صفحة 2 من 3 الأولىالأولى 123 الأخيرةالأخيرة
النتائج 16 إلى 30 من 32
  1. #16
    تاريخ التسجيل
    Jul 2004
    الدولة
    هناك
    المشاركات
    28,205

    افتراضي

    [align=center]

    أهمّ الأهداف من وجود المنبر


    1 ـ إنّ كلّ فكر وكلّ مضمون لابدّ من التعبير عنه وإلاّ بقي حبيس وعائه على اختلاف في الوعاء ، والكتاب العزيز يقرّر ذلك بقوله تعالى : ( خلق الإنسان علّمه البيان )(1) ، والمضمون الإسلامي كباقي المضامين لابدّ له من معبّر عنه ، والجهات المتصورة المنوط بها التعبير عنه قسمان : خاصة وعامة ; فالخاصة مثل هيئات التدريس تفرغ ما في الكتاب في الأوعية الذهنية وهي مقصورة على طبقة خاصة ، أمّا العامّة فهي المنبر أو المذياع والمذياع غالباً لا يتمخض لذلك ولا يتخصص ، فلم يبقى إلاّ المنبر الفاضل الذي ينطق عن علم وثقافة ويعالج بحكمة وسداد ، فالمنبر إذاً القناة التي نريد منها حمل المضمون الإسلامي للأجيال التي إذا وضعناها في أجواء الإسلام حقّقنا الأمور التالية :
    1 ـ عملنا على الكشف عن المثل العليا التي يتوقّ لها الضمير العام والنزوع الفردي بالإضافة للكشف عن المثل الأعلى : إيمان الفرد بحضارة أمّته وأنّها غنيّة يعتزّ بها .
    2 ـ أنّ الموائد الفكريّة تتصارع وتتزاحم لتأخذ جياع الفكر والعقائد إلى ما عندها ، فلو تركت الساحة خالية من مائدة مسلمة فمعنى ذلك ترك الساحة خالية لعطاء الإنسان وأين عطاء الإنسان من عطاء السماء من كلّ الجوانب . والله تبارك وتعالى قد وضع المسلمين وجهاً لوجه أمام الرسالة ليقوموا بإبلاغها ولينهضوا بعبئها قال تعالى : ( وكذلك جعلناكم أمّة وسطاً لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا ) ـ


    ــــــــــــــــــــــــــــ


    (1) الرحمن 4 .البقرة 143 ـ فإذا تخلّفوا عن ذلك كانوا أمام المسؤولية وخلعوا لباساً كرّمهم الله تعالى بارتدائه .
    3 ـ إذا استبدّت المضامين غير الإسلاميّة بالفرد فمعنى ذلك أنّنا لا نجد إلاّ الإنسان المادي الصرف الذي يحوّل الحياة إلى جسد يصارع لإشباع رغباته وتستأثر به قوى الحيوان بحيث تنعدم آثار الروح وبصمات الأخلاق وينعكس ذلك على كافة أبعاد الحياة فلا نجد الإنسان وإنّما نجد الوحش في كلّ مكان ولا نجد الدفىء الإنساني وإنّما المصالح لغلظتها وجفافها . والمطلوب من المنبر أن يكون من المنابع التي تهيّىء الجوانب الإنسانيّة والخلقيّة أو قلّ أن يساهم في صنع العيش الكريم .
    2 ـ الهدف الثاني العمل على الإفراج عن الفكر المحاصر وهو فكر آل محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم)ويعزّ عليّ أن أصرّح بهذه الحقيقة المرّة . إنّ المنابر الإسلامية غير الشيعية لا مكان في مساحتها الواسعة لآل محمّد ـ عدى استطراد يسير قد يكون صدفة ـ وأسباب ذلك ليست بخافية على الباحث المطلّع على تاريخنا وتراثنا ، وقد حوصر هذا الفكر بأمر مراكز الحكم وظلّ على ذلك بقوّة الإستمرار وبفعل عوامل إضافية ـ وليس هذا الموضع مكان الإفاضة في شرح ذلك فله أمكنته الكثيرة التي تكفّلت بشرحه ، إنّما أردت أن أقول أنّ المنبر من أهمّ أهدافه أن يطلق سراح هذا الفكر ويدحض الشبهات التي أثيرت زوراً حوله ويجلوه من مصادره الموثوقة وفي وعائه المحدد بعيداً عن التزيد خالياً من الضمائم . وفي ذلك فتح الباب وتظافرت القوى على إغلاقه وتيسير الحصول على طعام يعتبر في عداد المخدرات وينبري حتى الهاشميون من أبناء العم لسجنه فيمنع العباسيون حملة العلم من أن يذكروا رأيا لعليّ بن أبي طالب (عليه السلام) في مسألة من المسائل أو فضيلة من الفضائل كما فعل أبو معشر السندي المؤرخ ومفتي بلاط المهدي العباسي ، فلم يذكر قول النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) (لا يبلغ عنّي إلاّ أنا أو رجل من أهلي) ومنع الرشيد أن يفتي برأي لعلي (عليه السلام) أنظر تاريخ الطبري ج3 ص123 ، والأغاني : أخبار خالد القسري .

    فمن مهمّات المنبر الحسيني إذاً الأساسية تقديم هذا النبع الأصيل للعاطشين والعمل على ترويض وعي الآخرين لقبول هذا المحتوى عن طريق العرض الملائم والأسلوب الواعي المهذّب وحسن الإختيار والإبتعاد عمّا لا يلتقي والضوابط الإسلامية الصحيحة لا المفتعلة والتأكد أولاً من صحة ما يروى عنهم وثانياً الإبتعاد عن خلع الذات ومسبقاتها على النص ، وثالثاً التنبّه إلى التناسب بين ما يلقى ومن يُلقي عليهم بعيداً عن الأجواء التي نهى عنها أهل البيت ـ في تفصيل طويل ـ وقد قال الإمام زين العابدين (عليه السلام)فيما يروى عنه : (أحبّونا حبّ الإسلام) الخ(1) .
    3 ـ الهدف الثالث الإبقاء على جذوة الشهادة مشتعلة في كيان الأمّة فإنّ من خواص الشهادة أن تبقى وهجاً لا ينطفىء وتلك حقيقة يقرّرها القرآن الكريم بقوله تعالى : ( ولا تقولنّ لمن يقتل في سبيل الله أمواتاً بل أحياء ولكن لاتشعرون ).
    ومن أجل هذا دأبت الأمم على إحياء ذكر شهدائها لأنّها ترى في ذلك وسيلة لبقاء الأمّة الحيّة ، فالأمّة التي تداس بأرجل الطغاة وتخلّد إلى الدعة والهوان فهي أمّة ميتة رغم أنّها تتحرّك وتمشي فليست الحياة بالحركة والمشي ولو إلى مستنقع الذلّ ورحم الله بعض أدبائنا الذي يقول :


    نحن موتى وشرّ ما ابتدع الطغيان***موتى على الدروب تسير


    إذاً فاستعراض سيرة الشهداء وتاريخهم لا يحقّق إطفاء غلّة اللوعة بقدر ما يضخّ من الخلايا الحيّة لئلاّ تضمر وتموت أوصال الأمة . إنّ نسيان الشهادة هو الموت بعينه لأنّ لا سلاح أفعل من الشهادة في الذود عن كيان الأمّة وإلاّ غزيت في عقر دارها وكما يقول سيد المجاهدين بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) : (ما غزي قوم قط في عقر دارهم إلاّ ذلّوا) ولابدّ من الإشارة هنا إلى الحذر من تحوّل الذكرى إلى مخدر يحوّل الأمة إلى مجرد صدى يردّد


    ــــــــــــــــــــــــــــ


    (1) الإمام زين العابدين للمقرم .

    ذكر أبطاله ويكتفي من البطولة بذكر البطولة فقط ويذوب عنده معنى الإقتداء ، وانطلاقاً من هذا فالمنبر من أهمّ أهدافه أن يظلّ مولداً للشحن تحتاجه الأجيال باستمرار كظاهرة صحية تدلّ على تحرّك الوعي باتّجاه الحياة الكريمة عن طريق الشهادة لا الموت الذليل .


    لا حياة ترتجى في أمّة***كثرت موتى وقلّت شهداءا[/align]
    يا محوّل الحول والاحوال ، حوّل حالنا إلى أحسن الحال......








  2. #17
    تاريخ التسجيل
    Jul 2004
    الدولة
    هناك
    المشاركات
    28,205

    افتراضي

    [align=center]

    مراحل نشوء الخطيب التي كانت سائدة


    قبل أن أدخل في صلب الموضوع لابدّ من الإشارة إلى أنّ أي خطيب في مجمل مسيرته يتوقف نجاحه ـ بعد توفيق الله عزّوجلّ الذي هو عامل غيبي يتعذّر موضوعه على التحليل والتعليل ويخضع لعوامل غير منظورة وأسباب غير معلومة لا تفتقر إلى ما نراه مقوّمات أساسيّة فقد رأينا البعض تنعدم عنده أبسط مقوّمات المنبر ولكنّه مع ذلك لا يعدم جمهوراً يلتفّ حوله وفرصاً لا تتاح لغيره ، ورحم الله بعض أدبائنا الذي يقول :


    لو كان بالحيل الغنى لوجدتني***بأعزّ أسباب السماء تعلّقي


    لكنّ من رزق الغني حرم الحجى***ضدّان مفترقان أيّ تفرّق


    ومن الدليل على القضاء وكونه***بؤس اللبيب وخفض عيش الأحمق


    إذاً لننحي العامل الغيبي بعيداً عن بحثنا لأنّ له مقاييسه التي لا نعرفها ونتناول ما في نطاق قدراتنا الشخصية .
    إنّ سالك طريق الخطابة له صفات خارجة عن الإكتساب قد تتوفر له وقد لا تتوفر ، ومنها أن يرزق صوتاً حسناً وشكلاً وقوراً ويكون من أسرة لها مكانة أو مركز علمي أو تهيّىء له الأقدار أجواء مناسبة لنموّه علمياً واجتماعياً ، وأمثال ذلك ممّا لابد للفرد في تحصيله وإنّما هو عطاء الله عزّوجلّ ويظلّ مع ذلك محتاجاً لأمور أخرى في نجاحه . وسواء أكان ممّن رزق بما ذكرنا أو لم يرزق بذلك فالذي يعنينا هنا تحديداً مراحل مسيرته الخطابية كما كانت سائدة وكما عشتها وعاشها الآخرون ويعيشها حتى الآن من يسير مسيرة تقليدية دون من يخرج من البيضة كاملاً مكملاً ولا يمرّ بأيّ مرحلة من المراحل وما عليه سوى أن (يدرخ) بعض الكاسيتات لبعض الخطباء الناجحين

    بالساحة ويشفعها بشيء من الإدعاءات والعبارات المعلبة التي هي الأخرى تقتبش وتقرأ دون فهم لمعناها وبعد ذلك قد يحتلّ مكاناً في الساحة على حساب الأصالة والفن .
    وعلى العموم بعيداً عن هؤلاء أذكر المراحل التي كانت في أيام تلمذتي سائدة: كان التلاميذ وبعضهم يدرس شيئاً من المقدمات كالنحو والصرف وبعض المتون الفقهية البسيطة وقد لا يكون عنده شىء من ذلك عدى التزامه بأن تكون مادة القراءة كالقصيد مثلاً معربة ولا خطأ نحوي فيها ، وأول المراحل التي يمرّ بها أن ينتمي إلى شيخه ويصحبه في المجالس ويتنبّه إلى أساليب من سبقه من التلاميذ وكذلك يتعرّف على أسلوب شيخه يبقى على ذلك مدّة قد تقصر وقد تطول تبعاً لنباهته وذكائه وخلال هذه الفترة يستفسر عن بعض الأمور التي يشاهدها ويسمعها فيرشده شيخه لما استفسر عنه ويجيبه على أسئلته ويلفت نظره إلى ما هو مرغوب عند الجمهور من نوع الشعر بالفصحى والدارجة وإلى طريقة الأداء المستحسنة .
    وإذا رأى شيخه أنّه قطع مدّة كافية في الملاحظة وأصبح مؤهلاً لبداية بسيطة يبدأ معه المرحلة الثانية بأن يدفعه للقراءة بمجلس بسيط ويقود خطاه في تصحيح أخطائه إن وجدت وفي الوقت ذاته تتدخّل قدرات التلميذ نفسه في إضافة بعض الإختيارات التي يقتنع أنّها مفيدة ومرغوبة . ومن المؤكد أنّ بصمات الشيخ تظهر على تلميذه وتطبعه بنفس الطابع في الغالب ، فإذا كان الشيخ على ذوق وفضل ينعكس ذلك على تلامذته والعكس بالعكس إلاّ أن يكون التلميذ فطناً وذا ذهنيّة جيّدة فإنّة يفلت من بصمات أستاذه ويختطّ لنفسه منهجاً خاصاً ولا يرتبط بأستاذه إلاّ من ناحية كونه ـ معبّراً ـ يمرّ خلاله إلى القراءة لأنّ المجالس عند الأساتذة ولا يتيسّر للتلميذ أن يحصل مستقلاً على مجلس إلاّ نادراً وفي حالات خاصة . وتستمرّ هذه المرحلة كسابقتها وترتبط بمقدار نبوغ التلميذ ويكون التلميذ فيها يطور قدراته وبعضهم يستغلّ وقته لدراسة المقدمات والتوفر على القراءة والحفظ بينما قد يبقى بعضهم على ما هو عليه ، وأنا أعرف بعضاً من هؤلاء وهو شيخ مسنّ فعلاً وما زالت حصيلته كما هي في صغره .

    ويتمّ الإنتقال من هذه المرحلة إلى المرحلة التي تليها بحصول صدفة تكثر فيها مجالس الشيخ فيرسل هذا التلميذ ليشغل المجلس بمقدمة طويلة حتى يفرغ شيخه فيأتي للمجلس ويتفق أن يتأخّر الشيخ لسبب أو آخر فيخرج التلميذ عن نطاق المقدمة التقليدية التي هي قصيدة ـ وأبيات باللغة الدارجة ـ الحسچة ـ ويخرج إلى قراءة بعض النبذ التي ترتبط بالقصيدة من مشاهد نفس واقعة الطف أو من خارج الواقعة ولكن بينها وبين الواقعة مناسبة ، وهنا توجد الفرصة لهذا التلميذ ، فإذا أحسن الأداء والإختيار وأرضى السامعين فذلك بمثابة عبور له إلى المرحلة التالية حيث يتنبّه له الناس فيدعى إلى قراءة مجلس أو مجالس على مستوى البلدة وبأجور متواضعة وأحياناً بدون أجور ما دامت قراءة المجلس توفّر له مكاناً للظهور والشهرة وتدرّبه على الإتقان . وقد عرفت كثيراً من مجالس الملائية ـ رجال الدين ـ يقرأ فيها خطباء بدون أجور بل لمجرد كونها محلاً مناسباً لبروز الخطيب ومع ذلك يرون لهم الفضل على ذلك الخطيب ، وأنا بالذات مررت بشيء من هذا القبيل لأنّه كان يوفّر لي تعميق مهارتي لا الشهرة ـ لأنّ حضاره من كبار رجال العلم الذين يحسب الخطيب لهم حساباً فيضطرّ إلى الضبط والإتقان ويعمل على حسن الإنتقاء وقد استفدت من ذلك فائدة كبيرة لا تعدّ لها بضعة دراهم من الأجور التي تدفع .
    يستمرّ التلميذ في هذه المرحلة وهي أشقّ المراحل لأنّه يبدأ بشقّ طريقه في أجواء من المنافسة الشديدة وفي ظروف تحدي قوي وينغمر في التهيئة والإعداد لما هو أكبر وأوسع والتعرّف على أذواق البلدان الأخرى التي قد يتاح له أن يدعى لها ، وغالباً ما كان القراء يُستدعون من مدن العتبات المقدسة النجف الأشرف وكربلاء المقدسة والكاظمين ولا ينحصر ذلك بها فقد يكون في المدن الأخرى خطباء نشأوا وبرزوا ولكن تبقى مدن العتبات وخصوصاً النجف تستأثر بأكبر عدد منهم ـ وسأعرض إن شاء الله لذلك في بعض فصول الكتاب ـ وهذه المرحلة تعتبر حدّية في نوعية الخطيب ، فقد يقف فيها عند حدّ معيّن لا يرتفع عنه ، وقد يرتفع نسبياً ، وقد يستمرّ في الصعود والعمق والخبرة وسعة المعلومات ، وقد شاهدت هذه الأنواع الثلاثة في خطّ الخطابة .
    وكلّ هذه المراحل لا يتناسق فيها الخطباء وإن عبروها وصار لهم جمهورهم الخاص بل يتمايزون في مقدار التنوع والتجديد وسعة الإطّلاع ، بل وفي الهدف الرسالي وحرارة الممارسة في خطّ خدمة الإسلام والذبّ عن العقيدة . وقد تكون هناك تفصيلات غير مهمّة ذات علاقة ببعض جوانب هذه المراحل مثل أن يتلمّذ بعضهم على أكثر من أستاذ في خط عرضي لا طولي ، ومثل أن يؤكد بعضهم في أسلوبه على الجانب المأساوي من واقعة الطف حتى يعرف به فيقال له (حسيني) بينما يأخذ آخرون جوانب التوسع والتنويع وتغلب عليهم صبغة معيّنة فيقال هذا خطيب تاريخي ، وهذا ديني يقتصر على الأحكام وهكذا ، ومثل أن يرتبط بعضه بذهنيّة العوام وما يلذّ لهم من مواضيع بينما يعرف البعض الآخر بأنّه من خطباء أهل العلم لتوفّره على نصيب من الدراسة وحسن الإختيار ممّا يتفاعل ومزاج الملائية .
    هذه هي المراحل بصورة رئيسيّة ويلاحظ أنّ من يمرّ بها بإتقان يكون له طعم ويتّسم بالإصالة وتمنحه هذه الفترات نوعاً من الذوق يرى أثره واضحاً عليه ـ وأعتقد أنّ هذه الظاهرة ـ في كلّ فنّ وكلّ مهارة وعلم ـ ولمّا لم تكن المدرسة الخطابية موحدة فلابدّ أن تتنوّع صفات الخطباء تبعاً لأساتذتهم وظروف ممارستهم للمهنة وإن كنت لا أحبّ تسميتها بالمهنة ، ولكن يبقى هناك مزاج البلد الذي ينشأ فيه الخطيب ونمط الثقافة السائدة فكلّ ذلك يظهر أثره موحداً في المزاج ونمط التفكير وطريقة الممارسة في كلّ الخطباء الذين ينتمون لهذا البلد . ولاشكّ أنّ ذلك من إيجابيّات المنبر فإنّ للنّاس أذواق ومشارب فقد يروق للبعض ما لا يروق للآخرين. وإن كنت أعتقد بوجود قدر مشترك هو محلّ رغبة الجميع ملخّصه إغناء الفكر والعاطفة من زاد نظيف وطريق موثوق وحسن اختيار .[/align]
    يا محوّل الحول والاحوال ، حوّل حالنا إلى أحسن الحال......








  3. #18
    تاريخ التسجيل
    Jul 2004
    الدولة
    هناك
    المشاركات
    28,205

    افتراضي

    [align=center]

    مقدمات مسيرتي الخطابية

    ولجت ميدان الخطابة في سن مبكرة جداً وكان لي من العمر عشر سنوات أو أكثر بسنة أو سنتين ، وكان ذلك في سنة 1357 ـ 59 هجرية ، وكانت البداية مع والدي الخطيب الشيخ حسون سعيد وهو خطيب غير مشهور كما أنّه كان قليل القراءة وذلك لأنّه دخل ميدان الخطابة وهو في منتصف عمره حيث كان يشتغل بتجارة الحبوب والتمور ويخرج إلى الحيرة لشراء كمّيات منها ووضعها في خان معد لذلك ثمّ يصرفها تدريجياً ، وكانت حالته المالية لا بأس بها إلى أن تصدى صهره وهو الخطيب الجليل المرحوم الشيخ محمّد علي القسام خطيب ثورة العشرين الذي كان متزوجاً عمّتي ولم يعقب منها . قلت له : تصدى له فاقنعه بترك العمل تجارة الحبوب والإنخراط في سلك الخطباء لأنّ ذلك يسلكه في عداد خدمة الحسين، وفي ذلك ما فيه من الأجر، فاقتنع بذلك وهجر التجارة وانصرف إلى المنبر ، وكان كثير الحفظ ولوعاً بالتاريخ وواقعة الطف ومنكبّاً على استظهار خطب الإمام أميرالمؤمنين (عليه السلام) ، يعيش مع شرح نهج البلاغة إلى منتصف الليل غالباً حيث أراه وهو مكبّ على المطالعة وإذا مرّ بفقرة تهزّه يهتزّ لها وينتشي ويكرّرها بلذّة كما كان شاعراً باللغتين الفصحى والدارجة ، وعندي من شعره مجموعة لا بأس بها تركتها في مكتبتي بالنجف ، والتي لا أعرف ما بقي منها بعد أن عدا عليها العادون .
    كنت أخرج مع والدي ليلاً أحمل أمامه فانوساً يضيء له الطريق يوم لم تكن الطرق منارة بالكهرباء ، واقرأ أمامه المقدمة وأعود معه بعد الفراغ ، مكثت على ذلك فترة ولكنّه قال لي يوماً : إنّي قليل المجالس ، ولولا أودّ أن لا أحرم من انتمائي لخدمة الحسين (عليه السلام)لتركتها . من أجل ذلك أنا أحرص إذا لم أقرأ في بلد قريب أن أذهب للبصرة ، ثمّ قال :

    عليك بأن تتلمذ على الخطباء الآخرين الذين يعرفون ولهم شهرة واسعة ومجالس كثيرة ، فإنّ ذلك سيوفّر لك فرص النجاح .
    وبالفعل ، بدأت بالتلمذة بادىء ذي بدء على كل من الخطيب المرحوم الشيخ مسلم الجابري والمرحوم الشيخ محمّد الكاشي وكانت تلمّذتي عليهم لا تتجاوز الخروج معهم للمجالس وقراءة المقدمة ليس إلاّ لأنّ لهم مجالس كثيرة في النجف ويضمن ذلك التعرّف عفوياً على أساليبهم في الأداء ونمط تأليفهم للموضوع الذي يطرحونه ومفرداته . وكان لكل من هذين منهجه في القراءة وسلوكه ; فكان الجابري يحبك موضوعه ويرصفه بجمل مناسبة ولا يتوسع ولكنّه لم يرزق بصوت حسن أو قوي بينما كان الشيخ الكاشي (رحمه الله) بسيطاً في مواضيعه ولكنّه محبوباً في أدائه عند العوام وفي صوته عند الملائية ، فقد كان صوته رقيقاً ويختار من الغير ما يستدرّ الدموع . ولذا كان مرغوباً في مجالس القاعدة ويكثر من قراءة المجالس ويركض وراءه العوام لشجاء صوته وبساطة مواضيعه وقربه إلى مستويات الجمهور النجفي ، أمّا في الخارج فكان قليل النجاح .
    ولا شك أنّ كلاًّ من الكاشي والجابري أعطاني شيئاً من التعرّف على نبض المجالس وما هو مرغوب ممّا هو غير مرغوب ، أخذت بعد ذلك ألتحق بمجالس المرحوم الخطيب الشيخ جواد القسام الذي له طابعه الخاص وإن لم يكن له صوت كما ينبغي ، ولكنّه أخذ من ظلّ عمّه والد زوجته الخطيب الجليل الشيخ محمّد علي القسام فكان له من ذلك نصيب ، وقرأت بعد ذلك ولفترة طويلة مقدمة للمرحوم الخطيب السيد باقر البهبهاني المعروف بسليمون ـ وكان هذا السيد (رحمه الله) يحفظ مجالس محدودة ولكنّها مرصعة ومسبوكة العبارة ومتسلسلة من بداية المجلس حتى المصيبة بحيث يختار لها حتى كلمات ـ النعي ـ باللغة الدارجة ، وكان يعرض الموضوع على بعض أهل العلم ليرتّبه من حيث اللغة والنحو واختيار المفردة لا الوعظية أو التاريخية حتى يخرج الموضوع متلاحماً عضوياً ، فلو قدر أن ينسى جملة من الجمل ضمن الموضوع فسيقف عن المتابعة ويرتبك أو يبتر الموضوع ويدخل رأساً في المصيبة ويختم . ولكنّه من السادة النجباء المعروفين بالطهر والإستقامة وبساطة التصرف وكلّ ذلك جملني على البقاء طويلاً في التلمذة عليه مع أنّي أقتصر على مجرد القراءة أمامه والإستفادة من هديه وأخلاقه لا غير . كان (رحمه الله) لا يستنكف من أن يسألني عن بعض مفردات اللغة الدارجة وبعض أبيات الشعر الفصحى وقد يطلب منّي تتبّع بعض القطع التاريخية وعمّا إذا كانت كما يحفظها هو في أكثر من مصدر .
    وخلال تلمّذتي استفدت من القراءة منفرداً لأنّه كانت له مجالس أسبوعيّة يقرأها في البيوت وقد يزحم تلك المجالس بعض مجالس المناسبات فيرسلني لقراءة مجالس الأسبوع المسماة بالعادة ، وقد كانت تلك المجالس فترة تدريب ممتازة حيث تمرّنت ومارست تطبيق محفوظاتي ومكثت على هذا المنوال وكنت مشدوداً له لطيبه حتى بعد أن انفردت وصرت أقرأ في البصرة المجالس الكبيرة لم أبتعد عنه ولم أبارحه ، وربّما يكلّفني بقراءة مجلس لبضع ليالي في أثناء الموسم فلا أمتنع لما حملت له من تقدير ومودّة إلى أن اختاره الله تعالى رحمه الله رحمة واسعة .
    أمّا الخطباء الذين تلمّذت عليهم بمعنى التلمذة من حيث الإستفادة من مجمل منابرهم شكلاً ومضموناً فهما اثنان : المرحوم الخطيب الشيخ محمّد علي اليعقوبي والمرحوم الشيخ محمّد علي القسام واللذين يتميّز كلّ منهم بميزات منها :
    الأوّل : الشيخ محمّد علي اليعقوبي كان (رحمه الله) خطيباً متمكناً من ناحية الكلام يمزج أثناء قرائته الكلام باللغة الفصحى والدارجة وأسلوبه محبب للنفوس ، له طعمه الخاص ويمتاز بأنّه أديب ضليع بالأدب يحفظ كثيراً من النصوص الشعرية المرتبطة بالمناسبات الهامة من السير والتاريخ والوقائع كما كان شاعراً جيداً سلس الأداء يحكم القوافي ويحسن اختيار المفردة اللفظية وينتقي المناسبات الأدبية التي تستهوي السامعين ويطعم ذلك بالنكات المرحة والخفيفة الظل ويضرب على الأوتار الحساسة التي تشدّ الجمهور سواء كانت عقائدية أم تاريخية ، وله بالتاريخ إلمام واسع خصوصاً التاريخ القريب أو المرتبط بالأسر العلمية والأدبية والحاكمة البارزة ، وربّما ينقل حكماً عقائدياً أو فقهياً نقلاً ، وإن كان لا أخطاء فيه ولكنّه تشعر بأنّه حفظه بنصّه ولا يخوض في تفاصيله لأنّه لم يأخذ نصيباً كافياً من علوم الفقه والأصول والعقائد وإن لم يكن بعيداً عنها بشكل من الأشكال . وكان يمزج كلّ ذلك في مجلسه بترسّل وعفوية واداء لذيذ يضفي عليه بحركاته لوناً محبباً ويبقى السامع مشدوداً إليه إلى نهاية المجلس ، فإذا وصل إلى المصيبة أدّاها بنصوص شعرية جيّدة وغير ركيكة ولكنّه كان متعباً في صوته وقدرته على الأداء لأنّه كان كثير التدخين لا تكاد السيكارة تفارق فمه .
    وعلى العموم كان الجالس تحت منبره يخرج من مجلسه بفائدة ما : إمّا تاريخية أو أدبية أو طرفة أو رواية لامعة ، فهو من حيث المجموع مجلس ممتع يتوفّر فيه الذوق وحسن الإختيار واصطياد المناسبة ومحاولة الإندماج بنفوس الجمهور والتناغم مع مشاعرهم في القضايا العامة ، ويخلو طرحه من الأدعاءات والبطولات المفتعلة ومجموع هذه المزايا التي تحلّى بها ومكانته الأدبية والإجتماعية وصلاته بالمراكز البارزة على مختلف المستويات والتكيف معها بذكاء ولباقة ، كلّ ذلك أوجد له مكانة وأعطاه حيزاً ليس بالقليل في دنيا المنبر وبين الشرائح الإجتماعية المختلفة ، فالتلمذة عليه تعطي التلميذ وتدرّبه على حسن الإختيار والمهارة والإقتباس من المنهج والنسج على منواله . وقد يستفيد التلميذ من مجلسياته المنوعة أكثر ممّا يستفيد من منبره لأنّ أحاديثه مملوءة من الفوائد والطرف .
    وأذكر أنّي أوّل ما قرأت أمامه في دار المرحوم الحاج محمّد دخيّل في طرف العمارة بالنجف ، ثمّ توالت قرائتي معه تلميذاً وبعد ذلك مشاطراً بالمنبر حيث يقرأ خطيبان في مجلس واحد وآخر مجلس من هذا النوع كان في سامراء بموكب أهل النجف وضعف جسمه في أخريات أيامه وتضاءل نشاطه المنبري وصار يجتر مواضيعه الأولى ولا يجدد ، ولكن صورته بقيت مشرقة بالنفوس رحمه الله برحمته الواسعة .
    الثاني : هو الخطيب الجليل الشيخ محمّد علي القسام وكان هذا الرجل عجيب الشأن ، إذا صعد المنبر طرح نبذة تاريخية أو رواية بموضوع ما أو حكمة من الحكم بنبرة هادئة وأداء متأنّي وبقابليّة على التصوير والسرد لها فعل السحر بالنفوس مع بساطة الموضوع ومحدوديته ومادته العادية ولكنّه فيما يحسنه من عرض وما يتقنه من طريقة في الأداء يضفي على الموضوع أجواء خاصة وله منهج في اختيار جُمل معبرة تنتهي إلى صنع حالة يندمج بها السامع معه اندماجاً كلياً ، وكان جريئاً وقوياً في صراحته إذا تناول أمراً يخصّ المصلحة العامة ولا يعنيه أن يرضى عنه الآخرون . ولا تستطيع أن تعطي مجلسه صفة المجلس التاريخي أو الأدبي أو الإجتماعي ولكنّك تبقى عائماً في تحليل يصنع من اللاشيء شيئاً مذكوراً ، فإذا وصل إلى المصيبة فهناك العجب العجاب إنّك تستطيع أن تتحدى من يجلس تحت منبره إذا قدر أن لا يبكي في نهاية المجلس ويتمّ ذلك في روحية عجيبة ممّا ينمّ عن تديّن هذا الرجل وصلته بالله تعالى .
    وكان قليل الإندماج بالناس ومحدوداً في الإتصال بالشرائح الإجتماعية على النقيض من سميّه اليعقوبي (رحمهما الله) . وأول ما تتلمذت عليه في المجالس التي كانت تعقد في وفاة الصديقة الزهراء (عليها السلام) واستمرّت تلمذتي عليه وكان يقرّبني بحكم كونه زوج عمّتي ولا يبخل عليّ بالملاحظات إلى أن صرت أقرأ معه مشاطراً في بعض المجالس وبقي على ما كان عليه من صورة النجاح في منبره حتى أيامه الأخيرة وإن لم تجدد معلوماته ولكن تصويرها يتجدد والتوفيق في أجوائها لم يفارقه حتى وفد على ربه وهو كذلك . وقد انفعلت بموته وشعرت بلوعه ورثيته بقصيدة في حفل أربعينه ، أذكر أنّي لمّا قرأتها للمرحوم الشيخ محمّد علي اليعقوبي الذي عاش بعده فترة وكنّا بالسيارة في طريقنا إلى بغداد اهتزّ لها وأكبرها ومنها :


    ستّون عاماً على الأعواد قد صنعت***لك الخلود فرفرف أيّها العلم

    غذّتك من سير الأبطال ريقها***وعلّمتك وبعض الناس ما علموا


    بأنّ كلّ بناء أسّسوه على***غير الحقيقة والتقوى سينهدم


    وإنّ من لم تلفعه خلائقه***عار وإن لفعته البرد والهدم


    إلى آخرها وهي في حدود الإثنين والستّين بيتاً على ما أذكر .


