وجه آخر لربيع بغداد: حتى زهور المشاتل تحررت من أعباء الدكتاتورية
مزارع: هذه المرة نداوم باستمرار على الخروج والاعتناء بها سواء بالسقي أو بالتنظيف وتلقيح النخيل

بغداد: نادية محديد
منذ ان اجتمع سواد الدخان المتصاعد في سماء بغداد بسواد عباءات نسائها كاد وجه المدينة الجميلة يكفهر لولا ان انقذته ألوان زاهية تنبعث من زهور مشاتلها.
زهور تظهر فجأة لتريح النظر، من مناظر الخراب والتدمير في الجهد والمال، وكأنها تعبير عن امل بامكانية ان يستعيد البغداديون والعراقيون عموماً حياة هادئة بعيدا عن حروب انهكتهم وحاصرتهم في بلادهم.
كثيرا ما كنت استمتع برؤية المشاتل ولو للحظات خاطفة لجمال وانبساط خضارها على اميال من ارصفة بعض الشوارع التي بمجرد ان ألمحها يكون سائقي قد قطع اميالاً بعيداً عنها في مدينة قل امنها وكثرت الحواجز فيها.
قصة بغداد تحت القصف ليست لا تختلف عن قصة اصحابها اذ عانت وصمدت في وجه الغارات المتعددة التي شهدتها منذ مطلع التسعينات، لكنها كانت تجد باستمرار نخيلاً رشيقاً وشامخاً ومتكاثفاً لتحتمي في ظلاله.
وقال ابو عدنان صاحب احد المشاتل الواقعة في الاعظمية (شمال العاصمة) «اننا لا نبيع فقط الزهور بل نتخصص ايضا في بستنة المدينة وحدائق بيوتها». وتحدث ابو عدنان عن حبه لهذه المهنة التي يمارسها أباً عن جد رغم ان ارض مشتله لا يملكها فيستأجرها من السلطات المعنية في المحافظة التي بدورها «حظرتها» او «سلبتها» من اصحابها الذين يتوقع المزارع عودتهم في اي لحظة للمطالبة بأرضهم بعد ان تحررت الألسنة وسقط النظام الذي استحوذ على الاملاك ووزعها كما شاء لمدة 35 عاماً.
وعن هذا يعتزم المزارع كما هو حال الكثير من امثاله بحث امر المشاتل ومستقبلها مع ولاة الاراضي الاصليين الذين قد يستمرون في ايجار الارض لهم او ان يقرروا استعادتها لأسبابهم الخاصة. وفي كلتا الحالتين فان ابو عدنان لا ينوي التخلي عن خدمة المشاتل والزرع، اذ قال لي انه لا يجيد غيرها منذ طفولته.
ويزيد عدد المشاتل على طريق الاعظمية عن عشرة كل منها يضم اكثر من الف نبتة ونحو الف نخلة يباع ثمرها لدى نضجه مما يشكل مصدر رزق آخر للمزارعين. وبعد جولة بين مشاتل الخليج والدولي و«الربيع المتفتح» وغيرهم نصحني المزارعون نظراً لاهتمامي بأن اذهب وازور مشاتل اخرى تقع في القريعات الواقعة ليس ببعيد من مكانهم والمطلة على نهر دجلة.
وهناك التقيت بالمزارع صباح عبد الله الذي ابدى تذمره من عسكرة مجتمعه خلال السنين الماضية قائلاً «كنت اعود من العسكرية لقضاء عطلة لا تتجاوز العشرة ايام ومع ذلك بمجرد استحمامي اهرع نحو المشتل حيث الزهور والنباتات الخضراء لأنسى دوي المدفعيات والطلقات النارية». ويعترف عبد الله، 46 عاماً، قائلاً «اتدرين اجد نفسي اتحدث مع مشترية حول زهرة النرجس او الورد او غيرهما وطنين الرصاص ما يزال يتردد في رأسي»، مضيفاً «لم يكن سهلاً على نفسيتي ان تنسجم بين خدمة زهوري (عمل اجدادي) واجبارية التجنيد العسكري».
