[align=justify]في سياق عمليات الأنفال الثالثة التي شملت منطقة كرميان في جنوب كردستان بداية شهر نيسان عام 1988، دخلت قوات من الجيش العراقي النظامي بمساندة قوات غير نظامية مكونة من المخابرات العسكرية والقوات الخاصة والمرتزقة الكردية، إلى قرية <<قادر كرم>> وأنفلت ما كان فيها من الناس. وحسب خطة مدروسة، نقلت تلك القوات اهالي القرية إلى مدينة <<جمجمال>> الواقعة بين السليمانية وكركوك. ظن الناس في البداية ان العملية عبارة عن إجراء عسكري روتيني وأنه سوف يُطلَق سراحهم بعد وصولهم الى جمجمال أقرب المدن إليهم. لكنهم نقلوا بعد يومين من تاريخ القبض عليهم إلى مجمع <<طوبزاوا>> العسكري وبدأت عمليات فرز البشر بعضهم عن بعض. مَن يصلح للموت أولاً؟.
حكاية خلات أحمد
كانت <<خلات أحمد>> أصغر بنات عائلة مكونة من 22 شخصا، واحدة من تلك المجموعة البشرية التي أنفلتها القوات العراقية بقيادة اللواء العسكري <<بارق عبد الله الحاج حنطة>>. تتذكر <<خلات>> الآن تفاصيل تلك الرحلة الجهنمية وتروي لحظات استُحضر فيها طعم الموت. (لقد سبقت عمليات جرد الأسماء وتحديد الأعمار وفصل الرجال عن النساء، الشباب عن الشيوخ أي شيء آخر، وفصلوا عن عائلتي اثنين من أعمامي كانا يتجاوزان 60 من العمر، وظهر في ما بعد انهما كانا قد نقلا إلى سجن نقرة سلمان في الجنوب). هذا ما تبدأ به خلات روايتها، لأن الأيام الأخرى التي سبقت طوبزاوا بالنسبة لها كانت تحمل أمل النجاة ولا تركز عليها بالتالي، وكأن النسيان أدركها ووضع مقدمات رحلتها الأليمة محل طعم أمل افترضته عفوية الثقافة السياسية لدى الناس. بعد تلك الأرشفة لأسماء وأعمار المؤنفلين، التي أنجزتها القوات المكلفة لها بسرعة قياسية، نقل الكثير منهم إلى سجن دوبز العسكري في كركوك وكانت <<خلات>> وأفراد من عائلتها من ضمنهم.
بعد نقلهم إلى سجن دوبز، تعرّفت الإستخبارات العسكرية على نشاط العائلة السياسي من خلال أسمائهم وألقابهم ونقلتهم بالتالي إلى سجن دائرة <<الأمن السياسي>> في مدينة كركوك للتحقيق.
تقول خلات التي تعيش الآن في مدينة كلار مع زوجها وأولادها: <<أخذوني أنا ووالدتي وثلاثة من إخوتي الصغار الذين كانوا أصغر مني كانت خلات تبلغ من العمر 14 عاماً وقتئذ حققوا معنا لمدة أحد عشرة يوماً في ذلك السجن وأرادوا معرفة انتمائنا السياسي والاعتراف بنشاطات سياسية قام بها أفراد من العائلة في القرية قبل الأنفال. لكنهم لم يحصلوا على شيء وعادوا بنا إلى دوبز>>.
كانت الحياة في ذلك السجن عبارة عن ألم دائم، لا خبز ولا دواء ولا رعاية صحية، مات أطفال كثر بسبب قلة الغذاء والدواء. الخبز العسكري القاسي <<الصمون>>، كان وجبتنا الرئيسية ولا شيء آخر. يروي سجناء آخرون عادوا من سجن نقرة سلمان الجنوبي، أنهم كانوا ينقعون الخبز العسكري ذاته ويعجنونه، ثم يخبزونه ثانية. ذلك لأنه كان قاسيا، تفوح منه رائحة النفط.
خلال الفترة ذاتها، رأت <<خلات>> المأساة الأولى في ذلك المكان وعاشت ساعات صعبة تلاها موت واحد من صغار السجن: <<كانت هناك امرأة اسمها <<نجمة>> فصلوها عن زوجها مثل جميع النساء. مرض ولدها الصغير وبقي لأيام عديدة على الفراش دون أية رعاية صحية وطبية، ونحن لم نملك وسيلة للمساعدة غير الالتفاف حوله مع والدته دون فائدة، مات الولد بعد أيام من مرضه، دون ان نتمكن من الحصول حتى على صورة لوالده طالما أحن له قبل موته>>.
