صهينة« الكلام!


بقلم: فهمي هويدي

احذر من «صهينة الكلام« بمعنى نصب مفردات لغة الخطاب العربي على الأرضية الإسرائيلية، ومن ثم تكريس الهزيمة على مستوى اللغة، وتوسيع نطاق التآكل المفجع الذي تحدثت عنه في الأسبوع الماضي، ذلك الذي طال خرائط العرب تارة وقيم زمانهم تارة أخرى، وزحف حتى أصاب بدائه ألسنتهم في طور ثالث.

(1) استشعرت وخزاً حين سمعت قبل حين مصطلح «عسكرة الانتفاضة«، وأدهشني أن مسئولين فلسطينيين كباراً استخدموه، بقدر ما أحزنني أن بعض الكتاب والمثقفين العرب أدرجوه ضمن المصطلحات المعتمدة في حديثهم عن أنشطة المقاومة، ووجدت أن المصطلح بدا يكتسب بمضي الوقت شرعية في الخطاب الإعلامي، موحياً بأن ثمة انتفاضة مذمومة، هي تلك التي تستخدم السلاح في مقاومة الاحتلال، وأخرى محمودة هي التي تتنزه عن ذلك وتفضل الوسائل الأخرى المتبعة في الدول «الديمقراطية« و«المتحضرة«. أمام شيوع المصطلح محملاً بذلك المعنى، فإنني وجدت فيه نموذجاً «للتلوث اللغوي«، الذي تحدث عنه الشاعر مريد البرغوثي في المقال الذي نشرته له مجلة «وجهات نظر« (عدد ابريل الماضي)، وخصصه لفضح ما سماه «لغة الجنرالات القاتلة«، وهي اللغة التي يتم بها اغتيال المعنى واغتيال الحقيقة، من خلال مصطلحات تؤدي ذات الوظيفة التي يقوم بها المسدس كاتم الصوت، ذلك الذي يقتل من دون أن يلحظ أحد أو يحس. مصطلح «عسكرة الانتفاضة« هو إحدى طلقات ذلك المسدس، التي صوبت إلى صدر الانتفاضة لإجهاضها، بزعم أن مواجهة المحتل بالسلاح هي عمل مستنكر يتأبى عليه «المتحضرون«، ومن ثم فإنه يعد مسلكا مدانا يتعين الاقلاع عنه للحفاظ على «نظافة الانتفاضة« و«الارتقاء« بمستوى المواجهة! من المفارقات المذهلة أن إدانة مسلك المقاومة تتم على ذلك النحو، في حين يدرك الجميع أن مسلك الطرف الآخر في المواجهة يتسم بالوحشية والغطرسة، وانه ما خاطب الفلسطيني يوماً الا بلغة الإبادة، ولايزال قتل الفلسطينيين يمثل سياسة إسرائيلية رسمية معلنة حتى هذه اللحظة، ثم انه لا مجال للمقارنة بين تلك «العسكرة« المنتقدة، وبين الأسلحة الإسرائيلية الفتاكة ومخططات الاستيطان الجهنمية، ثم لا تنس أن تلك العسكرة لم تظهر في الأفق الا بعدما فاض الكيل بالفلسطينيين، حتى أدركوا أن إسرائيل سدت في وجوههم أبواب الأمل في تحقيق حد أدنى من الإنصاف والعدل، وانها انتهزت فرصة التهاء الفلسطينيين والعرب بما سمي «مسيرة السلام«، لكي تكرس الاحتلال والاستيطان، إزاء ذلك فإن مخاطبة العدو بلغة السلاح غدت الخيار الوحيد أمامهم، وتبين أن هذه اللغة وحدها التي أصابت إسرائيل بالوجع، وأذاقت الإسرائيليين بعضا من طعم الألم والخوف الذي يعيش الفلسطينيون في ظله طيلة نصف قرن. ولأن العمل الفدائي الفلسطيني الذي تجسدت فيه «العسكرة« هو الذي أوصل رسالة الوجع إلى إسرائيل، فقد صار هم قادتها، وشاغل الدول الكبرى المساندة لها، هو ابطال مفعول ذلك السلاح وتجريد الفلسطينيين منه، لكي تهدأ إسرائيل بالا وتهنأ باستمرار الاحتلال، وبوسع المرء أن يقدر دوافع الإسرائيليين ومن لف لفهم في سعيهم إلى ذلك، من ثم فلو أن مصطلح «عسكرة الانتفاضة« ورد على لسان أي مسئول ينتسب إلى تلك الجبهة لعذرناه وفهمنا موقفه، لكن ما يصدم المرء ويحيره هو لماذا يتبنى أي طرف عربي المصطلح الذي يقف بالكامل على الأرضية الإسرائيلية، ولا يخدم الا الأهداف والمخططات الصهيونية. إن ميثاق الأمم المتحدة ينص على حق الشعوب في مقاومة الاحتلال بكل الوسائل، وإزاء موقف كالذي نحن بصدده فإن عنوان المقاومة يتسع للعديد من صور النضال تتوزع على قائمة طويلة من الجبهات، السياسية والإعلامية والاقتصادية والعسكرية، ويظل من غرائب الزمن وعجائبه أن يصبح حق المقاومة بكل صورها مكفولاً لكل شعوب الدنيا التي تخضع للاحتلال، في حين يستثنى الفلسطينيون من القاعدة، بحيث يحرم عليهم ما يحل لغيرهم، فيطالبون بالتخلي عن العمل الفدائي بزعم أن تلك «عسكرة« مذمومة!