    وبموته وموت اليعقوبي طويت صفحة لها سماتها وفتحت صفحة أخرى أطلت على جيل جديد .
    هؤلاء الخطباء المذكورون هم الذين تلمّذت عليهم بصورة مباشرة وقضيت فترات من عمري في تتبّع مجالسهم والإستفادة بصورة غير مباشرة من منابرهم ولم يقم أحدهم مثلاً بإرشادي إلى تأليف موضوع أو أعطاني نبذة أو مطلباً جاهزاً ، فما كان ذلك منتظراً منهم اللهمّ إلاّ كلمة أو كلمتين من بعضهم . ولإعطاء القارىء صورة عن حالة التلمذة آنذاك أذكر الحادثة التالية :
    كنت أيام قراءتي أمام المرحوم الشيخ محمّد الكاشي يزاملني الشيخ عبدالحسن بن الشيخ محسن الغراوي . وكان عند الشيخ الكاشي موضوع يقرأه في أول أيام المحرم يعدّد فيه القبائل التي ألّفت الجيش الذي جاء لقتال الحسين (عليه السلام) والظاهر أنّ مؤلف هذا الموضوع إنتزعه من انتماءات الأفراد الذين قاتلوا الحسين (عليه السلام) ونسب الخروج لقتال الحسين للقبيلة كلّها فالحصين بن نمير التميمي ومعنى ذلك أنّ قبيلة تميم خرجت لقتال الحسين ، وخولة بن يزيد الأصبحي ومعنى ذلك أنّ القبيلة خرجت لقتال الحسين ، وحرملة بن كاهل الأسدي هكذا وعلى هذا المنوال كان يقرأ ويعدّ هكذا . إنّ القبائل التي خرجت لقتال الحسين هم تيمم ، سليم ، فزاره ، طي ، أسد ، مذحج الخ والسامعون يعقّبون على قوله الله أكبر يا أبناء الكذا لمن تقاتلون ومن أجل أيّ شيء وأمثال ذلك من التعليقات ، ويأخذ هذا الموضوع رنيناً وأثراً عند حضّار المجلس ، ولمّا كنّا في بواكير أعمارنا العقلية والزمنية كان الموضوع يهزّنا ونحرص على الحصول عليه وحفظه لنحصل به على مكانة ، فأخذنا نلاحق الشيخ الكاشي (رحمه الله) سنة ونتملّق له حتى رضي أن يمليه علينا وأملاه علينا بعد أن أخذ منّا عهداً أن لا نعطيه لأحد لئلاّ ينتشر ويفقد بريقه ، ولو كانت المسجّلات موجودة يومئذ لأراحتنا من هذا التعب والعناء كما عليه الحال هذا اليوم حيث يسطو الكثير على جهود الآخرين بدون عناء ويتشدّقون بأنّهم معادن علم ، وليتهم يطرحونها كما هي ولكنّهم أحياناً بصدد أن يغطّوا على ذلك يلعبون ببعض مقوّمات الموضوع وقد يمسخونه ويقرأون بعض المصطلحات فإذا سئلوا عنها وعن معناها سكتوا أو أجابوا بغير علم .
    وعلى العموم كان الأستاذ آنذاك يضنّ على التلميذ بأيّ فائدة من هذا النوع وإذا اتفق أنّ بعضهم أعطى التلميذ نبذة حمله منه كبيرة وليس معنى ذلك أنّ التلميذ لا يحضر مجالس أخرى أو يستمع لخطباء آخرين ، فقد كنّا نحضر مجالس الخطباء الآخرين ونستمع لما عندهم . فقد حضرت بدء تلمذتي على والدي وأنا صبي مجلساً للمرحوم الخطيب الشهير السيد صالح الحلي بعد أن تصالح مع المرجع الديني السيد أبي الحسن الأصفهاني (قدس سره) وكان في مجلسه جمع كثير ولكنّي ما كنت أفهم تماماً ما يقوله أو أقيّمه ، وكانت تلك آخر أيّامه ثمّ لمّا بدأت أميّز ما يقال استمعت إلى تلاميذه الذين تلمّذوا عليه كالحسنين القبانجي والشخص وكالسيد عبدالأمير القبانجي وغيرهم ومن مجمل بصماته عليهم استنتجت أنّه (رحمه الله) ما كان شخصاً عادياً بل ـ ومتمكناً من الأداء وكان مصاولاً مجادلاً جريئاً ولم ألحظ عند تلاميذه ما يقودني إلى منبر يتناسب وتلك الشهرة وذلك الرنين الذي يؤثر . وأعتقد أنّ ما انتهى إليه من مكانة بعضه ناتج من دراسة في الفقه والأصول والعقائد ، ومن كونه طرفاً في معادلة المشاحنة مع السيد الأصفهاني ووجود جهات تهمّها هذه الأجواء وتنسجم مع مصالحها ممّا دفعهم إلى خلق كيان مقابل المرجع . هذا إذا صحّ استنتاجي الذي استفدته من (صناعة) وقد أكون مخطئاً خصوصاً لعدم وجود وثائق مدوّنة أو مسجّلة ترسمه أمام المحلل إلاّ ما ينسب له من شعر في واقعة الطف وهو شعر لا يقف على قدميه مع شعراء الحلة المجيدين والذين أغنوا ساحة أدب الطف ومن أحب التأكد فليقرأ قصيدته في رثاء مسلم بن عقيل (عليه السلام) والأخرى في رثاء القاسم بن الحسن وأمثالهما . أمّا جوانب حياته الأخرى كالوطنية ومقارعة الخصوم فليست موضع حديثي .
    ومن جملة من كنت أحضر مجالسه المرحوم الخطيب السيد حسن شبّر وكان له منهج خاص وأداء يعرف به ، وكان ينزع إلى الخروج عن مواد المنبر المألوفة إلى مواضيع جديدة على الوسط الذي يحضر المنابر ، وعلى سبيل المثال وردت لفظة سكاسك الهاء في خطبة الإمام أميرالمؤمنين (عليه السلام) الغرّاء ، فكان يقرأ الخطبة فإذا وصل إلى هذه اللفظة بدأ يشرح طبقات الجوّ ومكوّنات هذه الطبقات وما كتبه عنها علماء الفلك وهكذا لا يخلو مجلس له غالباً من هذا النوع من المواضيع ، وكمثل آخر كان يبدأ مجلساً من المجالس بقصيدة السيد جعفر الحلّي (رحمه الله) وهي الميمية التي مطلعها :


    وجه الصباح عليّ ليل مظلم***وربيع أيامي عليّ محرّم


    إلى قوله :


    لو سدّ ذي القرنين دون وروده***نسفته همّته بما هو أعظم


    فيشرح ثمّ ينتهي إلى سدّ ذي القرنين وأين مكانه وكيف بني ثمّ يختم مجلسه بما قام به العباس من سقاية عطاشا الطف . وأكثر ما كان يتوفر عليه شرح خطب للإمام أميرالمؤمنين (عليه السلام) وترصيعها ببعض المناسبات والحوادث التي تحكم المناسبة . وكان صوته شجياً ونبرته قريبة للقلب . وقد سلك منهجه كلّ من الخطيب ناصر البديري وولده المرحوم السيد جاسم شبّر .
    وحضرت مجالس أخرى لخطباء متعددين كالمرحوم الشيخ عبّود النويني وكان يتميّز بصوت قلّ مثيله وبنبرات حزينة ومنهج خاص . وكذلك حضرت مجالس الشيخ مهدي البديري تغمّده الله برحمته وآخرين وآخرين تعرّفنا على مناهجهم وشدّتنا بعض ميزاتهم وكان لكلّ واحد منهم جمهوره الذي يتبعه وكان لكلّ منهم عطاء في ناحية من النواحي وبشكل من الأشكال أرجو لهم به عند الله تعالى الأجر وعند آل محمّد الشفاعة فرحمهم الله وجزّاهم خيراً لإسهامهم في هذا الدرب .
    أعتقد أنّه من مجموع ما ذكرته من مراحل يمرّ بها الخطيب ومن خصائص من ذكرت من الخطباء يتّضح الجوّ العام للخطابة والمستويات التي كانت سائدة والمناهج التي كانت متبعة أمّا كيف واجهت هذه الأنماط السائدة فهذا ما سأتوفّر على شرحه وتحديد معالمه في هذا الفصل وأرجو أن لا تخونني الذاكرة فيما سأشير إليه وأنقله فسبحان من لا يسهو ولا ينسى .
    1 ـ في باكورة التحاقي بالوالد للقراءة أمامه وبعد ذلك بالخطباء الذين مرّ ذكرهم في فصل سابق كنت بدون إرادة مندمجاً بالصورة التقليدية (للمقدمة) أبدأ بقراءة قصيدة من القريض ترتبط بالمناسبة إذا كنّا في الموسم أو بدون المناسبة إذا كانت القراءة في سائر أيام السنة ، ثمّ أتبعها بما يناسبها من مقاطع من قصيدة باللغة الدارجة أو بأبيات من المسمّى ـ بالركباني ـ إلى أن تطوّرت بعد ذلك قصائد اللغة الدارجة من شكلها التقليدي إلى إطار جديد كما هو عند المرحوم عبدالأمير الفتلاوي والمرحوم السيد عبدالحسين الشرع وغيرهما الذين كثروا بعد ذلك وتفنّنوا في بحور وأوزان متنوعة ، وبعد ذلك إذا كانت لي فسحة أمام الأستاذ أقرأ بضع عبارات ترتبط بالمناسبة ، هذا هو الشكل السائد آنذاك ، هذا من حيث المادة .
    أمّا من حيث الإطار فقد حرصت على سلامة الأداء لغوياً ونحوياًوسيتّضح هذا فيما يأتي . ولا أذكر بالضبط كم هو طول هذه الفترة التي قضيتها على هذا النحو ، وخلال هذه الفترة وقبل انتقالي إلى الفترة التي تليها كان يعتمل في ذهني أنّ هذا النسيج الذي يعتمد عليه المنبر ليس ممّا ينبغي أن يكون عليه المنبر وإن لامس مشاعر روّاده وأرضى عواطفهم وملأ عندهم أوقاتهم بشيء ما ، بل لابدّ أن يختطّ المنبر طريقة يقود بها مجتمع السامعين إلى ما هو أفضل ولا يقف عند درجة معيّنة بل إذا صعد درجة يتّخذها سلّمه للثانية وهكذا . كما لابدّ من اختيار مادة تستقطب جمهوراً نشأ حديثاً وهو جمهور المدارس الرسمية الذين تثقّفوا بعلوم حديثة وصاروا يتّخذون منها مقياساً يعرضون عليه ما يسمعونه من معلومات دينية سواء في العقائد والأحكام فما كان منسجماًمعها فهو موضع قبول عندهم وما ليس كذلك فهو مرفوض ، خصوصاً في بدء النهضة الحديثة كما يسمّونها وما اتّسمت به من بريق حتى صارت عندهم حقائق ثابتة لا تقبل المعارضة ولا التشكيك في صحّتها ، فالخطيب إمّا أن يجد طريقاً يجمع فيه بين المعلومات الحديثة والتراث العقائدي أو لا ، فسيبقى على جمهور ـ رجعي ـ كما هو قليل العدد ، كما لاحظت أنّ بعض ما يحشر في أجواء المنبر عند قراءة الموضوع أو المصيبة يتّسم بالمبالغة وبالأسطورة وبمحاولة العبور ولو على حساب الحقائق والذوق والعقل أحياناً وهي أمور تكون مصادرها أحياناً من خطيب يريد أن يكون شيئاً مذكوراً أو يشار إليه بأنّه من الولائين الذين يفنون ويذوبون بولاء أهل البيت يساعد على ذلك بساطة القاعدة المستمعة ذات النفوس الطيبة التي يحملها ولائها الصادق على تصديق كلّ ما يقال في أهل البيت فيستغلّ هؤلاء حبّ المسلمين لأهل البيت ويوظّفونه لمصالحهم على حساب الحقائق من قبيل أنّ ولاية علي (عليه السلام) عرضت على الأرضين فما قبلها كان عذباً وما أباها كان سبخاً ، ومن قبيل أنّ البرق وجه علي في السحاب والرعد صوته ، ومن قبيل أنّ الحسين قتل يوم الطف إثنى عشر ألف فارس إلى أمثال ذلك ممّا قد يكون لها إلى جانب ذوق الخطيب منشأ انتزاع من كتيب كتبها .
    كما اذكر أنّي اجتمعت في كربلاء بدار الدكتور أحمد ثامر (وأبوه (رحمه الله) من أساتذتي فقد كان يدرسنا المعاني والبيان) وقد انتقل إلى دار جديدة وأراد أن يبرّكها بذكر أهل البيت وهي في حيّ الحسين ، وأثناء الجلوس رأيت حركة غير عادية فسألت فقالوا : جيء بالشيخ فلان يحملونه على كرسي ، وهذا الرجل هو الذي يروي أنّ الحسين (عليه السلام)قتل يوم الطف إثنى عشر ألف ، فانتظرت حتى فرغ المجلس وخرج الناس فقلت له :

    يسمح فضيلة الشيخ بسؤال ؟ قال : نعم سل . فقلت له : هل قاتل الحسين (عليه السلام) يوم الطف بمعجزة أم بصورة عادية ؟ قال : بل بصورة عادية . قلت له : لو أنّ اثنى عشر ألف دجاجة تهيّىء وتعلّق للذبح ويتولّى ذابح ماهر قطع رؤوسها بأن يأخذ واحدة واحدة لقطع رأسها فكم تحتاج كلّ واحدة من الوقت ، ولنفترض أنّها ربع دقيقة فمعنى ذلك أنّ الوقت الذي يستغرقه قتلها ثلاثة آلاف دقيقة تقسم على ستّين يكون الوقت المستغرق خمسين ساعة ، هذا على الفرض المذكور أمّا لو كان القتيل رجلاً ومن الفرسان فيحتاج كلّ واحد إلى وقت طويل ، والحال أنّ مدّة واقعة الطف القتالية لا تتجاوز كلّها بضع ساعات فلماذا هذه الروايات التي تتركنا مهزلة بين الناس ، فامتعض (رحمه الله) وخرج وهو غضبان .
    إنّ ما قدّمته من أمثلة مجرّد نماذج بسيطة وهناك الكثير من الدواهي لا أحبّ ذكرها خصوصاً في أجواء المصيبة حيث تذكر أمور تقشعرّ لها الجلود . وإنّي وإن كنت لا أستكثرها على أعداء آل محمّد وهم قوم عرفناهم يعملون أضعافها لأنّهم معادن خسّه ولكن ينبغي هنا أن يتوفّر أمران : الأوّل التأكّد من مصادر الرواية في السند ، وثانياً أن لا يصطدم المضمون مع الأسس العقلية ، كما ينبغي أن نلحظ كرامة أهل البيت فوق كلّ ذلك قبل أن تجمح بنا عاطفة نسمّيها حبّاً لهم ، ورحم الله السيّد الحميري فقد دخل عليه يوماً شاعر طلب منه أن يستمع إلى ما رثى به أهل البيت وما تفجع به لهم ومنه قوله :


    ما بال بيتهم يخرب سقفه***وثيابهم من أرذل الأثواب


    فقال له الحميري : يابن اللخناء من الذي دعاك إلى أن تقول مثل هذا في آل محمّد ، ألا قلت كما أقول أنا :


    أقسم بالله وآلائه***والمرء عمّا قال مسؤول


    إنّ عليّ بن أبي طالب***على التقى والبرّ مجبول


    يقول بالحقّ ويعني به***وليس تلهيه الأباطيل


    إنّ الواقعة ذات دلالة في حفظ مقام آل محمّد وإن كان ما ذكر قد يكون صحيحاً

    ومن أجل هذا قال الإمام زين العابدين (عليه السلام) : (أحبّونا حبّ الإسلام والله ما زال حبّكم بنا حتى صار عاراً علينا) .
    على أنّي ألفت النظر إلى ضرورة دراسة أجواء بعض الروايات التي لم ترد عندنا في كتب معتبرة بل ببعض الكتب العادية فإنّها جاءت في أجواء تجاهل أهل البيت عند كثير من الشرائح المسلمة والأعراض عنهم بل وجحد أبسط الفضائل التي تنسب إليهم وفي الوقت نفسه خلق فضائل موهومة لمثل أبي سفيان وعبدالملك والمتوكل العباسي وأمثال هؤلاء ممّن ملأ تاريخنا بالفضائح ممّا حمل على ردّة الفعل عندهم وأرادوا أن يعوّضوا ولو تعويضاً غير طبيعي ، إنّ أئمّتنا في غنى عن ذلك بما يثبت لهم في المصادر الموثوقة ممّا شرّفهم الله به وصدع به رسوله الكريم واثبتته المصادر حتى من لا يميل إليهم . إنّ كتّابنا الأفاضل لم يفتهم ذلك وتوسّعوا في علم الدراية وسير الرجال الرواة ولا بدّ من اعتماد مناهجهم في ذلك .
    وأعود للقول بالإضافة لما ذكرته رأيت أنّ المنبر آنذاك يستوعبه التأكيد على ظلامة أهل البيت ومواقف من ناوئهم وإذا توسّع فبشيء من ذكر المغزي والوقائع الإسلامية في إطارها التراثي ، فإذا صعد المنبر وصار للأحسن تناول أبعاداً أدبية ودخل في قنوات تراثية تشيّد بأدبنا كما ذكرت ذلك عن المرحوم الخطيب اليعقوبي . إلى هذا الحد يقف طموح المنبر ولا يتعدّاه . ولم أر مماثلة منبرنا للمنابر الإسلامية الأخرى التي وإن لم تكن لها ظروفنا التي تكون عاملاً مساعداً على بقائنا ضمن هذه الدائرة . ولكنّها انطلقت إلى آفاق أبعد وقد أصبحت الأبعاد الثقافية تعجّ بالمنجزات الفكرية في تحليل التاريخ وفلسفته وفي آفاق العلوم النفسية والإجتماعيّة والعلوم الإنسانيّة بكلّ أقسامها والعلوم التي تدخل في المختبر ممّا يمكّن كلّ داعية رسالي أن يستفيد من ذلك ويوظّف بعضها في خدمة المنبر وأهدافه التربوية ودراسة التاريخ وتوظيف بعض نتائج ذلك في الأحداث التي تمسّنا وبالجملة أن نعيش في العصر الذي نحن فيه لا أن نكون عصوراً سالفة تمشي في القرن العشرين .


    كنت أحسّ بهذا وأتّصل بما يجري حولنا عن طريق وسائل الإتّصال من بعضها المتيسّر وخصوصاً المجلاّت والصحف وكنت في بعض جلساتنا مع زملائنا أذكر ذلك فأراهم يتهامسون ويضحك بعضهم ويقول (هذا يحكي كبار) هذا في أقلّ الحالات وإلاّ فقد سمعت كلمات سخرية شديدة منهم فسكت وتعلّمت أن أنطوي على ذلك في داخل نفسي . وعموماً واجهت أوضاع المنبر السائدة بكلّ ما أحمله من طموح ومن أفكار قد يكون بعضها مغرقاً بالطموح وبعضها لم يأخذ الزمن بعين الإعتبار بما له من أحكام ليس من السهل اجتيازها بهذه السرعة وهناك أمور تكاد تكون ثوابت في مجتمع المنبر ينبغي لنا أن نعرضها على مقاييس الكتابوالسنّة وقنوات الشرع وفي الوقت نفسه أن نرىوإن كانت بالأحكام الأولية مشروعه ما إذا كانت هناك عناوين ثانوية تحكمها . كلّ ذلك كان يعتمل في نفسي فماأصنع وأنا المسكين الذي تعوزه أبسط الوسائل لتجسيد طموحاته.
    لقد انتهيت إلى قناعة بأنّ محاولة بناء المنبر بشكل جماعي لم تكن ظروفها متوفّرة ولا القاعدة مهيّئة لها هذا من جانب ، ومن جانب آخر أنّ مشروعاً كهذا يتطلّب أموراً لا يقوم بها فرد عادي بل لابدّ من هيئة لها إمكانات كبيرة وغطاء شرعي وارتباط بجهة تستطيع قطع الطريق على المزايدات التي يتوقّع أن تحصل وبتعبير آخر إنّ الجهة التي تستطيع القيام بذلك هي المرجعية وفق صورة معيّنة كما سبق أن ذكرته في مكان آخر من هذا الكتاب . لقد أيّدت تجربة جمعية منتدى النشر في هذا الموضوع صحّة تصوّري وسأشرحها في مكان آخر من البحث إنّ هذه التجربة كشفت عن أنّ مشروعاً كهذا يحتاج إلى مسح شامل للساحة ولأطراف المعادلة في هذا الموضوع ولمقدار التحرّك . وإلاّ فهناك ألغام مزروعة قد تنفجر عند أبسط ملامسة فيضيع معها الجهد المبذول وترد الفكرة إلى الوراء وإن كانت من ناحية ثانية قد تضع لبنة في بناء المشروع عن طريق ردّ الفعل وتحريك الأذهان الغافلة إلى ضرورة الإسهام في بناء المنبر .[/align]
    يا محوّل الحول والاحوال ، حوّل حالنا إلى أحسن الحال......








  4. #19
    تاريخ التسجيل
    Jul 2004
    الدولة
    هناك
    المشاركات
    28,205

    افتراضي

    [align=center]

    خطواتي في المنهج


    بعد هذه السطور التي ذكرت فيها أبرز الخطوط التي كانت تؤلف مجمل أبعاد المنبر في حدود انطباعي عنها ورواسب ذكرياتي سأذكر هنا ما اتخذته من خطوات اقتنعت أنّها هي المتعيّنة فعلاً على نظرية إذا لم يكن ما تريد فأرد ما يكون . وتتلخّص تلك الأمور فيما يلي من الخطوات :
    آ ـ الإتّجاه إلى بناء الذات أولاً وقدر الإمكان وذلك في المجالات العلمية والأدبية وتجسيداً لذلك واكبت لونين من الدراسة الأول والأهم الدراسة الحوزوية بخطواتها التقليدية من الأوليات والسطوح وقليلاً من المرحلة التي تعقّبهما وذلك لأنّي في خلال ذلك صرت أخرج خارج النجف للقراءة وكان من منن الله تعالى علينا أن يسّر لنا مجموعة من خيرة رجال الحوزة علماً وخبرة وأخلاقاً وطهراً رحم الله الراحلين منهم وحفظ الباقين وجزّاهم عنّا خير الجزاء .
    والثاني اللون المسمّى المنهجي أي الدراسة الحديثة والتي قطعناها إلى آخر مرحلة ولله الحمد مع بعض الدراسات التكميلية أمّا العلوم الأدبية فدرّست بعض مفرداتها ضمن الدراسة الحديثة وعكفت في الباقي على قراءة كتب الأدب في نصوصها النثرية والشعرية . وكان بالإضافة إلى وجود ميل فطري عندي في تذوق الأدب : لجهود المرحوم ذي الخلق العالي والنفس الطاهرة الشيخ محمّد سعيد مانع أثر كبير في توجيهي نحو مختارات من الأدب العالي كان يدرسنا نصوصها في مدرسة منتدى النشر الأولى ثمّ بعد ذلك لأستاذنا العلامة الجليل المرحوم الشيخ علي ثامر مدرس المعاني والبيان وصاحب الذوق الرفيع في حسن الإختيار . وقد مكّنني ذلك من الإطّلاع على جانب لا بأس به من مدارس الأدب . والأهمّ من ذلك أنّ النجف الأشرف ـ وبدون أيّ مبالغة ـ مدرسة عامرة بكلّ صنوف المعرفة ومتضلّعة بفنون الأدب بحيث تحفل نواديها ومجالسها ومناسباتها بذلك فهي عكاظ وبوتقة تصهر الأفراد المتّجهين للأدب وتصنع منهم نسيجاًمتميّزاً ولا ننسى أنّ المفردة الأدبية متغلغلة في أبعاد التفسير والفقه والعقائد ومجمل العلوم الإسلامية وتعتبر مدركاً يستشهد به لدعم الرأي الفقهي والعقائدي والبياني والنحوي وهكذا وكان من أثر ذلك أن بدأت أنظم الشعر في سن مبكرة كما ظهر ذلك على أدائي وتعبيراتي حتى أنّي أذكر أنّه طلب منّا المرحوم العلامة الجليل أستاذنا الشيخ محمّد بن شيخ الشريعة وكان مدير إدارة مدرسة منتدى النشر الدينية طلب منّا أن نكتب أو ننظم في وصف علائق طلاّب مدرسة المنتدى فيما بينهم فنظمت أبياتاً ومنها :


    كلأتهم عناية الله حتى***فصمت بينهم عرى الشحناء


    ولمّا عرضت الأبيات على أستاذنا في الأدب العربي العلامة الجليل المرحوم الشيخ عبدالمهدي مطر اهتزّ للأبيات ومتانة ديباجتها وأعطاني درجة جيدة .
    ب ـ الإتجاه إلى ما أقتنعت أنّه الركيزة الأساسية في بناء المنبر وهو المضمون القرآني عن طريق التفاسير فالقرآن الكريم مصدر التشريع الأساسي ومنبع حضارة المسلم ولم أكن يومذاك بهذا المستوى من إدراك عظمة القرآن الكريم ولكن دفعت بقوة خفية للإنكباب على التفسير والفضل في ذلك لصدفة وربّ صدفة خير من ميعاد ، فقد كنت مارّاً في سوق السراي ببغداد ومررت على مكتبة كانت للمرحوم حسين فلفلي ، فناداني فمررت به وقال لي : عندي نسخة نظيفة لتفسير الرازي ولكنّها ناقصة ولم أعد أذكر نوع النقص فيها هل هو جزء أم قسم من جزء فاشتريتها منه ورجعت للفندق في الكاظمية وفتحت جزءاً منها فوقع بصري على ما أذكر على الآية الكريمة وهي قوله تعالى : ( الذي جعل لكم الأرض ذلولاً فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه وإليه النشور ) ، ولمّا قرأت ما كتبه حولها وتعرّفت على أسلوبه في التفسير والتحليل وغزارة فكره وديباجته العلمية شدّني إليه شدّاً ولم أخرج ذلك اليوم من الفندق بل عكفت على المطالعة وكان في الفندق على ما أذكر الشيخ صالح الدجيلي الخطيب فلخصتُ له مفاد الآية المذكورة . وكان لهذه القراءة اثر كبير عليّ للتوجّه نحو كتب التفسير والإستفادة من عطائها وشرعت أجعل عنوان بعض مجالسي آية من كتاب الله ثمّ أشرح مضمونها في حدود قدراتي وأوشّح ما فيها بمعلومات وشواهد تاريخية وأدبية وعقائدية الخ .
    جـ ـ ومن يومها تبرعمت عندي أول خطوات المنهج ، وكان لهذا النهج وقع جميل على نفوس السامعين شجّعني على تعميقه وأشعرني بشيء من الإعتزاز لأنّي إلى حدّ ما كنت رائداً فلم يكن مألوفاً تقليدياً على الأغلب وإلاّ فقد يكون لبعض الخطباء مواضيع تبدأ بآية من كتاب الله تعالى ولكنّه ليس المنهج السائد عندهم كما أنّ التزامي بهذا النهج أجبرني على توسيع قاعدة المطالعة بحكم تنوّع مضامين الآية وهو مكسب كبير للخطيب يأتي من بركة كتاب الله وفي الوقت ذاته يوسّع الأفق الذهني للخطيب ويثري دائرة المعلومات وتنعكس آثار بركته على السلوك وهو ما يعتبر من مقوّمات المنبر الموفّق ومن أسباب الإستعداد للإفاضة منه تعالى ولعلّ أبلغ ما يعبّر عن ذلك قول إمام المتقين علي (عليه السلام) : (تعلّموا القرآن فإنّه أحسن الحديث وأحسنوا تلاوته فإنّه ربيع القلوب وتفقّهوا فيه فإنّه أنفع القصص) .
    واقتضتني الخطوة الأولى في المنهج أن أخطو الخطوة الثانية وهي عبارة عن التعرف على مشارب المفسرين ومذاهبهم من حيث غلبة الإختصاص على بعضهم ومن حيث تبني النهج الموسوعي عند البعض الآخر وفي الوقت ذاته من حيث التفسير الذي يتعدى ظواهر الكتاب بحال من الأحوال والآخر الذي يغوص بالأعماق مع الإلتزام بالضوابط المعترف بها في هذا العلم كما تعرفت على التفاسير الإشارية وغيرها من مدارس التفسير وأوقفني ذلك على الطاقات الكبيرة عند كثير من المفسرين والتي تحمل على الإنحناء أمام هذا العطاء الضخم بينما هناك من تواضع عطائه إزاء هذا المصدر الذي لا يحدّ غناه .

    ولكن ما آلمني أشدّ الألم وأكّد لي صعوبة التخلص من المكونات الأساسية للمزاج الإنساني هو ما رأيته من تراشق بين فرق المسلمين لا يقتصر على المساجلة والإعتداد برأي المذهب الذي ينتمون له بشكل إيجابي بل يجمح حتى يصل إلى مستوى قد لا يرضاه خُلق القرآن وروح الإيمان . وفرق بين الإنتصار لما يراه المفسّر حقّاً وما يعتقده صواباً وبين الإصرار على التمسك بالرأي وإن كان الرأي كلّه ثغرات ، وكلّ من عاش في أجواء تفسير القرآن يعرف ذلك جيداً . وما لنا إلاّ أن نطلب الرحمة لسدنة كتاب الله تعالى ونترك حسابهم لله عزّوجلّ فهو أعلم بنواياهم .
    هـ ـ والخطوة الثالثة التي تولّدت من الإثنتين السابقتين : هي الأخذ من كلّ شيء بطرف من أقسام المعارف القديم منها والحديث وإنّي وإن كنت أعترف بأنّ هذا الكمّ من المعلومات المتنوعة سيكون على حساب الكيف بحيث لا يتوفّر فيه العمق المعتدّ به ولكن اتّصاف هذه المعلومات المتنوّعة كلّها بالعمق يكاد يكون متعذّراً ، فإنّ كلّ ذي علم يعرف أنّ تعميق أي علم والتوفير على استيعاب أبعاده يقتضي أن يقتصر عليه ويتخصّص به وذلك ما لا يمكن أن يكون في دنيا المنبر لأسباب كثيرة منها أنّ الخطيب لا يدرّس صفّاً على مستوى موحّد من المعرفة بل يقرأ على أناس فيهم من يحمل مؤهلاً علمياً عالياً وفيهم من هو في درجة الصفر وكلّ منهم يريد ما يستفيد منه عند المنبر . ومنها الأثر النفسي الذي يتعرض له سامع المنبر إذا جلس ساعة يستمع إلى علم لا يفهم منه شيئاً ـ كما رأيت ذلك عند بعض الخطباء الذي كان يقرأ وكأنّه يدرس مجموعة من طلبة العلم . ومنها أنّ من أولى مهام المنبر إيصال الفكر الإسلامي وطعام العترةوالمقبلات التي تعيّن على هضم ذلك وهذا يقتضي التنويع ، إلى غير ذلك من الأسباب الكثيرة التي لا يتأتّى معها إعتماد المناهج المعمقة . نعم يتعيّن أن لا تكون خارجة عن ضوابط العلمية والأسس الصحيحة وباقي المقوّمات التي لابدّ من توفّرها عند الخطيب وإلاّ عاد الخطيب ـ خطباً ـ .
    و ـ الخطوة الرابعة : كانت الخطوات السابقة ذات علاقة بمادة الخطابة وماهيتها تعرضت لأهمّ أقسامها وإلاّ فهناك أشكال أخرى من المواد يستفيد منها المنبر إذا أحسن الخطيب توظيفها في محلّها ووقتها . وقد تلعب نكتة بسيطة دوراً هامّاً في الموضوع وتعطيه روحاً وزخماً يعرفهما من مارس المنبر . ومن ذلك نعرف أنّ لا شيء من المعلومات وإن كانت بسيطة لا يستفيد منها الخطيب شرط أن تكون معلومات لا خرافات وأساطير فتلك تهدم كلّ جهد وتذهب بكلّ ما يؤمّل من عطاء المنبر .
    قلت أنّ الخطوات السابقة عن أصناف المعلومات . أمّا الخطوات الآتية فهي ترتبط بملابسات أداء تلك المعلومات ، وهذه الخطوات هي السيطرة على النفس وترويض الأعصاب حتى لا تفلت فنقع فيما وقع فيه كثير من المفسرين والمؤرخين والأدباء وغيرهم وذلك حين نمرّ على آراء ونظريات وتاريخ يستهدفنا خصوصاً ونحن طائفة وضعتنا الأقدار في موضع لا نحسد عليه وحشدت علينا الدنيا ما تملكه من أسلحة بدون أيّ استحقاق أو ذنب اللهمّ إلاّ إذا أراد الله تعالى أن يثيبنا على ذلك وبوسع كلّ متتبّع لأبعاد المعرفة الإسلامية أن يتأكّد من ذلك فقد ابتلينا بمن يكذب علينا أو يزور علينا حتى كان الكذب علينا جائز وحتى أخذتنا الحجارة من كلّ جانب ومكان وحسب علينا من لم يكن منّا وحمل علينا ما عند غيرنا وعدّ بعض ما عندنا عاراً علينا بينما هو نفسه عند الآخرين ولكن يعدّ فضيلة لهم وسرّ ذلك معلوم كما أنّ عند الآخرين وسائل إعلام متنوعة لا نملك منها شيئاً ولا أريد هنا أن أخرج عن صلب موضوعي ولكن لأبيّن أنّ وسيلة إعلام محدودة عندنا هي المنبر الحسيني فيتعيّن أن نروّض أعصابنا حتى نضمن له الإستمرار وليس معنى ذلك أن لا نجهر بالحقّ ، كلاّ ولكن أن لا تأخذنا ردود الفعل بعيداً عمّا ينبغي فإنّ نتائج ذلك لا تخدمنا ومنهج القرآن يصرخ آناء الليل وأطراف النهار بقوله تعالى ( وإذا مرّوا باللغو مرّوا كراما ) ، والعاطفة متى أجّجت قد تعتدي حتى على الحقائق ولا تؤدي إلى الدفاع عن الحق فقط ولنا في أخلاق الرسول الكريم وسيرة عترته الطاهرة أروع الأمثال في هذا الموضوع . يقول الإمام أميرالمؤمنين (عليه السلام) : (عاتب أخاك بالإحسان إليه واردد شرّه بالإنعام عليه) .

