النتائج 1 إلى 3 من 3
  1. #1
    تاريخ التسجيل
    Nov 2002
    المشاركات
    4,192

    افتراضي حسن جار النوري: تطور نظرية المعرفة عند الإمام الشهيد محمد باقر الصدر

    تطور نظرية المعرفة عند الامام الشهيد الصدر(ض)

    حسن جابر النوري

    اهمية البحث عن نظرية المعرفة

    كيف تريد ان ترى العالم.. هل تريد ان تراه مادياً فقط أو اوسع من المادة ان ذلك مرتبط بما تملكه من ادوات للمعرفة والاكتشاف.. هل بامكانك ان تحكم باستحالة مربع له ثلاث اضلاع فقط ان هذا ايضاً ممكن في حالة ولا يمكن في حالة اخرى، وهل من الضروري لتكوين المعرفة ان تعتقد بمبادىء ومسائل قبل التجربة والاحساس وقد يعين الاحساس على ادراكها في مراحل مقبلة للذهن كمبدأ عدم التناقض وان الوجود والعدم يستحيل اجتماعهما، وهل ان بحث الادراك وتفسيره سيؤثر على مدى قدرتنا على المعرفة وهل سيوسعها في حالة ويضيقها في حالة اخرى نعم هذه هي الحقيقة التي اشبعها بحثاً كتاب فلسفتنا (وجاء كتاب الاسس المنطقية للاستقراء ليكمل) النتائج الصحيحة في الكتاب السابق عليه ولتناقش في بعض نتائجه..

    موضوع نظرية المعرفة

    في ضوء هذا البحث يتحدد مصير الفكر والتفلسف وترى «الموسوعة الفلسفية المختصرة» ان مجموعة جدُ متنوعة، من المشكلات الفلسفية ليس بينها رباط وثيق تتعلق بالافكار من قبيل المعرفة والادراك والتيقن والتخمين والوقوع في الخطأ والتبيين والاثبات والاستدلال والتأكيد والتعزيز والتساؤل والتأمل والتحليل ورؤية الاحلام وهلم جرا وكثيرا ما يسمى هذا الجزء من الفلسفة بـ«نظرية المعرفة» أو الايستمولوجيا(1).

    اما الدكتور عبد الرحمن بدوي(2) فيرى ان نظرية المعرفة تبحث في مدى ما تستطيع عقولنا الوصول إليه في ادراك حقيقة الكون والطبيعة والإنسان وما هي ادوات المعرفة الصحيحة وما قيمة هذه الادوات وادوارها في تحصيل المعرفة البشرية.

    والامام الشهيد الصدر يقول بان البحث في المقياس العام للمعرفة البشرية والمبادىء الاولى لهذه المعرفة هو الذي يقدم للفلسفة مبررات وجودها أو يحكم عليها بالانسحاب والتخلي عن وظيفتها للعلوم الطبيعية. وقد اوضح السيد الصدر المقصود بهذا البحث وما هي فائدته وثمرته على مجمل التفكير البشري وعلى السلوك الاجتماعي. ولاول مرة يطبق فيلسوف نظريته على الواقع الاجتماعي ويجعل المسألة الاجتماعية هدفاً وغاية للبحث الفلسفي وحين يحدد الهدف من الفلسفة تكون الفلسفة علماً نافعاً وهادفاً ويكون الفيلسوف عنصراً فعالاً ومؤثراً، وبالتالي ويزول من الاذهان التصور المعقد والسلبي نحو الفلسفة والفيلسوف

    ___________________________________

    1- الموسوعة الفلسفية المختصرة.

    2- الموسوعة الفلسفية ـ عبد الرحمن بدوي.



    ويحل محله تصور جديد وفهم ايجابي لدور الفلسفة والفيلسوف في تكوين الرؤية الايدلوجية للبشرية..

    ونلاحظ في تاريخ اغلب الفلاسفة حدوث تحول خطير يستهدف نفع المجتمع ففي البيئة المسيحية يظهر (اوغست كانت) ليأسس دينا بعد عجزءه عن قبول افكار المسيحية.

    وفي البلاد الإسلامية يجرد عبد الرحمن بدوي سلاحه الفلسفي والفكري ليدافع عن الإسلام وهذا ما فعله قبله زكي نجيب محمود.

    ان عودة هؤلاء الفلاسفة إلى هويتهم الإسلامية سوف يسهم اسهاماً بالغاً في تقريب كثير من الشباب إلى الفلسفة لان مواقع البطولة هي المؤثرة في اذهان الشباب وحين يكون الفيلسوف مقاتلاً وبطلاً فانه يتحول إلى قدوة وانموذج يُحتذى وتحملُ المسؤولية من قبل الفيلسوف لا يعني فقط انّه يتعامل مع الاذهان والعقول بالشرح والتحليل بل يضيف إلى ذلك الاقناع والتدليل بالقول والعمل وهل هناك انفع للفلسفة من ان يقع الفيلسوف شهيداً دفاعاً عن منهج اكتشفه وخدم به دينه ورسالته كما فعل السيد الشهيد الصدر ولا عجب ان يستشهد الفيلسوف كما يقع المقاتل شهيداً فكلاهما يدافع عن عقيدته ورسالته.

    نظرية المعرفة وقيمتها عند الشهيد الصدر

    انفرد السيد الصدر (رض) من بين فقهاء المسلمين وعلمائهم بتكوين نظرية في المعرفة جديدة على التفكير المنطقي والفلسفي الكلاسيكي والحديث، حيث اكتشف النواقص في المدرسة القديمة والحديثة فتداركها لينتهي إلى نظرية تجمع بين حسنات المدرستين ولا يمكن من خلال بحث واحد ولكاتب واحد الالمام بتفاصيل رؤيته الجديدة نحو المعرفة خصوصاً إذا لاحظنا التطور الحاصل في نظريته المطروحة في فلسفتنا والمتكاملة في الاسس المنطقية للاستقراء وهذا يعني ان الباحث لا بد له من المرور على نظرية فلسفتنا في المعرفة ليقارنها بما جاء في الاسس، كما ان السيد الصدر لم يُشر هو بنفسه إلى كل المفردات التي تخالف فيها الكتابان ثم ان هناك من يرى ان السيد الصدر لم يأت ببحث مستقل تحت هذا العنوان (نظرية المعرفة) في غير كتاب فلسفتنا ولكن هذا لا يضير بالبحث عن نظريته في المعرفة لان خلاصة ارائه الاخيرة في المعرفة استوعبتها الاسس المنطقية للاستقراء وعلينا ان نأخذ بعين الاعتبار ان السيد الصدر اقرّ ما جاء في فلسفتنا مما لم يغيره في الاسس. وسنجد ان الصدر سوف لن يشير في الاسس إلى نظريته في التصورات ومصدرها اي انّه ابقى نظرية الانتزاع كمصدر للتصورات على ما هي عليه كما انّه سيشير إلى ان مصدر التصديقات المطابقة للواقع ليس هو نفس المصدر المذكور في فلسفتنا..

    كما ان اثبات حقيقة ان للعلم والصور الذهنية مطابق في عالم الخارج أو الواقع ليس دليله قانون العلية لان هذا القانون لا يثبت الا وجود علة لتولد الصور اما المصدر الاساسي فلا يحدده هذا القانون. ويرى البعض ان السيد الصدر لم يُمهل الوقت الكافي لاشباع البحث في النظرية وتكميله.. ولكننا نعلم ان السيد كان بعد تأليفه للاسس يشير باستمرار إلى نظريته الجديدة في المعرفة ومذهبه الذي ابدعه (المذهب الذاتي) مما يعني انها تكاملت في كتابه الاسس المنطقية للاستقراء.

    يمكننا عرض نظرية المعرفة للشهيد الصدر بالشكل التالي:

    النظرية في فلسفتنا

    النظرية في الاسس المنطقية للاستقراء

    تطبيقات النظرية في المجالات المختلفة

    العقائد ونأخذ مثالاً لذلك تفسير المعجزة وكيفية الاستدلال بها

    والامامة والولاية

    نظرية المعرفة في فلسفتنا

    منهج البحث

    تحديد الموضوع وعرض مختلف النظريات ومناقشتها

    اختيار الصحيح منها

    1 ـ تحديد الموضوع

    ما هي مصادر الفكر ومقاييسه.

    مصادر المعرفة ومنابعها الاساسية.

    الركائز الاولية للكيان الفكري، المصدر الممون لسيل الفكر والادراك.

    الخيوط الاولية للتفكير.

    الينبوع العام للادراك بصورة عامة.

    تقسيم الادراك.

    تقسيم الادراك إلى قسمين:

    التصور وهو الادراك الساذج والتصديق هو الادراك المنطوي على حكم وهنا يتفرع البحث إلى فرعين

    الاول: ما هو المصدر الاساس للتصور، ما هو المصدر الحقيقي للتصورات والادراكات البسيطة كتصور الكتاب والنار وما يعالج هنا هو مصدر المفردات التصورية لا مركبات التصور كالجبل من الذهب..

    يستعرض السيد اربع نظريات ليبطل الثلاثة الاولى ويختار الرابعة وتعتمد منهجيته هنا على ذكر مشاكل فكرية تواجه النظريات الثلاثة الاولى ولا تعجز الرابعة عن حلها والتغلب عليها وكان عرضه كما يلي:

    (1) نظرية الاستذكار الافلاطونية التي ترى ان الاحساس استرجاع واستذكار للتصورات العامة التي ادركتها في عالم المجردات والمثل وهو عالم حافل بالحقائق الكلية وعلى هذا فالعالم والادراك العقلي لا يتعلق بالجزئيات بل بالامور العامة والكلية. وقد ناقش ارسطو هذه النظرية باثبات ان الكلي لا يوجد في الذهن الا بعد ادراك الجزئيات وتجريدها عن خصوصياتها أو بانتزاع المعنى الكلي من الجزئيات.

    2 ـ النظريات العقلية ـ ديكارت ـ كانت

    هناك منبعان للمعرفة هما الاحساس والفطرة

    لماذا اختاروا هذه النظرية لان بعض التصورات والمعاني لا يمكن ارجاعها إلى الحس لانها غير محسوسة اذن هي مستبنطة من النفس استنباطاً ذاتياً.

    الرد عليها باسلوبين:

    (1) تحليل الادراك بحيث يرجع برمته إلى الحس.. جون لوك.. باركلي ودافيد هيوم.

    (2) الاسلوب الفلسفي كيف يتولد كمّ هائل من المعارف من النفس وهي عنصر بسيط.

