[align=justify]بغداد - المؤتمر

مازال الشعب العراقي يراقب باعصاب مشدودة محاكمة صدام واعوانه في قضية الدجيل، وفي الوقت الذي يرى فيه عموم العراقيين ان اعتراف صدام بانه هو صدام حسين وليس غيره كاف لتجريمه ، نسعى بنشر هذه الوثائق الى اعطاء صورة عن طبيعة المحاكمات الصورية التي كان يقوم بها ازلام صدام خلال العقود الثلاثين من حكمه وكيف كان الاعدام يطوق الاعناق لمجرد الاتهام.. هذا الامر الذي يجعل تساؤل العراقيين في مكانه الطبيعي.. لقد كانت الاحكام تصدر في غرف مظلمة ، وليس من صوت لمحام ولا حتى لمتهم يدافع فيه عن نفسه ليس سوى صوت واحد هو صوت القاضي (الحاكم) هذا الصوت الذي يعلو لكي يسمعه (الحاكم المطلق المستبد) لهذا ليس غريبا تعديل الاحكام من سجن مؤبد الى اعدام ، فرضى الحاكم لايدرك الا بحجم وسعة انهار الدم المراق، وكلما كان القاضي اكثر اجراما وابتعادا عن الانسانية كان اقرب الى قلب الحاكم الدموي.

ملفات قتل هي كل مخلفات النظام البعثي الدموي، ملفات تتقابل فيها الذئاب مع الحملان، بالاسماء والتواريخ والاحداث التفصيلية والمحاكمات التي لا تزيد ولا تنقص في حكم صادر قبل الاعتقال ملفات ام حكايات انها رواية موثقة لسنوات المحنة العراقية ربما ستفتح بابا واسعا امام من استوت عنده الانوار والظلم، وهذا ما نأمله من نشرها، في حين انها تمثل للعراقيين حكايات ابنائهم الذين اختفوا مع حركة عجلات سيارات الامن في شوارع مازالت تحن لاقدامهم.

هل بوسع الوثيقة ان تروي لنا قصة؟

هل بوسع الوثيقة ان تروي لنا قصة؟ واذا كان بإمكانها ذلك، فهل بمقدورها ان تكشف لنا مصير من تحكي عنهم؟؟

لقد خلف لنا النظام الديكتاتوري اطنانا من الوثائق، واطنانا من العظام في مئات من المقابر الجماعية، ثمة ضحايا عثر على عظامهم وجماجمهم التي ربما اختلطت مع اعضاء زملائهم في المقابر، غير ان ضحايا آخرين كثر لم يعثر لهم على اثر من بقاياهم، فظلوا مجرد اسماء في وثائق تتهرأ في غرف جديدة، وثائق هي ليست سوى مقابر جماعية اخرى، مقابر تكشف حرص الجلادين على الايقاع بضحاياهم، وتهيئتهم لمصير الفناء، وتكشف عن تعطشهم لارشفة وحشيتهم، وربما هي ضريبة تاريخية اجبرتهم على تدوين سجل جرائمهم بأيديهم واقلامهم، فتركوا لنا هذه الوثائق التي تنسج لنا ذاكرة رسمية للعنف الدكتاتوري في دولة دفنت ابناءها في تراب المقابر والوثائق، وقد آن الاوان لإزاحة التراب عنها، آن الاوان لقيامة الضحايا، ليحكوا لنا قصة المصير الذي آلوا إليه..

تسعة اشهر لحيازته كتابا

هل كان يعلم ان امتلاكه وقراءته لكتاب ما يعد تهمة كافية لالقائه في الحبس؟ في 16/ 7/ 1987 اوقفته مديرية الاستخبارات العسكرية بتهمة حيازته كتاب “القرآن والحسين لمؤلفه “محمد جواد مغنية”، وكذلك لتمزيقه صورة لرئيس الجمهورية (وربما لم يفعلها اذ كيف يجرأ على فعل ذلك في وحدته العسكرية؟!)، فبقي موقوفا تسعة اشهر دون محاكمة، تسعة اشهر من التعذيب في غرف التحقيق، وربما اعترف اثناءها بتمزيق (الصورة المقدسة للرئيس) وليس قبلها، حتى اطلقت سراحه (مكرمة) من مكارم “القائد الضرورة” آنذاك..