    هـ ـ الخطوة الخامسة التأكيد على الموضوعية في ممارسات المنبر بعيداً عن الذات وأنانيّتها فإذا استعرضت بالنقد لآخرين مثالبهم فلا تدفعني الذات لنسيان ما قد يكون لهم من فضائل حتى يكون للمنبر وزنه بحيث إذا سمعه سامع أدرك أنّه يريد أن يبني وأنّه ليس مولعاً بالهدم أو مهلمجاً بالباطل . كما ينبغي أن يقول الحقّ ولو على نفسه ورهطه هذا هو أدب القرآن الذي ينبغي أن يتأدّب به المنبر الحسيني حتى يكون ذلك من أسباب توفيقه .
    وقد يكون التأكيد على الموضوعية داخلاً في العنوان الأول ـ السيطرة على الذات ـ بشكل من الأشكال بمعنى أنّ من السيطرة على الذات توجيهها للموضوعية ممّا يرسم بصماتها على مادة المنبر . ولكن هذا الأمر يفترق عن الأول بأنّ الإنسان قد يكون موضوعياً في التقييم انطلاقاً من الإتّزان وأجواء الأداء قد تسلم من الإنفعال ولكن لا تسلم من التحوير في فهم النص تبعاً للهوى . وكم من منبر سمعناه يذكر حدوث واقعة الغدير وأنّ النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) رفع بها علياً على المنبر وقال : (ألست أولى بالمؤمنين من أنفسهم قالوا : بلى ، قال : اللهمّ فاشهد وأنت يا جبرئيل فاشهد) الخ .. ثمّ يفسّر معنى المولى بأنّه الناصر والمحب ضارباً بالقرائن كلّها عرض الجدار وهذا هو معنى عدم الموضوعية باختصار فينبغي أن لا ينظر الخطيب بعين واحدة حتى لعدوّه كما ينبغي أن يرتفع قدر الإمكان عن تأثير الذات على الحقيقة ، هذا ما ألزمت به نفسي في أثناء بحوث المنبر . فالسيطرة على الذات ترتبط بالنفس والموضوعية بالأمانة ونقل الخير والشر .
    حـ ـ الإستفادة من تطبيق المقاييس التي رسمتها العلوم المختلفة في معالجة الأمور الإنسانية . لأنّ مادة المنبر مهمّتها بناء الإنسان من حيث تغذيته بالمعلومات وتوجيهه وإرشاده وتعريضه للفوائد دنيوياً وأخروياً ، وإذا كان كذلك ينبغي أن نأخذ بعين الإعتبار أنّ من ينشأ على عقيدة أو مذهب ويشبّ عليه فليس من السهل زحزحته عن ذلك ، هذا من ناحية ومن ناحية أخرى لا ينبغي أن نحكم عليه بأنّه من حطب جهنّم مع أنّه عاش وولد بأجواء غذته عقيدته فيها بالتقليد فشبّ عليها وهو يرى أنّها الحق فلابدّ من أن نأخذ ذلك بعين الإعتبار ويكون دورنا أن نحرّك إرادته لحسن الإختيار ونضيء له الطريق ولا نحقد عليه فلو كنّا مكانه لاعتقدنا عقيدته والعكس بالعكس .
    وتحضرني هنا رواية رواها الخطيب البغدادي في تاريخه مفادها أنّ أميرالمؤمنين (عليه السلام) مرّ بالمدائن في طريقه إلى صفين وأراد أن يغتسل فقال : اسكبوا لي ماءاً والتمسوا لي موضعاً أستتر فيه عن الأعين لأغتسل ، فأخذوه إلى بناء تهدم رأى فيه صوراً على الجدران فقال : أظنّه كنيسة مهدومة ، فقال بعض أصحابه : نعم يا أميرالمؤمنين ، طالما أشرك بالله هنا . فقال (عليه السلام) : ولكن طالما عبد الله هنا . والظاهر من هذا أنّه يريد أنّ من يدخل الكنيسة إنّما يدخلها للبحث عن الله تعالى ومغفرته وقد رُبي ونشأ على هذه الطقوس التي تمارس بالكنيسة بزعم أنّها عبادة لله ، فإذا أردنا إرشاده فلا ينبغي أن نحرجه بل ينبغي أن نبرهن له على خطأ هذا الطريق كما نعتقد ونحرّ إرادته للأخذ بالصواب حتى يقتنع ويعمل بمسؤوليته للخروج ممّا هو فيه . وفي هذه الرواية توجيه للأخذ بعين الإعتبار للظروف الموضوعية في معالجة الأمور .
    هذه أبرز ما اعتمل في نفسي من تصورات حول مادة الخطابة وطرق الوصول إلى حسن الإنتقاء فيها ، ثمّ كيفية أداء تلك المادة في جو من الموضوعية بعيداً عن الإنفعال . ويجب أن أسجّل هنا أنّ هذه الأمور التي ذكرتها في موضوع مادة الخطابة وكيفية أدائها لم تكن في ذهني بهذه الدرجة من النضج ولكن أدركت خطوطها بصورة إجمالية وبدأت أنتقل بها من التصور إلى التطبيق في حدود منابري المتواضعة آنذاك وأخصّ منها بالذكر السيطرة على النفس وعدم الإنفعال سواء منّي أو من المستمع الذي قد ينفعل إذا مرّت به جملة تحمل مضموناً عقائدياً مثيراً أو حادثة تاريخية تلامس عنده موضعاً حساساً ، فكنت أكفكف غلوائه إذا انفعل أو بدرت منه كلمة لا تخدمنا وأشرح له ضرر أمثال هذا الإنفعال وعدم جدواه على الصعيد العملي وأستشهد له بمواقف حدثت لأئمّتنا (عليهم السلام) مع بعض الناس من أوليائهم وأعدائهم سيطروا فيها على النفوس ونهوا عن الإنفعال .
    وبعد أن ذكرت أبرز ما ألزمت نفسي به في مقام المادة للمنبر وأداء تلك المادة ، أنتقل إلى ما ألزمت به نفسي من محاولة التقيّد بسلوك معيّن في المظهر والبواطن النفسية ، ولولا أنّي بصدد تسجيل خطواتي لما ذكرت هذا الموضوع لأنّ فيه تزكية للنفس ـ ( وما أبرّىء نفسي إنّ النفس لأمّارة بالسوء إلاّ ما رحم ربّي ) ـ أو أنّ فيها كما يقول الأصوليون أصل مثبت ، وعلى العموم سأذكر أهمّها :
    ط ـ أولاً ما هو على صعيد النفس كنت عندما أتوجه إلى صعود المنبر لا يقتصر همّي على الإجادة وإرضاء السامع بقدر ما يتّجه همّي إلى أن ما أذكره هل هو بمستوى كرامة الإسلام وأهل البيت أم لا ، ثمّ بعد ذلك هل هذا الذي أؤدّيه سيصوّرني بصورة (نوحه خون) يرتزق ، أم بصورة خطيب محترم له كرامته . كان هذا الأمر يهمّني جداً ويسيطر على أدائي حتى في انتقاء اللفظة المتينة المعبّرة في الحركة على المنبر بحيث أعتبر كلّ ذلك من مقوّمات المنبر المتّصف بالوقار . ومن أجل ذلك ألحّ على نفسي وأرهقها بالإلتزام بذلك ، أمّا في المظهر فقد كنت متزمّتاً تمام التزمّت إلاّ فيما يوحي كما أظنّ بالدجل مثلاً لبس السواد في محرّم وصفر كنت أتصوّر أنّ فيه نوعاً من الإعلان عن حزن مفتعل كما أنّ فيه محاولة لتكميل نقص عند الخطيب . هكذا كنت أتصوّر ، ولولا ذلك للبست ما يمكن من السواد ، فالحسين (عليه السلام) عبرة كلّ مؤمن ومؤمنة إذا أطلت أيام ذكراه لبست الأرواح الحزن قبل الأجساد ، أمّا باقي الإلتزامات بما يحقّق الوقار فكنت حريصاً عليها حتى أنّي لم أنتعل حذاءاً حديثاً إلاّ متأخراً بعد مضي فترة ليست بالقليلة وواظبت على انتعال الحذاء التقليدي ، ولم أنخرط في الأجواء التي كان بعض صنّاعه الخطباء يألفونها مع أنّها بريئة ، ولكن لتصوري أنّها تنافي الوقار ، من ذلك مثلاً أنّ هناك نوعاً من الأطوار التي تقتبس من شعر الأفراح أو شعر الطرب وتستعمل في القصائد الحسينية عند كثير ممّن ينظم باللغة الدارجة ، وكان لها وقع بالمجالس عند العوام بل وعند البعض الآخر ومع ذلك اجتنبتها ، ولأنّها في نظري قد تمسّ قدسيّة المناسبة وثانياً لأنّي كنت لا أكثف موضوع المصيبة بل آخذه عفو الخاطر .
    ومن أجل هذا الوقار الذي كنت أراه لازماً للخطيب كنت أتعمّد الجلوس مع كبار السن من الخطباء ولم تكن لي صحبة قوية مع من هم في سنّي لأجل أن أعطي عن نفسي صورة المتّزن المهذّب في سلوكه وكنت أستحضر كلمة الإمام أميرالمؤمنين (عليه السلام) والتي سمعتها قبل أن أقرأها من المرحوم الخطيب الشيخ جواد القسام وهي : (إنّ من نصب نفسه للناس إماماً فليبدء بتعليم نفسه قبل تعليم غيره ، وليكن تأديبه بسيرته قبل تأديبه بلسانه ، ومعلّم نفسه ومؤدّبها أحقّ بالإجلال من معلّم الناس ومؤدّبهم) ج4 نهج البلاغه ـ الكلمات القصار ، ومع ذلك كنت ـ وما أزال ـ مقصراً كثيراً في الإلتزام بما يعمق الأجواء الروحية من التزام بالوسائل المؤدية لذلك ، لأنّ بدايات خطواتي انصرفت إلى الإقتصار على الواجب والإنصراف إلى بناء الذات في أفق المعلومات والسلوك ولعلّ خلوّ مناهجنا التربوية نظرياً وسلوكياً من العلوم الأخلاقية له الأثر الكبير في ذلك وهذا هو موضوع ينبغي الإعداد له وتلافيه لأنّ له أبعد الأثر في تهذيب النفوس وتوفير الأجواء الروحية في عملية التبادل بين الخطيب والمستمع .
    ي ـ ولعلّ أهمّ ما التزمته في خطوات المنهج مواصلة رفد المعلومات التراثية من عقائد وأحكام وتاريخ وشؤون أخرى ومحاولة تطعيمها بما يمكن أن يخدمها من المعلومات الحديثة لأنّي أؤمن أشدّ الإيمان بأنّ رسالة المنبر في بناء الأجيال لا تتحقّق إلاّ بتوجّه روّاد المجالس إلى الخطابة بإقبال وذلك لا يحصل إلاّ إذا وجد المستمع جديداً عند المنبر وهذا يبعثه على متابعة عطاء المنبر وتلقيه بشوق وبالتالي بالتأثر به . إنّ هذا التجديد من أول آلياته التجوّل في أبعاد المعرفة وملازمة الكتاب خصوصاً كما سبق أن ذكرت مع إحراز وإتقان الأسس العلمية التي تعطي الخطيب قدرة على تحديد المعلومات عبرها ليرى ما هو صائب منها وما هو غير صائب وما يلتقي مع مقاييسنا وما لا يلتقي وما فيه أصالة ممّا ليس فيه أصالة وقد عانيت كثيراً ممّا أسعى الآن إلى تلافيه وهو عدم إكمال دورات كاملة في الفلسفة وأصول الفقه وقواعد الفقه وذلك لتعذّر التوفّر على إكمالها مع الإيفاء بمتطلّبات الخطابة الأخرى . ولكنّي أعترف أنّ هذا خطأ كبير سيتعب الخطيب المحترم في مستقبل أيّامه فإنّ ما يربحه الخطيب من معلومات على حساب العلوم الأساسية لا يساوي كثيراً بعكس ما لو أتقن العلوم الأساسية فبوسعه بعد ذلك أن يحصل على ما يريد من المكملات .
    إنّ هذه النصيحة أوجّهها إلى كلّ من يريد سلوك درب الخطابة . وينبغي أن نستفيد ـ مع الإمكان ـ من المعطيات التقنيّه الحديثة التي وفّرت للباحث ثروة هائلة من المعلومات ، فنحن في عصر الكمبيوتر والأنترنت والأقراص المدمجة وهكذا بوسعنا أن نلمس جهازاً صغيراً ليضع أيدينا على دنيا هائلة من العلوم والمعارف وأين هذا ممّا عشناه في بداية مسيرتنا يوم كنّا نبحث عن رواية أو موضوع بحثاً مضنياً ونقضي أوقاتاً طويلة فربّما نحصل عليها وربّما لا نحصل ، ولسنتحضر دائماً معنى أنّ انتمائنا إلى المنبر أعطانا مادياً ومعنوياً عطاءاً ثراً فينبغي أن نعطي المنبر من جهدنا وفكرنا ما يتناسب وما أغدقه علينا على قاعدة أنّ الغنم بالغرم وإلاّ كان عقوقاً للمنبر .
    وأودّ أن أختم هذه اللمحات العابرة بتذكير إخواني الخطباء بما ينبغي أن يعتزوا به وهو أنّهم في قناة انتظمت أئمّتنا (عليهم السلام) ابتداءاً من أميرالمؤمنين (عليه السلام) حتى صاحب العصر أرواحنا فداه لقد كانوا روّادنا في إحياء ذكرى الحسين ولفت الإنتباه إلى واقعة الطف وتصوير مآسيها وشدّ الناس إلى الاستفادة من دروس الطف والحرص على البقاء في تماس مع معطياتها فإنّها رافد لا ينبغي أن يجف ودم سيبقى ثأر الله تعالى ولقد أعد أئمّة أهل البيت لذلك وسائل متنوعة تبتدأ باستعراض الواقعة شعراً ونثراً وعقد الندوات والمجالس لذلك وبالوقوف ميدانياً على أرض الواقعة ليشمّ الأنف عبير الدم بالتراب ويستدعي الذهن مواقف الرجولة ونتلمس الإيحاء المكهرب في ضريح ما يزال يمدّه الشلو المبضع بشحنات من العزيمة لم تمت رغم الأعضاء المقطعة والأوصال المبددة ويستعرض الواقعة برقيمه من الزيارة تمجد الموقف وتستمطر الرحمة جزاء للشهادة وتشجب الظلم ظلم النفس الخبيثة تستهدف النفوس الخيرة التي حملت صرخة الإنسانية المعذبة التي تنشد العدل ، ثمّ بعد ذلك شدّنا شدّاً وثيقاً إلى تربة جرى عليها الدم الطاهر لنبقى كلّما سجدنا عليها لله تعالى ذكّرتنا بالمثل التي من أجلها أريق ذلك الدم الطاهر ، ويأتي بعد أئمّتنا سلفنا الصالح سدنة الإسلام وحملة علوم الشريعة وفقهاء الأمّة ليكونوا من روّادنا في طريق المنبر بإحياء ذكرى أبي الشهداء كتاباً وشعراً وممارسة وعلى سبيل المثال لا الحصر الشريف الرضي والإمام الشافعي ، والإمام أحمد بن حنبل وهكذا بتسلسل استعراض الواقعة من العصور الأولى إلى هذه العصور فنجد جملة من أساطين الفكر والمعرفة ونوابغ العلماء من الإمامية ضمن هذه الدائرة ومنهم من أساتذة الأجيال كالشيخ محمّد حسين الأصبهاني ومحمّد الحسين آل كاشف الغطاء ، والسيد محمّد تقي آل بحر العلوم والشيخ عبدالحسين آل صادق والسيد محسن الأمين العاملي والسيد رضا الهندي والشيخ محمّد تقي آل صاحب الجواهر وعشرات من أهل الفضل الذي عرفوا باستعراض واقعة الطف بنفس المحترف لا الهاوي وألموا إلماماً كاملاً بجزئيات الواقعة إنّ ذلك يبعث فينا الفخر حيث نسلك في عداد هذه الشرائح الجليلة فما أحرانا بأن نكون في مستوى ما وضعنا فيه من مكان كريم وقد أشرت لذلك في مكان آخر من الكتاب .
    وبعد فإنّ هذه الخطوات التي خطوتها في المنهج ليست هي القالب المتعيّن أو المنهج الأمثل ولكنّها الأمور التي اقتنعت بأنّها سبيل إلى منبر محترم إلى حدّ ما وللآخرين سبيلهم الذي يرونه ولكن بما أنّها جزء من تجربتي الذهنية والعملية في هذا الميدان أحببت أن أضعها بين يدي إخواني من خدّام سيد الشهداء الذين أصبحت مسؤولياتهم ثقيلة ومهمّتهم شاقّه بعد أن صعد الزمان بأهله ووضع المنبر مباشرة أمام سمع العالم وبصره عن طريق وسائل الإعلام المرئية والمسموعة وصار الناس يستمعون إلى أطروحاتنا ويقرأون عقولنا أو فكارنا ليحكموا عليها بعد ذلك بما يرفع أو يضع ومع نتيجة الحكم يتعزّز مكان المنبر من الساحتين الإسلامية والإنسانية فهل هناك ما هو أكثر محفزاً لنا على مضاعفة الجهد والعمل الدؤوب من أجل أن نكون أو لا نكون فلنطلب العون منه تعالى والتسديد في مهمّتنا فهو المسدّد والملهم للصواب : ( قل هذه سبيلي أدعوا إليها ) .
    وقد خطر لي أن أذكر بهذا الفصل أوليات المنبر ومسيرته إلى الوقت الحاضر ولكن تركت ذلك أولاً لكونه ليس ممّا يدخل في تجربتي وأنا بصدد الحديث عنها ، وثانياً لأنّ هذا الجانب قد كتبت فيه كتابات ولو كانت مجملة ولكن بعضها كان ذا أصالة ومفيداً ، وثالثاً أنّ ما كتبته هنا هو على شكل برقيات لم أتعمّد فيها التوسع وإعادة النظر سباقاً مع الوقت وخصوصاً أنّ بين يدي أكثر من كتاب أحاول إن شاء الله إكمال سطوره المتواضعة .[/align]
    يا محوّل الحول والاحوال ، حوّل حالنا إلى أحسن الحال......








  5. #20
    تاريخ التسجيل
    Jul 2004
    الدولة
    هناك
    المشاركات
    28,205

    افتراضي

    [align=center]

    تكريم المنبر


    واجهت في بدء نشأتي أموراً ترتبط بالمنبر من جوانب مختلفة ولها صلة بحفظ مكانته . فتمرّدت فيها على النمط المألوف وواجهت من أجل ذلك شيئاً من الإحراجات انتهت بعد ذلك بالنسبة لي ولجماعة من الخطباء ولكن لم يزل بعضها قائماً إلى الآن وهذه الأمور هي :
    1 ـ أولها وأهمّها ما يتعرّض له الخطيب من عدم اهتمام بتهيئة محل لائق له من خلال تأديته لرسالته في المنبر حيث يوضع في حجرة في مسجد أو على أحسن الفروض في حجرة من حسينية بدون أن يؤمن له الغذاء المناسب والخدمات التي يحتاجها وأحياناً تكون تهيئة المكان على مسؤوليته ممّا يسبّب له صعوبة في الحصول على المكان المطلوب الذي تتوفّر فيه الراحة حتى ينصرف إلى الإعداد للمجلس والمراجعة للمواضيع وحفظ صحّته لكي لا يتعرّض إلى المرض الذي يمنعه من القيام بمهمّته . مع أنّ أغلب المجالس يمكنها أن يهيّىء القائمنون عليها مكاناً يحفظ للخطيب كرامته ويؤجرون عليه كما يؤجرون على باقي نفقات المجلس .
    وحين واجهت هذه المشكلة تمرّدت عليها من الأيام الأولى لممارستي الخطابة فكنت أفضّل أن أقرأ بمجلس بأجر متواضع مع توفير ما يحفظ كرامتي من مكان وطعام على المجلس الذي يدفع كثيراً ولكنّه لا يلتزم بالخدمات ، وإذا تعذّر ذلك كنت أقوم بتهيئة محل مناسب على حسابي درجت على ذلك في بغداد والبصرة والكويت والإمارات والبحرين وفي كلّ بلد حللت فيه فصار من المعتاد أن يكون نزولي إمّا في بيوت أصحاب المجلس أو بيت يهيّىء خصيصاً لذلك ، ولي في ذلك قصص طويلة مع أصحاب

    المجالس ، وانعكس هذا الترتيب مع جملة من الخطباء وأرجو أن يعمّ ذلك كافّة الأماكن التي يرتادها الخطباء فإنّ تكريم خدمة سيد الشهداء تكريم للحسين نفسه وإعزاز لأهل العلم وفي الوقت نفسه تهيئة فرصة مناسبة لإجادة أداء الخطيب .
    2 ـ لاحظت ظاهرة ثانية هي ما يقوم به البعض من الجمع في المجلس لتوفير أجور الخطيب وقد يجمع لبعض المتسوّلين أو لمصاريف المجلس أو لمشاريع مزعومة كما يفعل بعض (من لا حريجة له في الدين ولا مكانة في الخُلق) وهذه الظاهرة في نظري من أقبح الظواهر . أمّا فيما يخصّ أصحاب المجالس فخير لهم أن لا يقرأوا إذا لم يكن لهم مورد يسدّ نفقات المجلس أو يتمّ التبرّع من الجهات الخيريّة خارج نطاق المجلس وبأجواء تحفظ الكرامة وتقطع على المحتالين الطريق . إنّ هناك مصادر تكفل تمويل المجالس كالأوقاف والتبرّعات وصناديق البرّ التي تكون في مؤسسة محترمة لا تحوّل المجلس إلى جهة مهانة ولا الخطيب إلى متسوّل ، وحين رأيت هذه الظاهرة واجهتها بكلّ قوّة ومنعت أن يجمع في المجلس الذي أقرأ فيه وحتى لبعض المحتاجين كنت أكلّف لهم من بجانبي بعد أن أبدأهم أنا بما عندي وأسدّ حاجتهم قدر الإمكان . ذلك في نظري ممّا يرتفع بالمجلس عن هذا الدرك الذي يريد بعضهم إيصاله إليه ولا تهمّه كرامة المؤسسة الحسينية .
    3 ـ امتنعت عن الإسهام في بعض الفعاليات التي درجت عليها بعض المجالس والتي رأيت أنّها لا تخدمنا ولا تخدم عقائدنا بل قد تنتهي بنا إلى محاذير وتجعلنا في نظر البعض عديمي الأخلاق أو مخرفين . لقد رأيت في بعض المجالس التي تقام بالخليج عدم وجود حواجز كافية بين الرجال والنساء وعرفت أنّ البعض يشجّع ذلك لأسباب مريضة أقلّها أن يحصل على حشد أكبر عن طريق وجود المرأة التي يرغب الكثير في الإختلاط بها ويبرقع ذلك ببراقع موهومة وبكمّيات هائلة من الثواب لمساهمة المرأة في إحياء ذكرى الحسين ولإعطاء المرأه فرص متساوية مع الرجال ولأنّ الزهراء (عليها السلام) تحضر في المجلس فينبغي أن تحضر النساء وهكذا .


    ولو قدر أنّ كلّ هذا صحيح فلا ينحصر ذلك في الإختلاط الذي فيه ألف مشكلة ومشكلة ويمكن تخصيص مجلس وموقع خاص للنساء لا يكون فيه اختلاط بين الرجل والمرأة ، فدأبت على منع ذلك والدعوة إلى عدم التساهل فيه لما له من سلبيات ومن ذلك مسألة إقامة عرس القاسم يوم الثامن وما يتخذ فيه من ممارسات لا تلتقي والدين والحقيقة في شيء في تفاصيل يعرفها حضّار المجالس ولا أريد أن أعرض لها كما أنّ الرواية في موضوع الزواج غير معتبرة ، يضاف لذلك أنّ مسألة الزواج يمكن تصوّرها على نحوين :
    النحو الأول : هو الزواج بمعنى الدخول وهذا أركانه غير متوفّرة فالقاسم صبي لم يبلغ الحلم يومئذ والمرأة المروي أنّه تزوّج بها كانت ذات بعل يومئذ يوم الطف ، والجو الذي كان فيه أهل البيت ليس بجوّ زواج أو فرح .
    أمّا النحو الثاني : فهو بمعنى العقد فقط أي أنّ الحسين (عليه السلام) عقد للقاسم على إحدى بناته فيمكن أن يرد هنا سؤال هو ما هي الغاية من ذلك والإمام (عليه السلام) يعلم أنّ القاسم سيقتل بعد ساعة بالإضافة لإشكالات أخرى وعلى العموم فالموضوع لا حاجة للإطالة بالحديث عنه كما لا جدال بأنّه موضع نقد وركه في أجواء النهضة المحبوكة في تسلسل مفرداتها وتتابع فصولها المأساوية التي ينبغي أن نحافظ على مكانتها بعيداً عن هذه الممارسات ، وإذا كان لابدّ من بقاء مثل هذه القضية فيكفي الإشارة لها إن سلم لنا مصدر موثوق بنقلها .
    ولا أريد أن أذكر منهجي في الإبتعاد عن كلّ ما يحطّ من مكانة المنبر ومقامه ، فقد حرصت حتى على انتقاء النص الشعري والنثري فابتعدت عن النصوص الركيكة باللفظ والمضمون وجنبت المنبر ألفاظاً لا تتناسب والموقف الكريم للنهضة الحسينية ولمن ينطق بلسانها وحتى التحرّك بحركة غير موزونة على المنبر أو الظهور بمظهر غير مناسب من اللباس والشكل ، وامتنعت حتى في خارج العراق عن الجلوس في مقهى . وبالجملة التزمت بحفظ كلّ ما ينبغي من المظاهر لحفظ المنبر وصيانته عن كلّ ما هو غير مناسب وإن كان مباحاً .
    وربّما ذهبت إلى أبعد من ذلك وهو من باب لزوم ما لا يلزم وذلك أنّ كثيراً من معارفي وأرحامي هيّئوا لي فرص الإتجار ببعض ما وفّرته من مال فامتنعت وأصررت أن لا آكل من أيّ مصدر غير ما يأتيني عن طريق خدمتي للحسين (عليه السلام) حتى أتجنّب كلّ محتمل من القول وأبتعد عمّا يهزّ صورة المنبر في أعين الناس .[/align]
    يا محوّل الحول والاحوال ، حوّل حالنا إلى أحسن الحال......








  6. #21
    تاريخ التسجيل
    Jul 2004
    الدولة
    هناك
    المشاركات
    28,205

    افتراضي

    [align=center]

    المحيط الذي يصنع المنبر


    كما أنّ للنبات بيئة طبيعية تتفاوت في مقدار صلاحيتها لنموّه فيكون بعضها أكثر ملائمة وأوفر شروطاً للنمو ، وكما أنّ هناك بيئة إقتصادية تمتاز عن غيرها بملائمتها للنمو الإقتصادي لتوفّر عوامل غير متوفّرة في مثيلاتها كذلك هناك أمكنة يترعرع المنبر وينمو بشكل سليم ومتين فيها لما تحويه من عوامل بنّاءة ، والنجف بيئة متميّزة في هذا المعنى أكثر من غيرها ـ مع احترامي لحواضرنا الإسلامية الأخرى التي تزخر بالعلم والمعرفة والصلاح والتقوى ، ولكن المشاهد والذي تسالم عليه ذوو الفن أنّ للنجف طابعها الخاص في هذا المجال والذي يعزوه بعضهم للأسباب التالية :
    1 ـ العراقة الحضارية للنجف والتي تمتدّ إلى آلاف السنين قبل الإسلام وتتنوّع جداولها من سريانية وهندية وصينية وفارسية وعربية وغيرها ، فقد كانت النجف موئلاً لهذه الجداول ممّا كان له أبعد الأثر في صياغة شخصية الفرد النجفي في مختلف أنواع السلوك ، وهذا الموضوع بحثناه في كتابنا الذي لا يزال مخطوطاً وهو ـ الخلفية الحضارية للنجف قبل الإسلام ـ وقد تركت هذه الجداول الحضارية بصماتها على الطالب العلمي النجفي والخطيب النجفي ، بل وحتى الأديب والتاجر وهكذا تكوّنت سمة لها آثارها على الفرد النجفي .
    2 ـ لمّا كان الحديث عن المنبر العربي والخطيب العربي ـ لا المنبر الغير عربي الذي يضمّ فضلاء ومجدّدين وحملة فكر لهم سماتهم وميزاتهم ـ فإنّ النجف بحكم كونها مدرسة للعلوم الإسلامية واللغة العربية ومشتقّاتها وحيث أنّ اللغة تحمل مزاج أهلها ونمط تفكيرهم وذوقهم فلا شكّ أنّ المستمع العربي مشدود إلى ذلك لأنّه يناغم ذوقه ومزاجه وقد أدّى كلّ ذلك إلى قبول المنبر النجفي في أوساط البلدان العربية أكثر من غيره وقد شجّع ذلك المنبر العربي النجفي على تعميق مهاراته وخبراته وبالتالي تكوّن له مع الزمن ذوق مميّز خاص وجمهور عريض ومهارات معيّنة وبالجملة خواصّ يتميّز بها .
    3 ـ صار للمنبر النجفي نوع تخصص في هذا الميدان من البدايات الأولى للمنبر وذلك لأنّه ولد وتبرعم في هذه المنطقة على مختلف فعاليات الرثاء والإنشاد ، فإنّ الذين حملوا المرثية والقصة والنياحة هم من هذه المنطقة ذلك لأنّ منطقة الكوفة هي التي منها خرج الجيش الذي قاتل الحسين (عليه السلام) وبعد قتله حصلت ردّة الفعل العنيفة والشعور بالإثم وبدأت حركة تطهير النفوس تأخذ مظاهر متنوعة ومنها البكاء والمأتم . يقول السيد ابن طاوس في كتابه اللهوف أو الملهوف على قتلى الطفوف : لمّا رأى الصحابي زيد بن أرقم عبيدالله بن زياد يضرب ثنايا الحسين (عليه السلام) رفع صوته بالبكاء وخرج وهو يقول : ملك عبد حراً أنتم يا معشر العرب العبيد بعد اليوم قتلتم ابن فاطمة وأمّرتم ابن مرجانة الخ .. وذكر الطبري مثل هذه الحادثة عن زيد بن أرقم(1) .
    وذكر عن بشر بن خزيم الأسدي حالة الناس وبكائهم بعد خطبة زينب بنت أميرالمؤمنين بالكوفة ممّا ينبّىء عن شعور بالإثم والألم اتّخذ مختلف المظاهر فتبرعمت بواكير الرثاء والإنشاد التي تستلزم وجود من يسمع ويتأثّر وهو عبارة عن نواة للمجلس الحسيني . يقول صاحب مناقب آل أبي طالب بسنده عن محمّد بن عمران عن عبدالله بن أبي سعد عن مسعود بن محمّد وعن إبراهيم بن داحه قال : أوّل شعر رثي به الحسين وهو شعر عقبة بن عمرو السهمي أو هو العبسي :


    إذا العين قرّت في الحياة وأنتم***تخافون في الدنيا فأظلم نورها


    مررت على قبر الحسين بكربلا***ففاض عليه من دموعي غزيرها


    سلام على أهل القبور بكربلا***وقل لها منّي سلام يزورها


    ــــــــــــــــــــــــــــ


    (1) أنظر الطبري واللهوف بتوسط البحار ج45 ص117 ط طهران المكتبة الإسلامية .

    وتتالى الشعراء من أهل المنطقة كدعبل بن علي والكميت وشعراء آخرين ، ويفهم ذلك أيضاً جلياً من قول الإمام الصادق (عليه السلام) لمّا بلغه وقوف الشعراء والمنشدين والنائحين على قبر الحسين (عليه السلام) وعقد المأتم على قبره قال : (بلغني أنّ قوماً من نواحي الكوفة يأتون قبر الحسين (عليه السلام) ويأتيه ناس من غيرهم ونساء يندبنه في النصف من شعبان فيهم بين قارىء يقرأ ونادب يندب وقاصّ يقصّ) الخ وقد عرف جماعة من هؤلاء الذين ينتمون للمنطقة وغيرهم واشتهروا بالنياحة والإنشاد مثل جعفر بن عفان وأبو هارون المكفوف وأبو عمارة المنشد ، ومن النساء ذرة النائحة التي ذكر الشيخ المفيد في أماليه أنّها رأت الزهراء في النوم فأمرتها أن تنوح على الحسين بالأبيات التالية :


    أيها العينان فيضا واستهلا لا تغيضا


    حتى قالت :


    لم أمرضه فاسلو لا ولا كان مريضاً


    فناحت ذره بتلك الأبيات على الحسين (عليه السلام)(1)


    وكذلك خلب النائحة ، من كل ذلك يظهر أنّ منطقة الكوفة وما حولها سبقت المناطق الأخرى بعقد المآتم والتي بدأت كحركة تطهير ثمّ تطوّرت وتعمّقت فيها المهارة بشكل مميز نتيجة طول الممارسة بالضميمة للعوامل الأخرى .
    4 ـ الوجود المكثف للحوزة العلمية في النجف بما يضمّه من أجناس منوّعة ومن حشد كبير لأهل الفضل والدين وهم ممّن يهتمّ اهتماماً كبيراً بالمنبر الموزون والقارىء الفاضل لما يعرفونه من فضل ومكانة عند أهل البيت للقراء الذين يتخصصون بممارسة الخطابة الحسينية حتى أنّ جملة كبيرة من أساطين الفكر والمعرفة من علمائنا ساهموا بذلك في فعاليات متنوعة من الخطابة والشعر وقراءة المقتل وكتابة تاريخ الطف وفصول


    ــــــــــــــــــــــــــــ


    (1) أمالي المفيد بتوسط البحار ج45 ص228 .

    المأساة والتعقيب عليها ومن هؤلاء على سبيل المثال لا الحصر آية الله الشيخ محمّد حسين الغروي الأصبهاني ـ الكمپاني ـ صاحب الأدب والشعر الرائق في ذلك ، والحبر الجليل الشيخ جعفر الشوشتري صاحب الخصائص والشيخ المفيد فخر الطائفة وآية الله السيد محمّد تقي آل بحر العلوم والحجة الشيخ محمّد علي الأوردبادي وآية الله السيد محسن الأمين العاملي والعلماء الأجلاء السيد رضا الهندي ومحمّد الحسين آل كاشف الغطاء والشيخ عبدالمهدي مطر ورعيل من أهل الفضل .
    وممارسة الخطيب للخطابة بحضور هؤلاء تلزمه بالشعور بمسؤولية الكلمة والتقيّد بقيود كثيرة منها التأكد من صحة ما يرويه والتحلي بصفات أهل العلم من المعرفة والإطلاع وحسن الإختيار إلى جملة من الإلتزامات يفرضها وجود هذا اللون من الناس تحت المنبر . وإلاّ تعرّض الخطيب إلى النقد اللاذع وإلى السقوط . فكان لوجود هذه النوعية من مجالس الحسين (عليه السلام) أثر كبير في صقل موهبة الخطيب ودفعه للجد والبحث وإتقان أصول الفن ، وسأذكر عمّا قريب بعض تجاربي في ذلك .
    وهذه الناحية بهذه الدرجة من القوة لا توجد في بلد آخر في حدود ما عاصرته ورأيته حتى أصبح الخطيب من غير النجف يتهيّب أن يصعد منبراً في النجف مخافة التعرض للنقد إلاّ من اجتاز العقبة وكان على فضل . وليس معنى ذلك أنّ كلّ من قرأ في النجف وعرف أنّه من خطباء البلد كامل في هذا الفن بعيد عن النقد ، كلاّ ولكن مثل هؤلاء لا يحظون بمكانة ولا يؤبه لهم في محفل علمي وقد ينتدب بعضهم للقراءة من أجل إتقان المصيبة أو صوت شجي إشباعاً للعقيدة التي تريد أن تحصل على ثواب البكاء على الحسين (عليه السلام) مواساة لأهل البيت ، أمّا من ناحية المنبر الفاضل فلا مكان لهم هناك . وإنّما المكانة للمنبر الموزون بالجملة ، وهكذا أؤكد مرة أخرى أنّ لهذا العامل أثراً كبيراً في ساحة الخطابة الحسينية وفي بناء الخطيب المهذّب في الجملة ، الذي يبنيه كلّ من البيئة العلمية واستجابته لهذا المؤثر ، ومن هذين تصقل موهبته .

