كتاب :
[align=center]تدهور صناعة الأخبار [/align]
[align=center] وسائل الإعلام الأميركية المرئية تتجاهل الموضوعية الحرفية لصالح الإثارة والمزايدة [/align]
[align=center] (الحلقة الأولى) [/align]
[align=center][/align]
[align=center] تأليف :توم فنتون [/align]
ترجع أهمية هذا الكتاب إلى أنه صادر عن واحد من أهل الدار.. بمعنى من المحترفين المخضرمين في مجال مهنة الإعلام وصناعة الصحافة الخبرية.. ولهذا فإنه يجمع بين عنصري كشف الأخطاء على نحو موضوعي وعلمي وبين النقد الذاتي الذي يوجهه أحد من تمرسوا بمهنة الصحفي والمراسل الخارجي لأكبر شبكات التليفزيون في أميركا.
ومن هنا احتفلت بالكتاب أوساط المهنة والصناعة الصحفية لأنه لا يكتفي بعرض المشاكل بل يدق ناقوس الخطر الذي يراه محدقا بحرفة الصحافة وبوعي الجمهور ومن ثم بالممارسة الديمقراطية في صميمها. والتر كرونكايت، عميد مذيعي التليفزيون في أميركا وربما في العالم.. يصف الكتاب الذي نشرع في تقديمه خلال هذه السطور بأنه «مستفز»، قاصدا أنه نوع إيجابي من إثارة اهتمام القارئ إلى حد يدفعه إلى اعتبار قراءة هذا الكلام والتفاعل مع مضامينه ـ واجبا محتوما على نحو ما يضيف الأستاذ كرونكايت.. خاصة وأن هذه المضامين لا تلبث أن تكتسب أبعادا أعمق وتطرح قضايا أشد حساسية وأكثر خطورة كلما أوغلت ملاحتنا في بحور الموضوعات التي يطرحها كتابنا..
وهذه الأبعاد الأعمق ـ تقول جريدة الواشنطن بوست ـ ترجع أساسا إلى الخبرة الواسعة والمباشرة للمؤلف الذي أمضى قرابة 40 عاما في مضمار العمل الصحفي ـ التليفزيوني بالذات ابتداء بعام 1966 ـ منتصف الستينات وهو عقد الحرب الباردة والثورات الشعبية وحركات التمرد الشبابية ودعوات التحرر والاستقلال الوطني في العالم الثالث للتخلص من إرث الاستعمار الغربي البغيض.. فضلا عن الطروحات والإبداعات الطليعية والرائدة في مجالات السينما والمسرح والفن التشكيلي وغيرها. وقد انتهت خدمة مؤلفنا مع بدايات هذا القرن الحادي والعشرين.. في عام 2004 بالذات حين قرر أن يتقاعد عن العمل بعد أن ظل مراسلا لأكبر محطات التليفزيون الأميركية (سي. بي. إس) وبهذه الصفة عايش وتلاحم مع الأحداث الكبرى في أوروبا وفي الشرق الأوسط على السواء.
محصلة التجارب... من المؤسف أن محصلة هذه التجارب الحياتية والمهنية أوصلت مؤلف الكتاب ـ توم فنتون ـ إلى اكتشاف مدى التدهور الذي أصاب مهنة الصحافة المرئية بالذات.. وخاصة في مجال النشرات والبرامج الإخبارية التي تؤدي أولى الوظائف الجوهرية لعملية الاتصال ـ الإعلام الجماهيري وهي وظيفة توعية الناس وإحاطتهم علما.. وتزويدهم بالمعلومات التي يعد تدفقها الحر ومضمونها الموضوعي واحدا من أهم وأخطر حقوق الإنسان.. صدر كتابنا في لندن وفي نيويورك في خريف العام الماضي.. وربما تواكب صدوره مع كتابات طرحت قضايا مماثلة.. واستبدت بمؤلفيها هموم مشابهة ومنها مثلا كتاب الروائي الأمريكي الأشهر غور ؟يدال بعنوان «أميركا الإمبريالية» ومنها أيضا كتاب المذيع الشاب ون زيجلر الذي اختار له عنوانا لا تخفى دلالته الحاسمة وهو: وفاة حرية التعبير.