ولم تقتصر عقوبة “علي عبد الامير صبري” على حبسه فقط، بل نقل من صنفه كعريف قوة جوية الى صنف المشاة ونسب الى كتيبة هندسية، وربما دفعه هذا القرار الجائر الى خلع الخاكي وترك الجيش، بعد ان كان قد تطوع اليه، عندما قدم اوراقه الى مدرسة الصنائع الجوية وتخرج منها عام 1985 وخدم في قاعدة الوليد الجوية، فارتكب بذلك تهمة ثانية بعرف النظام البائد هي الهروب من الخدمة العسكرية، وهي جناية مخلة بالشرف حسب قوانين وقرارات مجلس قيادة الثورة المنحل، فأن رفض المواطنون المشاركة بحرب غير مبررة وامتنعوا عن الدفاع عن النظام فأنهم يخلون بشرفهم، حتى وان انتهكت حرياتهم وهدرت كرامتهم وسلبت حقوقهم، فإنهم ان خلعوا الخاكي كأنما خلعوا شرفهم وشرف الدولة، الخاكي الذي اصبح رمزا لضحايا يساقون الى محرقة الحروب، ككبش فداء لخطايا النظام البائد ومغامراته الرعناء..

الهروب الى الجحيم

لم تكد تمضي اربعة اشهر ونيف على خروجه من السجن ، حتى القي القبض عليه بتاريخ 13/ 11/ 1988 من قبل الاجهزة الامنية، ليبقى موقوفا في الشعبة الخامسة في دائرة الامن العام اكثر من شهرين ، وترفع اوراقه الى محكمة الثورة سيئة الصيت، ليصدر بحقه قرار يقضي بالحكم عليه مرتين: الاولى بالاعدام شنقا حتى الموت ومصادرة امواله المنقولة وغير المنقولة وفقا للفقرة 3/ 1 من قرار مجلس قيادة الثورة المنحل المرقم 877 في 7/ 7/ 1982، والثانية بالسجن المؤبد وفق المادة 175/ 2 من ق. ع، واعتبار جريمته جناية عادية مخلة بالشرف عملا بقرار المجلس المذكور المرقم 61 في 17/ 1/ 1988 ، هذا ما يكشفه لنا قرار الحكم الصادر من رئاسة محكمة الثورة ببغداد المرقم 6/ ج/ 1989 والمؤرخ في 31/ 1/ 1989 والموقع من قبل ، عواد حمد البندر ) رئيس المحكمة وعميدين حقوقيين اخرين، هما (طارق هادي شكر) و (داود سلمان شهاب) ، ولا يتبين لنا من هذا القرار سوى ان الشهيد (علي عبدالامير صبري) ومعه (عبدالامير خلف حسن) و (صبري جارالله حسون) يعدون بنظر المحكمة جنودا مجرمين هاربين صدرت بحقهم هذه الاحكام، فيما يكشف لنا قرار التجريم المرفق مع قرار الحكم والصادر عن المحكمة بنفس عدد وتاريخ القرار المذكور ، عن تهمة اكبر لعلي عبدالامير ورفاقه هي ارتباطهم بـ (منظمة العمل الاسلامي) بقيادة (محمد تقي المدرسي ) التي كان النظام المباد يسميها منظمة العمل الفارسي العميلة ، اي انهم بنظره عملاء انخرطوا في نشاط تخريبي معاد للحزب والثورة اللذين تحولا الى مقاصل للشعب.

ان حاد عن فروض الطاعة والولاء لهما، اتهم علي عبدالامير و (علي غائب هادي) و (ج. م عبدالامير خلف حسن) و (ج. م.صبري صبري جار الله حسون) و (عباس مهدي فليح) بايصال معلومات امنية الى ايران التي كان النظام المخلوع يحب ان يطلق عليها تسمية العدو الفارسي الصهيوني، وان بعض هؤلاء الشباب حاول الهرب الى ايران عن طريق المنطقة الشمالية. فقد اصبح الهروب من جحيم الديكتاتورية ومن سجن اكبر اسمه الوطن ، فصله نظام صدام حسب مقاسات مصالحه ونزواته ، جريمة عظمى تستحق الاعدام وانزال اشد العقوبة بمرتكبيها كما نص قرار الحكم الصادر عن محكمة تصدر احكامها باسم الشعب، وباسم الشعب يقتل الشعب، فأية مهزلة تفوض للقانون كي ينفذها، القانون الذي اصبح لعبة بيد طاغية مستبد لايشبع من سفك الدماء..