(2) ذلك شكل من أشكال صهينة الكلام لا ريب، حيث المصطلح في هذه الحالة أطلق على لسان عربي، لكي يلبي حاجة إسرائيلية ملحة، وليس للمصلحة الفلسطينية أو العربية فيه ناقة ولا جمل. من أسف انه ليس المصطلح الوحيد، وإنما بين أيدينا قائمة طويلة من المفردات التي تسللت إلى لغة الخطاب العربي، في حين أنها تقف كلها على الأرض الإسرائيلية، ولا اعرف ان كان ذلك قد حدث على سبيل المصادفة أم لا، لكن ما افهمه أن المصطلحات والمفردات ذات الدلالة التي تتخلل خطابات السياسيين على الأقل، لا تلقى اعتباطاً، وإنما يتم اختيارها في العادة بدقة شديدة، بحيث يكون المصطلح محملاً برسالة كاملة، وفي أحيان كثيرة ــ خصوصا في اللقاءات التي تتم على مستوى القمة ــ تتشاور العواصم المعنية حول ذلك النوع من المصطلحات، ويعمل المستشارون لأيام وأسابيع للاتفاق حول ما هو مستخدم منها، وقد قرأنا بعد مؤتمر العقبة أن وصف الرئيس الأمريكي بوش لإسرائيل بأنها «دولة يهودية تنبض بالحياة« لم يكن تعبيراً بلاغياً امتدح به أهم حليف للولايات المتحدة في المنطقة، ولكنه كان فخاً منصوباً اشتغل على صنعه وزير الخارجية الإسرائيلي سيلفان شالوم طيلة أسابيع خلت، وعد دسه في خطاب الرئيس الأمريكي انتصارا له، لأن التصريح به بمثابة إلغاء ضمني لحق أربعة ملايين فلسطيني موزعين على المنافي منذ عام 48، في العودة إلى بيوتهم التي طردوا منها، فضلاً عن اضعاف موقف أكثر من مليون فلسطيني آخر يعيشون داخل حدود دولة إسرائيل. وإذ لا نستغرب حدوث ذلك من حليف وراع دائم التبني للسياسات الإسرائيلية، بما فيها القتل اليومي للفلسطينيين الذي عدته واشنطون من قبيل الدفاع عن النفس، فإن استغرابنا سيتضاعف حين نجد سياسيين فلسطينيين وعربا يتحدثون عن «العنف والعنف المضاد« في فلسطين، ويصنفون ما يجري بأنه «نزاع« فلسطيني إسرائيلي، ويذهبون إلى حد اتهام فصائل المقاومة «بالتطرف« تارة و«الإرهاب« تارة أخرى، بل وجدنا من ذهب إلى ابعد في الحط من شأن الذين يلتفون حول المقاومة ويساندون حق الشعب الفلسطيني في الاستقلال والكرامة، بأنهم «حربجية«! أمثال تلك المفردات والأوصاف تعد من ثوابت الخطاب الإسرائيلي، واقرؤها يومياً فيما أطالعه من ترجمات الصحف العبرية، لذلك فإنني لا أستطيع أن افترض البراءة في استخدامها في ثنايا أي خطاب عربي، إعلامي أو سياسي، ولا اتصور أن الغفلة يمكن أن تصل بمستخدميها من العرب إلى حد الذهول عن معاني الكلمات ومراميها، ولا أجد تفسيراً لاستخدامها في الخطاب العربي إلا أنه من تجليات الهزيمة أو من أعراض التواطؤ. هو شيء ابعد واعمق من تلويث اللغة، لأن من شأن تزايد تسريب أمثال تلك المصطلحات إلى اللسان العربي، ان يؤدي إلى تشويه الإدراك وتهوين العزائم، ومن ثم إهدار الحق وطمس معالم القضية تمهيداً لتضييعها بالكامل.

