قراءة متأخرة للشيعة العرب

د. فؤاد إبراهيم
Email: [email protected]

نبّهت تصريحات الرئيس المصري حسني مبارك لفضائية العربية في الثامن من أبريل حول ولاء الشيعة، عموم الشيعة، لإيران الى أن تراث الحرب العراقية الايرانية لا يزال عالقاً كعنصر غواية للرأي العام العربي والاسلامي. وبرغم محاولات إعطاب الصاعق السياسي لتصريحات مبارك الا أنها أخفقت في لي عنق النص والمضمون، فقد أحبطت اللغة الصادمة مفعول اللياقة الدبلوماسية في تخفيف وطأة رد الفعل الشيعي والسني عموماً.

ليس من قبيل الدفاع عن الذات الانبراء لاعادة رسم صورة خضعت تحت تأثير تشوّهات خطيرة خلال عقود وبلغت ذروتها في عقد الثمانينات.. صورة تعاهدها السياسي والاعلامي والاكاديمي والديني، فخرجت شوهاء عن جماعة إفتراضية موسومة بالشيعة، فيما تنازل الاخيرون عن حق الدفاع عما مسّهم من قروح على خلفية دينية وقومية.

قد يعفى من وقع في التباسات الضجيج الاعلامي المتصاعد خلال عقد الثمانينات بوصفه زمن انفلات العقل وطغيان الايديولوجية بجرعاتها العاطفية العالية، فأشكال الاستقطاب الاقليمي والدولي تجنح الى تخليق اصطفافات سياسية وشعبية مرهونة بتشويه صورة الآخر، ولكن هل نعفي أنفسنا من مهمة البيان. في هذه المقالة التي تقع في زمن ما بعد الحرب العراقية الايرانية، نفترض أنها لا تتجاوز حدود (مادة تعليمية) في محاولة لاعادة تركيب صورة الشيعة العرب، في سياق العلاقة المزعومة مع ايران. للتذكير فحسب، هذه المادة نشرت في مجلة الواحة في عددها الثامن عشر الصادر في الربع الثالث لعام 2000.

في سنة 1924 كتب البرفسور ادوارد براون قائلاً: «إننا مازلنا نفتقر لمقالة شاملة وجازمة بأية لغة أوروبية عن العقيدة الشيعية» هذه الشهادة ساهمت في تعزيز المسعى البحثي والميداني لدى دوايت دونالدسون لتكريس جهد دام قرابة خمسة عشر سنة كي يخرج كتابه «العقيدة الشيعية» في العام 1933.

وباستثناء الكتابات المتقطعة على امتداد أكثر من مائة عام التي وضعها رهط من علماء الغرب أمثال جولدتسهير وفلهاوزن ومونتغمري وات حول التشيع، فإن رزمة كبيرة من الكتابات الغربية رهنت نفسها وبصورة شبه كاملة لقراءة الميراث العقدي الشيعي، وفي بعض الأحيان التمست هذه الكتابات المنهج الاجتراري الوصفي الذي ينحبس في عملية ترجموية محضة، ترمي حصراً إلى تزويد المكتبة الغربية بكمية معلومات كافية عن التشيع. ولذلك، وعلى حد قول جراهام فولر ورند رحيم فرانك في (الشيعة العرب: المسلمون المنسيون)، «لم تجذب الكتابات حول الشيعة قبل ثلاثين عاماً انتباه أحد باستثناء ثلة من المتخصصين في الشرق الأوسط».

ومع اندلاع التظاهرات في مدن ايران عام 1978 وانتصار الثورة الإسلامية عام 1979، بدأت حزمة ضوئية كثيفة تجذب الاهتمام البحثي الغربي، فقد أعقب هذا الحدث استنفاراً أكاديمياً لجهة تكريس ورش عمل بحثية لإعداد دراسات شاملة عن التشيع منظوراً إلى المخزون السياسي الكامن بداخله، والأبعاد الاجتماعية التي يحملها هذا المعتقد. وبتأثير من الشحن السياسية المكتنزة في الخطاب الثوري الإيراني من جهة، والتشبيع الإعلامي الغربي في المناخ السياسي الإقليمي والدولي حول الإشارات الخارجية لهذه الثورة، بدأت تتشكل صورة للشيعة في وعي الآخر، تختزن كل مبررات الاحتراب والعداوة، صورة يرسمها الفعل ورد الفعل اليومي لتدع الصحافي الغربي يعكس انطباعاته في هذه الصورة التي يظهر فيها الشيعي في هيئة الإرهابي والانتحاري، لتعمم هذه الصورة، في وقت لاحق، على كل الشيعة في العالم، محيلة كل واحد منهم إلى مشروع إرهابي في موطنه. ومن هنا عقدت وسائل الاعلام الغربية والعربية رابطة افتراضية بين ايران والشيعة العرب، وبحسب تعبير حوزيف كوستنر «كان وصول السيد الخميني إلى السلطة في إيران تدشيناً لعصر جديد للشيعة في الخليج العربي». وبحسب فحوى هذه الرابطة الافتراضية، فإن الإلهام الثوري الإيراني قد فخخ الوعي الشيعي باتجاه تفجير الأوضاع السياسية، وبذا أصبح الشيعة أيضاً طابوراً إيرانياً خامساً في بلدانهم!

