أنفال صدام بعد سقوطه ،أثناء محاكمته ... تزاحم الجروح - خالد سليمان


[align=justify]


في قرية تقع جنوب كردستان العراق تعيش مجموعة صغيرة من بقايا العوائل التي نجت من عمليات الأنفال عام1988 ، عجوز وحيد/ة ، شاب مجرد من الذاكرة والمحيط الإجتماعي ، شابات فقدن الأب وعجزت الأم عن توفير شروط حياتهن . تتجسد هذه الصور الحياتية التي ينقصها أمل إستعادة الآباء والأُمهات والأولاد الذين راحوا في الأنفال في سياق تاريخ قرية فقدت إمكانات المحايثة مع عصر صدام حسين وأصبحت في عداد الأراض المحرمة
يعيش في هذه القرية فاتحان ، نجا الاثنان من " ملة سورة " مكان التجميع الأول في مأسآة الأنفال صدفة .فقد الأول أخويه جبار ومجيد وعائلتيهما وأربعة من أخواته وأطفال أثنتين منهن .أما والدته فعادت من سجن نقرة سلمان بعد قضاء ثلاثة أشهر فيه . نجت شقيقته حبيبة فنجت من عمليات التجميع مع ولديها مريوان وجنار ولم يعرف مصير زوجها كمال منذ ذلك العام . على بعد بضع أمتار محدودة من بيت فاتح الأول الذي استعادة بيئة ناقصة من عائلته المفقودة من خلال الأُم العائدة من مسلخة نقرة سلمان والأخت الناجية مع ولديها ، هناك بيت فاتح الثاني الذي كان الوحيد الثاني أيضاً داخل عائلته . فقد هذا الثاني العائلة بالكامل وبقي وحيداً لذاكرة يتيمة ، ماتت والدته " حلاو " في سجن نقرة سلمان بمرض الإسهال عام 1988 وراح أخوه صالح وزوجته وأولاده والأخوات السبع . مات الوالد في المجمعات القسرية بعد سماع خبر موت الزوجة من خلال العائدات الأموات من سجن النقرة الواقع على الحدود العراقية – السعودية .
كان فاتح الثاني هذا صغيراُ وقتئذ اي عام 1988 وساعده الحظ أن يكون مع أبوه الحاج محمد رشيد أيام النزوح والتجميع وافترقا عن العائلة المتجهة لملة سورة مع أهل القرية وبقيا في المنطقة لعدة أيام على أمل الخلاص من المحنة . استمرت طائرات هيليكوبتر بمشط المنطقة وقصفها ولم يبق أثر لأحد سوى العسكر والمرتزقة الكردية " الجحوش " باللغة الشعبية ، لذا اضطرا للنزوح الثنائي وترك القطيع في البراري . عندما وصلا لمجمع الصمود القسري لم يريا سوى فاتح الأول وبعض أسماء محدودة من القرية . لقد أختفى الجميع .
يعيش الآن فاتح في ذات المنزل بعدما بناه مجدداً ، بينه وبين فاتح الأول خطوة واحدة من جغرافيا الآلام . يطل بيته على منحدر من جهة الشمال كان يقع فيه بيت أحمد ماملي وعائلته التي اختفت بالكامل .
كان ماملي الذي قتل أثناء الحملة بصواريخ الهيلوكوبترات في شرق القرية قد رأى قبل موته بايام معدودة حفلة عرس ابنه إبراهيم التي صادفت ليلة ما قبل النزوح الجماعي بتاريخ 8\4\1988 . وكأن العرس اصبح مقدمة طويلة للإختفاء ، إختفاء أطول من الموت . إذا سألت أحد عن يوم النزوح وإخبار وصول الجيش إلى المنطقة فيبادر للوهلة الأولى للحديث عن ليلة عرس إبراهيم الذي كان وحيد العائلة وأصبح الآن وحيد القرية المختفي طالما أخفت الأنفال أكاليل زفافه ولطختها بدماء سالت في القبور .