    هذا الرد غير تام إذا ملكنا كمية المعارف الفطرية.

    ويمكن ان تبين النظرية العقلية بشكل آخر تكون مقبوله فيه ولا يرد عليه كلا الردين لان التصور الفطري يحتويه الوجود النفسي لا شعوريا وبتكامل النفس يغدو شعوريا واضحاً.. كالمعلومات التي يتذكرها الإنسان..

    2 ـ النظرية الحسية

    التي ترى ان الاحساس هو الممون الوحيد للذهن البشري بالتصور والمعاني والذهن مجرد عاكس للاحساس وظيفة الذهن اذن التصرف في صور المعاني المحسوسة بالتركيب والتجزئة أو التجريد والتعميم.

    نظرية جون لوك

    شاعت بين فلاسفة اوربا وقضت إلى حد ما على نظرية الافكار الفطرية ونتائج هذه النظرية الخطرة كما سيظهر في فلسفة باركلي وهيوم والمعروف ان الماركسية اختارت هذه النظرية لانها ترى في الشعور البشري انّه انعكاس للواقع الموضوعي وكان دليلها التجربة، فان من حرم لونا من الوان الحس فلايتصور المعاني ذات العلاقة بذلك الحس الخاص. هذه التجارب تبرهن على ان الحس هو المصدر الاساسي للتصور ولا تنفي قدره الذهن على توليد معاني جديدة غير محسوسة من المعاني المحسوسة.

    الرد على الحسيين

    نعرض هذه الطائفة من التصورات على الحسيين وهي ما يلي:

    العلة والمعلول والجوهر والعرض والامكان والوجوب والوحدة والكثرة والوجود والعدم.

    هل يمكن ارجاع هذه المفاهيم إلى الحس؟

    فالمحاولات التي ترمي إلى تعميم الحس لنفس العلية واعتبارها مبدأ حسياً تقوم على تجنب العمق والدقة في معرفة مبدأ أن الحس وما يتسع له من معاني وحدود.. لان التجربة العلمية لا تكشف بالحس الا الظواهر المتعاقبة ودافيد هيوم فيلسوف دقيق انكر العلية وارجعها إلى عادة ذهنية هي تداعي المعاني.

    رد الشهيد الصدر على هيوم:

    انكار العلية كحقيقة موضوعية يعني عدم تصديقنا بكونه قانونا خارجيا ولسنا نتكلم عن التصديق بل عن التصور. وهل ينفي هيوم تصوره للعلية وهل ينفي الإنسان شيئا لم يتصوره.. ولا يمكن لهيوم ان يقول ان تصور العلية تصور مركب من تصور الحرارة والغليان بل العلية فكرة ثالثة تقوم بينهما أو صلة خاصة بينهما فاذا لم يكن للذهن خلاقية وقدره على الابداع فكيف حصلت هذه الفكرة..

    4 ـ نظرية الاقتراع

    وتقوم على تقسيم التصورات إلى قسمين:

    التصورات الاولية والتصورات الثانوية

    والاولية هي الاساس التصوري للذهن البشري، وهي تتولد من الاحساس.. وتشكل المعاني المحسوسة والمتصورة ـ القاعدة الاولية للتصور والذهن ينشأ بناء على قاعدة تلك التصورات.

    اما التصورات الثانوية وهنا يبدأ دور الابتكار والانساء

    فيولد الذهن مفاهيم جديدة من تلك المعاني الاولية وهي خارجة عن طاقة الحس لكنها مستنبطة ومستخرجة من المعاني المحسوسة..

    تقييم نظرية الانتزاع

    (1) البرهان والتجربة يساعدان على اثبات هذه النظرية.

    (2) يمكنها تفسير جميع المفردات التصورية تفسيراً متماسكاً.

    فالعلة والمعلول والجوهر والعرض تولدا بابتكار الذهن لها..

    الثاني: التصديقية

    اصل المعرفة التصديق والركائز الاساسية التي يقوم عليها صرح العلم الإنساني.

    ما هي الخيوط الاولية التي نسجت منها تلك المجموعة الكبيرة من الاحكام والعلوم وما هو المبدأ الذي تنتهي إليه المعارف البشرية في التعليل وتعتبر مقياسا اوليا عامة لتمييز الحقيقة عن غيرها.. هناك مذهبان: المذهب العقلي، المذهب التجريبي.

    المذهب العقلي يقسم المعلومات التصديقية إلى قسمين اولية وهي البديهيات.

    وثانوية وهي المعلومات المستنتجة من الاولى حيث ان المعارف ضرورية ونظرية والضرورة تضطر النفس للاذعان بها من غير المطالبة بدليل أو برهان بل تجد من طبيعتها ضرورة الايمان بها ايماناً غنيا عن كل بينة وآيات والحجر الاساس للعلم هو المعلومات العقلية الاولية وعلى ذلك الاساس تقوم البنيات الفوقية للفكر الإنساني والتي تسمى بالمعلومات الثانوية.

    التفكير هو العملية التي تستنبط بها معرفة نظرية من معارف سابقة ويؤمن المذهب العقلي بقيام علاقة السببية في المعرفة البشرية بين بعض المعلومات وبعض.

    فان كل معرفة انما تتولد من معرفة سابقة وهكذا تلك المعرفة حتى ينتهي التسلسل الصاعد إلى المعارف العقلية الاولية التي لم تنشأ من معارف سابقة ولهذا السبب تعتبر هذه المعارف القبلية العلل الاولى للمعرفة. وهي على نوعين:

    (1) ما تكون شرطا اساسياً لكل معرفة انسانية بصورة عامة وهو مبدأ عدم التناقض.

    (2) ما يكون سببا لقسم من المعلومات كمبدأ العلية..

    نتائج

    (1) المقياس الاول للتفكير هو المعارف العقلية الضرورية..

    (2) السير الفكري يتدرج من العام إلى الخاص ومن الكليات إلى الجزئيات حتى التجريبيات.

    المذهب التجريبي يرى ان التجربة هي المصدر الاول لجميع المعارف البشرية والانسان يولد وهو خالي الذهن من كل معرفة نظرية ولا يملك الإنسان حكماً يستغني عن التجربة في اثباته.

    ومن النتائج المترتبة على هذا المذهب:

    (1) تحديد طاقة الفكر البشري بحدود الميدان التجريبي.

    (2) السير الفكري ينطلق من الخاص إلى العام ومن الجزئيات إلى الكليات.

    وبهذا يعتمد المذهب التجريبي على الاستقراء.

    الرد على المذهب التجريبي

    (1) نفس القاعدة التي يعتمد عليها التجريبيون اما ان تكون تجريبية أو غير تجريبية. فلا يمكن للتجربة ان تعطي قيمة لنفسها وان لم تكن تجريبية فالقاعدة المتقدمة لا تشملها اي انها باطلة.

    (2) المادة والجوهر لا يمكن كشفهما بالتجربة.

    (3) لن يستطع المذهب التجريبي الحكم باستحالة شيء أو بالضرورة شيء آخر ومع سقوط مفهوم الاستحالة يكون التناقض ممكنا ومع امكانه تنهار العلوم..

    (4) العلية لا تثبت عن طريق التجربة.

    ومع انهيار مبدأ العلية تنهار قاعدة اثبات العلوم. لهذا حاول هيوم ارجاع عنصر الضرورة إلى طبيعة العملية العقلية.

    رد على هيوم باربع نقاط

    يمكن للمذهب العقلي تفسير الضرورة في الرياضيات ومن العلوم.

    لماذا لم تكن البديهيات موجودة عند الإنسان منذ نشأته؟

    ان المعارف الاولية وان كانت تحصل للانسان بالتدريج إلاّ ان هذا التدريج ليس معناه انها حصلت بسبب التجارب الخارجية بل التدرج انما هو باعتبار الحركة الجوهرية والتطور في النفس الإنسانيّة فهذا التطور والتكامل الجوهري هو الذي يجعلها تزداد كمالاً ووعياً. للمعلومات والمبادىء الاساسية فيفتح ما كمن فيها من طاقات وقوى.

    اذن هناك وجود بالقوة وباللاشعور لهذه المعارف.

    اي ان النفس الإنسانيّة تنطوي على ما بالقوة على تلك المعارف الاولية وبالحركة الجوهرية يزداد وجودها شدة حتى تصبح تلك المدركات بالقوة مدركات بالفعل.

    وبدون تصور الوجود والعدم والاجتماع لا يمكن الحكم باستحالة اجتماع النقيضين فان تصديق الإنسان بشيء لا يحصل بدون تصوره.

    والتصورات الذهنية ترجع جميعاً إلى الحس بصورة مباشرة أو غير مباشرة فيجب ان يكتسب الإنسان مجموعة التصورات التي يتوقف عليها مبدأ عدم التناقض عن طريق ما ليتاح له ان يحكم بهذا المبدأ ويصدق به. وتأخر ظهور المبدأ لا يعني كونه تجريبياً، ان التصورات الخاصة هي شروط وجوده وصدوره عن النفس.

    المفهوم الفلسفي للعالم

    طرح السيد الشهيد نظرية المثاليين ومفهومهم عن العالم وقابله بمفهوم الواقعيين الذين يرون ان وراء الفكر والاحكام الذهنية حقائق واقعية خارجية فكرتنا عن حرارة النار لها مطابق خارجي والواقعيون ماديون والاهيون.

    والماديون يعتقدون ان لا وجود واقعي لغير ما هو مادي بينما يرى الالالهيون وجود اشياء واقعية وراء عالم المادة ونفس التصنيف يرد في مسألة الادراك حيث ان وجهتي النظر المادية والالهية انطبقت على الادراك فالمادية ترى ان الفكر عمل مادي في عضو مادي بينما ترى الالهية ان الفكر عمل خلاق للعقل لا يقع في العضو المادي كالدماغ واستدلّ الاهيون بأدلة لهذا الامر منها ظاهرة الثبات في الافكار بينما لاثبات لما هو مادي ومنها ظاهرة المطابقة الكاملة للفكر مع الواقع الخارجي بمساحاته واشكاله الهندسية مع سعتها بينما العضو المادي مهما كبر لا يتسع لهذه المساحات..

    ويؤيد الامام الصدر مفهومه الالهي عن العالم ببحوث عن المادة في مختلف الاصعدة العلمية والفلسفية لينتهي إلى نتيجة هي عدم قدرة المفهوم المادي على تفسير ظهور الحياة من غير صانع ومبدع وان المادة ليست ازلية ولنقارن كلام السيد الصدر بكلام لعالمين كبيرين حول الموضوع يقول العالمان روبرت اغروس وجورج نستانسيوفي في كتابهما العلم في منظوره الجديد ص 64 ـ 65.