    5 ـ هناك عامل خامس قد لا أملك البرهنة عليه إلاّ أن ألفت النظر إلى الواقع الخارجي الذي يحدّد مكانة المنبر النجفي ، فالمشاهد وجود نوع من التميز لهذا المنبر ـ بدون غمط لحقوق منابرنا الأخرى التي أرجو أن يثيبها الله تعالى على أداء رسالتها في هذا المضمار ـ وهذا العامل الذي أشرت إليه لا يقتصر على الخطيب بل ينبسط على طالب العلم والأديب والشاعر : إنّه القرب من علي أميرالمؤمنين (عليه السلام) فهو كما يعبّر أحد فقهائنا كالسراج كلّما دنوت إليه ازددت استضاءة بنوره ، إنّ لبركة معلّم الإنسانية بصمات واضحة على من يعيش بقربه وينهل من ينبوعه ، وقد أشار لذلك العالم الجليل السيد جعفر آل بحر العلوم في كتابه تحفة العالم في شرح خطبة المعالم في الفصل الخاص بميزات النجف ، وذكر أنّ ذلك هو مذهب اليونانيين أيضاً الذين يشاركون المسلمين بالقول ببقاء النفس الناطقة بعد الموت ، ولذا كانوا يتحلقون حول قبر أفلاطون إذا أشكلت عليهم مسألة لأنّهم يستمدّون من روحه ويعتقدون أنّها تمدّهم وتعينهم على اجتلائها ، وللحق أقول : إنّ من تجاربي أنّني في النجف أشعر بتفجّر معرفي عندي قد أفقده إذا خرجت خارج النجف وقد ضمنت هذا المعنى في واحدة من قصائدي الخاصة بالنجف والتي مطلعها :


    فداء رمالك لا تقطعي***حديثك للعين والمسمع


    فإنّي بإيحائه والرؤى***أهوم في عالم ممتع


    أرافدة العزم بالصاعدات***وملهمة الفكر بالأروع


    سأهفو لرملك وسط الجنان***وإن كنت في وسط بلقع


    وأجثو لديك وهل مرّ في***رحابك فكر ولم يخشع


    وأعتقد أنّ مدرسة الفقه والأصول ورياض الشعر والأدب وخمائل الحكمة والأخلاق التي حفلت بها المؤسسة النجفية وعرفت بخواصها تكفل لي البرهنة على ما ذكرته . وبعد ذلك كلّه فإنّ ما عند النجف وما عند الحواضر الأخرى كقم مثلاً أو مشهد أو

    كربلاء أو الكاظميين كلّها جداول تصب في بحيرتنا وقد يكون جدول أغزر من جدول ولكنّها في النتيجة رصيد في ساحة معرفتنا وأجزاء في كلّ يشكّل مضموننا . هذه في تصوري مجمل الأسباب التي تعمل في صنع المنبر كما عملت من قبل وما دام لعلي ضريح ولمضمونه في الأذهان حضور ولفكره في أفق النجف وجود ستبقى إن شاء الله تعالى هذه الخواص سمة لا تفارق النجف رغم كلّ زبد يطفو ويذهب جفاء وأمّا ما ينفع الناس فيبقى .
    سأستعرض هنا شواهد للتدليل على رقاية محيط النجف للمنبر التي تحمل الخطيب أن يتقن ما يقول ويحسن الإختيار وبالتالي فهي وسائل لتربية الخطيب ورفع مستواه . وسأذكرها كما وقعت لي بالتسلسل وأول تجربة مرّت عليّ في ذلك:
    1 ـ كانت في مدرسة المرحوم آية الله الشيخ محمّد الحسين آل كاشف الغطاء وكان عنده مجلس يعقد في كل يوم جمعة ويسمّيه النجفوين ـ عاده ـ وكنت يومئذ صبياً ارتدي الكوفية ولم ألبس العمة بعد ، فحضرت في يوم الجمعة فجلس الشيخ واتفق أن تأخّر الخطيب ذلك اليوم وهو المرحوم الشيخ حسن بن الشيخ كاظم السبتي ، فأشار بعض الحضور إليّ ونبّه الشيخ بأنّي ممّن يقرأون التعزية فقال لي الشيخ : تفضّل واقرأ لنا ، ففرحت بهذا الطلب وشعرت باعتزاز بأنّي أقرأ في مجلس كاشف الغطاء ، فشرعت بالقراءة وأذكر أنّي صدرت مجلسي بالحديث القدسي ـ لولا شيوخ ركّع وأطفال رضّع وبهائم رتّع لصببت عليكم البلاء صبّا ـ وشرحت الفقرات الثلاث وجعلت فقرة الأطفال آخر فقرة لأتخلّص منها للرضيع ، ثمّ ذكرت أنّ الحسين (عليه السلام) في آخر رجعه طلب رضيعه فناولته إياه زينب وهي في حالة حزن شديد فسلاّها الحسين (عليه السلام) بقوله : (تعزّي بعزاء الله ولا يذهبنّ بحلمك الشيطان واعلمي أنّ أهل السماء يموتون وأهل الأرض لا يبقون ...) الخ . هكذا قرأت الرواية وكان الشيخ (رحمه الله) بكّاءاً وجهوري الصوت ، فلمّا فرغت مسح دموعه وقال : أدن يا بني إنّي أرجو لك أن تكون شيئاً ، فبارك الله فيك ، ولكن يا بني إنّ الأثر الذي ذكرته ليس كما ذكرت بل أعكس تصب أنّ الحسين لا يقول إعلمي أنّ أهل السماء يموتون لأنّ أهل السماء ليسوا من جنس من يموت إنّه من المجردات ، وأخذ الشيخ تغمّده الله برحمته يشرح وينصبّ كالسيل . وكان درساً من أروع الدروس نبّهني أن أضبط النصوص الواردة عن أهل بيت العصمة وبقيت بعد ذلك ألازم مجلس الشيخ وأصغي إلى ما يمليه في مجلسه من مطالب ومن نكات ، وكان موسوعة من المعارف يأخذ بألباب السامعين إذا حدّت مع ترسّل في الحديث وعفوية في الأداء فكان لي في كلّ جمعة من مجلسه زاد آخذ منه على قدر ما تتسع لي مداركي وما أقوى على فهمه .
    2 ـ التجربة الثانية : كانت في مجلس العالم الجليل الشيخ حسين آل مشكور ولا أذكر هل كان مجلس عادة أم مجلس مناسبة ، والمهم أنّي كلّفت بالقراءة ذلك اليوم ، فقرأت ومررت بذكر مسألة فقلت : إنّ هذه المسألة ممّا هول محل إجماع . وكان أحد الحاضرين العالم الشيخ عباس الرميثي تغمّده الله برحمته ، فلمّا فرغت من القراءة جلست بجانب المنبر فتوجّه إلى الشيخ الرميثي وقال : إنّك ذكرت أنّ هذه المسألة مجمع عليها ولكنّك لم تذكر هل هو إجماع منقول أم محصّل ، وهل تتبعت مدرك هذه المسألة ، ثمّ أحبّ أن أعرف هل أنك درست هذا القسم من الأصول وعرفت منشأ حجّية الإجماع هل لأنّه إجماع أم لأنّه يكشف عن قول المعصوم الخ ، وأخذ يشرح لي جوانب ممّا يتعلّق بموضوع الإجماع وقال : إنّي أريد لك أن لا تقرأ شيئاً لم تهضمه بعد في الوقت الذي أبارك لك فيه طموحك . كما أذكر أنّه قال لي : لا تتأثر من توجيهي لك ، إنّي أريد أن أجنّبك ما قد تتعرّض له من إشكالات وأنبّهك إلى ما يسدّد خطواتك . وأذكر أنّي شعرت بنقص شديد وأخذت أجدّد العزم على الحصول ولو على الحدّ الأدنى من الأصول والفقه ، وكان للمجلس عندي أثر تربوي ودرس لا يبارح ذهني .
    3 ـ والحادثة الثالثة وأذكر أنّها وقعت لي في مجلس المرحوم الحاج عبدالرزاق بشيبش وكان من مجالس شيخي المرحوم السيد باقر البهبهاني ـ سليمون ـ فأرسلني لقرائته لأنّه انشغل تلك الليلة ، فقرأت فيه ومررت أثناء القراءة بذكر عمر بن عبدالعزيز الخليفة الأموي فعبّرت عنه بأنّه العبد الصالح ، وكان العالم الجليل الشيخ محمّد حسين المظفر وهو ممّن تلمّذت عليه بعد ذلك بالأصول ، فلمّا نزلت من المنبر توجّه إليّ الشيخ بحدّه وبطلاقة وقال لي : ما الذي جعلت تعبّر عن هذا الرجل بالعبد الصالح وهو لقب كبير يلقّب به مثل الإمام موسى بن جعفر . أمّا مثل عمر بن عبدالعزيز فيمكن أن يعبّر عنه بالرجل الطيّب مثلاً ، أوما قرأت أبيات شاعرنا فيه (الرضي) :


    يابن عبدالعزيز لو بكت العين***فتىً من أمية لبكيتك


    إلى قوله :


    غير أنّي أقول أنّك قد طبت***وإن لم يطب ولم يزّك بيتك


    أمّا أن تعطيه مقام العبودية وتنعته بالصالح فهذا ما لا يلتقي مع الواقع ولو كان كذلك لتنازل عن الخلافة لأهلها كما فعل معاوية بن يزيد بن معاوية ، وشرع يوبّخني توبيخاً شديداً شعرت معه بحرج ولم أكد أفلت من قبضته حتى رحت أعيد النظر في ألفاظي وأتأمّل طويلاً في الكلمة التي ألقيها .
    4 ـ وهناك موقف آخرولكنّه من نوع آخر لم أتعرض فيه إلى توبيخ بل إلى حثّ على الجهد وذلك في مجلس عقد لذكر الإمام الهادي (عليه السلام) يوم وفاته ولا أتذكر أن كان هذا المجلس ولكن أتذكر الواقعة ، فقد ذكرت فيه أنّ المتوكل العباسي أراد أن يضع من قدر الإمام الهادي (عليه السلام) فأمر بأن يخرج الناس مشاةً على أقدامهم ولا يركب إلاّ هو ووزيره الفتح بن خاقان وذلك في يوم عرض الجيش ، فخرج الإمام الهادي فيمن خرجوا ماشياً ومرّ وهو يتصبّب عرقاً ، وكان هناك رجل من الواقفية ـ الذين وقفوا على إمامة موسى بن جعفر (عليه السلام) ولم يتسلسلوا مع الأئمّة الباقين ـ وإن لم تخني الذاكرة فهو علي بن يقطين الأهوازي ، يقول هذا الرجل : كنت أضمرت في نفسي أن أسأله عن عرق الجنب هل هو طاهر أم نجس ، فلمّا مرّ بي قال لي ابتداءاً : إن كان من حرام فهو نجس وإن كان من حلال فهو طاهر ، يقول : فكان ذلك سبب هدايتي ورجوعي للقول بإمامته ، وكان من حضّار المجلس الإمام الخوئي أبوالقاسم (قدس سره) ، فلمّا فرغت استدعاني وقال : يا شيخ أحمد ، من أين نقلت هذه الرواية ؟ فقلت : يا مولاي نقلتها من بحار الأنوار للمجلسي في ترجمة الإمام الهادي (عليه السلام) . فقال لي : وهل بذهنك سندها ؟ فقلت : لا ولكن يمكنني الرجوع إليه ومعرفة رجال السند . فقال : لا ، سوف أعرف أنا من هم رجال السند . ويظهر من رأيه (قدس سره)في المسألة أنّها لم تنهض بالدليلية فلذلك لم يأخذ بها لقد نبّهتني هذه الحادثة إلى أنّي إذا مررت برواية تتضمّن حكماً شرعياً ينبغي أن أتعرّف على رجال السند أمّا باقي الأمور الفنية التي تتعلق بالرواية فهي من شأن الفقهاء ، ولم يأخذ (قدس سره) بمفاد الرواية إمّا للمعارضة أو للسند .
    يتضح من كلّ ما ذكرته مدى الرقابة والجو اليقظ الذي يحيط بالخطيب في النجف ويتابعه في كلّ أبعاد المعرفة ولا يهمل بعداً من الأبعاد ، فإنّ الواقعة الأولى ترتبط بمسألة من مسائل علم الكلام ذات علاقة بالعقيدة والمسألة الثانية ذات علاقة بقضية أصولية والثالثة ذات علاقة بموضوع تاريخي يترتّب عليه حكم شرعي ، والرابعة تتعلق بمسألة فقهية وهكذا ، أمّا المسائل ذات العلاقة باللغة والنحو والشعر والسير فقد يتعرّض فيها الخطيب إلى كثير من الإشكالات حتى ينضج ويكون على المستوى المطلوب ، أفلا يعتبر مثل هذا المحيط مدرسة بكل ما لهذه الكلمة من معنى يتربى فيها الخطيب ويشعر معها أنّه تحت الأضواء ، بل وأبعد من ذلك فعندي تجارب تذكّرني بالمراقبة حتى في قراءة الشعر الدارج فإنّ له أدبيّاته وتعبيراته الخاصة وله مدرسة في النجف تهتمّ بشؤونه ومراحله والشعراء الذين عرفوا فيه بالإبداع ، وكلّ من عاش في محيط النجف يعرف ذلك . وقد عرفت جماعة من أدباء اللغة الدارجة يجلسون لتقييم القطع الشعرية باللغة الدارجة من حيث المضمون ومن حيث انتقاء اللفظة المعبرة عن المضمون .
    5 ـ أمّا القضية التي أختم بها هذا الفصل فهي ذات مدلول أوسع ممّا ذكرته لأنّها تتعلق بالمنبر ككل وتتّجه إلى معالجة الموضوع معالجة جذرية لو قدر لها أن تتمّ وهي على نمط محاولة جمعية منتدى النشر لتأسيس معهد للخطابة الحسينية مع فارق أو بعض الفوارق وإليك ملخص القضية :


    كنت أتردد على مجلس آية الله الشهيد الصدر السيد محمّد باقر تغمّده الله برحمته وخصوصاً بعد أن انتقل إلى دار المغمغاني التي فيها مقبرتهم والواقعة في مدخل سوق العمارة للقادم من مسجد آل الجواهري وكانت عادته الجلوس في ساعات معينة لاستقبال عامة الناس ، أمّا من يختصهم برعايته فكانت لهم أوقات غير محددة وأعتقد أنّي كنت منهم ، فقد كان يأنس بي ويبشّ فيوجهي وإن كانت تلك سيرته مع الكل تتسم بالبشاشة والعفوية وعدم التكلف والوضوح الكامل ولكنّي كنت أشعر بنوع خاص من التعامل معي وكان يطرح هموم الساحة من كلّ أبعادها ، ومن الهموم التي شغلت باله قضية المنبر الحسيني وكان يدعوني إلى تحمل شيء من مسؤولية المنبر ولو بعمل بسيط يتطور بعد ذلك وبعد مداولات كثيرة انتهى الأمر إلى أن قال لك على الأمور التالية :
    1 ـ أن أدمج خطباء المنبر بالحوزة العلمية حتى يحصلوا على ما يحصل عليه طالب العلم من مكاسب مادية وروحية وعلمية وبذلك تزول كثير من المشاكل عن طريقهم.
    2 ـ أن أعمل على إيجاد صيغة تؤمن لهم ضماناً لأيام عجزهم حتى لا يتعرضوا لذلّ أو ضياع كما هو الوضع السائد .
    3 ـ أن تكون لهم مؤسسة مركزية يصدرون عنها في مناهج موحدة وتوجيهات تصدر لهم في ذلك كما تعمل هذه المؤسسة على التعريف بهم في داخل العراق وخارجه ممّا يعطيهم زخماً ومكانة معترف بها وتكون المؤسسة تحت ظل المرجعية .
    هذه هي العناوين الرئيسية وفيها تفاصيل وملاحق تستوعب جوانب الفكرة . أمّا الذي عليك ـ يخاطبني ـ فهو أن تضع خبرتك في هذا الميدان تحت أيدي طلاب هذه المؤسسة ، وتتعاون مع زملائك الذين تعرفهم بالكفاءة لسد الثغرات المحتملة ، وتقومون بإدوار تنويه عن هذه المؤسسة في المجتمعات ذات الشأن وفي الوقت ذاته أن تستمرّوا في تطوير أنفسكم. هذه هي مجمل الخطوط العامة التي دار فيها الحديث مع الشهيد الصدر (قدس سره).
    وانتهينا إلى أخذ فترة من الزمن للتوفر على دراسة أبعاد المسألة والعقبات المحتملة وطرق تذليلها وأسلوب العمل الممكن الذي تسمح به الأوضاع وتهضمه وقد دوّنت تفاصيل ذلك في وريقات تركتها في مكتبتي بالنجف ولا أعرف مصيرها . وتابعت الموضوع معه يشجّعني على ذلك صدره الرحب واستيعابه لمشاكل الساحة ووضوحه في المطارحة وشجاعته التي لا تعترف بالصعاب وفوق ذلك كلّه إيمان عميق ونزوع لخدمة الإسلام ومبادىء أهل البيت واستباق للوقت ينمّ عن شعوره واستلهامه لقصر المدة التي يعيشها فكأنّه والشهادة عليّ ميعاد وكان ذلك قبل خروجي من العراق بأشهر وقبل استشهاده بسنتين وتتابعت الأحادث بعد ذلك فاضطرتني للخروج من العراق إلى الكويت ثمّ إلى الشام وصورة المشروع ماثلة في ذهني والأمل والرغبة في زوال الغمة وإمكان تجسيد الفكرة يملأ جوانحي ، ولكنّي فوجئت باعتقال الشهيد مع شقيقته الطاهرة ورجوت أن تكون سحابة عابرة ولكن نزل علينا نبأ استشهاده نزول الصاعقة وشعرنا بفداحة الخطب وشراسة الهجمة واختفت عنا جبهة تشع بالإيمان وفكر يفجر المعرفة وخلق يملأ الحياة طهراً ، ورفعنا دماً طاهراً سال من أجل أن يعبد الله ولا تعبد الأوثان ، ومن أجل أن يوحّد المسلمون تحت لواء واحد وتطرد عنهم أصنام العصبية رفعناه لنضعه إلى جانب دماء آبائه التي سالت على نفس الدرب وسلكناه في قافلة تضمّ الأنبياء والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً ولا حول ولا قوّة إلاّ بالله . فانطوى الأمل وذهبت الفكرة واحتسبت مع حاملها عند الله وهو خير وأبقى .
    لقد كان تدفق هذا النبع في تربة النجف الطاهرة . وما نزال يحدونا أمل لا حدود له بأن يبقى هذا البلد ولوداً وتبقى ينابيعه متدفقة وإفاضاته ثرية وكيف لا وهو مهد أبي تراب . إنّها فكرة نحملها بين جوانحنا ومسألة نراها حقيقة شاخصة أعربت عنها في خطابي لعبد الفتاح مقصود عندما كرّمناه بالنجف فقلت :


    أفتّاح هذا مربع في ترابه***لحيدرة جسم في أفقه فكر


    ثلاث وعشر من قرون تصرّمت***وما زال منه فوق هذا الثرى عطر


    وأزمنة مرّت بكلّ صروفها***يشدّ بها زيد ويدفعها عمرو


    تمرّ عليه وهي سوداء غيمة***فيمشي إليها وهو منبلج بدر


    أجل تلك عقبى المتقين خوالد***من الذكر لا تفنى ولا ينتهي الذكر


    لقد عودتنا الأدوار التي مرّت بها قضية الطف أنّها تنحصر ويبقى عنفوان الطف والدماء التي سالت على ثراه لواءاً يشير للأحرار ويومىء إلى درب الشهادة وأمّا القناة التي تعبّر عنه فتبقى ببقائه إن شاء الله .[/align]
    يا محوّل الحول والاحوال ، حوّل حالنا إلى أحسن الحال......








  7. #22
    تاريخ التسجيل
    Jul 2004
    الدولة
    هناك
    المشاركات
    28,205

    افتراضي

    [align=center]

    حصيلة تجاربي مع المنبر


    من الناحية المنهجية ينبغي أن يكون مكان هذا العنوان في آخر الكتاب وإن رغبت أن أستعجل وضعه هنا لأهمّيته ولشوق النفس للوقوف على النتيجة عاجلاً وللفوز بالأطيب من المائدة ، كما يستعجل الإنسان أكل حبة من الثمار تبدو أنضج وأحلى من غيرها ، فيبدأ بها قبل غيرها . من أجل ذلك سأضع تجارب مسيرتي وما استفدته وأريد أن يستفيد منه الآخرون في هذه الوريقات . وسأعرض لأهمّ ما ينبغي أن يدوّن وليس لجميع ما قد يعتمل في الذهن لأنّه قد لا يكون بتلك الدرجة من الأهمية . ولعلّ ما أشير إليه هنا إجمالاً قد ورد قسم منه في فصول الكتاب استطراداً وليس بعنوان مستقل ، وسأشير إن شاء الله هنا إلى نوعين من الأمور :
    النوع الأول أمور لم أعملها وندمت على ذلك وأمور عملتها وكان ينبغي أن لا يكون مقصورة عليّ بل أدعو إخواني من الخطباء لعملها لأنّني أزداد اقتناعاً بصوابها كلّما مرّت الأيام وتكاثفت التجارب . ولا يمنع ذلك من أن يكون هناك من يشاركني الرأي فيما أقوله فإنّ لي قناعاتي ولهم كذلك وسبحان من لا يخطىء ويسهو ، وسأبدأ بالقسم الأول الذي ندمت على عدم فعله .
    1 ـ الأول هو أنّي لم أكمل الدورات الدراسية المتعلقة بالعلوم الإسلامية : الفقه وأصول الفقه والفلسفة وكلّ مشتقّات العربية الخ . فقد كان ينبغي عدم الإكتفاء بدورات عادية غير مكثفة ، بل لابدّ من إحاطة تامة بتلك العلوم التي تعتبر أساساً ضرورياً للمنبر ، خصوصاً وأنا يومها في دور الصبا ومعه تسهل الصعاب ويستوعب الذهن وترتفع الهمة ، وليس هناك شواغل ممّا جدّ بعد ذلك . لقد برهنت لي تجاربي أنّ الخطيب ينبغي أن يكون على دراية تامة بالعقائد والأحكام وما هو لصيق بأفق المعرفة الإسلامية . وبدون ذلك سبقى الشعر بالنقص بل سيكون عرضة لتبكيت بعض من يحسبون على أهل العلم لسبب وآخر . وفي الوقت نفسه لابدّ من الأخذ بنصيب وافر من العلوم الحديثة والإلمام بلغتين رئيستين على الأقل لشدّة الحاجة لذلك في ميادين مختلفة . وبالجملة لابدّ من الحصول على موسوعية قسم منها يعدّ أساسياً وهو العلوم الإسلامية والقسم الثاني يعتبر تكميلياً . أمّا إذا حصل الخطيب على ما دون ذلك فكأنّه لم يحصل على شيء مطلقاً لأنّ الناقص كلاشيء يقعد بصاحبه عن أعمال مضمونه العملي عن الممارسة . ويبقى يشعر بالأسف في وقت لا يفيده الأسف ولا يسعه التدارك لأنّه يكون قد شبّ عن الطوق .
    2 ـ الأمر الثاني : لقد ندمت على عدم تدوين خواص المراحل التي مررت بها وعدم تسجيل ملابساتها حتى يمكن الإستفادة عن الإبتعاد عن سلبياتها والأخذ بإيجابياتها . ولا يكفي أن تكون مخزونة في الذاكرة فإنّ الذاكرة تخون أحياناً وتبقى الإستفادة منها مقصورة على صاحبها بينما المراد أنّ التجربة ينبغي أن تدوّن وتسجّل ليستفيد منها الآخرون : إنّ المرء ذات وزمان ومكان وأحداث متنوعة وكلّها تتفاعل وينتج عنها أشياء جديرة بأن تكون محل دراسة للإستفادة من معطياتها فكم من تجربة مررنا بها ولم نسجّلها فضاعت منّا فائدة وذهبت عِبرة لو احتفظنا بها لشكّلت ذاكرة نافعة وجزءاً من ممارسة جيّدة أو رديئة نتعامل معها لتنير لنا درباً يتعرّض لأمثالها من تجارب .
    3 ـ ممّا ندمت عليه أشدّ الندم تضييع كثير من وقت كان من الممكن أن لا يضيع ولا نخسر ثماره . كانت هناك اجتماعات وصداقات وأعمال كلها مضيعة للوقت . ومن البداهة بمكان أهمية الوقت لأنّه محدود وهو كما قيل إن لم تقطعه قطعك ، وأوقات الصبا لا يساويها من الأوقات شيء لأنّ ما يحصل عليه الشاب من خبر وتجارب تبقى راسخة في الذهن ولا تمحوها الأيام بعكس الأوقات المتأخرة فما أسرع ما تذهب عن الذهن فيها الحصائل المختلفة ، إنّ محصولات بواكير العمر تسلم الإنسان للراحة بعد ذلك فلا تعب بعدها بعكس محاولة التلافي فإنّها متعبة . فيا ضيعة أوقات راحت في سعادات وهمية بسفر غير نافع وبجلسات غير مجدية وبأعمال لا كسب للروح فيها . إنّني هنا أدعو الطلائع التي هي في خط المنبر أن لا يستأثر بوقتها غير الإنكباب على التحصيل وتكميل النفس وعدم القفز على الموانع بل سلوك الطريق بمراحله والإستفادة من مراحله الأصولية فالقفز إلى المنبر رأساً بدون الإستفادة من المراحل ولو طال الوقت سيعطي ثمرة فجة وغير ناضجة وسيضيّع أصالة لا يمكن الحصول عليها بعد ذلك .
    4 ـ ومن الأمور التي ندمت عليها وأعتقد أنّها جنت على منهج كان ينبغي أن يكون سائداً تلك قضية تعدد المجالس باليوم الواحد ممّا يكون على حساب الأصالة ومكانة الخطيب وتحويل المأتم إلى ممارسة خالية من الفائدة . ذلك أنّ اقتصار الخطيب على مجلس واحد يعطيه الفرصة للإجادة والإستيعاب للموضوع ويصعد به إلى مستوى المحاضر المحترم الذي يُقصد ويستفاد منه وفي الوقت نفسه يجعل المجلس مدرسة تربي وتبني . وسيقول البعض وهو على حق : أنّ المجلس الواحد ليس له ذلك المردود المادي الذي يسدّ حاجة الخطيب ويكفل معاشه والمفروض أنّه حبس نفسه على هذه المهنة ولا طريق له للتعيّش بسواها . وهذا هو سرّ المشكلة فإنّه يعدّد ليحصل على أكبر قدر من المال يسدّ حاجته ، ومع إيماني بصحة ذلك فإنّي أقول : أنّ هذا منهج لو دأب الخطباء على تبنيه لربما أصبح سائداً وارتفع معه أجر الخطيب وترتبت عليه باقي الإيجابيات ، ولابدّ من تضحية بادىء الأمر .
    كما أنّ هذا الموضوع قد عالجته ضمن فصول الكتاب وذلك باقتراح دمج خطباء المنبر بالحوزة العلمية التي تكفل سدّ حاجات الطالب فيها من الحقوق الشرعية التي يكون قسماً منها ضمان للمحوج كالزكاة . بالإضافة لذلك فإنّ اقتصار كلّ خطيب على مجلس واحد يوفر للخطباء الآخرين ما يشغلهم من المجالس ولا يتيح للبارزين أن يستأثروا بالمجالس دون الآخرين . إنّني واثق أنّ هذا الإقتراح يعتبر خيالياً بالفعل ولكن

    معظم الإنجازات بالحياة في بدء أمرها كانت مجرد اقتراح ثمّ تطوّرت إلى إنجاز . وهذه الصورة هي السائدة بالفعل عند باقي فرق المسلمينوإن كان تمويل الخطيب عندهم غالباً تقوم به وزارة الأوقاف .
    5 ـ الأمر الخامس الذي لم يخطط له في بواكير ممارسة الخطيب لعمله هو شدّ المنبر بالمرجعية الدينية وتجنيده لأجل أن يتبنى أهداف المرجعية بصورة عامة لا بالإنتماء لواحد بالذات بل للعنوان العام حتى يتحاشى الإستقطاب أو يوضع في أجواء منافسة لا مصلحة عامة فيها . إنّ ربط المنبر بالجو العام للمرجعية يحقق جملة من الفوائد أهمّها : الإلتزام بالضوابط العلمية ، وانعكاس الأخلاق الشرعية على سلوك الخطيب ، وسد الثغرات التي يمكن أن ينفذ منها المغرضون ، والإلتحام بالهدف الأساسي من المنبر وهو كونه قناة للدفاع عن بيضة الإسلام مجسدة في أشخاص نواب الأئمة ، وإعطاء الإنطباع بأنّ الجهاز الديني موحد بكل أجزاءه وواجهاته ، ثمّ من بعد ذلك كلّه صياغة أفراد المستمعين صياغة تجعلهم متشرّعين على وعي بمحل الإبتلاء من الفروع الدينية وعلى التصاق بأئمّتهم كما هو موجود في شعوب أخرى بصورة واسعة لا كما هو عند مستمعينا الذين يقلّ فيهم من يكون على معرفة بفروعه من ناحية الأحكام والعقائد كما يقلّ فيهم من يعتبر جندياً للإسلام يقف للدفاع إذا جدّ الجد .
    إنّ شعبنا شعب معدنه جيّد بلاشك بل من المعادن المميزة ولكن تربيته غير سليمة ولست هنا بصدد تحديد من هو المسؤول عن ذلك ، ولكن أعتقد أنّه ما زال أمام المنبر دور مهم للقيام بإعادة بناء الفرد بناءاً سليماً وإعداده إعداداً مدروساً ليبقى الطاقة المذخورة للحاجة ، ومن المؤكد أنّ ذلك لا يقع على عاتق المنبر وحده لكن لعلّ المنبر يكفر عن بعض ما اجترحه في تحويل رموزه الثائرة إلى دموع ومظاهر تفجع وإيلام للذات وتوجّه إلى الإنتقام من النفس لا من العدو . نعم ، تتوجه المسؤولية أيضاً إلى جهات هي أعلم منّي بما يقع على عاتقها من ضرورة تنقيح التراث وتسديد السلوك وتغيير المفاهيم غير السليمة إنّها جهات متعددة ومسؤوليتها كبيرة في بناء المسلمين بعامة وشيعة أهل البيت بصورة خاصة . هذه أهم الأمور التي ساورني ندم شديد على عدم الأخذ بالإعتبار وأودّ لفت نظر إخواني من الخطباء إلى أهمّيتها وأؤكد على ضرورة تبنيها خدمة للصالح العام وللخطيب والخطابة .
    الأمور التي عملتها وأكّدت التجارب صوابها وجنيت ثمارها فهي الأمور الخمسة التالية :
    1 ـ من الأمور التي يمارسها كلّ كائن حي : التكيّف مع البيئة بكل أقسامها حتى يوفّر لنفسه ظروف الحياة . وعند الإنسان بالذات هناك وسائل متنوّعة بعضها سليم وبعضها الآخر غير سليم وبعضها يتماشى والكرامة وبعضها ليس كذلك وبعضها ينسجم في سنخيته مع عمل الإنسان وبعضها لا ينسجم . وفيما يخصّ الخطيب فهو كغيره من الكائنات يريد أن يعيش وأن يتميّز على غيره . وهناك وسائل يسلكها لأجل ذلك وقد برهنت التجارب أنّ الوسائل الغير سليمة تفشل وتفقد أثرها وإن أنطلقت لفترة قصيرة على الناس ، فمثلاً التوسّل بالدعايات والإدّعاءات والطنين والرنين وحشد المصفقين والمساندين واستئجارهم لذلك وماهو من هذا القبيل كلّ ذلك ينكشف زيفه ويعطي مردوداً سيّئاً كما أنّه يسلب من المرء نفسه الثقة بالذات ويشعرها بالنقص وأنّها قائمة بغيرها .
    أمّا الوسائل الطبيعية التي تقوم على الصدق والجدّ في العمل والنية السليمة فإنّها تصل بالمرء إلى الغاية المرجوّة وخصوصاً إذا شعر الخطيب بأنّه فرد من أمّة يراد بناءها وتقويمها والصعود بها فإنّ ذلك يكون عنده هدفاً رسالياً وبصورة خاصة إذا حمل هموم أمّته وتطلّعاتها وشعر بأنّه من موقع مسؤوليّة لما حمله من موقع ومن قسط من الثقافة من المتعيّن أن توظف في السبيل . أمّا اعتماده للوسائل الزائفة فهو أدلّ دليل على أنّه مرتزق كلّ الذي يهمّه أن يكسب ولو على حساب الحقيقة والحق .
    2 ـ الأمر الثاني الذي برهنت لي تجاربي على صوابه : هو حصر المنبر في حدود اختصاصه وعدم الخروج به عن وظيفته الأساسية . لأنّ المنبر يقع في البعد التشريعي ونشر المعلومات والحقائق وهو بذلك واجهة فكرية ونبع يراد له أن يبقى متدفقاً يعمل على تنوير القاعدة وشحنها بالوعي ، فلو صرفناه عن هذه المهمة إلى خطوط أخرى كالخط السياسي مثلاً وأقصد بالخط السياسي هنا الخطوط التنفيذية التي توجّه الخطيب إلى ممارسة عملية لتجسيد الفكرة فإنّه في مثل هذه الحالة يلزمه أن يكون متخصصاً بالأبعاد السياسية وهو فن له مقوّماته ، كما أنّه سيكون عارياً مكشوفاً أمام قوى مدججة ومتهيّأة لضربه وذلك عمل يفقد المبرّر ، كما أنّه ليس من الحصافة أن يكشف الإنسان موضع المقتل منه أمام خصمه ، والعمل السياسي من أهمّ أركانه الكتمان والحيطة والحذر وإذا كان حريصاً على ذلك فيمكنه صرف جانب من طاقاته في ميادين سياسية سرية أمّا تعريض المنبر إلى الموت فمعناه جفاف المنبع الذي له دور مهم في تنوير القاعدة .
    وأرجو أن لا يفهم من كلامي هنا أنّي أدعو إلى قتل الوعي في نفوس الناس أو كتم المعلومات السياسية السليمة في الفكر الإسلامي كنظرية الإسلام السياسية ووقوفه إلى جانب الأمة لنيل حقّها وما شابه ذلك فإنّ هذا من أوّل واجبات المنبر وإنّما أريد أن لا يكون للمنبر دور تجسيدي فقد يذكر الخطيب أنّ نظرية الإنتخاب نابعة من مفهوم الشورى ويشرحها ويدعو إلى تبنّي هذا المنهج بصورة عامة ولكن لا ينبغي أن يكون هو المقرّ الإنتخابي لفئة خاصة والبوق الذي يندّد بالآخرين ويحصر المشروعية بما ينتمي إليه فإنّ ذلك يحوله من خطّه التشريعي إلى أداة منفذة . وسيمرّ خلال البحوث شيء من هذه الأفكار بصورة مجملة ممّا يوضح هذه النقطة بالذات فإنّ الحد الفاصل بين شرح الأفكار السياسية والتحوّل إلى سياسي محترف : حد دقيق خصوصاً وأنّ في ركام الممارسات السياسية وأخلاقيّاتها ما لا يلتقي مع المنبر أن يلاحظ ذلك بدقة .
    3 ـ الإنفتاح على تراث المذاهب الإسلامية الأخرى والتفاعل معها نقداً وتقييماً بأعصاب هادئة وموضوعية تامة واتّباع للدليل لا لقسر الدليل على أتباعك وقد برهنت لي التجارب أنّ هذا المنهج مثمر وفاعل في تذليل العقبات أمام الإتّجاهات الإسلامية ومزيل لكثير من أسباب سوء التفاهم وفي الوقت ذاته يعطي ثمرات أخرى منها إعطاء وزن للمنبر بكونه منفذاً للفكر الإسلامي يشكل قدراً مشتركاً ، ومنها أنّه يضع الخطيب موضع الصاعد إلى مستوى آداب الإسلام وخلق القرآن ، ومنها أنّ النفوس تنفتح أمامه وتصغي إلى طروحاته بل يكون السمع عوناً لك على الرأي المقابل متى لمس أنّك بعيد عن التشنّج . كلّ ذلك قد لمسته بنفسي وجنيت ثماره وفتح أبواباً للحوار مع الآخرين ولجت منها إلى تصحيح كثير من الأفكار المأخوذة عنّا خطأ فإنّ كلّ فرد ينشأ في أسرة فإنّ الأسرة تغرس فيه أفكارها وتبنيه على ثوابتها سواء كانت ثوابت سليمة أو غير سليمة ، ولابدّ من جهد شاقّ وبأسلوب مدروس لتصحيح أفكاره وكما للآخرين سلبيات وإيجابيات فلنا ما قد يكون غير صائب . إذاً ففسح المجال أمام المناقشة الموضوعية الهادئة على أسس علمية من ألزم اللوازم للمنبر المسلم الواعي .
    4 ـ الإرتفاع بالمنبر عن كونه سلعة تحدد خدماتها بأسلوب المساومة ولو كان ذلك مشروعاً لا غبار عليه من الناحية الشرعية ، ولكن فيه جفاف لا يلتقي مع شفافية الرسالة التي يؤدّيها المنبر وكذلك مع إيماني بأنّ بعض أصحاب المجالس قد لا يقدّروا ثمن أتعاب الخطيب بما يتناسب وجهد الخطيب ومكانته ، وربّما لا يفرّق بين عمل الخطيب الذي هو جهد له مسحة دينية ومفاد تربوي وبين شراء سلة من الطماطم ولكن مع ذلك لا ينبغي أن يكون الخطيب طرفاً على هذا المستوى ولقد أخطأت في مسيرتي الطويلة بالخطابة فساومت مرّتين ثمّ تنبّهت فلم أساوم أحداً وإذا بدأني صاحب المجلس بالمساومة هو نفسه عندها ألفت نظره لما ينبغي ، وكذلك ما اتخذت من المنبر يوماً من الأيام وسيلة لجمع مال لأي سبب من الأسباب إلاّ مرّة واحدة لفت فيها نظر المستمعين إلى تأليف لجنة مكونة من المرحوم جعفر الشبيبي والمرحوم الحاج عبدالرسول علي والمرحوم السيد هاشم الصراف للقيام بجمع مبلغ لبناء جمعية منتدى النشر الدينية العلمية في النجف الأشرف وهؤلاء الثلاثة كانوا من الوجهاء الذين يؤتمنون على مثل هذا المشروع ، وعدى ذلك لم أسخر المنبر لمثل هذا العمل ولم أسمح كذلك للآخرين بالقيام به بمجلس أتولى القراءة به . كلّ ذلك لئلاّ أهبط بمكانة مجلس الحسين (عليه السلام) إلى مستوى لا يليق به ولأنّ مثل هذا العمل يحوّل الخطيب إلى مضغة في أفواه الناس حتى ولو كان عفّاً ورعاً لأنّ ألسنة الناس لا يمكن السيطرة عليها وإذا اهتزّت مكانة الخطيب في نفوس الناس قلّ تأثيره عليهم وقلّ إقبالهم عليه .
    5 ـ الأمر الخامس المهم : انعكاس المفاهيم الدينية والأخلاقية على الخطيب عملياً وهي عملية أقلّ ما يقال فيها أنّها شاقّة ولست أريد أن يكون الخطيب النموذج المثالي الذي يصل إلى نهاية الخط البياني من الإلتزام والأخلاق فذلك أمر عظيم في ذاته لو قدر للمرء أن يوفّق له . ولكن أريد الإلتزام بالحد الذي لا ينبغي أن ينزل عنه الخطيب وأقلّ ما ينبغي هنا الإلتزام بأداء الواجبات والبعد عن الدنايا والشبه وتجنّب رفاق السوء والكون على مستوى من الرزانة والتعقّل . إن كان ذلك مطلوب لأنّ الخطيب لا يعيش لنفسه وإنّما يعيش للآخرين يشكل فيهم الداعية إلى مكارم الأخلاق والمبلغ للحكم الشرعي والمثال للقدوة الحسنة . وأنا أعترف أنّ هذا الإلتزام ممّا يشقّ على النفس ويقيّد حتى الحرية المشروعة ويمنع الخطيب حتى من وسائل التنفيس البريئة .
    وسأذكر حادثة واحدة ممّا يتصل بهذا الموضوع : كنت أيام الدراسة بالقاهرة أقضي وقتي في مطعم يجتمع به الدارسون وهو مطعم المنظر الجميل فأقضي فيه ساعة أو ساعتين وبايام محدودة ثمّ أعود للمنزل ، فألحّ عليّ يوم المرحوم الدكتور عبدالرزاق محي الدين (رحمه الله) على أن أقضي سويعات في متنزّه على النيل يقدّم الشاي لروّاده وفيه جوّ منعش ومنظر لا بأس به ، فقلت للدكتور الراحل : أنا أعرف ذلك وأتذوّقه ولكن لو جاءت أسرة وجلست بالقرب منّا وجاء بعض الخليجيين أو العراقيين وقال : يا لله لقد رأيت هذا الذي يعظ الناس جالساً بين النساء الحاسرات فماذا ستكون النتيجة ؟ ستكون حتماً مؤدية إلى اهتزاز الثقة بالمنبر .