مؤلفنا الذي يندد بتردي المستوى والأداء والمضمون في مجال الأخبار الصحفية المتلفزة ـ اختار أن يخلع على هذه النوعية من الأنباء والمعلومات صفة سلبية وإن كانت شديدة العمومية في معجم اللغة الإنجليزية هي كلمة«باد» التي تعتبر صفة فضفاضة يمكن أن تصف الشيء بأنه سيئ..
وأنه معطوب وأنه معيب.. وأنه فظ.. خشن غليظ.. شرير.. فاسد.. ضار.. غير دقيق.. ارتجالي.. مسيء.. مأساوي.. منحط.. غير جذاب ثم مغشوش.. زائف.. أو «مضروب» كما يقول المصريون.. (لكلمة «باد» في معجم المترادفات الإنجليزي 21 مدخلا يحوي كل منها أكثر من 20 مترادفا)..
وقد يتراءى لنا من واقع خبرة ومعايشة لغوية ومن ثم إعلامية صحفية بالنسبة لوسائل الإعلام الأميركية أن نفهم مقصد مؤلف الكتاب على الوجه التالي:
ان أوضاعا سياسية تخالطها أوضاع اقتصادية ومؤسسية أفضت إلى تدهور مهنة الأخبار ـ المعلومات التي تقدمها وسائل الإعلام الأميركية المتلفزة، فكان أن افتقدت الموضوعية والحساسية الحِرفية وجنحت أكثر وأكثر نحو الإثارة والمزايدة والافتقار إلى دقة الخبر وأهمية تمحيصه وتقصي جوانبه، فجاءت المعلومات أقرب إلى الشعارات وتحولت الأنباء إلى شذرات مشتتة وإلى لقطات وومضات تبعد عن أصول المهنة كما وضعها وبلورها روادها الكبار..
وهو ما كان كفيلا بأن يفضي إلى أضرار بالغة وفادحة أصابت وعي الجماهير ـ ملايين المشاهدين سواء بتعتيم هذا الوعي أو بتنميط هذا الوعي وهو ما يمكن أن ينعكس سلبا بالذات على ما يطلبه الرأي العام المستنير في بلد يرفع شعار الديمقراطية والمشاركة مثل أميركا ـ لكي يفهم ما يدور في بلده وفي العالم.. ومع إلمام معقول وإحاطة مستنيرة بحقائق الأوضاع القائمة وبالتطورات التي تستجد عليها.
وكتابنا يتألف من تصدير يليه 8 فصول ويختمه فصل تاسع بالغ الأهمية لأنه يحمل على خلاف كثير من الكتب عنوانا نرتقب الوصول إليه عند ختام رحلتنا مع فصول الكتاب.. كيف لا والفصل التاسع الختامي يحمل العنوان التالي: الحلول
هوس التنافس
في تصدير موجز لقضايا الكتاب يقول المؤلف:
ـ بينما أرصد واقع صناعة الأخبار.. يروعني ذلك الهوس المتزايد (يعني المتفاقم) الذي استبد بالشبكات الإعلامية الكبرى إزاء سباق التنافس على الإثارة وإحراز المراكز الأولى في تصنيف البرامج التي تنال الحظوة عند الجماهير.. والخطورة هنا أن تجد جموعا من الساسة ورجال الدولة يقفون صفوفا متطلعين إلى الظهور في البرامج الحوارية اليومية..
التي تتسابق بدورها في جذب المشاهدين (والإعلانات) ولو على حساب المضمون.. ولدرجة بدت وكأنها تركت الأخبار الصحيحة والمعلومات الجادة كي تبثها جموع المدونين (بلوغرز) على شبكات الانترنت الحاسوبية.