أليست هذه الصورة التي شكّلت على امتداد العقدين الماضيين؟ وأليست هي ذات الصورة التي زرعت حقلاً من الشكوك في الانتماء الوطني للشيعة وفصلت القسم الأعظم منهم عن المحيط الاجتماعي العام؟. تجدر الإشارة إلى أنه حتى وقت قريب، وتحديداً قبل اندلاع الثورة الإيرانية عام 1979 كان الاعتقاد السائد بأن التشيع بحسب المعطيات التاريخية يميل إلى المهادنة السياسية والتعايش مع سلطة الأمر الواقع وليس الثورة والمعارضة.

لعل من أبرز الأعمال التي صدرت خلال الحرب العراقية الايرانية حول التشيع الاحتجاجي كتاب (التشيع والمقاومة الاجتماعية) الصادر عام 1986 والذي تضمن مجموعة دراسات لباحثين أكاديميين من أصول دينية يهودية ويحمل بعضهم توجّهات إسرائيلية صريحة. وقد تعمّد المشاركون تسليط الضوء على البعد الأيديولوجي الإيراني لحركات المقاومة الشيعية في العراق والخليج العربي ولبنان، وهي الحركات التي تم استعراضها في الكتاب، والتي لم يُغفل فيها المشاركون حتى حوادث الشغب العفوية الصغيرة التي اكتنفت هذه الحركات، بل حاول المحرران (جوان كول ونيكي كيدي) في مقدمة الكتاب الربط بين التشيع ومسلسل الاغتيالات والانتفاضات والثورات واختطاف الطائرات في الشرق الأوسط دون عناء الفصل بين المقاومة المدنية والمقاومة المسلحة بما يستبطن هذا الربط لهجة تجريمية للشيعة أول مرة ثم لشعوب الشرق الأوسط قاطبة بوصفها محيطاً عدائياً للغرب، كما تستبطن موقفاً دفاعياً خفياً للولايات المتحدة وإسرائيل.

وعلى أية حال، فإن مشهداً نمطياً ظل يغذي العلاقة بين الشيعة والنظم السياسية في بلدانهم على امتداد أكثر من عقدين، تسبَّب في حقن علاقة الطرفين بشحنات كراهية أفضت، لاحقاً، إلى سلسلة أزمات واضطرابات داخلية، حتى بات من الصعب، في ظل التداعيات المتسارعة، إحتواء لهب التوتر فيما كان الفعل ورد الفعل اليومي يضغط باتجاه المزيد من التصعيد.

وكان للإعلام الغربي والأميركي بوجه خاص سهم الأسد في إذكاء اللغة التحريضية التي ما فتأت تحذّر الحكومات العربية والخليجية من الخطر الشيعي، فكان الشيعة وهم القابعون بالقرب من منابع النفط بمثابة عود الثقاب الذي سيشعل المنطقة الحيوية بالنسبة للولايات المتحدة والعالم كما توحي عبارات جريدة نيويورك تايمز في 9 فبراير 1987، وهي بذلك تكرر ذات المبررات التي نقلها الكاتب اليهودي جاكوب جولدبرغ في بحثه حول (الأقلية الشيعية في السعودية) ليجعل من دراستها ذات أهمية خاصة.

فالمناخ المتفجر الذي انبثت فيه هذه المقولات، لم يكن بالتأكيد يسمح للأصوات الرشيدة أن ترتفع بل ستكون، غالباً، مورد اتهام، وبخاصة في بعض الحالات التي لم تتدشن فيها تقاليد واضحة لعلاقة عقلانية تحتكم إلى إطار حواري ثابت.