    وسلام الله على إمام المتقين أميرالمؤمنين (عليه السلام) الذي يقول : (ومعلّم الناس ومؤدّبهم بسيرته أحقّ بالإجلال من معلّم الناس بلسانه) . أرجو أن أكون قد نقلت بأمانة ما أحرص على أن يزاوله إخواني وإن سبّب لهم ضيقاً ولكن لنجاح كلّ رسالة ثمن ويهون مهما كان ما دام يؤدي إلى الأهداف الخيرة . أسأل الله تعالى أن يجعلنا بمستوى أداء ما أنيط بنا من رسالة إنّه الهادي إلى الصواب .[/align]
    يا محوّل الحول والاحوال ، حوّل حالنا إلى أحسن الحال......








  8. #23
    تاريخ التسجيل
    Jul 2004
    الدولة
    هناك
    المشاركات
    28,205

    افتراضي

    [align=center]

    كيفية تأليف المحاضرة


    كثيراً ما يوجّه إليّ السؤال من بعض إخواني من الخطباء أو ممّن هم خارج دائرة الخطابة ولكن يعنيهم هذا الموضوع لسبب وآخر حول طريقة كتابة الموضوع وكيف يتمّ البدء بها والسير في مراحلها . ولابدّ من شرح ذلك وذكر مراحله ثمّ يتمّ إيراد أمثلة على ذلك .
    لابدّ بادىء ذي بدء من تصور نوع الموضوع وهدفه مثلاً هل هو موضوع خاص أو عام لا يرتبط بمناسبة خاصة ويصلح لأن يقرأ دائماً ، ثمّ يتعيّن تحديد الهدف من الموضوع حتى يتمّ على ضوئه البحث عمّا يرتبط به أي هل هو سيرة لشخص يراد البحث عمّا يرتبط به سلباً أو ايجاباً ، أو هو تقديم مثل أعلى يراد دفع الأمّة نحوه والنسج على منواله أو هو شحن وتعبئة لتحرّك معيّن في بعد من الأبعاد وما إلى ذلك من الأهداف . إنّ تصوّر نوع الموضوع وتحديد هدفه هنا من أوليات تأليف الموضوع وبعد هذا التصور نشرع بالمراحل التالية :
    1 ـ اختيار نصّ يكون صدراً للموضوع وعنواناً له تدور أجزاء الموضوع حوله كأن يكون هذا النص آية من كتاب الله تبارك وتعالى ، أو حديث نبوي شريف أو رواية عن أهل البيت (عليهم السلام) أو بيتاً من الشعر يتضمّن الهدف وهكذا .
    2 ـ بعد اختيار النص نتوجه للتأمّل في مفاده وجوّه العام ثمّ نجزأه إلى مفرداته المكونة له لنرى ما ترتبط به هذه المفردات من معنى يتضمّن حكماً شرعياً أو قاعدة علمية أو نكتة أدبية أو توجيهاً أخلاقياً فنشير لذلك وندعم به المفردة من باب التأييد لمعناها أو التنظير لها أو غير ذلك .

    3 ـ نستدعي هذه المضامين المشابهة لضمّها إلى المفردات ودمجها في صلب الموضوع .
    4 ـ ملاحظة وجود الرابط بين مفردات هذا النص وعدم الغفلة عنه .
    5 ـ تختتم هذا الموضوع بصورة عضوية منسجمة مع جانب من جوانب الطف ولعلّ هذه العملية الأخيرة أصعب ما في تأليف الموضوع عند البعض لتباعد مضامين معظم البحوث عن الإرتباط بمعنى أو جانب من جوانب واقعة الطف وهذه المسألة ممّا لم يعدّ لها مكان في اهتمام المنبر الفارسي أو الهندي أو غيرهما فإنّ تلك المنابر لا تحرص على ربط واقعة الطف ربطاً عضوياً بالموضوع بل تورد شيئاً من فصول مأساة الطف بعيداً عن سنخ ونوع الموضوع للجمع بين الفائدة العلمية بالموضوع وبين الحصول على الأجر في سكب الدموع مواساة لأهل البيت وللتخلّص في نفس الوقت من الإحراج في عدم حصول الإنسجام والتناسب بين الموضوع والخاتمة والذي قد يأتي أحياناً هزيلاً . لعلّ هذه أبرز مراحل تكوين الموضوع .
    الأشياء المتممة لتأليف الموضوع وإن لم تكن بنفس الأهمية التي ذكرناها للأمور السابقة ولكنّها ممّا يفتقر إليها الموضوع وقد تكون عند البعض أهمّ ممّا ذكرنا وهذه الأشياء هي :
    1 ـ القدرة على هندسة هيكل الموضوع بحيث يبدو الإنسجام بين أجزائه وعدم وجود نتوءات يعثر بها الذوق ، والحقيقة أنّ هذه المهارة تأتي من الدراية الطويلة وممارسة كتابة المواضيع التي تتحوّل تدريجياً إلى خبرة راسخة .
    2 ـ اختيار المفردة المناسبة للمعنى بحيث لا تكون فضفاضة ولا ضيقة بل تكون ثوباً مناسباً للموضوع ومنسجماً مع سنخه ويتمّ ذلك بالبحث عن اللفظة المناسبة .
    3 ـ البعد بالموضوع عن المبالغات وعمّا لا يُهضم من قبل الجمهور لأنّه فوق قدراتهم الذهنية ولا يرتبط بتيّاراتهم المعرفية وقد أشرت لشيء من ذلك خلال الكتاب

    وهذه التي ذكرتها موضوعية وهناك أمور تتمازج فيها الموضوعية مع الذات وترتبط بسنخية الموضوع ومن أهمّها :
    آ ـ أن لانخلع ذاتنا على الموضوع عن طريق التحدث عمّا يخصّنا أو يخصّ تجاربنا الذاتيّة ممّا له صلة بالأنا ، فإنّ ذلك ممّا يستثقله السامع فينبغي أن يحسب له ألف حساب .
    ب ـ أن نهيّىء أنفسنا للطوارىء وذلك بضرورة وجود أرضية غنيّة عند الخطيب بالمطالعات العامة التي تكون رصيده الذهني الذي يسعفه عند الحاجة ويجعله قادراً على الإستطرادات التي تبعث أحياناً الحيوية في هيكل الموضوع ثمّ يعود من بعدها لصلب الموضوع . وأهمّ شيء في هذه الأرضية العامة استحضار بعض النقاط البارزة التي يعرف الخطيب أهميتها من خلال ممارسته للقراءة ويعرف مدى الحاجة لها في مقام خدمة دينه وعقيدته ـ وبتعبير آخر أن يكون مخزون الذاكرة كبيراً ومنوّعاً فإنّ لكلّ لون من المعرفة مكاناً من المحاضرة تحتاجه .
    جـ ـ التنوع في مواد المحاضرة أمر ضروري فلا ينبغي أن يطغى عندنا جانب الإختصاص وللتوضيح أقول : قد يكون الخطيب مهتمّاً بالتاريخ وهنا يملأ المحاضرة بالتاريخ أو قد يكون من المعنيين بالعلوم العقلية فيضع المحاضرة في ذلك القالب وهكذا وإذا فعل الخطيب ذلك يكون قد عمل على فشل الموضوع ثبوتاً وإثباتاً . وبعد هذه المقدمة التقريبية لطريقة تأليف المحاضرة أودّ الإشارة إلى أنّ كلّ ما ذكرته مرتبط بالذوق والمزاج عند مؤلف المحاضرة فينبغي أن تكون هذه الملاحظة مفهومة . والآن سأشرح طريقة تأليف الموضوع كما درّجت عليها وتكاد تكون موحدة مع مختلف أنواع النص الذي أجعله صدراً للموضوع كما سيتّضح :
    المحاضرة الأولى تفسير آية من كتاب الله تعالى وهي قوله عزّ من قائل : ( إنّما حرّم عليكم الميتة والدّم ولحم الخنزير وما أهلّ به لغير الله فمن اضطرّ غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه إنّ الله غفور رحيم ) 173 البقرة .

    بعد قراءة الآية الكريمة تأمّلت في جوّها العام الذي هو المناط وراء المضمون فاتّضح أنّه رفع الحرج والضرر وتأكيد كون الشريعة يسراً لا عسر فيه فينبغي أن تدور المفردات في نطاق هذا الهدف . رجعت بعدها إلى مفردات النص وأوّلها قوله تعالى ( إنّما حرّم ) والجملة تفيد الحصر لوجود أداة الحصر وهي إنّما فراجعت كتب الفقه للبحث عمّا إذا كان هذا العموم وهو مفهوم الميتة على عمومه أم أنّه مخصوص بالحلال من الميتة الذي وردت به روايات وأشير هنا إلى أنّ المعالجة على المستوى الإسلامي لا مستوى الفقه الإمامي فقط ، فرأيت أنّ النص ليس على عمومه فأشرت لذلك .
    ثمّ رجعت إلى لفظ الميتة بالتخفيف لأرى هل هناك فرق بينها وبين صيغة التشديد وهي الميتة فرأيت أنّ الفرق هو أنّ الميّت بالفعل يطلق عليه اللفظان ميت ومييت أمّا الحي فقط يطلق عليه أنّه ميّت بالقوة أو الصيرورة ، ومنه قوله تعالى مخاطباً للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) : ( إنّك ميّت وإنّهم ميّتون ) ، ومنه قول الشاعر :


    ليس من مات فأستراح بميّت***إنّما الميّت ميّت الأحياء


    فانطلقت من ذلك إلى بحث تفسير القرآن بلغة العرب ، لأنّ القرآن نزل بهذه اللغة فلابدّ من اعتبارها أحد مصادر التفسير في توضيح المعنى ومن هنا اعتبر التفسير بلغة العرب أحد مصادر وأقسام التفسير كما ينبغي أن يراعى ما هو خلف السطور من تعبيراتهم فإنّك عندما تقرأ قوله تعالى : ( الذين يكتبون الكتاب بأيديهم ) تستوقفك العبارة لأنّ ذلك من الأمور المعروفة فلا داعي لأن يقول القرآن الكريم ـ بأيديهم ـ وهل يكتب الكتاب برجله مثلاً ، فما وراء السطور إذاً هو المراد وهو تأكيد مسؤوليتهم عن الإفتراء وهكذا . وفي هذا الموضوع أعني تفسير القرآن بلغة العرب باب واسع أفاضت به كتب التفسير ومن أكثرها روعة في ذلك كتاب الغرر والدرر للشريف المرتضى (قدس سره) .
    ثمّ أشرت إلى أنّ الميتة هنا ما عرفه الفقهاء ما فارقته الروح من غير ذكاة ، انتقلت بعد إلى محاولة تسليط ضوء على سرّ تحريم الميتة أو الحكمة التقريبية ـ والله أعلم بمراده ـ مع أنّ ما يذبح وما يتردّى فيموت دون أن يذكّى هو بنتيجة واحدة فذكرت بعض ما يقال هنا وأشرت إلى إشكال أهل الجاهلية على المسلمين بقولهم : إنّكم تأكلون ما يقتله الإنسان ولا تأكلون ما يقتله الله تعالى دون أن يتلفتوا إلى أسرار التحريم واستعرضت ما يقال في الدم ولحم الخنزير من أضرار قد تكون هي العلة في التحريم أم أنّها ليست بالعلة لأنّه ليس من الضروري أن تكون العلة كامنة في الشيء المحرّم ذاته بل لسبب خارج عنه كما قال تعالى : ( فبظلم من الذين هادوا حرّمنا ) .
    ووقفت بعدها عند قوله تعالى : ( وما أهلّ به لغير الله ) فانتهيت إلى أنّ سرّ التحريم ليس في ذات ما أهلّ به لغير الله بل لسبب خارج هو تنزيه العقيدة وكانت عادتهم أن يرفعوا الصوت باسم من يذبحون له سواء كان صنماً أو ناراً أو غيرهما ، ثمّ استعرضت أدلّة الفقهاء في معنى ما أهلّ به لغير الله هل هو ذكر اسم غير اسم الله تعالى أم التوجّه بنيّة الذابح لإرادة غير الله تعالى ، فذكرت أنّ هنا مذهبين للفقهاء في ذلك واستعرضت حادثة سحيم الرياحي التميمي مع غالب والد الفرزدق في أيّام المجاعة بالكوفة عندما تفاخرا وتباريا في العصبية حتى ذبح غالب ثلاثمائة بعير وألقى لحمها على الكناسة لأنّ الناس استفتوا أميرالمؤمنين (عليه السلام) في جواز الأكل منها فمنع كما يروى وقال : (إنّها ممّا أهلّ به لغير الله) والقصة مذكورة في كتب التاريخ ، واستطردت من لفظة أهلّ به إلى استهلال الصبي عندما يولد ويرفع صوته بالبكاء واستغلال الأدباء والفلاسفة والأطباء لتفسير هذه الظاهرة كلّ من زاويته .
    عدت بعدها لشرح قوله تعالى ( فمن اضطرّ ) فاستعرضت الأقوال في معنى الإضطرار وأنّه يعمّ ما يخاف معه الإنسان على نفسه من التلف كالجوع ، وما يُكره الإنسان على تناوله ، فأوردت ما يدعم هذا الحكم من أدلّة أخرى من الآيات والأحاديث وحكم العقل . ورجعت بعدها للإستثناء المتمثّل بقوله تعالى : ( فمن اضطرّ غير باغ ولا عاد )فاستعرضت المعاني في كلمتي باغ وعاد وانتهيت إلى أنّ أهمّها أن يكون باغ للذّة وعاد أي مستكثر بحيث يتعدّى مقدار حفظ النفس إلى الإمتلاء وذلك أنّ الضرورة تقدر بقدرها فلا يأكل من المذكورات إلاّ ما يسدّ الرمق وذلك إذا لم يجد طعاماً آخر يأكل منه قبل أن يضطرّ إلى المذكورات ، أمّا إذا وجد طعاماً لغيره فيأكل منه قدر الحاجة فإذا منعه صاحب الطعام فله أن يقاتله ويعتبر هنا قتاله دفاعاً عن النفس ، فإذا قتل صاحب الطعام فدمه هدر وإذا قتل المضطر فديته على صاحب الطعام أو القصاص . وانطلقت من هنا إلى مساحة كبيرة يتبنّاها المشرّع في التأكيد على المصلحة العامة وموقفها من ثورة الجياع .
    عدت بعد ذلك إلى جمع المفردات في إطارها تحت الهدف العام للآية الكريمة وهو نفي العسر والحرج فهو أصل عام وهو حاكم غير محكوم عليه ومطلق لا ينفي وينتفى به كلّ عسر وحرج وأشبعت ذلك بإيراد أدلة أخرى من النصوص كقوله تعالى : ( ما جعل عليكم في الدين من حرج ) 78 الحج ، وقوله ( يريد الله بكم اليسر ) 185 البقرة ، وكقوله صلوات الله عليه : (لا ضرر ولا ضرار) ، وكقوله : (كلّما غلب الله عليه فهو أولى بالعذر) ، وأشرت إلى أنّ معنى لا إثم عليه هو سقوط خطاب التكليف أمّا الخطاب الوضعي فلا يسقط لأنّه يتعلّق بحقّ الغير وماله ، وبعد ذلك كلّه ربطت الموضوع بواقعة الطف من زاوية أنّ الأمويين استهدفوا تجويع المسلمين بنهب أرضهم ومزارعهم ومنعهم حتى من الماء فكان لابدّ من الوقوف بوجههم وكان قتالهم ممّا هو في نطاق الشرع وإن أدّى الأمر إلى التضحية الخ(1) .





    النموذج الثاني


    وصدر الموضوع في هذا النموذج حديث شريف وهو قوله (صلى الله عليه وآله وسلم) : (من قتل عصفوراً


    ــــــــــــــــــــــــــــ


    (1) مصادر البحث : كتب الفقه باب الإضطرار ، وتفسير الآيات المذكورة عند القرطبي ومجمع البيان والرازي .

    عبثاً جاء يوم القيامة إلى الله تشخب أوداجه دماً عبيطاً يقول : يا رب سل هذا فيما قتلني لم ينتفع بلحمي ولم يتركني آكل من خشاش الأرض) . في مواجهة هذا الحديث الشريف لابدّ بادىء ذي بدء من التعرف على الجو العام للحديث كما صنعنا في الآية الشريفة وبالتأمّل اليسير يتّضح الهدف وهو أهمّية حفظ الدماء وعدم سفكها إلاّ فيما أرشد إليه الشرع وهو مضمون يزرع معنى السلام في داخل نفس المسلم لما يحمله من التلويح بفداحة المسؤولية المترتّبة على سفك الدماء بدون حق ولا يكون مثل شعارات السلام التي تعيش على الألسنة فقط دون الإلتزام بمضمونها وأحياناً دون تشريع ما يناقضها فكثيراً ما رأينا من التشريعات التي تتبنّى السلام لفظاً وتشرع ما يناقضه في أكثر من مادة .
    وقد تضمن القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة الكثير من النصوص في ذلك ودعمها بالسيرة العملية والتطبيق برغم تهريج المهرجين ويتّضح ذلك بالرجوع إلى الإحصائيات عن مجموع ما قتله المسلمون في كلّ حروبهم ومقارنته بحرب من حروب منتقدي الإسلام وعموماً شرحت هذا لغطاء الحديث أولاًوجعلته الملاك الذي تنتظم به المفردات كلّها ثمّ عدت لألفاظ الحديث فذكرت أنّ المراد بالقتل الصيد لأنّ الصيد يطلق ويراد به معان متعددة والذي يهمّنا منها هنا هو : محاولة الإستيلاء على حيوان ممتنع بأصله سواء كان بحرياً أو برياً طائراً أو غير طائر وهو إلاّ ما خرج بالدليل جائز بالنص والإجماع وسيأتي ما يخرج عن هذا الجواز ، وللصيد المقتول بالآلة شروط ذكرتها وهي كون الصائد مسلماً ، وكونه عاقلاً مميزاً ، وكونه قاصداً للصيد عند الرمي لا أنّه جاء عفواً ، وكون الصيد قد قتل بالآلة لا بسبب آخر ، وذكرت للبعض شرطاً آخر لم يأخذ به الفقهاء ، كما أنّ شروط قتل الصيد بالكلب المعلّم ذكرتها وهي خمسة : أوّلها أن يكون الكلب معلّماً وقد بيّنت معنى التعليم ، وثانيها أن يرسله صاحبه بقصد الصيد وثالثها أن يكون مرسل الكلب مسلماً لأنّ الإرسال هنا من أنواع التذكية ، ورابعها التسمية عند إرسال الكلب ، وخامسها أن يدرك الكلب الصيد وهو حي ويستند موت الصيد إلى جرح الكلب . أمّا الحيوان المصاد فشروطه أولاً أن يكون ممّا يقبل التذكية ، وثانياً أن يكون برياً ، أو أهلياً تحوّل إلى بري ، وثالثاً أن يكون قادراً على الإمتناع ، وبالجملة أشبعت جوانب موضوع الصيد .
    رجعت بعدها إلى كلمة عُصفور للتعرف عمّا إذا كانت التسمية مشتقة وفيها معنى الوصف ممّا قد يكون له صلة بالحكم أم غير ذلك فاستعرضت القولين في ذلك . عدت بعدها إلى كلمة عبثاً وهي من مراكز الثقل في الموضوع لأنّ لها مفهوم يشير له المنطوق الذي هو العبث فانطلقت منه إلى الصيد المباح وأقوال الفقهاء فيه والصيد المحرّم وأدلّته من النقل والعقل فإنّ مفاد كلمة عبث أنّه لم يقتله لفائدة من الفوائد التي أباح الله تعالى معها سفك دم هذا الحيوان وهي الصيد للتجارة والصيد من أجل القوت بل أقدم على ذلك لمجرد التلهي بقتل الحيوان وهذا القسم من الصيد محرّم والأدلّة على ذلك كثيرة ومن هذه الأدلّة ما روي عن الإمام أبي جعفر (عليه السلام) : (سألته عمّن يخرج بأهله بالصقور والبزاة والكلاب يتنزّه الليلتين والثلاثة هل يقصر من صلاته أم لا ؟ قال : لا إنّما خرج في لهو فلا يقصر) . ومنها ما رواه اسماعيل بن أبي زياد عن جعفر عن أبيه (عليه السلام) قال : (سبعة لا يقصرون وعدّ منهم الرجل يطلب الصيد يريد به لهو الدنيا) . ومنها ما ورد في معتبرة عبيد بن زرارة قال : سألت أبا عبدالله (عليه السلام) عن الرجل يخرج إلى الصيد أيقصر أو يتمّ ؟ قال : يتمّ لأنّه ليس بمسير حق . والإطلاق في هذه الرواية مقيّد لخروج صيد التجارة وصيد القوت عنه فتكون الرواية مختصة بصيد اللهو ، والتعليل الوارد بالروايات يجعل خروجه لهذا الصيد سفر معصية يتمّ معه الصلاة وما ذاك إلاّ لقتل حيوان عبثاً .
    وانطلقت بعد ذلك من هذا العنوان ومن نظائر له في النهي عن قتل وتعذيب الحيوان إلى أنّ الفقه الإسلامي كان رائداً في حماية الحيوان ووضع الضوابط أنواع التعامل معه ، وبدليل الأولوية فهو رائد في تشريع حقوق الإنسان وأوردت بعض المقاطع في هذا المعنى رجعت بعدها إلى جملة ـ يقول يا ربّ سل هذا ـ والجملة تحتمل معنيين : المعنى الأول أنّه يقول ذلك بلسان الحال وهذا اللون من الفهم استعماله شائع بلسان العرب ، أمّا المعنى الثاني فهو أنّ له لغة خاصة يعبّر بها عن المعاني فهو يتكلّم بها مع خالقه الذي جبله عليها وهناك جملة من الآيات والروايات تصرّح بوجود لغة للحيوانات ، وفيما يخصّ هذا الموضوع بالذات يروي صاحب حلية الأولياء بسنده عن أبي حمزة قال : كنت جالساً عند الإمام زين العابدين فإذا عصافير يطرن حوله ويصرخن ، فقال : يا أبا حمزة هل تدري ما تقول هذه العصافير ؟ قلت : لا ، قال : إنّها تقدّس ربّها جلّ وعلا وتسأله قوت يومها ، وقبل ذلك يصرّح كتاب الله عن نبيّه بقوله : ( أيها الناس علّمنا منطق الطير ) الخ .
    وعدت بعد ذلك لجملة : ولم يتركني آكل من خشاش الأرض ، فانطلقت منها إلى بحث في التوازن البيئي لأنّ نظام التعامل مابين الحيوانات دخيل في توازن البيئة ممّا قد أصبح معروفاً وكتب فيه الكثير ، فشرحت شيئاً من ذلك ، ثمّ ختمت الموضوع بقوله : جاء يوم القيامة فذكرت فصلاً في حشر الحيوانات وأهداف هذا الحشر ومنها القصاص والأحاديث والروايات الواردة في ذلك وخلصت من ذلك إلى حشر الحسين (عليه السلام) وقتلته والإقتصاص منهم .





    النموذج الثالث


    كان صدر البحث في هذا الموضوع رواية ذات صلة بواقعة الطف وهي ما رواه أبو مخنف في المقتل ، والبلاذري في ترجمة الحسين (عليه السلام) من كتابه أنساب الأشراف بسنده عن عقبة بن أبي العيزار قال : لمّا وصل الحسين (عليه السلام) إلى البيضة بالكسر وهي موقع لبني يربوع وهي متصلة بالحزَنَ (مقابل السهل) وهي غير البيضة بالفتح فهي لبني دارم وتقع مابين واقصة وعذيب الهجانات ، والظاهر من الروايات أنّ المقصود بها الثانية وهي التي خطب بها الحسين (عليه السلام) أصحابه فقال : مصدراً خطبته بحديث للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وهو : (من رأى سلطاناً جائراً مستحلاً لحرم الله ناكثاً لعهد الله مخالفاً لسنّة رسول الله يعمل في عباد الله بالإثم والعدوان فلم يغيّر عليه بفعل ولا قول كان حقّاً على الله أن يدخله مدخله) ثمّ قال الحسين (عليه السلام) : (إنّ هؤلاء قوم لزموا طاعة الشيطان وتركوا طاعة الرحمان وأظهروا الفساد وعطّلوا الحدود واستأثروا بالفيء وأحلّوا حرام الله وحرّموا حلاله وأنا أحقّ من غيّر) .
    وبعد التأمّل في هذا النص للتعرف على هدفه العام وملاحظة استشهاد الحسين (عليه السلام)بحديث الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) اتضح أنّ الهدف هو تعبئة الفرد المسلم وإيقاظ المسؤولية في نفسه للوقوف بوجه الحاكم الظالم الذي نعته الحسين بالإستناد إلى الحديث الشريف بالنعوت التي تجرّده من العدالة وتدفعه إلى الوقوف بوجهه ومنازلتهوحماية الأمن من جوره واستبداده ، بدا ذلك واضحاً أشدّ الوضوح .
    رجعت بعد ذلك إلى تجزئة مقاطع الحديث والرواية فانتهيت من مجموع مقاطع الحديث الشريف إلى أنّ مشرب الإسلام ومنهجه فهو لا يقرّ الجور بحال من الأحوال ولا يسمح بالسكوت عن الظالم وباعتبار الحسين (عليه السلام) جزءاً من جدّه وهو منه فهو يحمل نفس المزاج وبحكم كونه على قدوة يقتدى به فقد أصبح هذا الإتّجاه وهذه الفكرة من سمات شيعته حتى عرفوا به ومن أجل ذلك قال معاوية لابنه يزيد : لو طلب منك أهل العراق أن تعزل عنهم في كلّ يوم عاملاً فافعل فإنّ ذلك أيسر من أن يسلّ عليك مائة ألف سيف ، وانطلقت من هنا إلى أنّ ذلك سبب من أسباب مكافحة التشيّع عبر العصور الأمر الذي أسّسه الحكام ثمّ راح يمشي للآخرين بقوّة الإستمرار واخترعت له المبرّرات التي لا تمّت إلى الحقيقة بصلة مثل أنّ الشيعة يطوّلون ألسنتهم على أمّ المؤمنين عائشة ، وأنّهم يرمون جبرئيل بالخيانة ويعتقدون أنّه بعث لعليّ بن أبي طالب ولكنّه خان وذهب بالوحي للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ومثل قولهم أنّ الشيعة لا يأخذون أحكامهم من هذا القرآن لأنّه في نظرهم محرّف وعندهم روايات تذهب إلى أنّه محرّف وأمثال ذلك ممّا يعزفون عليه منذ عشرات ومئات السنين ولم يستطيعوا ثباته بدليل واحد عدى مجرّد الإدّعاء ، وجلّ ما رموا به الشيعة هو عندهم فهو مصداق المثل ـ رمتني بدائها وانسلّت ـ .
    وفي الجانب المقابل لموقف الشيعة من الحكام الجائرين وقف الفكر السني يهادنهم ويبرّر تلك المهادنة بالروايات التي هي غير موثوقة ومخترعة وبآراء لا تصمد أمام المناقشة فقد رووا بسندهم عن حذيفة : ليس من السنة أن تشهر السلاح بوجه السلطان ، فقد قال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) : سترون فتناً وأثره . قيل : فما تأمرنا بعد يا رسول الله ؟ قال : أعطوا الحق الذي عليكم وسلوا الله الذي لكم ، وعقّب الراوي بقوله وهذا الحديث أصل عظيم من أصول الإسلام ومذهبه هذا مذهب المحدثين من أهل السنة وإليه يميل الصوفية والمعتدلون ، وقال الشيخ محمّد بن عبدالوهاب : إنّ مخالفة وليّ الأمر عند أهل الجاهلية وعدم الإنقياد له فضيلة والسمع والطاعة ذلّ ومهانة ، فخالفهم رسول الله وأمرنا بالصبر على جور الولاة وأمر بالسمع والطاعة لهم والنصيحة وغلّظ في ذلك وأبدا وأعاد ، وقال الطحاوي : لا نرى الخروج على أئمّتنا وولاة أمورنا وإن جاروا علينا ولا ندعوا عليهم ولا ننزع يداً عن طاعتهم ونرى طاعتهم من طاعة الله عزّوجلّ ما لم يأمروا بمعصية وندعوا لهم بالصلاح والمعافاة .
    وألفت النظر هنا إلى التهافت في هذه المقتطفة فإنّه يقول : أمرنا بالصبر على جور الولاة والجور خروج عن طاعة الله تعالى لأنّه أمر بالعدل ثمّ يقول : ما لم يأمروا بمعصيته وقد أمروا أتباعهم بالجور على عباد الله وأيّ معصية بعد هذا ، ويقول التفتازاني : لا ينعزل الإمام بالفسق أو بالخروج عن طاعة الله والجور أي الظلم على عباد الله لأنّه قد ظهر الفسق وانتشر الجور من الأئمّة والأمراء بعد الخلفاء الراشدين والسلف كانوا ينقادون لهم ويقيمون الجمع والأعياد بإذنهم ولا يرون الخروج عليهم ، وإلى أمثال ذلك من الآثار التي تتسم بالركة والتهافت وهي تشكّل قاعدة في هذا الفكر من أجل ذلك كلّه لم يتعرّض هذا القسم من الناس إلى أيّ مضايقة من الحكام .
    بعد ذلك انطلقت للتأكيد على أنّ نهضة الحسين (عليه السلام) ذات أبعاد إجتماعية وإن حاول كثير من الكتّاب لسبب وآخر أن يفرغوها من المحتوى الإجتماعي ويصوّروها بأنّها ذات بعد شخصي أو حركة ارتجالية ليست بذات أهداف أو غير ذلك وأوردت الأدلة على فساد قول هؤلاء وأشرت بعد ذلك إلى أنّ النهضة تحمل معها مبرّراتها بغضّ النظر عن كون القائم بها الإمام الحسين سيد شباب أهل الجنة بل لأنّ الكتاب والسنة طافحان بما يؤيد موقف الحسين (عليه السلام) .
    وختمت البحث بمفاد قول الحسين (عليه السلام) (وأنا أحقّ من غير) لأنّه الرأس الذي يواجه قبل غيره مسؤوليّة النهضة لموقعه من الأسرة والنبوة ولكونه الإمتداد للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم)الذي تشخص إليه الأبصار ويؤهل لأداء هذا الواجب فانطلق رافعاً شعار الإسلام في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والوقوف بوجه الجور ومقارعة الظلم .


    وقد كان فوت الموت سهلاً فردّه***إليه الحفاظ المرّ والخلق الوعر





    النموذج الرابع


    صدر المحاضرة فيه بيتان من الشعر هما للشريف الرضي :


    يابن بنت النبي ضيّعت العهد***رجال والحافظون قليل


    ما أطيع النبي فيك وقد***مالت بأرماحهم عليك الذحول


    بعد التأمل في هذين البيتين انتهيت إلى أنّ الشريف الرضي رضوان الله عليه يريد من البيتين لفت النظر إلى أنّ الله تبارك وتعالى لم يطع ولم يلتزم بعهده الذي أخذه على الأمّة بكتابه الكريم بقوله تعالى : ( قل لا أسئلكم عليه أجراً إلاّ المودّة في القربى ) وآيات أخرى بنفس المضمون وأخذه النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) على الأمّة بقوله : (إنّي مخلّف فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي أهل بيتي ما إن تمسّكتم بهما لن تضلّوا بعدي أبداً) وبأحاديث أخرى مماثلة ، فالألف واللام في لفظ العهد للعهد . ومن طاعة الله تعالى إطاعة مضمون الآيات والأحاديث ولكن القوم أطاعوا إله الهوى وهو الحقد وتركوا طاعة الله ، فالشريف الرضي يصوّر هذا الجو بهذين البيتين ويؤكد على الصراع بين عبادة الله المتمثّلة في إطاعة أوامره مباشرة أو بواسطة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وإطاعة النفس الأمّارة بالسوء والمتمثّلة في الإنسياق مع الذحول والأحقاد .

    وبعد تأمل هذا الجو العام للبيتين رجعت إلى المفردات وأولها قوله : يابن بنت النبي وأنا أقطع هنا أنّ الشريف الرضي لا تعوزه القدرة على قول يابن النبي بدل قول يابن بنت ويمكنه تغيير البيت كلّه ، فما الذي دعاه لذلك خصوصاً وهو في عصر يحتدم فيه الصراع حول ذلك ويصرّ العباسيون ومن قبلهم الأمويون يصرّون على هذا التعبير يابن بنت النبي ويعاقبون من يقول إنّ الحسن والحسين (عليهما السلام) ولدا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ومن أجل ذلك دفعوا شعرائهم وأدبائهم لتبنّي هذه الصيغة فيقول أحد شعرائهم :


    وما لبني بنات من تراث***مع الأعمام في رقّ الزبور


    ويقول أبوبكر الصولي : عاتب أبان الشاعر البرامكة وقال : إنّ الرشيد يعطي الأموال للشعراء في حين هو فقير مع خدمته لهم وموضعه منهم . فقال له الفضل : إن سلكت مذهب مروان بن أبي حفصة ـ وكان مذهبه هجاء آل أبي طالب وذمّهم ـ أوصلت شعرك وبلغت إدارتك . فقال : إنّي والله ما استحلّ ذلك . فقال له الفضل : كلّنا نفعل ما لا يحلّ له ولك بنا وبسائر الناس أسوة فعندها قال أبان :


    نشدت بحقّ الله من كان مسلماً***أعمّ بما قد قلته العجم والعرب


    أعمّ نبيّ الله أقرب زلفة***إليه أم ابن العمّ في رتبة النسب


    إلى قوله :


    فأبناء عباس هم يرثونه***كماالعمّ لابن العمّ في الإرث قدحجب


    فجاء بالأبيات للفضل وقال : قد اقترحت فوفّر على الجاري . فقال الفضل : ما بقيت ـ يعني سيجري عليك العطاء طول عمرك ـ فركب الفضل وأبان وأنشد ابن أبان الأبيات للرشيد فأمر به بعشرين ألف درهم واتّصل به بعد ذلك وواضح من القصة أنّ العباسيين يريدون دفعهم عن صيغة أبناء رسول الله ويعبّرون عنها تارة بأبناءعمّ وتارة بأبناء بنت وهو نفس منطوق أبيات عبدالله بن المعتزّ العباسي وهي :


    لكم رحم يا بني بنته***ولكن بنو العمّ أولى بها

    قتلنا أمية في غابها***فنحن أحقّ بأسلابها


    ونحن ورثنا ثياب النبي***فكم تجذبون بأهدابها


    وفي الوقت ذاته تصدى شعراء الشيعة للردّ على هؤلاء مؤكدين على بنوّة الحسين (عليه السلام) للنبي ، وحتى غير الشيعة من الشعراء تصدّوا للرد على ذلك وتأكيد بنوّة الحسن والحسين (عليهما السلام) لرسول الله كقول القاضي التنوخي في الردّ على ابن المعتزّ :


    من ابن رسول الله وابن وصيّه***إلى مدغل في عقدة الدين ناصبي


    إلى آخر أبياته .