ـ يحدث هذا ـ يضيف المؤلف ـ بينما نحن محاطون بالمشاكل الخطيرة من كل حدب وصوب ما بين العراق إلى كوريا الشمالية إلى إيران بل إلى روسيا التي تتهيأ لمعاودة دورها من جديد.. وكل هذه المشاكل تتنافس كي تحوز اهتمامنا (يقصد أهل وسائل الإعلام في أميركا بالذات) ولا حياة لمن تنادي.
فالقوم مشغولون بالإثارة وبالجاذبية وباستضافة نجوم السياسة وعرض أجنداتهم.. هكذا بدا المشهد وكأننا نعيد سيرة الإمبراطور الروماني الشهير نيرون.. نحن ـ الإعلاميين ـ أوينا إلى قيثارتنا نعزف عليها بينما روما من حولنا تحترق..
يختتم مؤلفنا تصدير الكتاب بسطور قليلة عمد إلى كتابتها بعد رحيل المذيع الأميركي الشهير بيتر جننغز وكان إعلاميا يحترم فكره ومهنته وجماهيره وخاصة عندما كنا نتابعه وهو يتعرض لقضايا شعوبنا في الشرق الأوسط.. يقول المؤلف:
ـ برحيل بيتر فقدت صناعة الأخبار واحدا من أخلص أبنائها ممن كانوا من دعاة ترقية مستوى ما يقدم في ثناياها من معلومات وخاصة فيما يتعلق بالأخبار الخارجية.. ولكن المذيع الراحل فشل للأسف في إقناع رؤساء المؤسسات التي كان يعمل بها بضرورة بلوغ هذا المستوى الراقي من موضوعية الأخبار.. صحيح أن صوته قد سكت بعد الرحيل بيد أن أفكاره ودعواته سوف تتردد أصداؤها بين سطور وقضايا هذا الكتاب..
بعدها يمضي المؤلف إلى طرح أولى القضايا المحورية التي يتصدى لمناقشتها وعنوانها: ثغرة الأخبار
من دلائل تشخيص هذه الثغرة ما كشفت عنه استطلاعات الرأي من أن أغلبية الجماهير من مواطني أميركا (نسبة 83 في المئة) تحرص على أن تستقي الأخبار من التليفزيون.. في حين أن نسبة أقل من ذلك بكثير (42 في المئة) قالت إنها تستقي المعلومات من الصحف المطبوعة ونسبة 19 في المئة تستقي أخبارها من الراديو المسموع فيما توجد نسبة 15 في المئة تتابع الأخبار على شبكة الانترنت الحاسوبية.
مثل هذه الاستطلاعات ـ يوضح المؤلف ـ تضم أكثر من سؤال موجه لعينة الجمهور المستهدف في الدراسة، ومن هذه الأسئلة ما يقول:
ـ حسنا.. إنكم تستقون أخباركم في معظم الأحيان من التليفزيون.. والسؤال هو: إلى أي حد تصدقون ما تقوله لكم شبكات التليفزيون القومية الكبرى في أميركا (القنوات رقم 4 و7 و2).
أزمة المصداقية
هنا يتوقف المؤلف مليا عند الإجابة التي ذكرت أن نسبة تصديق هذه الشبكات المتلفزة لم تكن لتزيد على 23 في المئة فقط لا غير. ويعلق مؤلفنا على هذه النتائج (ص9) قائلا:
ـ إن الدراسة الإعلامية المستقلة التي أوردت هذه النسب والأرقام أفادت بأن نظرة الرأي العام إلى وسائل الإعلام (الأميركي) في حال من التضاؤل من حيث حجم الثقة وحجم التصديق على مدار ما يقرب من 20 عاما وفي هذا تقول الدراسة بالنص ما يلي:
ـ الأميركيون ينظرون إلى الصحفيين والإعلاميين على أنهم أصبحوا أكثر ترهلا وإهمالا وأقل إجادة في ممارسة مهنتهم وأيضا أقل تمسكا بمواثيق الشرف وقيم الأخلاق، وأدنى اهتماما بدقة القضايا التي يتعاملون معها، فيما أصبح الإعلاميون ـ الصحفيون أشد تحيزا (بمعنى أقل موضوعية وحيادية مهنية) وأقل تمسكا بأهداب الأمانة وخاصة في حال ارتكابهم أخطاء مهنية، ومن ثم فقد أصبح هؤلاء الإعلاميون يلحقون ضررا أفدح بالديمقراطية مما كان عليه حالهم خلال عقد الثمانينات.
