس القوى المنتجة والأوضاع الاقتصادية،
    لننتهي مرة أخرى إلى العامل الاقتصادي، الذي تؤمن به الماركسية؟!.
    الحقيقة أن أحداً لا يشك، في أن هذه الصفات لا يمكن تفسيرها على
    أساس العامل الاقتصادي، وقوى الإنتاج. فإن الوسائل المنتجة والظروف
    الاقتصادية ليست هي التي كوّنت المزاج الخاص، للملك لويس الخامس
    عشر مثلاً، بل كان من الممكن_ لو ساعدت الشروط الطبيعية والسيكولوجية
    _ أن يكون لويس الخامس عشر، شخصاً صلباً قوي الإرادة، نظير
    لويس الرابع عشر، أو نابليون مثلاً، وإنما نبع مزاجه الخاص، من
    الخصائص الفيزيائية والفيزيولوجية والنفسية، التي يتكون منها وجوده
    الخاص، وشخصيته المتميزة.
    وقد تبتدر الماركسية هنا، قائلة: أليست العلاقات الاجتماعية، التي
    أنشأها العامل الاقتصادي في المجتمع الفرنسي، هي التي سمحت للملك
    لويس أن يؤثر على التاريخ، ويعكس ميوعته على الأحداث العسكرية
    والسياسية، بما أقرّته تلك العلاقات من النظام الملكي الوراثي؟ فالدور
    التاريخي الذي أداه هذا الملك ليس في الحقيقة إلا نتاجاً لهذا النظام، الذي هو
    بدوره وليد الوضع الاقتصادي وقوى الإنتاج، وإلا فمن يستطيع أن
    يقول: أن لويس كان يمكنه أن يؤثر في التاريخ، لو لم يكن ملكاً، ولم
    تكن فرنسا تعترف بنظام الملكية الوراثية في الحكم( ) ؟!.
    وهذا صحيح، فإن لويس لو لم يكن ملكاً لكان كمية مهملة، في
    حساب التاريخ. ولكنا نقول من ناحية أخرى: أنه لو كان ملكاً، يتمتع


    بشخصية صلبة وقوة تصميم، لاختلف دوره التاريخي، ولاختلفت بالتالي
    أحداث فرنسا السياسية والعسكرية، فما الذي سلب منه صلابة الشخصية،
    وحرمه من قوة التصميم؟، أهو النظام الملكي أو العوامل الطبيعية التي
    ساهمت في تركيبه العضوي وتكوينه الخاص؟!.
    وبكلمة أخرى: إن ثلاثة تقادير كان من الممكن أن يوجد أي واحد
    منها في فرنسا: السلطة السياسية الجمهورية، والسلطة الملكية المتمثلة في
    شخص مائع، والسلطة الملكية المتمثلة في ملك قوي حديدي.
    ولكل من هذه التقادير الثلاثة أثره الخاص، في مجرى الحوادث
    السياسية والعسكرية، وبالتالي في تكوين فرنسا لفترة من الزمن. فلنتبين
    فحوى قوانين التاريخ التي استكشفتها الماركسية، وفسرت على أساسها
    التاريخ بالعامل الاقتصادي.
    إن هذه القوانين تشير، إلى أن الوضع الاقتصادي لم يكن يسمح بقيام
    سلطة جمهورية في البلاد، بل كان يفرض النظام الملكي في الحكم. ولنفترض
    أن هذا صحيح، فليس هو إلا جانباً واحداً من المسألة، لأننا نستطيع بذلك
    أن نستبعد التقدير الأول، ويبقى التقديران الآخران. فهل هناك قانون
    علمي يحتم وجود ملك مائع أو قوي، في تلك الفترة من تاريخ فرنسا،
    سوى القوانين العلمية: في الفيزياء والفيزيولوجيا والسيكولوجيا، التي
    تفسر شخصية لويس ومزاجه الخاص؟؟.
    وهكذا نعرف، أن للأفراد أدوارهم في التاريخ، التي تحددها لهم
    العوامل الطبيعية والنفسية، لا قوى الإنتاج السائدة في المجتمع.
    وليست هذه الأدوار التاريخية، التي يقوم بها الأفراد وفقاً لتكوينهم
    الخاص أدواراً ثانوية في عملية التاريخ دائماً، كما زعم (بليخانوف)
    الكاتب الماركسي الكبير إذ أكد على:

    ((إن الخصائص الفردية، التي يتصف بها الرجال العظام، تحدد السمة الخاصة للحوادث التاريخية، وتحدد
    عامل المصادفة... وتلعب دوراً جزئياً في مجرى هذه
    الحوادث، التي تحدد اتجاهها في النهاية، الأسباب
    الموصوفة بالعامة، أي بتطور القوى المنتجة، وبالعلاقات
    التي تحددها هذه القوى بين الناس))( ).
    ولا نريد أن نعلّق على تأكيد(بليخانوف) هذا، إلا بمثال واحد،
    نستطيع أن ندرك في ضوئه: كيف يمكن أن يكون دور الفرد، سبباً
    لتحوّل الاتجاه التاريخي بشكل حاسم؟ فماذا كان يقدّر لوجهة التاريخ العالمي،
    لو أن عالماً ذرياً في ألمانيا النازية، قد سبق إلى اكتشاف سر الذرة بعدة شهور
    فقط؟ ألم يكن امتلاك هتلر لهذا السر، كفيلاً بتغيير وجهة التاريخ،
    وتقويض الديمقراطية الرأسمالية، والاشتراكية الماركسية من أوروبا؟
    فماذا لم يستطع هتلر أن يملك هذا السر؟ ليس ذلك طبعاً بسبب من الوضع الاقتصادي، ونوعية القوى المنتجة، وإنما هو لأن الفكر العلمي، لم يستطع
    في تلك اللحظة أن يستكشف السر الذي اكتشفه بعد ذلك بعدة شهور فقط،
    تبعاً لظروفه الفيسولوجية والسيكولوجية.
    بل ماذا كان يمكن أن يقع، لو أن العلماء الروس لم يصلوا إلى سر
    الذرة؟ ألم يكن من الممكن أن يستغل المعسكر الرأسمالي، في تلك اللحظة
    قوى الذرة، في القضاء على الحكومات الاشتراكية؟! فيم نستطيع أن نفسر
    اكتشاف العلماء الروس للسر، الأمر الذي أنقذ العالم الاشتراكي من الدمار؟
    لا يمكننا أن نقول أن قوى الإنتاج، هي التي أزاحت الستار عن هذا السر،
    وإلا فلماذا لم يدركه نفر خاص، من العدد الكبير من العلماء الذريين الذين


    كانوا يمارسون التجارب الذرية؟! فإن هذا يوضح، أن الاكتشاف مدين
    _بصورة خاصة_ للتركيب العضوي الخاص، وشروطه الذهينة. ولو
    لم تتهيأ هذا الشروط، في شخص أو أشخاص معدودين من علماء الروس،
    ولم يوحد النبوغ العلمي الخاص، المرتهن بذلك التركيب وتلك الشروط،
    لمنيت الاشتراكية بالدمار والهزيمة الكبرى، وبالرغم من قوانين المادية
    التاريخية كلها.
    وإذا كان من الممكن أن توجد لحظات في حياة الإنسان، تقرر مصير
    التاريخ أو نوعية الأحداث الاجتماعية، فكيف يمكن أن تكون قوانين
    الوسائل المنتجة، هي القوانين الحتمية للتاريخ؟!.

    5_ الذوق الفني والماركسية
    والذوق الفني في الإنسان_بوصفه ظاهرة اجتماعية، اشتركت فيها
    كل المجتمعات، على اختلافها في النظم والعلاقات ووسائل الإنتاج_ لون
    آخر من الحقائق الاجتماعية، التي تضيق بها المادية التاريخية كما سنرى.
    والحديث عن الذوق الفني له جوانب عديدة. فالرسام حين يبدع
    صورة رائعة، لزعيم سياسي، أو لمعركة حربية. قد نسأل مرة عن الطريقة
    التي اتبعها هذا الفنان، في إبداع الصورة، ونوعية الأدوات التي استعملها،
    وقد نسأل مرة أخرى عن الهدف الذي كان يرمي إليه، من وراء هذه
    الصورة، وقد نسأل ثالثة لماذا نعجب بها، ونمتليء أحساساً بروعتها،
    والتذاذاً بمنظرها؟
    ويمكن للماركسية التي تجيب على السؤال الأول قائلة: إن الطريقة
    التي اتبعها الرسام خلال العملية، هي الطريقة التي تفرضها درجة التطور في
    الأدوات وقوى الإنتاج. فالوسائل الطبيعية هي التي تقرر طريقة الرسم.

    وكذلك يمكن للماركسية أن تجيب على السؤال الثاني، زاعمة: أن
    الفن استخدم دائماً لخدمة الطبقة الحاكمة. فالهدف الذي يدعو الفنان إلى
    التفنن والإبداع، هو تعزيز هذه الطبقة ومصلحتها، ولما كانت هذه
    الطبقة وليدة القوى المنتجة، فوسائل الإنتاج هي الجواب الأخير على هذا
    السؤال.
    ولكن ماذا تصنع الماركسية بالسؤال الثالث: لماذا نعجب بالصورة
    ونستذوقها؟؟ فهل قوى الإنتاج أو المصلحة الطبقية هي التي تخلق في نفوسها
    هذا الإعجاب، وهذا الذوق الفني، أو هو شعور وجداني، وذوق ينبع
    من صميم النفس، وليس مستورداً من وسائل الإنتاج وظروفها الطبقية؟
    إن المادية التاريخية تفرض على الماركسية أن تفسر الذوق الفني بقوى
    الإنتاج، والمصلحة الطبقية، لأن العامل الاقتصادي هو الذي يفسر كل
    الظواهر الاجتماعية، في المادية التاريخية، ولكنها لا تستطيع ذلك، وإن
    حاولته، إذ لو كانت القوى المنتجة، أو المصلحة الطبقية، هي التي تخلق
    هذا الذوق الفني، لزال بزوالها، ولتطور الذوق الفني تبعاً لتطور وسائل
    الإنتاج، كما تتطور سائر الظواهر والعلاقات الاجتماعية، مع أن الفن
    القديم بآياته الرائعة، لا يزال في نظر الإنسانية حتى اليوم، منبعاً من منابع
    اللذة الجمالية، ولا يزال يتحف الإنسان وهو في عصر الذرة، بما كان
    يتحفه به قبل آلاف السنين، من انشراح وسحر فكيف ظلت هذه المتعة،
    النفسية، حتى أخذ الإنسان الاشتراكي والرأسمالي، يتمتع بفن مجتمعات
    الرق، كما كان الأسياد، والعبيد يتمتعون بها؟! وبقدرة أي قادر استطاع
    الذوق الفني أن يتحرر من قيود المادية التاريخية، ويخلد في وعي الإنسان؟!
    أليس العنصر الإنساني الأصيل، هو التفسير الوحيد، الذي يجيب على
    هذه الأسئلة؟!.
    ويقوم ماركس هنا بمحاولة، للتوفيق بين قوانين المادية التاريخية


    وإعجاباً بالفن الإنساني القديم، زاعماً: أن الإنسان الحديث، يلتذ بروعة
    الفن القديم بوصفه ممثلاً لطفولة النوع البشري، كما يلذ لكل إنسان أن
    يستعرض أحوال طفولته البريئة، الخالية من التعقيد( ).
    ولكن ماركس لا يقول لنا شيئاً عن سرور الإنسان بأحوال الطفولة،
    فهل هو نزعة أصيلة في الإنسان، أو ظاهرة خاضعة للعامل الاقتصادي
    ومتغيرة تبعاً له؟!.
    ثم لماذا يجد الإنسان الحديث، المتعة والسحر في روائع اليونان الفنية
    مثلاً، ولا يجد هذه المتعة والسحر في استعراض بقية ظواهر حياتهم، من
    أفكار وعادات ومفاهيم بدائية، مع أنها جميعاً تمثل طفولة النوع البشري؟!
    وماذا يقول لنا ماركس، عن المناظر الطبيعية الخالصة، التي كانت
    منذ أبعد آماد التاريخ ولا تزال، قادرة على إرضاء الحس الجمالي في الإنسان،
    وبعث المتعة إلى نفسه؟! فكيف نجد المتعة في هذه المناظر، كما كان يجدها
    الأسياد والرقيق، والإقطاعيون والأقنان، مع أنها مظاهر طبيعية، لا تميّل
    شيئاً من طفولة النوع البشري، التي يفسر ماركس على أساسها إعجابنا
    بالفن القديم!..
    أفلسَنا نعرف من هذا، أن المسألة ليست مسألة الإعجاب بصور
    الطفولة، وإنما هي مسألة الذوق الفني الأصيل العام، الذي يجعل إنسان
    عصر الرق، وإنسان عصر الحرية، يشعران بشعور واحد!!.
    * * *
    وفي ختام دراستنا هذه، للنظرية بما هي عامة، ألا نجد من الطبيعي أن
    يندم انجلز، المؤسس الثاني للمادية التاريخية، على المبالغة بدور العامل


    الاقتصادي في التاريخ، ويعترف بأنه مع صديقه ماركس، قد اندفعنا بروح
    مذهبية في مفهومهما المادي عن التاريخ، اندفاعاً خاطئاً؟ فقد كتب انجلز
    إلى يوسف بلوخ عام(1890) يقول:
    ((إن توجيه الكتّاب الناشئين، الاهتمام إلى الجانب الاقتصادي، بأكثر مما يستحق، أمر يقع اللوم فيه على
    عاتقي وعاتق ماركس. لقد كان علينا أن نؤكد هذا
    المبدأ الرئيسي. لنعارض خصومنا الذين كانوا ينكرونه،
    ولم يكن لدينا الوقت أو المكان أو الفرصة، لنضع
    العناصر الأخرى التي تتضمنها العلاقة المتداخلة، في
    مواضعها الحقيقية))( ).






    النظـرية بتفاصيـلها
    حين نأخذ تفاصيل النظرية بالدرس والتمحيص، يجب أن نبدأ بالمرحلة
    الأولى من مراحل التاريخ، في رأي الماركسية، وهي الشيوعية البدائية.
    فلقد مرت الإنسانية في عقيدة الماركسيين بدور الشيوعية البدائية، في مطلع
    حياتها الاجتماعية، وكان هذا الدور يحمل في طياته نقيضه، وفقاً لقوانين
    الديالكتيك وبعد صراع طويل، نما النقيض واشتد، حتى حطم الكيان
    الشيوعي للمجتمع، وبرز النقيض منتصراً في ثوب جديد، وهو النظام
    العبودي ومجتمع الرق بدلاً عن نظام الإشاعة ومجتمع المساواة.
    هل وجد المجتمع الشيوعي؟
    وقبل أن نستوعب تفاصيل هذه المرحلة، يعترض البحث سؤال أساسي:
    ما هو الدليل العلمي، على أن البشرية مرت بدور الشيوعية البدائية حقاً! بل
    كيف يمكن الحصول على هذا الدليل العلمي، ما دمنا نتكلم عن الإنسانية
    قبل عصور التاريخ المأثور! وقد حاولت الماركسية تذليل هذه الصعوبة،
    وتقديم الدليل العلمي على صحة فهمها لتلك المرحلة المغمورة، من حياة


    المجتمع البشري. بالاستناد إلى ملاحظة عدة مجتمعات معاصرة، حكمت
    عليها الماركسية بالبدائية، واعتبرتها مادة علمية للبحث. عما قبل عصر
    التاريخ، بوصفها ممثلة للطفولة الاجتماعية، ومعبرة عن نفس الحالة البدائية،
    التي مرت بها المجتمعات البشرية بصورة عامة. ولما كانت معلومات الماركسية
    عن هذا المجتمعات البدائية المعاصرة، تؤكد أن الشيوعية البدائية هي
    الحالة السائدة فيها، فيجب إذن أن تكون هي المرحلة الأولى، لكل المجتمعات
    البدائية في ظلمات التاريخ. وبذلك خيل للماركسية، أنها وضعت يدها على
    الدليل المادي المحسوس.
    ولكن يجب أن نعلم_ قبل كل شيء_ أن الماركسية، لم تتلق
    معلوماتها عن تلك المجتمعات البدائية المعاصرة، بصورة مباشرة، وإنما
    حصلت عليها عن طريق الأفراد الذين اتفق لهم الذهاب إلى تلك المجتمعات
    والتعرف على خصائصها. وليس هذا فقط، بل إنها لم تأخذ بعين الاعتبار،
    إلا المعلومات التي تتفق مع نظريتها العامة واتهمت كل المعلومات التي
    تتعارض معما، بالتحريف والتزوير، وبهذا كانت البحوث الماركسية،
    تتجه إلى انتقاء المعلومات النافعة للنظرية، وتحكيم النظرية نفسها في تقدير
    قيمة المعلومات والإخبار، التي تقدم عن تلك المجتمعات، بدلاً عن تحكيم
    المعلومات في النظرية، وامتحان النظرية في ضوئها. ونستمع بهذه المناسبة
    إلى كاتب ماركسي كبير يقول:
    ((وبالقدر الذي نستطيع أن نتوغل في الماضي،
    نجد أن الإنسان كان يعيش في مجتمعات. ومما يسهّل
    دراسة المجتمعات البدائية القديمة، انه ما زالت تسود
    ظروف اجتماعية بدائية، حتى عصرنا هذا، بين كثير
    من الشعوب، كما هو الحال بالنسبة لبعض السكان
    الملوّنين، في أفريقيا وبولونيزيا وماليزيا واستراليا،


    وهنود أمريكا قبل اكتشافها، والأسكيمو واللاجون...
    الخ. وأغلب المعلومات الكثيرة التي وصلتنا من هذه
    المجتمعات البدائية، قدمها رجال البعثات التبشيرية
    الذين حرّفوا الحقائق عن قصد أو غير قصد))( ).
    ولنسلّم أن المعلومات التي اعتمدت عليها الماركسية، عن تلك المجتمعات
    المعاصرة، هي وحدها المعلومات الصحيحة فمن حقنا بعد ذلك أن نتساءل
    عن هذه المجتمعات: هل هي مجتمعات بدائية، يمكن الاعتماد عليها في
    تصوير البدائية الاجتماعية؟ وبالنسبة إلى هذا السؤال الجديد، لا تملك
    الماركسية دليلاً واحداً على بدائية هذه المجتمعات المعاصرة، بالمعنى العلمي
    للّفظ. بل إن قوانين التطور الحتمي للتاريخ، التي تؤمن بها الماركسية،
    تقضي بأن تلك المجتمعات قد شملتها عملية التطور الاجتماعي حتماً فالماركسية
    حين تزعم، أن الحالة الحاضرة لتلك المجتمعات، هي حالتها البدائية،
    تبطل قوانين التطور، وتقرر الجمود عبر آلاف السنين.
    كيف نفسر الشيوعية البدائية!
    ولنترك هذا لنرى الماركسية كيف تفسر هذه المرحلة الشيوعية المزعومة،
    وفقاً لقوانين المادية التاريخية؟
    إن الماركسية تفسر علاقات الملكية الشيوعية، في المجتمع البدائي
    للبشرية، بالدرجة البدائية، التي كانت عليها قوى الإنتاج حينئذ، وظروف
    الإنتاج السائدة. فإن الناس كانوا مضطرين إلى ممارسة الإنتاج، بشكل
    اجتماعي مشترك، والتكتل في وجه الطبيعة، نظراً إلى ما كان عليه الإنسان


    من ضعف وقلة حيلة. والاشتراك في الإنتاج، يحتّم قيام علاقات الملكية
    الاشتراكية، ولا يسمح بفكرة الملكية الخاصة. فالملكية إنما كانت اشتراكية
    لأن الإنتاج اشتراكي. ويقوم التوزيع بين أفراد المجتمع، على أساس
    المساواة، بسبب من ظروف الإنتاج أيضاً لأن المستوى الشديد الانخفاض
    للقوى المنتجة، فرض تقسيم الغذاء الضئيل والسلع البسيطة المنتجة إلى أجزاء
    متساوية، وكان من المستحيل قيام أي طريقة أخرى للتقسيم، لأن
    حصول أحد الأفراد على نصيب يزيد على نصيب الآخرين يعني أن يموت
    شخص آخر جوعاً( ).
    بهذه الطريقة تفسر الماركسية شيوعية المجتمع البدائي، وتشرح أسباب
    المساواة السائدة فيه، التي تحدّث عنها(مورجان) بصدد وصف القبائل
    البدائية. التي شاهدها تعيش في سهول أمريكا الشمالية، ورآها تقسم لحوم
    الحيوانات إلى أجزاء متساوية، توزع على أفراد القبيلة كلها.
    تقول الماركسية هذا، في نفس الوقت الذي تناقض ذلك، عندما
    تتحدث عن أخلاق المجتمع الشيوعي، وتمجّد بفضائلة فتنقل عن(جميس
    آديررز) الذي درس هنود أمريكا في القرن الماضي: أن تلك الجماعات
    البدائية، كانت تعتبر عدم تقديم المعونة لمن يحتاجها، جريمة كبرى يحتقر
    مرتكبها، وتنقل عن الباحث(كاتلين): أن كل فرد في القرية الهندية،
    رجلاً كان أو امرأة أو طفلاً، كان له الحق في أن يدخل إلى أي مسكن
    من المساكن، ويأكل إن كان جائعاً بل إن أولئك الذين كانوا يعجزون
    عن العمل، أو يقعد بهم مجرد الكسل عن الصيد، كانوا يستطيعون رغم
    ذلك أن يدخلوا إلى أي منزل يشاؤون، ويقتسمون الطعام مع من فيه.
    وبذلك كان الفرد في تلك المجتمعات، يحصل على الطعام، مهما تهرّب


    من التزاماته في إنتاج هذا الطعام، ودون أن يترتب على تهرّبه إلا إحساسه
    بفقدان ملحوظ لهيبته( ).
    وهذه المعلومات التي تتحفنا بها الماركسية، عن أخلاق المجتمعات
    الشيوعية البدائية، وتقاليدها المتبعة اجتماعياً، وتوضح أن مستوى القوى
    المنتجة، لم يكن منخفضاً إلى الدرجة، التي تعني أن زيادة نصيب أحد
    الأفراد من الإنتاج يؤدي إلى موت شخص آخر جوعاً. بل كانت توجد
    وفرة، يحصل على شيء منها الضعيف والعاجز وغيرهما، فلماذا إذن
    كانت المساواة في التوزيع، هي الطريقة الوحيدة الممكنة؟! وكيف
    لم يخطر على ذهن أحد فكرة الاستغلال والتلاعب في التوزيع، ما دام في
    الإنتاج وفرة يمكن استغلالها؟ وإذا كانت قوى الإنتاج، تسمح بقيام
    الاستغلال في تلك المجتمعات فيجب أن نجد سبب عدم ظهوره فيها، ماثلاً
    في درجة وعي الإنسان البدائي وفكره العملي. فقد جاءت فكرة الاستغلال
    عنده كظاهرة متأخرة لهذا الوعي والفكر العملي، وكنتيجة لنموه وزيادة
    الخبرة الإنسانية بالحياة.
    وإذا أمكن للماركسية أن تقول_ أو أمكن لنا أن نقول من وجهة نظرنا_:
    أن طريقة المساواة في التوزيع أتت في باديء الأمر تبعاً لقلة الإنتاج، ثم
    تأصلت وأصبحت عادة. فهل نجد في ذلك تفسيراً معقولاً، لموقف المجتمع
    البدائي من الأفراد الكسالى، الذين يتركون العمل عن قصد واختيار،
    فيجدون كفايتهم في إنتاج الآخرين، دون أن يتهددهم خطر الجوع،
    والحرمان؟! فهل الاشتراك الاجتماعي في عمليات الإنتاج يفرض توزيع
    الإنتاج على غير المشتركين في الإنتاج أيضاً!! وإذا كان البدائيون، قد
    حرصوا أول الأمر على طريقة المساواة، لئلا يموت أحدهم جوعاً،


