صفحة 1 من 3 123 الأخيرةالأخيرة
النتائج 1 إلى 15 من 32
  1. #1
    تاريخ التسجيل
    Jul 2004
    الدولة
    هناك
    المشاركات
    28,205

    افتراضي تجاربي مع المنبر لفضيلة الدكتور المرحوم الشيخ أحمد الوائلي

    [align=center]

    تجاربي مع المنبر


    فضيلة الدكتور المرحوم الشيخ


    أحمد الوائلي






    الإهداء





    إلى إخوة الدرب الذين تتابعت قوافلهم في طريق أبي الشهداء الممتد من يوم شهادته حتى الساعة وتوالت خطاهم في قطع مراحل المسيرة على تفاوت فيها ، من حيث وعورة الطريق وسهولته ، ومن حيث لينه وشدّته . لقد مشوا وهم يحملون الحسين (عليه السلام) للأجيال مثلاً أعلى في أفق الشهادة ودماً سخياً في دنيا التضحيات وروحاً ثائراً إذا أصاب الأرواح الخنوع وصوتاً هادراً في أجواء الصمت الذليل والبصيرة النافذة التي لمحت الخلود واستشعرت رضا الله تعالى ثمناً للعطاء في سبيله وصلاة خاشعة سبّحت لله في محراب الفداء .
    حملت الحسين وهو كل ذلك واعتمرته مجداً في الدنيا وشفيعاً في الآخرة . لقد رحل من هؤلاء الإخوة من رحل والحسين بين شفتيه ترنيمة قدسيّة وبقي الحاضرون ومن يتلوهم امتداداً عازماً على مواصلة المسيرة ، وأملاً لا حدود له أن يشمله شرف الإنتماء وتحضنه رحاب آل محمّد خادماً مخلصاً يأخذ بحجرة أسياده يوم يدعى كلّ أناس بإمامهم .
    فإليك أيتها القرائح التي استلهمت عطاء العترة الطاهرة وشدّت بمديح عدل الكتاب واستدرّت الدموع واستعرضت بواعث الشجي ودواعي الأسى إحياءاً لملحمة كربلاء .
    أهدي هذه السوانح المتواضعة لعلَّ فيها شيئاً من الضوء ينير الدرب فإن كان فيها وإلاّ فلا يعدو أن يكون ذلك إسهاماً بإيقاد شمعة في الدرب .

    فيا إخوتي رحم الله الراحلين منكم وجمعني بهم في خيمة ريحانة رسول الله وسدّد خطى الأحياء وكلّلهم بالتوفيق وعبّد للقادمين طريقهم في هذه المسيرة الكريمة إنّه سميع الدعاء .


    أحمد الوائلي [/align]
    يا محوّل الحول والاحوال ، حوّل حالنا إلى أحسن الحال......








  2. #2
    تاريخ التسجيل
    Jul 2004
    الدولة
    هناك
    المشاركات
    28,205

    افتراضي

    [align=center]



    المقدمة





    الحسين بن علي (عليه السلام) صوت الحق والعدل والحرية وكلّ صوت من هذا القبيل يقض مضاجع العروش المستبدة الظالمة فتقوم بإسكاته بكل ما تملك من أسلحة سواء كانت تلك الأسلحة مادية أو معنوية وهذا عين ما صنعه الأمويون فقد جندوا كلّ أدواتهم لإسكات صوت الحسين (عليه السلام) فبدأوا بالضغط حيث سجنوا الكثير ممّن يخشون أنّه يساند هذا الصوت وبالإغراء في جانب آخر فبذلوا الأموال الطائلة وفتحوا الخزائن على مصراعيها لشراء الذمم فقد جاء في حديث الحسين (عليه السلام) مع النفر الأربعة الذين التحقوا به في عذيب الهجانات مزيد من التأكيد على ذلك وذلك حينما سألهم الحسين (عليه السلام) عن خبر الناس من ورائهم فقال له مجمع بن عبدالله العائذي : أمّا أشراف الناس فقد أعظمت رشوتهم وملأت غرائزهم يستمال ودّهم فهم ألب واحد عليك وأمّا سائر الناس فإنّ أفئدتهم تهوي إليك وسيوفهم مشهورة عليك(1) ، وبالأقلام المأجورة التي راحت تصف الحسين (عليه السلام) بأنّه خارجي شقّ عصا الطاعة وقتل بسيف جدّه إلى وسائل أخرى حشدت في الميدان وقد كان من البله تصورهم أنّهم أسكتوا هذا الصوت فمثل هذا الصوت لا يمكن إسكاته لأنّه يحمل هموم الإنسانية وتطلعاتها فإذا مرّ عليه دور يكون فيه هامساً فليس معنى ذلك أنّه مات لأنّه سيرتفع ثانية على تفاوت في مدى هذا الإرتفاع وقد تجسّد صوت الحسين في جملة من الوسائل المعبّرة ومنها المنبر الحسيني ومنها الكتاب ومنها الشعر وغير ذلك ولعلّ المنبر هو الأداة الأولى من حيث الأهمية والتأثير . ولذلك


    ــــــــــــــــــــــــــــ


    (1) مقتل يحيى بن لوط أبومخنف ص88 ط قم غير مؤرخ .

    رأيناه يكافح ويكبت بوسائل عنيفة عبر العصور التي مرّت وحتى اليوم . ولمّا كان المنبر صوتاً للحسين (عليه السلام) فقد حظي باهتمام كبير وتناولته معالجات مختلفة تحاول إشباع الجوانب المتعلقة به ، وأهمّ ما ينبغي أن ينصب عليه الإهتمام هو أن يكون المنبر تعبيراً صادقاً عن مزاج صاحب هذا الصوت المزاج الذي سكبه الحسين (عليه السلام) في وصيته لأخيه محمّد بن الحنفية (أمّا بعد فإنّي لم أخرج أشراً ولا بطراً ولا ظالماً ولا مفسداً وإنّما خرجت لطلب الإصلاح في أمّة جدي وأن أسير فيهم بسيرة الحق) إنّ هذا التوجه عند أبي الشهداء ما كان مجرد نوازع تعيش داخل الحسين كمجرد فكرة وإنّما هو تحديد لأمور موضوعية يريد لها الحسين (عليه السلام) أن تتجسّد يريد لها أن تكون من هواجسنا كمسلمين أولاً وأن يجسّدها المسلمون بالوسائل التي رسمها الشرع الشريف . إنّ ذلك يُفهم بديهياً من كون النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ترك الثقلين كتاباً وعترة ، ولو أراد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) مجرد وجود هذه المفاهيم نظرياً لاكتفى بالقرآن الكريم ولكن الجانب النظري وحده يبقى مجرد كتاب موضوع على الرّف .
    أما نظام المجتمع فيفتقر لتجسيد هذه المفاهيم فالمنبر إذاً صوت ملحّ يواصل الدعوة إلى العمل في خط الإصلاح وهو بذلك ما كان مجرد تعبير عن آهة أو تشنج عاطفي إذ أنّ الدماء التي سفكت في واقعة الطف ليس ثمنها التشنج العاطفي بل ثمنها ما أراد الله تعالى أن يكون ثمناً لجهاد المجاهدين ، ومثل هذا الثمن لا يحصل إلاّ بوسائل منها البيان . ولأن كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أعرب عن كون الحسين (عليه السلام) سنخاً من سنخه بقوله (حسين منّي وأنا من حسين) فإنّ من بعض مكوّنات هذه السنخية أن يصدع بما أمر به وإذا كان المنبر كما افترضنا تجسيد لصوت الطف فإنّ صوت الطف ما كان من أجل فئة خاصة بل كان صوت الإنسان المعذّب والمظلوم المعبّر عن همومهم وما أجدر هذا المنبر بأن يكون على مستوى التعبير عن آلامهم وآمالهم وخصوصاً المسلمين في المجتمع ، ألم يقل الحسين (عليه السلام) وأن أسير بأمة جدي بسيرة الحق ، فما للكثير من أمة جدّه معرضاً عن هذا الصوت أهل يسع مسلماً أن يعرض عن نداء القرآن والحسين قرآن مجسّدآ وللأمويين مع القرآن تاريخ حافل بالتمزيق سواء كانورقاً أم جسداً وما أروع ما قاله أديب الطف .


    ويهلّلون بأن قتلت وإنّما***قتلوا بك التكبير والتهليلا


    تتضح ممّا ذكرناه أهمية هذه الأداة المعبرة عن أهداف الطف وضرورة الخروج بها إلى مستوى أوسع من المناسبة المحدودة حيث تنبسط على سائر أيام السنة لتشبع الحاجات المعرفية المتجددة دائماً خصوصاً وأنّه من حيث ظرف المناسبة امتدّ على السنة ولكنّه من حيث المظروف يحتاج إلى التنوع ضرورة تعدد الحاجات الفكرية للمستمع . وامتداده على أيام السنة يعني أنّه صار زاداً ينبغي الحرص على كونه زاداً نظيفاً لا يفقد معنى التغذية . ولا ننسى أنّ المنبر وعاء الحسين فينبغي أن نعرف كيف وأيّ وعاء نضع الحسين (عليه السلام) فيه .
    هناك وعاءان لا ثالث لهما يمكن أن نضع الحسين (عليه السلام) في أحدهما في حدود اختيارنا : الوعاء الأول وعاء الإرتزاق ولهذا الوعاء مواصفات معروفة لا تخرج بواقعة الطف عن صورة ذليلة ونساء حاسرة ومواقف لا مكان للرجولة فيها ولا ملامح للأهداف وإنّما كل ما فيها نساء يندبن أجساداً ممزقة ويتامى يستبدّ بهم الرعب ومجموعة من القتلة تمثّل بالأجساد وتعبير عن ذلك كلّه بألفاظ لا تناسب مكانة الشهادة والشهداء . ولست أريد أن أنفي وقوع هذه الصور المأساوية فقد وقعت بالفعل ولكنّها وقعت لتسفر عن نتائج معينة هي ثمرة التضحية فهي تمثّل جانباً من الصورة لا ينبغي أن يستبدّ بالصورة كلّها وتحاط بمبالغات تذهب بالملامح الصحيحة المعبّرة والتي تدين الأمويين وتفضح نواياهم .
    أمّا الوعاء الثاني الذي يفترض أن يوضع الحسين (عليه السلام) فيه فهو وعاء الرسالة الذي يبتعد عن المزايدات والمبالغات ويستشف من وراء كلّ تحرّك وكلّ مفردة من مفردات واقعة الطف الهدف الكبير والسرّ الكامن وفي الوقت ذاته استجلاء محتويات هذه الواقعة وتقديمها دروساً نستلهمها في مسيرة الحياة . إنّ الحياة الكريمة محتاجة دائماً لأن تستلهم مواقف رموزها وقادتها فإنّ سيرة القادة طعام النفس الجائعة . هذان وعاءان لا ثالث لهما نختار في أيهما نضع الحسين (عليه السلام) .
    وهنا أقول : نحن نتطلّع إلى المبلغ الواعي الذي يصنع المنبر المتزن فينبغي أن تتظافر جهود الدعاة والمبلغين كلّ حسب استطاعته لرسم تصوره عن أفضل السبل لصنع هذا المنبر المنشود . وقد يتصور البعض أنّ مجرّد كون الخطيب قد قضى فترة طويلة في ميدان المنبر فقد يؤهله ذلك لتشخيص كافة الجوانب ذات العلاقة بهذا الموضوع وهذا التصور غير صحيح . فإنّ هناك أموراً للتدليل على أنّ طول المدة في ممارسة المنبر وحدها غير كافية للتعرّف على كلّ المقوّمات وهذه الأمور هي :
    1 ـ قد يهتدي حتى بعض المبتدئين في ومضة من ومضات الذهن إلى معنى غاب عن أذهان من هم أكثر ممارسة وأطول مدة .
    2 ـ أنّ كلّ طبقة وجيل له مواصفاته في تحديد المُبلّغ الناجح والأمثل في الولوج إلى مزاج العصر ، ونحن نعرف أنّ المزاج لا يخضع إلى مقاييس موضوعة اللهمّ إلاّ في أمور خاصة تعتبر من الثوابت مثل سعة الإطلاع وتنوع المعرفة وأمثال ذلك . ومن هنا نحن نستدعي التطلّعات الجديدة للإدلاء برأيها في المنبر الناجح .
    3 ـ إنّ المنبر مثله مثل بعض الأحكام التي تتغير بتغيّر موضوعاتها فلا تبقى أكثر مكوّناته ثابتة بل هي من نمط ما يتحرّك دائماً ويحتاج إلى مواكبة وملاحقة وإدارات ومناهج تلائم المستجدّات ما دمنا نفترض أنّ المنبر من حاجات الناس التي أصبحوا لا يستغنون عنها كما هو المشاهد ، فينبغي اللحاق بها .
    4 ـ إنّ كلّ رأي من الآراء يكون أقرب إلى الكمال إذا كان رأياً جماعياً ومن هنا جاءت أهمية الإستشارة التي قال عنها أميرالمؤمنين (عليه السلام) : (من شاور الرجال شاركها في عقولها) . إلى غير ذلك من الأسباب التي تدعو إلى تضافر الآراء وتعدد الرؤية فيما ينبغي وتقديمها دروساً نستلهمها في مسيرة الحياة . إنّ الحياة الكريمة محتاجة دائماً لأن تستلهم مواقف رموزها وقادتها فإنّ سيرة القادة طعام النفس الجائعة . هذان وعاءان لا ثالث لهما نختار في أيهما نضع الحسين (عليه السلام) .
    وهنا أقول : نحن نتطلّع إلى المبلغ الواعي الذي يصنع المنبر المتزن فينبغي أن تتظافر جهود الدعاة والمبلغين كلّ حسب استطاعته لرسم تصوره عن أفضل السبل لصنع هذا المنبر المنشود . وقد يتصور البعض أنّ مجرّد كون الخطيب قد قضى فترة طويلة في ميدان المنبر فقد يؤهله ذلك لتشخيص كافة الجوانب ذات العلاقة بهذا الموضوع وهذا التصور غير صحيح . فإنّ هناك أموراً للتدليل على أنّ طول المدة في ممارسة المنبر وحدها غير كافية للتعرّف على كلّ المقوّمات وهذه الأمور هي :
    1 ـ قد يهتدي حتى بعض المبتدئين في ومضة من ومضات الذهن إلى معنى غاب عن أذهان من هم أكثر ممارسة وأطول مدة .
    2 ـ أنّ كلّ طبقة وجيل له مواصفاته في تحديد المُبلّغ الناجح والأمثل في الولوج إلى مزاج العصر ، ونحن نعرف أنّ المزاج لا يخضع إلى مقاييس موضوعة اللهمّ إلاّ في أمور خاصة تعتبر من الثوابت مثل سعة الإطلاع وتنوع المعرفة وأمثال ذلك . ومن هنا نحن نستدعي التطلّعات الجديدة للإدلاء برأيها في المنبر الناجح .
    3 ـ إنّ المنبر مثله مثل بعض الأحكام التي تتغير بتغيّر موضوعاتها فلا تبقى أكثر مكوّناته ثابتة بل هي من نمط ما يتحرّك دائماً ويحتاج إلى مواكبة وملاحقة وإدارات ومناهج تلائم المستجدّات ما دمنا نفترض أنّ المنبر من حاجات الناس التي أصبحوا لا يستغنون عنها كما هو المشاهد ، فينبغي اللحاق بها .
    4 ـ إنّ كلّ رأي من الآراء يكون أقرب إلى الكمال إذا كان رأياً جماعياً ومن هنا جاءت أهمية الإستشارة التي قال عنها أميرالمؤمنين (عليه السلام) : (من شاور الرجال شاركها في عقولها) . إلى غير ذلك من الأسباب التي تدعو إلى تضافر الآراء وتعدد الرؤية فيما ينبغي أن يكون عليه المنبر في كلّ فترة من الفترات التي تمرّ بها الأجيال مثله مثل باقي شؤون الحياة المتحرّكة التي تحتاج إلى ملاحقة بالتقويم وتحديد المناهج تبعاً للأزمنة . وأنا هنا أعتبر هذه السوانح دعوة إلى إخواني من الدعاة بأن يساهموا بملاحظاتهم حول كلّ ما له علاقة بالمنبر لنضع لبنات قابلة للنمو في طريق خدمة المنبر حتى يكون قريباً إلى الكمال المستطاع .
    لقد طلب الكثير من إخواني المعنيين بأمثال هذه الشؤون وبالذات من أهل العلم والفكر أن أدوّن تجاربي في هذا المضمار وتصوّري لواقع المنبر المعاصر وتطلّعاتي إلى ما يرتجى ويؤمل . وقد مرّت عليّ مدّة وأنا بين الإقدام والإحجام في ذلك وهذا التردد ناشىء من أسباب كثيرة ما كنت أتشجّع معها على الكتابة وهي :
    أولاً : لما قد يحسبه البعض نوعاً من التبجح إذا ذكرت بعض الخطوات التي قمت بها في نطقا ما تصورته خدمة لمستوى المنبر . وأنا أنفر من أي ادّعاء ولو كان صحيحاً فإنّه قد يخلق نوعاً من الإعجاب بالنفس ويمنع من المزيد .
    وثانياً : ممّا قرّ في ذهني وتصورته في غاية الوضوح من كون أمور الخطابة ليست بتلك الدرجة من الصعوبة والتعقيد حتى يحتاج الناس إلى معرفة ملابساتها فإنّ أركانها الأساسية تتكون من عنصرين أحدهما غير قابل للإكتساب بل هو فطري من المكوّنات الذاتية والثاني ممّا يكتسبه الإنسان من علم ومهارة واقتداء وكلّها في تصوري واضحة هكذا كانت قناعتي ولم أزل إلى حدّ ما أتصوّر صحة هذا الفرض وإن خالفني الكثير اللهمّ إلاّ بعض الجزئيات التي تقع في طريق معرفة هذا الفن وهذه الجزئيات يعتبرها البعض مهمة ومن أجلها كتبت وتداعت بعد ذلك إلى ذهني ضمائم أرجو أن أكون قد وفقت في عرضها وشرحتها مخلصاً وبعيداً عن الذات في حدود موضوعية مستطاعة .
    الثالث : من الأسباب التي كانت تساهم في ترددي كون مسألة المنبر موضوعاً يمارس كل يوم بكل جزئياته والممارسة العملية وتجسيدها عن طريق التسجيل الصوتي والمصوّر . هي دروس يومية وبيان متصل يتفاعل معه من يريد دراسة هذا الفن فماذا يبقى بعد ذلك ممّا يسجّل في الكتاب ليكون مرشداً ودليلاً لمن يريد ولوج هذا الطريق . هذه الأسباب ونظائر لها حالت طويلاً دون إقدامي على الكتابة . والإلحاح مستمر عليّ من الإخوة . لكنّي تنبّهت مؤخراً إلى أشياء وإن لم تكن في الصميم من موضوع المنبر ولكنّها مهمّة في هذا المجال . وهذه الأمور هي ما سيطّلع عليه قارىء هذا الكتيب من مواضيع خلال عناوينه . ومن الضروري أن أذكر هنا أنّ سباق الزمن وسرعة جريان العمر حملتني على سرعة التدوين بدون إعطاء الرؤية فرصة من إعادة النظر وتقويم الناتج والتقليل من الأخطاء أو عدم النضوج في المعالجة والقصور في الإستيعاب وقديماً قيل : ما لا يدرك كلّه لا يترك جلّه . وقد يسعفنا التوفيق لإعادة النظر في مواضيع الكتاب لتلافي ما قد يكون من نقص هناك .
    وفي هذه السطور نوعان من المضامين : النوع الأول يشكّل أموراً معاصرة واقتراحات فعلية فهي كلّها في نطاق الوعي الحاضر ولا خشية من وجود غيابها عن الذهن . والنوع الثاني هو البقية من حصاد الذاكرة الذي أرجو أن يكون سليماً من الخلل أو السهو ـ وجلّ من لا يسهو ـ لقد مرّت عليّ بعض المضامين فترة تربو على الخمسين عاماً وفي مثلها يتوقّع السهو والخلل خصوصاً وأنّ كثيراً من تفاصيلها لم يدوّن في حينه . وحتى بعض ما دوّن لم يذكر مناطقه وما وراء سطوره فهو والحالة هذه أشبه شيء بتمثال لا روح فيه . ولأن كانت هناك أسباب تمنع من كتابته وتعليله فما يزال بعض هذه الأسباب قائماً وربما ألمح إليه أثناء فصول هذا الكتيب . إنّ كثيراً من الأمور لم يتغيّر إلاّ قليلاً وفي مثل هذا المناخ يتعيّن التأمل طويلاً قبل إبداء الرأي . لقد أكّد علماء الإجتماع على أنّ الحضارة لها شقّان : مادي وهو ما يوضع بعد ذلك بالمتحف وهذا من السهل تغييره وتبديله والتحوّل به من هيئة إلى أخرى ومن نوع آخر ، وفكري وهو الجانب الذي يتعلّق بالأديان والأفكار وحتى الأساطير ومثل هذا من الصعب تغييره ولابدّ من النفس الطويل حتى يتوفر المناخ الذي يساعد على التغيير ـ وهذا طبعاً في غير الأحكام الشرعية الثابتة ـ وإنّما في بعض الموضوعات .
    وعلى كلّ حال إنّ هذا القسم الثاني الذي مرّ عليه عهد طويل والذي يتكوّن من شرح الحالة التي كان المنبر عليها آنذاك وما يرتبط به من قريب أو بعيد وهيكله وأعمدته في تلك الفترة وبداياتي في التلمذة وتوزع همومي بين إتقان الحاضر آنذاك والتطلّع إلى الأفضل والآليات التي استعملتها في هذا الموضوع كلّ ذلك كتبته هنا بإيجاز ولا أزعم أنّي استوعبته ولكن كما قلت وذكرت أنّي وضعت يدي على ما بقي في الذاكرة ودوّنته هنا فإن وجد فيه ما هو مفيد فذاك وإلاّ فهذا جناي وخياره فيه . وأعتقد أنّه يعكس مزاجي إن لم يعكس مجموع المزاج الذي كان سائداً والجزء يشمله حكم الكل ، أمّا ما عبّرت عنه بأنّه يقع في نطاق الوعي الحاضر فقد جهدت على أن أضمنه بإخلاص كلّ ما أرجوه من كمال نسبي في حدود تصوري للرعيل الذي يسمّى بخدام الحسين (عليه السلام) وكما يقول أديبنا :