    يبدو إذاً أن المادة ليست ازلية بالرغم من كل شيء. وكما يعلن عالم الفيزياء الفلكية جوزف سلك «Joseph Silk» فان «بداية الزمن امر لا مناص منه». كما يخلص الفلكي روبرت جاستر «Robert Jastrow» إلى ان «سلسلة الحوادث التي ادت إلى ظهور الإنسان بدأت فجأة وبعنف في لحظة محددة من الزمن، وفي ومضة ضوء وطاقة».

    فهل من مكان لاله فيكون كهذا؟ الفيزيائي ادموند ويتيكر «Edmund Whittaker» يعتقد كذلك. فهو يقول: «ليس هناك ما يدعو إلى ان نفترض ان المادة والطاقة كانتا موجودتين قبل الانفجار العظيم وانّه حدث بينهما تفاعل فجائي. فما الذي يميز تلك اللحظة عن غيرها من اللحظات في الازلية؟ والابسط ان نفترض خلقاً من العدم، اي ابداع الارادة الالهية للكون من العدم». وينتهي الفيزيائي ادوارد ميلن «Edward Milne» بعد تفكره في الكون المتمدد، إلى هذه النتيجة، اما العلة الاولى للكون في سباق التمدد فأمر اضافتها متروك للقارىء، ولكن الصورة التي لدينا لا تكتمل من غير الله».

    اما النظرة العلمية الجديدة فترى ان الكون بمجموعه ـ بما في ذلك المادة والطاقة والمكان والزمان ـ حدث وقع في وقت واحد وكانت له بداية محددة. ولكن لا بد من ان شيئاً ما كان موجوداً على الدوام، لانه إذا لم يوجد اي شيء الذي كان موجوداً على الدوام لانه كان للمادة بداية. وتاريخ هذه البداية يرجع إلى ما قبل 12 إلى 20 مليار سنة. وبمعنى ذلك ان اي شيء وجد دائماً هو شيء غير مادي. ويبدو ان الحقيقة غير المادية الوحيدة هي العقل. فاذا كان العقل هو الشيء الذي وجد دائماً فلابد من ان تكون المادة من خلق عقل ازلي الوجود. وهذا يشير إلى وجود كائن عاقل وازلي خلق كل الاشياء. وهذا الكائن هو الذي نعنيه بعبارة «الله».

    نظرية المعرفة في فلسفتنا

    نستطيع ان نستخلص الخطوط العريضة لمذهبنا في المعرفة وتتلخص فيما يأتي:

    الخط الاول: ان الادراك البشري على قسمين: احدهما التصور، والآخر التصديق. وليس للتصور بمختلف ألوانه قيمة موضوعية، لانه عبارة عن وجود الشيء في مداركنا، وهو لا يبرهن ـ إذا جرد عن كل اضافة ـ على وجود الشيء موضوعياً خارج الادراك، وانما الذي يملك خاصية الكشف الذاتي عن الواقع الموضوعي هو التصديق أو المعرفة التصديقية. فالتصديق هو الذي يكشف عن وجود واقع موضوعي للتصور.

    الخط الثاني: ان مرد المعارف التصديقية جميعاً إلى معارف اساسية ضرورية، لا يمكن اثبات ضرورتها بدليل أو البرهنة على صحتها، وانما يشعر العقل بضرورة التسليم والاعتقاد بصحتها، كمبدأ عدم التناقض ومبدأ العلية والمبادىء الرياضية الاولية، فهي الاضواء العقلية الاولى، وعلى هدي تلك الاضواء يجب ان تقام سائر المعارف والتصديقات، وكلما كان الفكر ادق في تطبيق تلك الاضواء وتسليطها كان ابعد عن الخطأ. فقيمة المعرفة، تتبع مقدار ارتكازها على تلك الاسس ومدى استنباطها منها، ولذلك كان من الممكن استحصال معارف صحيحة في كل من الميتافيزيقا والرياضيات والطبيعيات على ضوء تلك الاسس، وان اختلفت الطبيعيات في شيء، وهو ان الحصول على معارف طبيعية بتطبيق الاسس الاولية يتوقف على التجربة التي تهيء للانسان شروط التطبيق، واما الميتافيزيقا والرياضيات فالتطبيق فيها قد لا يحتاج إلى تجربة خارجية.

    وهذا هو السبب في ان نتائج الميتافيزيقا والرياضيات نتائج قطعية في الغالب، دون النتائج العلمية في الطبيعيات، فان تطبيق الاسس الاولية في الطبيعيات لما كان محتاجاً إلى تجربة تهيء شروط التطبيق، وكانت التجربة في الغالب ناقصة وقاصرة عن كشف جميع الشروط، فلا تكون النتيجة القائمة على اساسها قطعية.

    ولنأخذ لذلك مثلاً من الحرارة. فلو اردنا ان نستكشف السبب الطبيعي للحرارة، وقمنا بدراسة عدة تجارب عملية، ووضعنا في نهاية المطاف النظرية القائلة ان «الحركة سبب الحرارة». فهذه النظرية الطبيعية في الحقيقة نتيجة تطبيق لعدة مبادىء ومعارف ضرورية على التجارب التي جمعناها ودرسناها، ولذا فهي صحيحة ومضمونة الصحة بمقدار ما ترتكز على تلك المبادىء الضرورية. فالعالم الطبيعي يجمع اول الامر كل مظاهر الحرارة التي هي موضوع البحث، كدم بعض الحيوانات والحديد المحمى والاجسام المحترقة وغير ذلك من آلاف الاشياء الحارة، ويبدأ بتطبيق مبدأ عقلي ضروري عليها وهو مبدأ العلية القائل «ان لكل حادثة سبباً». فيعرف بذلك ان لهذه المظاهر من الحرارة سبباً معيناً، ولكن هذا السبب حتى الآن مجهول ومردد بين طائفة من الاشياء، فكيف يتاح تعيينه من بينها؟

    ويستعين العالم الطبيعي في هذه المرحلة بمبدأ تلك الطائفة من الاشياء التي يوجد بينها السبب الحقيقي للحرارة، فيستبعد عدة من الاشياء ويسقطها من الحساب، كدم الحيوان ـ مثلاً ـ فهو لا يمكن ان يكون سبباً للحرارة لان هناك من الحيوانات ما تكون دماؤها باردة، فلو كان هو السبب للحرارة لما امكن ان تنفصل عنه ويكون بارداً في بعض الحيوانات. ومن الواضح ان استبعاد دم الحيوان عن السببية لم يكن إلاّ تطبيقاً للمبدأ الآنف الذكر الحاكم بأن الشيء لا ينفصل عن سببه، وهكذا يدرس كل شيء مما كان يظنه من اسباب الحرارة فيبرهن على عدم كونه سبباً بحكم مبدأ عقلي ضروري. فان امكنه ان يستوعب بتجاربه العلمية جميع ما يحتمل ان يكون سبباً للحرارة، ويدلل على عدم كونه سببا ـ كما فعل في دم الحيوان، فسوف يصل في نهاية التحليل العلمي إلى السبب الحقيقي ـ حتماً ـ بعد اسقاط الاشياء الاخرى من الحساب، وتصبح النتيجة العلمية حينئذ حقيقة قاطعة، لارتكازها بصورة كاملة على المبادىء العقلية الضرورية، واما إذا بقي في نهاية الحساب احتمالان أو اكثر ولم يستطع ان يعين السبب على ضوء المبادىء الضرورية، فسوف تكون النظرية العلمية في هذا المجال ظنية وليست قطعية.

    وعلى هذا نعرف:

    اولاً: ان المبادىء العقلية الضرورية هي الاساس العام لجميع الحقائق العلمية، كما سبق في الجزء الاول من المسألة.

    ثانياً: ان قيمة النظريات والنتائج العلمية في المجالات التجريبية. موقوفة على مدى دقتها في تطبيق تلك المبادىء الضرورية على مجموعة التجارب التي أمكن الحصول عليها. ولذا فلا يمكن اعطاء نظرية علمية بشكل قاطع إلاّ إذا استوعبت التجربة كل امكانيات المسألة واحتمالاتها، وبلغت إلى درجة من السعة والدقة بحيث امكن تطبيق المبادىء الضرورية عليها. واقامة استنتاج علمي موحد على اساس ذلك التطبيق.

    ثالثاً: في المجالات غير التجريبية ـ كما في مسائل الميتافيزيقا ـ ترتكز النظرية الفلسفية على تطبيق المبادىء الضرورية على تلك المجالات، ولكن هذا التطبيق قد يتم فيها بصورة مستقلة عن التجربة. ففي مسألة اثبات العلة الاولى للعالم ـ مثلاً ـ يجب على العقل ان يقوم بمحاولة تطبيق مبادئه الضرورية على هذه المسألة، حتى يضع بموجبها نظريته الايجابية أو السلبية، وما دامت المسألة ليست تجريبية فالتطبيق يحصل بعملية تفكير واستنباط عقلي بحت وبصورة مستقلة عن التجربة.

    وبهذا تختلف مسائل الميتافيزيقا عن العلم الطبيعي في كثير من مجالاتها. ونقول «في كثير من مجالاتها» لان استنساخ النظرية الفلسفية أو الميتافزيقية من المبادىء الضرورية في بعض الاحايين يتوقف على التجربة أيضاً، فيكون للنظرية الفلسفية حينئذ نفس ما للنظريات العلمية من قيمة ودرجة.

    الخط الثالث: عرفنا ان المعرفة التصديقية هي التي تكشف لنا عن موضوعية التصور، ووجود واقع موضوعي للصورة التي توجد في ذهننا. وعرفنا أيضاً ان هذه المعرفة التصديقية مضمونة بمقدار ارتكازها على المبادىء الضرورية. فالمسألة الجديدة هي مدى التطابق بين الصورة الذهنية ـ فيما إذا كانت دقيقة وصحيحة ـ والواقع الموضوعي الذي صدقنا بوجوده من ورائها.

    والجواب على هذه المسألة هو ان الصورة الذهنية التي نكونها عن واقع موضوعي معين فيها ناحيتان: فهي من ناحية تختلف عن الواقع الموضوعي اختلافاً اساسياً. لانها لا تملك الخصائص التي تمتع بها الواقع الموضوعي لذلك الشيء، ولا تتوفر فيها ما يوجد في ذلك الواقع من الوان الفعالية والنشاط. فالصورة الذهنية التي نكونها عن المادة أو الشمس أو الحرارة مهما كانت دقيقة ومفصلة لا يمكن ان تقوم بنفس الادوار الفعالة التي يقوم بها الواقع الموضوعي لتلك الصور الذهنية في الخارج.