    فيسخرون بذلك عوناً في عمليات الإنتاج الجماعي، فلماذا حرصوا على
    إعالة الكسالى الذين لا يخسرون بفقدهم شيئاً!!
    ما هو نقيض المجتمع الشيوعي؟
    إن المجتمع الشيوعي البدائي، منذ ولد كان في رأي الماركسية يخفى في
    أحشائه تناقضاً، أخذ ينمو ويشتد حتى قضي عليه. وليس هذا التناقض
    طبقياً، لأن المجتمع الشيوعي طبقة واحدة، وليس فيه طبقتان متناقضتان،
    وإنما هو التناقض: بين العلاقات الشيوعية في الملكية، وقوى الإنتاج حين
    تأخذ بالنمو، حتى تصبح العلاقات الشيوعية معيقة لها عن نموها، ويكون
    الإنتاج عندئذ بحاجة إلى علاقات جديدة، يستطيع أن يواصل نموه ضمنها.
    أما كيف، ولماذا تصبح العلاقات الشيوعية، معيقة لقوى الإنتاج
    عن نموها! فهذا ما تشرحه الماركسية قائلة: إن ارتقاء القوى المنتجة،
    جعل في إمكان الفرد أن ينال من عمله في تربية الماشية والزراعة، من وسائل
    المعيشة ما يزيد عما يلزمه للمحافظة على حياته وبذلك أصبح الفرد قادراً
    على الاكتفاء بالعمل في جزء محدود من الوقت لإعاشة نفسه، دون أن
    يبذل كل طاقاته العملية. فكان لا بد_ لكي تجنّد كل الطاقات العملية
    لصالح الإنتاج، كما تتطلبه القوى المنتجة في ارتقائها ونموها_ أن تخلق
    قوة اجتماعية جديدة، تضطر المنتجين إلى بذل كل طاقاتهم، وحيث أن
    العلاقات الشيوعية، لا يوجد فيها هذه القوة، أصبح من الضروري
    استبدال تلك العلاقات بالنظام العبودي الذي يتيح للأسياد أن يرغموا العبيد،
    على العمل المتواصل. وهكذا نشأ النظام العبودي.
    وقد بدأ النظام العبودي أول ما بدأ، باستعباد الأسرى، الذين كانت
    القبيلة تربحهم في غاراتها، وقد اعتادت قبلاً أن تقضي عليهم، لأنها لم


    تكن تجد مصلحة في إبقائهم وإعالتهم. وبعد تطور الإنتاج، أصبح من
    المصلحة الاقتصادية للقبيلة، استبقاؤهم واسترقاقهم، لأنهم ينتجون أكثر
    مما يأكلون وهكذا تحول أسرى الحرب إلى عبيد. ونتيجة لإثراء الذين
    استخدموا العبيد. أخذ هؤلاء الأثرياء، يستعبدون أعضاء قبيلتهم، وانقسم
    المجتمع إلى سادة وعبيد، واستطاع الإنتاج أن يواصل ارتقاءه، خلال هذا
    الانقسام وبفضل النظام العبودي الجديد..
    ونحن إذا دقّقنا في هذا، استطعنا أن نتبين من خلال التفسير الماركسي
    نفسه، أن المسألة هي مسألة الإنسان، قبل أن تكون مسألة وسائل الإنتاج.
    لأن نمو القوى المنتجة لم يكن يتطلب إلا مزيداً من العمل البشري، وأما
    الطابع الاجتماعي للعمل فليس له علاقة بنموها، فكما أن العمل الكثير
    العبودي ينمي الإنتاج، كذلك العمل الكثير الحر فلو أن أفراد المجتمع
    قرروها جميعاً، مضاعفة جهودهم في الإنتاج، وتقسيم النتاج بعد ذلك
    بالتساوي، لضمنوا بذلك القوى المنتجة نموها، الذي حققه المجتمع
    العبودي، بل لنما الإنتاج كيفياً ونوعياً، أكثر مما نما بممارسة العبيد، لأن
    العبد يعمل بيأس، ولا يحاول أن يفكر أو يكسب خبرة في سبيل تحسين
    الإنتاج، على العكس من الأحرار، المتضامنين في العمل.
    فنمو القوى المنتجة إذن لم يكن يتوقف على الطابع العبودي للعمل،
    وإنما كان يتوقف على مضاعفة العمل. فلماذا إذن ضاعف الإنسان الإجتماعي
    العمل، عن طريق تحويل نصف المجتمع إلى عبيد، ولم يحقق ذلك عن طريق
    الاتفاق الحر_ بين الجميع_ على مضاعفة العمل! إن الجواب على هذا
    السؤال لا نجده، إلا في الإنسان نفسه، وفي ميوله الطبيعية. فهو ميال
    بطبيعته إلى الاقتصاد في العمل، وسلوك أوفر الطرق راحة إلى غايته. فلا
    يواجه سبيلين أمامه إلى غاية واحدة، إلا اختار أقلّهما جهداً. وليس هذا
    الميل الأصيل نتاجاً لوسائل الإنتاج، وإنما هو نتاج تركيبه الخاص. ولذلك

    ظل هذا الميل ثابتاً بالرغم من تطور الإنتاج خلال آلاف السنين. كما أنه
    ليس نتاجاً للمجتمع، بل إن تكوّن المجتمع إنما كان بسبب هذا
    الميل الطبيعي في الإنسان، إذ رأى أن التكتل أقل الأساليب جهداً، لمقاومة
    الطبيعة واستثمارها.
    وهذا الميل الطبيعي، هو الذي أوحى إلى الإنسان بفكرة استعباد
    الآخرين بصفته أضمن الطرق لراحته، وأقلها تكليفاً له.
    وعلى هذا فليست قوى الإنتاج، هي التي صنعت للإنسان الاجتماعي،
    النظام العبودي، أو دفعته في هذا السبيل، وإنما هي التي هيأت له الظروف
    الملائمة، للسير وفقاً لميله الطبيعي. فمثلها في ذلك، نظير من يعطي شخصاً
    سيفاً، فينفس هذا الشخص عن حقده، ويقتل به عدوه. فلا يمكننا أن
    نفسر حادثة القتل هذه، على أساس السيف فحسب، وإنما نفسرها_ قبل
    ذلك_ في ضوء المشاعر الخاصة، التي كانت تختلج في نفس القاتل، إذ
    لم يكن تسليم السيف إليه يدفعه إلى ارتكاب الجريمة، لولا تلك المشاعر التي
    ينطوي عليها.
    ونلاحظ في هذا المجال، أن الماركسية تلتزم الصمت إزاء سبب آخر.
    كان من الطبيعي أن يكون له أثره الكبير، في القضاء على الشيوعية، وتطوير
    المجتمع إلى سادة وعبيد، وهو ما أدت إليه الشيوعية، من ركون الكثرة
    الكاثرة من أفراد المجتمع، إلى الدعة والكسل والانصراف عن مواصلة
    الإنتاج وتنميته، حتى كتب(لوسكيل) عن بعض القبائل الهندية يقول:
    (إنهم من الكسل بحيث لا يزرعون شيئاً بأنفسهم، بل يعتمدون كل الاعتماد على احتمال: أن غيرهم
    لن يرفض أن يقاسموه في إنتاجه. ولما كان النشيط
    لا يتمتع من ثمار الأرض بأكثر مما يتمتع الخامل،
    فإن إنتاجهم يقل عاماً بعد عام).

    فالماركسية لا تشير إلى هذه المضاعفات للشيوعية البدائية، بصفتها
    عاملاً في فشلها واختفائها عن مسرح التاريخ، وقيام الأفراد النشيطين
    باستعباد الكسالى واستخدامهم في مجالات الإنتاج، بالقوة.
    وهذا موقف مفهوم من الماركسية تماماً، فإنها لا تعترف بما نجم عن
    الشيوعية من كسل وخمول شامل، لأن ذلك يضع يدنا على الداء الأصيل
    في الشيوعية، الذي يجعلها لا تصلح للإنسان بتركيبه النفسي والعضوي
    الخاص الذي وجد في إطاره منذ فجر الحياة، ويبرهن على أنها لا تصلح
    للطبيعة الإنسانية، ويقدّم الدليل على أن ما حصل من مضاعفات مشابهة
    لذلك، خلال محاولة الثورة الحديثة في روسيا، لتطبيق الشيوعية تطبيقاً
    كاملاً لم يكن نتيجة للأفكار الطبقية، والذهنية الرأسمالية المسيطرة على
    المجتمع، كما يدّعي الماركسيون، وإنما كانت تعبيراً عن واقع الإنسان
    ودوافعه ومشاعره الذاتية، التي خلقت معه قبل أن تولد الطبقية، وتناقضاتها
    وأفكارها.[/align]
    يا محوّل الحول والاحوال ، حوّل حالنا إلى أحسن الحال......








  10. #10
    تاريخ التسجيل
    Jul 2004
    الدولة
    هناك
    المشاركات
    28,205

    افتراضي

    [align=center]المجتمع العبودي
    وبتحول المجتمع من الشيوعية البدائية، إلى مجتمع عبودي، تبدأ
    المرحلة الثانية في المادية التاريخية. وببدئها تولد الطبقية في المجتمع، وينشأ
    التناقض الطبقي بين طبقة السادة وطبقة العبيد، الأمر الذي قذف المجتمع
    في أتون الصراع الطبقي لأول مرة في التاريخ، ولم يزل هذا الصراع قائماً
    حتى اليوم بأشكال مختلفة، تبعاً لنوعية القوى المنتجة ومتطلباتها.
    ومن الضروري أن نثير هنا سؤالاً_ في وجه الماركسية_ عن هذه
    الانقسامية الفاصلة في حياة البشرية، التي قسمت المجتمع إلى طبقتين:
    سادة وعبيد: كيف أعطيت فيها السيادة لأولئك، وكتب على هؤلاء


    الرق والعبودية؟ ولماذا لم يقم السادة بدور العبيد، والعبيد بدور السادة؟
    وللماركسية جوابها الجاهز على هذا السؤال، فهي تقول: إن كلاً
    من السادة والعبيد قد مثّل الدور المحتوم، الذي يفرضه العامل الإقتصادي
    ومنطق الإنتاج. لأن الجماعة التي مثلت دور السيادة في المجتمع، كانت
    على مستوى عال من الثروة نسبياً، وكانت تملك بسبب ذلك القدرة على
    ربط الآخرين بها، برباط الرق والعبودية. ولكن اللغز يبقى_ بالرغم
    من هذا الجواب_ كما هو، لم يتغير، لأننا نعلم أن هذه الثروات الضخمة
    نسبياً، لم تهبط على الأسياد من السماء. فكيف حصل عليها هؤلاء دون
    غيرهم، واستطاعوا أن يفرضوا سيادتهم على الآخرين، مع أن الجميع
    كانوا يعيشون في مجتمع شيوعي واحد؟!
    وتجيب الماركسية على هذا السؤال من جديد بأمرين:
    أحدهما: أن الأفراد الذين كانوا يزاولون مهام الرؤساء، والقادة
    الحربيين، ورجال الدين، في المجتمع الشيوعي البدائي، أخذوا يستغلون
    مركزهم، لكي يحصلوا على الثروة، فامتلكوا جزاءاً من الملكية الشائعة،
    وبدأوا ينفصلون شيئاً فشيئاً عن أعضاء جماعاتهم، ليكوّنوا أرستقراطية،
    بينما كان أعضاء الجماعة يسقطون شيئاً فشيئاً تحت تبعيتهم الاقتصادية( ).
    والآخر: إن مما ساعد على إيجاد التفاوت والتناقض، في مستويات
    الإنتاج والثروة بين أفراد المجتمع. إن جماعة حوّلت أسرى الحرب إلى
    عبيد، وصارت تربح بسبب ذلك النتاج الفائض عن حاجتهم الضرورية
    حتى أثرت، واستطاعت نتيجة لثروتها أن تستعبد أعضاء القبيلة، الذين
    تجردوا من أموالهم وأصبحوا مدينين( ).

    وكلا هذين الأمرين لا يتفقان مع وجهة نظر المادية التاريخية، أما
    الأول: فلأنه يؤدي إلى اعتبار العامل السياسي، عاملاً أساسياً، والعامل
    الاقتصادي عاملاً ثانوياً منبثقاً عنه، لأنه يفترض أن المكانة السياسية، التي
    كان القواد ورجال الدين والرؤساء يتمتعون بها في المجتمع الشيوعي اللاطبقي،
    هي التي شقّت لهم الطريق إلى الإثراء، وإيجاد ملكيات خاصة، فالظاهرة
    الطبقية إذن وليدة الكيان السياسي، وليس العكس، كما تقرر
    المادية التاريخية. وأما السبب الثاني، الذي فسرت به الماركسية تفاوت
    الثروات: فهو لا يتقدم في حل المشكلة إلا خطوة واحدة، إذ يعتبر أن
    استرقاق السادة للعبيد من أبناء القبيلة،قد سبقه تاريخياً استرقاق أولئك
    السادة، لأسرى الحرب، وإثرائهم على حساب هؤلاء الأسرى وأما لماذا
    هيأت الفرص لأولئك السادة بالذات، دون غيرهم من أعضاء القبيلة،
    استرقاق الأسرى؟ فهذا ما تحاول الماركسية تفسيره، لأنها لا تجد تفسيره
    في القوى المنتجة، وإنما يمكن تفسيره تفسيراً إنسانياً، على أساس الفوارق
    والكفاءات المتفاوتة: البدنية والفكرية والعسكرية، التي يولد الناس وهم
    يختلفون في حظوظهم منها، طبقاً لظروفهم وشروطهم النفسية والفسيولوجية والطبيعية...
    المجتمع الإقطاعي
    ونشأ المجتمع الإقطاعي بعد ذلك، نتيجة للتناقضات التي كانت تعمل
    في المجتمع العبودي، وأساس هذه التناقضات، التنافس بين علاقات النظام
    العبودي، ونمو القوى المنتجة، إذ أصبح تلك العلاقات بعد فترة طويلة،
    من حياة المجتمع العبودي، عائقة عن نمو الإنتاج، وعقبة في سبيله من
    ناحيتين:

    إحداهما: أنها فسحت المجال أمام الأسياد، لاستغلال العبيد_ بوصفهم
    القوة المنتجة_ استغلالاً وحشياً، فتهاوى آلاف العبيد في ميدان العمل،
    بسبب ذلك، الأمر الذي كلّف الإنتاج نقصاً كبيراً في القوة المنتجة، المتمثلة
    في أولئك العبيد.
    والأخرى: أن تلك العلاقات، حولت بالتدريج أكثر الأحرار من
    الفلاحين والحرفين، إلى عبيد، ففقد المجتمع_ بسبب ذلك_ جيشه
    وجنوده الأحرار، الذين كان المجتمع يحصل عن طريق غزواتهم
    المتلاحقة، على سيل مستمر من العبيد المنتجين، وهكذا أدى النظام العبودي،
    إلى التبذيز بالقوى المنتجة الداخلية، والعجز عن استيراد قوى منتجة جديدة،
    عن طريق الغزو والأسر، وقام لأجل هذا التناقض الشديد بينه وبين قوى
    الإنتاج، فتقوض المجتمع العبودي، وخلفه النظام الإقطاعي...
    وتغفل الماركسية في هذا العرض عدة نقاط جوهرية في الموضوع.
    فأولاً: أن تحوّل المجتمع الروماني مثلاً، من النظام العبودي إلى
    الإقطاع، لم يكن تحولاً ثورياً، منبثقاً عن صراع الطبقة المحكومة، كما
    بفرضه المنطق الديالكتيكي للمادية التاريخية.
    وثانياً: إن هذا التحول الاجتماعي والاقتصادي، لم يسبقه أي تطور في
    القوى المنتجة. كما تتطلبه الفرضية الماركسية القائمة على أساس: إن وسائل
    الإنتاج هي القوة العليا المحركة للتاريخ.
    وثالثاً:إن الوضع الاقتصادي، الذي هو أساس الأوضاع الاجتماعية
    في رأي الماركسية، لم يكن في تغيره التاريخي معبّراً، عن مرحلة تكاملية
    من تاريخه، بل مني بنكسة، خلافاً لمفاهيم المادية التاريخية، التي تؤكد أن
    التاريخ يزحف في حركته إلى الإمام دائماً، وأن الوضع الاقتصادي هو
    طليعة هذا الزحف الدائم ونعالج هذه النقاط الثلاث بتفصيل.

    أ_ لم يكن التحول ثورياً:

    إن تحوّل المجتمع الروماني مثلاً من نظام الرق إلى نظام الإقطاع، لم
    يكن نتيجة لثورة طبقية، في لحظة فاصلة من لحظات التاريخ، بالرغم من
    أن الثورة قانون حتمي في المادية التاريخية لكل التحولات الاجتماعية، وفقاً
    للقانون الديالكتيكي(قانون قفزات التطور) القائل: بأن التغييرات الكمية
    التدريجية، تتحول إلى تغير كيفي دفعي، وهكذا عطل هذا القانون
    الديالكتيكي عن العمل، ولم يؤثر في تحويل المجتمع العبودي إلى إقطاعي،
    بشكل ثوري آني، وإنما تحول المجتمع_ حسب إيضاحات الماركسية
    نفسها_ عن طريق السادة أنفسهم، إذ أخذوا يعتقون كثيراً من عبيدهم،
    ويقسمون الأملاك الكثيرة إلى أجزاء صغيرة، ويعطونها إليهم، بعد أن
    أحسوا بأن نظام الرق لا يضمن لهم مصالحم( ).
    فالطبقة المالكة_ إذن_ قد حولت المجتمع بالتدرج إلى النظام
    الإقطاعي، دون حاجة إلى قانون الثورات الطبقية، أو قفزات التطور...
    وكان غزو الجرمان من الخارج، عاملاً آخر في تكوين الإقطاع_ حسب
    اعتراف الماركسية نفسها_ وهو بدوره أيضاً بعيد عن تلك القوانين.
    ومن الطريف، أن الثورات التي كان يجب_ وفقاً للمادية التاريخية_
    أن تفجر في لحظة التحول الفاصلة، نجد أنها قبل انهيار المجتمع
    العبودي بقرون، كحركة الارقّاء في(اسبرطة)، قبل الميلاد بأربعة
    قرون، التي تجمعت فيها الألوف من الأرقاء، قريباً من المدينة، وحاولت
    اقتحامها، والجأت قادة(أسبرطة) إلى طلب المساعدة العسكرية من
    جيرانهم، ولم يتمكنوا من صد الأرقاء الثائرين إلا بعد سنين عديدة.

    وكذلك حركة العبيد في الدولة الرومانية التي تزعّمها(سبرتاكوس)
    قبل الميلاد بسبعين سنة تقريباً، واحتشد فيها عشرات الألوف من العبيد،
    وكادت أو تقضي على كيان الإمبراطورية. وقد سبقت هذه الثورة نشوء
    المجتمع الإقطاعي بعدة قرون، ولم تنتظر إلى أن توجد التناقضات وتشتد بين
    العلاقات وقوى الإنتاج، وإنما كانت تستمد وقودها من وعي متزايد
    بالاضطهاد، وقدرة تكتلية وعسكرية وقيادية، تفجّر ذلك الوعي، بالرغم
    من وسائل الإنتاج، التي كانت حينئذ على وئام مع النظام العبودي. فمن
    الخطأ إذن أن نفسر كل ثورة على أساس تطور معين في الإنتاج أو بوصفها
    تعبيراً اجتماعياً عن حاجة من حاجات القوى المنتجة.
    ولنقارن_ بعد هذا_ بين تلك الثورات الهائلة، التي شنها العبيد على
    نظام الإنتاج العبودي_ قبل أن يتخلى عن الميدان إلى النظام الإقطاعي بقرون
    عديدة_ بين ما كتبه انجلز قائلاً:
    (ما دام أسلوب إنتاجي ما، لا يزال يرسم مدرجاً متصاعداً في سلم التطور، فانه لا يفتأ يقابل بحماس وترحاب، حتى من لدن أولئك الذين ازدادت حالتهم سوءاً، جرّاء أسلوب التوزيع المتماثل وإياه)( ).
    فكيف نفسر تلك الثورات من العبيد، التي سبقت تطور العبودية إلى
    الإقطاع بستة قرون، في إطار هذه النظرية الضيقة إلى الثورات، وإذا
    كان تبرم المضطهدين ينشأ دائماً، كتعبير عن تعثر أسلوب الإنتاج، لا عن
    حالتهم النفسية والواقعية، فلماذا تبرمت تلك الجماهير من العبيد، وعبّر
    عن تبرمها تعبيراً ثورياً، كاد أن يعصف بالإمبراطورية، قبل أن يتعثر


    أسلوب الإنتاج، القائم على النظام العبودي، و قبل أن توجد الضرورة
    التاريخية لتطويره بعدة قرون.