مرة أخرى يقول مؤلفنا الكاتب والإعلامي توم فنتون:
ـ عندما تأتي هذه الأحكام من جانب الناس الذين يفترض بنا أن نحترمهم.. فذلك اتهام خطير وتلك إدانة دامغة.
مع هذا كله.. لا يلمح المؤلف أي بصيص من محاولات الإصلاح. ولا يشهد ـ كما يضيف ـ رؤوسا إعلامية أينعت وتم قطافها بمعنى بتر أو استبعاد العناصر التي أساءت إلى مصداقية الإعلام.. بالعكس.. هناك رؤوس أينعت وتدحرجت تحت مقصلة الفصل والبتر والتفتيش والاستبعاد.. لكن للأسف الشديد لم يكن السبب هو المحاسبة على الإهمال المهني ولا الترخص الأخلاقي ولا تجاهل المبادئ الإعلامية بل كانت هناك أسباب أخرى كما يؤكد المؤلف وفي مقدمتها انخفاض شعبية البرامج الجادة أو قلة حصيلة الإعلانات ـ أو تناقص الأرباح التي تود المؤسسة القابضة الأم أن تجني أقصى مبلغ منها من عوائد التليفزيون.
ـ ماذا إذن عن وسائل الإعلام المطبوعة.. وبالذات الصحف الأميركية الكبرى؟
في هذا السياق، يتوقف المؤلف مليا عند ما حدث في منتصف عام 2004.. في تلك الفترة فاجأت كل من نيويورك تايمز وواشنطن بوست قراءها ببيان علني منشور في أكبر صحيفتين في أميركا وتعتذران في سطوره لأنهما فشلتا في تدقيق وفحص وتمحيص الأسباب التي ساقتها إدارة الرئيس بوش لغزو العراق واعترفت التايمز في عدد 26 /5/ 2004 بأنها ضللت قراءها.
فيما نشرته بشأن أسلحة الدمار الشامل وقالت الصحيفة الكبرى في هذا الصدد: إن محرريها لم يؤدوا واجبهم كما ينبغي إذ كان يتعين عليهم أن يكونوا أكثر تشككا وأقل تسليما بما ساقته الحكومة من مبررات. وكان ينبغي أيضا قراءة تقارير وإفادات المنشقين على النظام العراقي في ضوء رغبة هذه العناصر الشديدة في الإطاحة بصدام حسين.. هذا فضلا عن أن محررينا ـ كما اعترفت التايمز أيضا ـ لم يقوموا بواجبهم المهني عندما نشروا ما نشروه دون أن يشفعوا النشر بجهود متابعة واعية ومدققة فيما تم نشره من أنباء ومعلومات.
ماذا كانت النتيجة؟
ملخصها هو تلك الثغرة ـ الهوة التي باتت تفصل بين وسائل الإعلام وجمهورها.. فما بالك وقد امتلأت سموات الكرة الأرضية بالقنوات الفضائية وحفلت موجات الأثير بمئات الرسائل الإعلامية بلغات شتى..
لكن الأخطر في هذا كله في رأي مؤلفنا هو أن صناعة (بمعنى مهنة) الإعلام تراجعت خطاها إلى حد أن أصبحت عاجزة، لا عن نقد المجتمع بل عن نقد ذاتها وتقييم أدائها..
ولأن الإعلام صناعة متكاملة فالمؤلف يرصد أزمات مماثلة صادفتها صناعات أخرى في أميركا ذاتها، وهو يشير مثلا إلى أزمة صناعة السيارات في مدينة ديترويت وكانت عاصمة تلك الصناعة حتى عقد السبعينات.. ويشير أيضا إلى أزمة صناعة المال في وول ستريت وقد ألمت بها في ظل الطفرة التي قفزتها تكنولوجيا الحواسيب والاتصالات الساتلية (بالأقمار الاصطناعية).