    وبذلك نستطيع ان نحدد الناحية الموضوعية للفكرة، والناحية الاخرى وهي الناحية المأخوذة عن الواقع الموضوعي والتي ترجع إلى التبلور الذهني الخاص. فالفكرة موضوعية باعتبار تمثل الشيء فيها لدى الذهن، ولكن الشيء الذي يمكث لدى الذهن في تلك الصورة يفقد كل فعالية ونشاط مما كان يتمتع به في المجال الخارجي، بسبب التصرف الذاتي، وهذا الفارق بين الفكرة والواقع هو في اللغة الفلسفية الفارق بين الماهية والوجود.(1)

    نظرية المعرفة في الاسس المنطقية

    اعتمد البحث على:

    هدم النظرية الارسطية نحو الاستقراء وارجاع المعرفة إلى الاستقراء والطريقة الاستقرائية لا الاستنباطية.

    طرح نظرية جديدة تبين ان الاسس المنطقية للاستقراء لا تزيد على الاعتقاد ببداهة مبدأ عدم التناقض وبديهيات ومصادرات نظرية حساب الاحتمال.

    حتى العلية والسببية كمبدأ ضروري لتكوين كل معرفة تصديقية في كل المجالات التجريبية حسب فلسفتنا اصبح مبدأ يمكن الاستدلال عليه على ضوء نظرية استاذنا الشهيد الصدر الجديدة فهو وان لم ينكر كون مبدأ العلية ضرورياً وبديهياً لكنه انكر كونه ضرورياً لعملية الاستدلال بواسطة التجربة والاستقراء.

    حتى يكون الاستدلال صحيحاً، في رأي المذهب العقلي، لابد ان تكون طريقة التوالد فيه موضوعية لا ذاتية، وان تكون القضايا أو المقدمات المولدة صادقة.

    وعلى هذا الاساس اضطر المنطق الارسطي ـ نتيجة لايمانه بالدليل الاستقرائي ـ إلى القول بأن طريقة التولد في الاستدلالات الاستقرائية موضوعية لا ذاتية، وان كل استدلال استقرائي مرده إلى قياس يشتمل على كبرى عقلية قبلية تقول: ان الصدفة النسبية لا تتكرر باستمرار على خط طويل، وصغرى مستمدة من الخبرة الحسية تقول: ان «أ» و«ب» اقترنا باستمرار على خط طويل كما شرحناه.

    واكد المنطق الارسطي بهذا الصدد: ان الامثلة المستمدة من الاستقراء والخبرة الحسية ـ التي تكون الصغرى في القياس ـ لا تكفي وحدها لاستنتاج اي تعميم استقرائي، اذ لا تلازم بينها وبين التعميم موضوعياً، فلا تكون طريقة التوالد في الاستقراء موضوعية مالم ندخل في الاستدلال الاستقرائي تلك الكبرى العقلية القبلية التي تنفي تكرر الصدفة النسبية على الخط الطويل.

    "أن تشعل شمعة خير من أن تلعن الظلام"
    كونفوشيوس (ع)

  2. #2
    تاريخ التسجيل
    Nov 2002
    المشاركات
    4,192

    افتراضي

    وبكلمة مختصرة ان المذهب العقلي الذي يمثله المنطق الارسطي، حاول ان يفسر جميع العلوم والمعارف التي يعترف بصحتها من الناحية المنطقية بأنها، اما ان تكون معارف اولية

    ___________________________________

    1- وهذه الناحية الذاتية التي تنطوي عليها الصور الذهنية في رأينا تختلف عن الناحية الذاتية التي يقول بها «كانت». والتي ينادي بها النسبيون الذاتيون. فليست الذاتية في رأينا باعتبار الجانب الصوري من العلم كما يزعم «كانت» وباعتبار كون الادراك حصيلة تفاعل مادي، والتفاعل يستدعي التصرف من الجانبين، بل هي على اساس التفرقة بين لوني الوجود: الذهني والخارجي. فالشيء الموجود في الصورة الذهنية هو الشيء الموجود في الخارج خلافاً للنسبيين، ولكن لون وجوده في الصورة يختلف عن لون وجوده الخارجي.



    تعبر عن الجانب العقلي القبلي من المعرفة البشرية، واما ان تكون مستنتجة من تلك المعارف على اساس طريقة التوالد الموضوعي، وخلافا لذلك، يؤمن المذهب الذاتي في المعرفة بأن الجزء الاكبر من تلك العلوم والمعارف ـ التي يعترف المنطق الارسطي بصحتها من الناحية المنطقية ـ مستنتج من معارفنا الاولية بطريقة التوالد الذاتي لا الموضوعي.

    فهناك في رأي المذهب الذاتي معارف اولية تشكل الجزء العقلي القبلي من المعرفة وهو الاساس للمعرفة البشرية على العموم.

    وهناك معرفة ثانوية مستنتجة من معارفنا السابقة بطريقة التوالد الموضوعي.

    وهناك معرفة ثانوية مستنتجة من معارفنا السابقة بطريقة التوالد الذاتي.

    ومثال المعارف الثانوية المستنتجة بطريقة التوالد الموضوعي: نظريات الهندسة الاقليدية المستنتجة من بديهات تلك الهندسة بطريقة التوالد الموضوعي.

    ومثال المعارف الثانوية المستنتجة بطريقة التوالد الذاتي: كل التعميمات الاستقرائية، فان التعميم الاستقرائي مستنتج من مجموعة امثلة وشواهد لا يوجد اي تلازم بينها وبين ذلك التعميم، فالعلم بالتعميم ينشأ عن طريق العلم بتلك الامثلة والشواهد على اساس التوالد الذاتي.

    وإذا اخذنا القضايا الثانوية المستنتجة بطريقة التوالد الموضوعي ودرسنا طريقة استنتاجها، وجدنا ان قضية من هذا النوع تستند في استنتاجها بطريقة التوالد الموضوعي إلى فئتين من القضايا: الفئة الاولى قضايا ترتبط بانتاج تلك القضية المعنية بالذات والفئة الثانية قضايا تقرر ثبوت التلازم بين الفئة الاولى والقضية المستنتجة بالتوالد الموضوعي.

    وقضايا التلازم هذه عامة بطبيعتها ولا تختص بانتاج قضية دون اخرى، ففي مثال «خالد انسان وكل انسان فان» توجد لدينا ثلاث قضايا تولدت منها بصورة موضوعية القضية القائلة «ان خالداً فان» والقضايا الثلاث هي: اولاً «خالد انسان»، ثانياً «كل انسان فان». ثالثاً: «كلما كان شيء عنصراً من فئة وكانت كل عناصر تلك الفئة بصفة فان ذلك يستلزم ان يكون ذلك الشيء متصفاً بتلك الصفة».

    والاولى والثانية من هذه القضايا الثلاث تدخلان في الفئة الاولى، لانها قضيتان مرتبطتان بانتاج قضية معينة، واما القضية الثالثة فهي تدخل في الفئة الثانية، لانها تقر تلازماً عاماً بين شكلين من القضايا مهما كان محتواها.

    ونلاحظ في هذا الضوء، ان الخطأ في ادراك قضية ثانوية مستنتجة بطريقة التوالد الموضوعي، يستند دائما إلى الخطأ في احدى القضايا «المقدمات» التي ساهمت في توليد تلك القضية الجديدة، فأما ان يكون الخطأ في قضايا من الفئة الاولى، أو في قضايا التلازم التي تتمثل في الفئة الثانية.

    فاذا قلنا: «النفط سائل، وكل سائل يتبخر في درجة مائة في الحرارة، وكلما كان شيء عنصراً من فئة وكانت كل عناصر تلك الفئة تتصف بصفة فان ذلك يستلزم ان يتصف ذلك الشيء بتلك الصفة» واستنتجنا من ذلك: ان النفط يتبخر في درجة مائة، كانت النتيجة خطأ، لان القضية الثانية من القضايا الثلاث التي ساهمت في التوليد خطأ.

    وإذا قلنا: «ان خالداً انسان، وبعض الناس علماء، وكلما كان شيء عنصراً من فئة، وكانت بعض افراد تلك الفئة تتصف بصفة فان ذلك يستلزم ان ذلك الشيء يتصف بتلك الصفة، واستنتجنا من ذلك: ان خالداً عالم، كانت النتيجة خطأ، لان القضية الثالثة خطأ، حيث ان الشكل الأوّل من القياس لا يستلزم النتيجة إلاّ إذا كانت الكبرى كلية.

    ودراسة قضايا الفئة الاولى التي ترتبط في مجال الاستنتاج بمحتوى القضية المستنتجة ومضمونها من وظيفة العلوم المختلفة، فكل عالم يتناول من تلك القضايا ما يندرج في نطاق اختصاصه.

    وأما دراسة قضايا التلازم التي تتمثل في الفئة الثانية وترتبط بشكل القضية دون مضمونها ومحتواها، فهي من وظيفة المنطق الصوري الذي يعتبر المنطق الارسطي ممثلاً له، فهو الذي يحدد صيغ التلازم بين القضايا من ناحيتي الصور والشكلية بقطع النظر عن مادتها ومحتواها.

    ولنأخذ الآن ـ بعد هذا ـ القضايا والمعارف الثانوية المستنتجة بطريقة التوالد الذاتي.

    ان الجزء الاكبر من المعرفة التي يعترف المذهب العقلي والمنطق الارسطي بصحتها يعود إلى قضايا مستنتجة بطريقة التوالد الذاتي.

    ان الجزء الاكبر من المعرفة التي يعترف المذهب العقلي والمنطق الارسطي بصحتها يعود إلى قضايا مستنتجة بطريقة التوالد الذاتي. وهو التعميمات الاستقرائية التي يؤمن العقليون بانها معرفة عقلية صريحة من الناحية المنطقية، ويشعرون بعدم امكان الشك فيها.

    وعلى هذا فقد برهنا في القسم الاول من هذا الكتاب (الاسس المنطقية للاستقراء) على ان العلم الاستقرائي التجريبي ـ اي العلم بالتعميم القائم على اساس الاستقراء والتجربة ـ لا يمكن ان يفسر بطريقة التوالد الموضوعي، وان المحاولة التي قام بها المنطق الارسطي لاعطاء الاستدلال الاستقرائي شكلا قياسيا لكي يقوم على اساس التوالد الموضوعي لم تكن ناجحة.