    ب_ لم يسبق التحول الاجتماعي أي تجدد في قوى الإنتاج:

    من الواضح عن الماركسية أنها تؤمن: بأن أشكال العلاقات الاجتماعية
    تابعة لأشكال الإنتاج. فكل شكل من الإنتاج، يتطلب شكلاً خاصاً من
    علاقات الملكية الاجتماعية، ولا تتطور هذه العلاقات إلا تبعاً لتغير شكل
    الإنتاج، وتطور القوى المنتجة.
    ((إن أي تكوين اجتماعي، لا يموت أبداً، قبل أن تتطور القوى المنتجة، التي تستطيع أن يفسح لها المجال. ماركس))( ).
    وبينما تؤكد الماركسية هذا، نجد أن شكل الإنتاج كان واحداً في
    المجتمع العبودي والإقطاعي معاً، ولم تتغير العلاقات العبودية إلى إقطاعية
    نتيجة لأي تطور أو تجديد في القوى المنتجة السائدة، التي كانت لا تعدو
    مجالات الزراعة والخدمة اليدوية. ومعنى ذلك أن التكوين الاجتماعي
    والعبودي، قد مات قبل أن تتطور القوى المنتجة، خلافاً لتأكيد ماركس
    الآنف الذكر.
    وفي مقابل ذلك نجد: أن أشكالاً متعددة من الإنتاج ودرجات مختلفة،
    تخطّها القوى المنتجة خلال آلاف السنين، دون أن يحصل أي تحوّل في
    الكيان الاجتماعي باعتراف الماركسية نفسها. فالإنسان البدائي كان
    يستعين في إنتاجه بالأحجار الطبيعية، ثم استعان بأدوات حجرية، وبعد
    ذلك استطاع أن يكتشف النار، وأن يصنع الفؤوس والحراب، ثم تطورت
    قوى الإنتاج، فظهرت الأدوات المعدنية والسهام والأقواس، ثم ظهر


    الإنتاج الزراعي في حياة الإنسان وبعده الإنتاج الحيواني. وقد تمت هذه
    التحولات الكبرى في أشكال الإنتاج، وتتابعت تطوراته في المجتمع البدائي،
    بالتسلسل الذي ذكرناه أو بتسلسل آخر دون أن تواكبها تحولات اجتماعية
    وتطورات في العلاقات العامة، باعتراف الماركسية نفسها، إذ أنها تؤمن
    بأن النظام السائد في المجتمع البدائي، الذي حدثت خلاله كل تلك
    التطورات، كان هو الشيوعية البدائية.
    فإذا كان من الممكن أن تتطور أشكال الإنتاج، والشكل الاجتماعي
    ثابت كما في المجتمع البدائي مثلاً، وكان من الممكن أن تتطور الأشكال
    الإجتماعية، وشكل الإنتاج ثابت، كما رأينا في المجتمع العبودي والإقطاعي.
    فما هي الضرورة التي تدعو إلى التأكيد على: أن كل تكوين اجتماعي يرتبط
    بشكل معين ودرجة خاصة من الإنتاج؟! ولماذا لا تقول الماركسية: إن
    النظام الاجتماعي إنما هو حصيلة الأفكار العملية، التي يحصل عليها الإنسان
    خلال تجربته الاجتماعية، للعلاقات التي يشترك فيها مع الآخرين، كما
    أن أشكال الإنتاج حصيلة الأفكار التأملية والعلمية، التي يحصل عليها
    الإنسان خلال تجربته الطبيعية، لقوى الإنتاج وسائر قوى الكون. وحيث
    إن التجارب الطبيعية قصيرة الأمد، فمن الممكن أن تتوفر وتتجمع بسرعة
    نسبياً، فتتطور أشكال الإنتاج بصورة سريعة، على العكس من
    التجربة الاجتماعية، فإنها تغني تاريخ مجتمع برمّته، فلا تنمو الأفكار
    العملية خلال هذه التجربة البطيئة، بنفس السرعة التي تنمو بها الأفكار
    التأملية والعلمية خلال الطبيعية، ومن الطبيعي عندئذ أن لا تتطور
    في البدء أشكال النظام، بنفس السرعة التي تتطور بها أشكال الإنتاج.


    جـ _ الوضع الاقتصادي لم يتكامل:

    سبق أن مربنا: أن الماركسية تفسر زوال النظام العبودي، بأنه أصبح


    معيقاً للإنتاج عن النمو ومناقضاً له، فكان من الضروري أن تزيحه القوى
    المنتجة عن طريقها، وتصنع وضعاً اقتصادياً يواكبها في نموها ولا يناقضها.
    فهل ينطبق هذا على الواقع التاريخي حقاً؟.
    هل إن ظروف المجتمع وشروطه الإقطاعية، كانت أكثر مواكبة
    لنمو الإنتاج من شروطه وظروفه قبل ذلك؟. وهل سار الوضع الاقتصادي
    _ ومن خلفه القافلة البشرية كلها_ في خط صاعد، تتطلبه طبيعية
    الحركة التاريخية عند الماركسيين، الذين يفهمونها على أنها عملية تكامل
    مستمر للمحتوى التاريخي كله، تبعاً لتكامل الوضع الاقتصادي ونموه؟.
    إن شيئاً من ذلك لم يحدث، على الوجه الماركسي المفروض. ويكفي
    لمعرفة ذلك أن نلقي نظرة على الحياة الاقتصادية، التي كانت الإمبراطورية
    الرومانية تعيشها. فلقد بلغت_ وعلى الأخص في أجزاء معينة منها_ مستوى
    اقتصادياً رفيعاً، ونمت فيها الرأسمالية التجارية نمواً كبيراً. ومن الواضح
    أن الرأسمالية التجارية من الأشكال الاقتصادية الراقية، وإذا كانت
    الإمبراطورية الرومانية قد جربّت هذا الشكل_ كما يدل عليه تاريخها_
    فقد وصلت إذن إلى درجة عالية نسبياً في تركيبها الاقتصادي، وابتعدت
    شوطاً كبيراً عن ألوان الاقتصاد البدائي المغلق(اقتصاديات البيت)،
    وكان من أثر ذلك أن التجارة راجت في مختلف الدول التي عاصرتها
    الإمبراطورية الرومانية، بفضل تعبيد الطرق وتأمينها حماية الملاحة،
    فضلاً عن التجارة الداخلية التي ازدهرت داخل أرجاء الإمبراطورية،
    بين إيطاليا والولايات وبين الولايات بعضها مع بعض حتى أن الأواني
    الفخارية لإيطاليا، كانت تكتسح السوق العالمية، من بريطانيا شمالاً إلى
    شواطىء البحر الأسود شرقاً. ودبابيس الأمن التي تميزت بها(أوكيسا)
    انتشرت عن طريق التجارة في جميع الولايات، ووصلت إلى شواطىء
    البحر الأسود. والمصابيح التي كانت المصانع الإيطالية تنتجها بكميات


    هائلة، عثر عليها في كل جزء من أجزاء الإمبراطورية.
    والسؤال الذي يواجهنا على ضوء هذه الحقائق هو: لماذا لم تواصل
    الأوضاع الاقتصادية والرأسمالية التجارية نموها وتكاملها، ما دامت
    الحركة التكاملية قانوناً حتمياً للأوضاع الاقتصادية والإنتاجية!! ولماذا
    لم تتطور الرأسمالية التجارية إلى رأسمالية صناعية، كما حدث في منتصف
    القرن الثامن عشر، ما دامت رؤوس الأموال الكبيرة متوفرة عند التجار،
    وجماهير الأحرار التي كانت تزداد بؤساً وحاجة، حاضرة لتلبية طلبات
    الرأسمالية الصناعية، والاستجابة لمتطلباتها!! إن هذا يعني أن الشروط
    المادية للشكل الاجتماعي الأعلى كانت موجودة، فلو كانت الشروط المادية
    كافية وحدها لتطوير الواقع الاجتماعي، وكانت قوى الإنتاج في تطورها
    تخلق دائماً الأوضاع، التي تنطلق في ضمنها وتنمو.. لوجب أن تنمو
    الرأسمالية في التاريخ القديم، وأن تستجيب لمتطلبات الإنتاج، ولكان من
    المنطقي أن تظهر الرأسمالية الصناعية، ونتائجها التي تمخضت عنها، في
    نهاية عهد الإقطاع، كتقسيم العمل الذي أدى إلى ظهور الآلات في الحياة
    الصناعية.
    ولا يبرهن الواقع التاريخي على عدم ظهورها، وعلى عدم مواصلة
    الرأسمالية لنموها فحسب، بل هو يكشف بوضوح أن قيام النظام الإقطاعي
    قضى على الرأسمالية التجارية، وخنقها في مهدها نهائياً، إذ جعل لكل
    إقطاعية حدودها الخاصة، واقتصادها المغلق القائم على أساس اكتفائها
    بحاصلاتها، الزراعية ومنتوجاتها البسيطة، فكان من الطبيعي أن يتلاشى النشاط
    التجاري، وتزول الرأسمالية التجارية، ويعود المجتمع إلى اقتصاد شبه
    بدائي من اقتصاديات البيت.
    فهل كان هذا الوضع الاقتصادي، الذي مني به المجتمع الروماني بعد
    دخول الجرمان إليه، تعبيراً عن نمو تاريخي، ومواكبة لمتطلبات الإنتاج،


    أو كان نكسة خارجة على قوانين المادية التاريخية، وعقبة في سبيل النمو
    المادي وازدهار الحياة الاقتصادية؟؟!
    وأخيراً وجد المجتمع الرأسمالي
    وأخيراً بدأ النظام الإقطاعي يحتضر، بعد أن أصبح مشكلة تاريخية وعقبة
    في وجه الإنتاج، تتطلب حلاً حاسماً. وكانت الشروط التاريخية قد
    خلقت هذا الحل ماثلاً في الرأسمالية، التي برزت على المسرح الاجتماعي
    لتواجه النظام الإقطاعي، بوصفها النقيض التاريخي له الذي نما في ظله،
    حتى إذا اكتمل نموه قضى عليه وكسب المعركة... وهكذا يصف لنا
    ماركس نشوء المجتمع الرأسمالي بقوله:
    ((لقد خرج النظام الاقتصادي الرأسمالي، من
    أحشاء النظام الاقتصادي الإقطاعي، وانحلال أحدهما أدى
    إلى انبثاق العناصر التكوينية للثاني))( ).
    ومنذ يبدأ ماركس بتحليل الرأسمالية تاريخياً، يعلق أهمية كبيرة من
    تحليل ما يطلق عليه اسم: التراكم الأولي لرأس المال. وهذه النقطة هي
    بحق أول النقاط الجوهرية، التي تعتبر ضرورية لتحليل الوجود التاريخي
    للرأسمالية. فإذا كانت قد وجدت طبقة جديدة في المجتمع، على
    أنقاض الإقطاع المتداعي، تملك رؤوس أموال، وتتمكن في سبيل
    تنميتها من استثمار جهود الأجراء. فلا بد من أن نفترض مسبقاً عوامل
    ومؤثرات خاصة، أدّت إلى تراكم مالي كبير، في ثروات طبقة
    معينة، وتجمع قوى عمالية ضخمة أتاح لتلك الطبقة، تحويل ثرواتها إلى
    رؤوس أموال، وتحويل تلك القوى العمالية إلى أجراء، يمارسون عمليات


    الإنتاج الرأسمالي بأجرة. فما هي تلك العوامل والمؤثرات التي أتاحت هذا
    الظرف السعيد لتلك الطبقة؟ وبالأحرى ما هو سر التراكم الرأسمالي
    الأول، الذي قامت على أساسه الطبقة الرأسمالية، تقابلها من الناحية
    الأخرى طبقة الأجراء؟
    وحين حاول ماركس تحليل هذه النقطة، بدأ أولاً باستعراض وجهة
    النظر التقليدية للإقتصاد السياسي القائلة: أن السبب الذي مكّن لطبقة معينة
    من المجتمع دون غيرها، أن تحصل على الشروط الاقتصادية للإنتاج
    الرأسمالي، والثروات اللازمة لذلك، هو ما تمتاز به تلك الطبقة من ذكاء
    واقتصاد وحسن تدبير، جعلها توفر شيئاً من دخلها بالتدريج وتدّخره،
    حتى استطاعت أن تحصل على رأس مال.
    وقد عرض ماركس لهذه النظرة الكلاسيكية، بطريقته المألوفة في عرض
    الأفكار المناهضة له، بسخرية لاذعة، واستخفاف بالغ، وانتهى من
    سخريته إلى أن الادخار لا يكفي وحده تعليلاً لوجود الطبقة الرأسمالية،
    وإنما يجب لكي نصل إلى سر التراكم الرأسمالي الأول، الذي قامت على
    أساسه الطبقة الجديدة أن نفحص مضمون النظام الرأسمالي نفسه، ونفتش
    في أعماقه عن ذلك السر المعقد.
    ويستعين ماركس هنا بموهبته الفذة في التعبير، وسيطرته على التصرف
    بالألفاظ كيف شاء، للتدليل على وجهة نظره فيقرر: أن النظام الرأسمالي
    يبرز لنا علاقة من نوع خاص، بين الرأسمالي الذي يملك وسائل الإنتاج،
    وبين الأجير الذي يتخلى بحكم تلك العلاقة عن كل حق من حقوق الملكية،
    على منتوجه، لا لشيء إلا لأنه لا يملك سوى طاقة عملية محدودة، بينما
    يملك الرأسمالي جميع الشروط الخارجية اللازمة: المادة والأدوات ونفقات
    المعيشة_ لتجسيد تلك الطاقة. فموقف الأجير في النظام الرأسمالي، إنما
    هو نتيجة لفقده وسائل الإنتاج التي يتمتع بها الرأسمالي، وانفصاله عنها،
    ومعنى هذا: أن أساس العلاقة الرأسمالية يقوم، على الانفصال الجذري
    بين وسائل الإنتاج والأجير، وبالرغم من أنه هو المنتج الذي يباشر تلك
    الوسائل. فهذا الانفصال هو الشرط الضروري تاريخياً لتكوّن العلاقات
    الرأسمالية. فلكي يولد النظام الرأسمالي، يجب إذن أن يكون قد جرى
    بالفعل انتزاع وسائل الإنتاج من المنتجين، دون أخذ ولا رد، أولئك
    المنتجين الذين كانوا يستخدمونها لتحقيق عملهم الخاص، ويجب أن تصبح
    هذه الوسائل المنتجة محصورة في أيدي التجاريين الرأسماليين. فالحركة
    التاريخية التي تحقق الانفصال بين المنتج ووسائل الإنتاج، وتحصر هذه الوسائل
    في أيدي التجاريين، هي إذن مفتاح السر للتراكم الرأسمالي الأول. وقد
    تمت هذه الحركة التاريخية بأساليب: من الاستعباد، والاغتصاب المسلح،
    والنهب، وألوان العنف، دون أن يساهم في إنجازها التدبير والاقتصاد،
    والكياسة، والذكاء، كما تتخيل مراجع الاقتصاد السياسي التقليدي( ).
    ومن حقنا أن نتساءل: هل نجح ماركس في تفسيره هذا للتراكم
    الأولي، الذي كان أساساً للنظام الرأسمالي؟ وقبل أن نجيب على هذا السؤال،
    يجب أن نعرف أن ماركس حين قدّم هذا التفسير، لم يكن يهدف من
    وراءه إلى إدانة الرأسمالية أخلاقياً، بصفتها قائمة على أساس النهب
    والاغتصاب، وإن بدا في بعض الأحايين وكأنه يحاول شيئاً من ذلك...
    لأن ماركس يعتبر الرأسمالية _ في ظرف تكوّنها_ حركة زحف إلى
    الأمام، ساعدت على السير بالإنسان في المنحنى التاريخي، نحو المرحلة العليا
    لحركة التطور البشري. فهي تتفق في ذلك الظرف_ من وجهة رأيه_
    مع القيم الخلقية، إذ ليست القيم الخلقية عنده إلا وليدة الظروف الاقتصادية،
    التي تتطلبها وسائل الإنتاج. فإذا كانت القوى المنتجة تتطلب قيام النظام


    الرأسمالي، فمن الطبيعي أن تتكيف القيم الخلقية في تلك المرحلة التاريخية
    طبقاً لمتطلباتها( ).
    فليس من هدف ماركس إذن_ ولا من حقه أن يستهدف على أساس
    مفاهيمه الخاصة_ الحكم على الرأسمالية، من وجهة نظر أخلاقية، وإنما
    يهدف في دراسته للرأسمالية إلى تطبيق المادية التاريخية على مجرى التطور
    التاريخي، وتحليل الأحداث وفقاً لها. فما هو نصيبه من التوفيق في هذه الناحية؟
    يمكننا قبل كل شيء أن نلاحظ بهذا الصدد، ما أصابه ماركس من
    التوفيق وما أتقنه بذكاء وبراعة من التصرف البارع بالألفاظ. ذلك أنه
    لاحظ لدى تحليل النظام الرأسمالي، أن هذا النظام يتضمن في أعماقه علاقة
    معينة، بين رأسمالي يملك وسائل الإنتاج وأجير لا يملك شيئاً منها، وهو
    لذلك يتنازل عن منتوجه إلى الرأسمالي. واستخلص من ذلك: أن النظام
    الرأسمالي يتوقف على عدم وجود القوى المنتجة عند الفئات العاملة القادرة
    على ممارسة الإنتاج، وانحصارها لدى التجاريين، لتضطر تلك الفئات إلى
    العمل بأجرة عند هؤلاء. وهذه الحقيقة تعتبر واضحة دون مراء، غير
    أن ماركس كان بحاجة إلى لعبة لفظية ليصل عن طريق هذه الحقيقة إلى
    ما يعينه، ولذلك غيّر من تعبيره، وانتقل من قوله ذاك إلى التأكيد على:
    أن سر التراكم الأول يمكن في فصل وسائل الإنتاج عن المنتجين، وتجريدهم
    منها بالقوة، واختصاص التجاريين بها. وهكذا بدأ هذا المفكر الكبير،
    وكأنه لم يدرك الفرق المعنوي بين المقدمات التي ساقها، والنتيجة التي انتهى
    إلى التأكيد عليها. فإن تلك المقدمات كانت تعني: أن عدم وجود الوسائل


    المنتجة عند جماعات من القادرين على العمل، ووجودها عند التجاريين،
    هو الشرط الأساسي لوجود الرأسمالية، وهذا يختلف عن النتيجة التي
    انتهى إليها أخيراً، والتي فسرت عدم وجود الوسائل لدى الأجراء:
    بتجريدهم منها وانتزاعها منهم بالقوة. فهذا التجريد والانتزاع إذن إضافة
    جديدة تماماً لا تتضمنها المقدمات التحليلية التي ساقها، ولا يمكن أن
    يستنتج منطقياً من تحليل جوهر النظام الرأسمالي، والعلاقات المحددة فيه
    بين المالك والأجير.
    وقد تقول الماركسية تعليقاً على ما قلناه_: صحيح إن النظام الرأسمالي
    إنما يتوقف فقط على عدم وجود الوسائل المنتجة عند العمال، وتوفرها عند
    التجاريين. ولكن كيف نفسر ذلك؟ ولماذا لم توجد الوسائل المنتجة عند
    العمال ووجدت عند التجاريين، لو لم تقم حركة تجريد العمال من وسائلهم
    المنتجة، واغتصابها لحساب التجاريين؟!
    وردنا على هذا القول يتلخص في وجوه:
    فأولاً: إن هذا الوصف لا ينطبق على المجتمعات، التي قامت فيها
    الرأسمالية على أكتاف الطبقة الإقطاعية، كما اتفق في ألمانيا مثلاً، إذ قام عدد
    كبير من الإقطاعيين بتشييد المصانع ومباشرة إدارتها، وتمويلها بما كانوا
    يحصلون عليه من ريع إقطاعي. فليس من الضروري أن يحدث التحول من
    الإقطاع إلى الرأسمالية، على إثر حركة اغتصاب جديد، ما دام يمكن
    للإقطاعيين أنفسهم أن يباشروا الإنتاج الرأسمالي، على أساس ما يملكون من
    ثروات إقطاعية، تم لهم استملاكها في مطلع التاريخ الإقطاعي.
    وكما لا ينطبق الوصف الماركسي على الرأسمالية الصناعية، التي نشأت
    على أكتاف الطبقة الإقطاعية، كذلك لا ينطبق على الرأسمالية الصناعية،
    التي تكونت من الأرباح التجارية، كما وقع في الجمهوريات التجارية الإيطالية(كالبندقية) و(جنوا) و(فلونسة) وغيرها. فإن طبقة من


    التجاريين وجدت في هذه المدن قبل أن يخلق أجراء الصناعة، أي قبل أن
    يوجد النظام الرأسمالي بمعناه الصناعي، الذي يفتش ماركس عن جذوره
    فكان الصناع يعملون لحسابهم الخاص، وكان أولئك التجار يشترون منهم
    منتوجاتهم للاتجار بها، فيجنون الأرباح الطائلة عن طريق التجارة مع
    الشرق، التي ازدهرت في أعقاب الحروب الصليبية. وازداد مركزهم
    التجاري نجاحاً بتمكنهم من احتكار التجارة مع الشرق، عن طريق التفاهم
    مع سلاطين المماليك، أصحاب السيادة على مصر والشام، فتضاعفت
    أرباحهم، واستطاعوا عن هذا الطريق أن يتخلصوا من سلطة الإقطاع،
    وبالتالي أن يشيدوا المصانع الكبيرة التي اكتسحت_ بالمنافسة_ الصناعات
    اليدوية الصغيرة. فقام على هذا الأساس الإنتاج الرأسمالي، أو الرأسمالية
    الصناعية.
    وثانياً: إن وجهة النظر الماركسية لا تكفي لحل المشكلة، لأنها لا تزيد
    على القول: بأن الحركة التاريخية التي جرّدت العمال المنتجين من وسائلهم،
    وحصرتها في أيدي التجاريين، هي التي خلقت التراكم الرأسمالي الأول،
    ولكنها لا تفسر لنا: كيف أن فئة معينة استطاعت أن تكتسب سلطة
    الإخضاع والعنف، وتجرّد المنتجين من وسائل إنتاجهم بالقوة؟
    وثالثاً: هب أن سلطة الإخضاع والعنف هذه ليست بحاجة إلى تفسير،
    ولكنها لا تصلح أداة ماركسية لتفسير التراكم الرأسمالي الأول، وبالتالي
    للنظام الرأسمالي كله، لأنها ليست تفسيراً اقتصادياً، فهي لا تنسجم مع
    جوهر المادية التاريخية. فكيف سمح ماركس لنفسه، أو سمح له مفهومه
    العام عن التاريخ، أن يعلل التراكم الرأسمالي الأول، ووجود الطبقة
    الرأسمالية تاريخياً، بسلطة الاغتصاب والإخضاع، وهي علة ليست اقتصادية
    بطبيعتها؟! والحقيقة إن ماركس بهذا التحليل يهدم منطقه التاريخي بنفسه،
    ويعترف ضمناً بأن التكوين الطبقي لا يقوم على أساس اقتصادي بحت.