    وهل أنا إلاّ من غزية إن غوت***غويت وإن تُرشد غزية أرشد


    إنّ ما يعود على النوع ينعكس بالتالي على إفراد ذلك النوع فيأخذ كلّ واحد منهم حصّته . ولقد وضعت في أواخر ما كتبته هنا عينات من المواضيع التي كثر السؤال عن طريقة تكوينها ورسم ملامح من المنهج في ذلك . وإنّي وإن كنت ذكرت ذلك نظرياً ولكن الإشارة إلى الخطوات التطبيقية ترسخ في الذهن صورة من المنهج . وهذا الموضوع وإن لم يكن من السهل حصر كلّ جزئياته ولكن مجرد التمثيل يفتح للذهن نافذة على المسلك . ولا أريد أن تكون النماذج التي قدّمتها كأمثلة في ترتيب المواضيع قالباً ثابتاً أو تعقيداً لا خروج عنه فقد يكون في أذهان البعض منهج أفضل وطريقة ألصق بالعصر ولكن هذا ما رأيت وما دأبت على ممارسته خلال مسيرتي الخطابية حيث حرصت على أن تكون مصادر حضارتنا هي رؤوس المطالب فأولها القرآن الكريم ثمّ السنّة النبوية الشريفة ثمّ التاريخ ثمّ الشعر ثمّ الحكم ممّا سأشرحه في حينه إن شاء الله . ولا يفوتني هنا الإشارة إلى نقطة مهمة وهي أنّ هذا النمط من الكتابة أي التجربة الشخصية مع المنبر فكراً وممارسة ثمّ التطلّع إلى التطوير على ضوء التجارب : هذا النمط لم يكتب فيه على ما أعرفه فقد كتب البعض عن تصوّره للخطابة والخطيب الفاضل أو عن مواضيع المنبر وكيف ينبغي أن تكون ، أمّا تجربتهم العملية وخطواتهم في ذلك وانتزاع الخلاصات من التجربة فلم أرى من كتب فيه ولا يخفى أنّ كلّ زيادة في موضوع من المواضيع لابدّ أن تكون عرضة للأخطاء فليسعني عفو القارىء إذا رأى شيئاً من ذلك . وبعد هذا أضرع من صميم قلبي إلى الله عزّوجلّ أن يسدّد خطاي في هذا الدرب وأن يلهمني الصواب لأكون قريباً من مستوى عطاء الطف الضخم ولأرهف مسامعي لسماع النشيد الخالد في هذه الملحمة التي كانت وما تزال تطرب الأسماع وتهزّ القلوب .
    وفي ختام هذه المقدمة أكرّر دعوتي لكلّ من يجد في نفسه القدرة على تسديد خطوات المنبر والإرتقاء به أن يكتبوا في ذلك ولا يحملهم توقّع التقصير على الإمتناع عن ذلك فإنّ الحرمان أقلّ من القليل ، ثمّ إنّ التجارب إذا اجتمع بعضها إلى بعض شكّلت رصيداً لا بأس به من التكامل . وفيما نعتقده ما زال المدى طويلاً والساحة متّسعة وعطاء أبي الشهداء متفجّر فليأخذ كلّ حسب ما تتّسع له قدراته فإنّه مصداق قول شاعرنا :


    ولكن تأخذ الأذهان منه***على قدر القرائح والفهوم


    والحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنّا لنهتدي لولا أن هدانا الله .





    وهو حسبنا ونعم الوكيل[/align]
    يا محوّل الحول والاحوال ، حوّل حالنا إلى أحسن الحال......








  3. #3
    تاريخ التسجيل
    Mar 2006
    المشاركات
    1,463

    افتراضي

    عندما اسمع للشيخ الوائلي رحمه الله اشعر ان حديثه يخرج من صميم القلب مخاطبا القلوب. إنه رجل قد عجنت فيه الحكمة والمعرفة بالروح والعاطفة الحسينية. طرحه واسلوبه بسيط ولكنه عميق وهذا الأسلوب هو أفضل ما يمكن للخطيب الحسيني تقديمه للناس من خلال تثقيفهم ورفع مستواهم الثقافي بلغة مفهومة وبسيطة. لقد اصبح الوائلي من عظمائنا بسبب تواضعه وحسن معشره وعلمه الغزير.
    الأخت الكريمة منازار شكرا لك على هذه المشاركة الطيبة.


    الموحوم الوائلي مع المرحوم عبد الزهراء الحسيني


    في أحدى المواكب
    المرحوم الوائلي بجانب السيد حسن النوري ويظهر ايضا أبو إسراء (نوري المالكي) وجمع من المهاجرين في دمشق


  4. #4
    تاريخ التسجيل
    Jul 2004
    الدولة
    هناك
    المشاركات
    28,205

    افتراضي

    رحم الله الخطيب عبدالزهراء الحسيني والدكتور الوائلي فقدانهما خسارة لا تعوض...


    والشكر الجزيل لك أخي الكريم لتزودينا بهذه الصور
    يا محوّل الحول والاحوال ، حوّل حالنا إلى أحسن الحال......








  5. #5
    تاريخ التسجيل
    Jul 2004
    الدولة
    هناك
    المشاركات
    28,205

    افتراضي

    [align=justify]

    تصورات عامة حول المنبر


    يستأثر المنبر الحسيني باهتمام المسلمين من الشيعة وغيرهم : أما على المستوى الشيعي فسيتأثر باهتمام مختلف شرائحهم لأسباب مختلفة فالبعض بعد أن أصبح المنبر جزءاً من حضارة الشيعة وشغل حيّزاً من ثقافتهم يريده مؤسسة تتحرّك وفق الضوابط العلمية وتخلوا من الثغرات والمفارقات فهو معنيّ بالصفة العلمية للمنبر لاسيّما وهو يتوفّر على ما لا يمكن قبوله بغير علم تتّصف به موادّه من العقائد والأحكام والتاريخ والنظريات وهكذا فالإهتمام بكونه علماً مظهر من مظاهر المحافظة على الذات الشيعية الثقافية والدفاع عن مضمونها المفترض أن يكون سليماً .
    والبعض الآخر لمّا كان ينشد من وراء الإستماع للمنبر أن يحصل على الأجر والثواب ويستلهم النظرية الصائبة والمفردة الدينية التي تتّصل بمحتواه الديني فإنّ كلّ ذلك موقوف على منبر موثوق في نقله نقي في مصادره صائب جهد المستطاع في تحليله : بداهة إنّ الثواب لا يتأتى لمن يستمع لمنبر لا تتوفر فيه هذه الصفات (مع علمه بذلك) فلم يبقى إذاً إلاّ الحرص على منبر لا يفرط في الأمانة حتى لا يفجع السامع بأمله فيما قصد له من الثواب .
    وثالث يرى في المنبر وجمهوره منتداه الذي يجمع بين الفائدة والسلوى والتواصل والتزاور في مواسم عديدة من السنة تجيب عنده على مطالب متنوعة وهكذا باقي الشرائح تنوّعت أهدافها في الحرص في المنبر والتقت حول أهميّة وجوده ، إنّ هذه المحصّلة لم تكن وليدة فترة قصيرة ولم تتراكم مضامين المنبر في زمن قصير بل هو تراكم تكثف عبر مئات السنين في مسيرة المنبر وأدواره التي سنفرد لها إن شاء الله باباً خاصاً نتلمس فيه مراحلها التطورية من بواكيرها حتى أيامنا الحاضرة .
    هذا ما هو عند الشرائح الشيعية . أما المهتمون من المذاهب الإسلامية بالمنبر فهم قسمان : قسم يريد التعرّف عن طريق هذه الفعالية العارية والمكشوفة التي تبرز الشيعي في ممارسته العقائدية بوضوح ولا يمكن فيها دعوى التستّر أو التقيّة ليرى وليسمع ميدانياً صحة ما ينسب لهذه الطائفة من فعاليات يحرص البعض على تصويرها بأنّها لا تلتقي والإسلام بحال من الأحوال ولا يمكن قبولها على صورة من الصور ، فحرصه على المنبر حرص الباحث عن مصدر صادق وواضح يطل منه على قضايا نسبت للآخرين وكثر حولها الجدل والمنبر يوفر له باباً لذلك .
    والقسم الثاني : يتربّص بالمنبر لعلّه يمسك زلّة من الزلات يتّخذ منها مادة للتهريج وينسى جميع إيجابيات المنبر وجهاده في سبيل العقيدة والدعوة إلى الله تعالى . ومن المؤسف أنّ بعض المنابر قد لا يكون متثبتاً في نقله أو يكون متسرّعاً في أحكامه أو ليس على علم بما يعالجه من موضوعات يوفر لهذا المتربص مادة للتهريج ويتخذ منه هذا المهرج تعميماً لا مبرّر له ، وينتزع منه أحكاماً كما ينعت هذا المنبري بنعوت غير صحيحة . وقد جاءني أكثر من واحد منّا ومن غيرنا يحملون بأيديهم شرائط مسجّلة لخطباء سلفيين يحملون فيها على بعضهم فينعتونه أولاً بأنّه من علماء الشيعة وهو لا صلة له بالعلم إنّهم يحسبون أنّ من لبس عمة كبرية ويحسن أن يصوغ بعض الألفاظ من العلماء . وقد تتبعوا أقوال هؤلاء وما ينقلونه عن بعض المؤلفات لأهل السنة فلم يجدوا له أثراً فانتزعوا حكماً مفاده أنّ كبار علماء الشيعة يكذبون كما أشاروا إلى نظريات في مختلف أبعاد العلوم ليست صحيحة وإحصائيات ليست مضبوطة وقالوا هذه هي منابركم ، فقلنا لهم : إنّ كلّ فئة تختصّ بعلم أو عمل لابدّ أن يوجد فيها نموذج من هذا القبيل ، فليس من الصحيح أن يحكم على فئة كاملة بتصرّفات فرد . وأتذكّر أنّ أحدهم قال : لم لا يتصدّى علماؤكم لمنع أمثال هؤلاء من الخطابة ؟ فقلت لهم : لأنّهم لا يملكون قوّة تنفيذيّة كما تملكون أنتم ولذلك لا قدرة لهم على ضبط أمثال هذه الأمور .
    إنّ ممّا يبعث على الألم أن لا تكون هناك رقابة على ما يقال على منبر يقوم بحمل رسالتنا للجماهير وينبغي أن يشعر بسمؤولية الكلمة وخطر الفكرة وصلة ذلك بوضعنا ككل . لقد أصبح العالم مكاناً واحداً تنتقل فيه الكلمة والفكرة بسرعة البرق كما أصبح يقرأنا من مختلف الفعاليات التي نقوم بها . نحن تحت المجهر فالكفر يسلّط علينا الأضواء ليقول كلمة هل إنّنا متطرفون أم معتدلون . وإخواننا من المذاهب الأخرى هم الآخرون قد أرهفوا أسماعهم لاقتناص كلمة ولو من مخرف عندنا ليملأوا الدنيا بالضجيج والتستّر وراءها على طريقتهم في رفع بعض القمصان والمصاحف .
    وبناءاً على ما ذكرته لم يعد المنبر حالة خاصة بنا نمارسها بدون قيود أو ضوابط وبصورة عفوية تقوم على التساهل والتسامح بينما هي توثق بالمسجلات وتصبح مادة قابلة لأن تصاغ منها مادة اتهام ، وصدق أميرالمؤمنين علي (عليه السلام) عندما قال : (الكلام في وثاقك ما لم تتكلّم به فإذا تكلّمت به صرت في وثاقه) ، خصوصاً مع وجود جهات تحرّف الكلم عن موضعه ويهمّها تحقيقاً لهدفها وهدف من ورائها أن تسمّم الأجواء وتلغم القاعدة وسأضرب مثلاً من آلاف الأمثلة التي تمتلأ بها الساحة هذه الأيام :
    منذ سنين انتشرت في العواصم الأوربية شرائح من المهجرين العراقيين وأغلبهم من الشيعة ومارسوا هناك شعائرهم ومنها مجالس تعقد لذكر واقعة الطف وخلالها يتمّ نشر العقيدة والفكر ، وبدأ كثير من المسلمين من المذاهب الأخرى ومن غيرهم يحضر أمثال هذه المجالس ويظهر أنّ ذلك شقّ على بعض أبواق الطائفية لأنّ المجالس كشفت كثيراً من زيف ادّعاءاتهم والنسب والأفكار التي يروّجونها عن الشيعة وعندئذ نشطت الأقلام لئلاّ يفلت الزمام من أيديهم وتغلق الحوانيت التي تتّجر بالطائفية فانهمرّ سيل من المنشورات والكاسيتات التي تمونها فئة معروفة وكلّها تحرص على تكفير الشيعة واختصاراً للدرب أروي لك واحدة من هذه الأدلة :

    جيء إليّ بمنشور على شكل كتيب بقلم أبو قتيبة الفلسطيني هكذا كتب عليه وأنا أحتفظ به عندي في لندن لقد حرص هذا الكاتب على تأكيد أنّنا يهود وحتى أئمّتنا يحكمون بحكم اليهود والدليل على ذلك رواية جاءت في صحيح الكافي مفادها أنّ الإمام المهدي إذا ظهر يحكم بحكم سليمان وداود ، وداود وسليمان كما استظهر الكاتب يحكمان بالتلمود فمن هاتين المقدمتين ينتج أنّ المهدي يحكم بالتلمود ولا يحكم بالتلمود إلاّ اليهود ، في حين أنّ الرواية بناء على سلامة سندها وخلوّها من المعارض تشير إلى مفادّ الآية الكريمة ( وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث إذ نفشت فيه غنم القوم وكنّا لحكمهم شاهدين * ففهّمناها سليمان وكلاًّ آتينا حكماً وعلماً ) ـ سورة الأنبياء 78 ـ ومفاد القضية أنّ غنماً لبعضهم نفشت أي رعت ليلاً بكرم من الكروم فأفسدته فاحتكما إلى داود فحكم (عليه السلام) بتسليم الغنم إلى صاحب الكرم لأنّ ثمنها يساوي ما أفسدته . فقال سليمان (عليه السلام) : أو أرفع ؟ قال : ما هو ؟ قال : تدفع الغنم لصاحب الكريم فيستوفي من ألبانها وأولادها وأصوافها ، وعلى العموم لمّا كان صاحب الغنم ضامناً لما أتلف كان عليه التعويض فعلاً أمّا الإنتظار فهو وإن كان ليس بواجب ولكنّه مندوب من باب التفضّل وهو أرفق بالطرف الآخر وكلا الحكمين صائبان ولكنّ الثاني أصوب ولا منافاة بين الصائب والأصوب . هذه هي القضيّة بتلخيص ، إذاً معنى أن يحكم الإمام بحكم سليمان وداود أنّه قد يترفّق وقد يشتدّ ، ومعلوم أنّ المسألة فيها بحوث موسعة في أنّه هل يجوز أن يُعمل ويحكم في الإسلام بحكم الشرائع السابقة وللعلماء في ذلك تفاصيل يرجع لها في محلّها ، فأين هذا من هذا التهريج الذي اعتادوا عليه ، وعلى العموم هذا مجرد مثل أسوقه هنا للتنبيه على أنّ كلّ كلمة عندنا مرصودة فينبغي أن نكون على مستوى المسؤولية .
    يتلخص من كلّ ما مر : أنّ المنبر له موقع مهم عند مختلف الجهات كما ذكرنا فكيف نصنع له مكانة مشرفة وفي الوقت ذاته نعمل على بنائه بناءاً تتوفر فيه المقوّمات السليمة ونطوره . هذا ما سأعرض لأبرز خطوطه التي تتبادر للذهن تاركاً الباب مفتوحاً على مصراعيه للأقلام التي قد تكون لها آراء أخرى في هذا الموضوع وللأذهان التي قد تتنبّه لما لم أنتبه له ما دمنا جميعاً في خط خدمة المنبر الحسيني والله تعالى من وراء القصد .
    إنّما أعود لأؤكّد مرّة أخرى أنّ المنبر لم يعد كما كان مؤسسة تخصّنا بل عاد مدخلاً كبيراً للتعرّف علينا ودراسة هويّتنا واختبار قدراتنا الفكرية وتحديد اتّجاه مزاجنا فنحن طائفة تميّزت بفكر مارس الصراع منذ ولد وتعرّض للملاحقة من بواكير أيامه وذلك لأسباب كثيرة كتب فيها العلماء كتباً وسلّط المحقّقون عليها الأضواء وكان وما يزال جوهرها ليس ممّا يروق لكثير من الجهات لأسباب شتى . ومع ذلك كلّه لا يزال البعض لم يعطي هذه الأمور حقّها من الإهتمام بالمنبر وما ينبغي أن يكون عليه كما هو عند غيرنا ، وأنا لست بناس أنّ غيرنا عنده من وسائل الضبط ما لا نملكه كما هو معلوم ولكن نحن عندنا وسيلة وسبب لعلّه أهمّ من كلّ الأسباب : ذلك هو المحافظة على الذات فقد يفتح المنبر غير المسؤول علينا باباً من أبواب جهنّم ولا ينبغي التهاون في ذلك من كلّ فرد فينا ولا ينبغي أن نكون كمن يجترّ وهو في طريقه للمجزرة بالإضافة إلى أنّنا نحمل ثروة من فكر آل محمّد ينبغي أن نصوغ لها الإناء الذي يناسبها .[/align]
    يا محوّل الحول والاحوال ، حوّل حالنا إلى أحسن الحال......








