العمامة ... ما لها وما عليها



كتابات - عبد الأمير السلامي



ارتبطت ( العِمَّة ) أو العمامة كما يطلق عليها شيوعاً, ارتبطت بالعربي وصارت رمزاً مرتبطاً بهذه الشخصية على مر العصور, وحين شرف الله تعالى العرب بشخص نبيه الكريم محمد (ص) بان انزل عليه الإسلام , اثبت ما اثبت من عادات العرب ولوازمهم ونسخ ما نسخ من هذه العادات واللوازم, ومن ضمن ما اثبت من هذا كله، العمامة, فقد قال رسول الله (ص): ( تعمموا فان العمائم تيجان العرب), حتى وصل الأمر من اهتمام العرب بالعمامة الى أن يطلقوا عليها أسماء بعينها.. واستمر هذا الاهتمام بهذا الرمز الإسلامي العربي ولم يتسرب إليها ما تسرب إلى غيرها من إلغاء او استهانة, سوى ما اعتراها من تغيير في حجمها او شكلها على وجه العموم, وصمدت هذه العمامة صموداً عجيباً أمام المحن التي اعترضنها, مع آلاف التغييرات التي طرأت على سواها من الأزياء أو لوازم اللباس عند الأقوام الأخرى. وكانت أكثر المراحل صموداً هي المرحلة التي طرأت على العمامة إبان حكم الطاغية المخلوع وأزلامه من البعثيين ولاسيما بعد استلام صدام الحكم، وانتصار الثورة الإسلامية في ايران, وهي اكبر محنة مرت على العمامة في تاريخ العراق المعاصر, ولو استعرضنا الوقائع لطال بنا المقام, ولكننا لابد من ذكر بعض هذه المحن ممن رأيناها بأعيننا وعاصرنا وقوعها، منها: تلطخ هذه العمائم بالدماء ونشرها على الأرض والأرصفة القريبة من ( الاورزدي باك) في شارع الصادق في النجف الأشرف اثر انطلاق مجموعة من المعممين من جامع الخضراء باتجاه شارع الصادق (ع) للتهنئة بانتصار الثورة الإيرانية, فما كان من جلاوزة البعثيين الا ان انهالوا عليها بالضرب والاهانة, حتى شملت هذه الإهانة مجموعة من رجال الدين كانوا مارين صدفة بمكان الحادث. وقد سبق ذلك نفس الحادث بعد اعتقال الشهيد السعيد محمد باقر الصدر (قدس سره) ووقع للعمامة ما وقع، وعلى اثر هذا الحادث تعرض المعممون في العراق كله الى حملات اعتقال وتعذيب ادت الى ان يخاف المرء من نفسه ومن ثم إخفاء هذه العمامة الا من اختار التحدي الذي يؤدي به الى الموت. اننا حين نتحدث عن العمامة وما واجهته, فنحن نقصد العمامة التي ترمز الى أصحاب عقيدتنا وليس غير, اذ ازدهرت العمامة في الجانب الاخر وأغدق عليها وتصدرت المنابر لتذيع افكار النظام ووصاياه وتبرقعه ببرقع الدين. وقد أحصي عدد المعممين في النجف الاشرف وحدها أيام الإمام محسن الحكيم (قدس سره) فكانوا سبعة الاف او يزيدون. في حين وصل عددهم الى سبعمائة في أثناء وفاة السيد الخوئي ( قدس سره), هذه الإحصائية وردت على لسان شهيد المحراب (قدس سره) في خطبته في الصحن الحيدري الشريف وأحاديثه العامة بعد رجوعه الى الوطن.