وإجمالاً، فإن محصلة عقدي الثمانينات والتسعينيات كانت حملاً ثقيلاً من الضحايا، والشك المتبادل، وانهيار الثقة، وحملات تشويه وعمليات إقصاء وتهميش، وهو حمل بكل المقاييس يصعب إزالته على وجه السرعة.

إن ما جرى قبل عدة سنوات، هو إعادة تعريف أو قراءة جديدة للشيعة تحاول محو الصورة النمطية التي فرضت سطوتها على الكتابات الغربية والعربية سواء بسواء. هي قراءة تحاول الخروج من ربقة الإجماع الغربي الذي انعقد بمباركة رسمية من الدوائر السياسية الغربية لمواجهة الوهم الكبير الموسوم بالـ (الخطر الشيعي).

إن الكتاب الذي قدّمه فولر وفرانك (الشيعة العرب: المسلمون المنسيون) والذي صدر عام 1999 يمثل بلا شك مفتتحاً بحثياً جديداً لم يكن مدركاً سابقاً في الكتابات الأكاديمية. ورغم أن عملية الفصل بين التشيع العربي والتشيع الإيراني هي ليست من ابتكارات فولر وفرانك بل كان الباحثون الإيرانيون أسبق في توكيد هذا الفصل، في سياق بعث الخصوصية الحضارية والثقافية لإيران وهويتها الشيعية المنفردة، إلا أن تبني الشيعة العرب لعملية الفصل هذه وخصوصاً النخبة الشيعية العربية يمثل نقلاً حيّاً ومباشراً للثقافة الشيعية الجديدة التي أخذت تسري بسرعة وسط هذه النخبة، التي أنهكتها الأحكام الجاهزة طيلة العقدين الماضيين.

وعملية الفصل هذه بين مخزونين ثقافيين للتشيع، رغم اعتصامهما بمصدر واحد، تتجه إلى تأكيد الانتماء العربي للتشيع الذي تعرّض للطمس المتعمد خلال هذه الفترة. وتأكيد الانتماء هذا يسهم بدوره في إعادة تقويم مجمل المكونات الضالعة في تشكيل صورة الشيعة.

ولعل أهم مكوّن يحاول التشيع العربي تبديله هو الربط الجزافي بينه وبين الإرهاب الذي جبلت الدعائية الغربية على رشق خصومها به بدافع تشريك العلاقة بين خصومها وحكومات الدولة الحليفة والصديقة لها. وهذا يستلزم أيضاً إعادة الاعتبار للروح المستقلة للتشيع العربي، دون أن يعني مطلقاً افتئاتاً على التشيع الإيراني فكلاهما مشدودان بعرى الإسلام وهما يتماهيان فيه. فإعادة الاعتبار هذه لا تحمل في داخلها بذور عداوة أخرى كالتي حمّلتها إياها الدعاية الغربية، بل هي جزء مشروع من الاستحقاق الثقافي والتاريخي والمجتمعي يتساوى فيه العربي والإيراني والكردي والتركي وغيرهم، دون حيف أو إغماض حق.

إن هذه القراءة الجديدة تتطلب طرقاً هادئاً للعلاقة بين الشيعة وأوطانهم لاعادة بناء ما خرّبته القراءة (أو القراءات) السابقة. ليس الغرض من هذا الطرق هو فتح ملف قديم أو محاكمة للماضي بكل ملابساته وأطرافه، وليس الغرض هو إضفاء طابع سياسي على هذه العلاقة والتي ربما تعيد شحن محركات التوتر، وإنما الغرض هو إعادة تنسيج الشيعة في الخارطة الاجتماعية بوصفهم جزءا أصيلاً منها وقوة رئيسية في المخزون الاستراتيجي البشري للبلدان التي يعيشون فيها.

وإذا كان التشيع العربي حاول تأكيد الانتماء القومي للشيعة، فإنهم كجماعات متعددة تحرص أيضاً على توثيق ارتباطها بالأوطان التي تنتمي إليها. وهذا يتطلب عملية دمج شاملة وصادقة للشيعة في التركيبة السياسية والاجتماعية في أوطانهم بما يحقق اكبر قدر من الانسجام العام والوحدة الوطنية.

فالاجترار الممل لمقولة أن الشيعة يشكّلون استثناءً ناشزاً في البنية المجتمعية يعد قفزاً متعمداً على الواقع التعددي الذي يصبغ الخارطة العامة في بلدانهم، وهي مقولة تستمد مفرداتها من تلك الصورة النمطية القاتمة التي رسمت في زمن متوتر له حساباته واعتباراته الخاصة.