  6. #6
    تاريخ التسجيل
    Jul 2004
    الدولة
    هناك
    المشاركات
    28,205

    افتراضي

    [align=center]


    أخلاقيات المنبر


    كلّ عمل من الأعمال أو نشاط من الأنشطة إذا لم يتوفّر فيه العنصر الأخلاقي فهو مجرد عن الروح وخصوصاً النشاط الديني فإنّ من ألزم الأشياء له الأخلاق ضرورة إنّ ذلك روح الدين ، أليس رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول : (إنّما بعثت لأتمّم مكارم الأخلاق) وأهمّ اخلاقيّات المنبر فيما أرى هي التالية :
    1 ـ أن يستهدف عمل المنبر وجه الله تعالى قبل وبعد كلّ شيء فإنّه إن حاد عن هذا الهدف فإمّا إلى مكانة أو مال أو ما شاكلهما وكلّها أهداف محدودة وزائلة تحول المنبر إلى دكان لعرض بضاعة ولا ترتفع به عن هذا المستوى وتعجل بنهايته فإنّ ما رُبط بالزائل زائل ، أمّا إذا استهدف وجه الله تعالى في ترسيخ العقائد والأحكام والأخلاق فقد سلك الطريق القويم وضمن للمنبر أن لا يزول لأنّه ربطه بالدائم ، هذا من ناحية .
    ومن ناحية أخرى فإنّ من مفردات منهج العلوم التقوى ومراعاة وجه الله تعالى فإنّها منفذ فاعل في الإستلهام وتلقي العطاء من الفيض وفي ذلك الحصول على آلية نافذة إلى النفوس وبنائها وبدون ذلك لا يتأتّى الحصول على الأثر المطلوب . إنّنا يجب أن نلمح وجه الله عزّوجلّ من وراء كلّ عمل وأن لا تحول بيننا الرغائب المؤقتة ـ وإن كان انتظار الرزق من وراء أي عمل مشروع ليس بضميمة منافية ، ولكن لا ينبغي أن يُجعل الهدف الأساس بحيث يحجبنا عن الوجه الكريم الذي لا يخفى فى حين من الأحيان ولكنّنا نحن الذين نحرم من رؤياه بفعلنا ، يقول شاعرنا :


    وكنّا حسبنا أنّ ليلى تبرقعت***وحال حجاب بيننا يمنع اللثما


    فلاحت فلا والله ما ثمّ حاجب***ولكن طرفي كان من دونها أعمى

    2 ـ الثانية من أهمّ أخلاقيات المنبر وهي من منطلقات الأولى : الإرتباط بالصالح العام والإرتفاع إلى هذا المستوى بعيداً عن التحوّل إلى مدية بيد فئة أو فرد ضد فئة أو فرد آخر بدوافع شخصية فلا يرتفع لما أريد له ، وهو في وعاء الإعتبار إنّما ينظر إليه على أنّه منارة هدى ما دام يحمل للناس مشعلاً يضيء لهم الطريق وكتاباً يحفظ التراث ووسيلة تشترك مع الوسائل الأخرى في التقويم والتسديد ، وهنا أرجو أن لا يلتبس الأمر على القارىء فيحسب أنّي أريد أن أجرّد المنبر من وضع الإصبع على بعض الدمامل أو معالجة مواطن الخلل في جسم الأمّة ، كلاّ بل أريد أن يكون التقويم مرتفعاً عن الهدف الشخصي ويصب في الصالح العالم .
    إنّ القرآن الكريم والسنّة النبويّة الشريفة وضعتا اليد على الدمامل فيما لهما من منهج في المعالجة فقال تعالى عن بعضهم ( عتلّ بعد ذلك زنيم ) وقال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) : (رأيت أقواماً ينزون على منبري نزو القردة) وقال لبعض ما يدحرجه الجعل برجله أفضل عند الله من بعض آبائهم ، وواضح من ذلك أنّهما وصفا وقيّما وكذلك تلميذ القرآن الإمام أميرالمؤمنين (عليه السلام) قيّم جماعة رجعوا لتوهّم بعد أن بايعوا ضُباً وقالوا : إنّ بيعتك خير لنا من بيعة عليّ بن أبي طالب ، فقال : سيأتي يوم القيامة قوم إمامهم الضب يقودهم إلى النار ولو شئت أن أقول من هم لقلت ، وكانوا تحت المنبر ، إنّ كلّ هذا من الشواهد على معالجة الخلل ولكنّي أريد أن لا تكون المعالجة بهدف شخصي وإنّما يراد بها وجه الله تعالى حتى لا تعود سباباً من شخص لآخر تفرزها الذات لا الموضوعية .
    3 ـ ارتفاع ممارسة العمل المنبري عن إرضاء القاعدة الهابطة على حساب الحقائق والقيم وعلى أشلاء العقل والذوق وكلّ ذلك لتحصيل مكانة أو سمعة أو استقطاب جمهور من أجل سحب البساط من تحت رجل آخر ، فالطعام الجيّد لا يضرّه أن لا يتذوّقه الآخرون ، كما أنّ الطعام الرديء لا يصعد به أن يأكله عدد أكبر فإنّ جمهور الأعمال التي فيها أصالة ومعاناة دائماً أقلّ من جمهور الأعمال السطحية ، فإنّ الذين

    يلاعبون قرداً قد يجمعون من الجمهور أكبر بكثير ممّا يجمعه اينشتاين إذا أراد شرح نظريته النسبية .
    وتحضرني هنا قصة بشار بن برد وهو شاعر فحل فقد كان يقارع خصومه بمثل قوله :


    إذا ما غضبنا غضبة مضرية***هتكنا حجاب الشمس أو تقطر الدما


    إذا ما أعرنا سيداً من قبيلة***ذرى منبر صلّى علينا وسلّما


    فكان لا يحصل إلاّ على قليل ممّن يردّد شعره ولكن خصومه انبروا له بشعر هابط يستسيغه العامّة فتلقفه الجمهور وراح ينعق به وهو :
    نللينه نللينه طعن قثاء بتينه إنّ بشار بن برد تيس أعمى في سفينة
    ولكن شعر بشار يبقى موضع جدارة وتقدير وانحسر الهراء واللغو .
    فلا ينبغي أن ينصبّ هم المنبر على اجتماع غني بالعدد وإن كان بفكر فقير في النوعية .[/align]
    يا محوّل الحول والاحوال ، حوّل حالنا إلى أحسن الحال......








  7. #7
    تاريخ التسجيل
    Jul 2004
    الدولة
    هناك
    المشاركات
    28,205

    افتراضي

    [align=center][align=center]

    ملامح حول الخطيب والخطابة

    بقي أن نقول ما هو مقدار المتوافر من المنابر المرجوة وللإجابة على هذا السؤال نذكر أنّ كثيراً من المنابر ـ والحمد لله ـ على فضل ومعرفة ومهارة لا بأس بها بالإضافة إلى جملة من المواصفات الأخرى التي لم تكن بهذه النسبة في المنابر التي عاصرناها أو لم يكن بعضها موجوداً أصلاً ولكن الذي لابدّ من الإشارة إليه هو افتقار المنبر للموسوعية بمعنى أنّ المنابر الموجودة فعلاً رغم ارتفاع نسبة مضمونها الثقافي عمّا كان سابقاً في كثير من المواد وفي الوقت ذاته نقصها من مواد أخرى عمّا كان أقول رغم ذلك ولكن يغلب عليها قصور في كثير من الجوانب التي يتطلّبها الزمن وذلك مثل الإطّلاع على التراث للأمم الأخرى عن طريق إتقان بعض اللغات التي تعتبر عالمية وأخذ حصص كافية من العلوم الحديثة ومسايرة الجديد من التيّارات الفكرية فإنّ الواقع السائد في المنبر وأنا واحد منهم في هذا الميدان حصائلنا قليلة وإن شاء الله سأعرض لتقييم حركة المنبر المعاصر في فصل قادم .
    لقد آن الأوان لأن تتكثّف جهودنا بكلّ مراكز القرار الموجودة عندنا من أجل تهيئة الظروف لمنبر طُلَعَه ولا أعتقد أنّ مواصفات أمثال هذا المنبر بعيدة عن أذهان فضلائنا . إنّ المنبر الموهوب من أهمّ ما يلزمنا في هذا العصر لأنّه يتميّز عن باقي الوسائل الحضاريّة وآليات الإعلام بأنّه هو الذي يوصل المعرفة لأذهان الناس بغطاء غير ميسور للوسائل الأخرى ألا وهو عاشوراء ومقدّساتها التي تجذّرت وعادت موسماً يتشوّف إليه المسلمون كلّ من زاويته التي يتوخّاها . كما أنّ النوادي التي يعقد فيها المجلس ـ الحسينيات ـ صارت بدائل تجتذب الناس من أماكن أخرى تشغلهم بفعاليات إن لم تفسدهم فهي تذهب بأوقاتهم بعيداً عن الفائدة ولا تحقّق المزايا التي تحقّقها هذه المجالس من تواصل في أجواء تسودها روح القداسة ومن تهيّؤ نفسي لأخذ زاد من المعرفة ومن تحرّك في طريق العقيدة وبعد ذلك كلّه مثوبة من الله . إنّ عماد ذلك كلّه هو الخطيب الفاضل ، فإنّ الأماكن التي توفّر بها كلّ وسائل الترغيب وتخلو من منبر فاضل تبقى فقيرة في عدد روّادها الواعين وفي الفائدة المرجوة منها . أمّا ما نراه من حشد عند بعض المنابر التي تخلو من الأصالة والعلم فإنّ الزمن كفيل بتوعيته ثمّ لابدّ أن يكون ذلك كذلك لوجود شرائح محدودة في فهمها وإدراكها . غير أنّي أقول : إنّ مثل هؤلاء أمانة فى عنق المنبر فيجب عليه أن يرفع مستواها ويعمّق وعيها لا أن يستغلّ بساطتها على حساب العقيدة والأصالة وعلى حساب الطائفة ككل .





    تعريف الخطابة


    عند اللغويين هي اسم للكلام أو هي الكلام المنثور المسجع ونحوه ، هكذا عرفها صاحب لسان العرب والمنجد وغيرهما في مادة خطب . أمّا علماء المنطق فقد عرفوها بما يلي : هي صناعة علمية يمكن بسببها إقناع الجمهور في أمر يتوقع حصول التصديق به قدر الإمكان ، وبنفس مضمون هذا التعريف عرفها أستاذنا الرضا المظفر في كتابه المنطق . والخطيب عند علماء اللغة هو ناقل الكلام أو حَسنُ الخطبة ويتوخى من الخطابة تهيئة النفوس لقبول ما يريد إقناعهم به . إنّ مضمون هذه الجمل يوضح لنا معنى الخطابة والخطيب الذي نريد أن نلج منه إلى معنى الخطابة الحسينية التي هي من مصاديق الخطابة العامة بالجملة وموضوعها وإن اختلف في مادته فهو ليس بخارج عن عنوان الكلام وإنّما هو كلام يتناسب ونوع الهدف الذي هو الآخر لا يخرج عن التعريف لأنّ هدف الخطابة الحسينية ينصبّ في أصله على تهيئة الجماهير للإيمان بمضامين تتعلق بواقعة الطفّ من حيث أسبابها وأهدافها ومفردات الحوادث التي وقعت بها وما نجم عنها بعد ذلك إلى غير ذلك من بحوث تستهدف في الخطابة حمل الناس على الاّيمان بمضمونها عن طريق الإقناع .
    ولمّا كانت هذه المضامين تخاطب المسلمين وغير المسلمين فهي تحاول إقناع غير المسلمين بأن من اجترحوا إثم الواقعة من الأمويين انسخلوا عن أبسط مقوّمات الإنسانيّة وتحوّلوا إلى وحوش كاسرة ممّا يكشف عن فظاعة ما قد ينتهي إليه الإنسان من هبوط يترفّع عنه حتى الحيوان أحياناً . وتخاطب المسلمين لتقنعهم بوجاهة ومشروعية نهضة الحسين التي لها مبرّراتها الشرعية من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والوقوف بوجه هجمة استهدفت رسالة الإسلام مجسّدة في شخص الحسين وأشخاص أهله من العترة الطاهرة وإن بدا ذلك غريباً أن نلتمس لسيد شباب أهل الجنّة طُرقاً لتبرير مشروعية ثورته التي لا تحتاج لذلك ما دام قد نعته رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بسيّد شباب أهل الجنّة ولا يمكن أن يسود أهل الجنّة من يخرج عن ضوابط الإسلام وما دامت عشرات النصوص تضع الحسين (عليه السلام) في امتداد النبوّة وتحوطه بحصانة الإسلام ; فهو إمام إن قام أو قعد ، وهو سنخ من سنخ رسول الله ، وهو ريحانة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وهكذا ، ولكن من يخاطب من المسلمين بذلك نشأ بأجواء بعيدة عن فهم من هم أهل البيت وليس مكان الشرح هنا . ومن هنا يتبيّن أهمّية موضوع الخطابة الحسينية وبعدها الرسالي وموقعها من صميم العقيدة وذلك لأنّ السواد الأعظم من المسلمين وغيرهم لم يوضع بهذه الأجواء بل وضع بعكسها فهو بحاجة لأن ينتقل إلى أجواء موضوعية تريه الحقيقة كما هي .
    إذاً فالخطيب إنطلاقاً من تعريفه بأنّه ـ حسن الخطبة ـ يستبطن هذا التعريف الأمور التالية :
    1 ـ أسلوب الطرح وهو أمر مهم يكون له أبلغ الأثر على السامع كما يحدد مكانة الخطيب ومنزلته من نفوس السامعين ومن سكب المضمون الذي يريد إيصاله إلى الآخرين في عبارات مناسبة ومهذّبة تخلو من التبجح والإدّعاء وتستعمل المفردة التي لها وقع في نفوس الجمهور فإنّ المفردة الكلامية كما يكون لها في الشعر دور كبير كذلك هي في النثر . لقد رأينا النقاد الأدباء يشيّدون بقول الشاعر : «وسالت بأعناق المطي الأباطح» فيعتبرون كلمة (سالت) هنا هي عماد القصيدة ، وكذلك يعتبرون جملة وردت في رثاء متمّم بن نويرة لأخيه مالك بن نويرة (رحمه الله) ذات تأثير كبير وهي :


    لقد لامني عند القبور على البكا***رفيقي لتذراف الدموع السوافك


    وقال أتبكي كلّ قبر رأيته***لقبر ثوى بين اللوى فالدكادك


    فقلت له أنّ الشجا يبعث الشجا***فدعنى فهذا (كلّه قبر مالك)(1)


    ذكره الأغاني في رثاء متمم لأخيه وذلك في ترجمة متمّم والكامل للمبرّد وديوان الحماسة لأبي تمام . أمّا في النثر فإنّ القرآن الكريم والحديث النبوي وأحاديث الصحابة وأهل البيت طافحة بالشواهد على ذلك . وممّا له صلة بأسلوب الطرح هو تفصيل الثوب من الألفاظ بقدر المعنى بدون أن يكون فضفاضاً أكبر من المطلوب أو ضيّقاً أصغر من حجم المشمون وأذكر هنا حادثة جرت للمأمون مع أحد الأعراب :
    فقد صعد المأمون المنبر في أحد الأيام وانطلق بخطبة ورأى من نفسه انشراحاً فأطال وأكثر من الألفاظ للمعنى الواحد ، ولمّا نزل سأل ذلك الأعرابي وقال له : ما تعدّون الفصاحة والبلاغة عندكم ؟ قال الإفادة مع الإيجاز . فقال : فماذا تعدّون العي ؟ قال : ما كنت فيه منذ اليوم يرحمك الله .
    إنّ لهذا المعنى دوراً مهمّاً في مقبوليّة الخطبة والخطيب . ومن أهمّ ما يتصل بأسلوب الطرح ارتباطه بظروف الأداء من مختلف جهات الظروف ; فبعض ما يطرح في زمان قد لا يصلح للطرح في زمان آخر ، وكذلك بعض ما يطرح في بعض الأمكنة قد لا يطرح في مكان آخر ، فليس من الذوق في شيء أن تطرح في مجلس كلّه من الناس


    ــــــــــــــــــــــــــــ


    (1) الأغاني ج15 ط أوفست بيروت ترجمة متمّم بن نويرة .

    العاديين الأدلّة الأصوليّة أو الفقهية على أنّ الغسل أو المسح على الرأس في الوضوء هل يستوعب الرأس كلّه أم يكفي بعضه بل يذكر لهم مجمل نتيجة الأدلّة في كفاية مسح بعض الرأس . وأمّا مقارعة الدليل بالدليل والحجّة بالحجّة فهذا من شأن ذوي الفضل والمكانة العلميّة . وبالجملة إنّ أسلوب الطرح مهارة يجب أن يتقنها الخطيب ويتصيّدها من مصادرها وخصوصاً من أساتذة الفن .
    2 ـ كذلك إنطلاقاً من التعريف يتعيّن تتبّع العلامات البارزة والأحجام المرموقة التي لها إسهام في المشاركة بالطف فإنّ ذلك بالإضافة إلى كونه مادة دسمة في مضمون المنبر فإنّه يثبت معنى القدوة في نفوس قد تكون ضعيفة تشعر بالتذمّم من ممارسة أمثال هذا اللون من الشعائر ، فعلى سبيل المثال إذا عرف السامع أنّ شرائح متنوّعة ولامعة في تاريخنا كانت تقيم مجالس العزاء للحسين كالفاطميين وتفاصيل ما كانوا يقومون به وكالبويهيين والحمدانيين وبعض حكّام الهند من غير المسلمين ومثل ما روي عن رأس الجالوت كما نصّ عليه ابن سعد في الطبقات حيث ذكر أنّه قال للأمويين : والله إنّ بيني وبين داود لسبعين أباً وإنّ اليهود لتلقاني لتعظمني وأنتم ليس بينكم وبين نبيّكم إلاّ أب واحد وقتلتم ولده ، ومثل إسهامات الكتاب الغربيين في تأبين الحسين ممّن تعرّضت لهم كتب الطف . إنّ كلّ ذلك ينبغي أن تشرح تفاصيله تحقيقاً للهدف المطلوب من أهمّية الواقعة وتأصيلها في النفوس بما لها من زخم يلتقي والأهداف التالية التي سنعرض لها .
    3 ـ العمل بمهارة على وضع المستمع المسلم أمام مسؤوليّته في عدم التحرّج من عمل يحبذه الإسلام بتشريعه وإشخاصه نظريةً وممارسةً ودعوة المسلمين إلى فهم ذلك جيّداً لجعل المسلمين في هذه الأجواء وعدم ابتعادهم عن أمر يحقّق لهم أجراً وإفادة في فهم خلفيّاتنا التاريخيّة وتصحيح كثير من المسارات التي أخذ المنبر يساهم في إلقاء الضوء عليها ، فأنا واثق من أنّ كثيراً من المسلمين يجهلون أدلّة مشروعيّة المجالس الحسينية وإباحة البكاء على مطلق الموتى من المؤمنين والحزن عليهم ورثائهم بدليل بكاء النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يوم مات عمّه أبو طالب ويوم شهادة عمّه حمزة ويوم شهادة شهداء مؤتة ويوم وفاة ابنه ابراهيم ، وبكاء سيّدة نساء العالمين فاطمة (عليها السلام) على جعفر بن أبي طالب وأمر النبي بالبكاء على حمزة ، وبكاء عمر بن الخطاب على أخيه زيد وبكاء عائشة أمّ المؤمنين عند قبر أخيها عبدالرحمن وبكاء الخنساء وهي صحابية جليلة على أبنائها ورثائهم وهكذا(1) . وقد روى ابن عساكر بإسناده إلى عكرمة مولى ابن عباس وهو من مصادر أهل السنّة وشيوخهم أنّه قال : عجباً لقول الناس يزعمون أنّ عمر بن الخطاب نهى عن النوح ولقد بكى على خالد بن الوليد بالمدينة سبعاً ومعه نساء بني المغيرة يشققن الجيوب ويضربن الوجوه وأطعموا الطعام تلك الأيام حتى مضت وما نهاهنّ عمر وقد روى ذلك البلاذري في أنساب الأشراف في ترجمة خالد بن الوليد(2) وأعتقد أنّ التوفّر على مثل هذه الوقائع لا يترك مجالاً لمعترض ويحمل المسلم على الإذعان .
    وفي الوقت ذاته التحرّك بحذر ومنتهى البراعة في إدانة خصوم أهل البيت ومن اشترك في أحداث واقعة الطف وذلك كعمليّة ترويض لأعصاب كثير من المسلمين الذين لا يسهل عليهم الإعتراف بأنّ يزيد وأهله يمكن أن يصدر منهم ذلك وهم يتمتّعون بحصانة الصحابة ، إنّ العمليّة تحتاج إلى صبر طويل وجهد كبير لعرض الآثار المرويّة في ذلك وإيراد آراء علماء أهل السنّة في تقال يزيد مثل الكياهراسي وابن مفلّح والحسيني وأبو يعلى الحنبلي والألوسي وغيرهم(3) . إنّ التفكير السائد عند القاعدة الشعبيّة من أهل السنّة بل وحتّى الخواص لا يسمح بالقدح بمن حكم ، فالحكّام عند هؤلاء هم شريحة مقدسة :
    يقول الإسفراييني : تنعقد الإمامة بالقهر والإستيلاء ولو كان فاسقاً أو جاهلاً أو عجمياً .