    وقد كان جديراً به_ وفقاً لأسس المادية التاريخية_ أن يأخذ بوجهة
    النظر التقليدية، في تفسير ظهور الطبقة الرأسمالية، تلك النظرة التي سخر
    منها بالرغم من أنها تقدم تفسيراً أقرب إلى الطبيعة الاقتصادية من التفسير
    الماركسي.
    وأخيراً: فإن كل ما يعرضه لنا ماركس بعد ذلك في فصول كتابه،
    من شواهد تاريخية على حركة الاغتصاب والتجريد التي فسر فيها التراكم
    الأول، قد استخرجها من تاريخ انكلترا فحسب، وهي تعرض الإغتصاب
    التي قام بها الإقطاعيون في انكلترا. إذ جرّدوا الفلاحين من أراضيهم
    وحولوها إلى مراع، وألقوا بأولئك المطرودين في أسواق البورجوازية
    الفتية. فهي عمليات تجريد الفلاح من أرضه لحساب الإقطاعي، وليست
    حركة تجريد للصناع من وسائل الإنتاج لحساب التجاريين.
    وقبل أن نتجاوز عن هذه النقطة، نود أن نلقي نظرة عابرة على عشرات
    الصفحات التي ملأها ماركس من كتاب رأس المال، بوصف تلك العمليات
    العنيفة، التي جرد فيها الإقطاعيون الفلاحين من أراضيهم، ومهدوا بذلك
    لقيام النظام الرأسمالي.
    إن ماركس في وصفه المثير، يقتصر على الأحداث التي وقعت في
    انكلترا خاصة، ويوضح لدى استعراضه لتلك الأحداث: أن السبب
    الحقيقي الذي دعا الإقطاعيين إلى استعمال ألوان العنف، في طرد الفلاحين
    من أراضيهم، هو أنهم أرادوا تحويل مزارعهم إلى مراع للحيوانات، فلم
    يعد لهم حاجة بهذا الجيش الكبير من الفلاحين. ولكن لماذا وجد_ هكذا
    وفجأة- هذا الاتجاه العام، إلى تحويل المزارع إلى مراع؟. إن ماركس
    يجيب على ذلك قائلاً:
    ((إن الذي فسح المجال بصورة خاصة في انجلترا


    لأعمال العنف،هذا هو ازدهار مصانع الصوف في
    (الفلاندرز)، وما نتج عنه من ارتفاع أسعار الصوف))( ).
    ولهذا الجواب مغزاه التاريخي الخاص، وإن لم يعره ماركس اهتماماً،
    لأنه يقرر أن ازدهار الإنتاجي الصناعي في المدن(الفلمنكية) الصناعية، وفي
    الجزء الجنوبي من بلجيكا خاصة(الفلاندرز)، ورواج التجارة الرأسمالية
    بالصوف وسائر المنتجات على وجه العموم، وظهور أسواق كبيرة لتلك
    البضائع التجارية، هو الذي دعا الإقطاعيين الإنجليز إلى الاستفادة من هذه
    الفرصة، وتحويل مزارعهم إلى مراع، ليتمكنوا من تصدير الصوف إلى
    المدن الصناعية، واحتلال السوق التجارية الصوف، باعتبار ما يتمتع به
    الصوف الإنجليزي من ميزات جعلته أساسياً في نسج الأقمشة الصوفية الرفيعة( ).
    وواضح من سياق هذه الأحداث وتتابعها، أن السبب الذي اعتبره
    ماركس الدعامة التاريخية، لتكوّن المجتمع الرأسمال في انجلترا(طرد
    الفلاحين).. لم ينبع من النظام الإقطاعي نفسه. كما يفرضه المنطق الجدلي
    للمادية التاريخية فليس النظام الإقطاعي هو الذي ولد التناقض الذي قضى
    عليه، ولا العلاقات الإقطاعية هي التي أوجدت ذلك السبب الذي عني به
    ماركس، وإنما وجد بسبب ازدهار مصانع الصوف من الخارج، ورواج
    التجارة الرأسمالية بالأصواف. فالرأسمالية التجارية هي التي دفعت الإقطاعيين
    إلى الإلقاء بجماهير الفلاحين في أسواق المدينة، لا العلاقات الإقطاعية...
    وهكذا نرى_ حتى في الصورة التي قدمها لنا ماركس بالذات_ أن النقيض
    للعلاقات الاجتماعية، قد تكونت أسبابه وشروطه، خارج حدود تلك
    العلاقات، ولم تنبع من نفس تلك العلاقات، التي لم تكن لتحقق تلك
    الشروط، لو عزلت عن العوامل والمؤثرات الخارجية.
    اعتراف ماركس:
    وقد أدرك ماركس بعد ذلك، أن عمليات اغتصاب الطبقة الإقطاعية،
    لا يمكن أن يفسر على أساسها التراكم الأولي لرأس المال الصناعي، وإنما
    تفسر تلك العمليات فقط: كيف وجد السوق الرأسمالي، العمال القادرين
    على العمل لأجرة، في أشخاص أولئك الفلاحين الذين لفظهم الريف،
    فنزحوا إلى المدينة؟. ولهذا حاول أن يعالج المشكلة من جديد، في الفصل
    الحادي والثلاثين من رأس المال. فلم يكتف في تفسير التراكم بظروف
    الرأسمالية التجارية أو الربوية، التي أدت إلى تجمع ثروات ضخمة لدى
    التجار والربويين، لأنه لا يزال مصراً على أن أساس التراكم هو اغتصاب
    وسائل الإنتاج، والشروط المادية من المنتجين ولأجل هذا اتجه في تفسير
    التراكم الرأسمالي إلى القول:
    ((إن اكتشاف مناطق الذهب والفضة في اميركة، وتحويل سكان البلاد الأصليين إلى حياة الرق، ودفنهم
    في المناجم أو إبادتهم وبدايات الفتح والنهب لجزر الهند الشرقية، وتحويل إفريقيا إلى نوع من الجحور التجارية لاصطياد الزنوج، هذه هي الطرائق ((الغزلية البريئة))
    للتراكم الأولي، التي تبشر بالعهد الرأسمالي في فجره))( ).
    ومرة أخرى نجد ماركس يفسر ظهور المجتمع الرأسمالي بعامل القوة،
    بالغزو والنهب والاستعمار، بالرغم من أنها عناصر ليست ماركسية بطبيعتها،
    لأنها لا تعبّر عن قيم اقتصادية، وإنما تعبّر عن القوة السياسية والعسكرية.

    ومن الطريف أن تتناقض الماركسية في هذه النقطة، تبعاً لما يتفتق ذهنها
    عنه من أسلوب للتخلص من المأزق فنجد رجل الماركسية الأول بعد أن
    اضطر إلى تفسير نشوء الكيان الرأسمالي في المجتمع بعامل القوة يقول:
    ((فالقوة هي المولد لكل مجتمع قديم آخذ في العمل، إن القوة هي عامل اقتصادي))( ).
    وهو يريد بهذا التمديد في مفاهيم الأوضاع والتوسع فيها، إعطاء
    العامل الاقتصادي مدلولاً لا يضيق عن استيعاب كل العوامل، التي يضطر
    إلى الاستناد إليها تحليله.
    ونقرأ للماركسية من ناحية أخرى، نصاً آخر عن عامل القوة، على
    النقيض من ذلك في كتب انجلز علمها الفكري الثاني. فقد كتب يقول عن
    التطورات الرأسمالية:
    ((يمكن تفسير هذه العملية بأجمعها، بعوامل
    اقتصادية بحتة، وما من حاجة قط في هذا التفسير إلى اللصوصية(القوة) (التدخل) الحكومي أو السياسي
    بأي نوع كان. لا يبرهن تعبير:(الملكية المؤسسة على
    القوة) في هذا الصدد كذلك، إلا على أنه عبارة
    يجترها مغرور، ليغطي على حرمانه من فهم مجرى
    الأمور الواقعي))( ).
    ونحن حين فقرأ لماركس وصفه التحليلي المثير، لظروف الرأسمالية
    الانجليزية وواقعها التاريخي، لا نجد أي مبرر لرفضه أو الاعتراض عليه،
    لأننا لا نفكر بطبيعة الحال في الدفاع عن التاريخ الأسود الذي سجلته أوروبا،


    في مطلع نهضتها المادية الطاغية، التي نشأت الرأسمالية في ظلالها. ولكن
    الأمر يختلف حين نأخذ تحليله للرأسمالية ونشوئها، بوصفه معبراً عن
    الضرورة التاريخية التي لا يمكن علمياً للإنتاج الرأسمالي في الصناعة. أن
    يشيد صرحه بدونها، فماركس حين ينطلق من الواقع الرأسمالي الذي
    عاشته انكلترا مثلاً، له كل الحق في أن يفسر ثروتها الرأسمالية المتنامية،
    في فجر تاريخها الحديث، بالنشاطات الاستعمارية المسعورة، التي ارتكبت
    فيها ألوان الجرائم في مختلف بقاع الأرض، وبعمليات تجريد الصناع من
    وسائل إنتاجهم بالقوة.. غير أن هذا لا يبرهن علمياً على أن الرأسمالية
    لا يمكن أن توجد دون تلك النشاطات والعمليات، وأنها تحمل في أعماقها
    الضرورة التاريخية لهذه النشاطات، الأمر الذي يعني أن إنكلترا كان من
    الضروري أن تشهد تلك النشاطات والعمليات في مطلع الرأسمالية، ولو
    كانت تعيش في إطار فكري آخر، بل إن التاريخ يبرهن على عكس ذلك.
    فقد قام الإنتاج الرأسمالي في(فلاندرز) وإيطاليا في القرن الثالث عشر،
    ونشأت فيها مؤسسات رأسمالية، ينتج فيها آلاف من الأجراء سلعاً تغزو
    الأسواق العالمية، لحساب الملاّك الرأسماليين، ولم تظهر خلال ذلك الأعراض
    التي ظهرت في انكلترا في القرنين الخامس عشر والسادس عشر، التي
    درسها ماركس في تحليله التاريخي للرأسمالية.
    ولنأخذ مثلاً آخر: الإنتاج الرأسمالي في اليابان، التي بدأت في القرن
    التاسع عشر تتحول من الأوضاع الإقطاعية إلى الرأسمالية الصناعية. ونختار
    هذا المثال بالذات، لأن ماركس أشار في كلامه إشارة عابرة إلى:
    (إن اليابان بتنظيمها الإقطاعي البحت للملكية العقارية وللزراعة الصغيرة فيها، تقدم لنا من وجهات
    عديدة، صورة أكثر أمانة عن العصور الوسطى الأوروبية،


    من تلك التي تقدمها كتب التاريخ عندنا، المشبعة بأفكار بورجوازية مستبقة)( ).
    فلنفحص هذه الصورة الأمينة للإقطاع: كيف تحولت إلى الرأسمالية
    الصناعية؟، وهل يتفق تحولها مع مفاهيم المادية التاريخية وتفاسير ماركس
    لنشوء الرأسمالية الصناعية؟.
    إن اليابان كانت غارقة في العلاقات الإقطاعية، حين استيقظت مذعورة
    على أجراس الخطر التي كانت تنذر اليابان بخطر خارجي محقق، وذلك
    سنة 1853 لما اقتحم الأسطول الأمريكي خليج(أوراجا)، وبدأ يفاوض
    الحاكم العسكري الذي كان يتولى السلطة بدلاً عن الإمبراطور حول عقد
    معاهدات، فقد بدا لليابان بوضوح أنها بداية غزو اقتصادي يجر إلى دمار
    البلاد واستعمارها، وآمن المفكرون فيها أن السبيل الوحيد لإنقاذ اليابان
    هو تصنيعها، وجعلها تسير في طريق الإنتاج الرأسمالي الذي سارت فيه
    أوروبا من قبلها، واستطاعوا أن يستخدموا سادة الإقطاع أنفسهم في
    تحقيق هذه الفكرة، فقام الإقطاعيون بإقصاء الحاكم العسكري عن السلطة
    وإعادتها إلى الإمبراطور سنة 1868، وجندت السلطة الإمبراطورية كل
    إمكاناتها لإيجاد ثورة صناعية في البلاد، ترتفع بها إلى مصاف الدول
    الرأسمالية الكبرى، وبذلت الطبقة الاستقراطية من رجال الإقطاع خدماتها
    للسلطة الحاكمة عن ولاء ورضى، ومكنتها من التعجيل بتحويل البلاد
    إلى بلاد صناعية، ونمت بسرعة خلال ذلك طبقة من التجار والصناع،
    الذين كانوا يوضعون سابقاً في أسفل درجات السلم الاجتماعي، فأخذوا
    يستخدمون_ في هدوء_ ما أتيح لهم من مال وقوة نفوذ، في تحطيم النظام
    الإقطاعي تحطيما سلمياً. حتى نزل أشراف الإقطاع سنة 1871 عن


    امتيازاتهم القديمة. وعوضتهم الحكومة عن أراضيهم بسندات أصدرتها
    لذلك وتم كل شيء بسلام، ووجدت اليابان الصناعية وأخذت مركزها
    في التاريخ.
    فهل ينطبق هذا الوصف على مفاهيم المادية التاريخية، وتفاسير ماركس؟
    إن الماركسية تؤكد أن الانقلاب من مرحلة تاريخية إلى أخرى،
    لا يتم إلا بشكل ثوري، لأن التغيرات الكمية التدريجية تؤدي إلى تحول
    دفعي آني. مع أن تحول اليابان من الإقطاع إلى الرأسمالية تم بشكل سلمي،
    وتنازل سادة الإقطاع عن حقوقهم، فلم يضطروا اليابان_ وهي في طريقها
    الرأسمالي_ إلى ثورة كالثورة الفرنسة عام(1789).
    كما أن الماركسية تعتبر أن كل تطور لا يتم إلا من خلال الصراع الطبقي:
    بين طبقة تقف إلى صف التطور، وأخرى تحاول الوقوف في وجهه. بينما
    نرى أن المجتمع الياباني قد وقف بمجموعه إلى جانب حركة التطور الصناعي والرأسمالي، ولم يشذ عن ذلك حتى سادة الإقطاع أنفسهم. فقد آمنوا
    جميعاً بأن حياة البلاد رهن هذه الحركة وتنميتها.
    والماركسية ترى_ كما قرأنا نصوص رأس المال السابقة_ أن
    التراكم الرأسمالي الذي تقوم الرأسمالية الصناعية على أساسه، لا يمكن أن
    يفسر بطرائق(العزل البريء)_ على حد تعبير ماركس_ وإنما يفسر
    بأعمال العنف والغزو وعمليات التجريد والاغتصاب، مع أن الواقع
    التاريخي لليابان يدلل على العكس. فلم يحدث التراكم الرأسمالي ولم تنشأ
    الرأسمالية الصناعية في اليابان، نتيجة للغزو والاستعمار أو عمليات تجريد
    المنتجين من وسائل إنتاجهم، وإنما وجدت هذه الحركة بفضل نشاط
    ساهمت فيه اليابان كلها، واستخدمت في تنمية السلطة الحاكمة كل نفوذها
    السياسي، فظهرت البورجوازية على المسرح الاجتماعي، كنتيجة لتلك


    النشاطات السياسية والفكرية وغيرها، وليس كقوة خالقة للجو السياسي
    والفكري الذي يلائمها.
    [/align]
    يا محوّل الحول والاحوال ، حوّل حالنا إلى أحسن الحال......








  11. #11
    تاريخ التسجيل
    Jul 2004
    الدولة
    هناك
    المشاركات
    28,205

    افتراضي

    [align=center]size=5]قوانين المجتمع الرأسمالي
    حين نعرض لقوانين المجتمع الرأسمالي من وجهة نظر المادية التاريخية،
    نكون بحاجة إلى إبراز الوجه الإقتصادي للماركسية، الذي لا يتجلى بملامحه
    الاقتصادية الكاملة عند تحليل الماركسية لأي مرحلة من مراحل التاريخ،
    كما يتجلى عند دراستها للمرحلة الرأسمالية. فقد قامت الماركسية بتحليل
    المجتمع الرأسمالي وشروطه الاقتصادية، ودرست قوانينه العامة على أسس
    المادية التاريخية، وانتهت من ذلك إلى التأكيد على ما يكمن في أعماق
    الرأسمالية من تناقضات، تتراكم وفقاً للقوانين المادية التاريخية، حتى
    تدفع بالنظام الرأسمالي في النهاية إلى قبره المحتوم في لحظة حاسمة من
    لحظات التاريخ.
    القيمة أساس العمل
    وقد بدأ(ماركس) دراسته لجوهر المجتمع الرأسمالي، وقوانين
    الاقتصاد السياسي البورجوازي، بتحليل القيمة التبادلية، بوصفها عصب
    الحياة في المجتمع الرأسمالي_ كما بدأ غيره من الاقتصاديين الذين عاصروه
    وسبقوه_ وجعل من نظريته التحليلية في القيمة، حجر الزاوية في بنائه
    النظري العام.
    ولم يصنع ماركس شيئاً أساسياً في مجال تحليل القيمة التبادلية، وإنما
    أخذ بالنظرية التقليدية، التي شادها قبله(ريكاردو) وهي النظرية القائلة:
    إن العمل البشري هو جوهر القيمة التبادلية. فالقيمة التبادلية لكل منتوج


    إنساني، تقدر على أساس كمية العمل المتجسد فيه، وتتفاوت قيم الأشياء
    بتفاوت العمل المهراق فيها. فقيمة السلعة التي يتطلب إنتاجها ساعة واحدة
    من العمل، تساوي نصف قيمة السلعة التي ينفق عليها في العادة ساعتان من
    العمل.
    وتعتبر هذه النظرية نقطة البدء عند(ريكاردو) وماركس معاً في
    دراستهما التحليلية لهيكل الاقتصاد الرأسمالي. فقد جعل كل منهما منها القاعدة
    التي يقوم عليها بناؤه العلمي. ولئن كان(ريكاردو) قد سبق(ماركس)
    إلى وضع هذه النظرية في صيغة علمية محددة، فقد سبقهما معاً عدة مفكرين
    اقتصاديين وفلسفيين إلى التنويه بها، كالفيلسوف الإنجليزي(جون لوك)،
    الذي أشار إلى هذه النظرية في بحوثه، ثم أخذ بها(آدم سميث) الاقتصادي
    الكلاسيكي المعروف في حدود ضيقة، فاعتبر العمل أساساً للقيمة التبادلية
    بين الجماعات البدائية.. غير أن(ريكاردو) كان بحق هو الذي أعطى
    النظرية معنى الشمول والاستيعاب، وآمن بأن العمل هو المصدر العام للقيمة
    التبادلية، ثم جاء ماركس يسير في طريقه بأسلوبه الخاص.
    وهذا لا يعني_ بطبيعة الحال_ أن ماركس لم يصنع شيئاً، في حقل
    هذه النظرية، سوى ترديد الصدى الذي تركه(ريكاردو)، بل أنه
    _ حين أخذ النظرية منه_ صاغها في إطاره الفكري الخاص، فادخل على
    بعض جوانبها ايضاحات جديدة، وضمّنها عناصر ماركسية، وقبل بعض
    جوانبها الأخرى كما تركها سلفه.
    ف (ريكاردو) حين آمن بهذه النظرية:(العمل أساس القيمة)،
    أدرك أن العمل لا يحدد القيمة في حالات الاحتكار التي تنعدم فيها المنافسة،
    إذ أن من الممكن في هذه الحالات أن تتضاعف قيمة السلعة المحتكرة،
    وفقاً لقوانين العرض والطلب، دون أن تزيد كميات العمل المنفقة عليها.
    ولأجل هذا اعتبر المنافسة الكاملة شرطاً أساسياً، لتشكل القيمة التبادلية على


    أساس العمل. وهذا ما قاله ماركس أيضاً، معترفاً بأن النظرية لا تنطبق
    على حالات الإحتكار.
    ولاحظ(ريكاردو) أيضاً أن العمل البشري يتفاوت في كفايته،
    فساعة من عمل الصانع الذكي النشيط، لا يمكن أن تساوي ساعة من عمل
    الصانع البليد البطيء. وقد عالج ذلك بافتراض مقياس عام للكفاية الإنتاجية
    في كل مجتمع. فكل كمية من العمل إنما تخلق القيمة التي تتناسب معها،
    إذا كانت تتوافق مع ذلك المقياس العام. وهذا المقياس نفسه هو الذي عبّر
    عنه ماركس: بكمية العمل الضرورية اجتماعياً، إذ قال: إن كل عمل
    إنتاجي يخلق قيمة تناسبه، إذا انفق بالطريقة المتعارفة اجتماعياً.
    ووجد(ريكاردو) نفسه_ بعد وضع النظرية_ مضطراً إلى إبعاد
    غير العمل من عناصر الإنتاج_ كالأرض ورأس المال_ عن عملية تكوين
    القيمة، ما دام هو الأساس الوحيد لها. فجاء لأجل ذلك بنظريته الجديدة،
    في تفسير الريع العقاري، التي قلب بها المفهوم الاقتصادي السائد عن الريع،
    كي يبرهن على أن الأرض لا تساهم في تكوين القيمة التبادلية. في حالة
    المنافسة الكاملة. فقد كان من عادة الاقتصاديين قبل(ريكاردو)، أن
    يفسروا ريع الأرض بأنه هبة من الطبيعة تنشأ، من اشتراك الأرض مع
    الجهود الإنسانية، في الإنتاج الزراعي وبالتالي في تكوين القيمة التبادلية
    المنتجة وهذا يعني ضمناً: أن العمل ليس هو الأساس الوحيد للقيمة. فكان
    من الضروري لريكاردو أن يرفض هذا التفسير للريع، وفقاً لنظريته عن
    القيمة، ويأتي بالتفسير الذي ينسجم مع النظرية وهذا ما قام به فعلاً،
    فقرر أن الريع نتيجة للاحتكار، ولا يمكن أن يظهر في حالة المنافسة الكاملة. فالأشخاص الذين سيطروا على الجزء الأكثر خصباً من الأرض يحصلون على
    ريع نتيجة لاحتكارهم، واضطرار الآخرين إلى استثمار الأراضي الأقل
    خصباً.

    وأما فيما يتصل برأس المال، فقد ذكر(ريكاردو) أن رأس المال
    ليس إلا عملاً متجمعاً، قد ادخر مجسداً في أداة أو مادة، لينفق من جديد
    في سبيل الإنتاج، فلا مبرر لاعتباره عاملاً مستقلاً في تكوين القيمة التبادلية.
    فالمادة التي بذلت في إنتاجها ساعة من العمل، ثم استهلكت في عملية إنتاج
    جديدة، تعبّر عن عمل ساعة يضاف إلى الكمية الجديدة من العمل، التي
    يتطلبها الإنتاج الجديد وهكذا ينتهي ريكاردو إلى أن العمل هو الأساس
    الوحيد للقيمة.
    وكان من المنتظر أن يشجب(ريكاردو) الربح الرأسمالي، ما دام
    رأس المال لا يخلق قيمة تبادلية جديدة، وما دامت السلعة مدينة في قيمتها
    التبادلية لعمل العامل فحسب. غير أن ريكاردو لم يفعل شيئاً من هذا،
    واعتبر من المنطقي أن تباع السلعة بسعر يعود بعائد صاف لمن يملك رأس
    المال، وفسر ذلك بفترة الوقت التي تمضي بين الاستثمار وظهور المنتجات
    للبيع. وبهذا اعترف بالزمن بوصفه عاملاً آخر، لتكوين القيمة التبادلية.
    ومن الواضح أن هذا يعتبر من ريكاردو تراجعاً عن نظريته القائلة: بأن
    العمل هو الأساس الوحيد للقيمة، وعجزاً عن الاحتفاظ بالنظرية حتى
    النهاية.
    وأما ماركس فهو حين عالج عناصر الإنتاج، التي تشترك مع العمل
    في العملية الإنتاجية، والتي عالجها ريكاردو من قبله.. أدخل على أفكار
    سلفه من ناحية شيئاً من التعديل، وجاء من ناحية أخرى بأفكار جوهرية
    لها خطرها. فمن الناحية الأولى: درس الريع العقاري، فأقر تفسير
    (ريكاردو) له، واستطاع أن يميز بين الريع التفاضلي الذي تحدّث عنه
    ريكاردو، والريع المطلق الذي أثبت عن طريقه: أن للأرض بمجموعها
    ريعاً قائماً على أساس الاحتكار الطبيعي، ومحدودية مساحة الأرض( ).