نحتاج هنا إلى هامش أو هوامش بالأحرى لتوضيح اساليب قتل تلك المجموعات البشرية كما كشف عنها حفّار فرق الموت التابعة لـ " علي الكيمياوي " عبدالحسن موحان " . كان عملية القتل تتم على حافة الحفرة " القبر " بدفع المؤنفل إلى الداخل بعد إطلاق رصاصة واحدة على رأسه و بالتالي تسيل الدماء تحت التراب دون أن يراها القاتل ولا المقتول . ويقول الحفّار المذكور حول المقابر والدفن الجماعيين في مقابلة أجراها معه الصحفي الكردي عارف قورباني ونشرها في كتابه الوثائقي (من أُم الريعان إلى توبزاوا ) : كانت هناك ست سيارات وكل سيارة فيها 50 شخصاً ، دفنوا في أربع حفر ، كل حفرة 75 شخصاً . قتلوهم على حافة الحفر وكان يدفعهم الضابط المسؤول بقدمه نحو الهاوية . ونقوم نحن الحفّارون على الفور بطمرهم .
في سياق هذا الهامش ذاته نتذكر دماء الصغير " تيمور " الذي نجا من ليلة دفن جماعية في جنوب العراق بأعجوبة ولاذ ببيت أحد القرويين هناك . سالت دماء تيمور على الرمال ورآها كخيوط ليلية تصاحب خطاه المتعثرة بين القبور وفرق الإعدام . يمكننا أن نرى آثار تلك الليلة السماوية - نسبة إلى السماوة - من خلال اشياء أُخرى أيضاً ، اشياء تدخل في سياق روايات الصغير الناجي الذي بقي شاهداً على قيامة الأنفال بدءً من ملة سورة الكردية وإنتهاءً بالسماوة العربية . فقرية " بيرَمَوَني" Pyramawani الواقعة في منطقة كرميان تجسد مثالاً واضحاً لآثار تلك الليالي الجهنمية . يسكن فيها الآن بعض من الذين نجوا أو عادوا من إحتفالات الإعدام وهم رجال ونساء مسنون أذكر أسماء بعضهم :
محمد عزيز آغا 80 عاماً بقي وحيداً من عائلة مكونة من 20 شخصاً
علي فتاح نفس العمر راحت زوجته وأولاده
سوسن محمد تتجاوز الثمانين من العمر راح إبنيها حسن وجمعة مع زوجتيهما خجييه ونجمة وهن شقيقات فاتح " الوحيد الثاني "
الحاج صالح إبراهيم يتجاوز الثمانين ووحيد اكثر من غيره
الخالة شوكت راح وحيدها شكر وواحدة من بناتها
وأخيراً " لاله أحمد " أي الخال أحمد الذي كان بقّالاً لــ Pyramawani والقرى الأُخرى قبل الأنفال . أجدني هنا مضطراً للعودة إلى الوراء ، أي بداية الثمانينات حيث كنا صغاراً إذ لم نجد من يفرحنا سوى الخال أحمد الذي كان يظهر في كل اسبوع مرة ومن بيت إلى بيت ، حاملاً لنا الحلوى والشوكولا والموالح . لم يعتد الخال أن يبيع بضاعته مقابل النقود فقط بل مقابل " أُقيات " من الحنطة والشعير ايضاً ، لأننا لم نكن نملك مالاً للشراء اكتشف يوماً بأننا نغشه ونغير حافة 10 فلساً ونحوله إلى 50 فلساً من خلال صقله ، لأنه ما كان يجيد القراءة ، وبعدما أن اكتشف الأمر بدأ يتلمس حافة العملة المعدنية ويتأكد منها قبل أن يعطينا شيئا من حلواه .
يعش الآن لاله أحمد في قريته مع باقي الأشخاص الذين ذكرت اسمائهم ، يلتقون يومياً في مساحة القرية الصغيرة لألم كبير . يتذكر كل منهم ولده أو زوجه والأيام التي عصفت بهم . فقد تلاشت حياة ما قبل الأنفال للأبد .
الرابط الوحيد بينهم وبين الحياة هو لقاء يومي على أنقاض قرية كان إسمها pyramawani ولا يزال . وإذا قاربنا هذا الإسم مع بقاء هؤلاء العجائز الذين اصبح كل منهم وحيد العائلة والقرية معاً ، نصل إلى مفارقة تاريخية غريبة أوجدتها سياسات البعث في كردستان فـ " Pyramawani " إسم تركيبي يتكون من مقطعين: Pyra أي عجوز و Mawani معناه لا تأخذوه ( عجوز لا تأخذوه ) والآن لم يبق فيها غير العجائز عادوا جميعهم من قبور نقرة سلمان كي يبقى إسم " بيرييه موني " نقشاً على تاريخ مجهول . لم يعرف أحد تاريخ الحدث الذي خلف هذا الإسم وجاءت الأنفال لتعرُف المجهول وتؤرّخ اللامعرّف ، تحفر نهايات قرية سوف لن تخلف جيلاً آخر !