    ــــــــــــــــــــــــــــ


    (1) يراجع الغدير للأميني ج6 فصل نوادر الأثر ، والتعازي والمراثي للمبرّد ط الشام .


    (2) أنساب الأشراف للبلاذري ترجمة خالد بن الوليد .


    (3) يراجع حياة الحيوان للدميري باب فهد ، ومقتل السيد عبدالرزاق المقرم ط بيروت .

    وقال المحاسبي : جمهور السلف على أنّه إذا أحسن ـ أي الإمام ـ كان صلاحاً للرعية ، وإذا أساء وفجر كان فساده جوراً في الرعية ، والصبر على الإقامة معه وترك مفارقة دولته جائز ، ويكون بينك وبينه ستر الخ ..
    وقال حذيفة : ليس من السنّة أن تشهر السلاح في وجه السلطان ، قال النبي : (سترون بعدي فتناً وأثره . قيل : فما تأمرنا بعد يا رسول الله ؟ قال : أعطوا الحقّ الذي عليكم وسلوا الله الذي لكم) ثمّ قال : وهذا أصل عظيم من أصول الإسلام(1) .
    وبالجملة المسألة من الواضحات في الآثار السنيّة وقد أشبعت بحثاً وتفصيلاً والتمس لها كثير من الأدلّة ونشأ عليها القوم وعند التأمّل لا نجد لذلك مبرّراً إلاّ أنّهم وصلوا للحكم ولا يسعني في هذه العجالة أن أشبع البحث في تتبّع أقوالهم التي تؤكّد أنّ المبرّر الوحيد هو كونهم حكّاماً . وإذا كان ذلك كذلك فليس من السهل تحميل هؤلاء الحكّام شيئاً من المسؤوليّة هذا من ناحية .
    ومن ناحية أخرى من غير اليسير إدانتهم بما فعلوا وسترمى بالكذب إن نسبت لهم شيئاً من المعاصي وقد تترافق مع ذلك ملاكات أخرى تشكّل سبباً مهمّاً لهذه المواقف ويعرف ذلك جليّاً في الموقف من المتوكل العباسي ـ محي السنّة ومميت البدعة ـ ومن وطّد أركان الدين وإن عمل الدواهي وأسرف في سفك الدماء وجاهر بالمعاصي وعاش بين فجور الجواري ومجون عبادة المخنّث وولع بالخمر حتى آخر أيامه حيث قتل وهو سكران ووقع لحمه في كؤوس الخمر ممّا بعث البحتري أن يرثيه بقوله :


    هكذا فلتكن منّا يا الكرام***بين ناي ومزمر ومدام


    بين كأسين أردياه جميعا***كاس لذّاته وكأس الحمام(2)


    ــــــــــــــــــــــــــــ


    (1) يراجع الإلهيات على هدي الكتاب والسنّة للشيخ جعفر السبحاني ، ونظام الحكم والإدارة محمّد مهدي شمس الدين .


    (2) مروج الذهب ج2 ترجمة المتوكل .

    فيتعيّن والحالة هذه على الخطيب أن يتحرّك بوعي وحذق عند معالجة أمثال هذه الجوانب وإلاّ سنخسر شريحة كبيرة نريدها أن تفهم مواقفنا .
    وإنطلاقاً أيضاً من نعت الخطيب بأنّه حسن الخطبة فإنّ حُسن الخطبة مفهوم يندرج تحته مضافاً إلى حسن المفردات اللفظية حسن التعليل المؤدي إلى إصابة الهدف الذي يريد الخطيب إقناع الجمهور به . فليس بالتعليل الناضج ولا المقبول وضع واقعة الطف في الدائرة الشخصية التي حاول البعض أن يحشرها فيها إمّا عن غفلة أو سوء قصد في حين أنّ ثورة الحسين (عليه السلام) حملت هموم الإنسان بما هو إنسان ويدخل ضمن ذلك الإنسان المسلم بصورة أكيدة ودليل ذلك أنّها حملت أطروحتها التي هي مبادئ الإسلام التي هبّت تصارع مبادئ الجاهليّة والتي أيقظها يزيد بعد أن خمدت فترة طويلة ونحن نعرف أنّ مبادئ الإسلام أحكام موضوعها هو الإنسان وجوداً وإدامةً كما أنّها تحمل معالجة الثغرات التي يتعرّض لها المجتمع من ظلم وجور ومفارقات أخرى من أمراض إجتماعيّة تنخرّ في جسم الأمّة . إنّ هذا المضمون في تحديد هوية الثورة أوضحته جملة من النصوص التي جاءت على لسان الحسين (عليه السلام) ولسان مسلم بن عقيل (عليه السلام) ولسان زينب بنت علي (عليه السلام) وغيرهم ممّن هم في صميم الحركة ومن هم في قلب الصدق من تشخيص البواعث وستأتي الإشارة لذلك إن شاء الله .
    فموقف الحسين (عليه السلام) يوم الطفّ هو موقف المقاتل دون القيم التي لا حياة بدونها إلاّ نمطاً من الحياة لا يلتقي والكرامة الإنسانيّة ، ولعلّ أبلغ وأبدع صورة رسم الحسين (عليه السلام)بها هذا المعنى هي قوله في خطبته التي وصف بها الأمويين وموقفهم من الأمّة التي جاءت تقاتل وتدافع عن قاتليها ـ من غير عدل أفشوه فيكم ولا أمل أصبح لكم فيهم ـ فهم بالفعل يحكّمونكم بالجور والعدوان ، ولو كان هناك منفذ للخروج من هذا الواقع المرّ لهان الأمر ولأصبح التطلّع إلى الخلاص مبرّراً للتحمّل الموقّت ، ولكن لا أمل أصبح لكم فيهم ، فأنتم أسارى في قبضة الواقع المرّ وأرواح في قبضة اليأس من التغيير فهل بعد هذا النصّ وأمثاله ممّا يكشف حمل الحسين لهموم الأمّة أن يتصوّر البعض أنّه إنّما قاتله يزيد وقاتل هو يزيد من أجل عداء بين أسرتين أو من أجل أنّ الحسين (عليه السلام) كسب الجولة في خطبة أرينب بنت إسحاق دون يزيد فكان ذلك باعثاً على العداء ، ـ ولسنا نمنع أنّ ربّما يكون شيء من ذلك في دائرة وعي يزيد ولكنّه ليس هو السبب في إصرار يزيد على قتال الحسين وحدوث واقعة الطف ولكنّه التيّار الجاهلي القرشي بكلّ تداعياته حشد قواه ليصارع قيم الإسلام التي لا تلتقي مع الأمويين خلقاً ولا وضعاً ، إنّها الجاهلية أرادت أن تعيد لها مكاناً تحت الشمس مرّة ثانية وإن لبست ثوباً من أثواب الإسلام وحملت شعار الوقوف بوجه شقّ عصى الطاعة ومحاربة خليفة المسلمين ، ولكن ظهر من تحت هذا الثوب وجه عبدالله بن الزبعري استعار سحنته واستعادها استشهاد يزيد بأبياته التي منها :


    لعبت هاشم بالملك فلا***خبر جاء ولا وحي نزل(1)


    وقد عقّب البيهقي بعد استعراض أبيات عبدالله بن الزبعري بقوله : إن كان (يزيد) قاله فقد ضمّ إلى فعل الفجّار في قتل الحسين وأهل بيته أقوال الكفار ، وما أدري ما موقع إن الشرطية هنا بعد أن اعترف أنّه قتل الحسين (عليه السلام) وأهل بيته ، ومن يقدم على قتل الحسين فهل يتوقف من الإعلان عن حقد مكبوت ونزعة قبلية حاقدة وما كان استهداف الحسين جسداً بقدر ما كان مستهدفاً مبادءاً وموقفاً وهو موقف كافر .
    وما فات السيدة زينب بنت أميرالمؤمنين أن تلزمه تبعة ما طفح على لسانه وذلك بخطبتها حيث قالت : «ثمّ تقول غير مستأثم ولا مستعظم لأهلّوا واستهلّوا فرحاً منحنياً على ثنايا أبي عبدالله تنكتها بمخصرتك» وخطبة السيدة زينب وثيقة دامغة وقد أوردتها جملة من المصادر الموثوقة ومنها نثر الدر للآبي ومقتل الخوارزمي وغيرهما . وهذا المزاج لم يقتصر على يزيد بل هو مزاج جملة الأمويين إلاّ القليل ، أوما وقف عمرو


    ــــــــــــــــــــــــــــ


    (1) مقتل الخوارزمي .

    الأشدق يخاطب النبي وقد توجّه لقبره ليقول له ثار بثارات بدر يا محمّد ثمّ يقول :


    عجّت نساء بني علي عجة***كعجيج نسوتنا غداة الأرنب(1)


    إنّ هذه النصوص تثبت أنّ الصراع بين تيّارين علوي حمل الإسلام وأموي حمل الجاهلية وإذا كان ذلك هو جوهر الصراع فالنتيجة الحتمية أنّ محتوى نهضة الحسين هو اجتماعي ضرورة أنّ الإسلام جاء لحماية الإنسان وجوداً وحقوقاً . وهذا المعنى هو الذي يسلك نهضة الحسين ومنبر الحسين تبعاً لها في أفق أوسع من الأفق الخاص ويحمل المنبر مسؤولية الصعود إلى هذا المستوى ، فإذا تخلّف عن ذلك فلا يمكن أن يقال أنّه بمستوى المسؤولية .
    وينبغي التنبّه هنا إلى نقطة وهي أنّنا عندما نصرّ على إدانة الأمويين على موقفهم يوم الطف وعلى ضرورة بقاء المنبر نافذة تطل على مساحة واسعة منها مساحة كربلاء بملابساتها فإنّ سرّ ذلك ليس الحقد على الأمويين وقد ماتوا وذهبوا ، ولا نبش الضغائن كما يذهب إليه تصور البعض ، ولكن نريد تصحيح المسار في تراثنا التاريخي الذي يتفاعل مع أمزجتنا ويربّيها وبناءاً على هذا فأيّ كارثة أعظم من أن نجعل يزيد مثلاً من مثلنا العليا وخليفة مسلماً نترسّم آثاره وهو من هو في ما يؤثر عنه من السلوك ثمّ ننتهي تبعاً لذلك إلى تشويه معالم نهضة جاءت لتزيح ما وضع من عقبات في طريق استمراريّة روافد الإسلام التي زحمها التيار الجاهلي مرّة ثانية على يد بني أمية . وكان هذا التيار وما زال يجد له من يحسن صورته ويريد أن يلبسه طيلسان خلافة مشروعة ويضع الخارجين في نطاق الخوارج والبغاة وإن كان فيهم سيد شباب أهل الجنّة .
    وهنا نقول : أنّ المنبر والقلم والكتاب جميعها مدعوة إلى المحافظة على ضمير الأمة من التلوث ، فإنّ الأمم لا تصاب بمصيبة أعظم من مصابها بمثلها العليا وقيمها . ولم


    ــــــــــــــــــــــــــــ


    (1) طبقات ابن سعد فصل مقتل الحسين ج8 فصل مجلس يزيد .

    يكن من الصدف أن يحارب المنبر الحسيني سواء كانت مساحته واسعة أم ضيّقة حرباً شعواء وذلك لأنّ الذين يحاربونه يرون فيه أنّه شيء من الشعاع الذي يفلت من الرقابة وقد يضيء جانباً من الدهاليز المظلمة في تاريخنا الذي نريد أن نضرب حولها سياجاً من القداسة بدعوى مكافحة الهدم والمحافظة على قداسة التراث والموروث وإن كان هذا المغطى قد انكشف ولكنّنا نغمض عيوننا لئلاّ تبصر ونحسب الآخرين كذلك ، ولم نكلف أنفسنا عن مصادر القوّة والبناء في تاريخنا وفيها الكفاية عن تاريخ منخور وتراث مزوّر .
    إنّ المنبر ما جاء ليهدم لأنّ الحسين (عليه السلام) ما نهض ليهدم والمنبر لسان من ألسنة النهضة ينبغي أن يعبّر عن أهدافها ويصحّح التصورات الخاطئة عنها . لقد وجد من يقول إنّ منابركم ما هي إلاّ مناحة تعتصرون فيها دموعكم اعتصار الأمة الوكعاء لدموعها وهو قول مجاف للحقيقة ، فإنّ من الوضوح بمكان أنّ تأكيد أئمّة أهل البيت (عليهم السلام) على عقد مجالس يندب فيها الحسين ويبكى عليه هو مجرد مفردة من مفردات وظفت لهدف أكبر وإلاّ فلا داعي لمن يريد أن يبكي لأن يجتمع بالآخرين كما أنّ مجرد بكاء الإنسان الذي قد يكون سهلاً ورخيصاً لا يعادل ما دفع له من جزاء . إنّ الهدف الذي ندب أئمّة أهل البيت الناس إلى الإجماع من أجله تسليط الضوء على ما قام به الغاصبون المبتزّون من غصب الحق وإبعاد الحكم عن قايدة دستورها القرآن ومودّى ذلك حرمان الأمة من حياة كريمة ذلك هو سرّ الإصرار على استعراض واقعة الطف والمجزرة البشعة التي استأصلت حملة مزاج محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم) .
    إنّ عقد المجالس يهيّىء الأمزجة إلى انفعال يمكن استثماره ـ وهذا مفاد قول الإمام (أحيوا أمرنا) ، يقول أحمد بن عبدان بسنده عن الإمام الصادق (عليه السلام) ، سمعته يقول لأصحابه : (إنّكم تذكرون مصيبتنا وما منعنا من حقوقنا فأيدينا من حقوقنا صفرات ؟ فقالوا : بلى يابن رسول الله ، وإنّا لنبكي على ذلك . فقال : طوبى لريحكم وأرواحكم ، ضمنت لكم بضمان الله وضمان رسوله وضمان عليّ بن أبي طالب فأعينونا على تلك بورع)(1) . أرأيت ضخامة هذه الضمانات هل تكون جزاءاً لإنسان قد يحصل منه البكاء على شيء بسيط ، ألم يكن ممّا يؤيّد ذلك توظيف المفردة الشعرية والتي تحمل هموماً لا تنحصر في دائرة مأساة الطف ممّا يبرهن على أنّ الهدف أكبر .
    لقد روى الحافظ ابن عساكر في ترجمة الكميت من تاريخ دمشق بسنده عن الكميت قال : قلت لمحمّد بن علي ـ يعني الباقر (عليه السلام) ـ قلت أبياتاً إن أظهرتها خشيت على نفسي وإن كتمتها خشيت على ديني . فقال : هاتها ، فأنشده الكميت قصيدته التي مطلعها :


    نفى عن عينيك الأرقُ الهجوعا***وهمّ يمتري منها الدموعا


    إلى أن قال :


    ويوم الدوح دوح غدير خم***أبان له الولاية لو أطيعا


    ولكنّ الرجال تبايعوها***فلم أرى مثلها خطراً مبيعا


    ووصل لقوله :


    فقل لبني أميّة حيث حلّوا***وإن خفت المهنّد والقطيعا


    أجاع الله من أشبعتموه***وأشبع من بجوركم أجيعا


    إنّ مضامين هذا الشعر ليست ممّا يدخل في نطاق البكاء والدمع ولكنّها صرخة في وجه الظلم ولائحة كتبت فيها حشرجات المخنوقين ونهدات الجائعين من أجل ذلك رفع الإمام الباقر يديه إلى السماء وقال : (اللهمّ اغفر للكميت)(2) .
    ومن هنا انطلاقاً من كون الأئمّة من أهل البيت قد وظّفوا الدمع مع جملة من المفردات للنفوذ إلى ما هو أهمّ من هموم الأمّة : نعرف أهمية رسالة المنبر . لقد أصبحت مسألة واقعة الطف في المنبر الحسيني مجرد عنوان بينما توسّعت مادة المنبر لتتناول معظم


    ــــــــــــــــــــــــــــ


    (1) أمالي الشيخ الطوسي ج1 الحديث 35 بتوسط عبرات المصطفى ج1 ص247 .


    (2) تاريخ دمشق لابن عساكر ترجمة الكميت .

    أبعاد المعرفة . وكان من التوفيق في تسديد خطوات المنبر أنّه اجتاز بعض المظاهر التي كانت من مواده ، ولتوضيح هذه النقطة أذكر أنّ المنبر باعتباره منفذاً من منافذ التعبير الثقافي عن الذات كان يتأثّر بالأحوال السائدة لعلاقات فرق المسلمين بعضهم ببعض والتي قد تتّسم بالتهاتر والقفز على الحقائق وعدم الموضوعية وغير ذلك وفي أجواء من التشنج فكان انخراط المنبر ضمن هذه الحلبات أمراً لا مفرّ منه ولكن ولله الحمد أخذ المنبر يرتفع عن هذا المستوى ويرى أنّ وظيفته الإسلامية الإبتعاد عن الشتم وإذكاء نار الفتن والوقوع في مستنقع الطائفية ، وإذا أراد أن يتناول شيئاً من المعلومات للدفاع عن العقيدة ودحض بعض الشبه والإفتراءات يتناوله بأعصاب هادئة وبأسلوب الباحث عن الحقيقة هذا في الأعم الأغلب ، أمّا الحالات النادرة فلا تعدم الساحة الإسلامية شرائح لا يروق لها أن يعمّ الوفاق والوئام بين المسلمين لأنّها ستفقد أهمّ مبرّرات وجودها .
    ولكي لا أكون خيالياً يسبح في الأحلام أقول : يجب أن يتبنى المنبر الدعوة إلى أن يتعايش المسلمون فيما بينهم على أساس من الإسلام مع بقاء كلّ منهم على ما عنده من آراء ما دام يقرّ بالشهادتين ولا ينكر ضرورة من الضرورات الإسلامية ، وإلاّ فليس من الواقعية في شيء أن ندعو المسلم إلى الإنسلاخ ممّا يحمله من آراء والإنتقال إلى الآراء المقابلة ، ولكن تشرح له الحقائق ويُدعى لدراستها ويترك له الإختيار والسير حسب قناعاته وحسابه بعد ذلك على الله وإليه وحده ، إنّنا ندعو إلى منبر من بعض مهمّاته بل وفي رأس مهمّاته القيام بدور الدعوة إلى التعايش تحت لواء الإسلام .
    ولا يفوتني في هذه السطور أن اشير إلى ما يتعلّق بالتعريف الذي أورده المناطقة للخطابة وهو قولهم : أنّها صناعة علمية يمكن بسببها إقناع الجمهور في أمر يتوقع حصول التصديق به ، إنّ إتقان الخطيب لهذه الصناعة عن طريق دراسة الوسائل المؤدية لذلك هو أمر في غاية الأهمية لأنّه يعطي الخطيب قدرة على فهم وسائل الإقناع ويضمن له نسبة عالية من النجاح في أداء مهمّته ويختصر الجهد على الخطيب في طريقه للمنبر الناجح ومن أجل ذلك كان هذا المعنى أعني فهم طريقة التفاعل مع الجمهور لإقناعه بتغيير موقفه هذا الأمر كان موضع اهتمام علم النفس الإجتماعي الذي بحثه وأفرد له في مجال معالجاته مساحة لا بأس بها وذلك في باب الدعاية ودراسة اتجاهات الرأي العام والعمل بنتائج تلك الدراسات لتحقيق الهدف(1) .
    ولا يفوتنا التنبّه إلى كلمة إقناع الواردة بالتعريف ، فإنّ الإقناع غير الإملاء وغير فرض الآراء ولا يتمّ بدون معرفة المناهج المعدّة لذلك ولإن كان للعصور السابقة لغة فلهذا العصر لغة أخرى خصوصاً إذا كان الأمر يتعلّق بأعمق مشاعر الإنسان وهي مشاعره العقائدية التي يتحمّل المنبر جزءاً كبيراً من معالجتها ويدعى إلى أن يكون أحد الوسائل الفاعلة في هذا الميدان المهمّ جدّاً .
    وهنا وفي ختام هذا المدخل أشير إلى أني عندما أطلب منبراً متّصفاً بهذه الأوصاف وخطابة لها هذه السّمات فإنّي لا أطلب أن يقوم بذلك ناس من خارج نطاق المنبر أستثير نخوتهم ليبادروا إلى القيام بخطوات إصلاحية في هذا المجال حتى يكون هذا الطلب مثيراً لحساسية إخواني من الخطباء لأنّه يضعهم في نطاق الأيتام الذين يحتاجون إلى وصاية عليهم كلاّ ، وإنّما أوجّه خطابي إليهم للقيام بعمليّة إصلاح المنبر ولا يمنع ذلك من الإستعانة ببعض ما قد نفتقر إليه ، وهذاالمعنى يذكرني بقول الإمام أميرالمؤمنين (عليه السلام) حينما سأل عن موقف الأنصار يوم السقيفة فقالوا له : إنّ الأنصار قالت : منّا أمير ومنكم أمير . قال : فهلاّ احتججتم عليهم بأنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وصّى بأن يحسن إلى محسنهم ويتجاوز عن مسيئهم ، قالوا : وما في ذلك من الحجّة عليهم ؟ فقال : لو كانت الإمامة فيهم لم تكن الوصية بهم(2) .


