[align=justify]ثمة ما يلفت النظر في طريقة ارشفة عناصر الاجهزة الامنية في النظام البائد لملف الضحايا الذين يقعون في شباكهم، فعلى الصفحة الرئيسية لاضبارة الضحية تكتب ثلاثة فقرات فقط، هي:( اسم الضحية الرباعي ولقبه، ميوله، رقم قضيته وتاريخها).. ما يبدو طبيعيا هما الفقرتان الاولى والثالثة، اما الثانية فتستحق التوقف وابداء مشاعر الاستغراب، فهل من المعقول ان تعد ميول المواطنين تهما يعاقبون عليها؟!... او ليس في ذلك مصادرة لحقوق المرء في حرية الاختيار، وتجاوزا على القانون الذي ينص على معاقبة الفعل لا النية او الميل؟!... هذه التساؤلات لا معنى لها في ظل دولة بوليسية تنشر عيونها (مخبريها) بين الناس ليتصيدون لها الضحايا ثم يصنفونهم الى كفتين... فقد بات النظام الديكتاتوري متعطشا لمعرفة ميول الشعب الذي يحكمه، فإما ان يكون بعثيا فيعفى عنه او مستقلا فيتربص به والا تتم تصفيته، فالقانون الذي تحكم به دولة الحزب الواحد هو اما ان تكون مع هذا الحزب او تصبح خائنا.. سياسة شوفينية مارسها نظام صدام لتبعيث كل شيء، فالوطن والدولة والثورة والحزب والقائد ذات لون واحد، وعلى الشعب ان يختار هذا اللون وليس غيره، فأية حرية في الاختيار؟!...

بوابة الدخول الى ملف الضحية

الاسم: حبيب كريم ظاهر عبد الحسين البرمكي.

الميول: دعوة وحاول الهرب الى جانب العدو الفارسي.

محال بالقضية المرقمة 31/ 1988 ش5

لم تكتف العناصر الامنية بتدوين ميول الضحية بل اضافت لها ما اسمته بمحاولة للهروب الى العدو لتعزز او تثبت الميول.. اذن فالميول والمحاولة تصبحان قضية يعاقب عليها المواطن، والقانون البعثي لا يعاقب فقط على الانتماء والجرم، والعقوبة هي الاعدام..

الوثيقة الاولى التي تصادفك في ملف الضحية هي شهادة وفاته، التي تكشف لنا معلومات يسيرة عن الضحية (اسمه الرباعي واللقب، اسم والديه، محل اقامته، تاريخ ولادته وهي 1956، كيفية وفاته وهي الاعدام شنقا حتى الموت). الشهادة منظمة بتاريخ 19/ 10/ 1988 ، وهذا يعني ان الضحية فارق الحياة عن 32 عاما من البؤس في وطن اغتصبه الطاغية وجلادوه..

جنود يعدمون بعد انتهاء الحرب.. (مفارقة الاعدام)

تطالعك وثيقة اخرى هي المسؤولة عن انهاء حياة الضحية وتدوين شهادة وفاة له، تلك هي “قرار الحكم” الصادر عن رئاسة محكمة الثورة (بغداد) المرقم / 1119 / ج/ 1988 بتاريخ 5/ 9/ 1988، والذي يكشف عن صدور حكمين قضائيين بحق الضحية “حبيب كريم طاهر” و13 آخرين هم: “ كمال ادين حميد مجيد، علي حميد مجيد، حسين جاسم حسن، راجي حمادي طعيمة، انذار جواد منخي، عباس خير الله علي، سلام مسلم عبد خلف، رعد فرحان يوسف، علي مطشر صباح، عبد الكريم ناجي عبد الحسين، خضير عباس عبد الله، رؤوف رضا عبد الحسين”، وهم جميعا جنود مكلفين. الحكم الاول يقضي بالاعدام شنقا حتى الموت وفق الفقرة (ب) من المادة الاولى من القانون رقم 28 لسنة 1972 المعدل بدلالة المواد 49 و50 و53 والمادة 298/ 298 من ق ع ومصادرة اموالهم المنقولة وغير المنقولة. والحكم الثاني يقضي بالسجن المؤبد وفق المادة 175/ 2 من ق ع مع مصادرة الاموال المنقولة كذلك، واعتبار جريمتهم جناية عادية مخلة بالشرف لكن عقوبتها الاعدام ولا ادري كيف تكون الجريمة عادية لكنها تؤدي الى الاعدام؟!..