نباتات عبد الله مثل غيرها تتطلب العناية الفائقة، اذ عليه بسقيها كما يفعل حالياً بمياه دجلة التي ارتفع مستواها منذ ايام، فصعدت مياهها، ويبدو ان خيرها زاد. وهنا تدخل جاره عباس الامير صاحب مشتل «الامير» نسبة الى اسمه ليؤكد تفضيل المزارعين سقي الزهور والنباتات بمياه دجلة لدى توفرها اذ «هي افضل من ماء الحنفيات الذي نملأ به خزّاناتنا». وعن التربة الحمراء التي تغطي بغداد وزاد عدد الصواريخ المتساقطة على المدينة باثارة زوبعتها فقال عنها مجيباً «بالنسبة للتربة الحمراء فهي تغطي معظم المشاتل وبيوت بغداد وليس فيها ما يضر زراعتنا اذ هي رياح خماسينية (تهب خلال خمسين يوما) فصلية تأتي كل عام في ذات الوقت وهي على العكس تحمي زرعنا وتقتل بعض الامراض التي تصيبه كما هو الحال لبعض الديدان الذي تصيب النخيل وليس بامكاننا معالجته لعدم استطاعتنا استيراد الأسمدة المناسبة او شراءها في السوق المحلية، لكن في الرياح ما يشفي النخيل من مرضها».
اما عن الاثار البيئية لقصف الصواريخ فقال «ان هذا امر سابق لأوانه بمعرفة وتقدير حجم الخسائر البيئية للقصف وانعكاساته على نباتاتنا في المشتل». كما ذكر عبد الله «لقد حمدنا الله ان الماء لم ينقطع خلال تلك الايام العصيبة كما حصل خلال حرب عام 1991 اذ تضررت النباتات كثيرا. اما هذه المرة فكنا نداوم باستمرار على الخروج والاعتناء بها سواء بالسقي او بالتنظيف وتلقيح النخيل».
وتعد القريعات من اشهر ضواحي بغداد المطلة على نهر دجلة، اذ يصطف نحو الف مشتل الواحد امام الآخر على جانبي الطريق ما يخلق فيها مناخا شبه خاص بها. مناخ قد يكون عاملاً مساعداً في المستقبل على استعادة نشاطها السياحي بإعادة إحياء مطاعمها الشهيرة لتقديم طبق «المسكوف» (اكلة من السمك). كما يزيد في نظافة جوها، مع اشتداد الحر، وجود المئات من اشجار النخيل التي لم يحن بعد وقت جني تمورها.
لكن المشاتل البغدادية التي عرفت بها المدينة على اختلاف وتنوع نبتاتها وفصولها تعاني من هجر عشاقها لها منذ اكثر من 60 يوماً. فالعراقيون مهما اختلفت مواقفهم تجاه ما تعرضت له بلادهم من هزة عنيفة فان تعافيهم من الآثار الناجمة عن الحرب سيستغرق وقتا طويلا.
وقال لي مزارع اخر في مشتل «مصطفى» «ترين ان الناس جلهم عادوا الى بيوتهم لمحاولة الخروج وكسب رزقهم بعد ان اصبحوا موقوفين عن العمل، فلا ادارات تشغلهم لكنهم جميعاً تضرروا نفسياً بما جرى حتى وان لم يبد لك ذلك». مستطرداً اننا نفزع ليلا واطفالنا يتقلبون في نومهم كثيرا واحلامنا اصبحت كوابيس متكررة، ولذا فان فترة نقاهتنا من حكم صدام والارض التي تزعزعت من تحتنا وفوقنا ستستغرق بعض الوقت لاستقرارها».
وسألت صاحب مشتل يدعى كاظم ان كانت له زهرة مفضلة في مشتله فقال لي «انها الوردة فرائحتها العطرة قوية واحب استنشاقها بين الحين والآخر وانا اعمل في مشتلي» مشيرا وهو يبتسم الى جليس له من سنّه (ثلاثون عاماً) «اصدقك القول انه منذ ان اختفى صدام زهوري تفتحت وكأنها فرحة ومنشرحة لما حصل». وراح جليسه يؤكد لي ذلك وقناعة شديدة تغمرهما بأن زهورهما «تحررت» هي ايضاً من قيود الرئيس المخلوع. فرحت امزح معه قائلة: «الا تعتقد ان فرحك شرد بك الى حد الهوس؟». فقال «لم لا. تدرين ان الزهرة تحس بصاحبها وكما تعطيها تعطيك فهي منا ونحن منها وهي مبتهجة لابتهاجنا». ويبدو ان المزارعين تناسا ان فصل الربيع قد حل علينا بثوبه الزاهي المتفتح ما قد يكون فيه تفسير لسر ابتهاج زهور مشتله او ربما لأن اختفاء صدام وجهاز دولته يؤجل على كاظم او يلغي دفع الفواتير المستحقة عليه للبلدية والتي مع انخفاض طلب البغداديين على الزهور سيعوض خسارته قليلا.
الشرق الأوسط