بسم الله الرحمن الرحيم
شخصية المصلح و المجدد عند الامام الشهيد السيد محمد باقر الصدر

(( ان ابراهيم كان امة قانتا لله حنيفا و لم يك من المشركبن * شاكرا لانعمه اجتباه و هداه الى صراط مستقيم * و اتيناه في الدنيا حسنة و انه في الاخرة لمن الصالحين ))

120-122 النحل

لم يكن الامام الشهيد شخصية عادية، فكل شيء فيه كان يكشف عن عبقرية متألقة، فمنذ سنوات دراسته الأولى كانت علامات النبوغ بارزة عليه، كما يتحدث بذلك أقرانه وأساتذته، فلم تكن هناك صعوبة في اكتشاف هذا الطالب القادم من الكاظمية الى الجامعة الشيعية الكبرى في النجف الأشرف عندما التحق أولاً بمدرسة منتدى النشر وهي واحدة من المشاريع الاصلاحية التي أسسها المصلح الكبير والمجدد البارز الشيخ محمد رضا المظفر طاب ثراه.. لم تكن هناك صعوبة في اكتشاف تفوقه وقدراته العقلية الخارقة وتطلعاته البعيدة المدى الى جانب عناصر مشرقة أخرى في شخصيته.

ومع أنه كان ينحدر من أسرة آل الصدر الشامخة في نسبها ورجالها وأعلامها في العراق وايران ولبنان، إلا أن ذلك لم يمثل له رصيد دعم ولم يكن يحتاج الى مسند يتكيء عليه، وشرف عائلي يقعده وسط المجتمع الجديد، فقد أراد أن يكون نسيجا وحده، وأن ينطلق في أجواء علوم آل محمد (ص) وفي عالم الفكر الرحب معتمداً على ما أنعم الله عليه من نعمة الذكاء الوقاد والعقل المبدع والحكمة العالية. وكان وفياً لإرادته صادقاً مع نفسه، مخلصاً في طموحه، فأعطى لآل الصدر شرفاً على شرفهم، وقدم للحوزة مزيداً من الفخر، ومنح العراق عزَ القائد ووهب حياته للاسلام الذي عمل وجاهد وضحى من أجله.

الشخصية الاصلاحية:

قد تكون فكرة الاصلاح محببة للكثيرين، فيحاولون أن يكونوا مصلحين، لكن ذلك لا يتحقق إلا لقلة محدودة. فمن المستبعد أن العالم والمفكر الذي يسير في سياقات صحيحة أن يرفض الفكرة الاصلاحية، أو يجمد طاقاته عن القيام بها. فهو يسعى لأن يساهم في الحركة الاصلاحية، إن لم يحاول أن يختط منهجاً إصلاحياً ويؤسس لحركة اصلاحية. غير أن المشكلة تكمن في التنفيذ، حيث يقف الكثيرون في حدود الرغبة والأمل، ويكرر الآخرون خطوات سابقة فتفقد حركتهم طابع الاصلاح، فيما يحقق القلة عملاً إصلاحياً في الساحة التي يتحركون فيها.

إن هذه المسألة في حقيقتها ظاهرة اجتماعية تستدعي الدراسة، لاسيما وأننا كمسلمين نمارس الاصلاح في حركتنا العامة، والمطلوب منا أن نمارسه في حياتنا بشكل مستمر كمهمة رسالية من أجل نشر تعاليم ومفاهيم الاسلام. وهذا يعني أن العمل الاصلاحي كظاهرة اجتماعية يجب أن تخضع لدراسات مستفيضة، وان تنال اهتماماً استثنائياً في ثقافتنا العامة و مناهجنا التعليمية، وهو نقص واضح في الثقافة الاسلامية العملية.

لسنا هنا بصدد التنظير لهذا المفهوم الاجتماعي، لكننا نشير اليه بشكل سريع، لما له علاقة بموضوع دراسة شخصية الامام الصدر الاصلاحية.