    ومن الناحية الثانية: هاجم اعتراف ريكاردو بمنطقية الربح الرأسمالي،
    وشن حملة عنيفة ضده، على أساس نظرية القيمة الفائضة، التي تعتبر بحق
    الجزء الماركسي الصميم في البناء النظري الذي شاده ماركس.
    كيف وضع ماركس القاعدة الأساسية لاقتصاده؟
    يبدأ ماركس في استدلاله على جوهر القيمة، بالتفرقة بين القيمة
    الاستعمالية والقيمة التبادلية. فالسرير والملعقة ورغيف الخبز مجموعة من
    السلع، تتضمن كل واحدة منها قيمة استعمالية معينة، بسبب المنفعة التي
    تؤديها السلعة، وتختلف قيمها الإستعمالية تبعاً لاختلافها في نوعية المنفعة
    التي يجنيها الإنسان منها. ولكل واحدة من تلك السلع قيمة من نوع آخر.
    فإن السرير الخشبي الذي ينتجه الصانع، كما يمكن أن ينام عليه_ وهذا
    ما يحدد قيمته الاستعمالية_ كذلك يمكنه أن يستبدله بثوب يلبسه. وهذا
    يعبر عن القيمة التبادلية. فالثوب والسرير، بينما كانا متناقضين في منافعهما
    وقيمهما الإستعمالية. نجد أنهما يشتركان في قيمة تبادلية واحدة. أي أن
    كلاً منها يمكن استبداله بالآخر في السوق. لأن سريراً خشبياً واحداً
    يساوي ثوباً حريرياً من نوع معين.
    وهذه المعادلة تعني أنه يوجد ثمة في شيئين مختلفين: السرير والثواب،
    شيء مشترك، بالرغم من اختلاف منافعهما وموادهما. فالشيئان هما إذن
    مساويان لشيء ثالث، ليس في ذاته سريراً ولا ثوباً. وهذا الشيء الثالث
    لا يمكن أن يكون خاصة طبيعية أو هندسية للبضائع، لأن خصائصهما
    الطبيعية لا تدخل في الحساب، إلا بقدر ما تمنحها من منفعة استعمالية،
    ولما كانت القيم والمنافع الاستعمالية في الثوب ولسرير مختلفة، فيجب أن
    يكون الشيء الثالث المشترك بينهما، أمراً غير القيم الاستعمالية ومقوماتها


    الطبيعية فإذا أسقطنا من الحساب هذه القيم وطرحنا جميع الخصائص الطبيعية
    للثوب والسرير، لا يبقى بين أيدينا إلا الصفة الوحيدة، التي تشترك فيها
    السلعتان، وهي: العمل البشري. فكل منهما تجسيد لكمية خاصة من
    العمل، ولما كانت الكميتان المنفقتان على السرير والثوب متساويتين،
    نتج عن ذلك تساويهما في القيمة التبادلية أيضاً...
    وهكذا ينتهي تحليل عملية التبادل إلى: أن العمل هو جوهر القيمة
    التبادلية( ).
    ويتحدد ثمن السلعة في السوق بصورة أساسية، طبقاً لقانون القيمة
    التبادلية هذا، أي لكمية العمل البشري المتجسد فيها. غير أن الثمن السوقي
    لا يطابق مع القيمة التبادلية الطبيعية، التي يحددها القانون الآنف الذكر،
    إلا في حالة معادلة العرض للطلب. ومن هنا يمكن لثمن السلعة أن يرتفع عن
    قيمتها الطبيعية، وفقاً لنسبة العرض إلى الطلب. فقوانين العرض والطلب
    نستطيع أن ترفع الثمن أو تخفضه، أي أن تجعله مناقضاً للقيمة الطبيعية،
    ولكن القيم الطبيعية للسلع تحدد بدورها من فعل قوانين العرض والطلب.
    فهي وإن سمحت للسلعة بأن يزيد ثمنها عن قيمتها، بسبب قلة العرض
    وزيادة الطلب مثلاً ولكنها لا تسمح لهذا الارتفاع أن يتزايد بشكل غير
    محدود، ولذلك نجد أن المنديل_ مثلاً_ مهما تحكمت فيه قوانين العرض
    والطلب، فهي لا تتمكن من رفع ثمنه إلى ثمن السيارة. وهذه القوة الكامنة
    في المنديل التي تجذب الثمن إليها، ولا تسمح له بالإنطلاق غير المحدود،
    هي القيمة التبادلية.
    فالقيمة الطبيعية حقيقة ثابتة من وراء الثمن، تخلقها كميات العمل
    المتجسدة في السلع. والثمن تعبير سوقي عنها تحدده القيمة الطبيعية، وتلعب


    قوانين العرض والطلب دوراً ثانوياً في خفضه ورفعه، وفقاً لحالة المنافسة
    ونسبة العرض إلى الطلب ومدى وجود الاحتكار في السوق.
    وقد لاحظ ماركس_ و(ريكاردو) من قبله_: أن قانون القيمة
    هذا لا ينطبق على حالات الاحتكار، لأن القيمة في هذه الحالات تحدد
    وفقاً لقوانين العرض والطلب، التي يتحكم فيها المحتكرون، وكذلك
    لا ينطبق أيضاً على بعض ألوان الإنتاج الفني والأثري، كاللوحة التي تنتجها
    ريشة فنان مبدع، أو الرسالة الخطية التي يمتد تاريخها إلى مئات السنين،
    فيكون لها ثمن مرتفع جداً نظراً إلى طابعها الفني أو التاريخي، رغم الضآلة
    النسبية لكمية العمل الممثلة فيها.
    ولأجل هذا أعلنت الماركسية أن قانون القيمة القائم على أساس العمل،
    يتوقف أولاً: على توفر المنافسة التامة، فلا يسري إلى حالات الاحتكار.
    وثانياً: على كون السلعة نتاجاً اجتماعياً يمكن إيجاده عن طريق العمل
    الاجتماعي دائماً، فلا يسري القانون على الإنتاج الفردي الخاص، كاللوحة
    الفنية والرسالة الخطية.
    ونود أن نشير قبل كل شيء إلى ظاهرة خطيرة، في التحليل الماركسي
    لجوهر القيمة، وهي أن ماركس اتّبع في تحليله واستكشافه لقانون القيمة،
    طريقة تجريدية خالصة، بعيداً عن الواقع الخارجي، وتجاربه الإقتصادية.
    وهكذا بدا فجأة وقد تقمص شخصية(أرسطو) الميتافيزيقية في الاستدلال
    والتحليل. ولهذه الظاهرة سببها الذي اضطر ماركس إلى هذا الموقف،
    لأن الحقائق الواضحة عن الحياة الإقتصادية، تعبر دائماً عن ظواهر تناقض
    تماماً النتائج التي تؤدي إليها النظرية الماركسية. فإن من نتيجة هذه النظرية
    أن الأرباح المكتسبة تختلف من مشروع إلى آخر، تبعاً لإختلاف كمية
    العمل المأجور المنفق خلال الإنتاج، دون أن يكون لكمية الآلات والأدوات
    أثر في ذلك، لأنها لا تضفي على النتائج أية قيمة أكثر مما تفقده، مع أن


    الربح في الحياة الإقتصادية السائدة، يزداد كلما ازدادت الآلات والأدوات
    التي يتطلبها المشروع. فلم يتمكن ماركس لأجل هذا من التدليل على
    نظريته بشواهد من واقع الحياة الإقتصادية، فحاول أن يبرهن عليها بصورة
    تجريدية، حتى إذا أكمل مهمته هذه، جاء إلى النتائج المقلوبة في واقع
    الحياة الإقتصادية. ليؤكد أنها لم توجد مقلوبة نتيجة لخطأ النظرية التي
    يؤمن بها، وإنما هي مظهر من مظاهر المجتمع الرأسمالي، الذي يضطر
    المجتمع إلى الإنحراف عن قانون القيمة الطبيعي، والتكيف وفقاً لقوانين
    العرض والطلب( ).[/size]
    [/align]
    يا محوّل الحول والاحوال ، حوّل حالنا إلى أحسن الحال......








  12. #12
    تاريخ التسجيل
    Jul 2004
    الدولة
    هناك
    المشاركات
    28,205

    افتراضي

    [align=center]نقد القاعدة الأساسية للإقتصاد الماركسي
    والآن فلنفحص قانون القيمة عند ماركس، في ضوء الدليل الذي
    قدمه عليه.
    يبدأ ماركس في دليله_ كما رأينا_ من تحليل عملية التبادل(تبادل
    السرير الخشبي بثوب من حرير مثلاً)، فيرى أن هذه العملية تعبّر عن
    مساواة السرير للثوب في القيمة التبادلية، ثم يتساءل: لماذا كان السرير
    والثوب متساويين في القيمة التبادلية؟. ويجيب أن السبب في ذلك اشتراكهما
    في أمر واحد، موجود فيهما بدرجة واحدة، وليس هذا الأمر المشترك
    بين الثوب والسرير إلا العمل المتجسد فيهما، دون المنافع والخصائص
    الطبيعية التي يختلف فيها السرير عن الثوب فالعمل هو إذن جوهر القيمة.
    ولكن ماذا تقول الماركسية لو اصطنعنا نفس هذه الطريقة التحليلية، في
    عملية تبادل بين إنتاج اجتماعي وإنتاج فردي؟!، أفليس للخط الأثري



    - وهو ما تسميه الماركسية بالإنتاج الفردي_ قيمة تبادلية؟!، أو ليس
    من الممكن استبداله في السوق بنقد أو كتاب أو بأي مال آخر؟!، فإذا
    استبدلناه بنتاج اجتماعي، كنسخة مطبوعة من تاريخ الكامل مثلاً، كان
    معنى ذلك أن صفحة الخط الأثري مثلاً، تساوي قيمتها التبادلية نسخة من
    تاريخ الكامل. فلنفتش هنا عن الأمر المشترك الذي أملى على السلعتين قيمة
    تبادلية واحدة. كما فتشت الماركسية عن الأمر المشترك بين السرير والثوب،
    فكما كان يجب أن تكون القيمة التبادلية الواحدة للسرير والثوب تعبيراً
    عن صفحة مشتركة بينهما( وهي في رأي الماركسية كمية العمل المنفقة
    فيهما) كذلك أيضاً بعد القيمة التبادلية الواحدة للخط الأثري ونسخة من
    تاريخ الكامل، عن الأمر المشترك، فهل يمكن أن يكون هذا الأمر المشترك
    هو كمية العمل المنفقة عليهما؟!. كلا طبعاً، فإننا نعلم أن العمل المتجسد
    في الخط الأثري، أقل كثيراً من العمل المتجسد في نسخة مطبوعة من تاريخ
    الكامل، بورقه وجلده وحبره وطباعته، ولأجل هذا استثنت السلع الفنية
    والأثرية، من قانون القيمة.
    ولسنا نؤاخذ الماركسية على هذا الاستثناء، لأن لكل قانون من قوانين
    الطبيعة شروطه واستثناءاته الخاصة، ولكننا نطالبها_ على هذا الأساس_
    بتفسير الأمر المشترك بين الخط الأثري، ونسخة من تاريخ الكامل، اللذين
    تم التبادل بينهما في السوق، كما يتم التبادل بين السرير والثوب. فإن كان من الضروري أن يوجد من وراء المساواة في عملية التبادل، أمر مشترك بين
    السلعتين المتساويتين في قيمتها، فما هو هذا الأمر المشترك بين الخط الأثري
    ونسخة من تاريخ الكامل، هاتين السلعتين المختلفتين في كمية العمل المكتنز
    فيهما، وفي نوعية المنفعة وشتى الخصائص؟!. أفلا يبرهن هذا على أن
    هناك أمراً مشتركاً بين السلع، التي يجري بينها التبادل في السوق، غير العمل
    المتجسد فيها، وأن هذا الأمر المشترك موجود في السلع المنتجة إنتاجاً فردياً،


    كما يوجد في السلع التي تحمل طابع الإنتاج الاجتماعي؟!. وإذا كان يوجد
    أمر مشترك بين جميع السلع، بالرغم من اختلافها في كميات العمل المنفقة
    عليها، وفي طابع العمل من ناحية كونه فردياً أو اجتماعياً، واختلافهما
    أيضاً في المنافع والخصائص الطبيعية والهندسية، إذا كان يوجد مثل هذا
    الأمر المشترك العام حقاً، فلماذا لا يكون هو المصدر الأساسي للقيمة التبادلية وجوهرها الداخلي؟!.
    وهكذا نجد أن الطريقة التحليلية التي اتخذها ماركس، تتوقف به في
    منتصف الطريق، ولا تسمح له بمواصلة استنتاجاته، ما دامت كميات
    العمل المتجسد في السلع قد تختلف إختلافاً كبيراً، مع مساواة بعضها لبعض
    في القيمة التبادلية. فليست كميات العمل المتساوية هي السر الكامن وراء
    المساواة في عمليات التبادل.
    فما هو هذا السر الكامن إذن؟؟،
    ما هو هذا الأمر المشترك بين الثوب والسرير. والخط الأثري والنسخة
    المطبوعة من تاريخ الكامل، الذي يحدد لكل واحدة من هذه السلع قيمتها
    التبادلية تبعاً لنصيبها منه؟؟.
    * * *
    وفي رأينا هناك مشكلة أخرى تواجه قانون القيمة عند ماركس
    لا يمكن للقانون أن يتغلب عليها لأنها تعبّر عن تناقض هذا القانون مع الواقع
    الطبيعي الذي يعيشه الناس مهما كان الطابع المذهبي والسياسي لهذا الواقع،
    فلا يمكن أن يكون هذا القانون تفسيراً علمياً للواقع الذي يناقضه.
    ولنأخذ الأرض مثالاً لهذا التناقض، بين القانون والواقع. فالأرض
    تصلح_ دون شك_ لإنتاج عدد كبير من الحاصلات الزراعية، أي
    لعدد كبير من الاستعمالات البديلة فيمكن أن تستعمل الأرض في زراعة


    الحنطة، كما يمكن أن تستخدم_ بدلاً عن الحنطة_ في إنتاج القطن والرز
    وهكذا. ومن الواضح أن الأرضي ليست متشابهة في كفاءتها الطبيعية،
    فهناك من الأراضي ما يكون أكثر كفاءة في فرع معين من فروع الإنتاج
    الزراعي، كإنتاج الرز مثلاً. وهناك ما هو أكثر كفاءة لزراعة الحنطة
    أو القطن. وهكذا تتمتع كل أرض باستعداد طبيعي، يرشحها لفرع معين
    من فروع الإنتاج. ويعني هذا أن كمية من العمل إذا أنفقت على
    زراعة الأرض، في حالة تقسيمها على فروع الإنتاج الزراعي تقسيماً
    صحيحاً، واستخدام كل أرض فيما هي أصلح له.. تنتج مقادير مهمة من
    الحنطة والرز والقطن، بينما لو صرفت نفس تلك الكمية المعينة من العمل
    الاجتماعي، في حالة توزيع سيء للأرض على فروع الإنتاج، واستخدام
    كل أرض في غير ما هي أجدر به.. لما أمكن الحصول إلا على جزء من
    تلك المقادير المهمة. فهل نستطيع أن نتصور أن هذا الجزء من الحنطة مثلاً،
    يساوي_ من الناحية التبادلية_ ذلك المقدار المضاعف، الذي ينتج في حالة
    توزيع الأرض_ على فروع الإنتاج_ توزيعاً صحيحاً.. لا لشيء إلا لأنه
    يساويه في كمية العمل الاجتماعي المتجسد فيه؟!. وهل يسمح الاتحاد
    السوفياتي_ القائم على أساس ماركسي_ لنفسه أن يساوي في التبادل بين
    هاتين الكميتين المختلفتين، بوصفهما تعبيراً عن كمية واحدة من العمل
    الاجتماعي.
    إن الاتحاد السوفياتي، وأي دولة أخرى في العالم، تدرك عملياً_ دون
    شك_ مدى الخسارة التي تحيق بها من جراء: عدم استخدام كل أرض فيما
    هي أكثر صلاحية له.
    وهكذا نعرف أن الكمية الواحدة من العمل الزراعي قد تنتج قيمتين
    مختلفتين، تبعاً للطريقة المتبعة في تقسيمها على الأراضي المتنوعة.
    ومن الواضح_ في ضوء ذلك_ أن القيمة المضاعفة، التي تحصل من


    استخدام كل أرض فيما هي أكثر صلاحية له.. ليست نتيجة للطاقة التي
    أنفقت في الإنتاج، لأن الطاقة هي الطاقة، لا تتغير، سواء زرعت كل
    أرض بما هي أصلح له أم زرعت بغيره، وإنما هي_ القيمة المضاعفة_
    مدينة للدور الإيجابي الذي تلعبه الأرض نفسها في تنمية الإنتاج وتحسينه( ).

    وهكذا نواجه السؤال السابق نفسه مرة أخرى: ما هو المحتوى
    الحقيقي للقيمة التبادلية الذي تلعب الطبيعة دوراً في تكوينه، كما يلعب العمل
    الإنتاجي دوره الخطير في ذلك؟.
    * * *
    وظاهرة أخرى لا تستطيع الماركسية أن تفسرها، على ضوء قانونها
    الخاص في القيمة، بالرغم من وجودها في كل مجتمع، وهي: انخفاض
    القيمة التبادلية للسلعة، تبعاً لانخفاض الرغبة الاجتماعية فيها: فكل سلعة
    إذا تضاءلت الرغبة فيها، ولم يعد المجتمع يؤمن بمنفعة مهمة لها، تفقد
    _ بسبب ذلك_ جزءاً من قيمتها التبادلية، سواء كان هذا التحول_
    في رغبات المجتمع_ نتيجة عامل سياسي أو ديني أو فكري، أو أي عامل
    آخر، وهكذا تتضاءل قيمة السلعة، بالرغم من احتفاظها بنفس الكمية
    من العمل الاجتماعي، وبقاء ظروف إنتاجها كما هي دون تغيير. وهذا
    يبرهن بوضوح على أن للدرجة التي تتيحها السلعة من الانتفاع وإشباع
    الحاجات، أثراً في تكوين القيمة التبادلية. فمن الخطأ أن تعتبر نوعية القيمة
    الاستعمالية، ودرجة الانتفاع بالسلعة كمية مهملة كما تقرر الماركسية.
    والماركسية حين تتغاضى عن هذه الظاهرة، وتحاول تفسيرها في ضوء
    قوانين العرض والطلب: تؤكد على ظاهرة أخرى، بوصفها تعبيراً واقعياً
    عن قانونها في القيمة، وهي: أن القيمة التبادلية تتناسب طردياً مع كمية
    العمل المتجسد في السلعة. فإذا ساءت ظروف الإنتاج، وتطلب عملاً
    مضاعفاً في سبيل إنتاج السلعة تضاعفت قيمتها التبادلية تبعاً لذلك. وإذا
    اتفق عكس هذا، فتحسنت ظروف الإنتاج، وأصبح من الممكن الاكتفاء
    بنصف الكمية السابقة من العمل الاجتماعي، في إنتاج السلعة، انخفضت
    قيمة السلعة بدورها إلى النصف أيضاً.
    وهذه الظاهرة وإن كانت حقيقة واضحة في مجرى الحياة الاقتصادية،

    ولكنها لا تبرهن على صحة قانون القيمة عند الماركسية، إذ كما يمكن لهذا
    القانون أن يفسر هذا التناسب بين القيمة وكمية العمل، كذلك يمكن تفسيره
    في ضوء آخر أيضاً. فإن ظروف إنتاج الورق مثلاً، إذا ساءت وتطلّب
    إنتاجه كمية مضاعفة من العمل، انخفضت كمية الورق المنتجة اجتماعياً
    إلى النصف_ في حالة بقاء مجموع العمل الاجتماعي المنفق على إنتاج الورق،
    بنفس الكمية السابقة_ وحين تنخفض كمية الورق المنتج إلى النصف،
    يصبح أكثر ندرة، وتزداد الرغبة فيه، وترتفع منفعته الحدية.
    وإذا حدث العكس، فانخفضت كمية العمل التي يتطلبها إنتاج الورق
    إلى النصف، فسوف تتضاعف كمية الورق التي ينتجها المجتمع_ في حالة
    بقاء مجموع العمل الاجتماعي المنفق على إنتاج الورق، بنفس الكمية السابقة
    وتهبط منفعة الحدية، وتقل ندرته نسبياً، وبالتالي تنخفض قيمته التبادلية.
    وما دام من الممكن تفسير الظاهرة في ضوء عامل الندرة، أو المنفعة
    الحدية، كما يمكن تفسيرها على أساس القانون الماركسي في القيمة... فلا
    يمكن أن تعتبر دليلاً علمياً من واقع الحياة، على صحة هذا القانون دون
    سواه من الفرضيات.
    * * *
    والعمل_ بعد هذا كله_ عنصر غير متجانس، يضم وحدات من الجهود
    مختلفة في أهميتها، ومتفاوتة في درجتها وقيمتها. فهناك العمل الفني الذي
    يتوقف على خبرة خاصة، والعمل البسيط الذي لا يحتاج إلى الخبرة العلمية
    والفنية. فساعة من عمل الحمال تختلف عن ساعة من عمل المهندس المعماري،
    ونهار من عمل الصانع الفني الذي يبذله لإنتاج محركات كهربائية، يختلف
    _ تمام الاختلاف_ عن عمل العامل الذي يحفر السواقي الصغيرة في الحديقة.
    وهناك أيضاً العوامل الذاتية الكثيرة_ التي تؤثر على العمل_ باعتباره


    صفة إنسانية_ فتحدد أهمية ودرجة كفايته، كما تحدد الجهد النفسي
    والعضوي الذي يتطلبه. فالاستعداد الطبيعي العضوي والذهني للعامل،
    ومدى رغبته في النبوغ والتفوق على الآخرين، ونوعية ما يختلج في نفسه
    من عاطفة بالنسبة إلى العمل، يجعله يقبل عليه مهما بلغت مشقته، أو يعرض
    عنه مهما خف عبؤه، وما يشعر به من حيف وحرمان، أو ما ينعم به من
    حوافز تدفعه إلى التفنن والإبداع، وما تحيط به من ظروف تدعه فريسة
    لعوامل السأم والضجر، أو تبعث في نفسه شيئاً من قوة الأمل والرجاء...
    كل هذه الأمور تعتبر من العوامل التي تؤثر على نوعية العمل وتحدد قيمته.
    فمن الخطأ أن تقاس الأعمال قياساً كمياً عددياً فحسب، وإنما هي
    بحاجة إلى قياس نوعي وصفي أيضاً، يحدّد نوعية العمل المقاس ومدى تأثره
    بتلك العوامل. فساعة من العمل في ظل شروط نفسية ملائمة، أكثر كفاية
    في إنتاجها من ساعة عمل في ظل شروط معاكسة.فكما يجب أن نقيس
    كمية العمل_ وهذا هو العنصر الموضوعي في المقياس_ كذلك يجب أن
    نقيس أيضاً نوعية العمل وأوصافه، في ضوء العوامل النفسية المختلفة التي
    تؤثر فيه، وهذا هو العنصر الذاتي في المقياس.
    ومن الواضح أنا إذا كنا نملك دقائق الساعة، بوصفه مقياساً للعنصر
    الموضوعي ضبط كمية العمل، فلا نملك مقياساً نقيس به العنصر الذاتي
    للعمل، ونوعيته وأوصافه التي تحدد طبقاً له.
    فيم تتخلص الماركسية من هاتين المشكلتين: مشكلة قياس عام للكميات
    الفنية وغير الفنية من العمل، ومشكلة قياس نوعي لكفاية العمل، وفقاً
    للمؤثرات النفسية والعضوية والذهنية، التي تختلف بين عامل وآخر.
    أما المشكلة الأولى، فقد حاولت الماركسية حلها عن طريق تقسيم
    العمل إلى: بسيط ومركب. فالعمل البسيط هو الجهد الذي يعبّر عن طريق