إن الحرص على تعزيز التلاحم الداخلي في المجتمعات العربية يتطلب إشاعة ثقافة وطنية توحيدية تقوم على الاحترام المتبادل، وإزالة مبررات التوتر بفتح قنوات الحوار بين فئات المجتمع والدولة وتوفير مناخ إيجابي من شأنه إشراك فئات المجتمع عامة في مشاريع التنمية وإعانة الدولة على إنجاز خططها التنموية بتمهيد السبيل أمام الأكفاء والمخلصين للمشاركة في نهوض بلدانهم.

تجربة الشيعة في الخليج

تكفّلت التجارب الماضية بتعليم المنغمسين فيها أن ليس هناك نوايا سيئة يبطنها الشيعة لأوطانهم، فهم نبت عميق الجذور فيها. فقد استوثق مصيرهم بتربة المناطق التي نشأوا على تربتها، فهم ليسوا جماعة مهاجرة يستحثها قوتها اليومي وتسوقها الرغبة في البحث عن فرص عيش أفضل. بل كانوا فيها يوم زهد فيها المهاجرون من القارة الهندية وإيران وغيرها، فيما كان أهلها مكتفين بما تجود به عليهم الأرض من خيراتها، وحين اكتشف النفط بالقرب منهم كانوا قوة العمل الفاعلة التي جابت الصحاري مع قلة الماء والغذاء ووعورة الطرق وخشية الهلاك، وضربوا في ذلك مثالاً رائعاً في الإخلاص والأمانة بشهادة رؤساء شركات النفط والمسؤولين في الدولة. ولم يصدر عنهم ما يعكّر الصفو أو يبذر الشك في نفوس أرباب العمل وولاة الأمر، وإذا طالبوا إنما إيماناً منهم بأنهم يطلبون حقاً مضيّعاً لهم، دون أن يتلبّس مطلبهم شك في ولائهم الوطني أو يرد إلى تحريض خارجي بل كانت معادلة الراعي والرعية وحدها المستحكم الوثيق في ذلك.

وإذا كانت ثمة متغيّرات سياسية واقتصادية وثقافية أخلّت بهذه المعادلة فليس الشيعة وحدهم المسؤولين عنها، فهي متغيرات غمرت بتأثيراتها كل فئات المجتمع بل عكست نفسها على الدولة ذاتها في تطور هياكلها الإدارية وتبدّل استراتيجياتها بفعل دخولها في مرحلة مأسسة واسعة النطاق وشديدة التعقيد تطلبت موازنات دقيقة بين الفئات الاجتماعية التقليدية والحديثة، ومتطلبات المرحلة القادمة بكل تحدياتها واستحقاقاتها السياسية والاقتصادية والأمنية.

ودون شك، فإن هذه المرحلة حرّكت فئات عديدة في المجتمع بما في ذلك الشيعة نحو المطالبة بمزيد من الدمج في التركيبة الجديدة للدولة، ودون شك أن الانفتاح الثقافي على الخارج وهجرة العمال العرب إلى الداخل لعبا دوراً مركزياً في تشكيل وعي سياسي من نوع ما في المحيط الاجتماعي العام، ولكن هذا الوعي لم ينزع أبناء هذا البلد من هويتهم الوطنية بل تم توظيف الوعي السياسي الجديد لجهة المطالبة بتعزيز بناء الهوية الوطنية، وبخلاف ما ذكره جوزيف مالون، الأستاذ في الجامعة الأميركية في بيروت، في مجلة (The Moslem World) في 1966 بأن بإمكان الإنسان أن يسمع سكان الأحساء في المنطقة الشرقية من السعودية وهم يرددون «بعد ابن جلوي عبد الناصر»، فإن من عايش تلك المرحلة بل وحتى من انخرط في نشاطاتها يستهجن عبارة كهذه، بل إن أكثر ما كان يستثير رجال تلك المرحلة في الخطاب القومي الناصري هو تشديده على الوحدة العربية متوّجة بتجربة الوحدة مع سوريا في 1958 و1962.