بقيت خلات وعائلتها في السجن لمدة خمسة أشهر وعشرة ايام كما تتذكر، ثم نقلت في شهر آب 1988 إلى مدينة تكريت، وتروي خلات كيف بدأت السيارات العسكرية تنقل المؤنفلين بدءاً من بداية شهر تموز، تقول:
<<لما جاءوا بسيارات كبيرة وبدأوا بنقل المؤنفلين، كنت أتمنى أن أكون الأول بينهم واستعجلت في داخلي أن يأخذوني في تلك السيارات ويخرجوني من ذلك الجحيم، لم اعرف أنهم يأخذون كل تلك المجاميع أمام أعيننا إلى المقابر>>. لكن صدفة التغطية على الجرائم أنقذت حياتها كما تقول وعادت كي تروي كيف انها رأت شكل الموت في سيارات مجهزة بكل أدواته.
<<بقينا في تكريت مدة يومين. جاؤوا في اليوم الثالث بسيارات طويلة تشبه سيارات الإسعاف، وقد كانت بلا نوافذ، ثم زجونا فيها لساعات طويلة تحت شمس آب دون أن تتحرك. قبل وضعنا في تلك السيارات جرّدونا من جميع ممتلكاتنا الشخصية مثل النقود والذهب والإكسسوارات بالإضافة إلى الأوراق الثبوتية. ساعتئذ، عرفنا أننا ذاهبون إلى الموت ولا امل ينقذ حياتنا>>.
سيارات طويلة
نلاحظ هنا تطابقا كاملا بين وصف السيدة خلات أحمد وبين وصف الحفّار <<عبد الحسن موحان>> الذي شارك كحفّار في دفن المؤنفلين في كركوك ودوز خورماتو وتكريت للسيارات التي كانت تقل المؤنفلين لحقول الموت. وإذا عدنا للشهادات الأخرى التي وثقتها منظمة <<ميدل إيست ووج>> في كتابها <<الجينوسايد في العراق وحملة الأنفال ضد الكرد>> عن الأشخاص الذين نجوا من الموت نرى ان جميع الأوصاف لسيارات نقل المؤنفلين إلى المقابر الجماعية تركز على شكل واحد وهو: سيارات طويلة مغلقة، تشبه سيارات الإسعاف بلا نوافذ.
<<كان أخي الأصغر مريضاً ومصاباً بحمى قوية، ارتفعت درجة حرارته وكاد أن يختنق داخل السيارة. لم يكن أمامنا وسيلة سوى رفع الصغير على أيدينا إلى الأعلى كي يستنشق الهواء من منفذ صغير في سقف السيارة. لقد تأخرت قافلتنا بسبب خطأ حدث في تسجيل الاسم الثاني لامرأة كان اسمها <<بروين>>، كتب اسم والدها حسن بدل حسين أو العكس. وطال التدقيق في ذلك الخطأ ساعات، ونحن الذين كنا خمسة وستين شخصاً من النساء والأطفال داخل تلك السيارة الجهنمية، نفد صبرنا من الحر ووقوفها السيارة على تلك الحال. كنا ننتظر أية حركة منها، كي نتخلص من ذلك <<الجحيم>>، لكن الخطأ ذاته أنقذ حياتنا، ذلك انه صادف قرار عفو عام أصدرته الحكومة في ذلك اليوم أو في تلك الساعة تحديدا. فلو لم يحدث ذلك، لسلكت القافلة نصف مسافة الطريق أو وصلنا الى المكان الذي كانوا يهدفون إليه>>.
تروي <<خلات>> نقلاً عن <<بروين>> التي كانت تنتظر تصحيح اسم عائلتها خارج السيارات في تلك اللحظات: <<كان الضابط الذي يحمل لائحة أسمائنا بيده متحمساً لتصحيح الخطأ، عندما أخبره ضابط آخر بأن هناك عفوا عاما. لقد رأيت بعيني كيف ان الخبر صعقه وكادت تقع من يديه لائحة الأسماء. ونحن لم نعرف سبب وقف قرار قتلنا إلاّ في اليوم الثاني الذي جاء فيه واحد من عناصر الأمن وقال لنا: <<أعطوني <<بشارة>> ان قرار عفو عام قد صدر وسوف يطلقون سراحكم>>>>.
لا ترى خلات احمد أن قرار العفو العام هو الذي أنقذها مع افراد عائلتها، بل كان المنقذ هو خطأ بين بروين حسن أو بروين حسين وتقول: <<لو بلغ قرار العفو ذاك، أولئك الجلادين وهم في نصف الطريق، فهل كانوا يتراجعون عن قرار القتل ويعودون بنا من حيث اتينا، كلا، أو كيف كان يصلهم القرار أساساً. على الأغلب كانوا سيقولون: لقد سلكنا نصف الطريق ولا يمكننا العودة بهم ثانية>>. [/align]

مؤسسة الذاكرة العراقية