ريبوار أو مسافر دوبزي
ريبوار Rêbwar إسم كردي يعني " المسافر " وبإمكاننا إضافة لقب " الدوبزي " له ليصبح إسماً ثنائياً مفروضاً تمخض عن سجن الدبس - دوبز كردياً - التابع لمدينة كركوك . ولد ريبوار في ذلك السجن عام 1988 أختارت له أُمه " قدرية " إسم ريبوار بدل بيكه س أي الوحيد . أما عماته اللواتي كن في السجن نفسه فاخترن له إسماً آخر وهو " دوبزي " وصار له بالتالي إسمان لم يعرف الأب اي منهما ولم يتعرف الصغير بوره على الأب إلاّ بعد سنين ومن خلال صورة له احتفظ بها ناج آخر من التصفية .
جد ريبوار " علي جوهر " فقد ثلاث من إبنائه ( غفور ، رشيد ، خورشيد ) وعادت زوجاتهم الثلاث مع أُم المسافر المولود في السجن والذي أصبح موضوعاً لمفاجآة إنتظار طويل . كان يحلم الجميع بعودة ذويهم بينهم " أبو ريبوار " فيرى ولده قد كبر ويحمل إسماً جميلاً يدل على البعد عن المكان الذي كان من المفترض أن يولد فيه وهو قرية " قوالي " Qewalî الواقعة على نهر كرميان الوحيد آوسبي Awespî . لكن الإنتظار طال وكبر الولد وكبرت معه أسئلته التي اختلطت فيها ملامح جيل وجد نفسه في تيه ملامح جيل آخر تراكمت عيله مرارة الأيام .
ترتسم أبعاد هذين الجيلين في منزل على جوهر إذ يعيش فيه الجيل الأول المتمثل بالجد وزوجات الأبناء والبنات والجيل الثاني المكون من الأحفاد الذين وجدوا بين حقول التجميع .
لا يحب ريبوار لقب الدوبزي ، لكنه يقبله كأمر واقع مرّ كبر فيه وأخذ معطياته كمكونات أولية في بناء شخصيته التي تمتعض من كل شيء يشير إلى إسم " الدبس " ، ولا يعرف من ملامح الأب شيئاً بإستثناء هامش وصفي حول الساعات الأُولى من العاصفة تظهر فيها صورته كطيف اختطفته قيامة ملة سورة . وهكذا بالنسبة لأطفال ( غفور، خورشيد ، رشيد ) الذين كبروا في البيت ذاته وافتقدوا طفولة سليمة كافتقاد Pyramawanî لتاريخ سليم .
تظهر هنا عناصر مأسآة لم تشمل الذين عاشوا الأنفال فحسب ، بل شملت جيل كان يقف على أبواب الولادة . فالتاريخ الذي يفصل بين ولادة ريبوار وبين ظهور الجثث والمقابر الجماعية هو تاريخ عبيثي ولامعقول ، لا يجد فيه المرء سوى مسخ قسري للروح البشرية ، لأن إختفاء ريبوار كان ممكناً أيضاً لو ولد على طريق تكريت أو اي طريق آخر يؤدي إلى إحدى الحاميات العراقية . وهذا ما حصل مع إمرأة كرميانية أخرى نقلت من مدينة " دوز خورماتو " مع نساء أخريات داخل سيارة حمل عسكرية بإتجاه تكريت وولدت في الطريق ومات ولدها في الطريق ذاته .
في روايته الشهيرة " سنة موت ريكاردو ريس " يضع الروائي البرتغالي خوسييه ساراماغو شخصيته الروائية المفترضة أمام إشكالية نفسية خلقتها بيئات صعود الفاشية في أوربا . وتتجسد هذه الإشكالية في إجهاض ثمرة حبه في احشاء عشيقته " ليديا " لأن المولود إذا جاء فتبتلعه الفاشية بعد عشرين سنة من الآن كما تبتلعنا الآن جميعاً . كان هذا في ثلاثينات القرن الماضي إذ أصبحت فيها صور وبطولات سالازار في كل مكان في البلاد .