    وهكذا نستطيع ان نبرهن لانصار المذهب العقلي ـ الذي يمثله المنطق الارسطي ـ على ان طريقة التوالد الموضوعي ليست هي الطريقة الوحيدة التي يستعملها العقل في الحصول على معارفه الثانوية، بل يستعمل إلى جانبها ايضاً طريقة التوالد الذاتي، لان العقليين ما داموا يعترفون بالعلم الاستقرائي وما دمنا قد برهنا على ان العلم الاستقرائي لا يمكن ان يكون نتيجة للتوالد الموضوعي فلابد ان يعترفوا إلى جانب ذلك بطريقة التوالد الذاتي، وهذا هو ما يدعيه المذهب الذاتي للمعرفة.

    ويترتب على هذا ان من الضروري الاعتراف بان هذه الطريقة الجديدة للتوالد ذاتياً، التي تختلف عن طريقة التوالد الموضوعي، لا يمكن اخضاعها للمنطق الصوري أو الارسطي الذي يعالج التلازم بين اشكال القضايا، اذ لا تقوم طريقة التوالد الذاتي على اساس التلازم بين القضية المستنتجة والقضايا التي اشتركت في انتاجها، لان التوالد ذاتي وليس موضوعياً.

    ولكن هذا لا يعني فسح المجال لاستنتاج اي قضية من اي قضية اخرى على اساس التوالد الذاتي دون تقيد بالتلازم بين القضيتين، فنستنتج مثلاً ان زيداً قد مات من ان الشمس طالعة، وان حجم الارض اكبر من حجم القمر من ان الارض تشتمل على معادن كثيرة، فان هذا يؤدي إلى جعل طريقة التوالد الذاتي مبرراً لاي استدلال خاطىء، وليس هذا ما نقصده عندما نقرر هذه الطريقة إلى جانب طريقة التوالد الموضوعي.

    ان ما نقصده الآن هو ان جزءاً من المعرفة التي يؤمن بها العقليون على الاقل لم يتكون على اساس التوالد الموضوعي كما برهنا سابقاً، وانما تكون على اساس التوالد الذاتي. وهذا يعني انا ما دمنا نود الاحتفاظ بذلك الجزء من المعرفة وبطابعه الموضوعي السليم، فلا بد ان نعترف بطريقة التوالد الذاتي، وبأن العقل ينتهج هذه الطريقة في الحصول على جزء من معرفته الثانوية.

    ومن ناحية اخرى نجد في كثير من الحالات ان استنتاج قضية من قضية اخرى لا تستلزمها موضوعياً يعتبر خطأ لا يقره العقليون ولا اي عقل سليم من قبيل ان نستنتج ان زيداً مات من طلوع الشمس، أو ان خالداً جاء من اخبار المخبر بان شخصا ما قد جاء.

    والمسالة الاساسية في هذا الضوء هي: كيف يمكن ان نميز بين الحالات التي يكون فيها استنتاج قضية من قضايا اخرى بدون تلازم موضوعي بينهما صحيحاً، وبين الحالات التي يكون فيها استنتاج قضية من قضايا اخرى بدون تلازم موضوعي بينهما خطأ؟

    وحينما نطرح المسألة بهذه الصيغة في ضوء ما توصلنا إليه من نتائج حتى الآن يبدو بوضوح: ان المنطق الارسطي لا يكفي للجواب على هذا السؤال وتمييز الشروط التي تكسب التوالد الذاتي المعقولية والصحّة، لان طريقة التوالد الذاتي اساساً لا تنطبق على المنطق الارسطي.

    ومن اجل ذلك نلاحظ إذا انطلقنا من وجهة نظر المذهب الذاتي، فسوف نجد انفسنا بحاجة إلى منطق جديد، إلى منطق ذاتي يكتشف الشروط التي تجعل طريقة التوالد الذاتي معقولة، كما احتجنا إلى المنطق الصوري لاكتشاف صيغ التلازم بين اشكال القضايا التي تجعل طريقة التوالد الموضوعي معقولة.

    وانا اعتقد ان كل معرفة ثانوية يحصل عليها العقل على اساس التوالد الذاتي تمر بمرحلتين، اذ تبدأ اولا مرحلة التوالد الموضوعي، وفي هذه المرحلة تبدأ المعرفة احتمالية، وينمو الاحتمال باستمرار، ويسير نمو الاحتمال في هذه المرحلة بطريقة التوالد الموضوعي حتى تحظى المعرفة بدرجة كبيرة جداً من الاحتمال، غير ان طريقة التوالد الموضوعي تعجز عن تصعيد المعرفة إلى درجة اليقين، وحينئذ تبدأ مرحلة التوالد الذاتي لكي تنجز ذلك وترتفع بالمعرفة إلى مستوى اليقين.

    والتعميمات الاستقرائية كلها تمر بهاتين المرحلتين، ففي المرحلة الاولى ـ اي مرحلة التوالد الموضوعي ـ يتخذ الدليل الاستقرائي مناهج الاستنباط العقلي، وينمي باستمرار درجة احتمال القضية الاستقرائية على اساس موضوعي. وفي المرحلة الثانية يتخلى الدليل الاستقرائي عن منهجه الاستنباطي وطريقته في التوالد الموضوعي، ويصطنع طريقة التوالد الذاتي لتصعيد المعرفة الاستقرائية إلى درجة اليقين.

    وفي هذا الصدد تقرير رائع كتبه احد ابرز تلاميذ الامام الشهيد الصدر حول بعض ما يتعلق بنظرية المعرفة من نتائج وآثار رغم انّه كان بصدد بحث في اصول الفقه.

    طريقة توالد المعارف البشرية ـ حسبما يصورها المنطق الصوري ـ ان الفكر يسير دائما من معارف اولية ضرورية هي اساس المعرفة البشرية إلى استنباط معارف نظرية جديدة بطريقة البرهان والقياس التي يحدد صورتها علم المنطق، فأي خطأ يفترض ان كان في الصورة فعلم المنطق هو العاصم منه، وان كان في مادة القياس، فان كانت تلك المادة اولية فلا مجال لوقوع الخطأ فيها. وان كانت ثانوية مستنتجة فلا محالة تكون مستنتجة من برهان وقياس فينقل الكلام إليه حتى ينتهي إلى خطأ يكون في الصورة لان المعارف الأولية لا خطأ فيها بحسب الفرض لكونها ضرورية. وقد اصطلح على المعارف الاولية في الفكر البشري بمدركات العقل الاول وعلى المعارف المستنتجة منها بمدركات العقل الثاني.

    وقواعد علم المنطق اما ان تكون جيمعها ضرورية كبرى وتطبيقاً أو بعضها ليس ضرورياً. اما الاول فواضح البطلان اذ لو كانت كذلك لما وقع خطأ خارجاً اذ لا يوجد من يخالف البديهية والضرورة ولا خطأ فيها بحسب فرض هذا المنهج. وعلى الثاني فان قيل بعدم البداهة في الكبريات فسوف يقع الخطأ في نفس العاصم لا محالة، وان قيل بعدم البداهة في التطبيق احتجنا إلى عاصم في مرحلة التطبيق ولم تكف مراعاة الكبريات المنطقية في عصمة الذهن عن الخطأ وعلم المنطق لا يعطي الا الكبريات وهذا الكلام بناءً على التصور المدرسي للمعرفة البشرية وطريقة التوالد فيها.

    وهذا البحث كان منشأ لانتقالنا إلى نظرية جديدة للمعرفة البشرية استطاعت ان تملأ فراغا كبيرا في نظرية المعرفة البشرية لم يستطع الفكر الفلسفي ان يملأه خلال الفي سنة.

    وفيما يلي نذكر مجمل تلك النتائج التي انتهينا اليها في نقطتين:

    الاولى فيما يتعلق بالعقل الاول ومدركاته. وهي المدركات التي حددها المنطق الصوري في قضايا ست اعتبرها مواد البرهان في كل معرفة بشرية وهي الاوليات والفطريات والتجريبيات والمتواترات والحدسيات والحسيات.

    وقد ادعى المنطق الصوري ان هذه القضايا كلها بديهية ونحن نسلم معهم في اثنين منها هما الاوليات ـ كاستحالة اجتماع النقيضين ـ والفطريات وهي التي قياساتها معها ولم نقل برجوعها إلى الاوليات على ما هو التحقيق ـ فهاتان قضيتان قبليتان واما غيرهما اي القضايا الاربع الباقية فليست المعرفة البشرية فيها قبلية بل بعدية اي تثبت بحساب الاحتمالات وبالطريقة الاستقرائية التي يسير فيها الفكر من الخاص إلى العام حسب القوانين واسس شرحناها مفصلاً في ذلك الكتاب بعد ابطال ما حاوله المنطق الصوري من تطبيق قياس خفي فيها بمناقشات عديدة مشروحة في محلها.

    وقد اثبتنا هنالك حتى المحسوسات التي هي ابداه القضايا الحسية على قسمين:

    1 ـ ان يكون واقع المحسوس فيه امراً وجدانياً كالاحساس بالرجوع والالم، وهذا لا اشكال في اوليته ولا يقوم على اساس حساب الاحتمالات والطريقة الاستقرائية، لان الادراك في هذا النوع يتصل بالمدرك بصورة مباشرة حيث يكون المدرك بنفسه ثابتاً في النفس لانّه امر موضوعي خارجي له انعكاس على النفس ليراد الكشف عن مدى مطابقة ذلك الانعكاس مع واقعه.

