[align=justify]تحقيق - هاشم حميد

افرزت الحرب الاخيرة على بلادنا الكثير من الحالات غير الطبيعية وبمرور الوقت تحولت هذه الحالات الى ظواهر اجتماعية واقتصادية لايستهان بها نتيجة لما الحقته الحرب من دمار في البنى التحتية التي اثر معظمها مخلفا عجزا في باقي النشاطات الانسانية الاخرى ومن هذه الظواهر ظاهرة بيع البنزين من قبل الاطفال في الشوارع الرئيسة للعاصمة بعد ان استفحلت ظاهرة البطالة وجد البعض في احتكار المشتقات النفطية خلالها برغم ان المحروقات تعد العجلة المحركة للاقتصاد في البلد وهذه الحالة تلاحظ بصورة واضحة عند كل محطة لتعبئة الوقود حيث يقف عدد من (اطفال البنزين) مع (الجلكانات) وهم يتدافعون بين السيارات للحصول على حق مقتطع من المواطنين بطريقة غير شرعية . ولتسليط الضوء على هذه الظاهرة واسباب تفاقمها وسبل معالجتها كانت لنا هذه اللقاءات مع عدد من هؤلاء الباعة فضلا عن المتخصصين بعلم النفس والاجتماع لمعرفة الاثار النفسية والاجتماعية التي تخلفها هذه الظاهرة على مستقبل الاطفال ومستقبل البلد كله.

* لم تقتصر على الذكور فقط

سعد حردان (15) سنة يقول انا طالب في المرحلة المتوسطة واقوم بعد الدوام بالاتفاق مع احد اقاربي للقيام ببيع (البنزين) مقابل اجرة يومية تعتمد على الكمية المباعة على الرصيف وان هذه العملية لا تقتصر على الذكور فقط فهناك الصغيرات من البنات ولكن تحت اشراف احد ذويهن كذلك يقوم الرجل بالمهمة نفسها .

* تجارة مربحة

الطفل (عمر كاظم) البالغ من العمر (11) سنة سألناه عن سعر البنزين فقال (الجلكان) بـ (11) الف دينار وهذا الـ (الجلكان) يتسع لـ (20) لترا موضحا ان هناك من يبيع اغلى من ذلك السعر ولكن بعيدا عن المحطة وكوننا نعمل بالقرب من هذه المحطة (محطة تعبئة وقود الوزيرية) فأن السعر هو (11) وبعد ان تغلق المحطة ابوابها سيرتفع السعر الى (15) الف مشيرا الى ان عمله هذا جاء بعد تركه للمدرسة بسبب ظروف العائلة الصعبة فهو الابن الاكبر لها ووالده متوفي وما يجنيه خلال اليوم يسد به رمق عائلته التي تعيش وضعا اجتماعيا بائسا.

* لقد حورنا خزان إضافي للسيارة

اما سمير حسون الذي يبلغ من العمر (13) عاما فقال: اننا نحصل على البنزين بعد ان قام اخي الكبير بتحوير خزان اضافي للسيارة وبعد دخوله الى المحطة القريبة من منزلنا يقوم بملء ذلك الخزان بالاضافة الى خزان السيارة الاصلي وبعد خروجه من المحطة يقوم بتفريغ الخزانين في هذه العبوات واقوم انا ببيعها على اصحاب السيارات الذين لم يحالفهم الحظ في الحصول على البنزين وغالبا ما يكون صاحب السيارة الذي يريد ان يحصل على البنزين في عجلة من امره مما يضطر الى شراء البنزين بالسعر الخارجي للمحطة ( بورصة البنزين) اما اخي فيذهب مرة اخرى الى المحطة فينضم الى طابور السيارات الموجودة امام المحطة ليتزود مرة اخرى بالبنزين وهكذا نعمل منذ الصباح وحتى المساء.