    ــــــــــــــــــــــــــــ


    (1) علم النفس الإجتماعي ص28 ط بيروت 1967 لمؤلفه أوتو كليبرت .


    (2) شرح نهج البلاغة .

    وهنا أقول : لو كنت أريد من غيرهم الإصلاح لوجّهت إليه الخطاب ولم أوجّهه لهم ، إنّ المنبر الحسيني والحمد لله وصل إلى مستوى جيّد وهو في طريقه إلى ما هو أجود وإنّ التبعة في إصلاح بعض جوانبه تلقى على عواتق أهله ، فإنّ لكلّ واحد منهم في مسيرته تجربة يمكن الإستفادة منها في ميدان الإصلاح ، فلم يعد المنبر يعيش على هامش الحياة وإنّما ولج في صميمها وتحوّل إلى جزء من ثقافة الشيعة بالخصوص ومعنى ذلك أنّه اعدهما من همومنا التي نتعامل معها ونعالج ثغراتها والله المسؤول أن يعيننا على ذلك .[/align][/align]
    يا محوّل الحول والاحوال ، حوّل حالنا إلى أحسن الحال......








  8. #8
    تاريخ التسجيل
    Jul 2004
    الدولة
    هناك
    المشاركات
    28,205

    افتراضي

    [align=center]

    انعكاس البيئة على وضع الخطيب


    (البيئة النجفية)



    البيئة بقسميها الطبيعية والإجتماعية تتدخّل تدخّلاً مباشراً في نشاط الإنسان الإقتصادي والإجتماعي وحتى حركته من حيث القوّة والضعف ، وخطباء المنبر من ضمن من يتعرّضون لهذا التأثير كما سنرى بعد استعراض بيئة النجف بقسميها .
    إنّ بيئة النجف الطبيعية بيئة قاسية اشدّ القسوة لأنّها في وسط صحراء وليست على نهر أو ينابيع وما فيها إلاّ آبار عميقة القعر يستخرج مائها للتنظيف والإستعمال الشخصي ، أمّا ماء الشرب فيصلها عن طريق جدول يتفرّع من الفرات عند جنوب أبي صخير ويمشي في بحر النجف حيث تعيش عليه زراعة بسيطة وينقل مائه بالقرب للشرب وبقي الحال هكذا حتى أوائل العقد الخامس الميلادي بعد الألف والتسعمائة حيث مدّت الأنابيب من مشروع حكومي للماء والذي سبقه مشروع صغير أسّسه معين التجّار وكان يقتصر على بيوت خاصة . ومن الطبيعي أنّ الخير والنماء موقوفان على الماء .
    وقد عاشت النجف حياة قاسية في فترات شحة الماء لسبب وآخر يضاف لذلك حرارة الجو وجفافه والذي يتحوّل البلد معها إلى أتون من اللهب كنّا نضطرّ معه أن نلتجىء إلى السراديب التي تهبط عن مستوى سطح الأرض أحياناً إلى خمسين سلمة وقد نبيت ليلا فيها إذا وقف الهواء ، والذي يساعد على الشعور بالشفاء ندرة المال ويبوسة الحياة وقلّة الأعمال إلاّ بعض الحرف البسيطة والمحدودة الأمر الذي أدّى إلى أنّ من يعرف بأنّه غني لا يتجاوز عدد الأصابع .

    وكان من أهمّ موارد النجف ما تحصل عليه من مواسم الزيارة وتجهيز الجنائز التي تنقل لتدفن في وادي السلام كما هو معروف ، ولست بصدد الإفاضة في ذلك فالمسألة معروفة . ولكنّي أريد لفت النظر إلى أنّ بلداً كهذا تشحّ فيه الموارد ، وتشتدّ فيه المنافسة في طريق الحصول على الرزق ، فإنّ معظم شرائح السكّان لا وفر لديهم إلاّ ما يسدّ حاجاتهم الأساسية ، فكيف يتاح للقاعدة أن تكون في توسّع بالأمور المستحبّة كعقد المجالس الحسينيّة . فكانت المجالس معدودة ومقصورة على المبرزين وبعض الأفراد ذوي السعة ثمّ بعد ذلك ومع تنامي الأحوال بدأت تنعقد مجالس على مستوى المهن والفئات مثلاً مجلس باعة الأقمشة ، ومجلس تجّار الحبوب ومجلس الخياطين ومجلس النسّاجين وهكذا .
    وكان الوسط الديني ينقسم إلى قسمين رئيسيين هما ـ رجال الدين ـ الملائية ـ والخطباء . أمّا الملائيّة فموارد تعيشهم من الحقوق الشرعية والهبات والمصادر الأخرى ذات العلاقة بذلك . وأمّا الخطباء فمورد تعيّشهم مقصور على ما يحصلون عليه من القراءة في المجالس التي تقام لإحياء ذكرى الحسين (عليه السلام) سواء في النجف أو خارجه ، ولك أن تتصوّر مقدار التنافس وشدّته مع قلّة المجالس وكثرة من يمتهن الخطابة ، ومن يمتهن الخطابة عدد كبير لأسباب كثيرة لا أريد شرحها . وتصل الأمور من أجل الحصول على مجلس بسيط داخل النجف إلى حدّ التملّق لبعض الأشخاص والمجاملة غير المعتادة والوساطة أحياناً وقد يمنّون على من ينتدبونه لقراءة مجلس من المجالس المشهورة ويشعرونه بأنّه فُضّل على غيره .
    وبالجملة فإنّ عدّة اعتبارات تتدخّل في اختيار الخطيب وتفضيله على غيره وإن لم يكن أفضل ، ولكنّه مرتبط بمن بيده أمر المجلس وهذا كاف في اختياره ، إلاّ أن يفلت بعضهم من هذه الاعتبارات لحصوله مثلاً على قبول في الأوساط أو شعبية طاغية ومع ذلك لابدّ له من أن يدفع ضريبة بقراءة بعض المجالس لبعض الأسر البارزة من رجال الدين أو غيرهم إمّا بأخذ أجور بسيطة أو بعدم أخذ أجور بالمرّة وإلاّ تعرّض إلى متاعب .
    هذا في داخل النجف ، أمّا في خارجه فغالباً ما تكون المجالس التي تطلب الخطيب في بعض البلدان يتمّ طلبها بواسطة وكيل العام هناك أو رجل الدين المقيم بالنجف والمرتبط بهم ولابدّ من ثمن لذلك إمّا بقراءة مجلس بدون أجور أو بأمور اعتبارية ، وسواء كان المجلس داخل النجف أو خارج النجف فإنّ بساطة الأجور في تلك الأيام تضطر الخطيب إلى قراءة أكثر من مجلس في داخل النجف وعدد أقل في خارجه خصوصاً أيام العشرة الأولى من المحرم ، ويؤدي ذلك أي كثرة المجالس أن تكون الكمية على حساب الكيفية ، فقد يجترّ الخطيب نفس المعلومات وقد يأتي بمواضيع ركيكة يحشرها في قلب المناسبة ، هكذا كانت الحالة الخطابية بالنجف تتحكّم بها عدّة عوامل سأتناولها بعد هذا الفصل ، وأهمّ تلك العوامل العامل الإقتصادي . وقد تكون الصورة غير مستوعبة لكافّة أبعاد المشهد ولكنّها بصورة تقريبية هكذا ، ولكن هناك موضوع مهم لا يسعني تركه وسأحاول الإشارة إليه باختصار :
    لقد كانت هناك علاقات غير منسجمة بين الملائية رجال الدين ، وبين الخطباء ، فرجال الدين في تلك الأيام وقبل أن يتثقف الخطباء وينخرطوا في سلك طلبة العلم من حيث الدراسات الفقهية والأصولية والعقائدية كانوا لا يحترمون مثل هؤلاء لأنّهم يرونهم جهالاً كما أنّ هناك شرائح من الذين امتهنوا الخطابة لم يكونوا بالمستوى المطلوب من حيث السمت والوقار والإلتزام بالآداب الشرعية ممّا حمل رجال الدين على عدم احترام هذه المهنة وكانوا يعبّرون عن الخطيب بنبرة امتهانية بأنّه ـ روزخون ـ وحتى سمعت بعضهم يعبّر عن بعض الخطباء بأنّه روزخون أجلّكم الله . وطبعاً هؤلاء ليسوا من الملائية من الوزن المحترم ممّن تمنعه آدابه ودينه وأخلاقه من مثل هذا ، ولكن نوعاً ما كان هؤلاء في تعاملهم مع الخطباء يتعاملون من موقع متعال ، ويقابل ذلك أنّ الخطباء كانوا يتصوّرون أنّ الملائي لا يقوم بعمل يستحقّ به هذه الإمتيازات التي يرونها تغدق عليه حتى ولو درس وكان فاضلاً فإنّما يهذّب نفسه ، فما هي مبرّرات أن يأخذ راتباً شهرياً من أكثر من جهة ويعامل بغاية الإحترام ، وإذا عجز وكبر لا يترك بل يرفد برواتبه إلى ميزات أخرى كثيرة ، في حين إذا كبر الخطيب نُسي ومُحي من صفحة المجتمع واضطرّ لأن يتكفّف كما رأيت كثيراً منهم وصل إلى هذه الحال . هكذا كان الموقف بين هاتين الفئتين يشوبه التوتّر في الأعم الأغلب إلاّ في حالات استثنائية إلى أن أخذت هذه الحالة تقلّ تدريجياً بسبب عوامل كثيرة أهمّها :
    1 ـ ارتفاع المستوى الإقتصادي بصورة عامة بعد دخول النفط للساحة ممّا قلّ من أسباب الإحتكاك التي كانت تحدث لأسبابه الإقتصادية .
    2 ـ نشوء أعداد لا بأس بها من الخطباء الذين سلكوا طريق طلاّب العلم من حيث التحصيل والتنوّع في المعلومات ممّا فرض لهم موقعاً محترماً وممّا جعلهم جسراً بين الفئتين وأدّى إلى التقارب وامتصاص التشنّج يضاف لذلك أنّ بعض الملائية أخذ يقرأ المجالس بالخارج لأسباب مختلفة .
    3 ـ ارتفاع مستوى الأخلاق بالوسط الديني بكلّ أقسامه بصورة مشاهدة وملحوظة لدى المتنبّه نتيجة أسباب متعددة منها وعي رجل الدين الملائي والخطيب لموقعه ولذاته وتغير نظرة المجتمع لهم بفضل ارتفاع المستوى الثقافي والإجتماعي .
    4 ـ انتشار وسائل الإتصال وسهولة الإحتكاك بالشعوب الأخرى التي تعطي رجل الدين معلّماً ومرشداً أو مدرّساً مكانة محترمة والإقتباس من ذلك .
    5 ـ انخراط بعض رجال الدين في مؤسسات الدولة والأعلام مدرّسين ومحاضرين بحيث تحوّل وجودهم إلى جزء من فعاليات الدولة الإجتماعية ولم يعودوا على الهوامش كما كانوا ممّا أعطى لكثير من أفرادهم مكانة تكفيه عن التطلّع لمكانة الآخرين ومنافستهم وبالتالي منع حدوث الإلتهاب . كلّ ذلك يمسح هذه الظاهرة تقريباً من الخريطة الإجتماعية إلاّ القليل النادر الذي هو باق ببقاء أسبابه المزعومة على مستوى وآخر .

    وأهمّ انعكاسات هذا العامل الذي ذكرته كانت انعكاسات نفسية عند الخطيب كانت تتركه يشعر بالدونية وضآلة المقام والإحباط ممّا قد يسبّب عدم حماسة لتعميق قدراته العلمية والخطابية ما دام لا يحظى بالمكانة المناسبة مع قيامه بأعباء ثقيلة وتعرّضه لأخطار متنوّعة خصوصاً مع تشعّب علائق المجتمع وتشابكها على المستوى المذهبي والمذاهب الإجتماعيّة المعاصرة وتصدّيه للذبّ عن دينه الإسلامي وعقيدته المذهبيّه حتى أنّ الكثير تعرّض إلى مآسي من التشريد والملاحقة بأهله وماله وبالتالي بنفسه واستشهد الكثير منهم تغمّدهم الله برحمته على أيدي الجلاّدين والقتلة ولم يحصلوا مع الأسف الشديد على شيء من الإشادة بمواقفهم والإشارة إلى تضحياتهم وحتى أنّهم لم يجدوا من يتفقّد أهلهم إلاّ لماماً من بعض المراجع مدّ الله في عمره .
    ولا تزال بقية من ذلك أرجو أن تزول وأن يعمل الخطيب على سدّ الثغرات التي دخل منها هذا العامل من حيث الإرتفاع بمستواهم علمياً وسلوكياً وأخلاقياً وهم إنّ شاء الله فاعلون ، ولي أمل كبير بأنّ عناية الله تعالى لا تفارقهم بسبب موقعهم من نشر الفكر والعقيدة وإيقاد شعلة الطف التي وفّر لها أبو الشهداء وقوداً من دمه ودماء الأبرار من العترة والصحابة . وما أحراهم بأن يأخذوا بزمام المبادرة إلى جانب إخوتهم من حملة العلم ، فإنّ الدرب واحد والغاية متّحدة والشوط يدعونا معاً للجهاد في سبيل العقيدة بروح مؤمنة عالية وكلّ من الطرفين إن شاء الله تعالى مشعل يضيء الدرب للسالكين على ضوء شريعة الله تعالى ومنهج حملة الإسلام الأبرار .[/align]
    يا محوّل الحول والاحوال ، حوّل حالنا إلى أحسن الحال......








  9. #9
    تاريخ التسجيل
    Jul 2004
    الدولة
    هناك
    المشاركات
    28,205

    افتراضي

    [align=center] كيف نبني ونطوّر المنبر الحسيني





    يستبطن هذا الموضوع عناوين متعددة من أهمّها الهيكلية التراثية التي درج الناس على التعبير عنها عن المنبر ، ويقابلها ما جدّ واستحدث واعتبر صيغة من صيغ التطوّر شكلاً ومضموناً ، ومنها ما هو عند البعض من الثوابت التي لابدّ من توافرها هنا ، في حين عند الآخرين مجرد أمر كمالي إن وجد فبها وإلاّ فلا ، ومنها ما يرتبط بمحتوى المنبر الثقافي نوعية وغزارة وعمقاً ممّا يعتبره البعض شرطاً أساسياً لارتفاع المنبر ينسجم مع تطوّر العصر ، في حين يرى الآخرون أنّ ذلك يشكّل تعجيزاً وعبئاً للكثير من أهل المنبر يبتعد بهم عن مساجلة الآخرين وممارسة مهنتهم .
    ومنها ما يتّصل بمعالجة الواقع المعاش في طريق محاولة الإرتفاع بالمنبر وهل ينبغي أن تتمّ هذه المعالجة بصورة هادئة وبطيئة ينضج معها القدر بدون غليان قد يقلّب القدر ؟ أم ينبغي أن تتمّ المعالجة بصورة فورية وحاسمة لأنّ البطء هنا لا يتحقّق معه الهدف لاستمرار توالد الأدوات التقليديّة أشخاصاً ومادة ممّا تهذب معه الجهود هدراً ، وأخيراً وليس آخراً تحديد سعة المدى الذي ينبسط عليه المنبر الحسيني هل هو نطاق الطائفية أم هو الأمة الإسلامية بل المجتمع الإنساني الذي لم تعد فيه حواجز عن سماع معطيات الآخرين واستمع بطريق وآخر إلى ما أنتجه المنبر بغثّه وسمينه وسهلت له وسائل الإتّصال ذلك وتطلّع إلى أمل في الإستفادة من مخزون كان طيّ الكتمان لأسباب يعرفها المختصّون بهذه الحقول وتشكّل جزءاً من لعبة الصراع الفكري الذي درجت عليه ـ مع الأسف الشديد ـ أجيالنا فحالت بذلك دون تلاقي جداول المعرفة وأبعدت عن الساحة فكر يفترض فيه أنّه النبع الأصيل للإسلام بحكم كون حملته ـ عدل الكتاب ـ .

    كلّ ما ذكرناه ممّا سنشرحه ، إنّما هو ثمرة من ثمرات العامل الأول في تطوير المنبر وهو الخطيب الذي يفترض أن يكون قد أحرز على الأقل الحدود الدنيا من مواصفات لابدّ منها بحيث أن يكون قد اجتاز المراحل المفروضة ولم يحرقها أو يقفز عليها لتبنيه كيفية وأحرز المواد التي يتقوّم بها المنبر لترفده كمية ، وأن لا يكون محتواه بضاعة رخيصة لفقت من هنا وهناك وقدمت غذاءً ـ لشرائح سطحية إلى أمور أخر ذات صلة بالخطيب سنفرد لها مكاناً من المعالجة ضمن هيكل البحث في الكتاب المذكور عند تحديد الحدود الدنيا للمنبري فيما اتفق عليه أهل الفن واعتبروه من المقوّمات الأساسية للخطيب .
    والآن أعود لشرح ما سبق إجماله من العناوين ذات الصلة بالموضوع وهي :
    1 ـ الهيكل التراثي الموروث الذي رافق بدايات المنبر بالشكل والمضمون والذي نحرص أشدّ الحرص على الإحتفاظ بكثير من جوانبه من حيث السكون لها كآليات متوارثة لها مكانها في عمق الوجدان وضرورتها لكونها جذوة لا نريد لها أن تخبو والإحتفاظ بها سمةً مميزة تعكس مدى انشدادنا للعترة الطاهرة . ولكن في الوقت ذاته نبحث عن أسلوب يجمع بينها وبين الإطار السليم الأكثر قبولاً عند الزمن وأهله ، ولابدّ من ذكر بعض الأمثلة في ذلك لئلاّ تبقى الفكرة عائمة :
    فالمثال الأول : ما درج عليه هيكل المجلس الحسيني الأساسي في العشرة الأولى من شهر المحرم من تسلسل مصطنع حيث يكون موضوع الخطيب الأساسي في العشرة الأولى من شهر المحرم هو تسلسل مصطنع حيث يكون موضوع الخطيب في اليوم الأول ـ كما هو عند الأغلب أو الكثير الحديث عن هلال محرم وما يصاحب ذلك من تداعي المعاني وما يصاحب ذلك من حكايات وما كان له من تأثير عند أئمّتنا الأطهار وشيعتهم وأسلوب احتفالهم به وما كانوا يمارسونه من أنماط الحزن لذلك ، هكذا هو اليوم الأول في الجملة .