وبعد نكسة حزيران عام 1967 بدأت انبعاثة دينية بطابع احتجاجي وكرد فعل على النكسة، انطلقت من مصر ثم امتدّت إلى كافة أرجاء الوطن العربي، وبدأت مفردات الخطاب الإسلامي تتسلل إلى وسائل الإعلام العربية، الصحيفة والكتاب تحديداً، وحمل هذا الخطاب مضامين سياسية جديدة مستمدة من الأصول الثقافية الإسلامية والتي شكّلت الأساس الأيديولوجي لحركات دينية سياسية تنطلق من الرغبة في استعادة الإسلام إلى مسرح الحياة الاجتماعية، ويحركها الإحساس العميق بالهزيمة والتي اعتبرتها الثقافة الإسلامية الجديدة تمظهراً لواقع سياسي مختل. وفيما اعتبرت الانقلابات العسكرية في العراق وليبيا وسوريا في نهاية الستينيات وغيرها ردود أفعال على الهزيمة العسكرية للعرب في حزيران، كانت التشكيلات الحركية في الوطن العربي وسيما في مصر وبلاد الشام والعراق والخليج هي ردود فعل على الهزيمة الأيديولوجية للنظم السياسية العربية، وكان الشيعة في الخليج جزءا من حركة الانبعاث الإسلامي الجديدة التي تأثّرت بأجواء الهزيمة، وانخرطت جماعات منهم في التشكيلات الجديدة سعياً وراء إعادة التوازن والهيبة للأمة العربية والإسلامية.

وحين حققت الثورة الإيرانية انتصارها عام 1979 بسقوط الشاه وقيام الجمهورية الإسلامية نشرت حركة الانبعاث الإسلامي في المنطقة العربية أشرعة الأمل، واندفعت إلى وسط المسرح الاجتماعي والسياسي، وكانت سلوة هذه الحركة أن ثمة رصيداً إضافياً قد دخل في حساب القوة لجهة تعويض خسارة العرب في هزيمة 1967.

غير أن الانخراط الكثيف للطرف الغربي في الأحداث والذي كرّس جهازه الإعلامي لصناعة عدو مفتعل يهدد أنظمة الحكم المحلية في المنطقة، يخفي وراءه القلق على المصالح الغربية والنفطية بوجه خاص، ساهم في استدراج أطراف عديدة إقليمية ودولية، لتبدأ المواجهات الإعلامية والعسكرية بكل ملوّثاتها. ودخلت المنطقة في دوامة الخطاب الطائفي الذي يجب القول إنصافاً بأن التشكيلات السياسية الإسلامية السنية والشيعية على حد سواء نأت بنفسها عن تبنيه أو استعماله كخطاب سياسي أو ديني. وزاد الطين بلة، أن ألحقت بالخطاب الطائفي حملات موتورة، لا تتوسل، في الغالب، بأي مستند شرعي أو إنساني، وإنما دخلت كجزء من آلية الصراع وأدواته التي لا تخضع لمعايير محددة، فكان استعمال اللهجة الاتهامية بالعمالة والإرهاب والخيانة والكفر للشيعة، دون إغفال أيضاً للأخطاء التي ارتكبها بعض أفراد الشيعة سواء بتحريض داخلي أو كرد فعل على حملة التخوين المضادة. وبنزوع انتقامي أحياناً وضحالة في الوعي السياسي أحياناً أخرى، انهال بعض الفئات في مسعى لاستعادة دور موهوم أو شعور قديم بالحرمان لتنفخ في بوق الطائفية وتهويل الخطر الشيعي مشفوعاً بفتاوى تكفيرية ومقولات تاريخية ملغومة. وخلال فترة قياسية أفاق أغلبنا على أحكام نهائية تدرج الشيعة ليس في مربع اليهود والنصارى والمجوس بل ترى فيهم منتجاً رابعاً يختلط به هذا المزيج الديني بكل ارتداداته النفسية النافرة في الوعي الإسلام العام، واستعيدت موروثات الحروب المذهبية التاريخية لتصيغ لغة التخاطب بموضوعاته التمزيقية، ولتضعنا جميعاً سنة وشيعة في أسر الماضي مرة أخرى، لتحيل مواطني الدولة الواحدة إلى معسكرين سني وشيعي، فيما كانت دابة الطائفية تنخر منسأة الوحدة الوطنية.

ولكن رغم ثخانة الجرح مازالت الروح المثلومة تعتصم بالأمل في أن تستعيد الاوطان وحدتها ويضطلع القائمون عليها بدور مسؤول كي يتغلب فيهم عنصر الخير وتنمّى فيهم الغيرة الوطنية وتنبث في وسطهم ثقافة تبحث عن عناصر الاشتراك وتنبذ مبررات القطيعة والانقسام، كي يرى هذا الوطن في السنة والشيعة قوة بنائية واحدة تعمل على إرساء أسس التسامح الديني والعدالة الاجتماعية والتعايش السلمي.