إن الشخصية الاصلاحية هي التي تستطيع أن تحقق توازناً دقيقاً بين القدرات الذاتية وبين التحرك الميداني، وذلك عندما تحاول أن تحقق الأهداف التي تؤمن بها. ان هذا التوازن هو النقطة المركزية التي يتوقف عليها مستقبل المشروع الاصلاحي من حيث النجاح أو الفشل، ومن حيث الشمولية أو المحدودية. فنحن نلاحظ أن هناك شخصيات امتكلت قدرات عالية كالابداع الفكري والتماسك الشخصي و الارادة الطموحة وغير ذلك من المقومات، لكنها لم تستطيع أن تسير في عملية الاصلاح سوى خطوات معدودة لا تكاد تذكر، بل أنها لا تتناسب مع المؤهلات الذاتية. بحيث ان مجتمعاتهم تبقى تتطلع الى خطوات جديدة منهم، لكنهم يبقوا عاجزين عن تلبية تطلعات مجتمعاتهم. فمثلاً نلاحظ أن الحركة الاصلاحية التي برزت أواساط القرن التاسع عشر في العديد من البلدان الاسلامية، تميزت بتفاوت كبير بين رموزها الاصلاحية، رغم أنهم يتفقون في الخط العام، وهو انقاذ البلاد الاسلامية من مظاهر التخلف و الاختراق والتراجع المدني والحضاري ودفعها باتجاه الأمام على مستوى الثقافة والعلوم و التنمية و الادارة السياسية و الاجتماعية. فقد غطت شخصية السيد جمال الدين الافغاني على غيرها من الشخصيات الاصلاحية، وكان الفارق كبيرا بينه وبينهم. حتى يمكن اعتباره هو الرائد والاستاذ، مع أن هناك مصلحين سبقوه زمنياً، لكن ما حققه الافغاني فاق ما حققه السابقون فخطف البريق الاصلاحي عن كفاءة وقدرة. ويعود السبب الى أن السيد جمال الدين عندما سار نحو الأهداف التي آمن بها، استطاع أن يحقق التوازن الدقيق بين قدراته وبين حركته. وربما يكون بعض المصلحين الذي عاصروا الافغاني والذين عجزوا عن تحقيق ماحققه، كانوا أكثر منه في قدراتهم الذاتية لكنهم لم يكونوا مثله في الموازنة الحساسة بين القدرة والتحرك.

الى جانب هذا النموذج نلاحظ أن هناك شخصيات لها مكانتها في الجانب الفكري، وكانت لهم قدراتهم العالية وموهبتهم المتميزة، لكنهم لم ينجحوا في مشاريعهم الاصلاحية رغم أنهم رفعوا شعار الاصلاح عن قناعة وإيمان. وأحجم هنا عن ذكر الاسماء خشية اساءة الفهم وتقديراً لمكانتهم العلمية واخلاصهم الديني. لكنني أقول أنهم لم يوفقوا في النجاح في العمل الاصلاحي، وتوقفوا عند الخطوات الأولى، والسبب هو الخلل في الموازنة بين القدرة الذاتية وبين التحرك الميداني.

وعندما ندرس شخصية الامام الشهيد الصدر في ضوء هذه النظرية الاجتماعية، نلاحظ أن التوازن كان في غاية الدقة وهذا ما أعطى نتائج لها تأثيرها الكبير على الساحة الاسلامية وخلال فترة قصيرة نسبياً، ولو قدر له طاب ثراه ان يعيش أكثر لكانت حركته الاصلاحية هي الأكبر والأوسع والأشمل في التاريخ الشيعي الحديث.

لقد كان الامام الصدر يمتلك قدرة عقلية نادرة، وكان يحمل هموماً واسعة في نفسه الكبيرة وفي قلبه الأكبر، وكان يحمل هدفاً اصلاحياً شمولياً، سار عليه في كل فترات حياته، المباركة. لم يكن من الصعب عليه أن يتعامل مع المشروع الاصلاحي تعاملاً علمياً دقيقاً، فشخصيته كانت تتسم بهذا المنهج المنظم.

إنني أفهم شخصية الصدر الشهيد على أنها مرت بمرحلة واحدة فقط، وأن الفترات الأخرى التي طبعت حياته كانت أجزاء من تلك المرحلة، فقد بدأ الشهيد الصدر خطوة تأسيسية ثم تبعتها خطوات متلاحقة دون أن يحيد عن طريق الخطوة الأولى، أي أنه منذ البداية كان يعرف ما يريد، وكان يدرك الى أين يتجه. وكانت حياته المباركة بين البداية والشهادة هي المشروع الاصلاحي الطويل، وإن قصرت سنواته.