ومن المحن التي تعرضت لها العمامة المحنة المشتركة لابناء الشعب العراقي زمن الحصار على العراق وامتدت هذه المحنة بآلامها الى طلبة الحوزة العلمية وأثّرت على مستواهم المعاشي فضلا ً عن الآلام المضاعفة من ملاحقة السلطة لهم والتنكيل بهم, هذه واحدة, الأخرى لجوء النظام المقبور الى تجنيد المئات من أزلامه ليندسوا بين صفوف المعممين, حتى أصبح المواطن الاعتيادي ينظر بريبة لهم وصار الناس يتهيبون ويتحفظون من اغلب المعممين بوصفهم مخابرات او امن وصارت هذه ظاهرة واضحة في الشارع النجفي خصوصاً, وفي الشارع العراقي على وجه العموم. ولكن الحصار واندساس البعثيين لم يكسر شوكة المعممين فتحدوا هذه المحنة, واستمروا في تحصيلهم العلمي يكدون في النهار ويذاكرون في الليل حباً بالعلم الإلهي وتحدياً لأنفسهم وظروفهم، مما أعاد الى الذاكرة أحاديث إسلافنا من أن أكثر الذين وصلوا الى درجة الاجتهاد لم يصلوا اليها الا بشق الأنفس وبتحدي الصعاب والعمل في النهار عامل طين او (شلا ّع) في المخابز وسواها من الأعمال التي لا تسد إلا الرمق. ان تسرب الدخلاء الى الدرس الحوزوي خلق ظاهرة شاذة في هذا المفصل العلمي الرفيع, وهو امر دفع بأصحاب النفوس المريضة إلى أن يستغلوا هذا التسرب وينخرطوا في هذا المسلك االشريف تحقيقاً لاغراض شخصية او مادية او اجتماعية فرأينا بعضاً ممن نعرف وقد دخل الى الحوزة العلمية وادعى التخرج منها بعد اشهر قليلة ثم ارتدى العمامة وتصدى للمسؤولية وكثيراً ما رايناهم يقولون: هذا حرام, وهذا حلال. في حين نعرف اشخاصاً امضوا اكثر من عشرين عاماً في الدرس الحوزوي المستمر المضني ولم يرتدوا العمامة, وسألناهم عن السبب فقالوا: لم نصل الى جزء من استحقاقها!!.

ومن الطبيعي ان كل مجتمع انساني مهما وصل من درجة في رصانته وكيانه لابد من ان يتسرب اليه الدخلاء, وهذا يحدث في كل زمان ومكان مادام الانسان اجتماعيا بطبعه, ولا تخلو شريحة من مدّع او متظاهر ولاسيما من يستغل لباس الدين لتحقيق أغراضه الشخصية. فقد روى احد المقربين من الامام محسن الحكيم (قدس سره) ايام مرجعيته ان وفداً من جنوب العراق زاره وطلب منه ان يرسل لهم خطيباً لاحياء ليالي عاشوراء ففعل. وفي السنة التالية جاءه الوفد نفسه وطلبوا منه الطلب نفسه: فقال لهم السيد : لقد بعثت لكم خطيباً العام الماضي فلماذا لم تجددوا له الدعوة؟ فقالوا: سيدنا هذا الشيخ تبين انه (حرامي), فابتسم السيد وقال: لا تقولوا هكذا، بل قولوا : هذا الحرامي صار شيخا!!.

ومرت السنوات وسقط الصنم وانفسح المجال واسعاً امام هؤلاء المتسربين ليأخذوا سعتهم ويمارسوا اعمالهم بما يسيء لهذه العمامة الصامدة ويقدح في نزاهتها مستغلين ما يسمى بغياب السلطة تارة والديمقراطية تارة أخرى والتبعية لجهات بعينها غافلين عن الجهة الوحيدة التي تمثل المدرسة الحوزوية المعروفة بولائها للعقيدة فقط التي تمثل الأولوية أمام المفردات الاخرى، مع مفردات الانتماء الأخرى وعدم التنكر لها, فقد رأينا خلال السنوات التي تلت سقوط النظام ان العمامة التي تدافع عن العقيدة وتنشر أفكارها السمحاء صارت مستهدفة، اذ طالما كانت العمامة قطب الرحى في الأحداث التي مرّت على العراق بوجه خاص والعالم الاسلامي بوجه عام. اما الاصدقاء فلأنهم غاب عنهم الوجه المشرق لهذه العمامة وتشبثوا بالوجه الآخر الذي اندس اليها وفعل الافاعيل باهلها, غافلين عن الحقيقة التاريخية التي أشارت الى إمكانية تسرب الخط المنحرف وسط الخط الأصيل وهذا يحدث – كما قلنا – في جميع الشرائح الاجتماعية او الدينية او سواها وهي سنة الله في خلقه. ولم يبق لنا من القول إلا أن نستعين بالله على أنفسنا لنميّز الخبيث من الطيّب . بسم الله الرحمن الرحيم {أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً رَّابِياً وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاء حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِّثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاء وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللّهُ الأَمْثَالَ }الرعد17