    القوة الطبيعية التي يملكها كل إنسان سوي، بدون تنمية خاصة لجهازه
    العضوي والذهني، كعمل الحمال. والعمل المركب هو: العمل الذي
    تستخدم فيه الامكانات والخبرة، التي اكتسبت عن طريق عمل سابق،
    كأعمال المهندس والطبيب. فالمقياس العام للقيمة التبادلية هو العمل البسيط.
    ولما كان العمل المركب عملاً بسيطاً مضاعفاً، فهو يخلق قيمة تبادلية أكبر
    مما يخلقه العمل البسيط المجرد. فالعمل في أسبوع الذي ينفقه المهندس
    الكهربائي، على صنع كهربائي خاص، أضخم من عمل المهندس من
    جهد وعمل سابق، بذل في سبيل اكتساب الخبرة الهندسية الخاصة.
    ولكن هل يمكن أن نفسر الفرق بين العمل الفني وغيره على هذا الأساس؟
    إن هذا التفسير الماركسي للتفاوت، بين عمل المهندس الكهربائي
    وعمل العامل البسيط يعني: أن المهندس الكهربائي إذا أنفق عشرين سنة
    مثلاً، في سبيل الظفر بدرجة علمية وخبرة فنية في الهندسة الكهربائية،
    ومارس العمل بعد ( )ذلك عشرين سنة أخرى.. يحصل على قيمة لمجموع
    نتاجه الذي أنجزه خلال العقدين، تساوي القيمة التي يخلقها الحمال عن
    طريق مشاركته في الإنتاج، بحمل الإثقال خلال أربعة عقود وبمعنى آخر:
    أن يومين من عمل الحمال الذي يساهم في الإنتاج بطريقته الخاصة، تعادل
    يوماً واحداً من عمل المهندس الكهربائي، لما يتضمنه هذا اليوم من عمل
    دراسي سابق. فهل هذا هو الواقع الذي نشاهده في مجرى الحياة الإقتصادية؟
    أو هل يمكن لأي سوق أو دولة، الموافقة على مبادلة إنتاج يومين من عمل
    العامل البسيط، بنتاج يوم واحد من عمل المهندس الكهربائي؟!.
    ولا شك أن من حسن حظ الاتحاد السوفياتي، أنه لا يفكر في الأخذ
    بالنظرية الماركسية عن العمل البسيط والمركب، وألا لمني بالدمار إذا أعلن:
    استعداده لإعطاء مهندس، في مقابل كل عاملين بسيطين. ولذلك نجد أن


    العامل الفني في روسيا، قد يزيد راتبه على راتب العامل البسيط، بعشرة
    أضعاف أو أكثر، بالرغم من أنه لم يقض تسعة أضعاف عمر العامل البسيط
    في الدراسة، وبالرغم من توفر الكفاءات الفنية في روسيا بالكمية المطلوبة،
    كتوفر القوى العاملة البسيطة كذلك. فمرد الفرق إذن إلى قانون القيمة،
    وليس إلى ظروف العرض والطلب، وهو فرق كبير لا يكفي لتفسيره
    إدخال العمل السابق في تكوين القيمة.
    وأما المشكلة الثانية(مشكلة قياس نوعي لكفاية العمل، وفقاً للمؤثرات
    النفسية والعضوية والذهنية، التي تختلف بين عامل وآخر) فقد تخلصت
    عنها الماركسية بأخذ المعدل الاجتماعي للعمل، مقياساً للقيمة. فقد كتب
    ماركس يقول:
    ((إن الوقت الضروري اجتماعياً لإنتاج البضائع،
    هو الوقت الذي يقتضيه كل عمل يجري إنتاجه بدرجة وسطية، من المهارة والقوة وفي شروط اعتيادية طبيعية، بالنسبة إلى البيئة الاجتماعية المعينة... إذن فكمية العمل وحدها، أو وقت العمل الضروري، في مجتمع معين
    لإنتاج صنف ما، هي التي تحدد كمية القيمة. وكل
    بضاعة خاصة، تعتبر_ بصورة عامة_ بمثابة نسخة
    وسطية عن نوعها ))( ).
    وعلى هذا الأساس، إذا كان العامل المنتج يتمتع بشروط ترفعه عن
    الدرجة الوسيطة اجتماعياً، يصبح بإمكانه أن يخلق لبضاعته خلال عمل
    ساعة، قيمة أرقى من القيمة التي يخلقها العامل الوسطي خلال تلك الساعة، لأن
    ساعة من عمله تفوق ساعة من معدل العمل الاجتماعي للعمل. فالمعدل


    الاجتماعي للعمل، ولمختلف العوامل المؤثرة فيه، هو المقياس العام للقيمة.
    والخطأ الذي ترتكبه الماركسية بهذا الصدد، هو أنها تدرس المسألة
    دائماً بوصفها مسألة كمية. فالشروط العالية التي تتهيأ للعامل، ليست_
    في نظر الماركسية_ إلا عوامل تساعد العامل، على إنتاج كمية أكبر في
    وقت أقصر، فتصبح الكمية التي ينتجها في ساعة، أوفر من الكمية المنتجة
    في ساعة من معدل العمل الاجتماعي، وبالتالي أكثر قيمة منها. بينما ينتج
    هذا العامل مترين من النسيج في ساعة واحدة، ينتج العامل الوسطي خلال
    تلك الساعة متراً واحداً فقط. فيكون للمترين ضعفا قيمة هذا المتر الواحد،
    لأنهما يعبّران عن ساعتين من العمل الاجتماعي العام، وإن تم إنتاجهما في
    الواقع بساعة واحدة من العمل الممتاز.
    ولكن الشيء الجدير بالملاحظة، هو أن الشروط الذهنية والعضوية
    والنفسية، التي لا يتمتع بها العامل الوسطي... لا تعني دائماً زيادة كمية
    في منتوج العامل الذي يحظى بتلك الشروط. بل قد تعني أحياناً امتيازاً كيفياً
    في السلعة المنتجة. كما إذا كان هناك رسامان، تستغرق عملية التصوير عند
    كل منهما ساعة، ولكن الاستعداد الطبيعي عند أحدهما يجعل الصورة التي
    يرسمها أروع من الصورة الأخرى. فالمسألة هنا ليست مسألة إنتاج كمية
    أضخم في وقت أقصر، بل الذي لا يملك تلك الموهبة الطبيعية لا يستطيع أن
    يأتي بنظير تلك الصورة، ولو ضاعف الوقت الذي ينفقه على عملية التصوير.
    فلا نستطيع إذن القول: بأن الصورة الأكثر روعة تعبر عن ساعتين من
    العمل الاجتماعي العام، فإن ساعتين من العمل الاجتماعي العام لا تكفي
    أيضاً لإنتاج هذه الصورة، التي أبدعها الرسام الموهوب بفضل استعداده
    الطبيعي.
    وهنا نصل إلى النقطة الأساسية في شأن هاتين الصورتين، وهي أنهما
    تختلفان في قيمتهما دون شك في كل سوق، مهما كانت طبيعته السياسية،


    ومهما كانت نسبة العرض فيه إلى الطلب، فإن أحداً لا يقبل أن يستبدل
    الصورة الرائعة بالصورة الأخرى، ولو كان الطلب والعرض متعادلين،
    وهذا يعني: أن الصورة الرائعة تستمد قيمتها من عنصر لا يوجد في الصورة
    الأخرى، وليس هذا العنصر هو كمية العمل، لأن روعة الصورة_ كما
    عرفنا_ لا تعبّر عن عمل كمي زائد، وإنما تعبر عن نوعية العمل المنفق
    على إنتاجها_ فلا يكفي إذن المقياس الكمي للعمل_ أو دقائق الساعة بتعبير
    آخر_ لضبط قيمة السلع، التي تتجسد فيها تلك الكميات المختلفة من
    العمل. فليس من الممكن أن نجد دائماً، في كمية العمل الفردي أو
    الاجتماعي.. تفسيراً لتفاوت السلع في قيمتها التبادلية، لأن مرد هذا التفاوت
    أحياناً إلى الكيف لا إلى الكم، إلى الصفة والنوعية لا إلى عدد ساعات
    العمل.
    [/align]
    يا محوّل الحول والاحوال ، حوّل حالنا إلى أحسن الحال......








  13. #13
    تاريخ التسجيل
    Jul 2004
    الدولة
    هناك
    المشاركات
    28,205

    افتراضي

    [align=center]هذه بعض الصعوبات العلمية التي تعترض طريق ماركس، يبرهن
    على عدم كفاية القانون الماركسي لتفسير القيمة التبادلية. ولكن ماركس
    _ بالرغم من كل هذه الصعاب_ وجد نفسه مضطراً إلى قانونه هذا، كما
    يبدو_ بكل وضوح_ من تحليله النظري للقيمة، الذي استعرضناه في
    مستهل هذا البحث، لأنه حين حاول أن يستكشف الأمر المشترك بين
    السلعتين المختلفتين، كالسرير والثوب.. أسقط من الحساب. المنفعة
    الاستعمالية، وجميع الخصائص الطبيعية والرياضية، لأن السرير يختلف
    عن الثوب في منفعته، وخصائصه الفيزيائية والهندسية. وبدا له_عندئذ_
    أن الشيء الوحيد الذي ظل مشتركاً بين السلعتين، هو العمل البشري المنفق
    خلال إنتاجهما، وهنا يكمن الخطأ الأساسي في التحليل، فإن السلعتين
    المعروضتين في السوق بثمن واحد، وإن كانتا مختلفتين في منفعتهما، وفي
    خصائصهما الفيزيائية والكيميائية والهندسة. ولكنهما بالرغم من ذلك
    مشتركتان في صفة سيكولوجية موجودة بدرجة واحدة فيهما معاً، وهي


    الرغبة الإنسانية في الحصول على هذه السلعة وتلك. فهناك رغبة اجتماعية
    في السرير، ورغبة اجتماعية في الثوب، ومرد هاتين الرغبتين إلى المنفعة
    الاستعمالية، التي يتمتع بها السرير والثوب. فهما وإن كانا مختلفين في
    نوعية المنفعة التي يؤديها كل منها، ولكنهما يشتركان في نتيجة واحدة،
    وهي الرغبة الإنسانية. وليس من الضروري_ في ضوء هذا العنصر المشترك_
    أن يعتبر العمل أساساً للقيمة، بوصفه الأمر المشترك الوحيد بين السلع
    المتبادلة، كما زعمت الماركسية.. ما دمنا قد وجدنا أمراً مشتركاً بين
    السلعتين، غير العمل المنفق على إنتاجهما.
    وبذلك ينهار الاستدلال الرئيسي الذي قدمه لنا ماركس على قانونه،
    ويصبح من الممكن أن تحل الصفة السيكولوجية المشتركة موضع العمل،
    وتتخذ مقياساً للقيمة ومصدراً لها. وعندئذ فقط يمكننا أن نتخلص من
    الصعوبات السابقة التي اعترضت ماركس، وإن نفسر_ في ضوء هذا
    العنصر الجديد المشترك_ الظواهر التي عجز قانون القيمة الماركسي عن
    تفسيرها. فالخط الأثري، والنسخة المطبوعة من تاريخ الكامل، اللذان
    كنا نفتش عن الأمر المشترك بينهما، فلم نجده في العمل، لاختلاف كمية
    العمل المنفقة فيهما.. سوف نجد الأمر المشترك منهما، الذي يفسر قيمتهما
    التبادلية في هذا المقياس السيكولوجي الجديد. فالخط الأثري والنسخة
    المطبوعة من تاريخ الكامل، إنما يتمتعان بقمية تبادلية واحدة، لأن الرغبة
    الاجتماعية موجودة فيهما بدرجة متساوية.
    وكذلك تذوب سائر المشاكل الأخرى في ضوء هذا المقياس الجديد.
    ولما كانت الرغبة في السلعة ناتجة عن منفعتها الاستعمالية، فلا يمكن
    إذن أن نسقط المنافع الاستعمالية من حساب القيمة. ولذلك نجد أن السلعة
    التي ليس لها منفعة، لا تملك قيمة تبادلية إطلاقاً، مهما انفق على إنتاجها
    من عمل. وقد اعترف ماركس نفسه بهذه الحقيقة، ولكنه لم يوضح لنا


    _ولم يكن من الممكن له أن يوضح_ سر هذا الترابط، بين المنفعة الإستعمالية
    والقيمة التبادلية، وكيف دخلت المنفعة الاستعمالية في عملية تكوين القيمة
    التبادلية، مع أنه أسقطها منذ البدء، لأنها تختلف من سلعة لأخرى؟! وأما
    في ضوء المقياس السيكولوجي، فالترابط بين المنفعة والقيمة واضح تماماً،
    ما دامت المنفعة هي أساس الرغبة، والرغبة هي مقياس القيمة ومصدرها
    العام.
    والمنفعة الاستعمالية، وإن كانت الأساس الرئيسي للرغبة، ولكنها
    لا تنفرد بتحديد الرغبة في الشيء فإن درجة الرغبة_ في أي سلعة كانت_
    تتناسب طرداً مع أهمية المنفعة التي تؤديها السلعة. فكلما كانت السلعة أعظم
    منفعة، كانت الرغبة فيها أكثر. وتتناسب درجة الرغبة عكسياً مع مدى
    إمكانية الحصول على السلعة، فكما توفرت إمكانات الحصول على السلعة
    أكثر، تنخفض درجة الرغبة في السلعة، وبالتالي تهبط قيمتها. ومن الواضح
    أن إمكانية الحصول على السلعة تتبع الندرة والكثرة، فقد يكون الشيء
    كثيراً ومتوفراً_ بصورة طبيعية_ إلى الدرجة، التي تجعل من الممكن
    الحصول عليه من الطبيعة دون جهد، كالهواء. وفي هذه الحالة تبلغ القيمة
    التبادلية درجة الصفر، لانعدام الرغبة، ومهما قلّت إمكانية الحصول على
    الشيء، تبعاً لقلة وجوده، أو صعوبة إنتاجه. ازدادت الرغبة فيه وتضخمت
    قيمة( ).

    نقد الماركسية للمجتمع الرأسمالي

    قد يتبادر إلى بعض الأذهان، إننا حين ندرس الملاحظات الماركسية


    حول المجتمع الرأسمالي، إنما نستهدف من وراء ذلك إلى تزييف هذه
    الملاحظات، وتبرير الرأسمالية، نظراً إلى كونها واقعاً معترفاً به في المجتمع
    الإسلامي، الذي يؤمن بالملكية الرأسمالية لوسائل الإنتاج، ويرفض الأخذ
    بمبدأ الملكية الاشتراكية، فما دام الإسلام يحتضن الرأسمالية، فيجب إذن
    على المذهبيين الإسلاميين أن يفندوا مزاعم الماركسية، حول الواقع الرأسمالي
    المعاش في تاريخنا الحديث، ويقدّموا الدليل على خطأ التحليل الماركسي،
    فيما يبرزه من مضاعفات هذا الواقع وتناقضاته، ونتائجه الفظيعة التي
    تشتد وتتفاقم حتى تقضي عليه...
    قد يتبادر إلى الأذهان شيء من هذا، ولكن الواقع أن الموقف الإسلامي
    للباحث، لا يفرض عليه أن ينصب نفسه مدافعاً عن الواقع الرأسمالي المعاش،
    وأنظمته الاجتماعية، وإنما يجب إبراز الجزء المشترك بين المجتمع الإسلامي
    والمجتمع الرأسمالي، ودرس التحليل الماركسي، ليتبين مدى علاقته بهذا
    الجزء المشترك.
    فمن الخطأ إذن ما يتجه إليه بعض المذهبيين الإسلاميين، من الدفاع عن
    واقع الرأسمالية الغربية، وإنكار ما يضج به من أخطاء وشرور، ظناً منهم



    بأن هذا هو السبيل الوحيد لتبرير الاقتصاد الإسلامي، الذي يعترف بالملكية
    الخاصة.
    كما أن من الخطأ أيضاً_ وقد عرفنا أن العامل الاقتصادي ليس هو
    العامل الأساسي في المجتمع_ الطريقة التي اتخذها ماركس في تحليل المجتمع
    الرأسمالي، والكشف عن عوامل الدمار فيه، إذ اعتبر جميع النتائج التي
    تكشّف عنها المجتمع الرأسمالي على مسرح التاريخ، وليدة مبدأ أساسي لهذا
    المجتمع، وهو مبدأ الملكية الخاصة فكل مجتمع يؤمن بالملكية الخاصة،
    يسير حتماً في الاتجاه التاريخي الذي سار فيه المجتمع الرأسمالي، ويمني
    بنفس النتائج والتناقضات.
    وهكذا أرى من الضروري، لتصفية الحساب مع موقف الماركسية من
    المجتمع الرأسمالي، أن نؤكد دائماً على هاتين الحقيقتين:
    أولاً: إن الهدف المذهبي للباحثين المسلمين في الاقتصاد، لا يفرض
    عليهم أن يصححوا أوضاع المجتمع الرأسمالي، ويتنكروا للحقائق المرة التي
    تعصف به.
    وثانياً: إن الواقع التاريخي للمجتمع الرأسمالي الحديث، لا يمكن أن
    يعتبر صورة صادقة لكل مجتمع يسمح بالملكية الخاصة لوسائل الإنتاج.
    ولا أن تعمم النتائج التي ينتهي إليها الباحث من درسه المجتمع الرأسمالي
    الحديث، على كل مجتمع آخر يتفق معه في القول بالملكية الخاصة، وإن
    اختلفت معه في الإطارات والحدود.
    وإنما أدانت الماركسية مبدأ الملكية الخاصة، بكل النتائج التي تمخض
    عنها المجتمع الرأسمالي.. تجاوباً مع فكرتها الأساسية في تفسير التاريخ،
    القائلة: بأن العامل الاقتصادي، الذي تعبر عنه نوعية الملكية السائدة في
    المجتمع، هو حجر الزاوية في الكيان الاجتماعي كله. فكل ما يحدث في


    المجتمع الرأسمالي، تنبع جذوره الواقعية من القاعدة الاقتصادية، من الملكية
    الخاصة لوسائل الإنتاج. فتزايد البؤس وشبكات الاحتكار وفظائع الإستعمار
    وجيوش العاطلين من العمل، واستفحال التناقض في صميم المجتمع،
    كل تلك الأمور نتائج حتمية وحلقات من التسلسل التاريخي، المفروض على
    كل مجتمع يؤمن بالملكية الخاصة.
    وتتلخص وجهة نظرنا حول آراء الماركسية هذه، عن المجتمع الرأسمالي
    في نقطتين:
    إحداهما: أنها تخلط بين الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج، وواقعها
    الرأسمالي المتميزة اقتصادية وسياسية وفكرية معينة فتعتبر مضاعفات
    هذا الواقع الفاسد، نتائج حتمية لكل مجتمع يسمح بالملكية الخاصة.
    والأخرى: أنها على خطأ في الأسس العلمية الاقتصادية المزعومة،
    التي تستمد منها الماركسية طابعها العلمي، في تحليلها لتناقضات المجتمع
    الرأسمالي وتطوراته التاريخية.
    تناقضات الرأسمالية
    ولنبدأ الآن بأهم تناقضات المجتمع الرأسمالي في رأي الماركسية أو
    المحور الرئيسي للتناقض بتعبير آخر، وهو الربح الذي يدره الإنتاج بالأجرة،
    على الرأسماليين من مالكي وسائل الإنتاج. ففي الربح يكمن سر التناقض
    المزعوم، ولغز الرأسمالية كلها، الذي حاول ماركس الكشف عنه في
    القيمة الفائضة. فهو يؤمن بأن البضاعة مدينة بقيمتها للعمل المأجور الذي
    أنفق عليها. فإذا اشترى الرأسمالي كمية من الخشب بدينار، ثم استأجر
    العامل ليصنع من ذلك الخشب سريراً يبيعه بدينارين، فقد حصل الخشب
    على قيمة جديدة. وهي الدينار الثاني، الذي انضم إلى قيمة الخشب الخام.

    ومصدر هذه القيمة الجديدة هو العمل، وفقاً للقانون الماركسي في القيمة.
    فيجب لكي يربح مالك الخشب والأدوات شيئاً، أن لا يدفع إلى العامل إلا
    جزءاً من القيمة الجديدة_ التي خلقها العامل_ بوصفه أجراً على عمله،
    ويحتفظ لنفسه بالجزء الآخر من القيمة، باعتباره ربحاً خاصاً به. وعلى هذا
    الأساس يصبح من الضروري دائماً، أن ينتج العامل قيمة تزيد على أجرته.
    وهذه الزيادة هي التي يسميها ماركس بالقيمة الفائضة، ويعتبرها المصدر
    العام لأرباح الطبقة الرأسمالية كلها.
    ويزعم ماركس_ هو يفسر لنا الربح في هذا الضوء_: أن هذا هو
    التفسير الوحيد للمسألة الرأسمالية كلها. فإننا إذا حلّلنا عملية الإنتاج الرأسمالي،
    نجد أن المالك اشترى من التاجر كل ما يحتاج إليه الإنتاج، من مواد وأدوات،
    واشترى من العامل كل ما يحتاجه الإنتاج، من طاقة بشرية. وهاتان مبادلتان
    إذا فحصنا التبادل فيهما، وجدنا أنه من ناحية المنفعة الاستعمالية، يمكن
    أن ينتفع كلا الشخصين المتبادلين، لأن كلا منهما يستبدل بضاعة_ ذات
    منفعة استعمالية_ لا يحتاجها، ببضاعة يحتاج إلى منفعتها. ولكن هذا
    لا ينطبق على القيمة التبادلية، فإن تبادل البضائع في شكله الطبيعي هو تبادل متعادلات، وحيث يوجد التعادل لا يمكن أن يوجد الربح، لأن كل فرد
    يعطي بضاعة ويتسلم بدلاً عنها بضاعة ذات قيمة تبادلية مساوية، فمن أين
    يحصل على قيمة فائضة أو على ربح؟!
    ويستمر ماركس في تحليله مؤكداً: أن من المستحيل فرض حصول
    البائع أو المشتري على الربح اعتباطاً، لتمتعه بامتياز بيعه للبضاعة بأعلى من
    ثمن اشترائها، أو اشترائه لها بأرخص من قيمتها، لأنه في النتيجة سوف
    يخسر ما ربحه، حينما يبدل دوره فينقلب مشترياً بعد أن كان بائعاً، أو
    بائعاً بعد أن كان مشترياً. فلا يمكن إن تتشكل قيمة فائضة، لا عن


    كون البائعين يبيعون البضائع بأكثر من قيمتها، ولا عن كون الشارين
    يشرونها بأقل من قيمتها.
    وليس من الممكن أيضاً القول بأن المنتجين يحصلون على قيمة فائضة،
    لأن المستهلكين يدفعون ثمن البضائع أغلى من قيمتها، فيكون لأصحاب
    البضائع_ بصفتهم منتجين_ إمتياز البيع بسعر أغلى. فإن هذا الامتياز
    لا يفسر اللغز، لأن كل منتج يعتبر من ناحية أخرى مستهلكاً فيسخر
    بصفته مستهلكاً ما يربحه بوصفه منتجاً.
    وهكذا ينتهي ماركس من هذا التحليل إلى: أن القيمة الفائضة التي
    يربحها الرأسمالي، ليست إلا جزءاً من القيمة التي أسبغها عمل العامل على
    المادة، وقد ظفر المالك بهذا الجزء لسبب بسيط، وهو أنه لم يشتر من العامل
    _ الذي استخدمه عشر ساعات_ عمله في هذه المدة، ليكون ملزماً بالتعويض
    عن عمله بما يساويه، أو بكل القيمة التي خلقها بتعبير آخر. فإن العمل
    لا يمكن أن يكون سلعة يشتريها الرأسمالي بقيمة تبادلية معينة_ لأن العمل هو
    جوهر القيمة عند ماركس، فكل الأشياء تكتسب قيمتها من العمل، وأما
    العمل فلا يكتسب قيمته من شيء، فليس هو سلعة إذن_ وإنما السلعة التي
    اشتراها المالك من العامل هي قوة العمل، هذه السلعة التي تحدد قيمتها بكمية
    العمل اللازم للحفاظ على تلك القوة وتجديدها، أي بكمية العمل الضروري
    لإعاشة العامل والمحافظة على قواه. فالمالك اشترى من العامل إذن قوة عمل
    عشر ساعات، لا العمل نفسه. وقد اشترى تلك القوة بالقيمة التي تضمن
    للعامل خلق تلك القوة وتجديدها، وهي الأجور. ولما كان عمل عشر
    ساعات، أكثر من العمل الذي يتوقف عليه تجديد قوى العامل وإعاشته،
    فسوف يبقى الرأسمالي محتفظاً بالفارق بين قيمة قوة العمل التي سلمها إلى
    العامل، والقيمة التي خلقها العمل التي تسلمها من العامل. وهذا الفارق
    هو فائض القيمة الذي يربحه الرأسمالي.