ورب قائل يشير إلى تكاثر الرسائل الإعلامية وزيادة حجم الساعات المذاعة على موجات التليفزيون أو الراديو في أميركا عبر ساعات الليل والنهار ـ وعلى أساس أن تلك ظاهرة صحية تتمثل في إمداد الجمهور بالمزيد من الأخبار والمعلومات. لكن مؤلف الكتاب يرد على هذه الظاهرة قائلا:
ـ هذا الفائض الإعلامي الذي تشهده أميركا (سواء على شاشة فوكس نيوز اليمينية ـ الرجعية مثلا، أو على موجات الراديو اللبرالي ـ اليساري مثلا) يتم إنفاقه (بالأدق إهداره) لحساب تعليقات وآراء وأجندات سياسية ومصالح فئوية ودعايات للترويج لصالح هذا الطرف أو ذاك بدلا من أن يستخدم لتوسيع تغطية الأخبار الخارجية أو لتقديم رؤى متعمقة في مجال التحقيقات الإعلامية أو بهدف تنوير جموع الأميركيين بما يحدث في طول العالم وعرضه..
بدلا من هذا كله ـ يضيف كتابنا ـ لا ينال الجمهور سوى تدفقات من إعلان الخصومات المريرة والتلاسن العلني والاشتباك السافر بين الشخصيات العامة ودهاقنة وسائل الإعلام وكل منهم لا يتورع عن استخدام أي أسلوب من أجل الانتصار لما يطرحه من آراء.
من هذا يخلص المؤلف إلى تشخيص آفة السلبية التي رآها وقد أصابت ملايين الأميركيين بما يمكن أن يطلق على هذه الآفة الوصف التالي:
سوء التغذية.. الإعلامية
والعجيب في الأمر أن الأميركيين يعرفون أنهم لا يعرفون بما فيه الكفاية.إنه نوع من التغييب الفكري.. نوع من نقص التوعية لدرجة أن الشعوب الأجنبية باتت تعرف عن سياسة أميركا وعن توجهات إداراتها الحاكمة، ربما بأكثر مما يعرفه المواطن الأميركي ذاته..
دعم طالبان
على صفحة 190 وما بعدها يحاول المؤلف أن يطرح بعض الأمثلة تدليلا على ما يذهب إليه.. يقول:
ـ معظم الأميركيين لم يكن عندهم أي فكرة خلال عقد التسعينات الماضي بأن عملاء الولايات المتحدة كانوا يعملون مع عناصر طالبان في أفغانستان بقصد إقامة نظام «صديق» في ذلك البلد يمكن أن يسمح لشركات النفط الغربية ببناء خط أنابيب لنقل البترول عبر أراضيه.
ويستطرد المؤلف قائلا:
ـ أنا شخصيا صادفت هذه القصة عندما كنت في زيارة إلى تركمانستان المجاورة في عام 1995. ولكنني عجزت تماما عن إمكانية بث هذه القصة لتذاع على الناس.. لماذا؟ لأن الشبكة التليفزيونية التي كنت أراسلها وقتئذ وهي سي. بي. إس (كبرى الشبكات القومية في أميركا) رأت أن هذه القصة خالية من إثارة العنصر الإخباري.. رغم أنه كان بالإمكان أداء عملية تحقيق خبري سياسي متعمقة مهنيا من شأنها اقتناص مثل هذه الفرصة التي سنحت لكشف ما كانت تفعله حكومة واشنطن من محاولات الغزل السياسي مع عناصر من المتشددين المتعصبين المتطرفين.