(3) أخيراً اعترف شارون بأن بلاده تمارس الاحتلال بحق الفلسطينيين، وقد اضطر إلى ذلك لكي يدافع عن قبوله لفكرة الدولة الفلسطينية، حيث قال: إن إسرائيل لا تستطيع أن تبقي ثلاثة ملايين ونصف مليون فلسطيني تحت الاحتلال إلى الأبد، وأياً كانت نواياه في هذا الصدد فما يهمنا في السياق الذي نحن بصدده هو اعترافه بحقيقة الاحتلال، الأمر الذي يدعونا إلى استبعاد احتمال حسن النية فيمن لايزالون يتحدثون عن «النزاع« في فلسطين، واقفين عند كلام بن جوريون وأمثاله الذين دأبوا في الخمسينيات والستينيات على الاصرار على أنه ليس احتلالا، ولكنه نزاع بين حقين! أما الذين تجاهلوا الموضوع برمته، وعدّوا أن الصراع القائم في المنطقة هو بين ثقافتي مخاصمة العالم أو مصالحته، فأمرهم مفضوح ولا سبيل إلى مناقشته، حيث كشفوا أوراقهم بأنفسهم وأعلنوا على الملأ انهم يقفون إلى يمين شارون بمسافة كبيرة. ولأننا أصبحنا نجهد أنفسنا في مناقشة البديهيات وإثباتها، فإننا نقول: إنه في ظل الاحتلال تصبح المقاومة شيئاً طبيعياً وسلوكاً مشروعاً ومحموداً، الأمر الذي يستغرب معه أن يوصف المناضلون الفلسطينيون من دون كل المقاومين في التاريخ الإنساني بأنهم متطرفون ناهيك عن أن يكونوا إرهابيين، نعم نفهم اطلاق هذه الأوصاف من المحتلين، الإسرائيليين أو غيرهم، وهو ما فعله الفرنسيون حين احتلوا الجزائر وبلاد الشام، والإنجليز حين غزوا مصر، إذ وصفوا الذين تصدوا لهم بأنهم متعصبون ومتطرفون وإرهابيون، لكن حيث يحدث ذلك من جانب أبناء الوطن المحتل أنفسهم، فإن الأمر لا ينبغي أن يكتفى فيه بالدهشة، وإنما لا بد من أن تقترن الدهشة بتحقيق يثار فيه العديد من الأسئلة حول دوافع تبني هذا الموقف، وإلى أن تصل إلينا نتائج ذلك التحقيق فإننا ينبغي أن نسلم بأن تداول أمثال تلك الأوصاف يفتقد حسن النية، ويندرج بامتياز تحت عنوان «صهينة الكلام«.