    وفي هذا الضوء يعتقد ماركس بأنه كشف عن التناقض الرئيسي في
    جهاز الرأسمالية، الذي يتمثل: في أن المالك يشتري من العامل قوة عمله،
    ولكنه يتسلم منه العمل نفسه وإن العامل هو الذي يخلق القيمة التبادلية كلها،
    ولكن المالك يضطره إلى التنازل والاكتفاء بجزء من القيمة التي خلقها،
    ويسرق الجزء الآخر بوصفه فائضاً، وعلى هذا الأساس يقوم الصراع
    الطبقي بين الطبقة المالكة والطبقة العاملة.
    وهذه النظرية(نظرية القيمة الفائضة) تعتبر قبل كل شيء: أن المنبع
    الوحيد لقيمة السلع هو العمل الذي أهرق فيها. فإذا تسلم العامل كل القيمة
    التي خلقها في السلعة، لم يبق لغيره شيء يربحه. فيجب لكي يوجد ربح
    للمالك، أن يقتطع نصيباً لنفسه من القيمة التي أوجدها العامل في منتوجه.
    فنظرية القيمة الفائضة_ إذن_ ترتكز بصورة أساسية، على قانون القيمة
    عند الماركسية. وهذا الارتباط بين النظرية والقانون يوحد مصيرهما،
    ويجعل من فشل القانون علمياً سبباً لسقوط النظرية، وسقوط كل النظريات
    في الاقتصاد الماركسي، التي تقوم على أساس ذلك القانون.
    * * *
    وقد استطعنا أن نعرف في دراستنا في القانون القيمة عند ماركس، بوصفه
    العمود الفقري للاقتصاد الماركسي كله: أن العمل ليس هو الجوهر الأساسي
    للقيمة التبادلية، وإنما تقاس القيمة بمقياس ذاتي سيكولوجي، وهو الرغبة
    الاجتماعية، وإذا كانت الرغبة هي جوهر القيمة التبادلية ومصدرها،
    فلن نضطر إلي تفسير الربح_ دائماً_ بكونه جزءاً من القيمة التي يخلقها
    العمل، كما صنع ماركس. بل لا يمكن أن نغفل حينئذ_ عن عملية تكوّن
    القيمة للسلع_ نصيب المواد الطبيعية الخام_ ذات الندرة النسبية_ من
    قيمة تلك السلع. فالمادة الخشبية مثلاً، بوصفها مادة طبيعية نادرة نسبياً
    _ وليست كالهواء_ تتمتع بقوة تبادلية، وتساهم في تكوين القيمة التبادلية

    للسرير الخشبي، في ضوء المقياس السيكولوجي للقيمة، بالرغم من عدم
    انفاق عمل بشري في سبيل إنتاجها. وهكذا كل المواد الطبيعية التي تتجسد
    في مختلف السلع المنتجة، والتي أهملتها الماركسية تماماً، ولم تؤمن بأي دور
    لها في تكوين القيم التبادلية للسلع، زاعمة: أنها ليست ذات قيمة تبادلية،
    ما دامت لا تعبّر عن عمل منفق على إيجادها.
    صحيح أن المادة الخام، وهي في باطن الأرض مثلاً وبصورة مجردة
    عن العمل البشري. تبدو تافهة، ولا تكتسب أهمية خاصة إلا عند امتزاجها
    بالعمل البشري. ولكن هذا لا يعني أن المادة ليس لها قيمة تبادلية، وأن
    القيمة كلها ناتجة عن العمل وحده، كما ترى الماركسية، إذ كما ينطبق هذا
    الوصف على المادة المعدنية في الأرض، كذلك ينطبق أيضاً على العمل المنفق
    على استخراج المادة وتعديلها. فإن هذا العمل إذا عزل عن تلك المادة
    المعدنية، لم تكن له قيمة إطلاقاً. فمن السهل أن نتصور تفاهة هذه الكمية
    من العمل البشري، التي انفقت على استخراج معدن كالذهب، لو أنها
    كانت منفقة في مجالات العبث والمجون، أو على استخراج صخور لا تجدي
    نفعاً. فالعنصران إذن( المادة والعمل) متفاعلان متضامنان، في تكوين
    القيمة التبادلية للكمية المستخرجة، من المعدن مثلاً، ولكل منها دور
    إيجابي في تكوين بضاعة الذهب التي تتمتع بقيمة تبادلية خاصة، وفقاً
    للمقياس السيكولوجي لها.
    وكما يصبح للمواد نصيبها من قيمة السلع في ضوء المقياس السيكولوجي
    للقيمة، كذلك يجب أن تؤخذ بعين الاعتبار مختلف عناصر الإنتاج.
    فالناتج الزراعي لا يستمد قيمته التبادلية، من كمية العمل المنفقة على إنتاجه
    فحسب، بل أن للأرض أثراً في هذه القيمة، بدليل أن تلك الكمية من
    العمل نفسها، قد تنفق في زراعة الأرض بما هي أقل صلاحية له، فتحصل
    على ناتج لا يتمتع بنفس تلك القيمة التبادلية التي يملكها الناتج الأول. وإذا


    كان للمواد الخام وعناصر الإنتاج المختلفة، أثر في تكوين قيمة السلعة،
    فليست القيمة كلها_ إذن_ نابعة من العمل، وليس صاحب العمل هو
    المصدر الوحيد لقيمة السلعة، وبالتالي ليس من الواجب أن تكون القيمة
    الفائضة (الربح) جزءاً من القيمة التي يخلقها العامل، ما دام يمكن أن تكون
    تعبيراً، عما لمواد الإنتاج الطبيعية من نصيب في قيمة السلعة المنتجة.
    ويبقى بعد ذلك سؤال واحد، يتصل بهذه القيمة التي تستمدها السلعة
    من الطبيعة: فلمن تكون هذه القيمة؟، ومن الذي يملكها؟، وهل يملكها
    العامل أو شخص سواه؟. وهذه نقطة أخرى خارجة عن نطاق البحث،
    وإنما النقطة التي كنا ندرسها هي علاقة القيمة الفائضة بالعمل، وهل يجب
    أن تكون جزءاً من القيمة التي يخلقها العمل، أو يمكن أن تكون نابعة من
    مصدر آخر؟. فماركس حين اعتبر العمل أساساً وحيداً للقيمة، لم يستطع
    أن يفسر القيمة الفائضة (الربح)، إلا على اقتطاع جزء من القيمة التي يخلقها
    العامل. وأما في ضوء مقياس آخر للقيمة، كالمقياس السيكولوجي، فمن
    الممكن تفسير القيمة الفائضة، دون أن نضطر إلى اعتبارها جزءاً من القيمة
    التي يخلقها العامل. فبالمجتمع تزداد_ دائماً القيم التبادلية التي يملكها_
    كما تزداد ثروته باستمرار_ عن طريق اندماج كميات جديدة من العمل
    بالمواد الطبيعية، وتكوين سلع جاهزة عن هذا الطريق، تحمل قيمة تبادلية
    مستمدة من العنصرين المندمجين فيها، من العمل والمادة الطبيعية. الأمرين
    اللذين استطاعا_ بالاندماج والإشتراك_: أن يولدا قيمة جديدة، لم تكن
    توجد في كل منهما حالة وجوده بصورة مستقلة عن آخر.
    وهناك شيء آخر أقصته الماركسية من حسابها، لدى محاولة استكشاف
    سر الربح، دون أن نجد مبرراً لإقصائه، حتى إذا أخذنا بقانون القيمة عند
    ماركس، وهو: القدر الذي يخلقه المالك نفسه من قيمة، بسبب مواهبه
    التنظيمية والإدارية، التي يستعملها في تسيير المشروع الصناعي أو الزراعي.

    وقد أثبتت التجارب بكل وضوح_: أن مشاريع متساوية في رؤوس
    أموالها، والأيدي العاملة التي تشتغل فيها.. قد تختلف اختلافاً هائلاً في
    الأرباح التي يجنيها، طبقاً لكفاءات التنظيم. فالإدارة عنصر عملي ضروري
    في عملية الإنتاج ونجاحها، ولا يكفي لتحقيق عملية الإنتاج ونجاحها أن
    تتوفر القوى العاملة وأدوات الإنتاج والمواد اللازمة فحسب، بل تحتاج
    عجلة الإنتاج إلى قائد، يعين المقدار اللازم وجوده من القوى العاملة والمواد
    والأدوات، ويحدد النسب التي تمتزج بها جميعاً، ويوزع الواجبات على
    مختلف أنواع العمال والموظفين، ويشرف إشرافاً تاماً على سير العملية
    الإنتاجية، ثم يبحث_ بعد ذلك_ عن منافذ لتوزيعها وإيصالها إلى
    المستهلكين. فإذا كان العمل هو جوهر القيمة، فيجب أن يكون للعمل
    القيادي والتنظيمي، نصيب من القيمة التي يخلقها العمل في السلعة. ولا
    يمكن لماركس أن يفسر الربح، على ضوء نظرية القيمة الفائضة، إلا بالنسبة
    إلى القيمة التي يربحها الرأسمالي الربوي، أو المشاريع الرأسمالية التي لا يساهم
    فيها المالك بإدارة وتنظيم.
    وإذا انهارت نظرية القيمة الفائضة، تبعاً لانهيار أساسها العلمي المتمثل
    في قانون القيمة عند الماركسية... فمن الطبيعي أن نرفض حينئذ التناقضات
    الطبقية، التي تستنتجها الماركسية من هذه النظرية، كالتناقض بين العامل
    والمالك بوصفه سارقاً يقتطع من العامل الجزء الفائض من القيمة التي يخلقها
    والتناقض بين ما يشتريه المالك من العامل وما يتسلمه منه، إذ يشتري منه
    _ في زعم الماركسية_ طاقة العمل، ويتسلم منه العمل نفسه.
    فالتناقض الأول يتوقف على تفسير الربح، في ضوء نظرية القيمة
    الفائضة، وأما في ضوء آخر، فليس من الضروري أن يكون الربح جزءاً
    من القيمة التي يخلقها العامل لنفسه، ما دام للقيمة مصدر غير العمل، وبالتالي
    ليس من الضروري في نظام العمل بالأجرة، أن يسرق المالك من العامل


    شيئاً من القيمة التي يخلقها، ليكون الصراع الطبقي بين المالك والعامل قضاءاً
    محتوماً في هذا النظام. صحيح أن من مصلحة المستأجرين تخفيض الأجور،
    ومن مصلحة الأجراء رفعها، فهم مختلفون في مصالحهم كما قد تختلف
    مصالح الأجراء أو المستأجرين أنفسهم.. وصحيح أن أي ارتفاع أو هبوط
    في الأجرة يعني إضراراً بالجانب الآخر في الوقت الذي يستفيد منه أحد
    الجانبين... ولكن هذا يختلف عن المفهوم الماركسي للتناقض الطبقي، الذي
    يجعل التناقض والابتزاز داخلاً في صميم العلاقة، بين المستأجر والأجير،
    مهما كان لونها وشكلها. فالتناقض الطبقي في طابعه العلمي الموضوعي
    الصارم القائم على أسس الاقتصاد الماركسي، هو الذي ينهار بانهيار تلك
    الأسس. وأما التناقض بمعنى اختلاف المصالح، الذي يجعل أحد الفريقين
    يكافح في سبيل رفع الأجور، والفريق الآخر يحاول الاحتفاظ بمستواها..
    فهو تناقض ثابت، ولا يرتبط بالأسس العلمية المزعومة للاقتصاد الماركسي،
    بل هو نظير اختلاف مصالح البائعين والمشترين، الذي يدفع بالبائعين إلى
    محاولة رفع الأثمان، بينما يعمل المشترون لمقابلة ذلك. وكذلك اختلاف
    مصالح العمال الفنيين وغيرهم إذ أن من مصلحة الفني أن يحتفظ لعمله
    بمستوى عال من الأجر، بينما يكون من مصلحة سائر العمال أن يطالبوا
    بمساواة كاملة في الأجور.
    وأما التناقض الثاني، بين ما يشريه المالك من العامل وما يسلّمه إليه..
    فهو يتوقف على الرأي الماركسي السابق، القائل بأن السلعة التي يشتريها
    المالك من العامل_ في مجتمع يسمح بالعمل المأجور_ هي قوة العمل،
    لا العمل نفسه، كما يردد ذلك الاقتصاد الرأسمالي المبتذل، على حد تعبير
    الماركسية. لأن العمل في رأس ماركس هو جوهر القيمة ومقياسها، فلا
    يمكن أن تكون له قيمة قابلة للقياس والتقدير، حتى يباع بتلك القيمة،
    وعلى العكس من ذلك قوة العمل، فإنها تعبر عن كمية من العمل المنفق


    عليها_ أو على إعاشة العامل بتعبير آخر_ فتقاس قيمة قوة العمل، بالعمل
    المنفق في سبيلها، وتصبح بذلك سلعة ذات قيمة، يمكن أن يشتريها المالك
    من العامل بتلك القيمة.
    ولكن الحقيقة التي يقررها الاقتصاد الإسلامي بهذا الصدد، هي أن
    المالك لا يتملك ولا يشتري من العامل عمله، كما يرى الاقتصاد الرأسمالي
    المبتذل، على حد تعبير الماركسية، ولا يشتري أيضاً قوة العمل، كما يقرر
    الاقتصاد الماركسي، فلا العمل ولا قوة العمل هو السلعة أو المال الذي
    يشتريه المالك من العامل، ويدفع الأجرة ثمناً له.. وإنما يشتري المالك من
    العامل منفعة عمله، أي الأثر المادي الذي ينتجه العمل في المادة الطبيعية.
    فإذا استأجر مالك الخشب والأدوات عاملاً، ليصنع من ذلك الخشب
    سريراً، فهو يدفع له الأجرة ثمناً للهيئة أو التعديل، الذي سوف يطرأ على
    الخشب فيجعله سريراً، نتيجة لعمل العامل. فهذا التعديل الذي يصبح
    الخشب به سريراً، هو الأثر المادي للعمل، وهو بالتالي منفعة العمل التي
    يشتريها المستأجر من العامل بالأجرة. فمنفعة العمل شيء مغاير للعمل ولطاقة
    العمل، وهي كذلك ليست جزءاً من كيان الإنسان، وإنما هي بضاعة لها
    قيمة، بمقدار ما لتلك المنفعة من أهمية، وفقاً للمقياس السيكولوجي العام
    للقيمة( مقياس الرغبة الاجتماعية). فالمالك إذن يشتري من العامل منفعة
    عمله، ويتسلم هذه المنفعة ضمن الخشب الذي أصبح بالتعديل سريراً في
    مثالنا السابق، دون أي تناقض بين ما يشتريه وما يتسلمه( ).
    ولا يفوتنا أن نلاحظ الفرق بين منفعة العمل، والمواد الطبيعية الخام
    النادرة نسبياً، كالخشب والمادة المعدنية. فإنها وإن كانت جميعاً ذات
    قيم تبادلية، وفقاً للمقياس العام في القيمة، غير أن منفعة العمل_ وهي


    حالة التعديل تحصل في المادة الطبيعية، نتيجة للعمل_ كالخشب الذي
    يصبح سريراً_ بوصفها ذات بضاعة ناتجة عن عمل إنساني، تتمتع بعنصر
    الإرادة والاختيار. فمن الممكن للإرادة الإنسانية، أن تتدخل في جعل
    هذه البضاعة نادرة، وبالتالي في رفع ثمنها، كما تقوم به نقابات العمال في
    البلدان الرأسمالية. ولهذا يبدو_ لأول وهلة_ كأن هذه البضاعة تحدد
    أثمانها اعتباطاً، ووفقاً لمدى القوى السياسية لتلك النقابات، ولكن الواقع
    أنها تخضع لنفس المقياس العام للقيمة، غير أن الإدارة الإنسانية بإمكانها أن
    تتدخل أحياناً، فتجعل المقياس يرتفع، وتزداد بذلك الأجور.
    * * *
    [/align]
    يا محوّل الحول والاحوال ، حوّل حالنا إلى أحسن الحال......








  14. #14
    تاريخ التسجيل
    Jul 2004
    الدولة
    هناك
    المشاركات
    28,205

    افتراضي

    [align=center]ولنواصل الآن_ بعد أن درسنا نظرية القيمة الفائضة_ استعراض
    المراحل الأخرى من تحليل الماركسية للمجتمع الرأسمالي. فقد عرفنا_ حتى
    الآن_: أن ماركس وضع نظرية القيمة الفائضة، على أساس قانونه الخاص
    في القيمة، وفسر في ضوئها طبيعة الربح الرأسمالي، وانتهى من ذلك إلى أن
    التناقض الأساسي في الرأسمالية، يكمن في الربح الرأسمالي، بوصفه سرقة
    يقتطعها المالك من القيمة التي يخلقها العامل المأجور.
    وحين فرغ ماركس من فكرتيه الأساسيتين المتشابكتين)قانون
    القيمة، ونظرية القيمة الفائضة)، واطمأن إلى كشفهما عن التناقض الأساسي
    في الرأسمالية بدأ يستنتج في ضوئها قوانين هذا التناقض التي تسوق الرأسمالية
    إلى حتفها المحتوم.
    فأول هذه القوانين: قانون الصراع والكفاح الطبقي الذي يخوضه
    الأجراء ضد الطبقة الرأسمالية. والفكرة في هذا القانون ترتكز على التناقض
    الأساسي، الذي كشف عنه نظرية القيمة الفائضة: بين ما يدفعه الرأسمالي
    إلى العامل من أجور، وما يتسلمه من نتاج. فحيث أن الرأسمالي يقتطع من
    العامل جزءاً من القيمة التي يخلقها، ولا يدفع إليه إلا جزءاً منها.. فهو

    يقف من العامل موقف السارق، وهذا يؤدي_ بطبيعة الحال_: إلى قيام
    صراع عنيف بين الطبقة المسروقة والطبقة السارقة.
    ويجيء بعد ذلك دور قانون آخر، ليعمل في تشديد هذا الصراع
    ومضاعفته، وهو قانون: انخفاض الربح، أو بكلمة، أخرى: اتجاه معدل
    الأرباح دائماً إلى الهبوط.
    وترتكز الفكرة في هذا القانون، على الاعتقاد بأن التنافس بين مشاريع
    الإنتاج، الذي يسود المراحل الأولى من الرأسمالية، يؤدي إلى المزاحمة
    والسباق بين المنتجين الرأسماليين أنفسهم ومن طبيعة هذا السباق أن يدفع
    الإنتاج الرأسمالي إلى الأمام، ويجعل كل رأسمالي حريصاً على إنماء مشروعه
    وتحسينه سعياً وراء المزيد من الربح، ولا يجد كل فرد من الطبقة المالكة
    _ لأجل هذا_ مناصاً عن تحويل جزء من أرباحه إلى رأس مال، والإستفادة
    بصورة مستمرة من التقدم العلمي والتكنيكي، في تحسين الأدوات والآلات،
    أو استبدادلها بما هي أكثر كفاءة وأضخم إنتاجاً، ليستطيع أن يواكب حركة
    الإنتاج الرأسمالي مع منافسيه الآخرين، ويعصم نفسه من السقوط في منتصف
    الطريق. فهناك إذن في وضع المجتمع الرأسمالي قوة ترغم الرأسمالي على
    تراكم رأس المال، وتحسين الأدوات وتنميتها، وهي قوة المزاحمة بين
    الرأسماليين أنفسهم.
    وينبثق عن هذه الضرورة لتراكم رأس المال، قانون اتجاه معدل
    الأرباح دائماً إلى الهبوط. لأن الإنتاج الرأسمالي_ في نموه_ يتزايد اعتماده
    على الآلات والمعدات، تبعاً للتقدم العلمي في هذا المضمار، وتقل الكمية
    التي يحتاجها من العمل بصورة متناسبة، مع تقدم الآلات وتكاملها. وهذا
    يعني انخفاض القيمة الجديدة التي يخلقها الإنتاج، تبعاً لانخفاض كمية العمل
    المنفق في هذا السبيل، فينخفض الربح الذي يعبّر عن جزء من تلك القيمة
    الجديدة.

    ولا يملك الرأسماليون إزاء هذه الضرورة( ضرورة انخفاض الربح)
    من علاج، إلا مطالبة العمال بكميات أكبر من العمل بنفس الأجرة السابقة،
    أو تخفيض نصيبهم من القيمة الجديدة التي يخلقونها، بالتقليل من أجورهم.
    وبذلك يشتد الصراع بين الطبقتين. ويصبح تزايد البؤس والحاجة في أوساط
    العمال، قانوناً حتمياً في المجتمع الرأسمالي.
    ومن الطبيعي أن تنجم بعد ذلك أزمات شديدة، لعدم تمكّن الرأسماليين
    من تصريف بضائعهم، نتيجة لانخفاض مستوى القدرة الشرائية عند الجماهير
    ويصبح من الضروري التفتيش عن أسواق خارج الحدود، فتبدأ الرأسمالية
    مرحلتها الاستعمارية والاحتكارية، في سبيل ضمان أرباح الطبقة الحاكمة.
    ويتهاوى تحت نير الاحتكار الضعفاء نسبياً، من الطبقة البورجوازية،
    فيضيق نطاق هذه الطبقة تدريجياً، بينما يتسع نطاق الطبقة الكادحة، إذ
    تتلقى بكل حرارة أولئك البورجوازيين الضعفاء، الذين يخرّون صرعى
    في معركة الاحتكار الرأسمالي. ومن ناحية أخرى: تبدأ الطبقة البورجوازية
    تفقد مستعمراتها، بفضل الحركات التحررية في تلك المستعمرات، وتتفاقم
    الأزمات شيئاً بعد شيء، حتى يصل المنحنى التاريخي إلى النقطة الفاصلة،
    ويتحطم الكيان الرأسمالي كله، في لحظة ثورية يشعل نارها الكادحون والعمال.
    * * *
    هذه صورة ملخصة عن مراحل التحليل الماركسي للرأسمالية، يمكننا
    الآن تحليلها في ضوء دراستنا السابقة.
    فمن الملاحظ بوضوح أن قانون الصراع الطبقي، القائم على أساس
    التناقض الكامن في الربح، يتوقف مصيره على نظرية القيمة الفائضة. فإذا
    انهارت هذه النظرية_ كما رأينا_ تلاشى التناقض العلمي المزعوم وبطلت
    فكرة الصراع الطبقي المستوحاة من ذلك التناقض.