* هذا العمل افضل من عمل التكسي
في حين يقول ابو دريد (50) سنة: انا اعتمد على تأمين القوت اليومي لعائلتي المتكونة من (7) افراد من خلال سيارة الاجرة التي امتلكها حيث اقوم بافراغ خزان السيارة في احد الفروع الجانبية القريبة من المحطة (تعبئة الاعظمية) في عدد من الجلكانات ذات الاحجام المختلفة موضحا الى ان عمله في بيع (البنزين) افضل من عمل التكسي فهذا العمل يدر ارباحا جيدة دون عناء الاختناقات المرورية والازدحامات واغلاق الشوارع المفاجيء واستهلاك المحرك مضيفا ان ثمن ذلك يتطلب النهوض مبكرا لاخذ مكان لي في الطابور او في بعض الاحيان نقضي الليل في السيارة في هذا الطابور خصوصا في وقت الازمات التي تدر علينا ارباح طائلة فنحن مجبورون على ذلك فالظروف الحالية هي التي دفعتنا الى ممارسة السوق السوداء من خلال افتعال الازمات واصطناعها عبر رفع اجور البنزين فهي شجعت السوق السوداء والمضاربات بدلا من مكافحة هذه الظاهرة والقضاء عليها كما كانت تعد بذلك.

* الاسرة والحكومة تتحملان ذلك

من جهته قال الباحث الاجتماعي قيصر جدوع: ان عمل الاطفال في بيع البنزين بهذه الصورة لها سلبيات كبيرة على المجتمع منها احتمال تعرضهم للحوادث فضلا عن ذلك انها تنمي روح الطمع والجشع والاستغلال الاقتصادي عندما يكبرون ويتولون المسؤوليات الاجتماعية في الاسرة او الدوائر الحكومية كما ان ذلك يشجعهم على ترك الدراسة والنزول الى الشارع في وقت مبكر من العمر وان الاسرة والحكومة تتحملان وزر ذلك من خلال عدم رعاية هؤلاء او تلبية حاجاتهم فوجدوا انفسهم مدفوعين الى ذلك بسبب الممارسات التي تولدت عن الحروب والحاقها الاذى البالغ والدمار في بنيان وتركيبة المجتمع اما المختص في علم النفس الاستاذ مظهر عبد فيقول: ان ظهور وتنامي هذه الظاهرة على الطرق يعيد الى اذهاننا عمل الاطفال عند تقاطعات الطرق وهم يقومون ببيع السكائر او الحاجات الاخرى والان نجدهم ولكن يبيعون البنزين.. وان مثل هذه الحالات التي تظهر في بداية الامر كحالة فردية لتتحول مع مرور الوقت الى ظاهرة تختفي وتعود مرة اخرى كلما سمحت لها الظروف بذلك وان هذه الحالة لها انعكاسات سلبية كبيرة على الاطفال حيث تنمي عندهم حب الانانية وحالة الاستغلال وعدم القناعة والاكتفاء بما لديهم ويقومون بخلق الازمات في سبيل الحصول على المال الحرام وثمن مجتمع مسلم نرفض حالة الجشع والطمع التي تحتاج الى معالجة علمية.. مؤكدا ان انتشار هذه الظاهرة (اطفال البنزين) بعد ان كانت حالات متفرقة حيث اصبحت شيئا مألوفا بسبب كثرة الازمات التي تتفنن بعض الجهات في خلقها وخطورة هذه الظاهرة تكمن في سلخ العديد من الاطفال من واقعهم ومحيطهم الطبيعي وبالتالي سوف تنمي هذه الحالة عند الاطفال منذ نعومة اظافرهم الركض وراء الجشع والطمع وتفعيل فلسفة وثقافة استغلال الاخرين وخطورة هذه الفلسفة تتجذر عند هؤلاء الاطفال مستقبلا خاصة عندما يتولون مناصب ادارية ووظيفية حيث سيكونون ضعفاء امام اغراءات الحياة الاخرى وافضل شيء لعلاج ظاهرة جنوح الاطفال الى الشوارع وممارسة التجارة في السوق السوداء وما تشكله من خطورة على مستقبلهم هو ان تقوم الجهة المعنية في الدولة القضاء على ظاهرة الازمات عبر السجل العلمي والعملي لموضوع الساعة الان الا وهو ازمة البنزين فهل ياترى يأتي اليوم الذي تختفي فيه ظاهرة اطفال البنزين من الشوارع وان يعودوا الى ممارسة حياتهم الطبيعية بين زملاءهم في الدراسة؟.. سؤال يبقى معلقا في رقبة الازمات.[/align]