كنت أتذكر هذه الفلسفة الإستباقية للدمار الذي تخلقة قوى الإكراه والفاشيات على المجتمع كلما التقيت بشاب أو شابة ارتسمت حياتهم في دوائر إستئصال أسست الأنفال مقوماتها الأساسية . فلو عرف جميع هؤلاء الرجال والنساء المؤنفلين ان مصير أولادهم يكون على هذا الشكل الذي نراه اليوم في المجمعات القسرية لربما تمنعوا عن الإنجاب .
نزيرة جوهر الإبنة الصغرى في عائلة السيد جوهر كانت في سجن " الدوبز " لحظة ولادة ريبوار وكتبت شعراً ونثراً وقهرأ يومياً لستة أشهر من المهانة . رأيتها بعد عودتها من حامية دوبز في صيف 1988 وكانت تحمل كل تلك الصور المرعبة التي رأتها منذ خروجها من القرية وصولاً إلى السجن على صفحات قلبها . كتبت نزيرة نصوصاً شعرية عفوية عن الصغير الدوبزي والآخرين وتفاصيل سجن " الدبس " ويوميات المذلة فيه وعن قريتها الواقع على نهر Awespî الوحيد والإنتظار وعن الأخوة الذين فصلهم الجنود عنها في ملة سورة عنوة .
وبالنسبة لجميع المؤنفلات اللواتي عدن من سجون الدبس وتوبزاوا ونقرة سلمان فإن الصورة الأعنف التي رأينها هي كيفية فصلهن عن أزواجهن واخوتهن وأبنائهن ومن ثم فصل الشابات عن العجائز وإحالة كل مجموعة على حدة إلى مكان مجهول . وتحمل كل أمرأة عائدة من الموت بالتالي صورة أو صور تحرمها من لذة حياتها الباقية .
هناك إمرأة إسمها " نبات فائق رحيم "طلبت منها إبنتها الصغيرة " خيارة " وحاولت الأُم بشتى الوسائل أن تنسيها تلك الفكرة ، لكن الصغيرة أصرت وصرخت كثيراً ودون فائدة :
( مرضت إبنتي وكانت نوبات الصرع تهلكها بين فينة وأخرى ، كان عمرها ست سنوات وقد وهبتها كل عطفي وحناني بعد موت أخيها " ديار " كانت " شارو" مرحة وبشوشة وذكية تعرف كيف تستقطب إهتمام الاخرين وخصوصاً في ذلك السجن حيث زادت معزتي لها اضعافاً ولا زال الألم يعصر قلبي حتى الآن . كانت تئن وتطلب الخيار ، آه يا رباه من أين آتي لها بخيارة وكنا حينئذ نعيش على الخبز والمائ والإهانات .
في أحد الأيام كان هناك حذاء صغير مرمي دون أكتراث ، التقط فردة منه ووضعتها في فمها كي تظن بأنها خيارة ولن أنسى ذلك المشهد أبد الدهر ، تمزق كبدي عندما رأيت ذلك . من يستطيع أن يتحمل رؤية فلذة كبده بهذا الشكل ولا يحترق قلبه . صرخت كالمجنون ودوت صرختي في السجن ، صرخت وصرخت . حضر العساكر ولكي يعذبونني أكثر سحبوا إبنتي من أحدى ذراعيها ... ألقيت بجسدي عليها وشددتها إلى حضني لكن أحد العساكر ضربني على ضهري بعقب سلاحه . وأخذوا إبنتي شارو حية . لا اعرف مصيرها حتى الآن .
مضى أربعة عشر عاماً على تلك الحادثة ومن هولها ووقعها في نفوسنا . لم نأكل منذ حينها الخيار أنا وعائلتي ولا يزال منظر الخيارعلى عربات الباعة وفي السوق يهيج في داخي تلك الذكريات . )
تزامناً مع ولادة ريبوار في مسالخ الدبس ورغبة الصغيرة شارو لتناول خيارة وإنشغال نزيرة وآوات بكتابة يوميات المهانة تحت أقدام العسكر كان هناك أحداث أُخرى مماثلة في مناطق أُخرى من كردستان . ففي بهدينان وفي قلعة " السلامية " تحديداً ولدت كردية أُخرى وسمت ولدها " هاوار " اي الصراخ أو الإستغاثة إذا أردنا .