شهادة المصير

لم يمهل علي عبدالامير اكثر من شهر على صدور الحكم باعدامه حتى صدرت شهادة وفاته بتاريخ 8/ 3/ 1989 عن مستشفى الرشيد العسكري الذي صار محطة لاستقبال الضحايا المعدومين، قبل ارسالهم الى مثواهم المجهول، او ربما ان جثث الضحايا لم تصل اطلاقا الى المستشفى المذكور بل وصلت اسماءهم ومعلومات يسيرة تقتضيها شهادة الوفاة لاصدارها عنهم، وبالتأكيد فان شهيدنا الانف الذكر محظوظ ، اذ تصدر له شهادة وفاة، تؤرخ مصيره، فغيره كثر من الضحايا ظلموا بلا شهادات وفاة، ظلوا في ذاكرة الوطن المغيب، ينتظرون من يزيح ستر النسيان عن مصيرهم المجهول، ظلوا مجرد عظام بلا وثائق، فيما ظلت ايضا وثائق بلا عظام.

الى اليسار من شهادة الوفاة علقت صورة لشاب اسمر سقط شعر رأسه مبكرا، واطلت من عينيه السوداوين نظرات وجلة من حاضرها، يائسة من مستقبلها، تحدق بك متسائلة: اين المصير،

غادر شبابه وفي ربيعه الغض، عن 23 عاما، من الحرمان الى الظلم، من ملابس الطفولة المتهرئة الى الخاكي الذي اغتصب الحرية والكرامة، فهل حظي علي عبدالامير بلحظات صادقة من السعادة طيلة هذه الاعوام التي اختزلتها شهادة الوفاة بين تاريخ تنظيمها 8/ 3/ 1989، وتاريخ ولادته 1966، كما اختزلت معلومات اخرى عنه وعن عائلته، لتحوله الى مجرد اثر على ورق.

صحيفة التصفيات

29 فقرة، اغلبها تضم فقرات فرعية تسعى لحشد اكبر قدر من المعلومات عن الضحية، تلك المتعلقة بهويته وبتاريخ حياته (ولادته، قوميته، ديانته) وبمحل سكنه القديم والجديد ومهنته السابقة واللاحقة، وباسماء المدارس التي تتلمذ فيها، ثم بتفاصيل ادق عن عائلته تصل الى اجداده واخواله وعمومته، ثم التأكيد بشكل خاص على ارتباطاتهم السياسية والدينية لكشف مواقفهم تجاه الحزب والثورة، فهما الطريق الوحيد الذي يجب ان يسلكه الشعب، والفكر الواحد الذي عليه اعتناقه والا فهو خائن ومتأمر وعميل يستحق الموت.

تلك هي ما كانت تسميها الاجهزة الامنية بـ (صحيفة اعمال موقوف) لكنها لم تكن حكرا على النزلاء الموقوفين والمسجونين في غياهب السلطة الغاشمة، بل انها عممت كذلك على دوائر الدولة ومؤسساتها، وكل من كان في حوزة الدولة وتحت معيتها، كان عليه الاجابة الصريحة عن تلك الفقرات ويوقع تعهدا خطيا فيها يؤيد صحة المعلومات التي اوردها ودقتها والا يتحمل امام القانون عقوبة الحبس وفق المادة (245) من ق.ع.ع.

لم سميت بصحيفة اعمال؟ مادخل العديد من الفقرات الخاصة باشقاء واعمام واخوال واجداد الموقوف به شخصيا؟ او تحسب المعلومات الواردة عنهم عملا ينسب له ويحاسب عليه؟ او ليس ثمة اغراض اخرى من وراء هذه الصحيفة تكشف عن طائفية النظام وعنصريته المقيتة تجاه شعب سعى الى تصفيته عبر ابادة جماعية منظمة له؟؟.. انها لم تكن صحيفة اعمال بل صحيفة تصفية تكتبها عناصر الامن والمخابرات البعثية لتكون زادا لشرههم الوحشي.. الشهيد علي عبدالامير ملأ جميع فقرات صحيفة اعماله او تصفيته باستثناء الفقرة السابعة التي ظلت فارغة، وهكذا ارادوها له ان تظل فارغة، كي ينقطع صلبه في الحياة، فلا يزرع بذور جيل جديد مع اقرانه ممن استطاع ان يواجه الضغوط والتحديات ليكون اسرة وينجب ضحايا جدد لجلادين ما فتئوا يسفكون الدماء.. فهذه الفقرة تسعى لمعرفة اسماء ابناء وبنات الموقوف ومهنهم ومواليدهم، فظلت خالية من دون اجابات، وستبقى كذلك، ليس لان الشهيد علي عبدالامير لم يتزوج، بل لان الجلادين لا يعلمون ان الضحايا يتزوجون الحقيقة لينجبوا جيلا يحمل على اكتافه عبء الخلاص، ويسعى لتحقيق العدالة
[/align]