المفارقة تكمن في ان النظام الديكتاتوري يحكم على جنوده بالاعدام بعد انتهاء الحرب مع ايران في 8/ 8/ 1988، فإذا كانت الحرب قد انتهت مع دولة جارة فإنها لم تنته مع الشعب بالنسبة لنظام صدام، بل يبدو انها لم تنته مع ايران نفسها، فتهمة محاولة الهروب اليها تعد جريمة تؤدي بمن ينوي او يفكر بها الى الاعدام اذا ما كان سيء الحظ فتكشف العناصر الامنية نيته.. ومن الجدير بالذكر ان “حبيب” القي القبض عليه في بغداد في بيته وليس في الطريق او على الحدود مع ايران. فكيف يجرم بتهمة محاولة الهروب الى ما يسميه النظام المخلوع بالعدو الفارسي الصهيوني و يعدم؟ دون ان ننسى الاشارة الى انه تم تنفيذ الحكم باعدامه بعد مرور شهر واربعة عشر يوما.

المطالبة بالقبض عليه رغم صدور شهادة وفاته

ثمة وثيقة تفاجئك تثير الكثير من علامات الاستفهام بعد ان تنتهي من قراءة “قرار التجريم” المطول بخصوص افادات الضحايا، وهي برقية سرية للغاية وفورية معنونة من رئاسة محكمة الثورة - بغداد الى مديرية الامن العامة، ووزارة العدل - مكتب الوزير، ووزارة العمل والشؤون الاجتماعية.. مكتب الوزير/ قسم الاحكام الطويلة، تطلب فيه القاء القبض على “حبيب” ومعه ضحية اخرى هي “ياسين صالح سعيد علي الجاف” وارسالهما الى قسم الاحكام الطويلة لتنفيذ قرار الحكم الصادر بحقهما، والبرقية مذيلة بتاريخ 18/ 5/ 1989 وبتوقيع عواد حمد البندر رئيس المحكمة، وهذا امر يثير الاستغراب، فالضحية حبيب صدرت له شهادة وفاة بتاريخ 19/ 10/ 1988 اي مر ما يقرب من خمسة اشهر على تاريخ البرقية. فكيف يكون ذلك؟ هل ثمة خطأ في كتابة تاريخ شهادة الوفاة؟ ام ان الضحية قد توفي اثناء التعذيب في غرف تحقيق مديرية الامن العامة على ايدي محققيها “الرحماء” بالمواطنين، فنظمت له شهادة وفاة، وباشرت باجراءات رفع قضيته (شكليا، صوريا) الى المحكمة؟.. فالبرقية توحي بما معناه ان الضحية قد اطلق سراحه رغم صدور حكمين بحقه ولا سيما اعدامه، فكيف ذلك؟

حبيب مواطن كردي، والنظام المباد اصدر بتاريخ 8/ 9/ 1988 قراره المرقم 736 المتضمن عفوا عن الاكراد، اي بعد ثلاثة ايام من صدور حكمي المؤبد والاعدام بحقه، فنجا من بين رفاقه العرب الـ 13 الآخرين الذين لم يصدر عفو او مكرمة بحقهم، فنفذت بهم عدالة الطغيان والاستبداد..