    2 ـ الاحساس بالواقع الموضوعي خارج عالم النفس كاحساسك بالسرير الذي تنام عليه وصديقك الذي تجلس عنده وزوجك التي تسكن اليها، وهذا هو الذي لا يتعلق احساسنا به مباشرة فكيف يمكن اثبات واقعيته من مجرد انطباع حاصل في النفس أو الذهن وكيف نثبت مطابقة ذلك الانطباع للخارج؟ وهذه المسألة من الغاز الفلسفة. والاتجاه المتعارف عند فلاسفتنا في حلها ان المحسوسات قضايا اولية وان كانت المسألة غير معنونة بهذا الشكل وانما عنونت كذلك عند فلاسفة الغرب، وقد ظهر لدى بعض المحدثين(1) عندنا ان معرفتنا بالحسيات لا يمكن ان تكون اولية لوقوع الخطأ فيها مع انّه لا خطا في الاوليات، ولكنه عاد وزعم ان معرفتنا الحسية بالواقع الخارجي اجمالا اولية وان كانت معرفتنا بالتفاصيل ليست كذلك، فكان هذا اتجاه يفصل في المعرفة الحسية بين الايمان باصل الواقع الموضوعي في الجملة وبين الإيمان بتفاصيل المعرفة الحسية. ونحن في كتاب فلسفتنا حاولنا ارجاع المعرفة الحسية إلى معارف مستنبطة بقانون العلية لان الصورة الحسية حادثة لابد لها من علة وقانون العلية قضية اولية أو مستنبطة من قضية اولية. وفي قبال هذه الإتجاهات الثلاثة المثاليون الذين انكروا الواقع الموضوعي رأسا. وكل هذه الاتجاهات الاربعة التي تذبذب الفكر الفلسفي بينها غير صحيحة وانما الصحيح بناء على ما اكتشفناه من الاسس المنطقية للاستقراء ان معرفتنا بالواقع الموضوعي جملة وتفصيلا في المدركات الحسية قائمة على اساس حساب الاحتمال الذي يشتغل بالفطرة لدى الإنسان وبعقل رزقه الله له سميناه بالعقل الثالث قبال العقلين الاول والثاني.

    وقد اوضحنا ذلك مشروحاً في كتاب الاسس المنطقية للاستقراء وبينا هنالك في ضمن ما بيناه اننا حينما نقارن بين احساساتنا في عالم الرؤية مع احساساتنا في عالم اليقظة لا نشك بان الاولى لا واقع موضوعي لها بخلاف الثانية ـ إذا استثنينا شيخ الاشراق الذي كان قائلا بعالم الامثال في الاحلام ـ مع انّه لا فرق بين القسمين من ناحية وجدانية الاحساس عند النفس وهذا دليل عدم بداهة المعرفة في الحسيات وان الايمان بموضوعية الثانية قائم على اساس حسابات الاحتمال المبتنية على قرائن وخصوصيات مكتنفة بالثانية مفقودة في الاولى التي تكون احساسات زائلة متقلبة بمجرد كف الذهن عنها وغير متشابهة إلى غير ذلك من خصائص ونكات تقوم على اساسها حساب الاحتمالات شرحناها في ذلك الكتاب. اذن فليست المحسوسات قضايا اولية كما انها لا يمكن ان تكون مستنتجة بقانون العلية لان هذا القانون غاية ما يقتضيه وجود علة لحصول الصورة في النفس واما هل هي خارجية أو حركة جوهرية في النفس فلا يعين احدهما، هذا مجمل الحديث عما سموه بالعقل الاول ومنهجنا في طريقة تفسير المعرفة البشرية فيه.

    ___________________________________

    1- السيد الطباطبائي محمد حسين (قده) في روش راليم.



    الثانية ـ فيما يتعلق بالعقل الثاني ـ والمنطق الصوري بعد افتراضه للعقل الاول بالنحو المتقدم ذكر ان كلما يستنبط من العقل الاول من المعارف بطريقة الاستدلال المنطقي الصحيح ـ الراجع بالاخير جميعاً إلى الشكل الاول الضروري والبديهي الانتاج ـ فهو مضمون الحقانية ويسمى بالعقل الثاني، والقياس يحتوي على حد اصغر واوسط واكبر وفي القياس الاول لا تكون بين المحمول وموضوعه واسطة لانها قضية اولية وانما المستنبط ثبوت الثالث للاول وعلى هذا الاساس يكون مشتملاً على قائمتين قائمة للمحمولات الثابتة بالضرورة لموضوعاتها وقائمة اخرى للمحمولات الثابتة بالضرورة على تلك المحمولات وفي كل منهما القضية اولية ضرورية وليست مستنبطة لعدم حد اوسط، نعم ثبوت المحمول الثاني للموضوع الاول يكون نظرياً لانه مستنبط بالحد الاوسط الذي هو موضوع في القائمة الثانية ومحمول في الاولى. ومن هنا لا يخلو الكلام المعروف من صحة ببعض المعاني من ان المعرفة إذا كانت حسب هذه الطريقة فليس هناك نمو وزيادة حقيقية في المعرفة وانما هو مجمل وتطبيق لما هو عام وكلي.

    واياً ما كان فالمنطق الصوري بعد ان افترض حقانية القضايا الست التي تشكل مواد الاقيسة والمعارف النظرية وكان استنتاج المعارف النظرية في العقل الثاني من تلك المواد حسب المقياس البديهي الانتاج من هنا حكم بحقانية مدركات العقل الثاني ايضاً كحقانية مدركات العقل الاول.

    وهذا الكلام ينحل إلى جزئين:

    1 ـ ان كل معرفة اولية تكون مضمونة الحقانية.

    2 ـ ان المعارف النظرية في العقل الثاني انما تستنتج من المعارف الاولية في العقل الاول بطريقة التوالد الموضوعي القائم على اساس التضمّن أو التلازم المنطقي المضمون الحقانية ايضاً.

    وكلا هذين الجزئين محل نظر، اما الاول فلان بعض المعارف الاولية قد لا تكون مضمونة الحقانية بالرغم من كونها اولية بل قد تكون مظمونة أو مشكوكة أو خاطئة، ومن ذلك ينشأ ينبوع للاخطاء في العلوم النظرية فان الخطأ فيها لا ينشا من خطأ الاستدلال عادة بل من الخطأ في اوليات الاستدلال حيث تطرح فكرة بتوهم صحتها وهي خاطئة فيبنى عليها والحاصل: كون الفكرة اولية لا تحتاج إلى الاستدلال واستنباط شيء وكونها مضمونة الحقانية شيء آخر ولا تلازم بين الامرين ويشهد على ذلك وقوع الخطأ أو الشك في المعارف الوجدانية المحسوسة ـ المحسوس بالذات ـ التي قلنا انها اولية لعدم توسيط شيء بينها وبين ادراكها بل ينصب الادراك عليها مباشرة وأولا وبالذات ومع ذلك قد يشكك فيها أو يخطا كمن يشك في انّه هل يسمع الصوت ام لا إذا ما ابتعد عن مصدره تدريجا وهذا دليل على امكانية وقوع الخطأ والاشتباه أو الشك في الوجدانيات الاوليات فكيف بقضايا اولية غير وجدانية. وقد كان قديماً يبرهن على استحالة التسلسل ببرهان التطبيق اي تطبيق العلل على المعلومات فكأن يقال انّه ان تساويا لزم تساوي الجزء مع الكل لان سلسلة المعلولات هي سلسلة العلل باضافة واحد، والكل لابد وان يكون اكبر من الجزء وان لم يتساويا كان معناه تناهي احدهما على الاقل. وقد كان هذا برهانهم على استحالة التسلسل فترة طويلة من الزمن اعتماداً على بديهية ان الكل لا يكون اكبر من الجزء حتى جاءت الرياضيات الحديثة فانكرت بداهة هذه القضية في الكميات اللامتناهية وجعلتها مختصة بالكميات المتناهية اذ ينعدم في غيرها معنى الكل والجزء وهذا خلاف قضية اولية. وقد قال بعض الحكماء في التسلسل ان كل مقدار من السلسلة عندما نفترضه بنحو العام الاستغراقي نجده محصورا بين حاصرين فالعقل يحدس ان مجموع السلسلة ايضاً محصور بين حاصرين مفترضاً انها قضية اولية حدسية في نظره. ومن هنا امتاز المنطق والرياضيات البحتة على ساير العلوم النظرية في قلة الخطأ فيها نتيجة ان مصادرات العلوم الاولية منهما محدودة وواضحة لدى الجميع ومن هنا قل الخطأ فيهما اذ لا منفذ له حينئذ الا الغفلة عن قواعد الرياضة والمنطق التي تتفادى بالدقة والممارسة والتطبيق.

    واما الثاني ـ فالمعارف الاولية يتولد منها معارف على قسمين، معارف يقينية بملاك التلازم الموضوعي بين متعلق المعرفتين ومعارف ظنية بدرجة من درجات الاحتمال حسب قواعد حساب الاحتمالات، وهذا هو الذي يدخل فيه اكثر معارفنا حيث يندرج فيه جميع المعارف المستمدة من التجربة والاستقراء، فان حساب الاحتمالات لا توجب اليقين مهما امتد وانما ينشأ اليقين نتيجة ضعف الاحتمال إلى حد كبير حيث تتحول الظنون في نهاية المطاف إلى يقين وجزم بقانون ذاتي لا موضوعي ضمن مصادرات مشروحة في اسس الدليل الاستقرائي(1).

    الثابت غير المتغير في الكتابين(2)

    1 ـ الانتزاع هو مصدر التصورات التي لا يمكن ارجاعها إلى الحس بشكل مباشر.

    2 ـ مبدأ عدم التناقض مبدأ عقلي بديهي.

    3 ـ البديهيات الرياضية وفي حدود ما يحتاجه المستدل بالدليل الاستقرائي ضرورية لكل استدلال.

    4 ـ الادراك عمل مجرد عن المادة.

    5 ـ لا يمكن الاستدلال على نفي مبدأ العلية.

    6 ـ الدليل الفلسفي على وجود الله لا يتزعزع وانما اضيف إلى الادلة على وجود الله دليل جديد هو الدليل العلمي.

    ___________________________________

    1- السيد محمود الهاشمي، بحوث في علم الاصول ج4.

    2- الكتابان هما: فلسفتنا والاسس المنطقية للاستقراء.



    7 ـ خصوصيات المسألة البديهية لم تتغير.

    8 ـ التجربة والدليل الاستقرائي لا بد له من تجاوز مشاكله الثلاث وهي كيف يثبت اصل السببية ومصداقها والتعميم.

    9 ـ الموقف من الوضعيين لم يتغير.

    10 ـ الموقف من الفلسفة الماركسية والديالكتيك لم يتغير ولاجل فهم الرد على الديالكتيك بنظرية السيد الشهيد الجديدة يراجع كتاب المرسل الرسول الرسالة.

    نتائج وتطبيقات

    1 ـ من ينكر البديهيات جميعاً لا يمكنه تكوين معرفة تصديقية.

    2 ـ يكفي لتكوين معرفة تصديقية الاعتقاد ببداهة ثلاثة امور:

    (1) بداهة نفس الظاهرة الادراكية.

    (2) بداهة مصادرات حساب الاحتمال.

    (3) بداهة مبدأ عدم التناقض.