لقد وضعتنا الأنفال امام لغة لا تتصل بالحياة ، لغة مجردة من مراجع الإنسان وتمثلاته الأخلاقية والتاريخية وإلاّ كيف ترتسم الأشياء والأسماء والولادات في فضاءات مؤثثة بمفردات الألم والحرملن والإنتظار وقطع الأوصال ! إذا بقينا في دائرة الولادات التي تحمل معها آثار تلك المأسآة نرى أن هناك أطفال كثر ولدوا في الطريق أو السجن أو بعد عودة بعض النسوة إلى المجمعات ، أو قبل النزوح الذي تلته التصفية .
لم ألحظ تفاصيل ومساحات هذه اللغة بالشكل الذي رأيتها أثناء عودتي الثانية إلى قرى كرميان بعد سقوط تماثيل البعث في بغداد بعام واحد . كانت العودة الأولى التي صادفت حرب الخليج الثانية سرية ولم أر فيها غير ملابس مهترئة وبقايا مجموعات تركت ما لديها من الحياة في مغارات صغيرة وأماكن أصبحت محيطاً تاريخياً لما قبل العاصفة . كنت مع صديقي " شكر رحيم " الذي فقد الكثير في الأنفال أيضاً ، حملنا الخبز والتمر إلى بعض أفراد عوائلنا تركوا الخدمة العسكرية وهربوا من طاحونة الحرب . ولم يكن هناك ملاذ آمن للإختباء سوى القرى المهدومة ، لذا توجه جميعهم إليها مع " زاد " يوم واحد وكان علينا أنا وشكر المخاطرة وإيصال الأكل إليهم بأسرع وقت ممكن من أجل بقاء " الهاربين " في الأمان .
ليلة كاملة من السير على الأقدام نحو منطقة مهجورة بدأت من بلدة كفري من بين ربايا عسكرية ، وساعدتنا في ذلك خلية سرية للحزب الشيوعي العراقي . بدا الطريق خالياً من شيء بإستثناء خرير المياه الشتائية الذي كان يشكل إيقاع صمتنا . عندما تقربنا من آثار القرى ظهرت مقابرها للوهلة الأُولى كتاريخ معزول وكأن كل من كان يعسش هنا راقداً تحت ترابها الآن . جسدت تلك اللحظة خوفاً مرعباً في داخلي ، وجدت المأسآة من بدايتها إذ بدت فضاءات مجردة من البشر والمخلوقات بإستثناء المقابر التي اصبحت محيطنا الإجتماعي والتاريخي الوحيد .
تذكرت حينئذ مسرحية الكاتب الأميركي المشهور أيروين شو وهي " ثورة الأموات " وبدأت أحاور نفسي من خلال صمت مفروض على مثل رحلات كتلك التي تتطلب الحيطة والحذر . في هذا المكان لا يوجد سوى الأموات ولا يمكن التحاور بالتالي إلاّ مع الأموات . أما احاديث الأحياء - انا والصديق الشبيه في صمته - فكانت تدور حول إيصال حقيبتين من خبز التنور والتمر إلى الهاربين من جحيم صدام حسين .
بدا الليل أقل وحشة من النهار الذي أختلف فيه الصمت من حالة طبيعية تفرضها العتمة إلى شكل من أشكال الإنفصال مع الحياة ، لأن المقابر والراقدون فيها بدت كطرف وحيد للشهادة على وحدة المكان . وكان هناك في سياق ذلك التاريخ العبثي الذي تجسد في أرض جرداء من البشر غرفة واقفة واحدة في قرية قلعة جرملة . جلسنا فيها وحولناها إلى مكان الراحة قبل العثور على الملاجئ القديمة التي كانت تحمينا من طائرات هيلوكوبتر قبل الأنفال .لم نستغرب في ذلك الوقت من بقاء تلك الغرفة لأننا ببساطة لم نسمع ما قاله " علي الكيمياوي " .