لكن لماذا اصرت محكمة الثورة تنفيذ قرارها بحق حبيب؟، او تظل غصة في ضمير عواد البندر ان تفلت ضحية من براثن احكامه الجائرة؟، ام ان الامر يتعلق بمديرية الامن العامة التي ترسل الضحايا الى المحكمة،...، يبدو ذلك واضحا من خلال الكتب السرية المتداولة بين ديوان الرئاسة ومديرية الامن العامة، فللكتاب المرقم ق/ 2/ 19152 بتاريخ 18/ 5/ 1989 الموقع من رئيس ديوان الرئاسة “احمد حسين” الى مديرية الامن والمتضمن حصول الموافقة على المقترحات التي اوردتها المديرية بكتاب سابق الى الديوان، يكشف عن رغبة المديرية في اشباع نهمها لاغلاق ملفات القضايا التي تفتحها بالاعدام، لكنه لا يكشف عن طبيعة المقترحات وما هي، وكتاب الديوان يرفق صورة لقرار مجلس قيادة الثورة المنحل المرقم 316 في 15/ 5/ 1989 والموقع من قبل صدام حسين شخصيا، والذي ينص على استثناء “ياسين صالح سعيد” و”حبيب كريم طاهر” من احكام قرار مجلس قيادة الثورة المرقم 736 والمؤرخ في 8/ 9/ 1988، ويتولى الوزراء المختصون والجهات ذات العلاقة تنفيذ هذا القرار “المقدس” الذي من اجله اجتمع المجلس ليستثني مواطنين كرديين من عفو سابق للكورد، “عفو صوري”، والا كيف تفسر حملات الانفال الشهيرة المتزامنة مع تاريخ العفو الصدامي لهم؟!..

تواريخ متناقضة لالقاء القبض

ملف الضحية مليء بالتناقضات التي تخص الاجراءات المتخذة بصدده، وتاريخ الوثائق يكشف هذا التناقض فيما بينها، وليمنحنا صورة جلية كيف كانت مديرية الامن العامة تحديدا تلعب بمصائر المواطنين، فلنتتبع التواريخ الخاصة بمسألة القاء القبض على الضحايا:

- 26/ 6/ 1988: هذا التاريخ يذكره قرار التجريم الصادر عن رئاسة محكمة الثورة انه تم القاء القبض على 14 متهما بضمنهم “حبيب”...

- 29/ 5/ 1988: تاريخ موقع من قبل ضابط تحقيق في مذكرة لحبس المعلق على التحقيق او المحاكمة مرفوعة الى قاضي تحقيق الامن العامة يطلب فيها الضابط تمديد مدة الموقوفية الى تاريخ 13/ 6/ 1988، والقاضي يأمر بتمديد مدة حبسه الى 28 من الشهر نفسه.. والتاريخ نفسه يعود الى وثيقة اخرى معنونة الى قاضي التحقيق ذاته يطلب فيها توقيف مجموعة متكونة من 11 ضحية لاكمال التحقيق معهم..

- 1987: بدون اليوم والشهر، وهذا التاريخ مذكور في وثيقة خاصة بجواسيس ومخبري الامن تسمى بـ (اخبار المعلومات الاولى) تشير الى انه تم القبض على مجموعة بعد تشخيصها، المجموعة تضم 17 ضحية، من بينهم حبيب.. وتذكر الوثيقة ان الاوراق التحقيقية الخاصة بهم قد عرضت على قاضي تحقيق الامن بتاريخ 18/ 7/ 1988، اي بعد مرور سنة على توقيفهم، فيا لها من اجراءات عادلة وقانونية بحق الشعب؟!..

التواريخ السابقة تفضح حجم التلاعب والحرية الممنوحة لمديرية الامن العامة في التحكم بحقوق وحريات وكرامة المواطنين..

ربما لا يعني الكثير بالنسبة لحبيب ورفاقه ان يعاد اعتقالهم اكثر من مرة طبقا لهذه التواريخ المتضاربة، ولم يعد مجديا ايضا الحديث عن تضارب في تواريخ اعدامه او اطلاق سراحه، ذلك انه انتمى الى كوكبة شهداء المقابر الجماعية او شهداء الوثائق، ورغم انه غادرنا خالعا زيه الخاكي بعد ان قرر التخلص منه، بعد ان التحق الى الخدمة العسكرية مرتين في العام 1987 إثر تخرجه من معهد الصحة، وفي العام 1981 حتى 1987، ست سنوات من الحرب، من الخوف والالم والمعاناة، رمى بسنوات شبابه في معركة طائشة لنظام استبدادي، استكثر عليه انه لم يمت فيها فقرر اعدامه حتى بعد ان توقفت طبول الحرب عن القرع.. وكأن هذا النظام الشمولي اراد لحبيب ان يبقى بزي الخاكي الذي سلب الاعمار والاستقرار، فعلق صورة عسكرية له في داخل ملفه، صورة كرهها حبيب كثيرا وقرر تمزيقها وحرقها لكن الجلاد يؤثر ايذاء ضحيته حتى وهي في قبرها..
[/align]