    3 ـ من ينكر مبدأ العلية كبديهة يمكنه الاستدلال عليها بحساب الاحتمال حين لا يعتقد باستحالة هذا المبدأ وذلك بتجميع القيم الاحتمالية التي تصب في صالح إثبات العلية ومن يجعل العلية امراً مستحيلاً لا يمكنه تكوين معرفة تصديقية.

    4 ـ ستكون المعرفة متصاعدة من الجزئيات إلى الكليات وبذلك تنحل المشاكل الثلاث التي تواجه الدليل الاستقرائي وهي اثبات اللزوم ونفي الصدفة المطلقة.

    اثبات العلية ونفي/الصدفة النسبية.

    اثبات التعميم في الحكم المستقرأ.

    اهم نتائج نظرية المعرفة

    العلم والايمان مرتبطان في اساسهما المنطقي والاستقرائي وهذا الارتباط المنطقي بين مناهج الاستدلال العلمي والمنهج الذي يتخذه الاستدلال على اثبات الصانع بمظاهر الحكمة قد يكون هو السبب الذي ادى بالقرآن الكريم إلى التركيز على هذا الاستدلال من بين الوان الاستدلال المتنوعة على اثبات الصانع تأكيداً للطابع التجريبي والاستقرائي للدليل على اثبات الصانع سبحانه وتعالى.

    فان القرآن الكريم بوصفه الصيغة الخاتمة لاديان السماء قد قدر له ان يبدأ بممارسة دوره الديني مع تطلع الإنسان نحو العلم وان يتعامل مع البشرية التي اخذت تبنى معرفتها على اساس العلم والتجربة وتحدد بهذه المعرفة موقفها في كل المجالات فكان من الطبيعي على هذا الاساس ان يتجه القرآن الكريم إلى دليل القصد والحكمة بوصفه الدليل الذي يمثل المنهج الحقيقي للاستدلال العلمي ويقوم على نفس اسسه المنطقية ويفصله على سائر الصيغ الفلسفية للاستدلال على وجود الله تعالى.

    هذا اضافة إلى ان الدليل التجريبي على وجود الله.. اقرب إلى الفهم البشري العام واقدر على ملء وجودان الإنسان ـ اي انسان ـ وعقله بالايمان من البراهين الفلسفية ذات الصيغ النظرية المجردة التي يقتصر معظم تأثيرها على عقول الفلاسفة وافكارهم (سنريهم اياتنا في الافاق وفي انفسهم حتى يتبين لهم انّه الحق أو لم يكف بربك انّه على كل شيء شهيد).

    وبهذا يضع الصدر كل مفكر امام حقيقة هي انّه اما ان يرفض الاستدلال العلمي ككل واما ان يقبل الاستدلال العلمي ويعطي للاستدلال الاستقرائي على اثبات الصانع نفس القيمة التي يمنحها للاستدلال العلمي ولكن لماذا يرفض الاوربيون تطبيق هذا المنهج في مسألة وجود الله والجواب على لسان السيد الصدر.

    والذي لاحظته بعد تتبع وجهد (ان السبب) هو عدم قدرة هؤلاء المفكرين على التغلب على نقطتين هما:

    (1) تصور ان البديل المحتمل هو كون المادة العمياء هي الخالقة.

    (2) مشكلة تحديد الاحتمال القبلي للقضية المستدلة استقرائيا(1).

    وقد يقول قائل ان الادلة الفلسفية ليست باكثر تعقيداً من الاسس المنطقية للاستقراء التي يحتاج هضمها إلى دراسة كل تلك المعادلات والمسائل الرياضية المعقدة فلماذا المفاضلة وترجيح الدراسة الاستقرائية على الادلة الفلسفية.

    والجواب ان معرفة كيفية الاستدلال وكيفية حصول اليقين لا علاقة لها بتكوين هذا اليقين كما ان عملية الهضم لا تتوقف على ان نعلم بكيفية حصول الهضم وما جاء في الاسس شرح للعملية الذهنية الاستقرائية وبيان لكيفية حصول العلم والمعرفة بواسطتها.. والذهن البشري صمم بالشكل والطريقة التي تراها الاسس كما ان المعدة صممت وابدعت بالشكل الذي تؤدي فيه دورها في عملية الهضم..

    فاي المعرفتين الفلسفية والاستقرائية تحتاج إلى جهد كبير في الذهن.. انها الفلسفة بطبيعة الحال وبتعبير آخر ان الفلسفة تعقيدها في مسائلها وصغرياتها اما الدليل العلمي والاستقرائي فان كان فيه تعقيد فهو في اسسه المنطقية لا في تطبيقاته.

    تفسير المعجزة على ضوء المنهج الجديد

    استعرض السيد الصدر ما ذكره التاريخ من كثير من القوانين الطبيعية التي عطلت لحماية اشخاص من الانبياء وحجج الله على الارض ففلق البحر لموسى. وشبه للرومان انهم قبضوا على عيسى ولم يكونوا قد قبضوا عليه، وخرج النبي محمد (ص) من داره وهي محفوفة بحشود قريش التي ظلت ساعات تتربص به لتهجم عليه، فستره الله تعالى عن عيونهم وهو يمشي بينهم. كل هذه الحالات تمثل قوانين طبيعية عطلت لحماية شخص، كانت الحكمة الربانية تقتضي الحفاظ على حياته، فليكن قانون الشيخوخة والهرم من تلك القوانين.

    ___________________________________

    1- مقدمة الفتاوى الواضحة 36.



    وقد يمكن ان نخرج من ذلك بمفهوم عام وهو انّه كلما توقف الحفاظ على حياة حجة لله في الارض على تعطيل قانون طبيعي وكانت ادامة حياة ذلك الشخص ضرورية لانجاز مهمته التي اعد لها، تدخلت العناية الربانية في تعطيل ذلك القانون لانجاز ذلك، وعلى العكس إذا كان الشخص قد انتهت مهمته التي اعد لها ربانيا فانه سيلقي حتفه ويموت أو يستشهد وفقاً لما تقرره القوانين الطبيعية.

    ونواجه عادة بمناسبة هذا المفهوم العام السؤال التالي: كيف يمكن ان يتعطل القانون، وكيف تنفصم العلاقة الضرورية التي تقوم بين الظواهر الطبيعية؟ وهل هذ الا مناقضة للعلم الذي اكتشف ذلك القانون الطبيعي، وحدد هذه العلاقة الضرورية على اسس تجريبية واستقرائية؟

    والجواب: ان العلم نفسه قد اجاب على هذا السؤال بالتنازل عن فكرة الضرورة في القانون الطبيعي وتوضيح ذلك: ان القوانين الطبيعية يكتشفها العلم على اساس التجربة والملاحظة المنتظمة، فحين يطرد وقوع ظاهرة طبيعية عقيب ظاهرة اخرى يستدل بهذا الاطراد على قانون طبيعي، وهو انّه كلما وجدت الظاهرة الاولى وجدت الظاهرة الثانية عقيبها، غير ان العلم لا يفترض في هذا القانون الطبيعي علاقة ضرورية بين الظاهرتين نابعة من صميم هذه الظاهرة وذاتها، وصميم تلك وذاتها لان الضرورة حالة غيبية، ولا يمكن للتجربة ووسائل البحث الاستقرائي والعلمي اثباتها، ولهذا فان منطق العلم الحديث، يؤكد ان القانون الطبيعي ـ كما يعرفه العلم ـ لا يتحدث عن علاقة ضرورية بل عن اقتران مستمر بين ظاهرتين، فاذا جاءت المعجزة وفصلت احدى الظاهرتين عن الاخرى في قانون طبيعي لم يكن ذلك فصماً لعلاقة ضرورية بين الظاهرتين.

    والحقيقة ان المعجزة بمفهومها الديني، قد اصبحت في ضوء المنطق العلمي الحديث مفهومة بدرجة اكبر مما كانت عليه فى ظل وجهة النظر الكلاسيكية إلى علاقات السببية فقد كانت وجه النظر القديمة، تفترض ان كل ظاهرتين إطّرد اقتران احداهما بالاخرى، فالعلاقة بينهما علاقة ضرورة، والضرورة تعني ان من المستحيل ان تنفصل احدى الظاهرتين عن الاخرى، ولكن هذه العلاقة تحولت في منطق العلم الحديث إلى قانون الاقتران أو التتابع المطرد بين الظاهرتين دون افتراض تلك الضرورة الغيبية.

    وبهذا تصبح المعجزة حالة استثنائية لهذا الاطراد في الاقتران أو التتابع دون ان تصطدم بضرورة اوتؤدي إلى استحالة.

    واما على ضوء الاسس المنطقية للاستقراء فنحن نتفق مع وجهة النظر العلمية الحديثة في ان الاستقراء، لا يبرهن على علاقة الضرورة بين الظاهرتين ولكنا نرى انّه يدل على وجود تفسير مشترك لاطراد التقارن أو التعاقب بين الظاهرتين باستمرار، وهذا التفسير المشترك كما يمكن صياغته على اساس افتراض حكمة دعت منظم الكون إلى ربط ظواهر معينة بظواهر اخرى باستمرار وهذه الحكمة نفسها تدعو احياناً إلى الاستثناء فتحدث المعجزة(1).

    ___________________________________

    1- الامام الشهيد الصدر، بحث حول المهدي.



    تطبيق نظريته في المعرفة على مسألة من مسائل الامامة

    يبين السيد الصدر تطبيقا لنظريته في المعرفة على مسألة من مسائل الامامة في عقيدة الامامية يقول رحمه الله:

    والامامة المبكرة ظاهرة تحتاج إلى تفسير فالامام محمد بن علي الجواد (ع) تولى الامامة وهو في الثامنة من عمره والامام علي بن محمد الهادي تولى الامامة وهو في التاسعة من عمره والامام ابو محمد الحسن العسكري والد القائم المنتظر تولى الامامة وهو في الثانية والعشرين من عمره، ويلاحظ ان ظاهرة الامامة المبكرة بلغت ذروتها في الامام المهدي (ع) ونحن نسميها ظاهرة لانها كانت بالنسبة إلى عدد من آباء المهدي «عليه السلام» تشكل مدلولاً حسياً عملياً، عاشه المسلمون ووعوه في تجربتهم مع الامام بشكل وآخر، ولا يمكن ان نطالب باثبات لظاهرة من الظواهر اوضح واقوى من تجربة امة. ونوضح ذلك ضمن النقاط التالية:

    أ ـ لم تكن امامة الامام من اهل البيت مركزاً من مراكز السلطان والنفوذ التي تنتقل بالوراثة من الاب إلى الابن ويدعمها النظام الحاكم كامامة الخلفاء الفاطميين، وخلافة الخلفاء العباسيين، وانما كانت تكتسب ولاء قواعدها الشعبية الواسعة عن طريق التغلغل الروحي والاقناع الفكري لتلك القواعد بجدارة هذه الامامة لزعامة الإسلام وقيادته على اسس روحية وفكرية.