    وفي اليوم الثاني يتناول الخطيب فضل البكاء على ما جرى من فواجع في واقعة الطف ومشروعية هذا البكاء والتماس الأدلة على ذلك وما يترتّب من الأجر والثواب للباكي التقليدي أو الوفاء للباكي الواعي الذي يبكي لمجرد الإنفعال لمأساة عظيم كالحسين ظلمته أمّته ، ويستعمل الخطيب عادة بعض مقاطع باللغتين الدارجة والعربية والمشحونة والمكهربة عاطفياً لاستدرار الدمع .
    أمّا اليوم الثالث فغالباً ما يتناول خروج الحسين (عليه السلام) من المدينة المنوّرة وما أحاط به من أجزاء تصوّر المشهد من وداع لقبر جدّه (صلى الله عليه وآله وسلم) وقبر أمّه (عليها السلام) ووداع أهله وكيفيّة موكبه وما رافق ذلك من مناظر مفجة للوداع . ويتناول في اليوم الرابع مسير الحسين (عليه السلام)ومروره بالمنازل والتقائه ببعض أهلها ولقاء الحرّ معه وما دار بينهما من مطارحات وما حدث من أعمال وينتهي غالباً إلى حدّ نزول الحسين (عليه السلام) بكربلا . ويتخصّص اليوم الخامس لسيرة مسلم بن عقيل (عليه السلام) ومكانته وسرّ اختيار الحسين له ليكون رسوله إلى الكوفة إلى مصرعه ومصرع ناصره هاني بن عروة والأحداث التي ارتبطت بذلك .
    وفي اليوم السادس من محرم تتلى سير شهداء الطف من أنصار الحسين (عليه السلام) مثل حبيب بن مظاهر ومسلم بن عوسجة وزهير بن القين وغيرهم ، ودراسة أحوالهم ومكانتهم وما أعدّ الله تعالى لهم . واليوم السابع يخصّص للعباس بن علي وإخوته أبناء أمّ البنين وما له ولهم من صفات من حيث النسب والمكانة ومؤهّلاته البطولية والإيمانيّة الخ إلى مصارعهم . واليوم الثامن للقاسم بن الحسن الشهيد الصبي الذي تمتزج ذكراه بما رافقها من آفاق عاطفية زوّجته وصنعت له عرساً نثاره من النبل وخضابه من الدم وحلّته من نسيج امتزج فيه غبار المعركة بلون الدم ولهيب الجرح لينزف بعد ذلك محمولاً على صدر الحسين إلى خيمة جمعته مع لداته بين دموع الأهل وحسرات الأمّهات .
    وأمّا ليلة التاسع فهي ويومها لعليّ الأكبر بن الحسين (عليه السلام) أولّ قتيل من الهاشميين وحالات الحسين عند مصرعه وما يرتبط بذلك من شؤون الآباء مع الأبناء وتشير إلى المشاهد التي تلهبها الأجواء العاطفية ويعمقها الخيال حتى الشهادة . أمّا ليلة العاشر فهي مخصصة للإعداد للمعركة وذكر ما جرى فيها من عبادة ووداع واستعداد للشهادة والحالة النفسية للعائلة وهي تتوقّع المجزرة صباحاً وفراق أهلها وأحبّتها . وختام ذلك كلّه أحداث صبيحة العاشر التي منها قراءة ما يسمّى بالمقتل حيث تستعرض كلّ ملابسات واقعة الطف والإعداد لها ابتداء من طلب البيعة من الحسين ليزيد والإمتناع والمسير إلى كربلاء مروراً بمكة المكرمة والمنازل ونزولاً بكربلا واستعراضنا لكلّ الأحداث بما فيها القتال إلى أن ينتهي الأمر إلى مصرع الحسين (عليه السلام) .
    وسواء كان هذا الترتيب تعيّنيّاً وهو الأقرب أم تعينياً ، فهو على الإجمال وصف للهيكل التقليدي للمجلس الحسيني عند الكثير ، ولا أقول عند الجميع فقد يحصل تغيير في مادة الجلسة نوعاً وكمّاً ، ولكن الإطار العام يبقى كما ذكرت في تحديد مناسبة الأيام . وينبغي لفت النظر إلى أنّ ذلك إذا كان الخطيب يقرأ مجلساً واحداً ، أمّا إذا تعدّدت المجالس في الليل والنهار فالنهاية غالباً لا تتغيّر لأنّ المألوف فيها من المؤشرات على أستاذية الخطيب والخروج عن المألوف قد يفقد الإشباع للسامع الذي درج على الصيغة التقليدية ، أمّا مادة البحث والمجلس عند التعدد فقد يكون فيها توسع باصطياد الأشياء المناسبة التي ترتبط بشكل وآخر بصلب الموضوع ـ هذا في المنبر العربي لا الفارسي ، فإنّ للمنبر الفارسي مساحة أوسع في ارتياد المواضيع والمضامين لست أتناولها هنا ، وإنّما لها مكان آخر قد أوفّق لإلقاء الضوء عليه ـ وعلى العموم فبعد هذه الفكرة الإجمالية عن الهيكل السائد في عاشوراء ، فما هي الأمور المتصورة التي تُقيم بسلب أو إيجاب ؟ وما هي الأمور التي قلنا أنّ الواقع لا يحتاجها ؟ ثمّ ما هي المعالجات التي تجمع بين المحافظة على تراث يشغل زاوية واسعة في وجداننا ويغرس فيها صورة للمثل العليا التي جسّدت يوم الطف والتي نتوق إلى أن نترسّمها ولو ادّعاءاً وفي الوقت ذاته هي آلية من الآليات العقائدية التي نتوسّل بها إلى تحقيق مودة ذوي القربى إلى ما هنالك من مرودد وبين التخلّص ممّا لا يلزم له بل ممّا قد يعكس الغاية المطلوبة وينتهي إلى أن تبلور عناصر لا تخدمنا مذهبيّاً عند الأمّة وقد لا تزكّى مسيرتنا في نظر المذهب ذاته وقد لا يذعن أبنائنا في قرارة أنفسهم إلى قبولها وإن أذعنوا ظاهرياً لسبب وآخر ولتوضيح ذلك على الإجمال نقول :
    1 ـ أولاً ينبغي انتقاء مادة المنبر خالية من الشوائب والتهافت ولتكن المادة غاية في البساطة فهي خير من مادة يحسب البعض أنّها دسمة ولكنّها غير سليمة في أجزائها .
    2 ـ لا داعي لأن تستوعب المناسبة كلّ وقت المحاضرة ، وإنّما تجعل مجرّد خاتمة في نهاية المحاضرة شرط أن لا نلتمس لها صنفاً من الشعر الهابط أو النصوص المتّسمة بالركّة ممّا لا يتناسب وأهمية الموقف وكرامة أهل البيت والنهج الموزون الذي نريده لشعائرنا .
    3 ـ أن نستفيد من حشود الذكرى فنطرح موضوعاً من المواضيع التي تعالج موقفنا من جسم الأمّة الذي يتعرّج لافتراءات لا نهاية لها أو موضوعاً أخلاقياً أو عقائدياً يشدنا إلى مدرسة أهل البيت ويحقّق مطلب الإمام الصادق (عليه السلام) بقوله : (أحيوا أمرنا) وهكذا ، لاسيّما ونحن طائفة ليس لها من وسائل الإعلام ما تعبّر به عن نفسها وحيثيّاتها إلاّ المنبر ، فحريّ بها أن تستفيد منه على الوجه المطلوب . ثمّ لابدّ في الأخير من المحافظة على المناسبة وإذكاء جذوة الحزن التي تحفظ لنا مزاجنا وأخلاقياتنا في مواساة آل محمّد ونشر ما أرادوه بمستوى الشفافية التي أرادوها وأرادها أبو الشهداء ـ أنا قتيل العبرة ما ذكرت عند مؤمن إلاّ وفاضت عيناه ـ وبهذه الصورة تمرّ الليالي على شكل موائد منوّعة لإشباع جوانب الإنسان خلقاً وعقيدة وسلوكاً .
    ولابدّ هنا من الإشارة إلى أنّ الخطيب إذا تعدّدت عنده المجالس يضطرّ إمّا إلى الإجترار أو إلى الإلتجاء إلى مادة غثّة أو غير موثوقة ويكون ذلك على حساب الأصالة وسمعة المذهب ـ وإن كنت أعلم أنّ لذلك علاقة بتوفير الكفاية للخطيب ومراعاة ميزانيته المالية التي لا يسدّها مجلس واحد لقلّة المردود ، وهذا أمر ينبغي أن يعالج إمّا عن طريق سدّ النقص من الحقوق الشرعية أو إيجاد مؤسسة مهمّتها التوفر على رعاية هذا الرعيل من الناس وتنظيم شؤونهم (ولهذا الموضوع مكانه الخاص) .
    4 ـ إنّ تكريس اليوم العاشر لقراءة المقتل واستعراض الواقعة كلّها من مقدّماتها حتى النهاية وما يتبعها في حين أنّها مرّت مفصّلة خلال أيام العشرة وتكرّر سماعها في أكثر من مجلس حتى أصبح السامع يكرّر مقاطعها قبل الخطيب : إنّ ذلك يزاحم ما قد نراه أهمّ من ذلك ألا وهو شرح أسرار نهضة الحسين وأهدافها وتسليط الأضواء على الخلفيات، فإنّ الأقلام غير الشريفة لا تزال تشوّه وبإصرار موقف الحسين ، وتحاول تفريغ الواقعة من محتواها الإجتماعي ، وربطها أحياناً بأمر شخصي رخيص أو عداوة قبلية . وكلّ ذلك لإسدال ستار على نوايا الأمويين ومواقفهم من الإسلام والمحافظة على أمكنة امتداداتهم وكياناتهم وحمل مزاج قريش الذي وقف بوجه الرسالة ورفع صوت ابن الزبعري :


    ليت أشياخي ببدر شهدوا***جزع الخزرج من وقع الأسل


    الخ .



    ولكن بنبرة أخرى تصور إحياء مراسم الطف بأنّه نمط من أنماط الشعوبيّة التي تستهدف الإسلام والعرب ، وكأنّ الحسين ليس ابن سيد العرب ولا سيد شباب أهل الجنّة.
    إنّ استغلال يوم العاشر بما به من حشود كثيفة لتنبيه المسلمين إلى هذه اللعبة الدنيئة في تحريض الشعور القومي والغيرة الإسلامية أيضاً للوقوف بوجه هذه المراسيم وتحويل يوم عزاء النبي وآله (عليهم السلام) إلى الإتجاه لإحياء صوم كان يقوم به اليهود كلّ ذلك محاولات لا تخفى خلفيّاتها على الناقد البصير . إنّ لفت انتباه الأمّة لذلك أوليس أهمّ وأجدى من تكريس مقتل مرّ مضمونه مفصلاً ، ثمّ بعد ذلك تكريس فترة لشرح فظاعة المأساة وبشاعة المجزرة التي استهدفت قتل رسالة النبي في تمزيق صدور حامليها وإعطاء اللوعة حصة يبرد معها الغليل .

    وإلى هنا أكون قد أوضحت ما يتعلّق بالأمر الأول وهو الهيكلية الموروثة التي درج عليها شيعة أهل البيت تقليدياً .
    2 ـ ثانياً وسائل استدعاء الحزن : فإنّ الخطيب قد يبذل جهداً بصورة مبالغ فيها أحياناً تحشد فيها صنوف من الشعر بلغتيه الدارجة والفصحى استحضرت خصيصاً للمناسبة وبشكل يبدو عليه التكلّف وتضاف إليه مقاطع من بعض النصوص والتوليديات للتظافر جميعها في إبكاء الحاضرين ، إنّ مسألة البكاء والدمع ونشر الظلامة وظّفت من أهل البيت لتكون وسيلة فاعلة في لفت النظر لما جرى في واقعة الطف ، وتجنيد النفوس المشاهدة لاستشعار مصيبة أهل البيت لا لتكون غاية في ذاتها تطغى على الهدف الأهم . ولقد أدّت ولا شكّ دورها وكانت سلاحاً فاعلاً حين تعذّر حمل باقي الأسلحة ولكنّها الآن لم تعد من آليات تحقيق أهداف الواقعة وإن بقيت وسيلة تحصيل أجر لما فيها من مواساة لأهل البيت ومشاركة في أحزانهم فحريّ بها أن تقدر بقدرها وأن تأتي بصورة عفوية وبدون تكلف يخرجها من الطبيعي إلى المصطنع وما أكبر الفروق بين دمعة حارّة ودمعة باردة فإن صدق العواطف يفرز دمعاً حارّاً ورحم الله شاعرنا الذي يقول :


    أحرّ من دمعة شيعية***تبكي عليّ بن أبي طالب


    إنّنا إذا أسرفنا وأكّدنا على الجمع على حساب الأهداف الأخرى وقعنا فيما لا ينفع بل يضرّ ، فإنّ لذلك نتائج هي :
    1 ـ حصر الحسين في نطاق الدمع والمأساة بينما هو ثورة على الباطل ومنهج سلك الشهادة لبناء مجتمع ، ولرد طغيان ، ولوقوف بوجه باطل وذلك ممّا كان الحسين (عليه السلام)نفسه يرى الموت معه سعادة ـ إنّي لا أرى الموت إلاّ سعادة والحياة مع هؤلاء الظالمين إلاّ شقاءً وبرما ـ وفي معنى هذه الممارسة يقول بعض شعراء الطف :


    وضعناك في الأعناق حرزاً وإنّما***خلقت لكي تنضي حساماً فتشرع


    وضعناك من دمع وتلك نفوسنا***نصوّرها لا أنت إنّك أرفع

    وقد أدّى استبداد الدمع ومظاهر الحزن في إحياء مراسم الطف إلى مقاطعة أبناء المذاهب الإسلامية الأخرى لهذه المناسبات بل ومقاطعة كثير من أبنائنا أو امتناعه من الحضور لما يرون في ذلك من مبالغة ، ولا أريد من هذا أن القي ستاراً على المأساة ولا أمنع الإنفعال القهري الذي هو من الأمور الطبيعية عند الإنسان حينما يشاهد موقفاً من المواقف المأساوية إنّ كلّ ذلك منسجم مع الفطرة ويثاب عليه المسلم كما ذكرت لكونه مواساة لبيت النبوّة ، ولكن ينبغي أن يكون ذلك في حدوده ووسائله السليمة لئلاّ يوقعنا بالمفارقات .
    2 ـ الملاحظ أنّ تكريس ردود فعلنا عن واقعة الطف بالدمع ومداومتنا عبر قرون على هذا الجانب فقط له مردود سلبي على عنفوان متوقّع ورجولة نريد لها الإستمرار ومن هنا كانت بعض القبائل تنهى وتمنع عن البكاء على قتلاها لئلاّ يبوح الجمر وذلك ما عبّر عنه إبراهيم بن الحسن عند مصرع أخيه حين قال :


    سأبكيك بالبيض الرقاق وبالقنا***فإنّ بها ما يدرك الطالب الوترا


    ولست كمن يبكي أخاه بعبرة***ويعصرها من ماء مقلته عصرا


    ولكن أروي النفس منّي بغارة***تلهب في قطري كتائبها جمرا


    فنحن أناس لا تفيض دموعنا***على هالك منّا وإن قصم الظهرا


    ومن هذه المدرسة شاعر الطف السيد حيدر الحلي (رحمه الله) الذي قال :


    أفلطماً بالراحتين فهلاّ***بسيوف لا تتقيها الدروع


    3 ـ حينما طغى الدمع في مراسم الواقعة استأثر بامتلاك المزاج الشعبي والرواية التي رفعها الحسين راوياً عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قوله : (من رأى منكم سلطاناً جائراً مستحلاًّ لحرم الله ناكثاً لعهد الله مخالفاً لسنّة رسول الله يعمل في عباد الله بالإثم والعدوان فلم يغيّر عليه بفعل ولا قول كان حقاً على الله أن يدخله مدخله) وقد يقول قائل أنّه لا ملازمة بين الدمع وذهاب العنفوان ، فالجمع بينهما ممكن ، وأقول : إنّ ذلك صحيح لو وضعنا أنفسنا في صراط الأخذ من معطيات الطف وإيحائته وتركنا للدمع مع مجيئه الطبيعي عندما يواجه الوعي أحداث كربلا المأساوية فيهمل الدمع لفظاعة المشاهد دون تعمّل أو تكلّف ويبقى للدمع حجمه دون أن يستأثر باحتوائنا ويأخذنا بعيداً عن ردود الفعل السليمة وما يناسب تلك التضحيات من مردود ، وحبذا لو تسامينا بدمعنا وارتفعنا عن أن يكون طرفاً في معاوضة من خوف عقاب ورجاء ثواب ـ وإن يكن ذلك أمراً سليماً في نفسه ـ بل أن يكون الدمع تعبيراً عن أسى لنفس حملت روح محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم) وجسد ورث سماته وكيان هو خلاصة أمجاد آل عبدالمطلب تصدّت لتمزيقه سيوف كان ميدانها الدفاع عنه ولكنّه سوء العاقبة ونكسة الضمير ، أجل ينبغي أن نردد :


    تبكيك عيني لا لأجل مثوبة***لكنّما عيني لأجلك باكيه


    3 ـ الأمر الثالث الذي أشرت إليه وعبّرتُ عنه ـ إغناء المحتوى المنبري ـ والذي لابدّ من إيضاحه هو : الخروج بالمنبر عن ساحة طائفة خاصة إلى الساحة الإسلامية بل والإنسانية بداهة أنّ الحسين (عليه السلام) في تحرّكه حمل هموم الإنسان من جانب والإنسان المسلم من جانب آخر ، وعمل مجاهداً على توفير ما يصون الكرامة ويحفظ الحقوق ويرتفع بالفرد عن أن تناله أغلال الإستبعاد بشكل وآخر وهو المصير الذي انتهى إليه المسلمون في حكم الأمويين وكانت مظاهر التعبير عنه متجسّدة في واقعة الحرّة وغزو الكعبة وممارسة الولاة الأمويين ممّا حفلت به كلّ كتب التاريخ وما عبّر عنه مسلم بن عقيل في محاورته لعبيدالله بن زياد : (إنّ أهل هذا العصر زعموا أنّ أباك قتل خيارهم واستبقى شرارهم وجعل مال الله دولة بين أغنيائهم وجبابرتهم فجئنا لنأمر بالمعروف وننهى عن المنكر وكنّا أهل لذلك) وواضح من ذلك كلّه المحتوى الإجتماعي للنهضة ، فكان لابدّ من عرض الحسين (عليه السلام) أطروحة إنسانية عامة في إطارها الإسلامي بما يستلزم من إتقان المعارف ذات الصلة بالموضوع والعلوم التي تعتبر دخيلة في إعطاء المنبر الصفة العلمية .