بعد عام واحد من ذلك التاريخ اي في عام 1991 عثر المنتفضون الكرد والشيعة في كردستان والجنوب على وثائق كثيرة وأشرطة فيديو مسجلة بصوت " الكيمياوي " يقول فيها : ( إذا رايت بيتاً واحداً بعد عام واحد في سهل أربيل بإستثناء القرى العربية سأعرف ماذا أفعل بالشخص المسؤول عن العملية ) . بعد أن قرأت هذه الجملة في كتاب ( الإبادة الجماعية في العراق وحملة الأنفال ضد الكرد ) لمنظمة الشرق الأوسط لحقوق الإنسان سألت نفسي يا ترى لما بقيت تلك الغرفة التي كانت ترجع لبيت عائلة آفتاو صالح بك وكتبت عنها في مكان آخر . تلك هي الأشياء التي رأيتها في الزيارة الأولى ، قبور وغرفة وملابس مهترئة .
جائت الزيارة الثانية بعد أربعة عشر عاماً من ذلك اليوم إذ كانت الحرب فيه على الأبواب والخالة " زريفة " تنتظر عودة إبنيها فارس وعزيز وعائلتهما . إنتظار دام عقد ونيف وعادت السيدة زريفة لتعيش في الطرف الآخر من قرية بيرييه موني وعجائزها . تسكن الآن في البيت ذاته وفي نهاية الإنتظار ، لم يبق لها من الماضي سوى أسماء تذكرها في سياق يوميات العزلة المطلقة ، لا ترى جماليات تلك التلة الصغيرة التي يقع البيت في سفوحها وفقدت كل شيء يتعلق بتاريخها - اي التلة - .
كانت تجتمع على تلك التلة مع زوجها عبدالله وفارس وعزيز يستقبلون ويودعون الشمس ، يتحاورن ويختلفون حول الموسم والأمطار والأغنام والخوف الذي يجلبه طائر البوم . كان هناك بومة في جهة الشرق من القرية ، تأتي من مكانها الرئيسي " الطريق الجنوبي " ويبقى في القشلاخ أي المنازل القديمة لمدة ساعة أو أكثر ثم تعود لعشها . تكرّس الخوف من أيام النحس القادمة هنا كشكل جديد مع الحياة ولم يصبح الأمل إشارة لقادم ما !
تتجول الخالة زريفة الآن في الأمكنة التي أعتادت أن ترى فيها إبنيها وزوجها وأهل القرية ، لكن ذاكرتها لا تساعدها للولوج في دهاليز الماضي وإختيار ما فيه من السعادة المزيفة والمسروقة .
إذا بحثنا عن المحيط التاريخي للمجتمع المؤنفل في ( قلا جرملة وبيرييه موني وقوالي ) والقرى الأخرى لا نجد سوى فضاء رمادي تمخض عن ربيع كامل من الحرق والصراخ والنزوح والتجميع والتصفية ، فضاء تتحرك فيه الأفراد وفق إيقاع الحزن والكأبة والتذكر الدائم لما جرى . لانه بالتالي مجتمع بلا المحيط ، بلا الضفاف ، لا يمتلك مقومات التواصل مع الأمس ولا تتوفر فيه شروط الرعاية الصحية والتعليمية والإجتماعية والإقتصادية عداك عن الأُمومة والطفولة .
ضمن خارطة هذه الحالة مابعد - التراجيدية يعيش جيل الأنفال الأخير المتمثل بعجائز قرية بيرييه موني والسيدة زريفة وشمسه محمد علي ، على حكايات تتشكل عناصرها من أيام تسمى في القاموس الشعبي بما قبل الأنفال ومابعدها ، حفلة عرس ، صلاة إستسقاء ، مولود نبوي ، أربعاء ما في المراقد ، أو تجمع موسمي للحصاد ، كل هذه المفردات المذكورة تكون معنى السعادة المزيفة . أما المأسآة الحقيقية أو " الأصلية " فتظهر على شكل روايات متسلسلة والمنقولة ما بين القرى والقلاع العسكرية ، أو التي حدثت في المسافات الفاصلة بين هاتين الضفتين كالولادة والموت والقتل والإعتفال .
لم يبق لعناصر الضفة الأولى قيمة تذكر ، لأنها تلاشت وتبدت في فضاءات الضفة الثانية ، وإن سالت أحد ما عن تلك السعادة المزيفة يجيبك على الشكل التالي ( تلك كانت في زمن ماقبل الأنفال ثم يدخل في سرد تفصيلي للانفال وكأنها فعل راهني مطلق )[/align]

المصدر: مؤسسة الذاكرة العراقية