    ب ـ ان هذه القواعد الشعبية بنيت منذ صدر الإسلام، وازدهرت واتسعت على عهد الامامين الباقر والصادق «عليهما السلام» واصبحت المدرسة التي وعاها هذان الامامان، في داخل هذه القواعد تشكل تياراً فكرياً واسعاً، في العالم الاسلامي يضم المئات من الفقهاء والمتكلمين والمفسرين والعلماء في مختلف ضروب المعرفة الإسلامية والبشرية المعروفة وقتئذ، حتى قال الحسن بن علي الوشا: اني دخلت مسجد الكوفة فرأيت فيه تسعمائة شيخ كلهم يقولون حدثنا جعفر بن محمد.

    ج ـ ان الشروط التي كانت هذه المدرسة وما تمثله من قواعد شعبية في المجتمع الاسلامي، تؤمن بها وتتقيد بموجبها في تعيين الامام والتعرف على كفائته للامامة شروط شديدة، لانها تؤمن بان الامام لا يكون اماماً الا إذا كان اعلم علماء عصره.

    د ـ ان المدرسة وقواعدها الشعبية كانت تقدم تضحيات كبيرة في سبيل الصمود على عقيدتها في الامامة، لانها كانت في نظر الخلافة المعاصرة لها تشكل خطأ عدائياً، ولو من الناحية الفكرية على الاقل، الامر الذي ادى إلى قيام السلطات وقتئذ وباستمرار تقريباً حملات من التصفية والتعذيب، فقتل من قتل، وسجن من سجن، ومات في ظلمات المعتقلات المئات. وهذا يعني ان الاعتقاد بامامة ائمة اهل البيت كان يكلفهم غالياً ولم يكن له من الاغراءات سوى ما يحس به المعتقد أو يفترضه من التقرب إلى الله تعالى والزلفى عنده.

    هـ ـ ان الائمة الذين دانت هذه القواعد لهم بالامامة لم يكونوا معزولين عنها ولا متقوقعين في بروج عالية شأن السلاطين مع شعوبهم، ولم يكونوا يحتجبون عنهم الا ان تحجبهم السلطة الحاكمة بسجن أو نفي، وهذا ما نعرفه من خلال العدد الكبير من الرواة والمحدثين عن كل واحد من الائمة الاحد عشر ومن خلال ما نقل من المكاتبات التي كانت تحصل بين الامام ومعاصريه وما كان الامام يقوم به من اسفار من ناحية، وما كان يبثه من وكلاء في مختلف انحاء العالم الاسلامي من ناحية اخرى وما كان قد اعتاده الشيعة من تفقد ائمتهم وزيارتهم في المدينة المنورة عندما يؤمون الديار المقدسة من كل مكان لاداء فريضة الحج، كل ذلك يفرض تفاعلاً مستمراً بدرجة واضحة بين الامام وقواعده الممتدة في ارجاء العالم الاسلامي بمختلف طبقاتها من العلماء وغيرهم.

    و ـ ان الخلافة المعاصرة للائمة (ع) كانت تنظر اليهم والى زعامتهم الروحية والامامية بوصفها مصدر خطر كبير على كيانها ومقدراتها، وعلى هذا الاساس بذلت كل جهودها في سبيل تفتيت هذه الزعامة وتحملت في سبيل ذلك كثيراً من السلبيات وظهرت احياناً بمظاهر القسوة والطغيان حينما اضطر تأمين مواقعها إلى ذلك، وكانت حملات الاعتقال والمطاردة مستمرة للائمة انفسهم على الرغم مما يخلفه ذلك من شعور بالالم أو الاشمئزاز عند المسلمين وللناس الموالين على اختلاف درجاتهم.

    إذا اخذنا هذه النقاط الست بعين الاعتبار، وهي حقائق تاريخية لا تقبل الشك، امكن ان نخرج بنتيجة وهي: ان ظاهرة الامامة المبكرة كانت ظاهرة واقعية ولم تكن وهماً من الاوهام، لان الامام الذي يبرز على المسرح وهو صغير فيعلن عن نفسه اماماً روحياً وفكرياً للمسلمين، ويدين له بالولاء والامامة كل ذلك التيار الواسع لا بد أن يكون على قدر واضح وملحوظ بل وكبير من العلم والمعرفة وسعة الافق والتمكن من الفقه والتفسير والعقائد، لانه لو لم يكن كذلك لما امكن ان تقتنع تلك القواعد الشعبية بامامته مع ما تقدم من ان الائمة كانوا في مواقع تتيح لقواعدهم التفاعل معهم وللاضواء المختلفة، ان تسلط على حياتهم وموازين شخصيتهم. فهل ترى إن صبياً يدعو إلى امامة نفسه وينصب منها علما للاسلام وهو على مراى ومسمع من جماهير قواعده الشعبية فتؤمن به وتبذل في سبيل ذلك الغالي من امنها وحياتها بدون ان تكلف نفسها اكتشاف حاله وبدون ان تهزها ظاهرة هذه الامامة المبكرة لاستطلاع حقيقة الموقف وتقييم هذا الصبي الامام؟ وهب ان الناس لم يتحركوا لاستطلاع الموقف، فهل يمكن ان تمر المسألة اياما وشهوراً بل اعواما دون ان تتكشف الحقيقة على الرغم من التفاعل الطبيعي المستمر بين الصبي الامام وسائر الناس؟ وهل من المعقول ان يكون صبيا في فكره وعلمه حقا ثم لا يبدو ذلك من خلال هذا التفاعل الطويل؟

    وإذا افترضنا ان القواعد الشعبية لامامة اهل البيت لم يتح لها ان تكتشف واقع الامر فلماذا سكتت الخلافة القائمة ولم تعمل لكشف الحقيقة إذا كانت في صالحها؟ وما كان ايسر ذلك على السلطة القائمة لو كان الامام الصبي صبياً في فكره وثقافته كما هو المعهود في الصبيان، وما كان انجحه من اسلوب ان تقدم هذا الصبي إلى شيعته وغير شيعته على حقيقته وتبرهن على عدم كفائته للامامة والزعامة الروحية والفكرية. فلئن كان من الصعب الاقناع بعدم كفاءة شخص في الاربعين أو الخمسين قد احاط بقدر كبير من ثقافة عصره لتسلم الامامة فليس هناك صعوبة في الاقناع بعدم كفاءة صبي اعتيادي مهما كان ذكياً وفطناً للامامة بمعناها الذي يعرفه الشيعة الاماميون، وكان هذا اسهل وايسر من الطرق المعقدة واساليب القمع والمجازفة التي انتهجتها السلطات وقتئذ.

    ان التفسير الوحيد لسكوت الخلافة المعاصرة، عن اللعب بهذه الورقة هو انها ادركت ان الامامة المبكرة ظاهرة حقيقية وليست شيئاً مصطنعاً.

    والحقيقة انها ادركت ذلك بالفعل بعد ان حاولت ان تلعب بتلك الورقة فلم تستطع، والتأريخ يحدثنا عن محاولات من هذا القبيل وفشلها بينما لم يحدثنا اطلاقا عن موقف تزعزعت فيه ظاهرة الامامة المبكرة أو واجه فيه الصبي الامام احراجاً يفوق قدرته أو يزعزع ثقة الناس فيه.

    وهذا معنى ما قلناه من ان الامامة المبكرة ظاهرة واقعية في حياة اهل البيت عليهم السلام وليست مجرد افتراض، كما ان هذه الظاهرة الواقعية لها جذورها وحالاتها المماثلة في تراث السماء الذي امتد عبر الرسالات والزعامات الربانية ويكفي مثالاً لظاهرة الامامة المبكرة في التراث الرباني لاهل البت (ع) يحيى (ع) اذ قال الله سحبانه وتعالى: (يا يحيى خذ الكتاب بقوة وآتيناه الحكم صبيا) (سورة مريم ـ اية 12).

    بعد هذه الاقتباسات من افكار وآراء الامام الشهيد الصدر في تفسير المعجزة وتطبيق نظريته في المعرفة نقارن راي الشهيد الصدر في تفسير المعجزة بالاراء التالية التي تبناها جملة من عباقرة الفكر والفلسفة الاوربية والتي اخذناها من الموسوعة الفلسفية للدكتور بدوي:

    1 ـ ليبنتس: ان المعجزة تندرج في النظام العام للكون وبالتالي لا تختلف عن الحادث الطبيعي الا في الظاهر وبالنسبة الينا نحن.

    2 ـ ارنست رنيان: ان مجرد قبول الخوارق هو خروج على العلم.

    3 ـ دايفيد هيوم: ان قوانين الطبيعة تقررت وثبتت بالتجربة الثابتة المطردة لكن القول بالمعجزات معناه انكار القوانين الطبيعية اذن المعجزات مستحيلة.

    4 ـ جون استيوارت مل: ان اطر أو مجرى الطبيعة وهو امر مشاهد بالتجربة يدل على ان الكون محكوم بقوانين عامة لا بتدخلات خاصة فثم اذن ضد المعجزات (عدم احتمال) لايمكن موازنته الا باحتمال قوي جداً ناجم عن ظروف خاصة للحالة موضوع البحث.

    5 ـ جون لوك: المعجزة عملية محسوسة لكنها لما كانت فوق فهم المشاهد وفي رأيه مضاده للمجرى المقرر للطبيعة فانه يعتقد انها الهية.


    6 ـ سبينوزا: المعجزة هي فعل للروح التي تستفيد على نحو اكمل من المعتاد وتعزز مؤقتا شطرا من ثرواتها ومواردها العميقة، المعجزة حادث لا نستطيع تفسيره ومعرفة علته الطبيعية بواسطة مثال آخر معروف.
    "أن تشعل شمعة خير من أن تلعن الظلام"
    كونفوشيوس (ع)

  3. #3
    تاريخ التسجيل
    May 2006
    الدولة
    بغداد
    المشاركات
    2,017

    افتراضي

    احسنت اخي العقيلي على هذا النقل القيم.

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •  
 
شبكة المحسن عليه السلام لخدمات التصميم   شبكة حنة الحسين عليه السلام للانتاج الفني