هناك من يعتبر ان الامام الصدر عندما تصدى للمرجعية بدأ مرحلة جديدة في حياته، وأن تغيراً ما طرأ على حياته واهتماماته. لكن هذا الرأي لا يعكس الحقيقة كما هي، إنما القول الصحيح هي أن المرجعية هي جزء من المشروع الاصلاحي العام والشامل له، ولو أنها خرجت عن مسار هذا المشروع لما تصدى لها رضوان الله عليه، ولما دخل عالم المرجعية حتى ولو فتحت أبوابها أمامه بكل رحابة وسعة. ودليلنا على ذلك أنه لم يظهر أي ردة فعل عندما فرضت عليه ضغوط من قبل بعض المرجعيات لأن يبتعد عن المنافسات التقليدية في عالم المرجعيات، فكان موقفه رضوان الله عليه، أنه لم يسع الى الترويج والتوسع في الساحة، ولم يرد أن تنبسط دائرة مقلديه، ولم يسر في هذا الطريق أبداً. إنما تصدى للمرجعية لأن مشروعه الاصلاحي الشمولي، كان يستلزم في بعض فقراته إحداث الاصلاح في الجامعة الاسلامية، وهذا لا يتم ما لم يحمل عنوان المرجعية. بمعنى أن المرجعية كانت عنده وسيلة وليست هدفاً قائماً بذاته.

إن من غير المنطقي الفصل بين المشروع الاصلاحي وبين الشخصية المتصدية للاصلاح، فالمشروع الاصلاحي ليس وظيفة تشريفية تمنح لشخص معين، بل هي مسؤولية كبيرة لا يتحملها إلا من يؤمن بها ويمتلك مواصفات النهوض بها. وعلى هذا فلا يمكن أن نتصور أن لكل انسان قدرة على القيام بمشروع اصلاحي حتى لو امتلك مقومات الفكر والارادة والعقلية الناضجة والأفق الواسع.

فهناك الى جانب ما ذكرنا عناصر أخرى ترتبط بالجانب الشخصي للمصلح وهي أقرب ما تكون الى الموهبة منها الى التعلم والممارسة. فمن الممكن إعداد شخص ما ليكون عالماً بدرجة عالية في مجال تخصصي معين، ويمكن لهذا الشخص ان يكون فريد زمانه في مجال تخصصه لكن ليس بالضرورة ان نجعل من هذا الشخص أن يكون مصلحاً لأن الاصلاح ببساطة حالة تكوينية مرتبطة بالشخصية وليس عملية تثقيفية دراسية، أو فكرة نحاول أن نقنع بها الشخص ليكون مصلحاً. ولقد أشرنا خلال البحث بأن المقتنعين بالاصلاح يمثلون قطاعاً واسعاً من جمهور العلماء والمفكرين والمثقفين، بل نجد حتى البسطاء من الناس يحلمون بدور اصلاحي ويتطلعون الى عمل اصلاحي. لكن لم تمكنهم شخصياتهم من القيام بهذا الدور.

على أن من الضروري هنا الاشارة الى حقيقة هامة في هذا المجال، وهي الثقافة الاصلاحية كمنهج تربوي في الأوساط الاسلامية. حيث أن التثقيف الاصلاحي لم يأخذ دوره ومكانته في ثقافتنا العامة، وهذا ماجعل الولادات الاصلاحية متباعدة وبطيئة ونادرة، ولو اعتمدنا التربية الاصلاحية في برامجنا الثقافية في كل المستويات والمجالات، لساهم ذلك بدون شك في زرع عوامل الشخصية الاصلاحية في اجيالنا.

إننا ندرس الاصلاح كتجربة تاريخية، ونمر عليها مروراً عابراً في المناسبات السنوية والمئوية للمصلحين مثلما نحتفل في هذا المؤتمر لنكرم شخصية الامام الصدر، في حين أن المطلوب هو إعتماد تربية اصلاحية في مدارسنا ومعاهدنا العلمية وفي كتاباتنا الثقافية وفق منهجية علمية مدروسة، وذلك من أجل بث الوعي الاصلاحي وسط الطلبة والمثقفين. وفي هذه الحالة سوف تكون ولادة الشخصية الاصلاحية أمراً ميسوراً، وتلك خطوة تمهيدية لخلق حالة الوعي الاصلاحي والاتجاه الاصلاحي في التفكير الاسلامي العام.