    وقد عقد العلامة الجليل المرحوم الأميني في هذا المعنى فصلاً رائعاً في كتابه الغدير ، وعلى العموم نعود فنسأل ما الذي دفع الشريف الرضي أن يخرج عن أجواء قومه في تبنّي نظريتهم في هذه المسألة والظاهر أنّ الشريف الرضي يريد أن يوضح أنّ النسبة لفاطمة لا تقلّ شرفاً عن النسبة لعلي (عليه السلام) وعلى هذا المنوال جرى الأدباء كقول بعضهم : يابن الترائك والأرائك والفواطم والعواتك .
    ثمّ انتقلت بعدها إلى قوله : ضيّعت العهد رجال والتعبير هنا مجازي فالعهد ما ضاع منهم ولكنّه تناسوه لدافع آخر وحفظه القليل منهم . فانطلقت استطراداً إلى موضوع العهد وهل هو من العقود أم لا وآراء الفقهاء في ذلك وأنّ الوفاء بالعهد واجب للأمر الوارد بقوله تعالى : ( وأوفوا بالعهد إنّ العهد كان مسؤولا ) ، ولأنّه لا يسأل عن غير الواجب ، وأوردت جملة من الآثار التاريخية حول الوفاء بالعهد وخصوصاً في تاريخ العرب قبل الإسلام وكيف كانوا يؤكدون على ذلك ، وقد تطرفوا حتى التزموا بوفاء العهد والمحافظة عليه حتى مع الحيوان ، ولعلّ من أروع الآثار في ذلك قصة زياد الأعجم عندما وفد على المهلّب بن أبي صفرة فأوكل المهلب ضيافته لابنه حبيب فبينما هما يوماً على سفرة الطعام إذ وقعت حمامة على السفرة وأخذت تغرّد وتلقط الحب فقال لها زياد :


    نغني أنت في ذممي وعهدي***وحرمة والدي أن لا تطاري

    وبيتك أصلحيه ولا تخافي***على حجر المزّغبة الصغار


    فإنّك كلّما غنيت بيتا***ذكرت أحبّتي وذكرت داري


    فإمّا يقتلوك طلبت ثارا***له نبأ لأنّك في جواري


    فمازحه حبيب ورمى الحمامة فقتلها ، فقام زياد يهتزّ وقال : قد خفرت ذمامي فإن لم تعد لي حقّي لأعيدنّها بسوساً ثانية ، فتلافى المهلّب الأمر وأعطاه ديتها كدية الحر إذا قتل وأرضاه ، فخرج زياد وهو يقول :


    فلله عيناً من رأس كقضية***قضى لي بها شيخ العراق المهلب


    رماها حبيب بن المهلّب رمية***فأقصدها والسهم يُحظى ويقرب


    فألزمه عقل القتيل بن حرّة***فقال حبيب إنّما كنت ألعب


    فقال زياد لا يروع جاره***وجارة جاري مثل جاري وأقرب


    والأمثلة على ذلك في تراثهم كثيرة لا حاجة لإيرادها .


    عدت بعد ذلك إلى قوله : ما أطيع النبي فيك ، فذكرت أنّ هذا المقطع يحتمل وجهين : الأول أنّ معنى كلمة فيك أنّك امتداد النبوّة فإطاعتك إطاعة لها لأنّ معنى النبوة ومضمونها ـ عدى الوحي ـ ممتدّ في الإمامة ، ولذا يقول المتكلمون أنّ العلة في نصب الإمام هي نفس العلة في إرسال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وهي عبارة عن إدارة شؤون الدين والدنيا ، فأفضت قليلاً في هذا المعنى لإيضاح هذا الموضوع ولعلّ الشعراء لم يفتهم ذلك ومن هذا قول بعضهم على لسان الحسين (عليه السلام) :


    يا مسلمين خذوا دماء نبيّكم***من هامتي إنّ الحياة حرام


    أمّا الوجه الثاني فظاهر ومعناه أنّه ما أطيع النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فيما أمر به من مودتك ومودة باقي ذوي القربى كما أسلفنا ذلك في تحديد الجو العام الذي تضمّنه البيتان .
    ثمّ انتقلت بعد ذلك إلى قوله : وقد مالت بأرماحهم عليك الذحول ، فأشرت إلى أنّ ليس من قاتل الحسين من الجيش حمل الذحول برمحه بل إنّهم قاتلوه لغيرهم فإنّ الذحول المذكورة هي دين الأمويين وعامة الجيش لم يكن كذلك ، فانطلقت من حيث المعنى إلى أنّ الأمم الجاهلة قد تقتل قادتها بأيديها لحساب غيرها فتحمل الوزر وتعطي المكسب لسواها وهي مسألة حفل بها التاريخ القديم والحاضر الفعلي والشواهد على ذلك كثيرة مستفيضة . وهذا الأمر هو الذي دفع الحسين (عليه السلام) ليبيّن للجيوش التي جاءت لقتاله فداحة ما هي قادمة عليه وفداحة خسارتها دنيا وآخرة ، وآخر موقف له في هذا المعنى يوم العاشر حين ركب فرسه وقرب منهم وخطبهم بخطبته الشهيرة وهي التي وردت في اللهوف على قتلى الطفوف ومقتل الخوارزمي وتحف العقول في ألفاظ مختلفة ومعان تكاد تكون موحدة وقال فيها :
    (تباً لكم أيتها الجماعة وترحا ، أحين استصرختمونا والهين فأصرخناكم موجفين سللتم علينا سيفاً لنا في إيمانكم الخ ..) لقد كانت مقاطع هذه الخطبة تنمّ عن مضامين منوعة وتكشف عن جوانب لا يستغنى عنها باحث في تاريخ الطف ويصل منها إلى وضع يديه على مفارقات غريبة ما كانت متوقعة ، فإنّ جور الأمويين كان ينبغي أن يدفع أولئك الناس للإلتفاف حول هذه النهضة والإنتصاف لأنفسهم ولكن الذي حدث هو العكس ، أنّك لتلمس اللوعة في قوله (عليه السلام) : (أعنّا تتخاذلون وهؤلاء تنصرون) وفي قوله : (من غير عدل أفشوه فيكم ولا أمل أصبح لكم فيهم الخ ..) إنّ هذه الخطبة كتاب مشحون بحقائق مرّة .
    وتابعت بعد ذلك ما جرى بعد الخطبة من رشق الحسين (عليه السلام) بالسهام من قبل الجيش واستيعاب الجراحات لجسمه ونزف دماه وبذلك ختمت هذا المجلس .[/align]
    يا محوّل الحول والاحوال ، حوّل حالنا إلى أحسن الحال......








  9. #24
    تاريخ التسجيل
    Jul 2004
    الدولة
    هناك
    المشاركات
    28,205

    افتراضي

    [align=center]



    ملاحظات حول كيفية تأليف المحاضرة





    يتضح ممّا قدّمته من نماذج أسلوب المنهج الذي درجت عليه فهو أسلوب لا يعتمد على اختيار المواد وضمّ بعضها إلى بعض حتى يتكون منها كمٌ يؤلف المجلس ، بل يعتمد على الإنتزاع من مضمون النص والإستنتاج الذي تساعد عليه أجواء النص فهو منهج تأملي أكثر ممّا هو منهج تقريري في مزاياه ولكنّه متعب لأنّه يستلزم إغناء كلّ مفردة من النص بمادة تتجانس معها . وقد تأخذك هذه المفردات يميناً وشمالاً ولكن إذا كان الذهن متمكّناً من الإحتفاظ بالقدر الجامع فيما بيّنها فسيردها إلى وحدة الموضوع وبالوقت ذاته يكون قد طرد الملل عن نفوس السامعين الذين ينعشهم تنويع المطلب وتعدد أبعاده .
    وبعد ذلك لي ملاحظات في التعقيب على هذه النماذج وعلى المنهاج وهي :
    1 ـ أنّ هذا المنهج هو الغالب وليس الوحيد ، فقد أقرأ موضوعاً لا أخرج فيه عن وضعه العمودي وصورته الواضحة المبسطة إذا اقتضى الأمر : مثلاً إذا أردت أن أكرس المجلس لسماع خطبة من خطب الإمام أميرالمؤمنين (عليه السلام) أو خطبة من خطب فاطمة الزهراء (عليها السلام) واستهدف توجيه الأذهان لها شكلاً ومضموناً وأضع السامع في أجوائها المؤثرة التي تكفي وحدها لإحداث الإنفعال بالنفوس ولتوضيح الهدف الذي من أجله خطب الإمام (عليه السلام) فإنّ بعض الشروح قد تذهب بروعة النص الأصلي وظروف المناسبة بما لها من وقع على النفوس كمثل قراءة المقتل يوم العاشر فإنّها وحدها كافية لا تحتاج إلى حواشي فإنّ الخروج عن صلبها يفقدها الزخم الذي كان لها في ظروفها .
    2 ـ لا أقتصر على الاستنتاج من مفردات النص لأنّه قد تتوالد استطرادات من ومضات ذهنية فأغتنمها بسرعة وأوشح بها الموضوع ولكنّي أحرص على أن تكون هذه الإستطرادات ملتحمة سنخياً مع الأصل وليست غريبة عنه وفي ذلك تمرين للذهن على التجوّل هاهنا وهاهنا دون الإقتصار على الطريق العمودي ممّا يساعد على خلق مهارة ذهنية . وقد تكون بعض هذه الإستطرادات أحياناً أهمّ من الموضوع نفسه .
    3 ـ إذا أردت شرح مفردة من النص وكانت مثلاً تتضمّن حكماً شرعياً أو قاعدة علمية لا أحرص على أن أسكبها في قالبها العلمي بما فيه من اصطلاحات قد لا يعرفها أغلب الحضور بل أحاول تلطيفها وتقريبها للذهن ، مثلاً إذا قلت أنّ هذا الحكم ثبت بالسنّة التقريرية يكون معناه أنّنا استفدنا من تقرير المعصوم له وهذا يدلّ على مشروعيّته وذلك لو أنّ رجلاً غسل وجهه بوضوئه مرّتين أمام المعصوم فأقرّه المعصوم ولم يعترض عليه فقد ثبت الحكم السنّة التقريرية ، فلا أحتاج أن أقول أنّ سكوت المعصوم بيان لأنّه دليل على الرضا ، ثمّ أعترض فأقول : وكيف يكون بياناً ولا ينسب لساكت قول ، ثمّ أجيب بأنّ حكم السكوت يختلف باختلاف حال الساكت ، فإن كان حاله هنا يقتضي البيان يكون سكوته دليلاً على الرضا وإلاّ فيكون قد أقرّ على الحرام وأخّر البيان عن وقت الحاجة واستمرّ على هذا المنوال أخذ بالسامع يميناً وشمالاً فيما ليس يريده السامع ـ كما رأيت بعضهم يفعل ذلك فكأنّه حريص على أن يبرهن على مكانته العلمية بعيداً عن روح الفن الذي هو فيه وبالإجمال يكفي الإيضاح بصورة معلومة عامة لا معلومة تخصصية في المجالس التي لا تقتصر على أهل العلم بل هي تجمّعات منوعة ومستويات مختلفة .
    4 ـ أعتبر منهج تأليفي للموضوع مجرد حلقة في الطريق ودرج واحدة في سلّم طويل وليست هي من نوع ليس في الإمكان أحسن ممّا كان ، فقد لا يروق منهجي للآخرين وقد يكون نتيجة لتجاربهم إنّ غيره أفضل وأكثر جدوى وأرجو أن يرتقوا إلى نهاية السلّم في ذلك كما أرجو أن لا أحرم من أجر الإسهام في خطوة بهذا الدرب ، فكلّ درب من دروب المعرفة لم يقطعه واحد بمفرده بل تتالى عليه كثير وكلّ منهم أنجز جزءاً وتبقى النهايات مفتوحة لمن عنده المزيد وأفاق المعرفة في إتّساع وليست هناك غلطة أكبر من تصوّر الوصول إلى الكمال بحيث لا مكان لمن يأتي بعدك فقد ذكروا فيما يناسب هذا أنّ العالم باللغة الصغاني بالغين المعجمة وهو الحسن بن محمّد بن الحسن العمري الحنفي وكان فاضلاً عالماً بالنحو واللغة وله كتاب مجمع البحرين في اللغة وشرح البخاري وله كتاب التكملة على الصحاح وصل فيه إلى كلمة بكم ومات فقيل فيه :


    إنّ الصغاني الذي حاز العلوم والحكم***كان قصارى أمره أن انتهى إلى بكم


    والحادثة تبيّن وتشير إلى أنّ لكلّ واحد حداً يصل إليه ليأتي بعده من يسير بالدرب وهذا موضوع الشاهد هنا ، فأنا لا أفترض أنّ منهجي هو صيغة منتهى الجموع .
    5 ـ يجب الإلتفات هنا إلى أنّي عشت زمناً لم يعش فيه من سيأتي أو من هو في بداية عمره لأنّ كلّ سنة جديدة تطل على أوضاع متجددة ومتطورة سواء كان هذا التصور للأفضل أو للأردأ ولكنّه على كلّ حال يفترض فيه أنّه يغيّر ما كان مألوفاً وبناءاً على ذلك فقد يكون منهجي متخلّفاً بالقياس إلى ما يحتاجه العصر ، فيأتي من يبتكر منهجاً أفضل وطريقة أجدى ولكن الذي ينبغي أن لا يكون مشمولاً للتطور هو الثوابت التي نريدها للمنبر الإسلامي وهي أن تكون الأعمدة الأساسية في عملية التبليغ روح الكتاب والسنة ومعطيات اللغة العربية ديباجة ومضموناً وبعد ذلك فليذهب الخطيب أنّى شاء في أبعاد المعرفة المتنوعة ما دامت هذه الأعمدة محفوظة .
    إنّ الإبتعاد عن هذه الأسس وملأ جوانب المنبر بمادة لا ترتبط بها يمسخ الهدف المطلوب من المنبر ويهبط به إلى أن يكون متاعاً رخيصاً ويقضي على أخلاقياته التي لا يمكن التحلي بها إلاّ بالإرتباط بروح الكتاب والسنة ، فلابدّ من الإكثار من استظهار النصوص من القرآن الكريم والسنة النبوية وآداب لغة القرآن والتعرف على خلفياتها .
    6 ـ من المهم جداً في تأليف الموضوع أخذ المناسبة التي يعدّ لها الموضوع بعين الإعتبار حتى يصاغ الموضوع وفقاً لها فلكلّ نوع من الغذاء نوع من الأواني ولكلّ ظرف من الظروف تيار يناسبه ، فلشهر رمضان المبارك مواضيع تناسبه ، وللشهر الحرام كذلك مواضيع تناسبه وللأيام العادية ما يتناسب معها ولا يمكن أن يصلح موضوع واحد لكلّ المناسبات كما نراه عند البعض ، فقد سمعت خطيباً في اليوم التاسع من المحرم يقرأ ويبيّن للناس ضرورة تغيير ديكورات بيوتهم وكأنّه يريد أن يقول أنّه ليس من الضروري أن نجمد على قراءة مواضيع معينة في التاسع من المحرم ، وما أدري ما هو القدر الجامع بين موضوع يُعد لمجلس في مناسبة وبين ديكور بيت يتغيّر حتى يتخذه مبرّراً ليقرأ فيما هو خارج المناسبة كما سمعت مجالس في صلب العشرة الأولى لخطباء لا صلة لها من قريب أو بعيد بالهيكل الذي يجب أن يراعى في المناسبة إلى حدّ ما ولا مانع من أن نرفد نفس الهيكل بشواهد للتوسعة تنسجم مع الهيكل ، فلا مانع أن أقرأ في مضمون الإخاء ومعناه في اليوم المعد لمصرع إخوة الحسين لأخرج من ذلك لصلب المناسبة ، ولكن هناك كلّ المانع أن أقرأ في ذلك اليوم طول الدورة الدموية ومسيرتها في عروق الإنسان أو مساحة استيعاب المصارين لموادها ليقال أنّ لي اطلاعاً على الشؤون الطبية ولو على حساب المناسبة وحساب الأصالة ، وسبق أن أشرت إلى أنّ سرّ هذا البلاء جهل القاعدة ممّا يدفع البعض إلى حصد المكاسب إلى أن يرتفع مستوى الناس وبعدها لكلّ حادث حديث . إنّ كلّ أمة تمرّ بظروف طبيعية وظروف ثانوية ولكلّ من الظرفين حديث يناسبه ، فلا يمكن أن نكون باردين في جو حار ولا العكس ، ولكن ليس على الإطلاق بل في حدود اختصاص المنبر لئلاّ نهرف بما لا نعرف .
    7 ـ بعد ذلك كلّه لي رجاء ملحّ أرجوه من إخواني أن ينبّهوني إلى ما قد أكون قد أغفلته عن غير قصد بل لقصور ذهني عن الإستيعاب ، فالعملية الذهنية مشدودة إلى جملة من العوامل وقد لا تتوفر في بعض الأحيان فينتج عن ذلك خلل وقصور عن الإستيعاب ومن أجل ذلك فتح باب الإستدراكات في معظم ما كتب . وللعلماء في ضرورة إعادة النظر فيما كتب وتنقيحه وتلافي أخطائه فصول موسعة يعرفها كلّ من تنقّل في أبعاد المعرفة .

    وإلى هنا أقف بهذه الملاحظات التي هي مجرّد تنبيهات وتعقيب على كيفية تأليف الموضوع وأختم ذلك بالإشارة إلى ما يذكر عن بعض شعرائنا بأنّه كان ينظم القصيدة ويراجعها ثمّ يراجعها ويبقى على ذلك حولاً كاملاً حتى يقتنع بأنّ ما نظمه صار شيئاً مذكوراً لا بأس بأن يسمع ، وليت لنا بعض ما عند هؤلاء من صبر ومن بال طويل يمكن أن نصل معه إلى شيء من الكمال النسبي فيما نقول ونكتب .[/align]
    يا محوّل الحول والاحوال ، حوّل حالنا إلى أحسن الحال......








  10. #25
    تاريخ التسجيل
    Jul 2004
    الدولة
    هناك
    المشاركات
    28,205

    افتراضي

    [align=center]



    من تاريخ المنبر (تجربة منتدى النشر)





    في أواخر العقد الخامس من النصف الأول من القرن العشرين الحالي أوشكت تجربة رائدة أن تتحقق ولم تتحقق تلك هي محاولة جمعية منتدى النشر الدينية من قبل جملة من أعضائها من العلماء الكفوئين والذين أدركوا حاجة المنبر الحسيني إلى النهوض على مستوى يتناسب والتراث الفكري للشيعة كما يرتفع بالمنبر عن الهبوط وفي طليعة هؤلاء والمحرك الأول الشيخ محمّد بن شيخ الشريعة الذي يعدّ المحور في الثورة العراقية بعد محورها الأول الميرزا الشيرازي ، وكان تغمّده الله برحمته صلب الإرادة مقتحماً لكل ما هو من الصعاب لا توجد عنده غالباً فرصة طويلة بين أيّ فكرة وتنفيذها كما كان جوال الفكر حلو الطباع مرناً ينسجم مع مختلف المستويات ، وكان لا يعني (بالأتيكت) السائد مع المراكز العلمية القائمة آنذاك لأنّه كان يريد منها أكثر ممّا كانت تؤديه في ميادين المصلحة العامة .
    واشترك في هذه المحاولة مع الشيخ المظفر (قدس سره) والشيخ الشريعة كل من الحجة الراحل الشيخ عبدالمهدي مطر والشيخ محمّد الحسين المظفر (قدس سره) والخطيب الجليل ـ خطيب الثورة العراقية ـ الشيخ محمّد علي القسام وجملة من الخطباء فهم الشيخ جواد القسام والسيد جواد شبّر والشيخ مسلم الجابري والسيد عبدالحسين الحجار وكنت من ضمنهم وأنا صبي أتحمس للفكرة وأعطي من الأدوار ما يناسب حجمي . وقد تمّ إعداد المنهج بصورة أولية للصف الأول نظرياً واتّجهت النية إلى أخذ إذن من المرجعية آنذاك للإستفادة من مؤسسة آل زيني الواقعة في الجهة الشمالية من الصحن الشريف والملاصقة للمغاسل والحمامات المعدة للزوار على أن يفتح لها باب غير بابها المفتوح على الصحن الشريف وترمّم على نفقة جمعية منتدى النشر وذلك لتعذّر الإنتفاع بها حتى أصبحت مهجورة لأنّها كانت معدة لاستقال الزوار الذين لا مأوى لهم ولكنّها بعد ذلك آلت إلى أن تكون محلاً لمن لا أهل لهم من العاجزين المرضى .
    وفعلاً أعطت المرجعية الإذن بذلك ولكن تحرّك جماعة فشنّوا حملة شعواء على منتدى النشر وأنّه اغتصب مؤسسة معدة للزوار وموقوفة عليهم . والذي أذكره أنّه لا توجد وثيقة تؤيد وقفية هذه المؤسسة ـ إن لم تخني الذاكرة ـ ولأجل هذا أجازت المرجعية الإنتفاع بالمؤسسة ولكن حدث بعد هذا أن سحبت هذه الإجازة . وكان سحب الإجازة إنذاراً ورسالة تنبّىء عمّا وراء ذلك ، ولكن القائمين على العمل أصرّوا على المضي في مشروعهم ولم يثنهم ذلك عن مواصلة المسيرة . واتّجهوا للبحث عن مكان آخر . وبالفعل استأجروا داراً في ذيل جبل المشراق بجوار الساباط الذي يؤدي إلى فضوة المشراق على ما أتذكّر ، ونقلت إليه حاجات الصف الأول من رحلات وكراسي وصبورات ووسائل إيضاح وتمّ الإعلان عن الإستعداد للقبول ، وبالفعل انتمى جماعة وللأسف الشديد غابت عن ذهني أسمائهم كما غاب عن ذهني تذكّر شروط القبول ، وبعد هذه البدايات المذكورة بدأ التحرك المضاد واشتركت فيه عناصر منوعة في طليعتها حواشي بعض العلماء الذين تتجه معارضتهم أولاً وبالذات لمحاولة ابتداع أسلوب جديد في الدراسة الحوزوية ، فاستغلوا موضوع الخطابة ولم يكن مقصوداً بالذات عندهم بل المقصود ما ذكرناه ، وبعض القائمين على المشروع خصوصاً الشيخ محمّد الشريعة والشيخ عبدالمهدي مطر ، والشيخ محمّد علي القسام الذي استهدفه بعض زملائه من الخطباء واستكثر أن يكون هو رئيس هذه المؤسسة وعلى العموم ثارت الحواشي وعملت على تهيئة موضوع يصدر الحكم بناءاً عليه وحشدت لذلك عناصر منوعة منها من هو على دين ولكن عكسوا له أجواءاً تؤدي إلى المساس ببعض الأمور العقائدية ، فثار وحرّكوا العوام ، وتحرّك أصحاب المصالح وفي طليعتهم مجموعة ممن يمتهن الخطابة وانتشرت شائعات تقول أنّ منتدى النشر يريد تغيير صورة الأمويين في أعين الناس والقضاء على الشعائر الحسينية وتزوير التاريخ إلى آخر ما هنالك من الإفتراءات أدّت إلى صدور تصريحات من الزعامات الدينية تدين منتدى النشر وانهى الأمر بالهجوم على المؤسسة المعدة للتدريس وعلى منتدى النشر هي الأخرى فكسّرت الكراسي وحطم ما في البنايات من أدوات وهرب القائمون على العمل واختبأوا عن الأعين .
    وكان أحد التصريحات من بعض المراكز الدينية أنّ الحسين (عليه السلام) قتل مرّتين : مرّة يوم الطف وأخرى في حركة منتدى النشر ، وتصريح آخر في حيثيات عجيبة وثالث ورابع وهكذا وهنا مكان المثل ـ ما كلّ ما يعرف يقال ـ وانتهى الأمر بفشل المشروع وموت الفكرة في مهدها واختفاء كلّ عنصر له صلة بالموضوع مدة طويلة إلى أن بدت بعض الحقائق تتضح وبعض الإفتراءات تنحصر ونبّه الناس إلى أنّ الأشخاص الذين أرادوا تأسيس معهد الخطابة هم من الناس المعروفين بالعلم والتقوى والأصالة ممّا أدّى بالتدريج إلى انحسار موجه النقمة والتعرّف على خلفيات تلك المعارضة فذهب الخطر وبدأ أعضاء منتدى النشر يخرجون من بيوتهم فلا يتعرّض لهم أحد عملياً أمّا السبّ والنبز لهم فبقي مدّة طويلة إلى أن اتّضحت الصورة .





    سرّ فشل الحركة


    لقد كثر السؤال عن سرّ فشل الحركة وما هو ؟ لأنّ إصلاح المنبر ورفع مستواه وتأهليه لأداء دوره الكبير هو مطلب من مطالب الشيعة بكلّ فئاتهم ، فما هو السبب إذاً الذي أدّى إلى فشل التجربة وإلى تلك الأمور الحادة فضلاً عن الفشل في الموضوع نفسه ؟ وللجواب على هذا السؤال : كانت هناك فيما أعتقد عدّة عوامل وراء ذلك وهي :
    1 ـ كان من الضروري أن ينضج تصور المشروع في نظر المرجعية إلى درجة توفير غطاء له من المرجعية نفسها إن لم يتبنّى من قبلها ، وفي ذلك تكون القدم قد وضعت على أرض صلبة ويذهب خوف الطعن من الخلف من قبل من يناوىء المشروع لسبب آخر ، وفي الوقت ذاته ممّن له نفوذ في ساحة المرجعية وهذا في نظري السبب الأول رتبة .
    2 ـ كان ينبغي القيام بدور دعائي كبير في أوساط الخطباء وطمأنتهم وطرد المخاوف التي تهدّدهم بأنّهم ستقطع أرزاقهم وسيكونون على الهوامش وسينتفي الموضوع الذي يدورون حوله من واقعة الطف إلى آخر ما هنالك من إشاعات رافقت التحرك نحو المشروع ، والخطباء قوة كبيرة مؤثرة في الساحة وبوسعهم تحريك الجمهور بأن يصوروا له خطراً داهماً تتعرض له العقيدة . كما كان ينبغي الأخذ بعين الإعتبار المعادلة بين من عيّن رئيساً للمؤسسة وهو القسام وبين منافسين في الطرف الآخر فإنّ رفع المصاحف وارد في كلّ دور خصوصاً إذا ضعف الوازع الديني .
    وقد لعب هذا النفر دوراً ليس باليسير في تشويه الصورة والظهور بمظهر الحماة عن العقيدة وتأجيج النار إلى أن تحقق الهدف المطلوب وقد كان بالإمكان العمل ولو طالت المدة على إعداد الخطباء أنفسهم لأن يكونوا دعاة الفكرة وأعتقد أنّ هذين العاملين لم يغيبا عن أذهان القائمين على العمل فقد أخطرت المرجعية وطرح المشروع بين يديها كما تمّ نشر الفكرة في أوساط الخطباء ولكن ليس بالمستوى المطلوب في كلا الحالتين والسبب وراء ذلك العجلة لإتمام المشروع وعدم تصور مقدار القوة الكامنة في هذين المصدرين .
    3 ـ علاقات بعض القائمين على فكرة المعهد بالأوساط الدينية المتنفذة فقد كانت علاقات متشنجة ممّا أدّى إلى أن تدفع فكرة المعهد فواتير علاقات هؤلاء بالآخرين . وقد كان ينبغي أن يختار للقيام بهذا العمل جماعة آخرون يكونون بالواجهة ويكون الآخرون وراء الظل وبذلك يتمّ ضمان سلامة الواجهة ووجود الذهنيات العاملة وراءها . ولقد كان لعلاقات بعضهم بالآخرين أثراً كبيراً في تحريك من الغم الساحة واستتر وراء المصلحة العامة .
    4 ـ كان ينبغي عدم طرح المشروع بصورة مؤسسة كبيرة ولها واجهة وكيان مستقل بل يقتصر على فتح صف ضمن مدرسة منتدى النشر التي كانت قائمة آنذاك فيدرس فيه الطالب الذي يود الإلمام بالدروس المتعلقة بفنون الخطابة وبعض المواد المعدة لذلك ويستمر الآخرون على مفردات منهجهم العادية السائدة آنذاك ويتمّ تلمس ردود الفعل بهدوء حتى إذا تجذّرت الفكرة واتّضحت جوانبها وأهدافها يتمّ الإنتقال إلى خطوة أوسع وأعمق وهكذا لأنّ عامل الزمن في مثل هذا الموضوع له أثر كبير في تهيئة الساحة لذلك وامتصاص ما قد يتصور من مضاعفات .
    5 ـ أعتقد أنّ هناك مقولات نشرها بعض المتحمّسين للفكرة مفادها أنّ هذا التحرك يستهدف تصحيح مسار المنبر وإبعاد المرتزقة والجهلة وأمثال ذلك من العناوين المثيرة . ولا أستبعد أن يشترك بعض من يهمّه فشل التجربة في طرح أمثال هذه الشعارات بقصد استثارة الشعور بالكرامة عند خطباء المنبر وإثارة مشاعر الخوف عند المتدينين الحقيقيين على كرامة الطائفة التي مرّت عليها أحقاب وهي تلتفّ حول هذه المنابر التي تؤدي هذه الشعائر حتى صارت جزءاً من طقوسها الإجتماعية ، فليس من السهل شتم كيان يصطبغ بصبغة العقائد المقدسة وكان ينبغي أن تطرح شعارات من نوع آخر تعبّر عن إرادة خيّرة في تتويج جهاد خطباء المنابر بتهيئة مراحل أفضل لمواصلة مسيرتهم الجهادية بالإضافة للتنويه بجهودهم . إن وقع الكلمة على النفس وقع قوي في صراط المدح أو الذم .
    ولقد سمعت أنا بعد فشل التجربة الكثير من الخطباء وهم يحملون على ما سمعوه من العجرفة والغطرسة اللتين اتصف بهما حملة مشروع منتدى النشر عندما راح بعضهم يعلن أنّه سيصحح المسار ويبعد من يسيء للمنبر . إنّ هذه المفارقة قد وقع فيها حتى بعض من أرّخ للواقعة فجاء بعبارات حادّة عندما حدّد هدف المشروع فعبّر عن ذلك بألفاظ عنيفة تعطي ردود فعل أعنف ومنهم(1) وقد كنت لا أرغب بذكر هذه القضية لما حدث فيها من


    ــــــــــــــــــــــــــــ


    (1) المرحوم جعفر الخليلي في كتابه هكذا عرفتهم ج2 ترجمة الشيخ مظفر محمّد رضا (قدس سره) .

    مفارقات نمّت عن مجتمع مريض أسأل الله تعالى له العافية ، ولكن في أحداث التاريخ دروس غنية بالعظات والعبر لعلّه يستفاد من عبرها بما يكون عوناً في المستقبل . لقد خسرنا بفشل تلك التجربة والمحاولة مردوداً يتلخّص في طلائع من المبلغين يثرون ساحة الخطابة ويكونون منافذ يطل منها من يريد التعرف على مضموننا ونكشف عن واقعنا الذي يتعرّض لكثير من الافتراءات .
    والآن وبعد نصف قرن من الزمن صعدت فيه الأفكار وانتشر الوعي وعمّت الثقافة وعُرفت شخصيات أولئك القائمين على المشروع معرفة تامة وانحسرت الشكوك فيهم فماذا بعد ذلك ؟ هل لا تزال الحاجة قائمة إلى مثل ذلك المشروع أم لا ؟ وهل عوامل نجاحه لو قدر أن يعاد أكثر من عوامل فشله ؟ وهل هناك سلبيّات إلى جانب الإيجابيات ؟ وما هي تلك بقسميها ؟ هذه الأسئلة أصبحت تتردد بصورة ملحّة ، والذين يردّدونها هم من الشرائح الواعية الغيورة على عقائدنا وتراثنا كما أنّ من الإنصاف أن أذكر أنّ كثيراً من خطباء المنبر فاتحوني في أكثر من مرّة في مسألة إعادة تلك المحاولة بالجملة وليس بكلّ التفاصيل هذا بالإضافة إلى الإرتفاع النسبي في مستوى القاعدة الذي دفعها بدورها إلى المطالبة بذلك ، وأول ما يذكر هنا للإجابة على تلك الأسئلة السابقة : أنّ الحاجة قائمة وأنّ نسبة عوامل نجاح المشروع أكثر من نسبة عوامل الإخفاق مع توفر الشروط التي تشترط في هذا المورد . وإنّ الإيجابيات فيه أكثر من السلبيات . ولابدّ هنا من وضع تصور ولو بصورة بسيطة ومرتجلة عن الفوائد المتوقعة منه وعن العقبات المتصورة ، وكلّ ذلك في مجال النظر أمّا مجال التطبيق ونتائجه فالعلم عند الله ولا يمكن حصر المتغيرات والتكهّن بها وإليك ما تصورته حول ذلك :





    1 ـ الفوائد المرجوة


    آ ـ توفير الجهد على الخطيب عن طريق تهيئة أدوات البحث والكتابة ودراسة العلوم المتعلقة بالمنبر كلّ ذلك يهيّىء في مكان واحد وهو ما لا يتيسر غالباً للخطيب من الناحية الكمية والكيفية بالإضافة للإختيار المنتقى من قبل ذوي الخبرة بالمواد والمنهج .
    ب ـ ضمان رفع كفاءة المنبر عن طريق العوامل المتقدمة لما يكتسبه الخطيب من خبرة ممنهجة وتطبيق واعي يختصر عليه زمناً ليس بالقصير يقضيه عادة في اكتساب الخبرة وتعميقها .
    جـ ـ الوصول التقريبي إلى وحدة المنهج في الأداء والنوع عن طريق وجود مؤسسة هي بمثابة غرفة عمليات موحدة ترشد إلى مواضيع موحدة ينبغي أن يعالجها الخطباء إمّا كلّ سنة أو لمدة طويلة وذلك يعطي انطباعاً مهمّاً وأثراً نافعاً في التوفير على ما تحتاجه الساحة كلّ فترة وعلى التفاعل مع ما يجد فيها من تيارات وما يطرأ من مستجدّات في محاربة فكر أهل البيت فنحن نعلم مقدار ما يطرح من ذلك في كل سنة وما يرصد له من ميزانية كبيرة تغطي أبعاده المختلفة وكل ذلك يدعو حماة العقيدة للذود عنها والصدور عن جدول موحد .
    د ـ توفير القدرة للمنبر على معالجة بعض السلبيات في مجال الطف إذا ألزمتهم المؤسسة أعني الخطباء واقتنعوا برأيها في امتصاص تلك السلبيات فإنّ المعالجة الفردية لا سبيل إليها لأنّها توفّر لمن يريد الصعود بأيسر الطرق فرصة ليظهروا بمظهر المدافع عن العقيدة كما حصل في أكثر من الظروف والحالات وساعد عليه الجهل المنتشر ولكن في حالة ما إذا ضُمن أكبر عدد من ذوي الشأن للوقوف إلى جانب فكرة ما فذلك يزيد نسبة نجاحها. وهناك فوائد كثيرة مضمونة في ذلك لأنّ التنظيم علاج الفوضى وفوائده غيرخافية.