    إنّ البعض يرى أنّ هذا المعنى خارج عن وظيفة المنبر ولا يدخل في مساحته بل ولا يعني الشرائح المتنوعة من رواده ، فما هي ـ مثلاً ـ أهمية أن يعرف السامع أنّ المفرد المحلّى بالألف واللام هل يستفاد منه العموم لغة أم أنّ استفادة ذلك لأنّه لا قرينة هناك على إرادة الخاص ، ولأنّ إرادة بعض الأفراد بدون تعيين الفرد المراد لا يحصل معه غرض الإفادة ، فيستفاد العموم لأجل ذلك ، وكذلك ما هي أهمية معرفة أنّ نسبة الأوكسجين بالهواء لا تبعد عن 21% وما هي أهمية معرفة أنّ الأهم عندما يقدّم على المهم فإنّ ذلك ناتج من معنى الترتآب كما يقول الأصوليون ، وهكذا ، إنّ أمثال هذا التوسع كما يقول هؤلاء لا أهمية له في موضوعنا والحقيقة غير ذلك ، فإنّي لا أريد أن تقحّهم هذه العلوم وأمثالها إقحاماً في الموضوع ، ولكن التوفّر على معرفتها مدعاة لتوظيفها في مضمون المنبر إن لزم الأمر ، هذا من ناحية ، وما هو أهمّ أنّها تسدّد الخطيب الذي أصبح يعرض الأحكام الشرعية والأصول العقائدية وغيرها ، وناحية أخرى أنّه يوفّر للمنبر في نفس السامع زخماً ومكانة تحمله على الإعتداد بعطاء المنبر وترتيب الأثر عليه ، يضاف لذلك أنّ روّاد المجالس في هذه الأيام فيهم من يهضم هذه الأمور ويهمّه الإطمئنان إلى أنّها على النهج العلمي وبعد ذلك كلّه أصبحت بحوث المنبر تسجّل وتسوق للخارج ولأناس مختلفين في ثقافتهم ووعيهم ، فإذا كان المضمون علمياً وموثقاً فسيكون ذلك مكسباً لعقيدتنا وداعياً لاحترامنا والعكس بالعكس .
    لقد جائني هذا العام في لندن جماعة ممّن توزّعتهم بلدان الهجرة وهم شرائح حصلوا على أعلى الدرجات الأكاديمية ، وحملوا معهم أشرطة مسجلة لبعض من يمارس القراءة وقالوا : إنّ في هذه الأشرطة روايات ادّعى القائل أنّها في كتب الصحاح عند أهل السنّة وحينما بحثنا عن ذلك لم نجد لها أثراً ، وفي هذه الأشرطة إحصاءات وادّعاءات لا تلتقي والواقع كما لا تلتقي والعلم وقد سبّب لنا ذلك إحراجاً بل وأضعف ثقة الناس في مؤسّساتنا الدينية ، فكيف تعالجون مثل هذا الأمر ؟ وقال بعضهم : كم هو قبيح أن يفقد من هو في هذا السلك أبسط مقوّماته فلا يضبط القاعدة النحوية ولا يتقن المسألة الشرعية وقد يغرق في التخريف ، فلم أدري بماذا أجيبهم وأنا أعرف أنّ المسألة تحتاج إلى معالجة جذريّة ، وقلت لهم مؤخراً : إن يكن هناك أفراد من هذا القبيل فإنّ هناك آخرين قطعوا شوطاً كبيراً في النهوض بالمنبر وفيهم ـ ولله الحمد ـ من هو أهل للمنبر على تفاوت في أحجامهم أسأل الله لهم جميعاً التسديد ، إنّي أدعو إخواني وقد قيّض الله لنا ما لم يحصل عليه أسلافنا من وسائل المعرفة وفرص النهوض بالمنبر ووفرة الإمكانات المادية إلى مضاعفة الجهد والشعور بثقل المسؤولية لامتداد المنبر إلى خارج حدودنا وتغيّر الأوضاع الثقافية والإجتماعية ممّا لا أظنّ أنّه يخفى عليهم والله الموفق للصواب .
    وممّا يدخل في وسائل بناء المنبر التخصص في أبعاده ـ أي الدائرة العلمية الإسلامية وما قد يرتبط بها من علوم وفنون تخدم الهدف الإسلامي وتكون شاهداً على متانة مضمونه وأهدافه الإنسانية وللتوضيح يقال : إنّ المنبر قد يقوم بدعوة إلى تجسيد المفاهيم الإسلامية ومنها الجوانب الإجتماعية التي منها نظرية الحكم والإدارة فيشرح معالجة الإسلام لذلك ويدلّل على أنّ الإسلام ليس عبادة محضة بل نظام يتناول كلّ أبعاد الكون بالمعالجة إمّا مباشرة من النص أو بتوسط استنباطات الفقهاء ويدعو إلى تجسيد مفهوم العدل وتوفير الفرص المتكافئة من وجهة نظر الشريعة وأمثال ذلك من معالجة تتناول تقويم المجتمع وكلّ ذلك على نحو القضية الحقيقية أي على نحو التوصيف ، ولكن هل من وظيفة المنبر مثلاً أن يتناول معالجة نظام قائم بالفعل من جهات لا ترتبط بالأحكام وإنّما ترتبط بجزئيات قائمة من قبيل طريقة إسقاط الحاكم الفلاني ، أو كيف تتعامل مع المؤسسة الدولية الفلانية ، أو كيف نعامل مؤسسات الطيران الأجنبية وأمثال ذلك ؟
    وهنا نقول : إنّ أمثال هذه الأمور إن كانت مشمولة لحكم شرعي أو قاعدة شرعية في حكمها فبها ، أمّا وسائل تطبيق ذلك ممّا يخضع إلى معادلات دولية وعلائق متشابكة فتترك لذوي التخصص يستعين بهم الحاكم المسلم في تنقيح الموضوع ودراسته حتى يطبّق عليه الحكم ، أمّا دخول المنبر في عملية مواجهة حول ذلك وهو لا إلمام له بالشؤون السياسية ولا الإطّلاع على خلفيّاتها فتترتّب عليه أمور لا تخدم المسلمين بل قد تؤدّي إلى العكس وذلك لأنّ :


    1 ـ الدعوة مثلاً إلى مقابلة فلان الحاكم علانية عمل أبله وليس مكانها المنبر بل مكانها أقبية العمل ودهاليز السياسة فليس من الحكمة في أن تستحثّ عدوّك ليتهيّأ لك .
    2 ـ إنّ الأنظمة القائمة على القهر والظلم لا تحرّكها أو تزحزحها كلمة رنّانة ولا جملة مرصوفة لأنّها قد تدرعت بوسائلها الجهنّمية وأدواتها الفاجرة ولها أذن صمّاء .
    3 ـ إنّ لكلّ عمل كما لكلّ علم مناهجه ووسائله كذلك للإنجازات السياسية مناهجها المعرفية والأدواتية وأمكنة العمل الملائمة . فمن الرقابة بمكان ما يقوم به البعض من استعراضات هي للتهريج أقرب منها للعمل المنتج ، وهي إمّا تكون صادرة عن بساطة على أحسن الفروض أو عن هدف تجاري رخيص قد يضع المبرّر في يد نظام ما لضرب المؤسسات المسلمة دون شيء تجنيه من وراء ذلك ، وكم من تضحيات ذهبت هدراً ودماء راحت بدون ثمن لأنّها عولجت من غير أهلها وفي غير محلّها ولأنّها لم تتّقن وسائلها . ولا أقول أنّنا يجب أن نكبل المنبر عن أداء وظيفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مع توفّر شروطهما ولكنّني اقول يجب أن يتخصّص القائم بذلك في معرفة المعروف والمنكر وطرق معالجتهما حتى نكون في دائرة الضوابط الشرعية وحتى لا يسفك الدم ويذهب الجهد وتجهض المقاصد ونكون بعد ذلك وجهاً لوجه أمام المسؤولية من الله تعالى . فمن أهمّ مقوّمات المنبر إذاً النضوج في المعالجات والوقوف عند ضوابط الشريعة .
    ومن ذلك كمثل أمر التطفّل على مائدة ليست من موائدنا وادّعاء أنّنا أسهمنا في طبخها ويتمّ ذلك بأسلوب يهبط بالمنبر إلى مستوى يحمل على السخرية . يقول أحدهم :

    إنّ الإسلام هو الذي وضع الأوليات التقنية لعلم الطيران وذلك لأنّ عباس بن فرناس صنع له جناحين من ريش وحاول أن يطير ففشلت التجربة لأنّه لم يصنع ذيلاً له فسقط ، فلو كان عباس بن فرناس عضواً في مؤسسة أُسست لذلك لقلنا أنّها أوليات جاءت من مؤسسة إسلامية ، ومثل أن يأتي خطيب فينقل عن مفسر أنّ القرآن الكريم قد أشار إلى الطائرات النفاثة لأنّ ذلك هو معنى قوله تعالى : ( والنازعات غرقاً ) الخ وهكذا . إنّ هذه الأمور لا صلة لها بالإسلام حتى يتبنّاها منبر إسلامي ، وليست ممّا يرفع قدر الإسلام لأنّ الله تعالى خلق الإنسان الذي صنعها فما قيمة صنعها بالقياس للإنسان ، وما أجدر المنبر بأن يتوفر على معالجة ميادين الحياة التي غطّاها الإسلام من أبعادها المختلفة ، فما زال للمنبر دور في أكثر من ميدان بأشدّ الحاجة للمعالجة على مستوى الفرد والجماعة وما زال الفرد المسلم في الأعم الأغلب يجهل الكثير من أحكام أفعاله داخل الأسرة أو في العمل أو حتى في ممارساته الشخصية .
    4 ـ وبقي بعد ذلك ما أشرت إليه من طريقة المعالجة للواقع القائم التي انقسم ذوو الشأن فيها إلى قسمين : الأول يرى أنّ المعالجة يجب أن تكون على شكل سريع وحاسم ولا جدوى من المعالجة البطيئة وحججهم في ذلك هي :
    1 ـ أنّ هناك في هذا الوقت قبولاً واستعداداً في النفوس بفعل عوامل مختلفة لإصلاح المنبر فينبغي أن نبادر لاستغلاله فربّما لا يستمرّ وتذهب علينا الفرصة .
    2 ـ إنّ المعالجة البطيئة تترك الباب مفتوحاً للنوع الهابط من الدخول إلى عالم المنبر فبينما نكون قد قومنا شريحة تكون شرائح أخرى مقابلة قد دخلت وهي تحتاج إلى علاج بينما إغلاق الباب إلاّ لفئة مختارة يوفر علينا كلّ هذا الجهد .
    3 ـ إنّ الأمر لا حلّ وسط فيه فإمّا أن يكون أو لا يكون فما الداعي للبطىء بل لابدّ من عمل جذري حاسم يعمل على إيجاد النوع المطلوب وإبعاد من لا يراد عن الساحة هذا إلى أمور أخرى يراها دعاة الحسم السريع ويقابل ذلك القائلون بالتؤدة والعمل المتأني وأهم مبرّراتهم :


    آ ـ إنّ ما يدعى من استعداد للإصلاح موجود دائماً لا يخشى عليه ما دام هناك نزوع رائده خدمة الدين والعقيدة فلا داعي لحرق المراحل .
    ب ـ إنّ كلّ منبر موجود بالفعل هو طاقة ولو كانت محدودة أو ساذجة فما المبرّر لإهدار هذه الطاقة فإذا قيل أنّها طاقة سلبية فالمفروض أن نلتمس لها وسائل تحوّلها إلى طاقة إيجابيّة بدون أن تهدرها .
    جـ ـ إنّ طبيعة المعالجة البطيئة أقرب إلى التكامل والتعرّف على الثغرات من السريعة التي قد لا يتبيّن معها ما قد أنجزناه بالسرعة .
    د ـ إنّ العمل على إيجاد منبر مرتفع عن طريق حشد شروطوضوابط شديدة قد يمنع من إقبال الكثير على هذه المهنة لأنّها أولاً ليست كالوظيفة مضمونة الأجور ، ولا هي مضمونة القبول عند الناس فقد يوفّق الخطيب وقد لا يوفق .
    وثانياً : لأنّ متطلّبات النجاح بها أصبحت صعبة من حيث المعلومات وتوفير ظروف ممارستها من ناحية سياسية واجتماعية ، وثالثاً أنّ الأعباء التي ينوء بها المنبري الضليع تهدمه بسرعة لثقلها وإذا انهدم قد يتعذّر عليه القوت لأنّه ليس هناك من يكفله كما في باقي المؤسسات ـ وليس ذلك قلّة ثقة بما عند الله تعالى ، ولكنّ الله تعالى ربط الأسباب بمسبّباتها فيما خلق ، وعلى العموم ومع ذلك كلّه ما هو المبرّر لنا لإضافة أعباء بالإضافة لما ذكر والحيلولة دون إنسان ورزقه لم لا نقبله على علاته ونطوّر خطاه ونتركه يرتفع بمستواه تدريجياً .
    هـ ـ ردود الفعل بالعمل السريع ليست بمأمونة لوجود عوامل متحركة قد لا تسهل السيطرة عليها لاسيّما مع وجود تجارب سبقت فيما أردناه بشكل سريع وحاسم .
    من أجل ذلك كلّه فالمعالجة الهادئة مع قيادة الخطى أسلم وأوصل للهدف ورحم الله شاعرنا إذ يقول :
    قد يدرك المتأني بعض حاجته***وقد يكون مع المستعجل الزلل


    إنّ هذه مجرد نماذج بسيطة لآراء الطرفين وهي ما يبدو للذهن بادىء ذي بدء وإلاّ قد تكون هناك عوامل أخرى في منظور الطرفين . وليس من المتعذر تبني الرأي الأصوب نسبياً وذلك كلّه بعد إيجاد المؤسسة التي تعالج وأين هي .
    وقد يتصور البعض أنّ أمثالي منوط به إيجاد مثل هذه المؤسسة ولكن ذلك رأي بدون تمحيص شامل لأسباب طويلة وبالإجمال ينبغي أن تكون المؤسسة الخطابية من أعمال المرجعية صانها الله وحفظها ووجهاً من وجوه نشاطها العلمي فهي الأقدر والناس لها الأطوع وإمكاناتها مادياً ومعنوياً هي الأوسع وهذا ما سأفرد له عنواناً خاصاً .[/align]
    يا محوّل الحول والاحوال ، حوّل حالنا إلى أحسن الحال......








  10. #10
    تاريخ التسجيل
    Jul 2005
    المشاركات
    166

    افتراضي

    الشيخ أحمد الوائلي والسيد عبدالزهراء خسرنا بفقدهما خساره كبيرة لا تعوض أبدا
    في روايه عن اهل البيت عليهم السلام إذا فقد العالم ثلم في الإسلام ثلمة لا يسدها شيء

    الشكر الجزيل للأخ منازار على هذا المجهود الكبير وجعله الله في ميزان حسناتك


    www.alaw7ad.com

  11. #11
    تاريخ التسجيل
    Jul 2004
    الدولة
    هناك
    المشاركات
    28,205

    افتراضي

    حياك الله أخي الكريم أوحدي
    يا محوّل الحول والاحوال ، حوّل حالنا إلى أحسن الحال......








  12. #12
    تاريخ التسجيل
    Jul 2004
    الدولة
    هناك
    المشاركات
    28,205

    افتراضي

    [align=center]

    من وسائل إيجاد خطابة ناجحة


    ما أريد أن أتناوله هنا على شكل حالات مجسّدة قد أشرت إليه وإلى ضرورة معالجته في بعض العناوين الموجودة في هذا الكتاب ، ولكن على نحو القضية الحقيقية لا الخارجية ، وأريد هنا الإشارة إلى بعض النماذج التي عاصرتها تجسيداً وتركت في نفسي لوعة وحسرة ، والحقيقة أنّها ما زالت قائمة لم تعالج لأنّ علاجها يتوقّف على ما هو غير موجود بالفعل . والموضوع الذي أطرحه هنا مسألة ضمان الخطيب ، فكلّنا يعرف أنّ كلّ من يعمل في حقل من الحقول سواء كان عملاً مكتبياً أو مهنياً أو غير ذلك : لابدّ له من ضمان في أوقات عجزه أو شيخوخته فإن كان موظفاً فالجهة التي تكفله الدولة ، وإلاّ فالجهة التي يعمل بها هي المسؤلة عن ذلك . ووجود الضمان يحقّق للعامل أموراً كثيراً منها التفاؤل بالحياة والخلاص من عموم توقّع الضياع ، ومنها الإقبال على العمل والجدّ فيه ، ومنها عدم الشعور بالغبن الذي يجعل العامل يحمل المجتمع مسؤولية ضياع حقّه ، وبالتالى يحقد عليه إلى غير ذلك من الفوائد المترتّبة على كفالة العامل عند حاجته .
    والخطيب في مؤسسة المنبر الحسيني ليس موظفاً في دولة حتى تكفله لأنّ الدول التي نعيش فيها لا تعترف بأنّ هذا الخطيب يؤدي وظيفة دينية مثل موظفي الجوامع بل ربّما ترى المنبر الحسيني ـ وبدون دليل ـ لا يخدم المسلمين لأنّه لا يسبح بحمد أبي هريرة وإذا كان غير موظف فسيكون محسوباً على القطاع الخاص والقطاع الخاص هنا هو الأفراد الذين ينفقون على الخطابة الحسينية إمّا من الوقف المعد لذلك أو من تبرّعاتهم الشخصية ويتمّ الإنفاق على الخطيب بدفع حصة من المال يتفق عليها لقاء موسم معيّن يخطب فيه مثل شهر محرّم الحرام أو رمضان المبارك أو أيّ مناسبة أخرى ، أمّا خارج ذلك فأصحاب المجالس ليسوا مسؤولين عن نفقات الخطيب . ومن هنا يبدأ انتهاء الخطيب إلى الضياع هذا بالضميمة إلى عوامل أخرى تكون بمجموعها حالة الضياع والعوز عند هذه الشريحة من الناس والعوامل المشار إليها هي العوامل التالية .
    1 ـ أنّ مهنة الخطيب لا تعتبر في أوساطنا مهنة ضرورية فليست هي ذات علاقة بطعام أو شراب أو سكن ولا حتى الحاجات الدينية التي تتخلّص في توفير الفتاوي وتهيئة الأحكام الشرعية للمواضيع التي يبتلى بها الناس وكلّ ما في الأمر أنّها ترتبط بعمل خيري تطوّعي من قبل المؤمنين الذين يعتقدون أنّ في ذلك أجراً ، ومن قبل بعض الذين يرون في المنبر واجهة يمكن أن تخدم فكرنا وعقائدنا وكلّ ذلك لا يستوجب في نظر هؤلاء الإلتزام بكفالة هؤلاء الخطباء فإنّ عدم ممارسة الخطباء للخطابة لا يترك فراغاً في البنية الإجتماعية التي يعيشها هؤلاء الناس .
    2 ـ الشيء الثاني أنّه حتى مع وجود شريحة من المؤمنين الذي يعقدون أمثال هذه المجالس ويصرون على أحيائها ولكن ليس من المضمون التزامهم بخطيب معيّن وذلك لأنّ الخطابة بكلّ مقوّماتها إنّما ترتبط بالأمزجة فقد يلائم الخطيب تلك الأمزجة وقد لا يلائمها وأنا أعرف جماعة من فضلاء الخطباء ومن المعروفين بأخلاقهم وتديّنهم ولكن نصيبهم قليل بالساحة ، وأعرف بعض من هو فقع بقرقر ولكن له مساحة ليست بالقليلة . ذلك أنّ بعض من بيده المال وزمام المجلس قد يكون من حسني النية أو ممّن تعنيه أسباب أخرى ، حتى رأيت بعض هؤلاء الفضلاء يقول : ليتني بائع فول فهو خير لي من ضياع وقتي مع هؤلاء ، فداعتبه وقلت له : يروى أنّ نبيّ الله موسى (عليه السلام) كان يصحبه رجل ذو سمت ووقار ومظهر من مظاهر الصالحين ، فصحبه نبيّ الله موسى (عليه السلام) يوماً إلى الصحراء وكانت هنالك أرض خضراء معشبة قد مسحها الربيع بغضارته فتحسّر صاحب نبيّ الله موسى ، فقال له موسى (عليه السلام) : لم تحسّرت ؟ قال : على ضياع هذا العشب ، وقد تمنّيت أن يكون لربّي حمار حتى يأكله ولا يذهب هذا العشب عبثاً ، فوجم موسى (عليه السلام) وتألّم على ضياع وقته مع هذا الصاحب ، فأوحى الله تعالى إليّ : إنّي أحاسب الناس على قدر عقولهم ، فعاملهم أنت على قدر عقولهم . وعلى الإجمال فإنّ مثل الخطيب الذي لا يحصل على أمزجة تهضمه من أين له أن يحصل على ضمان .
    3 ـ ولو قدر للخطيب أن تتوفّر له فرص القراءة دائماً فقد لا يكون وارده ممّا يسدّ حاجته ويفضل منه ما يمكن أن يدّخره . فيبقى يستطيع العيش ما دام قادراً على الأداء ، فإذا ضعف وليس له شيء من المدخّرات فسيقع حتماً في مساحة الضياع ، وقد يتصور البعض أنّ هذا التفكير فيه شيء من عدم الثقة بالله تعالى المتكفل للأرزاق ، وحاشا فما كان الله تعالى ينسى عبداً من عبيده ولكنّه هو ربّط الأسباب بمسبّباتها فقال تعالى : ( إمشوا في مناكبها وكلوا من رزقه وإليه النشور ) .
    وعلى العموم إنّ عدم ضمان الخطيب يدفعه للشعور بالحاجة إلى الناس ومع هذا الشعور سيكون عرضه لمجاراتهم فيما هم فيه وإن كان لا يلتقي مع الموازين الشرعية ولا ينسجم مع ما أراد الله تعالى للإنسان من كرامة ، ولو تجاوز ذلك ومسّ انحرافهم فسيمسّه مسّاً رقيقاً ، وصدق الإمام (عليه السلام) بقوله : (الحاجة رقّ مؤبّد) وما أكثر الثغرات في مجتمعنا والتي لا ندنوا إلى ملامستها لأنّها تؤدي إلى قطع أرزاقنا ، وكلّ هذه المضاعفات تختفي لو قدر للخطيب أن يكون مضموناً ويحرّر من ربقة الخوف من الجوع والضياع وهذا الأمر بدرجة من الوضوح لا تحتاج إلى برهنة .
    وقد يسأل سائل فيقول : هل هناك من الخطباء من تعرّض للضياع كما تقول ؟ والجواب هو العكس حيث يقال : وهل هناك خطيب من الخطباء المنبر الحسيني ـ إلاّ القليل ـ لم يتعرّض لعوز أو حرمان ولم ينتهي إلى حالة من الألم ومن الشعور بالإحباط لوصوله إلى حالة يصعب معها توفير ضرورياته المعاشية . لقد عاصرت جماعة من الخطباء وفيهم من لمع نجمه في فترة من الفترات ولكن أغلبهم وصل إلى درجة من العوز حملت بعض من يعرفهم على السعي لهم عند بعض أهل الخير الذين كانوا يجودون عليهم بشيء لا يكاد يسدّ الرمق وبعضهم تكفّل بعض علمائنا طاب ثراهم بنفقات تجهيزهم بعد موته فليس عنده ولا عند أهله ما يقوم بسدّ تلك النفقات ، والبعض الآخر كان الخطباء يجمعون له بين الآونة والأخرى شيئاً من المال يستعين به على دهره في حين أنّ هؤلاء الخطباء كانوا يعيشون في أوساط مختلفة معروفة بالثراء ، إنّ هذا الأمر انعكس على مكانة الخطيب وقيمته بين الناس .
    وقد يقول قائل : إنّ ذلك ناتج من أنّهم لم يعدّوا أنفسهم إعداداً يرفعهم ويفرض لهم مكانة . وهذا القول حتى ولو كان فيه شىء من الحقيقة ولكنّه ليس الحقيقة كلّها لما سبق أن ذكرته وما لم أذكره من عوامل ، وإذا كان الأمر كما ذكرنا فما هو الحلّ المتصوّر هنا وللجواب على هذا السؤال نقول أنّ الحلّ الواقعي مقصور على جهتين :
    الجهة الأولى : الدولة ما دامت جماهير الأمة لا تستغني عن هذه الممارسة وحيث أنّه حاجة من حاجات الأمّة وإن كانت كمالية فالدولة من مهمّاتها تلبية حاجات الناس ، أكانت تلك الحاجة مادية أم كانت معنوية ، ولكن هذا الجانب قد لا يرضاه الناس ولا الخطيب نفسه لأنّ المنبر الذي يرتبط مورده بالدولة سيكون جارياً وفق رغباتها ، فقد ترى الدولة أنّ بعض الأعمال تشكّل مورداً اقتصادياً للبلد ولو أدّى إلى ضياع الأغراض وانتشار الفساد وبيع الخمر ولا يسع الخطيب المرتبط بالدولة إلاّ أن يكون مسايراً مادام رغيفه بيدهم ، وكم رأينا عند من هو أكبر منزلة من الخطيب ممّن يرتبطون بجهاز الدولة في بعض الدول الإسلامية قد عاد حتى إلى الإنسجام مع اليهود لأنّ الدولة أرادت ذلك ، وكم من هؤلاء من يمرّ يومياً على أمكنة تستباح فيها الحرمات ويعصى الله فيها ولا يقول شيئاً حتى ولو على نحو العموم .
    أمّا الجهة الثانية فقد أشرت إليها فهي المرجعية وقد شرحت ذلك في فصول هذا الكتاب وبيّنت الصورة المتصوّرة . إنّ التأكيد على هذا الأمر ممّا ينبغي لنضمن بذلك كرامة الخطيب وفي الوقت ذاته نضمن المنبر الصاعد ولا مانع من تحديد شروط لذلك ووضع ضوابط يتمّ بموجبها كفالة الخطيب للخلاص من وضع مؤلم عاشه السلف وما يزال الخلف عرضة له ، إنّ مبادرات الشيعة الخيرية كثيرة ولله الحمد وهم أولى بصيانة المنبر لسان الحسين (عليه السلام) .[/align]
    يا محوّل الحول والاحوال ، حوّل حالنا إلى أحسن الحال......