إنني أنتهز فرصة هذا المؤتمر المبارك لطرح هذه الفكرة على كل الاخوة والاساتذة الحاضرين لدراسة هذه الفكرة، ودعمهاً ميدانياً، لا سيما وأن التحديات التي تواجه الاسلام تستدعي نهضة اصلاحية شاملة، وهذا لا يتحقق إلا من خلال التربية المنهجية التي تخلق جواً عاماً وحالة سائدة في مجتمعاتنا المسلمة.

وأشير هنا أن هذه الفكرة مستوحاة من دراستي ومعايشتي لتجربة الامام الصدر، فقد كان قدس سره يحاول الوصول بالاصلاح الى الحالة الجماهيرية، وذلك من خلال التأكيد على دور الشخصية الرسالية وعلى دور المبلغ الاسلامي المرتبط بالمرجعية الصالحة، فقد خطط طاب ثراه الى جهاز يعمل في خط الاصلاح ويثقف على الاصلاح. وهذه واحدة من المحطات البارزة في شخصيته المبدعة. وربما يكون من الوفاء للشهيد العظيم الامام الصدر أن نعمل في اتجاه هذه الفكرة، لمواصلة مسيرته الاصلاحية الرائدة.

الحتمية الاصلاحية:

عندما يكون المشروع الاصلاحي متكاملاً في مقدماته متوازناً في حركته، فإنه يعطي نتائج مؤثرة على الساحة، تمتلك عناصر القوة والبقاء والثبات، وهذه هي السمة الأساسية في المشروع الاصلاحي.

إننا نلاحظ تسامحاً كبيراً في توصيف المشاريع الاصلاحية، وفي تسمية المصلحين، فقد أطلق لقب المصلح على الكثير من الشخصيات مع أن الاعمال التي نهضوا بها كانت محدودة بفترة حياتهم، ثم تلاشت بعد موتهم. ولا نريد أن نسحب هذا التسمية منهم، لكننا ندعو الى التمييز بين شكلين من الاصلاح:

الأول: الاصلاحي الآني: وهو الاصلاح الذي يعيش لفترة محدودة ويساهم في علاج وضع معين، لكنه لا يمتد في المستقبل، حيث يتوقف بعد فترة زمنية، وهذا ما نلاحظه على الكثير من المشاريع الاصلاحية، رغم أنها قدمت خدمات مشكورة للاسلام وأهله.

الثاني: الاصلاح الحتمي: وهو الاصلاح الذي يزرع جذوره عميقاً في الواقع ويفرض نتائجه مهما كانت الظروف، في فترة المصلح وبعد وفاته، وتبقى آثاره تتفاعل في المجتمع لفترة طويلة لتفتح آفاق رحبة متجددة أمام السائرين على نهج المصلح. وهذا ما نلاحظه في تجارب الأئمة من أهل البيت عليهم السلام، وفي تجارب تلامذتهم وبعض أتباع مدرستهم من مثل الامام الشهيد الصدر.

إن الاصلاح الحتمي يحتاج الى مقومات دقيقة ورؤية شمولية للواقع من كافة أبعاده وجهاته، فهو يحتاج الى نظرة ثاقبة تتجاوز حدود الزمن لترمق المستقبل بنفس الوضوح الذي تنظر فيه الى الحاضر، مما يجعل صاحب المشروع الاصلاحي، يخطط للأمة في حاضرها من أجل أن تجني الثمار في حاضرها ومستقبلها، أي أنها تؤسس منهجاً اصلاحياً وليس مجرد عمل اصلاحي و هي حقيقة تأريخية في قانون التطور في مجالات الفكر و الاجتماع.

فمثلاً نلاحظ أن الامام السجاد عليه السلام عندما إهتم بالجانب العلمي و التربوي و الاخلاقي، وركز على تهيئة كوادر علمية و اجتماعية تحمل الفكر الاسلامي الأصيل الذي يعيد الأمة الى رشدها الاسلامي، انطلق من تقديره الدقيق للظروف التي يمر بها المسلمون، وظهور تيارات فكرية منحرفة في الساحة، وسعي السلطة الى تحريف العقيدة الاسلامية و تشويه المفاهيم و احكام الشريعة و العبث بكرامة الامة و مقدراتها مما كان يهدد الاسلام من الأساس، لذلك تحرك على أساس التخطيط لمشروع تصحيحي يجدد الحياة الفكرية وفق المنهج الاسلامي الأصيل، وكان ذلك في حقيقته ما نصطلح عليه بالحتمية الاصلاحية التي تعطي ثمارها المؤكدة مهما كانت الظروف والأجواء والتحديات. وهذا ما حدث بعد وفاته عليه السلام، إذ امتد العمل الاصلاحي في الأمة من خلال سيرة الأئمة من ولده عليهم السلام، والتي أنتجت مدرسة فكرية أصيلة إمتدت في كل بقاع العالم الاسلامي، ونشرت التشيع وحافظت عليه الى يومنا هذا.