(4) تبلغ تلك الصهينة ذروتها في وصف بعض وسائل الإعلام العمليات الاستشهادية بأنها انتحارية، واثارة ذلك الجدل المشين الذي يراد به حجب صفة الشهداء عن أولئك الشبان والفتيات الذين يضحون بأرواحهم ودمائهم دفاعاً عن كرامة شعبهم ووطنهم، بل كرامة أمتهم أيضاً، وهو جحود احسبه نادرا في التاريخ، ان يقدم أناس دماءهم فداء لأمتهم، بينما يضن عليهم البعض بكلمة ــ مجرد كلمة ــ توفيهم بعض حقهم. لقد تطرقت إلى هذه المفارقة من قبل، وما شجعني على العودة إلى الموضوع مرة أخرى ليس مقتضى السياق فحسب، من حيث إنه يعد نموذجاً صارخاً لتبني لغة الخطاب الإسرائيلي، وإنما أيضاً ما وقعت عليه ذات مرة من خلال ما انتهى إليه أحد الباحثين إسرائيليين في هذا الصدد. فقد نشرت صحيفة «الحياة« اللندنية في 24/4/2003م تقريراً من الناصرة بالأرض المحتلة تضمن عرضاً لبحث قام به حول العمليات الفدائية الفلسطينية خبير الدراسات النفسية بالشرطة الإسرائيلية، الدكتور إسرائيل اورون، وقد خلص الرجل من ذلك البحث الذي يجرى لأول مرة إلى استنتاج قاطع مفاده انه لا يوجد للشبه بين الانتحار بمعنى قتل النفس (بدافع اليأس أو غير ذلك) وبين العمليات الفدائية الفلسطينية، وان منفذي تلك العمليات من الفلسطينيين «يقدمون عليها ليس رغبة في الموت، وإنما بدافع إرادة الحياة«، وأضاف الخبير النفسي أن الفرضية السائدة التي تدعي أن الفدائي الفلسطيني الذي ينطلق لتنفيذ العملية المكلف بها «مصمم على الموت«، فرضية مغلوطة وخاطئة. قارن الباحث بين ظاهرة الاستشهاديين الفلسطينيين و«حرب الانتحاريين« التي اعتمدها الطيارون اليابانيون (الكاميكازي) في مواجهة الجيش الأمريكي إبان الحرب العالمية الثانية، واعتمد في بحثه على تحليل الرسائل التي تركها انتحاريو «الكاميكازي« والفدائيون الفلسطينيون وعلى أقوال أدلى بها من اعتقلتهم سلطات الاحتلال الإسرائيلي قبل أن ينفذوا «عمليات« خططوا لها، وقارن تلك النصوص مع رسائل تركها أشخاص عاديون أقدموا على الانتحار، وانتهى إلى أن الدوافع النفسية تختلف اختلافاً جذرياً لدى «منفذي العمليات« عنها لدى «العاديين«، وأضاف: ان الحافز لدى منفذي العمليات الانتحارية الفلسطينيين، أو لدى قسم منهم، مشابه لحافز طياري «الكاميكازي« الذين رأوا انهم يشكلون الدرع الأخيرة والأمل المتبقي لليابان، وانهم إذا ما رفضوا التطوع للمهمة، فإن النتيجة ستكون هزيمة اليابان وموتهم، وبالنسبة إلى الفلسطينيين عموما فإن الشعور العام لدى «القنابل البشرية« هو ان الفرصة الوحيدة لتغيير أوضاع شعبهم تتاح من خلال عملياتهم التفجيرية وان تفويت الفرصة سيبقيهم يعيشون حياة ذل وخطر دائم «بل حياة لا تستحق وصفها بالحياة«. اقتبس الخبير النفسي من أقوال لفلسطينيين خططوا لعمليات تفجيرية ورأوا في الفريضة الدينية (الاستشهاد) الدافع الأبرز والأهم، لكن من دون أن يغيبوا واجب مقاومة الاحتلال والشعور بعدم قيمة الحياة وفقدان الأمل «بمعنى أن نية الموت لم تكن الدافع المحرك لديهم لأن من يريد وضع حد لحياته يبذل كل جهد لتنفيذ خطته ولا ينتظر من أحد أن يخطط له العملية«، واستشهد بحدث لأحد الشبان الفلسطينيين قال فيه: إنه لو أقيمت دولة فلسطينية، لما كانت هناك حاجة إلى تنفيذ عمليات، لكن طالما تواصل الاحتلال فسيبقى الاستعداد لمقاومته وبالتالي الاستعداد لاختيار الشهادة «وهذا الحديث يدل على أن هدف هذا الشخص ليس قتل نفسه« على حد تعبيره.

(5) لأن الثقوب في نسيج حياتنا الثقافية كثيرة، فضلاً عن تراكم عناصر الضعف والهشاشة في ذلك النسيج خلال السنوات الأخيرة، فإن تسريب أمثال تلك المفردات المشينة يتواصل حينا بعد حين، حتى أخشى إذا استمر الأمر على ذلك النحو، أن يجيء يوم تتطابق فيه لغة الخطاب المتداولة على الجانبين الإسرائيلي والعربي، الأمر الذي من شأنه أن يكرس الانبطاح حتى على مستوى اللغة والتعبير، وإذا كان ابن خلدون قد قال في مقدمته: إن المغلوب مولع بتقليد الغالب، فإن الفكرة ذاتها تنطبق على المشهد الذي نحن بصدده، حيث يتمثل التقليد في تبني لغة الغالب واستعارة لسانه، حتى ان كان بذيئاً ومشيناً في حق وطنه ونضاله. لا بد أن نحمد الله على أن الكلام المتصهين لايزال نغمة نشازاً في خطابنا العربي، وان هذه النغمة بالرغم من علو نبرتها لم تحقق ما تنشده من تشويه للإدراك وتثبيط للهمم.. والدليل على ذلك هو استمرار المقاومة وتصاعد وتيرتها على نحو يؤكد أن خطاب الهزيمة ليس أكثر من فقاعة في الهواء، لا حاضر له ولا مستقبل.