  13. #13
    بنت القطيف زينب Guest

    افتراضي

    بسم الله الرحمن الرحيم
    السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
    اللهم صل على محمد وآل محمد وعجل فرجهم واللعن
    الدائم على اعدائهم الى قيام يوم الدين
    رحمة الله عليه كان محبوبا من الجميع الكل يلهج بذكره وبمحبته
    شكرا لكم هذا الطرح
    تحياتي
    اسالكم الدعاء

  14. #14
    تاريخ التسجيل
    Jul 2004
    الدولة
    هناك
    المشاركات
    28,205

    افتراضي

    شکر الله سعیکم
    يا محوّل الحول والاحوال ، حوّل حالنا إلى أحسن الحال......








  15. #15
    تاريخ التسجيل
    Jul 2004
    الدولة
    هناك
    المشاركات
    28,205

    افتراضي

    [align=center]

    المؤسسة المؤهلة لبناء المنبر


    شرحت فيما مرّ من فصول البحث بعض المفردات التي تسهم في بناء وتطوير المنبر الحسيني وذلك لأوّل وهلة وبأوّل ما تبادر للذهن أو جاء عفو الخاطر وليس معنى ذلك أنّه الصفة النهائية في هذا المورد ، فقد يكون هناك ما هو أصوب بعد إعمال الرأي بدقّة واستدعاء التجارب ، ولكن المهم أنّ أصل الفكرة وبعث المحاولة للبناء والتطوير وإدامة هذا العمل الذي أصبح يمشي مع أجيالنا في مسيرة تقليدية دون أن يكون جزءاً من محتوانا الثقافي وحضوراً في ذاكرتنا كما نريد له . والآن نتساءل ما هي المؤسسة المنفذة لذلك والتي تعمل على البناء والتطوير ؟ والجهات المتصورة في هذا المقام ثلاث :
    1 ـ الأولى الجهة الشخصية وذلك أن يقوم كلّ عضو في مؤسسة المنبر ببناء نفسه وتطوير قدراته الخطابية والثقافية يدفعه لذلك عوامل متعددة قد يكون بعضها عقائدي والآخر مادي وثالث معنوي وهكذا : كما عليه الحال القائمة بالفعل ، وهذا الغرض يؤخذ عليه ما يلي :
    آ ـ قصور قدرات الفرد عن توفير مستلزمات التطوير سواء ما كان منها ثقافياً أو مادياً أو إجتماعياً من قبيل توفير المدرّسين وحشد الخبرات والتجارب والتفاعل بالآراء بين الأعضاء وانفتاح الفرص أمام من يحمل مؤهلاً معترفاً من الأوساط العلمية وهكذا ممّا لا يكون عادة في نطاق قدرات الفرد .
    ب ـ كلّ عمل جماعي يكون أقرب نسبياً إلى الكمال من العمل الفردي عن طريق تبيّن الثغرات واحتكاك الآراء والإستفادة من الجهد الجماعي الذي يمارس في مؤسسة بعكس الحالة الفردية الشخصية .

    جـ ـ تحكم الذوق والمزاج في الحالات الشخصية في مختلف الأبعاد وفي نوعية المناهج وفي اختيار المفاهيم والممارسات على المنبر وقد لا يكون ذلك كلّه ملائماً للظروف المتنوّعة من ناحية ويعطي من ناحية ثانية الإنطباع بالإنفلات وعدم وجود غرفة تحكم بالعمليات الأدائية والفكرية وفي تحديد حجم الخطيب ومساحة الميدان الذي يشغله فلابدّ والحالة هذه في ضبط هذه الأمور من قيادة خطاه والسيطرة عن طريق التوجيه لما ينبغي ووضع جدول سوي لما يطرح من مواد في الموسمين الرئيسين ـ المحرم ورمضان المبارك ـ وذلك كلّه لايتأتى في الحالات الشخصية لأسباب مختلفة ، وممّا يؤيّد ذلك ما نراه من ثغرات في الوضع القائم هي مبعث شكوى ومثار دعوة إلى البناء والتطوير .
    وقد يقول قائل : أنّ المنبر بخير ولا مشكلة هناك وهذا قد يكون صحيحاً نسبياً على مستوى الأفراد الذين تستوعبهم أجزاء من الساحة بمستوياتها المختلفة ولا يعدمون وسطاً يهضمهم ولا يرى فيهم نشازاً ، ولكن على مستوى الساحة ككل هناك أكثر من إشكال يعرفه إخواني الخطباء أنفسهم ويتحسّس الكثير منهم إزائه وياطلب بعمل صحيح للتخلّص منه . إذاً فهذا الفرض الأول وهو التطوير عن طريق شخصي عمل لا يؤدي الغرض المطلوب وعليه جملة من المؤاخذات منها ما ذكرناه ومنها ما لم يذكر .
    2 ـ الجهة الثانية المتصورة للقيام بهذا العمل : الدولة مباشرة أو عن طريق إحدى مؤسساتها مثل وزارة الأوقاف أو التربية أو غيرها . ويرد على هذه الجهة الإشكالات التالية :
    آ ـ لو قدر ذلك فلابدّ للمنبر أن يتقيد ويلتزم بسياسة الدولة في معالجة أي موضوع من المواضيع على مستوى عقائدي أو اجتماعيى أو حتى اقتصادي فلكلّ دولة سياستها في مثل هذه الأمور ولا يسع الفرد المرتبط بها أن يخرج عن هذا الإطار وفي مثل هذه الحالة يكبل البحث الحرّ ويقيّد الفكر عن الإنطلاق وتحدث مضاعفات كثيرة وآثار تترتّب على ذلك .

    ب ـ حرمان دائرة التوجيه الخطابي من أكفاء وأساطين من أهل العمل الذين يبتعدون غالباً عن الدنوّ إلى مؤسسات ترتبط بالرسميات بشكل وآخر ، وذلك يؤدي إلى ضعف الجانب العلمي الذي تفتقر إليه بنية هذا العمل وبالتالي تقلّ القيمة العلمية في نظر الناس لمؤسسة لا يقوم عليها أكفاء عرفوا بالفضل والمهارة .
    جـ ـ اهتزاز كيان المنبر بسبب ربطه بجهة رسمية ممّا اعتاد الناس في مثل هذا الحال على تأويل كلّ قول وعمل وتحميله معنى غير الظاهر منه ما دامت الدولة وراءه حتى ولو كان سليماً . ولذلك أسباب متنوعة ليس هذا مكان بحثها .
    د ـ محدودية ميزانية الدائرة الخطابية لارتباطها بميزانية الدولة العامة ممّا يحول دون إشباع الحاجات والفعاليات المطلوبة في مثل هذا العمل وإحجام المؤسسات الخيرية عن دعمها ما دامت مكفولة من قبل الدولة كما هو الفرض والنتيجة من ذلك كلّه فقر ميزانيّتها .
    هـ ـ عدم استقرارها لأنّها ستبقى خاضعة لمزاج الجهة الرسمية فإذا تغيّرت التركيبة الرسمية فليس من المضمون استمرارها . ولنا في التجارب المنتزعة من واقع عايشناه أدلة كثيرة عن مؤسسات خيرية اعتمدت على الدولة في بقائها فلم تستمرّ وذهب ما بذل من الجهود والأموال في بنائها أدراج الرياح . إلى غير ذلك من ملاحظات كثيرة على ذلك تجعل هذا الفرض غير ملائم ، وهو قيام المؤسسة على الإرتباط بالدولة للإشكالات المذكورة .
    3 ـ الجهة الثالثة : والتي نراها متعيّنة هي المرجعية الدينية على أن تكون مؤسسة من مؤسسات المرجعية الحوزوية ينفق عليها ضمن ميزانية الحوزة ويتمتّع أعضاء الهيئة التدريسيّة بنفس ما يتمتّع به مدرّسو الحوزة بحكم كونهم من صميم الحوزة وإذا فرض أنّ بعض الجهات الخيرية أرادت دعم معهد الخطابة يصرف هذا الدعم لعقار يوقف لصرف ريعه عليه وإذا حدث أن تحقّق الإكتفاء من ريع الموقوفات واستقلّ المعهد مالياً فلا ينبغي أن يستقلّ في وضعه عن إشراف المرجعيّة عليه وإذا تمّ ربط معهد الخطابة بالمرجعية فسيحقّق الأمور التالية :
    آ ـ أهم هذه الأمور توفير الجانب الروحي في ممارسات المنبر وسلوكيته والتقيّد بمزاج الحوزة وأخلاقياتها لأنّه حينئذ جزء منها ولا ينفصل عنها ولا يمكن أن يوظّف ضدّها كما حدث في حالات كثيرة خرج فيها كثير من أهل المنبر عن خط المرجعية وتحوّل إلى أداة لضربها سواء من الحاكمين أو من جهات ذات مصالح للوقوف بوجه المرجعية الأمر الذي أدّى إلى فوضى وضياع طاقة وإضعاف هيبة المرجعية ولنا في ذلك تجارب مرّة في الماضي القريب استغلتها الأحزاب فوظّفت بعض الرقعاء للتعدّي على المرجعية وتوظيف للمنبر لذلك واحتضنتها بعض القواعد الفاسدة .
    ب ـ ضمان علمية المنبر وتضلّعه بأهم المقوّمات وهي العلوم الإسلامية التي تشكّل القاعدة الأساسية لثقافة المنبر وفعاليّته المطلوبة . خصوصاً بعد أن أصبح جمهور عريض من الناس يتلقف الأحكام من المنبر ـ ويا لهول المأساة إذا لم يكن المنبر على دراية بالأساسيات ـ إنّ إنتخاء المنبر للحوزة يوفر القدرة للخطيب على مواجهة الحوادث وتكييفها داخل ضوابط الشريعة وبالتالي سلامة عقائد وسلوكيات الجمهور الذي يجلس تحت المنبر .
    جـ ـ توفّر عملية ربط المنبر بالمرجعية ضماناً للخطيب الذي قد يعجز عن ممارسة مهنته لكبر أو لتعذر الحصول على مجلس يمارس فيه القراءة أو لغير ذلك من الأسباب حيث تشمله رعاية المرجعية ولا يضطرّ إلى أسباب أخرى تسدّ حاجته كما هو المشاهد في كثير من حالات رأيناها وتركت في نفوسنا ألماً لمصير بعض الأشخاص الذين صاروا كالشموس أضاءوا لغيرهم واحترقوا .
    د ـ يوجد هذا الإنتماء تلاحماً في كلّ الهيئات ذات الإرتباط بالمرجعية وخصوصاً الخطباء لقيامهم بدور هام في تثبيت أركان المرجعية ودعوة القواعد للإرتباط بأئمّتها وصيرورة الخطباء ألسنة معبّرة عن أهداف وآمال وتطلّعات مؤسساتنا الدينية . هذا بعض ما يعنّ للذهن في هذا العجالة وقد يكون هناك الكثير ممّا لم ينتبه إليه الذهن فعلاً . وسأؤكد على بعض ما ذكرته هنا لأهمّيته وأذكره مرّة أخرى .
    وانطلاقاً من ذلك كلّه أرفع صوتي إلى أئمّتنا وقادة فكرنا الدينيين أن لا يبقوا الخطباء بعيداً عن حضيرة الحوزة فإنّهم يشعرون باليتم إذا لم يظلّهم جناح آبائهم الروحيين وقبل ذلك كلّه هم تحت كنف الحسين (عليه السلام) أبي الشهداء ، ولست هنا أعلّم أو أحدّد للمراجع تكليفهم فهم قادتنا ولكنّي صوت من الساحة يشعر بثغراتها ويتحسّس حاجاتها وتخوله تجربته الطويلة أن يطرح مطالبه ويطلب من جهة لا يجد ذلاًّ في الطلب منها . وأرجو أن تكون من همومهم في صدارة الموضوعات .
    وهنا أريد أن ألفت النظر إلى أن لا نفترض في الأمر صعوبة إذ نتصوّر كبر المشروع وصعوبة بعض جهاته ، فإنّ مجرّد وضع لبنة ولو بسيطة في البداية ومتابعة البناء يؤدي بالتدريج إلى تحقيق الهدف . كما أنّ كلّ ما يبذل من جهد هنا سيؤدّي إلى مردود أكبر تهون معه الصعاب . إنّ المطّلع على الساحة الإسلامية يعلم أين موقعنا منها وكم هي التهم التي توجّه لشيعة آل محمّد بشكل حي على الساحة . هذا فضلاً عن الركام الهائل في بطون الكتب والذي يحرص أشدّ الحرص على إبعادنا عن جسم الأمة الإسلامية من مختلف الأسباب التي قد يكون بعضها ناتجاً عن جهل أو عن تقليد وحسن ظنّ بالموجّهين أو الذي يكون من آليات مشبوهة تتلقى التوجيه والدعم ممّن مهمّته تعكير الماء ليصطاد . ولا آتي بجديد عندما أذكّر هذا فإنّه اصبح من أكثر الأمور وضوحاً ، ولكنّي أريد أن أقول : إنّ كشف هذه الشبهات وردّ هذه الإفتراءات والقيام بإزاحة الركام الهائل من الثغرات بين المسلمين لا يتصوّر أن يأتي إلاّ عن طريقين : أحدهما الكتاب وهو يقتصر على فئة خاصة ولا يصل تأثيره بصورته الفعلية إلى نسبة تأثير التفاعل الخطابي الحيّ المباشر والذي يتمّ معه الإتصال بين الموجّه والمتلقي ، فالخطيب إذاً وسيلتنا الناجعة للقيام بهذا الدور المشرف وما أكرمه من هدف إذا استطاع أن يذوب الجليد بين إخوة العقيدة الواحدة .
    فما أحرانا أن نعمل جاهدين على صنع المنبر المؤهل منطلقين من الهدف الخير الذي يريد خدمة الإسلام وأهله وفي الوقت ذاته ملء الأمكنة التي تتهيّأ في المواسم لعقد المجالس وتنتظر أن تجد الخطيب المناسب الذي يؤدّي الدور المطلوب منه وغالباً ما لا يتحقّق مطلبهم في الحصول على النموذج المطلوب وخصوصاً بعض المناطق التي يكون حضّار المنبر فيها من مذاهب مختلفة وثقافات متنوّعة تحتاج إلى حدّ ما إلى شيء من الموسوعية يروق في محتواه المتنوّع للفئات المختلفة بحيث يكون إجابة على الأسئلة الكثيرة التي تتردّد على ألسنة الآخرين عن جدوى عقدنا لهذه المجالس وعن مدى الإفادة منها : اللهمّ إنّي قد بلّغت مع أمل كبير بأن يسمع صوتي ما دام مخلصاً وما دام المطلب ملحّاً .[/align]
    يا محوّل الحول والاحوال ، حوّل حالنا إلى أحسن الحال......








صفحة 1 من 3 123 الأخيرةالأخيرة

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •  
 
شبكة المحسن عليه السلام لخدمات التصميم   شبكة حنة الحسين عليه السلام للانتاج الفني