    2 ـ العقبات المتوقعة


    آ ـ العامل الأول صعوبة تحصيل غطاء من المرجعية مهما كان ظلّها منبسطاً على الساحة لأنّها ليست وحدها في الميدان ضرورة تعدد المجتهدين والمراجع عندنا وقد لا تتمكن من تبنّي المشروع بصورة كاملة لما قد يحصل له من معارضة من الآخرين لأسباب متنوعة كالإشفاق من خطر متصور على العقيدة ، وكالإقتناع بأنّ بعض ما يراد حذفه من جدول الطف هو ما يساهم في نصرة الدين وإنّ حذفه طريق إلى حذف ما هو أهمّ وأكبر في تدرّج مشبوه كما يصوّرونه . ومثل ما تعكسه بعض الحواشي لنزاع بينها وبين الآخرين حيث تصوّر وجود مضاعفات خطيرة في الساحة فيما لو عولجت واقعة الطف بشكل آخر وبذلك تمنع المرجع الذي تلتفّ حوله عن مساندة الفكرة وهكذا اللهمّ إذا تدخّلت عوامل غيبية فوفّرت الأجواء الأساسية في مرجعية قوية وأجواء إيمانية وحواش موضوعية وما هو من هذا بسبيل ، وعندئذ يسهل تحصيل الغطاء للمشروع ولكن المؤسسة المتصورة قد يقول قائل أنّها ليست بحاجة إلى غطاء من المرجعية بل يكفي تبنّيها من اسم لامع وهذا القول وهم لأنّني أعرف بعض من ينتمي لهذا الفن وهو في أول مراحله يرى أنّه لا يقلّ مكانة عن أكبر راس فيه وإذا تعارضت مصلحته مع المشروع انقلب إلى أداة تهريج يستغلّها خصوم الفكرة كما حصل واكتوينا بناره .
    ب ـ أنّ مؤسسة الخطابة المقترحة إمّا أن تكون منهجية تمنح رتبة معينة معترف بها دولياً وهو ما قد لا توافق عليه مصادر القرار كما يتطلّب ضماناً من قبل المؤسسة للمتخرج إمّا بوظيفة بعينها أو بتامين مجالس له وفي الحالة الأولى إذا وظف فقد يخرج عن دائرة المنبر وفي الحالة الثانية وهي ضمان مجالس له فهذا ليس في ميسورنا لأنّ الشهادة وحدها لا تضمن له مكاناً في دنيا المنبر وهي التي تتحكم في نجاحه وفشله لا مجرد انتمائه للمؤسسة أما لو كان المعهد غير منهجي بمعنى أنّ التدريس فيه على النمط الحوزوي فذلك ما لا يرغب به إلاّ قليل من الدارسين لأنّ الأعم الأغلب يستهويه بريق الألقاب الرسمية ويحسب أنّ لها وقعاً على نفوس الناس وفي الحالتين المنهجية وغير المنهجية لابدّ من ميزانية كبيرة لتغطية متطلّبات المعهد ولابدّ من وجود كفاءات علمية لتدريس مختلف العلوم وقد يكون الأمر الثاني ليس بالعسير لو كان مكان المعهد في أحد المراكز العلمية كالنجف مثلاً أو قم أو حتى بيروت ولكن هناك ملاحظات ستأتي الإشارة لها فيما يأتي .
    جـ ـ تحتاج الدروس التطبيقية في المعهد إلى مدرّسين كفوئين خطابياً يسكبون تجاربهم نظرياً ويمارسون عملية التطبيق ميدانياً ولازم ذلك أن يكونوا متفرغين لهذا العمل لحاجة المؤسسة لهم بصورة مستمرة وفي هذه الحالة لابدّ من تعويضهم عن الحصائل التي كانوا يحصلون عليها من ممارستهم للخطابة ولو تنازلوا عن قسم كبير منها خدمة لرسالتهم فيبقى الباقي ليس من السهل حصولهم عليه كراتب خصوصاً وأنّهم درجوا على نمط من العيش ليس من السهل التنازل عنه ولا يمكنهم الجمع بين القيام بوظائفهم كاملة في المعهد وبين ممارسة الخطابة ومسايرة متطلّباتها المتفرعة فينبغي تفرغهم للعمل وعندئذ لابدّ من توفير ما يكفيهم .
    د ـ مكان المعهد أين سيكون ؟ وهنا لابدّ من افتراض كونه مستقلاً لا يحسب على جهة من الجهات سواء كانت حكومة أو حوزوية . ولكن البلدان الإسلامية في أغلب الظن لا تسمح بوجود مؤسسة مهمّتها نشر الفكر الإسلامي والشيعي فيه خصوصاً دون أن تجنّدها في خطوطها العامة . كما أنّها قد لا تسلم من المشاكل وتنفرد بخطّها فيما لو حسبت على جهة حوزوية معينة من أجل هذا لابدّ من وجوده في مكان لا يُربط وجوده بأيّ إلتزامات . والجهة المتصورة فعلاً هي أوربا لا غيرها مع وجود إشكالات من ناحية أخرى أهمّها ارتفاع التكاليف في كلّ جهات المعهد ، وبعده عن الجهات التي تمدّه بالطلاب وكون المناخ الإجتماعي إلى حدّ ما غريباً عن طبيعة أمثال هذه المؤسسات إلى غير ذلك من إشكالات ، ولكن يبقى شأنه شأن المؤسسات التعليمية الأخرى التي انخرط فيها من سكن أوربا من المسلمين لابدّ من التكيف معها وتكييفها بالتالي لمتطلّبات المسلمين تدريجياً .
    هذه بعض العقبات المتصورة في تأسيس معهد خطابي بحجم كبير وبارز ولو كانت مجرد عقبات يروّض الإنسان نفسه على اجتيازها وتحمل مضاعفاتها لكان للإقدام على تأسيس المعهد مبرّر ووجه مقبول ولكن الذي يخشى منه تكرّر الفشل بحيث ينتهي إلى الإطاحة به ، ويعرف كلّ واحد منّا أنّ ساحاتنا يكون الهدم فيها يسير والبناء صعب . فما العمل والحالة هكذا . هل الإعراض عن أمثال هذه الفكرة أولى أم ماذا ، لقد انتهيت بعد تقليب الأمر على وجوه مختلفة إلى القناعة بالمشروع التالي :





    المشروع المتصور فعلاً ومفرداته على النحو التالي :


    1 ـ بناية في أوربا تصلح ليتخذ منها مقرّ هيئة إدارية وبضعة غرف في مكان ملائم ويتمّ تسجيلها باسم المرجعية في النجف كما يوقف لها عقار يدر وارداً معقولاً لتغطية نفقاتها .
    2 ـ يهيّىء لها إدارة ومدرّسون من بضعة أشخاص بصورة بسيطة ويتمّ مبدئياً تحديد منهج واضح وتعيّن مفردات ذلك المنهج ويتمّ التدريس على نمط حوزوي أي غير رسمي ويتمّ خلال ذلك الإقتصار على عيّنة لا تتعدى العشرة أشخاص أو أقلّ ويتمّ تقييم التجربة خلال ذلك من ناحية النجاح والفشل والتعرف على الثغرات التي قد تحدث وقد لا تحدث كما تدرس العوامل التي يتطلّبها الحال خلال المسيرة . وليس من الضروري أن تكون البناية باسم معهد وإنّما باسم مؤسسة خيرية للأغراض الدينية حتى يمكن الإستفادة منها فيما لو لم تنجح الفكرة كما أنّه ليس من الضروري مبدئياً أن يكون عدد القائمين على العمل كبيراً بل يكفي في ذلك ثلاثة أشخاص أحدهم هو المعيّن من قبل المرجعية ويختار هو الإثنين أو الأكثر الباقين وبهذه البدايات المتواضعة يمكن الوصول للأمور التالية :
    1 ـ يتمّ بالتدريج التعرف من قبل الناس على سلامة المشروع ونجاعته وخدمته للطائفة.
    2 ـ الأمان من التعرض للعواصف المحتملة نسبياً بعكس ما لو كان مشروعاً يشكّل تحدياً .
    3 ـ يمكن وهو على هذا المستوى تموينه وتغطية تكاليفه إلى أن ينهض على رجليه

    وحينئذ يمكن التوسع وتعدّ مصادر التمويل ضمن نطاق المرجعية .


    4 ـ لا يتصوّر لمثل هذا المشروع أن يُهدم لأنّه إن لم ينجح بجهة عمله يمكن تحويل المؤسسة إلى مجرّد مركز يحقّق أغراض المرجعية الأخرى ويكون محلاً لأداء أدوار عبادية لا حساسية فيها .
    وبالجملة ينبغي أن يتمّ التحرك بمنتهى البساطة وخطوة خطوة وسيؤدي ذلك إلى أن يلمس الناس شيئاً من الفوائد المتصورة وذلك وحده كاف لأن يُدعم ويتجذّر في الساحة . ذلك ما أعتقد أنّه طريق الجمع بين عدم الجمود على الحالة القائمة التي نحن فيها من الثغرات وما يعرفه الجميع ، وبين السلامة من الآفات المتصورة ، حيث يتمّ معرفة موقع الخطوات من الطريق والله تبارك وتعالى من وراء القصد .
    إنّ عدم إيجاد حركة في الساحة وهي على ما هي عليه يعتبر وضعاً غير مبرّر بحال من الأحوال ، فإنّ أكثر الوسائل فاعلية في الإرتفاع بمستوى وعينا العقائدي وإثراء مضمون الفرد الشيعي ثقافياً هو المنبر الحسيني إذا كان منبراً على علم ووعي والتزام . ذلك أنّ جاذبية الحسين (عليه السلام) لكل فرد شيعي بغضّ النظر عن كونه ملتزماً أو غير ملتزم : هي جاذبية قوية فلا ينبغي أن نفوت هذه الطاقة من أيدينا ولنوظّفها في بناء الشخصية الشيعية التي تحرص مجموعة من العوامل على إفراغها من محتواها الذي حرص أئمّة أهل البيت (عليهم السلام)وقادة الفكر الإمامي عليه لتبقى الذهنية الشيعية مشبعة به حتى يبقى لها رونقها وخصائصها المميزة وسلام الله وتحيّاته على الرائد الأول في دنيا تعليمنا أميرالمؤمنين (عليه السلام) حيث يقول : (الأوان لكلّ مأموم إماماً يقتدى به ويستضيء بنور علمه ـ إلى قوله ـ أعينوني بورع واجتهاد وعفة وسداد)(1) .





    ــــــــــــــــــــــــــــ


    (1) شرح نهج البلاغة كتابة لعامله عثمان بن حنيف .[/align]
    يا محوّل الحول والاحوال ، حوّل حالنا إلى أحسن الحال......








  11. #26
    تاريخ التسجيل
    Jul 2004
    الدولة
    هناك
    المشاركات
    28,205

    افتراضي

    [align=center]


    تقييم حركة المنبر المعاصر





    1 ـ لا شك أنّ كل تحرّك في اتجاه ما يتضمّن آليات للتحرك وهدفاً له . وفي فصل كيف نبني المنبر الحسيني وتطوّره شرحت تصوراتي للبناء والتطوير والآليات الضرورية والمهمة دون استيعاب كلّ الآليات المتصورة ، وكذلك الحال في فصل أهم أهداف المنبر ذكرت ما تصورته الأهم دون أن أزيد شيئاً على تصوراتي في تلك المرحلة من أجل أن أنقل بأمانة خواطر تلك المرحلة . وإلاّ فقد تكون هناك أهداف أخرى تبلورت بعد ذلك أو انكشفت للذهن الذي كان غافلاً عنها ومن البيّن الواضح أنّ الأفكار غالباً تكون بحجم زمنها وحجم ملابساتها التي تحكم ذلك الزمن . وهذا المعنى إطار لا يخرج عنه إلاّ الذهن الموهوب الذي يسبق زمنه . فإذا مضت حقبة وجاءت حقبة أخرى جاءت معها بأفكارها التي تناسب حجمها وانطلاقاً من ذلك أريد أن أسكب الآن ما أراه في تصوراتي الحالية على هذا الورق عن تقييم المنبر المعاصر .
    2 ـ هناك عامل متحرك لا سبيل إلى احتوائه وهو عدم حصر كلّ المنابر والإطلاع على مناهجها وعطائها ووقعها عند الجمهور بكلّ أقسامه ممّا يقف حائلاً دون إعطاء حكم عام عند التقييم . لكن ذلك لا يمنع من رسم خطوط بيانية لحركة المنبر يصحّ معها إعطاء التقييم بالجملة ثمّ تحليل بعض الجوانب المنظورة التي تصف هذا المحتوى العام في بعض التفاصيل . وهنا نقول :
    أمّا الإتجاه العام للمنبر فلا شك أنّه نحو الصعود في مجمله ضرورة إنّ المنبر جزء لا ينفصل عن الوضعية الثقافية العامة من حيث الغنى في الأبعاد العلمية وانعكاس التطورات التقنية على مجمل الأفكار ونضوج الوعي بضرورة مواكبة المنبر للحركات الثقافية وارتفاع مستوى الفرد حضارياً في كلّ النشاطات الثقافية هذا من حيث المستوى العام يضاف لذلك الجهد الشخصي عند البعض لإغناء المنبر بالمواد الأساسية والكمالية وتحري المنهج المناسب لذلك وعندنا في هذا المستوى نماذج أتمنى لها اطراد التوفيق مع ملاحظة أنّ الكمال لله وحده وهناك شرائح أخرى أحرزت كمية من مادة المنبر لا بأس بها ولكن على حساب الكيفية وهناك أنماط أخرى معزولة عن التفاعل مع العصر وتخاطب مجتمعاً لا وجود له إلاّ قليلاً وهناك من بقي على السلالم الأولى وإنّني مع إيماني بأنّ لكل منهم دوراً يؤديه ومع رجائي بأن يثيبهم الله ما داموا في درب خدمات المنبر أطمع أن يتحرّكوا إلى الأفضل وأن يعطوا المنبر كما أعطاهم فعطاء المنبر وفضله على هذه الفئة وهم الخطباء لا ينكر ومن أبسط ردود الفعل السليمة ردّ الجميل .
    3 ـ مع ما ذكرناه من ارتفاع مستوى المنبر في الجملة وتناوله لأبعاد جديدة ومحاولة مواكبته لعصره إلاّ أنّه لابدّ من الإشارة إلى أنّ هذا التوسع جاء أحياناً على حساب الأسس . إنّ وقت المحاضرة لا ينبغي أن يستهلك جلّه في الكماليات على حساب ما هو أساسي وأضرب لذلك مثلاً : لو أنّ بعضهم قرأ مجلساً في الإمام الصادق (عليه السلام) فانصبّ معظم جهده على أنّ الإمام (عليه السلام) هو مؤسس علم الكيمياء وهو الذي وضع قواعد هذا العلم وأطال في ذلك وحمل على من جعل جابر بن حيان تلميذاً لغير الإمام الصادق (عليه السلام) في هذا العلم كما يزعم البعض في جعل جابر بن حيان تلميذاً لخالد بن يزيد ابن معاوية مع أنّ بينهما سنين كثيرة أقول : لو أنّه أسهب في ذلك على حساب ما هو أهمّ وهو تصدّي الإمام الصادق لحماية العقائد والأحكام من الآراء الفاسدة والإجتهادات التي لم تصدر عن علم وقواعد لكان ذلك ألصق بالمنبر وأنسب باختصاص الإمام الصادق مع الإشارة باختصار لمكانة الإمام من علم الكيمياء . هذا مجرد مثل أضربه لمن ينبهر ببريق الحداثة ورنين بعض الألفاظ ويذهب بعيداً عمّا هو ملتحم بصلب رسالة المنبر ، وعلى الطرف المقابل يقوم بعضهم بتكريس المنبر للنياحة والفجائع وإيراد شواهد وأحداث تفجّر الدموع وتحرق القلوب ولا شيء غير ذلك . مع أنّ حصة الدمع من المجلس لها حجم معين لا يستدعي هذا الكمّ الكبير من الشعر الدارج والجمل والمقاطع التي تحصر المجلس في نطاق اللوعة ، وكأنّ الحسين (عليه السلام) ما قتل إلاّ ليؤسس مؤسسات للندب والنوح . وهذا ليس بجزاء لتلك التضحيات الضخمة والعطاء الكبير .
    على أنّ الدمع الذي يسيل عند ذكر مأساة الحسين (عليه السلام) تلقائياً وبدون تعمّل وتكلّف هو ردّ فعل طبيعي لا يحتاج إلاّ إلى إثارة بسيطة ولا ينبغي أن نميل بجهودنا عن جوهر موقف الحسين (عليه السلام) أو السفر الضخم من العظات والعبر الذي كتبته دماء الحسين ونتوجّه بجهدنا إلى حمل إنسان على البكاء وإسالة دمع قد يسيل على شيء تافه . ومن المهم أن ننتبه إلى أنّ الروايات الواردة في فضل البكاء على الحسين (عليه السلام) والتي لسانها لسان إطلاق أنّها مقيّدة بعدّة قيود فينبغي الإلتفات إلى ذلك .
    إنّ ذلك حيث كان الدمع موقفاً أو جزءاً من موقف يلعب دوراً في الإعلان عن ظلامة أهل البيت وشجب مواقف أعدائهم ويعمل على الشحن والتعبئة ضد المنكر والبغي ومن أجل ذلك يستحقّ أن يكون عملاً يستحقّ عليه صاحبه الثواب ويسلك مع المجاهدين كما يحقّق معنى المواساة . وبالجملة ينبغي أن يكون بقدر المطلوب لا غير .
    4 ـ وبالنظر لعدم وجود تخطيط مركزي مهمّته تحديد مسار المنابر الإسلامية عامة والمنبر الحسيني خاصة فقد أسهمت بعض المنابر عن طريق التأثر بردود الفعل في تأجيج أجواء عاطفية تقتضي الحنكة وبعد النظر ورسالة الإسلام والإبتعاد عنها أو مواجهتها بأعصاب باردة تحلّل العوامل الكامنة وراء تلك الأجواء بروح الطبيب المعالج لا بروح طالب الثأر المنفعل . إنّني أعترف أنّ مثل هذه السيطرة على الأعصاب تحتاج إلى كثير من الجهد النفسي وترويض الأعصاب وذلك لقوّة الهجمة الشرسة التي نتعرّض لها في عقائدنا وأحكامنا بل وحتى في أنسابنا وربّما كنت أنا ممّن جمحت أعصابه أحياناً ثمّ أندم على ذلك لأنّ ذلك يحقّق الأهداف لفريق يصطاد بالماء العكر . ولست أقصد أنّ نكمُ أفواهنا عن الدفاع عن أنفسنا كلاّ ولكن أنبّه إلى أن ما يرويه من يهاجمنا في عقائدنا وأحكامنا هو تراث جاء من عهد معاوية ومن رواة كتبوا عنّا بأمر الحكّام وبإغراء الذهب ولهيب الحقد فتبرعم عندنا من ردود الفعل وما هو موضوع لمقابلة المهاجمين .
    إذاً فالفعل وردّة الفعل كلاهما ينبغي أن تسلّط عليهما الأضواء لبيان مصادرهما والداوفع من ورائهما . إنّ مثل الشعبي ، والزهري ، وعروة بن الزبير ، والزبير بن بكار ومن هو في هذا النسيج الذي أملي عليه فكتب عند السنة ، ومثل أبوالخطاب ، وعلي بن أحمد الكوفي ، والمغيرة بن سعيد وأمثالهم عند الشيعة ، كلّ هؤلاء مدعاة لأن نراجع موقعهم من التاريخ الإسلامي وما كتبته أقلامهم في التراث وتتبع ما هو من نسيجهم ويد النساج التي نسجت هؤلاء ونعري أهدافهم الخبيثة حرصاً على تطهير تراثنا وتذويب الجليد المتراكم في درب المسلمين(1) ولا مانع من الكلمة الموضوعية الجريئة التي تسهم في تعديل مسار وتصحيح خطأ شرط أن يكون رائدها الإخلاص وإحقاق الحق .
    وبالجملة طفحت في الأيام الأخيرة ظاهرة التراشق في المنبر المعاصر وأخشى أنّه لو تصاعدت فربما تطغى على مهمة المنبر الأساسية وتسهم في إضافة ركام إلى الركام الكثير في تاريخ المسلمين ومن المنطق والإنصاف أن يوجّه هذا النصح إلى المنابر التي هي قنوات للحكم السائد وأصوات لجهات رسمية . أمّا منابرنا فإنّي واثق أنّها تقوم بردّة فعل لا بفعل ، لا في هذه الأيام فقط بل منذ ولدت مطاردة فكر آل محمّد وأتباعهم وحشدت لها وسائل القوّة وجنّد لها المنصب والمال . ومع ذلك كلّه تبقى للحق والحقيقة دولتهما . وكنّا ولم نزل مدافعين ولكنّي مع ذلك أعرف أنّ المنهج الرصين هو المؤثر .
    5 ـ هناك بالإضافة لما ذكرته ظاهرة ما تزال موجودة في عدد ليس بالقليل من


    ــــــــــــــــــــــــــــ


    (1) يراجع عن هؤلاء : رجال الكشي ، وشرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ، ودراسات في الكافي والصحيح لهاشم معروف .

    المنابر إنّها وجود الأسطورة في مادة المنبر ففي الوقت الذي يكون الخطيب يتناول في منبره بعض المعلومات الحديثة وقد يكون في أفق المعاصرة لكنّه مع ذلك لا يسلم من الأسطورة في حديثه وما أدري هل أنّ ذلك ناتج من عدم الإطلاع على ما تقف عنده قدرات الإنسان حسب الضوابط العلمية والأدلة الشرعية ، أم من سحب غطاء المعجزة لمثل هذه الأحداث التي تذكر ـ وهي ليست كذلك ـ أم من التساهل في التدقيق وهو تساهل لا يغتفر ما دام المنبر في حدود التربية ولا تصحّ التربية في جوّ الأساطير . هذا إذا كانت المادة أسطورة ، وقد تكون المادة سليمة ووفق المقاييس ولكنّها أحياناً أكبر من قابليّات السامعين الذهنيّة وهنا تتبرعم مشكلة أخرى هي نفور السامع من ذلك وقد ينتهي الموقف إلى التكذيب، ويؤثر عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قوله : (بعثنا معاشرالأنبياء لنكلّم الناس على قدر عقولهم).
    وهنا أروي مثلاً واحداً : ذكر لي بالأمس أحد الخطباء أنّه مرّ على خطيب يقرأ وله جمهور لا بأس به من حيث الكمّ فسمعه يذكر : إنّ امرأة كان زوجها ينهاها عن الخروج من المنزل وتوعّدها بالطلاق إن خرجت ، ولكن لمّا صار يوم العاشر من المحرّم لم تستطع البقاء في المنزل لأنّها اعتادت أن تساهم في طبخ الطعام الذي يعدّ للمشتركين في عزاء الحسين ولمّا رجع زوجها لم يجدها في البيت فغضب وعزم على تنفيذ وعيده بطلاقها ولم يلبث إلاّ قليلاً حتى دخلت زوجته فقال لها : ألم أنهك عن الخروج ، أنت طالق . فقالت : على مهلك ، أنا لست زوجتك وإنّما تصوّرت بصورتها وجئت لأطبخ لك طعامك لأنّ زوجتك مشغولة بطبخ طعام ولدي وأنا فاطمة الزهراء .
    ولا أريد التعليق على الحادثة لأنّ مواساة آل محمّد في أحزانهم أو أفراحهم ثوابها عند الله تعالى عظيم ويترتّب عليه أجر ولكن لا بهذه الأساطير التي تترتب عليها مفارقات أقلّها الهزء والسخرية ، فما أغنى أهل البيت فيما لهم من فضائل كثيرة وصحيحة عن أمثال هذه الأساطير . إنّ هؤلاء الذين يقرأون أمثال هذه القصص في أغلب الظنّ لا يؤمنون بها ولكنّهم يستغلّون تقديس الناس لأهل البيت وشدّة ولائهم لهم بالإضافة لما لأهل البيت من مكانة ، وينقلون أمثال هذه الأساطير هذا من جانب ومن جانب آخر يريدون الظهور بمظهر المؤمنين الذائبين في ولاء آل محمّد ثمّ بعد ذلك يسترون نقصهم لأنّهم فارغون من المعرفة الصحيحة . ولكن ذلك غير مبرّر بحال من الأحوال لأنّه على حساب عقيدتنا وعقليتنا .
    6 ـ قلّة الحصص التي هي ملاك المنبر ومن أجلها ولدت المنابر : إنّها الأمور التي تنبثق وترتبط بأهل البيت (عليهم السلام) أشخاصاً ومواقفاً وموقعاً وتحليلاً لعلاقاتهم بالآخرين وعلاقات الآخرين بهم . إنّ هذه القضايا محور المنبر يفترض في المنبر أن يعطيها النصيب الأوفر فأهل البيت في موقع حساس من كونهم امتداد للنبوة ورافد للإمامة وحملة للشريعة يعطيهم البعض مكانة المحدِّث الذي يُلهم المعرفة ، ويعطيهم الآخرون مكانة المتلقين مباشرة من نبع النبوة مع الإستعدادات المميزة وقد تشابكت علاقاتهم وتعقدت مع الآخرين في أمور هي جماع عقائد وأحكام المسلمين وقد تنوّعت حولها وحولهم الآراء وتشعّبت الأهواء وانعكس ذلك على علائق المسلمين بعضهم ببعض وأصبح ذلك كلّه ممّا يفتقر المسلم إليه وإلى وجه الصواب فيه ، ولا جهة هناك أولى من المنبر بتجلية هذه الأجواء وتقديم آل محمّد للمجتمع منار علم وأعلام هداية وقناة تحمل خواص الرسول على أن يتمّ ذلك في أداء متّزن يصدر عن علم ويهدف إلى إصلاح ويكشف عن حقائق .
    وفي المنبر المعاصر على مستوى شريحة منه أخذت تطغى عناوين عامة ذات علاقة بعقائد وأحكام ومراتب خلقية دون أن تربط بهذا النبع بحيث اختفت السيرة الذاتية للعترة التي تحمل في طيّها مضمون هذه العناوين ولم يعد لأهل البيت على ساحة المنبر ظهور إلاّ قليل وفي مناسبات وفياتهم وولادتهم فقط وربّما انشغل المنبر بمن هو في دائرة الضوء من الشخصيات الإسلامية العامة ونحن لا نريد أن يُبخس أبطالُ الإسلام حقوقهم ولكن المنبر الحسيني لإحياء أمر أهل البيت وإحياء أمرهم في نشر مناقبهم وتحليل شخصياتهم وتجلية الحقائق في علاقاتهم بالآخرين وبتعبير آخر تناول بحوث الإمامة بصفتها امتداد للنبوّة وموقف المجتمع المسلم من ذلك وتسليط الأضواء على وسائل التعتيم التي وضعت في الدرب وذلك بروح البحث الموضوعي والنقد البناء ، ثمّ بعد ذلك لا بأس أن تكون في المنبر حصص أخرى لمعارف وعلوم متنوعة . إنّ نواة المنبر الموسوعي من جانب والمتجه لإحياء أمر أهل البيت وهو في الواقع أمر الإسلام ، كلّ ذلك يصفه الإمام الصادق (عليه السلام) يقوله لهشام بن الحكم : (اجلس في المسجد وافتي فإنّي أحبّ أن يكون في أصحابي مثلك) .
    وبالجملة تكاد تضيع في المنبر المعاصر جملة من المكونات الأساسية لفكرة المنبر والتي عنونتها في فصل أهداف المنبر من هذا الكتاب بإطلاق فكر وسير آل محمّد من السجن الذي وضعت فيه ، فحريّ بالمنبر أن لا يغيب عنه هذا الأمر . وقد قال لي يوماً أحد طلبة العلم : إنّك قليل التعرض لسير أئمّتنا وكثير الإستشهاد بسير الآخرين وهو صادق فيما قال إنّ ذلك أمر توجّهت بعد ذلك له وأرجو أن أوفّق لأداء حقّه .
    7 ـ فقدان التلاحم العضوي والإنسجام في مادة المنبر بمعنى عدم وجود ترابط بين أجزاء المحاضرة أو قلّ عدم وجود محور يرجع إليه الخطيب لكونه عنوان البحث حتى ولو ذهب الخطيب يميناً وشمالاً واستطرد كثيراً لكن ينبغي أن يعود لعنوان البحث ليكون الموضوع وحدة متكاملة ومفردات يجمعها قاسم مشترك لأنّ ذلك يحقّق جوانب هامة أولها :
    آ ـ استيعاب مفاد عنوان البحث بحيث يلمّ بأغلب أطرافه إن لم يكن كلّها وبذلك تحصل الإفادة المرجوة والصورة المكتملة للموضوع .
    ب ـ توفير الفائدة للسامع وعدم تشويش ذهنه وبالتالي ضياع جهده وغايته من الحضور ، بعكس ما لو كان الموضوع يرتكز على محور ثمّ تكون الإستطرادات والشواهد تثبيتاً للمحور وإشباعاً له وأملاءاً لثغرات محتملة فيه ، وإذا لم تربط ربطاً وثيقاً به تضيع ويضيع معها الأصل .
    جـ ـ وجود التلاحم والعضوية بين أجزاء الموضوع هو المنهج العلمي الذي نريد للمنبر أن يكون فيه حتى يسلك مع زميلاته من البحوث في مختلف أبعاد الفكر . وقد يقول قائل : إنّ ذلك غير ممكن لأنّ عنوان البحث قد يكون آية شريفة من كتاب الله أو حديث شريف عن المعصومين وكلّ منهما متنوّع الأبعاد والأجزاء فقد تجمع الآية ويجمع الحديث أو النص الأدبي أكثر من مضمون فكيف نوفّر وحدة الموضوع . وتعرف الإجابة ممّا أسلفته في الفقرة الأولى فإنّ المضامين مهما تنوّعت في النص الواحد يجمعها خيط قد يكون أحياناً دقيقاً ولكنّه موجود فقد يكون جوّ الآية العام أو جوّ الحديث جنائياً أو اقتصادياً أو خلقياً ومع كلّ الاستطرادات يرجع إليه وبالجملة إنّ أهل الفن يعرفون ذلك ، ولكن المشاهد الآن أن يقرأ النص الذي هو عنوان المحاضرة ثمّ يذهب الخطيب شرقاً وشمالاً في مواد لا صلة لها بالعنوان ولا يجمعها معه أي رابط بل بوسعك أن تقول أنّها كثوب فيه مائة رقعة لكلّ رقعة لون خاص .
    هذا من ناحية التنوع الشكلي أمّا من ناحية التنوع المضموني فحدّث ولاحرج ، فالمفردات لا تناسب بينها من حيث الركة والمتانة ومن حيث السنخية . إنّ هذه الظاهرة لا ينبغي أن تكون موجودة في عصر المنهجية خصوصاً بعد أن قطع المنبر هذه المراحل الطويلة في ميدان العمل وصارت له خبرة ومهارة متوارثة . لكن العلّة هو ما سبق أن أشرت إليه في عدم التلمذة على أستاذ مشهور له خبرة وقطع المراحل التي ينبغي أن يقطعها الخطيب حتى لا يقفز على المنهجية والأصول المطلوبة .
    8 ـ وأخيراً وليس آخراً بوادر ضياع (طبخة) المنبر وذلك أنّ المنبر المتوقع في تطلّع الواعين له صفات ينبغي أن تتوفّر فيه فهو ليس علم ومعرفة بدون فن وليس فنّاً بدون علم ومعرفة وليس علماً ومعرفة وفنّاً بدون مكمّلات كما أنّه ليس مكمّلات فقط بدون ما ذكرناه . إذاً يشتمل محتوى المنبر على الحكم الشرعي سليماً في مصدره ومضمونه وعلى العقيدة صحيحة في منبعها سليمة من الخلط والبدع وعلى الفقرة التاريخية هادفة ممتعة تحمل مضموناً نافعاً والمفردة اللغوية منتقاة معبرة عن المضمون وعلى الجذبة الروحية يتصيّدها الخطيب ليكهرب بها نفوساً تجمّدت بالبعد عن خفقات الروح والنكتة اللاذعة تستهدف باطلاً يتشامخ ويزهو وهكذا وهكذا مجموعة من المواد تؤدي بديباجة محببة للنفوس يجمعها بعد ذلك منفذ يشدّها موقف من مواقف الفداء والعطاء على ساحة كربلاء تلك خلاصة المزيج الذي يكون المجلس الحسيني الذي نرجو له أن يكون روضة تبهج النفوس وزاداً يغذي العقول ورافداً يمدّ العقائد . وأرجو أن لا تحسبني راكباً على زورق من خيال فكلّ ذلك في ميسور الفرد الذي ينبغي أن يعطي الجماهير الزاحفة لمجلسه والتي قد تجلس على التراب تجتذبها أشعة الحسين وتجلس على مائدته رجاء أن تجد زاداً شهياً .
    وإذا كانت هذه مكونات الطبخة وهي فيما أظنّ أمر واضح فكيف يخفى ذلك على منابر معاصرة اجتزأت من الطبخة بعنصر أو عنصرين وانصبّت عليهما توسعهما شرحاً وتحليلاً كأنّها تحاضر في صف مدرسي يجمع طلاباً على مستوى واحد أنّها بذلك تخسر جمهورها المنوّع الذي يبتدأ في معارفه من الصفر حتى الدرجات العالية وفي الوقت نفسه تجور على هيكل المحاضرة ومتطلّبات الذوق . إنّ هناك محاضرة لها خواص ومميزات ومجلساً له خواص ومميزات فلا ينبغي أن نخلط بين الإثنين كما لا ينبغي أن نقطع بعض أعضاء المجلس بدعوى أنّ العصر استغنى عنها . لقد جائتني وأنا في بغداد كمية من الرسائل تطلب منّي أن ألغي الفقرة الأخيرة بالمجلس ـ الگريز ـ كما فاوضتني بعض الإذاعات أن أرفع هذه الفقرة حتى تذيع مجالسي ، فامتنعت وقلت لهم :
    إنّ ذلك جذوة تفتقر لها العقيدة لتبقى حارّة ولوعة تعبير من مواساة في المصيبة ومن الدموع ما هو مسطور تحمل المعاني كما أنّ الدمع في الوقت ذاته رمز لتراث مقدس درجنا عليه والتمسنا فيه غطاءاً يجمعنا مع آل البيت في لوعتهم على أنّنا ندعو إلى أنّه يجب أن يقدر بقدره ولا يطغى على الأهم كما أسلفت في بحث سابق ولكن لو قطعنا هذا الجزء من المجلس فلا يُسمى مجلساً للتعزية بل قد يسمى محاضرة وقد يفقد قيمته في نظر كثير ممّن جاء للمجلس ليسمع تعزية بالإضافة إلى أنّه ناتج قهري لمن ينفعل بسماع بعض ما حصل من المآسي في واقعة الطف .

    الخلاصة


    هذا أهمّ ما تنبّهت له في تحرّك المنبر المعاصر الذي أسأل الله تعالى أن يسدد خطاه في رسالته الهامة . وقد تكون هناك أمور أخرى غير أساسية ويتّضح لنا من كلّ ذلك أنّ المنبر مثله مثل كلّ عملية تربوية تستهدف تربية الإنسان فيها إيجابيات وفيها ثغرات يمكن التغلب عليها إذا صحّ العزم وصدقت النية وبذل الجهد . ولا ينبغي الإستهانة بذلك . إنّنا نعلم أنّ مساحة المنبر بدأت تتسع لتشمل كلّ أنحاء العالم الذي يوجد فيه مسلمون وبالذات المسلمون الشيعة وقد تنوّعت مواقعهم وثقافاتهم في حين توحّدت والتقت إراداتهم على ذكرى الحسين (عليه السلام) وإحياء مواسمه وسبيلهم الأول لذلك المنبر الذي أجملنا أبرز مواصفاته التي تكون من أسباب نجاحه في أداء رسالته . وقد يكون هناك أمكنة لا يصلها خطيب ولا توجد فيها مؤسسات لمثل هذه الفعاليات يتعيّن تغطية حاجاتها العقيدية عن طريق القنوات الفضائية . وقد دار معي ومع بعض إخوتنا في الخليج وفي أوربا وأنحاء أخرى من العالم أكثر من حديث حول ذلك . والمسألة لا تتطلّب أكثر من بذل المال لاستئجار قناة في المواسم واختيار المادة التي تتناسب والمستوى الذي وصلت إليه الدنيا وعندنا ولله الحمد من تراث الإسلام ونبع آل محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم) ما هو جدير بكلّ إحترام ولا يحتاج إلى أكثر من تجليته وتقديمه غذاءً سائغاً . وآمل أن يكون هذا المعنى من هموم إخواني الخطباء وممّا تتّجه إليه جهودهم كلّ حسب استطاعته .
    ولا أعتقد أنّ هناك عملاً أفضل من تقديم طعام فكري للذهنية المسلمة يقومها ويسدّدها ويعينها على امتثال أمر الله تعالى به ونحن مدّعون إلى القيام بذلك والله من وراء القصد ( وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله ) على أنّي رأيت عند بعض إخواني كراهة لمثل مشروع قناة فضائية لأنّها قد توفّر للسامعين ما يستغنون به عن المجالس ولكن هذا التصور غير سليم ، فإنّ الهيكل التقليدي للمجلس متجذّر في نفوس أصحاب المجالس بالإضافة إلى أسباب أخرى تجعل المجلس بهيكله المعروف لا يستغنى عنه ومنها السماع لذات الخطيب بصورة مباشرة وإلاّ لاستغنى الناس بالكاسيت .
    وأعود مرّة ثانية للقول بأنّ هذه العوامل التي ذكرتها في تقييم المنابر المعاصر هي ما انقدح في الذهن على عجل لأنّه قد يكون أمر آخر وأمر آخر ولكنّي لم ألتفت لها .[/align]
    يا محوّل الحول والاحوال ، حوّل حالنا إلى أحسن الحال......