كانت تلك أوضاعا شبيهة بما سبق وقدمته أميركا من دعم سري لأسامة بن لادن ولجماعته من «المقاتلين من أجل الحرية» المعادين للسوفيت في أفغانستان. لم يفصح عن هذه المسألة أحد رغم أنها أصبحت معروفة على نطاق واسع في أنحاء الشرق الأوسط. وكان لابد من انتظار فيلم «مايكل مور» الشهير بعنوان «فهرنهايت 11/ 9» لكي يعرف معظم الأمريكيين شيئا ما عن هذه الحقائق التي لم تكن تنطوي على راحة أو تبعث على اطمئنان.
صحيح ـ يضيف الكتاب ـ أنها كانت شذرات أو تفاصيل من الحقائق.. لكنها كانت كفيلة إذا ما وضعت في نسق منتظم أن تشكل صورة متكاملة أو شبه متكاملة تعزز وعي الجماهير بما يدور من حولها في بلادها وفي العالم الخارجي..
وإلا فكيف كان يمكن لهذه الجماهير في نظام ديمقراطي أن تحكم على هذا الذي يدور.؟ أن يتكون لديها وعي مستنير ومن ثم رأي واع يفضي إلى خيارات رشيدة ومحسوبة وذلك هو أساس أي مشاركة ديمقراطية حقيقية وبناءة.. والحق هو أن أي مراسل أجنبي حتى ولو كان متواضع الخبرة.. قادر على أن يطرح أمامك عشرات من تلك الحقائق المتدفقة هنا وهناك التي لم تصل قط إلى وعي الجمهور الأميركي.
رأي مخضرم
في نفس السياق أيضا يحيل المؤلف إلى دونتيلا لورش وكانت في السابق مراسلة خارجية لكل من جريدة التايمز ومجلة نيوزويك وشبكة سي. بي. إس.. وقد تركت مواقعها كلها لتدير مركزا بحثيا في واشنطن.
وهي تؤكد أن كثيرا من زملاء مهنتها هربوا من المؤسسات الإعلامية الكبرى تحت وطأة إحساسهم بالفشل والإحباط إزاء عجزهم عن نشر الأخبار الجوهرية التي يجمعونها ولكنها لم تجد طريقها للبث على أثير القنوات. وتختم الإعلامية المخضرمة آراءها قائلة:
ـ كم يشعر المرء بإحباط رهيب حين يفشل في إقناع رئيسه التنفيذي بأن ما يحدث في أفغانستان مثلا أمر أهم وأجدر بحيّز من وقت الإرسال من أخبار المغنّي مايكل جاكسون..
هكذا يؤدي الرئيس التنفيذي ومن في حكمه من كبار المحررين والمخرجين والمنتجين أصحاب القرار في البث من عدم البث - يؤدون الدور الذي يطلقون عليه في معاجم علم الاتصال الإعلامي المصطلح الأكاديمي الشهير:حراس البوابات، فهم الحاجز النهائي بين الخبر والمشاهدين. هم المصفاة الأخيرة التي لابد وأن تمر بها حصائل الأخبار والمعلومات التي يكدح المراسلون المندوبون في الحصول عليها.
هؤلاء لهم رأي آخر بوصفهم أصحاب القرار النهائي في مضمار الصناعة ويقول قائلهم (ص20):
ـ إن الجمهور العادي.. قارئا.. مستمعا أو مشاهدا يصعب عليه استيعاب مادة هذه الأخبار الصعبة وخاصة بالنسبة للأنباء الواردة من الخارج.
ومرة أخيرة يعلن المؤلف قائلا:
ـ إن هذا اعتراف ضمني بأنهم يطعمون جمهورهم الفتات.. لقيمات خبرية لا تسمن ولا تغني من حيث التوعية أو الفهم أو التنوير. وهذا معناه أن وسائل الإعلام الإخبارية في أميركا تفضل تغذية جماهيرها بدفق مستمر من المعلومات المبسطة، وكلها لا يزيد عما تعرفه هذه الجماهير أصلا.. ومن ثم لا تجد وسائل الإعلام هذه لزاماً عليها أن تكرس مزيدا من وقت البث على الهواء أو مساحات النشر المطبوع للتعمق وللتدارس والتفسير.
عرض ومناقشة: محمد الخولي