بسم الله الرحمن الرحيم
كثيرة هي المفاهيم التي تسللت إلى ثقافتنا إلإسلامية و اندست لهدف خبيث ساهم في تحييد مسار هذه الأمة التي لم تعرف لها شكلاً و لا هوية حقيقة ذات بال إلا بهذا الدين و بهذا القرآن ، و إذا كان الأنبياء من قبل قد حوربوا و تعرضوا هم و رسالتهم لما تعرضوا اليه لأنهم كانوا يتكلمون بكلام الله و ينقلون رسالته ، فلا عجب أن يكون القرآن الكريم هدفاً لحملة مشابهة امتدت منذ نزوله ، و هو كلام الله الناطق بين أظهرنا و المبلغ لنا أمر الله و لي رسالته منذ قرون ... و كأنه نبي مرسل !
من هذه المفاهيم أو الألفاظ المحيرة المعنى و الدلالة هي لفظة أن (( القرآن حمال أوجه )) و التي غدت تكثر في الخطابات الإسلامية و غير الإسلامية لمعانٍ عده ، أخبثها هي للتمويه على مقصد النص القرآني ، حتى ليلاحظ المتابع لكتابات بعض العلمانيين و الإلحاديين مثلاً في الأونة الأخيرة بالذات استشهادهم أمام المسلمين بهذه اللفظة للتدليل على أن القرآن لا يصلح لجمع الخصماء لأنه يحمل وجوهاً كثيرة متناقضة لا تجمع المختصمين على مرجع واحد يحتكمون اليه ، و كأن كل متخاصم سيجد بغيته من كتاب الله يحاجج بها الآخرين كما يحاججونه هم بها!
إن لهذا التعبير أثراً في انفعال المسلمين مع قرآنهم الذي يجمعهم و يوجههم و من الأولى أن يكون منهجه هو المنقذ لهم ، لكن هذا التعبير يقف حجر عثرة أمام هذا الأمر لأنه يوحي بعدم جدوى الرجوع اليه ، و يعطي أعداء الله و المتربصين بالمسلمين وجهاً يجادلون به عن دعواهم عجز القرآن في أن يكون منهجاً يوحد المؤمنين به. و هذا ما أصاب بعض المسلمين أنفسهم و صاروا يصدقونه من حيث لا يشعرون ، إذ أن هذه الألفاظ - أو المفهوم الذي يراد له أن يستخرج منها - و غيرها قد عزلته عن ساحة الأحداث و أبعدت كل تأثير له في حيات المسلمين حتى بات مهجوراً فعلاً ، يطرب لسماعه و إيقاع كلماته من دون أن يكون هناك انفعال حركي بتعاليمه و أوامره و نظمه و آدابه ! و بت تسمع من بعض الكهنة و الدجالين – بطبيعة الحال - عبارات النهر و النهي عن الإقتراب من ساحة الكتاب للتدبر الحر و التفكر فيه إذا كانت فيه فضيحتهم بحجة أنه "حمال أوجه" و أنه من اختصاص العلماء لا الرعاع !
من أين جاء هذا التعبير الوصفي ؟ و إن صح التعبير بهذه الكلمات ، فما هو المعنى الحقيقي المراد بها ؟
ينسب هذا الأثر إلى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب - رضوان الله و سلامه عليه - حين أرسل ابن عباس لمجادلة الخوارج حيث ورد أنه قال له (( لا تجادلهم بالقرآن فإنه "حمال أوجه" ولكن ألزمهم السنة )).
هذا الخبر بحاجة إلى مناقشة ، هل صدر فعلاً هذا التعبير من الإمام أم لم يصدر ، و إن كان قد صدر فما المقصود به؟
هناك اشكالات عدة حول صحة صدور هذا التعبير عن الإمام بهذا اللفظ ، ذلك أن ربيب القرآن و الناطق به و الذي يدور حيث يدور القرآن هو خير العارفين بالقرآن و العاملين به ، و الآمرين بالأخذ عنه و الرجوع اليه و قت الفتن و المحن بالذات ، و ليس أدل على هذا من حديث الحارث الأعور الشهير :
(( عن الحارث الأعور قال: مررت في المسجد فإذا الناس يخوضون في الأحاديث، فدخلت على علي فقلت: يا أمير المؤمنين ألا ترى الناس قد خاضوا قال: أو قد فعلوها؟ قلت: نعم، قال: أما إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إنها ستكون فتنة قلت: ما المخرج منها يا رسول الله؟ قال: كتاب الله فيه نبأ من قبلكم، وخبر ما بعدكم ، وحكم ما بينكم ، هو الفصل ليس بالهزل، من تركه من جبار قصمه الله، ومن ابتغى الهدى في غيره أضله الله، وهو حبل الله المتين، وهو الذكر الحكيم، وهو الصراط المستقيم، هو الذي لا تزيغ به الأهواء ولا تلتبس به الألسنة، ولا تشبع منه العلماء، ولا يخلق عن كثرة الرد، ولا تنقضي عجائبه، هو الذي لم تنته الجن إذ سمعته حتى قالوا: (( إنا سمعنا قرآنا عجبا يهدي إلى الرشد فآمنا به)) من قال به صدق ، ومن عمل به أجر، ومن حكم به عدل، ومن دعا إليه هدى إلى الصراط المستقيم. خذها إليك يا أعور. سنن الترمذي 2831. ))
فها هو ذا يقول أن (( فيه حكم ما بينكم )) و (( من حكم به عدل )) فكيف يليق به أن يقول بعد ذلك لا تجادلهم به فإنه حمال أوجه و لكن جادلهم بالسنة؟ و هو الأعرف بكتاب الله الذي يصفه الله بأنه (( مبين )) .. فهو مبين الحجة و القصد و الدلالة و المعنى ، و لا يسمى مبينا ًمن يحتمل المتناقضات!
بل أن المفارقة في الأمر ، أننا نجد أن ابن عباس قد حاجج الخوارج بالقرآن ما داموا هم من القراء و من المتهمين علياً بمخالفته و من الأولى أن يخاصمهم فيه ! قالوا له : كيف يحكم الناس في حكم الله ؟ فاحتج عليهم أن الله قد حكم الناس في كتابه في الزوجين المتخاصمين فقال (( و إن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها إن يريدا إصلاحا يوفق الله بينهما )) .. فخصمهم ، فهل خالف أمر إمامه و ابن عمه ؟
هذا الكتاب يسره الله للذكر (( و لقد يسرنا القرآن للذكر )) و أمر بتدبره و العمل به (( أفلا يتدبرون القرآن )) و قال عنه أنه نور و كتاب مبين ، فهو إذن نص لا يمكن أن نتهمه بأنه حمال أوجه و لابد من تنزيه ساحته عن أن يكون سلاح صراع و جدل يحتمل الشيء و نقيضه ، و بالتالي علينا أن نتجاوزه لنذهب إلى ما لا يحتمل إلا وجها واحدا لهذا التعبير ، و لابد إذن أن يكون المعنى الوحيد المستخلص منه – إن صحت نسبته - هي سعة النص و انفتاحه على البيئة و المجتمع و العرف إضافة إلى التاريخ الماضي، و هذا جزء من إعجازه. فإن تعددت وجوه النص فإنما هي تصب في اتجاه واحدٍ و غايةً واحدةً لا معاني متناقضة ، كما يروج له البعض.