إن هذا النموذج الذي أتينا على ذكره يمثل نموذجاً متكاملاً يصعب تكراره، بحكم الشخصية المعصومة للأئمة عليهم السلام، إلا أن الحتمية الاصلاحية تبقى ممكنة التحقق طالما تمسكت بالمنهج الصحيح، وهو ما نلاحظه في تجارب بعض أتباع و علماء مدرسة أهل البيت عليهم السلام، ونستطيع أن نضرب بالشيخ الطوسي مثلاً، فقد استطاع شيخ الطائفة أن يؤسس مشروعاً اصلاحياً متكاملاً في مرتكزاته الاساسية، ووضع اللبنات الأولى لأعظم جامعة اسلامية في التاريخ الاسلامي وهي جامعة النجف الأشرف الشامخة بشموخ مدرسة أهل البيت عليهم السلام. ومع أن عطاءات الشيخ الطوسي لم تظهر كاملة في حياته، إلا أنها أعطت نتائجها فيما بعد، لأن مشروع الطوسي كان حتمية اصلاحية.

ومن المناسب الاشارة الى أن مصطلح الحتمية الاصلاحية، هو أكثر دقة في تصورنا من مقولة ولادة المصلح في غير زمانه، أو الولادة التي تسبق العصر وذلك في وصف بعض عظماء التاريخ. فقد ولد هؤلاء في زمانهم لكنهم أسسوا مشروعاً متمرداً على وحدات الزمن، يتجاوز الحاضر الى المستقبل، فكان عملهم حتمية اصلاحية، لا بد أن تعطي نتائجها ذات يوم، إن لم تعطها في حياتهم.

لقد كان الامام الصدر من جملة هؤلاء العباقرة الأفذاذ من المصلحين الذي أرادوا لحركتهم أن تكون ممتدة مع الزمن، لا تعيش عقلية اللحظة، ولا تتناول المقطع الزمني المعاش، بل تواصل عطاءاتها مع حركة الزمن، تؤثر فيها وتوجهها وتترك بصماتها عليها بوضوح وتجذر، وهذا ما فعله الامام الصدر وسعى اليه منذ الخطوات الأولى لحياته العلمية.

كان بإمكان الصدر الشهيد أن يصنع عملاً اصلاحياً محدوداً، ويكرس حياته لهذا العمل، ولو فعل ذلك لنجح نجاحاً كبيراً بلا شك، لكن شخصيته لم تكن لتقنع بهذه الدائرة المحدودة، فالحالة تكون أشبه بحبس عملاق في غرفة ضيقة. في حين كان يريد قدس سره تحريك كافة عناصر القوة في شخصيته من أجل الاسلام، لأنه يدرك أن ما يملكه ليس ملكاً شخصياً بل هو نعمة وموهبة من الله وعليه أن يؤدي حقها كما ينبغي، فتزكى بعطاءه وكان سخياً الى أبعد الحدود.

وأحسب أن الصدر قدس سره لم يقف طويلاً بين المشروع المحدود وبين المشروع المترامي الآفاق، وأكاد أقطع بأنه لم يقلب الأمر بين هذا وذاك، إنما انطلق في مشروع الاصلاح الحتمي، كخيار واحد قادته اليه شخصيته الاصلاحية، بحكم ملكاتها العالية ومواهبها المتألقة. إن الأمر يشبه الشاعر الملهم المبدع عندما ينظم الشعر، فهو لا يجهد نفسه في اختيار الجودة ودرجة السبك و الصورة الشعرية الموحية، لأنه لا يملك غير خيار الابداع بدون قصد منه، وتلك طبيعة المبدعين وذوي النفوس الكبيرة والقابليات الخلاقة.

http://www.darislam.com/home/sadr/subpaper/musleh.htm