    وأما قانون انخفاض الربح، فهو نتيجة للقاعدة المركزية في الاقتصاد
    الماركسي، وهي قانون القيمة. فإن ماركس يرى في إنخفاض كمية العمل
    المنفقة خلال الإنتاج، بسبب تحسين الآلات وكثرتها، سبباً لانخفاض قيمة
    السلعة وضآلة الربح، لأن القيمة ليست إلا وليدة العمل، فإذا قلت كمية
    العمل بسبب تزايد الآلات، انخفضت القيمة وتقلص الربح، الذي يعبر
    عن جزء من القيمة المنتجة. وإذا كان قانون انخفاض الربح مرتكزاً على
    تلك القاعدة المركزية القائلة: أن العمل هو الجوهر الوحيد للقيمة،
    فيسقط تبعاً لسقوط تلك القاعدة، في دراستنا السابقة، ويصبح من الممكن
    علمياً أن يتناقض معدل الربح بزيادة الآلات والمواد الخام، وانخفاض
    كمية العمل، ما دام العمل ليس هو الجوهر الوحيد للقيمة.
    ولنأخذ_ بعد ذلك_ قانون البؤس المتزايد. إن هذا القانون يقوم
    على أساس التعطل، الناتج عن إحلال الآلات والوسائل الحديثة محل العمال،
    في عملية الإنتاج فكل جهاز أو تحسين جديد في الجهاز، يقذف بعدد
    من العمال إلى الشارع. ولما كانت حركة الإنتاج في تقدم مستمر، فسوف
    ينمو جيش العاطلين الذي يطلق عليه ماركس إسم: الجيش الإحتياطي
    للرأسماليين، وينمو تبعاً له البؤس والفاقة، والموت جوعاً هنا وهناك.
    وفي الحقيقة أن هذا القانون استمده ماركس من تحليل(ريكاردو)
    للآلات، وأثرها على حياة العمال. فقد سبق(ريكاردو) إلى نظرية التعطل،
    بسبب تضاءل الحاجة إلى الأيدي العاملة، بعد صنع المقدار المطلوب من
    الآلات الأكثر كفاية. وقد أضاف ماركس إلى ذلك ظاهرة أخرى،
    تنجم عن إحلال الآلات محل العمل، وهي إمكان إشغال أي إنسان سوي
    في عملية الإنتاج الآلي، حتى النساء والأطفال، دون حاجة إلى خبرة
    سابقة، وبهذا يستبدل العمال الماهرون بغيرهم، بأجور أرخص، وتهبط

    قدرة العمال المساومة في الأجور، وبالتالي يزداد البؤس ويتفاقم يوماً
    بعد يوم.
    وحينما وجد الماركسيون_ بعد ماركس_:أن البؤس في المجتمعات
    الرأسمالية والأوروبية والأمريكية، لا ينمو ولا يشتد وفقاً لقانون ماركس،
    اضطروا إلى تأويل القانون، فزعموا: أن البؤس النسبي في تزايد، وإن
    كانت حالة العمال إذا أخذت بصورة منعزلة عن حالة الرأسماليين...
    تتحسن على مر الزمن، بسبب شتى المؤثرات والعوامل، وفي هذا نجد
    مثالاً من عدة أمثلة، بيّناها خلال دراستنا لخلط الماركسية، بين قوانين
    الإقتصاد والحقائق الإجتماعية، والدمج بينهما بطريقة تؤدي إلى نتائج
    خاطئة، بسبب إصرار الماركسية على تفسير المجتمع كله في ضوء الظواهر
    الإقتصادية. ولنفترض مثلاً: أن الحالة النسبية للعمال تتردى على مر الزمن
    _ أي حالتهم بالنسبة إلى الرأسماليين_ ولكنها من ناحية أخرى_ بما هي
    حالة منظوراً إليها بصورة مستقلة_ تتحسن وتزداد رخاء وسعة.. فمن
    حق الماركسية_ إذا صح هذا_ أن تعبر عن هذه الظاهرة تعبيراً اقتصادياً
    محدداً، ولكن ليس من حقها أن تعبر عنها تعبيراً اجتماعياً فتعلن عن ضرورة
    تزايد البؤس في المجتمع. فإن تردي الحالة النسبية لا يعني بؤساً، ما دامت
    تتحسن بصورة مستقلة. وإنما اضطرت الماركسية إلى هذا التعبير بالذات،
    لتصل عن طريق ذلك إلى استكشاف القوة الحتمية الدافعة إلى الثورة، وهي
    البؤس المتعاظم باستمرار. ولم تكن الماركسية لتصل إلى هذا الكشف،
    لو لم تستعر للظواهر الاقتصادية أسماء اجتماعية، ولو لم تطلق على حالة
    التردي النسبي إسم: البؤس:
    وأخيراً، فما هي أسباب الحاجة والفاقة، التي كان يجدها ماركس
    مخيمة على المجتمع الرأسمالي.
    إن الحاجة والفاقة وألوان الفقر والتسكع، لم تنشأ عن السماح بالملكية


    الخاصة لوسيلة الإنتاج، وإنما نشأت عن الإطار الرأسمالي لهذه الملكية،
    عن اكتساح هذا الملكية الخاصة لكل وسائل الإنتاج، وعدم الإعتراف
    بمبدأ الملكية العاملة إلى جانبه، ولا بحقوق ثابتة في الأموال الخاصة للضمان الإجتماعي، ولا بحدود خاصة لتصرفات المالكين في أموالهم. وأما إذا
    سمح المجتمع بالملكية الخاصة لوسيلة الإنتاج، ووضع إلى جانب ذلك
    مباديء الملكية العامة لقسم كبير من وسائل الإنتاج، والضمان الإجتماعي،
    والحرية الإقتصادية المحدودة بحدود من المصلحة العامة، تحول دون تمركز
    الأموال في أيدي فئة قليلة.. أما إذا قام المجتمع بذلك كله، فلن يوجد
    في المجتمع الذي يوفق بين هذه المباديء، ظل للبؤس أو ظاهرة من ظواهر
    الحاجة والشقاء التي نبعت من طبيعة النظام الرأسمالي في المجتمعات الأوروبية.
    * * *
    وأما الاستعمار، فقد رأينا أن الماركسية تفسره تفسيراً اقتصادياً خالصاً
    أيضاً فتعتبره نتيجة حتمية للمرحلة العليا من الرأسمالية، حين تعود الأسواق
    والخيرات الداخلية، غير كافية لتمشية مصالح الطبقة الرأسمالية، فتضطر
    إلى امتلاك أسواق وخيرات البلاد الخارجية، عن طريق الاستعمار.
    ولكن الواقع: أن الاستعمار ليس تعبيراً اقتصادياً عن المرحلة المتأخرة
    من الرأسمالية، وإنما هو التعبير العملي بصورة أعمق عن العقلية المادية،
    بمقاييسها الخلقية، ومفاهيمها عن الحياة، وأهدافها وغاياتها، فإن هذه
    العقلية هي التي جعلت الحصول على أكبر ربح مادي ممكن، هو الهدف
    الأعلى، بقطع النظر عن نوعية الوسائل، وطابعها الخلقي، ونتائجها في
    المدى البعيد.
    والدليل على هذا من الواقع، أن الاستعمار بدأ منذ بدأت الرأسمالية
    وجودها التاريخي في المجتمعات الأوروبية، بعقليتها ومقاييسها، ولم ينتظر


    حتى تصل الرأسمالية إلى مرحلتها العليا، وليكون تعبيراً عن ضرورة اقتصادية
    خالصة. فقد اقتسمت الدول الأوروبية البلاد الضعيفة، في مطلع الرأسمالية
    بكل وقاحة واستهتار. فكان لبريطانيا الهند وبورما وجنوب أفريقيا ومصر
    والسودان وغيرها.. ولفرنسا الهند الصينية والجزائر ومراكش وتونس
    ومدغشكر وغيرها من المستعمرات، وكان لألمانيا قطاعات في غربي
    أفريقيا وجزر الباسفيك، ولإيطاليا طرابلس الغرب والصومال، ولبلجيكا
    بلاد الكونغو، ولروسيا قطاعات في آسيا، ولهولندا جزائر الهند.
    فالسبب الأصيل والأسبق للاستعمار، يكمن في الواقع الروحي والمزاج
    الخلقي للمجتمع، لا في مجرد السماح بالملكية الخاصة لوسيلة الإنتاج. فإذا
    سمح بهذه الملكية في مجتمع يتمتع بواقع روحي وخلقي وسياسي، يختلف
    عن الواقع الرأسمالي.. فليس الاستعمار بمفهومه الرأسمالي قانوناً حتمياً له.
    وأما الاحتكار، فهو الآخر ليس_ أيضاً_ نتيجة حتمية للسماح بالملكية
    الخاصة لأداة الإنتاج، وإنما هو نتيجة للحريات الرأسمالية بشكلها المطلق،
    وللمبدأ القائل: بعدم جواز التدخل في مجرى الحياة الإقتصادية للناس.
    أما حين توضع للملكية الخاصة قيودها وحدودها، ويجعل النشاط
    الإقتصادي تحت مراقبة دقيقة، تستهدف الحيلولة دون الإحتكار وتحكم
    فئة قليلة في الأسواق التجارية. فسوف لا يجد الاحتكار طريقة الرأسمالي
    المعبد، إلى التحطيم والتدمير.
    [/align]
    يا محوّل الحول والاحوال ، حوّل حالنا إلى أحسن الحال......








  15. #15
    تاريخ التسجيل
    Jul 2004
    الدولة
    هناك
    المشاركات
    28,205

    افتراضي

    [align=center]
    المذهب الماركسي
    تمهيد
    قلنا في مستهل هذا الكتاب: إن المذهب الإقتصادي عبارة عن نهج
    خاص للحياة، يطالب أنصاره بتطبيقه لتنظيم الوجود الإجتماعي على
    أساسه، بوصفه المخطط الأفضل، الذي يحقق للإنسانية ما تصبو إليه من
    رخاء وسعادة، على الصعيد الإقتصادي، وأما العلوم الإقتصادية، فهي
    دراسات منظمة للقوانين الموضوعية، التي تتحكم في المجتمع كما تجري
    في حياته الاقتصادية. فالمذهب: تصميم عمل ودعوة. والعلم: كشف
    أو محاولة كشف عن حقيقة وقانون لهذا السبب كان المذهب عنصراً
    فعالاً وعاملاً من عوامل الخلق والتجديد. وأما العلم فهو يسجّل ما يقع
    في مجرى الحوادث الإقتصادية كما هو دون تصرف أو تلاعب.
    وعلى هذا الأساس فصلنا بين المادية التاريخية والمذهب الماركسي في بحثنا
    هذا (مع الماركسية) فالمادية التاريخية التي تناولناها في القسم الأول من
    البحث، هي: علم قوانين الإنتاج في تطوره ونموه، ونتائجه الإجتماعية في
    مختلف الحقول الإقتصادية والسياسية والفكرية، وبكلمة أخرى: هي علم


    الاقتصاد الماركسي، الذي يفسر التاريخ كله تفسيراً اقتصادياً، في ضوء
    القوى المنتجة، والمذهب الماركسي: هو النظام الاجتماعي الذي تتزعم
    الماركسية الدعوة إليه، وقيادة الإنسانية إلى تحقيقه. فالماركسية تقف في
    المادية التاريخية، موقف العالم الطبيعي من قوانين الطبيعة. وتقف بصفتها
    المذهبية، موقف الدعوة والتبشير.
    وبالرغم من هذين الوجهين المختلفين للعلم والمذهب، فإن الصلة وثيقة
    جداً بين المادية التاريخية والماركسية المذهبية. لأن المذهب_ الذي تتبنى
    الماركسية الدعوة إليه_ ليس في الحقيقة إلا تعبيراً قانونياً، وشكلاً تشريعياً
    لمرحلة معينة من مراحل المادية التاريخية، وجزءاً محدوداً من المنحنى التاريخي
    العام، الذي تفرضه حركة الإنتاج الصاعدة، وقوانين تطوره وتناقضاته.
    فالماركسية حين تتقمص ثوب الداعية المذهبي، إنما تعبر بذلك عن الحقيقة
    التاريخية لتلك القوانين. فهي لا تنظر الدعوة إلا بوصفها تنفيذاً لارادة
    التاريخ وتحقيقاً لمقتضيات العامل الإقتصادي، الذي يقود القافلة البشرية
    اليوم نحو مرحلة جديدة، هي المرحلة التي تتجسد فيها مخططات المذهب
    الماركسي.
    ولهذا السبب كان يطلق ماركس على مذهبه اسم:(الاشتراكية العلمية)،
    تمييزاً لها عن سائر الاشتراكيات، التي عبر أصحابها فيها عن اقتراحاتهم
    ومشاعرهم النفسية، وليس عن الضرورة التاريخية وقوانينها، فصاغوا
    مذاهبهم بعيدين عن الحساب العلمي ودراسة القوى المنتجة ونموها.
    وفي المذهب الماركسي مرحلتان تطالب الماركسية_ من ناحية مذهبية_
    بتطبيقهما تباعاً، وتؤكد_ من ناحية المادية التاريخية_ على ضرورتهما
    التاريخية كذلك، وهما المرحلة الاشتراكية، ثم الشيوعية. فالشيوعية تعتبر
    _ من وجهة رأي المادية التاريخية_ أعلى مرحلة من مراحل التطور البشري.
    لأنها المرحلة التي يحقق فيها التاريخ معجزته الكبرى، وتقول فيها وسائل


    الإنتاج كلمتها الفاصلة. وأما المرحلة الاشتراكية التي تقوم على أنقاض
    المجتمع الراسمالي، وتحتل موقع الرأسمالية مباشرة، فهي: من ناحية
    تعبّر عن الثورة التاريخية المحتومة على الرأسمالية حين تأخذ بالاحتضار،
    ومن ناحية أخرى تعتبر شرطاً ضرورياً لإيجاد المجتمع الشيوعي، وقيادة
    السفينة إلى شاطىء التاريخ.
    ما هي الاشتراكية والشيوعية؟
    ولكل من المرحلتين_ الإشتراكية والشيوعية_ معالمها الرئيسية، التي
    تميزها عن المرحلة الأخرى. فإن المرحلة الاشتراكية تتلخص معالمها الرئيسية
    وأركانها الأساسية فيما يلي:
    أولاً: محو الطبقية وتصفية حسابها نهائياً بخلق المجتمع اللاطبقي.
    وثانياً: استلام البروليتاريا للأداة السياسية، بإنشاء حكومة دكتاتورية
    قادرة على تحقيق الرسالة التاريخية للمجتمع الإشتراكي.
    وثالثاً: تأميم مصادر الثروة ووسائل الإنتاج الرأسمالية في البلاد_ وهي
    الوسائل التي يستثمرها مالكها عن طريق العمل المأجور_ واعتبارها ملكاً
    للمجموع.
    ورابعاً: قيام التوزيع على قاعدة)من كل حسب طاقته ولكل
    حسب عمله).
    وعندما تصل القافلة البشرية إلى قمة الهرم التاريخي، أو إلى الشيوعية
    الحقيقة... يحدث التطور والتغبير في أكثر تلك المعالم والأركان. فالشيوعية
    تحتفظ بالركن الأول من أركان الاشتراكية، وهو محو الطبقية، وتتصرف
    في سائر مقوماتها وأركانها الأخرى. فبالنسبة إلى الركن الثاني، تضع


    الشيوعية حداً نهائياً لقصة الحكومة والسياسة على مسرح التاريخ، حيث
    تقضي على حكومة البروليتاريا، وتحرر المجتمع من نير الحكومة وقيودها.
    كما أنها لا تكتفي بتأميم وسائل الإنتاج الرأسمالية فحسب، كما تقرر الإشتراكية
    في الركن الثالث، بل تذهب إلى أكثر من هذا، فتلغي الملكية الخاصة
    لوسائل الإنتاج الفردية أيضاً( وهي التي يستثمرها المالك بنفسه لا عن
    طريق الأجراء). وكذلك تحرم الملكية الخاصة إلغاءً تاماً في الحقلين الإنتاجي
    وبكلمة شاملة: تلغي الملكية الخاصة إلغاءً تاماً في الحقلين الإنتاجي
    والاستهلاكي معاً، وكذلك تجري تعديلاً حاسماً في القاعدة التي يقوم على
    أساسها التوزيع في الركن الرابع، إذ تركز التوزيع على قاعدة( من كل
    حسب طاقته ولكل على حسب حاجته).
    * * *
    هذا هو المذهب الماركسي بكلتا مرحلتيه، الإشتراكية والشيوعية.
    ومن الواضح أن لدراسة المذهب_ أي مذهب_ أساليب ثلاثة:
    الأول: نقد المباديء والأسس الفكرية، التي يرتكز عليها المذهب.
    والثاني: دراسة مدى انطباق تلك المباديء والأسس على المذهب،
    الذي أقيم عليها.
    والثالث: بحث الفكرة الجوهرية في المذهب من ناحية إمكان تطبيقها،
    ومدى ما تتمتع به الفكرة من واقعية وإمكان آخر استحالة وخيال.
    وسوف نأخذ في دراستنا للمذهب الماركسي، بهذه الأساليب الثلاثة
    مجتمعة.
    نقد المذهب بصورة عامة
    ونواجه منذ البدء في دراسة الماركسية المذهبية_ على ضوء الأساليب


    السابقة_ أهم وأخطر سؤال، على صعيد البحث المذهبي، وهو السؤال
    عن الدليل الأساسي الذي يرتكز عليه المذهب، ويبرز بصورة منطقية الدعوة
    إليه وتبنّيه، وبالتالي تطبيقه وبناء الحياة على أساسه.
    إن ماركس لا يستند في تبرير الاشتراكية والشيوعية، إلى قيم ومفاهيم
    خلقية معينة في المساواة، كما يتجه إلى ذلك غيره من الاشتراكيين، الذين
    يصفهم ماركس بأنهم خياليون. وذلك لأن القيم والمفاهيم الخلقية، ليست
    في رأي الماركسية إلا وليدة العامل الاقتصادي، والوضع الاجتماعي للقوى
    المنتجة. فلا معنى للدعوة إلى وضع اجتماعي على أساس خلقي بحت.
    وإنما يستند ماركس إلى قوانين المادية التاريخية، التي تفسر حركة
    التاريخ في ضوء تطورات القوى المنتجة وأشكالها المختلفة. فهو يعتبر تلك
    القوانين الأساس العلمي للتاريخ، والقوة التي تصنع له مراحله المتعاقبة في
    نقاط زمنية محددة، وفقاً لوضع القوى المنتجة وشكلها الاجتماعي السائد.
    ويرى في هذا الضوء: أن الاشتراكية نتيجة محتومة لتلك القوانين،
    التي تعمل عملها الصارم في سبيل تحويل المرحلة الأخيرة للطبقة، وهي
    المرحلة الرأسمالية، إلى مجتمع اشتراكي لا طبقي. أما كيف تعمل قوانين
    المادية التاريخية الماركسية على أنقاض الرأسمالية؟!، فهذا ما يشرحه ماركس
    _ كما مر بنا سابقاً_ في بحوثه التحليلية للاقتصاد الرأسمالي، التي حاول أن
    يكشف فيها عن التناقضات الجذرية التي تسوق الرأسمالية_ وفقاً لقوانين
    المادية التاريخية_ إلى حتفها، وتصل بالركب البشري إلى المرحلة الإشتراكية
    وبكلمات قلائل: أن قوانين المادية التاريخية هي القاعدة العامة لكل مراحل
    التاريخ، في رأي ماركس، والأسس التحليلية في الاقتصاد الماركسي_
    كقانون القيمة ونظرية القيمة الفائضة_ عن محاولة تطبيق تلك القوانين على
    المرحلة الرأسمالية، والاشتراكية المذهبية هي النتيجة الضرورية لهذا التطبيق،


    والتعبير المذهبي عن المجرى التاريخي المحتوم للرأسمالية، كما تفرضه
    القوانين العامة للتاريخ.
    ونحن في بحثنا الموسع عن المادية التاريخية_ بقوانينها ومراحلها_ قد
    انتهينا إلى نتائج غير ماركسية. فقد عرفنا بوضوح أن الواقع التاريخي
    للإنسانية لا يسير في موكب المادية التاريخية، ولا يستند محتواه الإجتماعي
    من وضع القوى المنتجة وتناقضاتها وقوانينها. كما تبينا_ من خلال دراستنا
    لقوانين الإقتصاد الماركسي_ خطأ الماركسية في الأسس التحليلية. التي
    فسرت في ضوئها تناقض الرأسمالية من جهات شتى، وزحفها المستمر نحو
    نهايتها المحتومة. فإن تلك التناقضات كانت ترتكز كلها على القانون
    الماركسي للقيمة، ونظرية القيمة الفائضة. فإذا انهارت هاتان الركيزتان،
    تداعى البناء كله.
    وحتى إذا افترضنا أن الماركسية كانت على صواب في دراستها التحليلة
    للإقتصاد الرأسمالي، فإن تلك الأسس إنما تكشف عن القوة أو التناقضات،
    التي تحكم على الرأسمالية بالموت البطيء، حتى تلفظ آخر أنفاسها، ولكنها
    لا تبرهن على أن الاشتراكية الماركسية هي البديل الوحيد الذي يحل محل
    الرأسمالية، في المجرى التاريخي للتطور. بل هي تفسح المجال لأشكال
    اقتصادية متعددة أن تحتل مركز الرأسمالية من المجتمع، سواء الاشتراكية
    الماركسية، كاشتراكية الدولة بلون من ألوانها، أو الاقتصاد المزدوج من
    أشكال متعددة للملكية، أو إعادة توزيع الثروة من جديد على المواطنين في
    إطار الملكية الخاصة، وما إلى ذلك من أشكال تعالج أزمة الرأسمالية،
    دون الاضطرار إلى الاشتراكية الماركسية.
    وبذلك تخسر الماركسية المذهبية برهانها العلمي، وتفقد طابع الضرورة
    التاريخية الذي كانت تستمده من قوانين المادية التاريخية، والأسس الماركسية
    في التاريخ والاقتصاد. وبعد أن تنزع الفكرة المذهبية عنها الثوب العلمي،
    تبقى من مستوى سائر الاقتراحات المذهبية.
    [/align]
    يا محوّل الحول والاحوال ، حوّل حالنا إلى أحسن الحال......








صفحة 1 من 3 123 الأخيرةالأخيرة

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •  
 
شبكة المحسن عليه السلام لخدمات التصميم   شبكة حنة الحسين عليه السلام للانتاج الفني