  12. #27
    تاريخ التسجيل
    Jul 2004
    الدولة
    هناك
    المشاركات
    28,205

    افتراضي

    [align=center]






    المصيبة في المجلس الحسيني





    منذ بدأت المآتم تعقد بعد واقعة الطف اقتصرت مبدئياً على ذكر ما حدث في الواقعة من أمور مأساوية من قتل الرجال وذبح الأطفال وسبي النساء وحرق الخيام وما له صلة بكلّ ذلك . وكانت هذه البدايات تحقق أمرين : الأمر الأول تفريغ زخم اللوعة والألم الذي كان بنفوس أهل البيت وشيعتهم بسبب هذه المجزرة شأن كلّ ثاكل يفقد عزيزاً وخصوصاً في ظروف كتلك الظروف وحالات مثل تلك الحالات التي تعرض لها قتلى الطفوف .
    والأمر الثاني تولّد بعد ذلك وهو أنّ المأتم لمّا خرج عن نطاقه الضيّق وتعدد حضاره أخذ المأتم دور نشر الظلامة وشحن النفوس بالنقمة على قاتلي الحسين (عليه السلام) وأهله وهنا تحوّل إلى دور رسالي يقوم بوظائف تلقائية ناتجة من مجرد سماع المأساة وشرح أبعادها ، وهنا بدأ الأمويون يحسّون بخطره وبدأت ملاحقته كما هو معروف ، ولا حاجة لذكره ، ولذا أصرّ أهل البيت (عليهم السلام) على مثل هذه المجالس وعقدها في الحدود المستطاعة وعبّروا عنها بما يومىء إلى أنّها صارت وسيلة من وسائل نشر ظلامة أهل البيت وبيان انحراف أعدائهم عن جادّة الإنسانيّة وجادة الإسلام ، ولهذا الأمر انعكاسه في مجالين : المجال الأول صنع الفرد الرسالي الذي يحمل هدفاً يريد إبرازه وهو نصر أهل البيت ومقارعة أعدائهم والمجال الثاني هدم صروح الظلم بالوسيلة الميسرة .
    إنّ ما ورد عن أهل البيت (عليهم السلام) في الحثّ على إقامة أمثال هذه المآتم وإن اقتصر عدد الحاضرين فيها على أفراد ينمّ عن كونها تؤدي دوراً رسالياً لا مجرّد تفريغ عاطفي ، يقول صاحب كامل الزيارات بسنده عن الإمام الرضا في مقتطفة منها أنّه قال : (من جلس مجلساً يحي فيه أمرنا لم يمت قلبه يوم تموت القلوب) ، كما ورد عن الإمام الباقر (عليه السلام) (رحم الله عبداً اجتمع مع آخر فتذاكر في أمرنا فإنّ ثالثهما ملك يستغفر لهما فإذا اجتمعتم فاشتغلتم بالذكر فإنّ في اجتماعكم ومذاكرتكم إحياء أمرنا وخير الناس بعدنا من ذكّر بأمرنا)(1) .
    لقد بقيت مسألة توظيف المصيبة لأداء هذا الدور سمة ملازمة للمنبر يوم لم يكن من مجال هناك لشرح أبعاد الظلامة مفصلاً وبشيء من الحرية وقد يفعل الدمع ما لا يفعله الكلام . ومن هنا لابدّ من توجيه الروايات التي تبشّر الباكي على الحسين (عليه السلام) ولو كان ما يذرفه من الدمع جناح البعوضة تبشّر بأجر كبير جدّاً وتوجيه هذه الروايات هو أنّ الدمع وسيلة معبّرة عن الظلامة وإدانة الأمويين وإلاّ ليس من المعقول أنّ مجرد التباكي فضلاً عن البكاء يترتّب عليه ذلك الجزاء الذي نصت عليه الروايات الكثيرة هذا إذا سلم السند من المناقشة واقتصر الأمر على مناقشة مضمون تلك الروايات بما لها من إطلاق وهذه الروايات مثل روايات ما يترتب على سقي الماء للعطشان فإنّ مقتضى الحال يحتم أن تكون هناك ظروف عسيرة في تلك الحالة بحيث توجب أنّ من سقى عاطشاً كان كمن أعتق رقبة فلا يمكن حملها على الإطلاق ولابدّ من تقييدها بقيد تقتضيه مناسبة الحال ، فإنّ ثمن شربة الماء في مكان غني بالمياه لا تساوي شيئاً وعتق الرقبة ثمنه غال .
    وأعود لموضوع المصيبة بعد هذا الإستطراد فأقول : إنّ الدمع كان يؤدي رسالة ومن أجل ذلك حرص أهل البيت على التأكيد عليه ولكن هل المصيبة ما يزال لها دور في أيامنا هذه ؟ إنّ مفعول الروايات التي تحثّ على البكاء والتباكي ماش بقوّة الإستمرار وما ينتظره فريق كبير من المؤمنين من الحصول على الأجر والثواب ما زال عاملاً مهمّاً يحتم بقاء المصيبة في آخر المجلس عدى أمر آخر هو أنّنا لا نريد أن تُطفأ هذه الجذوة التي تعبّر عن الولاء لآل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) واللوعة لمصابهم ممّا يكشف عن الإنشداد لهم ومواساتهم في أتراحهم وأفراحهم وإن لم يعد ذلك يؤدي نفس الدور الذي كان وراء الحثّ عليها بل ربّما عاد كثير من روّاد المجالس لا يهضمون ذلك وأنا أرى كثيراً ممّن يحضر المجالس إذا


    ــــــــــــــــــــــــــــ


    (1) يراجع : عيون أخبار الرضا ، وكامل الزيارات لابن قولويه .

    وصلت إلى حدّ المصيبة يخرج من المجلس وأعرفهم من الطبقات الواعية والموزونة والتي لا غبار على ولائها لأهل البيت ولكنّها لا ترى لمثل هذه الظاهرة أيّ موجب . يضاف لذلك أنّ الخطيب يتعرّض إلى حرج نفسي إذ بينما هو في أفق عال يشرح نظرية علمية أو نقداً تاريخياً أو مسألة علمية في نطاق أبعاد الفكر الأخرى إذا به يهبط فجأة ليقرأ أبياتاً باللغة الدارجة ويلوي فمه ويقوم بحركات لا تناسب تلك الأجواء الوقورة التي كان فيها خصوصاً مع هبوط مضامين تلك الأبيات ، لأنّ غالب من ينظم باللغة الدارجة قد لا يكون على مستوى ثقافي مرتفع يحسن انتقاء الفكرة الجيدة والمضمون العالي .
    وعلى العموم هناك مطالب ملحّة بترك هذا المقطع من القراءة لأنّه كما يقولون يمنع كثيراً من أبنائنا ومن غيرهم عن الحضور لأنّهم يرون فيه ممارسة هابطة ويعتبرونه مسألة تمسخ جلال الذكرى وتذيب عنفوان الموقف وتترك أثراً نفسياً على الباكي لا يتناسب وما نريده له من صلابة . هذا ملخّص ما يأخذه من لا يرد ذكر المصيبة وهم عدد ليس بالقليل ، وقد جاءتني منهم رسائل كثيرة أيام قراءتي في بغداد وخصوصاً في منطقة جامع الخلاني ، والذي أرتأيه أن نمسك العصى من وسطها فنقف بين المصرّين عليها وعلى توسعتها وبين المطالبين بحذفها والإستغناء عنها فنجري الأمر على العادة ولكن بحجم صغير ، ونركز على الشعر القريض والمنتقى الذي يتميّز بأداء حار ومستوى مرتفع ، فإنّ بالشعر القريض وبالشعر العامي ما هو جيّد وما هو دون المستوى فلابدّ من الإنتقاء وأنا ملزم هنا من أجل إيضاح الصورة وتقريبها للذهن أو أورد بعض النماذج للتمثيل ، فلقد سمعت قصيدة باللغة الدارجة لبعضهم يخاطب بها الحسين (عليه السلام) ويشكو له ما لقيت أخواته من جيش يزيد يقول ببعضها :


    لو تشوف شلون سوّوا بيكم أهل الكوفه***شبعوا أخواتك مذلّة وروسهن مجشوفه


    ونهبوا العزّ والذخيره واصبحت متلوفه***وانته مالك ما تردّ العتب لختك يا نفل

    ويمشي على منوال هذا المستوى الهابط في الأداء والمضمون ممّا يؤذي الذوق والمشاعر وهو نموذج من كثير دارج في ساحة الرثاء لا يكاد يرتفع عن هذا المستوى ودعني أذكر لك أبيات لشاعر آخر يتناول بعض هذه الجوانب التي ذكرتها ولكنّه يختلف في الديباجة وتصوير المضمون فاسمعه يقول :


    لو أنّ للدهر لفتات وأفكار***چان استحى من اللي جره وصار


    ولا غدر بالطيبين الأبرار***أهل المجد والروس الكبار


    وبيوت مجّدها الجبّار وكرمها دوم النبي المختار***إلبيها معادن طيب واطهار


    يمرّ ليلهم سجدات واذكار وعلى كلّ مجد يكضي النهار***تهجم عليه طالبه الثار


    أراذل منها يستحي العار وبيت النبي يشعلوه بالنار***وما عافوا حتى الزغار


    ويمضي على هذا النمط المرتفع والمؤثر والذي يحرّك كلّ إنسان بغضّ النظر عن انتمائه ويصوّر المأساة ولا يلقي اللوم كالأول على من لم يرتكب ذنباً حيث أعطى حكماً عاماً على الكوفة مع أنّ الكوفة ليست كلّها ممّن قاتل الحسين ولا ممّن شارك بما تبع ذلك بعد المعركة كما أنّ معظم أصحاب الحسين (عليه السلام) منها وكذلك منها انبثقت حركات تطلب الثأر وهكذا .
    وأذكر النموذج الثاني وهو من الشعر القريض فالطرف الأول للمعادلة بيتان من قصيدة لبعضهم يستعرض فيها ما لقيته عائلة الحسين (عليه السلام) من ضرب السياط فيقول :


    فلو رأيتهموا والسوط يوجعهم***فيصرخون به من شدّة الألم


    كأنّهم ديلم أو ترك قد سحبوا***وليس ويلاه فيهم غير مهتضم


    ولا أريد التعليق على هذه الصورة التي رسمها هذا الشاعر وأترك للقارىء تقييمها

    وأذكر الطرف الثاني من المعادلة وهي أبيات لشاعر قديم هو الحسين بن الضحاك (رحمه الله) الذي يقول :


    وممّا شجى قلبي وأسبل عبرتي***محارم من آل النبي استحلّت


    ومهتوكة بالطف عنها سجوفها***كعاب كقرن الشمس لمّا تبدّت


    إذا حفزتها روعة من منازع***لها المرط عاذت بالخضوع ورنّت


    أرد يداً مني إذا ما ذكرتها***على كبد حرّى وقلب مفتّت


    وهذه أبيات لشاعر معاصر هو أستاذنا الحجة الشيخ عبدالمهدي مطر تغمّده الله برحمته :


    ولكن نشدتك لو تستطيع***لتسمع ما يذكر الناشد


    غداة العقائل قد هوجمت***فما تصنع الثاكل الفاقد


    يرقّ لها السوط إذ يلتوي***عليها ويقسو لها الجالد


    وهذان النموذجان في غنى عن التعليق من حيث الديباجة والمضمون وحرارة الأداء والجو المرتفع مع التفجع . وأكرر عوداً على بدء فأقول : لابدّ من حسن الإنتقاء لنصون كرامة أهل البيت ونحافظ على مستوى رفيع من الأداء يتناسب وجلال الذكرى .
    وبعد ذلك لابدّ من أخذ الإعتبارات الأخرى مأخذ الجدّ بحيث نبتعد عن الإطالة ونقتصر على ما يؤدي المطلوب لنبرهن على أنّ وقعة الطف مدرسة مليئة بالعبر والمواقف الكبيرة وإنّنا نستهدف أن نأخذ منها زاداً كريماً لأجيالنا ودروساً من الفداء والشهادة في سبيل الله والإرتفاع فوق مستوى الرغبات الموقتة وما هو من هذا القبيل ممّا جسّده الحسين (عليه السلام) بموقفه يوم الطف وبذلك نرضي الحقيقة ونرضي تطلّعات الحسين التي استهدفها من وراء إراقة ذلك الدم الطاهر وما تبعه من تضحيات تظلّ أكبر من اعتصار العيون لسكب الدمع .
    ولا يفوتني هنا أمران وأنا بصدد معالجة هذه القضية : الأمر الأول هو أنّ بعض

    الأماكن وبعض الأوقات قد لا تحتاج إلى ذكر المصيبة أبداً ومعرفة هذه الأماكن والأوقات متروكة لنباهة الخطيب وتقديره الشخصي لذلك فإنّ الشرع علّمنا أنّ العناوين الثانوية قد تتحكّم ببعض العناوين الأولية فتقلّب نوع الحكم إلى مقابلة وأمثلة ذلك كثيرة مثبوتة في كتب الفقه فكيف إذا كان الأمر لا يتعلّق بحكم شرعي وإنّما بتقليد من تقاليد الطائفة فإذا تعرّضت الطائفة بسبب ذلك إلى سخرية وتعرّض مقام أهل البيت لنفس السبب فلابدّ من الإبتعاد تحاشياً من الوقوع بهذه المحذورات مع أنّها على أحسن الفروض من المندوبات ومع وجود بدائل تقوم مقامها وتؤدي نفس الهدف .
    والأمر الثاني هو أنّني أدعو المثقفين من المسلمين عامة ومن الشيعة خاصة أن يتصدّوا إلى النظم في المواضيع المرتبطة بواقعة كربلا فإنّ ذلك يحقّق دوراً رسالياً وينقذ الساحة من الإنتاج الرخيص . إنّي أعلم أنّ كثيراً من مثقّفينا قد يستنكف من ولوج هذا الميدان ولكنّه قد يلج ميادين أخرى هي في الواقع ليست بتلك الأهمية وأن تسالم العرف الأدبي على ممارستها من قبل الشعراء . إنّ الشعر الجيد والفكرة العالية هي جواز مرور الشاعر إلى المكانة وهي سواء في كلّ من الشعر الدارج والقريض . وكلّنا نعرف شعراء مصريين وسوريين ولبنانيين من حملة الشهادات العالية وقد أبدعوا في الفنون التي مارسوا فيها نظم الشعر باللغة الدارجة . فلماذا لا يكون عندنا شعراء لملأ هذا الفراغ . إنّ واقعة الطف وإحياء مواسمها أصبحت تقليداً راسخاً سيبقى ما بقي الحسين مثلاً عالياً في الشهادة والفداء فينبغي أن نواكب هذا البقاء بآليات مشرقة تتناسب والحسين (عليه السلام) .
    وأختم هذا الفصل بموقفي من هذا الموضوع ، لقد درجت في بداية قراءتي في المجالس على الأسلوب السائر والنمط الدارج في ذكر المصيبة بغثّها وسمينها بل ربّما أكدت بعض القضايا في ذلك وهي ممّا إذا ذكرته الآن أشعر بعدم الرضا منه وسبب ذلك أولاً غلبة التيار السائد وعدم وجود النقد في هذا المضمار لأنّ النقد يتأتى من الناقد نفسه ويستنكره عليه الوسط المندمج في عالم المجالس . وليست مسألة النقد موجودة عندنا ولو وجدت لأسهمت كثيراً في تنظيف الساحة من الشوائب والطفيليات ولكنّها مع الأسف معدومة لأسباب كثيرة .
    وثانياً لأنّ مستوى وعيي كان محدوداً ومساحة ممارستي للمنبر كانت ضيقة وحتى لو اتسعت فإنّ الوقت آنذاك كان المستوى فيه ليس بالمطلوب . وحينما أخذت أتدرج بالوعيى وأتفاعل مع أجواء أوسع نسبياً بدأت ألمس المفارقات وأتعرف عليها كما عرفت الوجه الآخر لكثير من الناس الذين لا يظهرون معارضة علنية لذلك ولكنّهم ينقدونها بشدّة إذا كانوا في وسط يهضم ذلك . وحين وصلت إلى هذا الحدّ وقفت أمامي عقبة الطفرة فليس من الممكن تقليص موضوع المصيبة بطفرة بل وحتى بالتدريج فضلاً عن الطفرة . ولنأخذ مثلاً لذلك موضوع عرس القاسم بن الحسن (عليه السلام) فإنّه فضلاً عن كونه لا أساس له فإنّه لا موضوع له لأنّ القاسم آنذاك لم يبلغ بل هو صبي ، ولأنّ الزوجة التي تذكر له كانت متزوجة ، ولأنّ الأجواء يوم العاشر ليست أجواء عرس ولأنّ ولأنّ الخ . ولكن مع ذلك كلّه ما زالت هذه المسألة حيّة تقام لها طقوس خاصة في الثامن من المحرم ويؤكد عليها كثير من القراء لأسباب كثيرة ، وكلّما أكّدنا على ضرورة الإبتعاد عن مثل هذا ازداد بفعل عوامل متعددة .
    إذاً فالمسألة في تقليص المصيبة في المجلس الحسيني كمّاً وكيفاً لا يمكن معالجتها بطفرة كما أنّنا لا نريد إلغاءها كما أسلفت وإنّما نريد تهذيبها . فشرعت أجسد نسبياً ذلك الأمر حيث أقلّل من طول المدة بذلك كما أختار للمصيبة والمصاب ما لا يهبط بهما . وتعرّضت من أجل ذلك إلى كثير من الحثّ ومن الطلبات بتطويل المدة وتكثيف الكمية حتى من جماعة من المثقفين الذين درسوا في أوربا . وأعتقد أنّ لذلك علاقة بالواقع الإجتماعي لهذه الطائفة وما تتعرض له من ضغوط ممّا يدفع على طلب التنفيس الذي هو الحزن والبكاء وحيث أنّ البعض قد يرى أنّ من الضعف والركة أن يبكي فينتقل إلى غطاء البكاء على الحسين ، ففيه بالإضافة للتنفيس وعد بالثواب والجزاء الكريم . وعلى كلّ حال فإنّ كلاً من الزمن ومستوى الذهنية العامة والعوامل الإجتماعية الأخرى هي التي ستعطي الفصل في ذلك نسأل الله أن يجعل مقاصدنا سليمة واتّجاهنا لخدمة مقام آل محمّد .[/align]
    يا محوّل الحول والاحوال ، حوّل حالنا إلى أحسن الحال......








  13. #28
    تاريخ التسجيل
    Jul 2004
    الدولة
    هناك
    المشاركات
    28,205

    افتراضي

    [align=center]



    نداء لإخواني وأبنائي من أهل المنبر





    بادىء ذي بدء أرجو لكم أن تكونوا في ظلّ أبي الشهداء وفي ساحته الكريمة العزيزة كما أهنّئكم بهذا الإنتماء الذي لا أشكّ في كونه شرفاً في الدنيا وأجراً وثواباً عند الله تعالى وعملاً يسلكنا في ظلّ الله تعالى يوم لا ظلّ إلاّ ظلّه لأنّنا نعمل في خدمة بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه ونتلو ونستلّهم سير أهل بيت أذهب الله عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً . ثمّ أذكّركم بأنّ المنبر أكرمنا وأعزّنا فينبغي أن نكرمه ونعزّه ، إنّ آليات إكرام المنبر تتمّ معرفتها من الأمور التالية والتي لا أعتقد أنّها غائبة عن أذهانكم ولكنّي مجرّد مذكّر :
    1 ـ لم يعد المنبر عملاً خاصّاً يمارسه الفرد من منطلقاته الخاصة ووفق مبادراته وتوجّهاته وإنّما صار المنبر مؤسسة لها ضوابطها وأركانها وأخلاقياتها وكلّ خطيب هو عضو بها وتلزمه هذه العضوية بكلّ ما يحقّق الإنتماء السليم والإتّصاف بضوابطها وخواصّها وكلّ تقصير في هذا الجانب يحرمه من شرف هذه العضوية فهو هنا شخص يحمل طابع المؤسسة وليس فرداً يتصرّف ضمن مزاجه الخاص . وإذا لم يكن لهذه المؤسسة أداة تنفيذية لإبعاده عن هذه العضوية إذا أخلّ بشروطها فإنّ الذي يبعده عامل غيبي لمسناه ورايناه غيوراً على ساحة آل محمّد من أن يدخلها من لا يستحقّ أن ينتمي لهذا الميدان .
    2 ـ إنطلاقاً من قاعدة الغنم بالغرم ونحن نعلم أنّ ما نغنمه من المنبر من أجر مادي ومعنوي في عشرة أيام قد لا يحصل عليه أستاذ جامعي يحمل أعلى شهادة جامعية خلال سنة من تدريسه وجهده الفكري أفلا يحملنا ذلك على مضاعفة جهدنا لتحصيل قدر أكبر من العلم والمعرفة والمهارة نقابل به ما حصلنا عليه من مكانة وأموال ، إنّ الزمان صار يركض في دروب المعرفة فينبغي أن نلحق بغباره إن لم نلحق به لاسيّما والدنيا أصبحت غنية بوسائل العلم والمعرفة والحصول عليها سهل يسير .


    إنّ المستوى الإجتماعي السائد إذا كان يقبلنا بشكل من الأشكال وإن لم نكن مقبولين في المقاييس الثقافية فلا ينبغي أن يحملنا ذلك على الركون إلى الدعة بل ينبغي أن يظلّ رائدنا تقديم ثمرات الجهد المتجدد والمناسب في حجمه لما حصلنا عليه من المنبر وفي مضمونه لما نأمل أن يصعد بالمنبر إلى مستوى الطموح . لعلّ الكثير بل والأغلب منّا ولج ميدان الخطابة في زمن لم يكن يخطر فيه على البال أن يتطلّع إلى منافذ يدخل فيها الآفاق الثقافية عند الأمم الأخرى بوسائل من أهمّها معرفة لغات الأمم . واللغة هي المنفذ المباشر للدخول إلى حضارات الأمم الأخرى وفي ذلك مكسب أيّ مكسب من الإفادة من العطاء الفكري عندهم والحكمة ضالّة المؤمن يأخذها أين وجدها كما أنّ اللغة يمكن أن نتّخذ منها أداة لإيصال فكرنا وحضارتنا للآخرين وبذلك قد نصحّح لهم أفكاراً خاطئة أخذوها عنّا من كتابات خصومنا أو ربّما يكونوا قد فهموها بشكل مغلوط عن طريق الترجمة الغير سليمة فكم وكم قد أخذت عنّا صور مغلوطة عن طريق النقل عنّا وتعمّد الإساءة لنا ممّا هو كثير ومعروف .
    إنّ الله وحده يعلم كم أشعر بالنقص وكم أتضاءل إذا جلست بجانب من يحسنون اللغات الأجنبية التي تضع أيديهم على كنوز المعرفة وتدمجهم اجتماعياً بشعوب أخرى ، ولأن جئنا في زمن لم يتيسّر فيه لنا من وسائل المعرفة ما هو ميسّر الآن لطلاّب المعرفة فلا ينبغي أن تفوت ناشئة المنبر هذه الفرص الثمينة والكنوز المعرفية الميسرة التي تضعهم في مستويات عالمية من الإتصال المعرفي وترفع من قدرهم في مجالات التقييم وتنعكس عليهم مادياً ومعنوياً هذا بالإضافة إلى التوفر على معرفة ما جدّ من كنوز فكرية أصبحت في متناول اليد وأصبح المنبر مهيّأً لقبولها بل ويرى فيها منهاجاً لابدّ أن يحدث ليطعّم مضمون المنبر باللائق والمناسب .
    3 ـ إنّنا مدعوون إلى حمل الآخرين على تغيير وجهة نظرهم عنّا وحملهم على تغيير نمط المعاملة لنا وذلك بأن يكون كلّ واحد منّا طالب علم زائداً صفة الخطيب فإنّ لذلك مردوداً كبيراً على نفسية الخطيب أولاً وعلى النظر إليه ثانياً وآليات ذلك الجهد والمثابرة والإتّصاف بالخلق القرآني ـ الذي رسمه أهل البيت لشيعتهم عندما أرادوهم أن يكونوا زيناً لهم لا شيناً عليهم .
    4 ـ وأخيراً لابدّ من لفت نظر من يدخل إلى هذه المؤسسة إلى أنّ الدرب طويل والجهد شاقّ والفرص غير مضمونة فعليه أن يتدرّع بالصبر ولا يتصور أنّه يختصر المسافات فإنّ الزمن دخيل في النضوج والأصالة . إنّ الغذاء الجاهز الذي يقدّم للكائن الحي قد يوفّر عليه الجهد وقد يجعله سميناً ولكنّه يفقده طعمه ونكهته كما يسلبه الشعور بلذّة المعاناة بعكس ما لو قدر له أن يتغذّى طبيعياً فإنّه سيكون له طعمه الخاص ونكهته المميزة وإن طال عليه في ذلك الزمن أنّ استيعاب أكبر قدر من المعلومات في وقت ليس بالطويل قد يكون ممكناً ولكن استيعاب المهارة وخواص الفن التي ينبغي أن يتمّ تصريف المعلومات وفقاً لها لا تحصل بزمن قصير فإنّ هناك أخطاء فنية قد لا ينتبه لها الخطيب إلاّ بعد عشرات السنين ، ودرب التعلّم والإستفادة من التجارب سيظلّ مفتوحاً مهما تقدّم الإنسان في مسيرته يؤيّد ذلك السلسلة المتتالية من تاريخ خطبائنا والذين إذا أردنا أن نعدّ اللامعين منهم فسنعد بضعة أشخاص لا غير وهؤلاء الأشخاص هم الذين بذلوا الجهد ونضجوا نضوجاً طبيعياً لم يتعمّدوا فيه الإستعجال على حساب الأصالة ولا الهملجة على حساب المسير المتّزن فرحمهم الله وشكّر سعيهم .
    وفي الختام يا أيها البراعم الواعدة كما أرجو يا من استهواهم درب المنبر لسبب أو آخر لا تجعلوا هدفكم المال قبل خدمة مبادئكم ولا البريق قبل النضوج والإجادة ولا إرضاء الجماهير ولو نزلتم ولكن للصعود بهم ولو أتعبكم ذلك وثقوا أنّكم بعين الله عزّوجلّ وعلى مرمي الأبصار من آل محمّد يرون عملكم ويمنحونكم بركاتهم إن كان ذلك من أهدافكم . والله أسأل أن يتولانا جميعاً برحمته ويمدّنا من عطائه الكريم وفضله العميم بما يوصلنا لأن نكون من خدم آل محمّد إنّه سميع مجيب والحمد لله ربّ العالمين .[/align]
    يا محوّل الحول والاحوال ، حوّل حالنا إلى أحسن الحال......








  14. #29
    تاريخ التسجيل
    Jul 2004
    الدولة
    هناك
    المشاركات
    28,205

    افتراضي

    [align=center]



    ناعي الطف





    ما يعرف بمجالس التعزية يتكوّن حضّاره غالباً من شريحتين رئيسيتين هما :
    1 ـ الشريحة الأولى وهي تؤلف الكمّ الأكبر هي الشريحة الشعبية بما لها من خواص وهي تحتاج إلى مادة مبسطة وخطاب بلغة مفهومة وغير معمقة سواء كانت من الفصحى المألوفة التي درجوا على سماعها وألفوها أو اللغة الدارجة وهذه هي التي تتناغم معهم ويتلقون عن طريقها ما عند الخطيب من مواد أدبية أو تاريخية أو علمية وهكذا ، أمّا المصيبة التي يختم بها الموضوع عادة والتي تشكل العمود الأساس لمجلس التعزية فتكون عادةً باللغة الدارجة التي هي قالب الرثاء الشعبي والتي لها شعراؤها كما للفصحى شعراؤها .
    ومنذ نشأتي كنت أستمع شعر هؤلاء الشعراء يقرأ في المجالس وفي طليعتهم الشيخ محمّد نصار صاحب النصارية وهي الملحمة التي تستوعب واقعة الطف من مقدماتها وبداياتها حتى آخر فصولها ، ومنهم عبدالأمير الفتلاوي والحاج زاير وعبّود غفلة والسيد عبدالحسين الشرع وهؤلاء مجرّد عينة من كمّ كبير من شعراء الطف باللغة الدارجة الذين ترجم لهم أكثر من مؤلف بالشعر الشعبي . والذي يعنيني هنا أن النصارية المشار إليها وهي من شعر الشيخ محمّد نصار وهو من أهل العلم ومن أسرة علمية من أسر النجف الأشرف هي التي استأثرت بمكانة أكبر في ساحة الشعر الشعبي ، وقد يكون ذلك لأنّ عليها مسحة من المقبولية ولأنّها جمعت بين الإطار الجيد والمضامين الشجية والنفس الطويل الملحمي ، وكانت مستساغة من مختلف الشرائح ، ولم يزاحمها حتى الشعر الشعبي المتطور الذي نظمه شعراء محدثون عرفوا بالرقة والأطوار الحديثة ، وفي نفس الوقت يأخذ الشعراء الآخرون مكانهم في ساحة ينسب متفاوتة .

    2 ـ أمّا الشريحة الثانية فهم أهل العلم ومن هو قريب منهم من الأدباء والمتأدبين وهؤلاء ميلهم للشعر باللغة الفصحى ـ القريض ـ فهم يستريحون إلى سماع الشعر الفصيح وما هو للشعراء المجيدين والمشهورين بالساحة وفي طليعة هؤلاء السيد حيدر الحلي والحاج هاشم الكعبي والشيخ صالح الكواز والأزري ومن الأقدمين الشريف الرضي ومهيار الديلمي وغيرهم ممّن عرف بالإجادة ومن نسج على منوالهم من المتأخرين كالشيخ كاظم السبتي والشيخ محمّد علي اليعقوبي والكثير الكثير ممّن ذكرتهم المعاجم وترجمت لهم كتب السير ، ولكن السهم الأوفر كان للسيد حيدر الحلي عند الخطباء ، فقد كان من يريد ولوج طريق الخطابة متدرجاً من المقدمات التقليدية ينصح بقراءة شعر السيد حيدر الحلي ويقال له : إنّك توفق إذا حفظت شعره . وهكذا كان معي يوم بدأت أقرأ المقدمة أمام شيوخي فقد أرشدت إلى حفظ شعره . وليت أجهزة التسجيل كانت كما هي الآن لكانت سجّلت لي تلك الفترة التي أتوق إلى التعرف عليها بخواصها التي تشكّل بصمات حقبة خاصة من العمر ، ولكنّي على وعي بأنّ شعر السيد حيدر كان الأغلب فيما كنت أقرأه ، ولمّا كانت ظاهرة إقبال الوسط العلمي على شعر السيد حيدر لها أسباب فقد دفعني ذلك لمعرفة هذه الأسباب وتحديدها .
    إنّ واقعة الطف هي نفس الواقعة أمام شرائح مختلف الشعراء والرثاء موضوع يجمعهم ومن المؤكد أنّ فيهم من هو أكبر حجماً من السيد حيدر من ناحية علمية واجتماعية وفنية أحياناً . فلماذا استأثر السيد بهذه المكانة من دونهم ؟ هذا ما أحاول تعليله في حدود إدراكي وقد لا يشاركني الآخرون فيما استنتجته خصوصاً والشعر يعتمد في تقييمه على الأذواق وهي ليست منضبطة ولا فيها مقاييس ثابتة . ولكنّي هنا أمارس حقي في إبداء وجهة نظري مع ملاحظة أنّي هنا أتكلّم من الداخل ومن صميم أجواء المجلس الحسيني متفاعلاً مع ذوق مجمل جمهور المجلس ولا أتكلّم من الخارج . وللإجابة على ما طرحته من تساؤل أقول :

    بما أنّي في أفق الطف وداخل أجوائه أشاهد وأسمع من يستأثر باهتمام الجمهور كان لابدّ لي من الوقوف عند من يعتبر النائحة الأولى في الطف وقد بدا لي أنّه جمع جوانب لم يتسنّى للآخرين جمعها . فقد كان هناك من قد يعتبر أنصع ديباجة وأعمق رنيناً كالشريف الرضي ، وهناك من هو أشد محاولة في استدعاء التفجّع ولكن على حساب مكانة أهل البيت ، وقد يكون هناك من يشارك السيد في جزالة التعبير ومتانة الديباجة كالكعبي مثلاً لكن على حساب الأجواء الشجية . وقد يكون غير ذلك . بينما إذا تأمّلت شعر السيد حيدر في واقعة الطف فسترى نسيجاً يجمع ويوحّد بين جوانب لم يتسنى للآخرين المزج بينها وذلك في انسجام يبدو معه المشهد متماسكاً موحداً وإن تعددت مقوّماته . فمثلاً قلّ أن يجتمع الفخر والتفجّع وقد جمع بينهما . كما أنّ لغة الموتور لا تلتقي مع لغة التقييم وقد التقت عنده ، وكذلك الرثاء والغزل يندر اجتماعهما وقد جمعهما وسلك كلّ ذلك في صيغة يؤطرها النوح الموتور وصدق العاطفة البعيد عن التعمل مع جوانب سأشير إليها فيما يأتي .
    أعود لأنبّه أنّي ما جئت هنا لأقوم بدراسة حال السيد حيدر ابتداءاً من أسرته وسلوكه ومكانته من العلوم والأجواء التي تفاعل معها ، إنّ كلّ ذلك قد توفّرت عليه كتب قد ترجمت للسيد واستوعبت أحواله كما هو مدوّن في مقدمات ديوانه المتعدد الطبعات أو كما ترجمت له كتب السير كالبابليات لليعقوبي ، وأدب العراق في القرون المظلمة لعلي الخاقاني ، وأعيان الشيعة للسيد الأمين طاب ثراه وغير ذلك من كتب التراجم . ولكنّي أريد أن أقيّم السيد حيدر بصفته ناعية الطف وألج إلى دنياه الخاصة بهذا لا غير . إنّه في هذا المضمار استأثر بقصب السبق وتميّز ببصمات أعطت شعره وجهاً خاصاً ونبرة لا تخطئها الأذن إذا سمعتها . من هذا المنطلق سأتّجه إلى عالم زاخر بالشجى ملتهب بالحماس محتدم بالثورة لا يسع من يطل عليه إلاّ أن يتفاعل أشدّ التفاعل معه . إنّك حين تقرأه تحسّ بمشاهد حية مجسّدة كأنّك ترى الدماء وهي سائلة وترى الرقاب وهي تحزّ وترى جيش البغي في أثناء هجومه وتلمسها ناراً مؤججة في المخيّم وفيه ثقل رسول الله ونساء تتصارخ وصبية

    مروّعات وأطفال يضجّ الرعب في عيونهم وما يدور حول هذا المشهد ويتمّمه من أجزاء ، وهذا الشعر بهذه الخواص سيظلّ حياً يفرض نفسه على امتداد السنين .
    وبحكم طول مسيرتي في الخطابة فقد وعيت مئات النصوص ولكن شعر السيد حيدر يظلّ الأفق الذي تحتدم أجوائه بما لا يسع البيان تصويره من الأبعاد الملتهبة التي تتصل بالواقعة وما يتفجّر عنها من ردود فعل تدور في الكون النفسي لسيد حيدر . إنّه الحزن الموتور والأوار الذي لا يخبو والحنين الذي لا يهدأ ويتطلّع إلى طلب الثار بكلّ وسيلة فاعلة وإلى بكاء ليس بالعيون وإنّما بالسيوف . وبصورة مجملة إنّ شعر السيد حيدر يضعك في عرصات الطفوف بكلّ ما تضمّ من بطولات وآلام وأشجان ثمّ يعقّب عليها بانطباعاته وينتقل لخطاب الهاشميين بصفتهم حملة العبىء .
    وهو في هذا المجال قد وفّر المفردة الكلامية في إطارها الشعري بعد أن اختارها سليمة في جذرها العربي ومتينة وسبكها في جملة ذات إيحاء قوي وتصوير متقن للمشاهد وقد حمّل هذه الجمل مسؤولية إحداث الإنفعال وكلّفها نقل الصورة اللاهبة والزفرة المؤججة والحقيقة الثابتة وإذا شئت قلت حمّلها الملحمة ذات الفصول المتنوعة وسكب في جملة القدرة على الصمود مع الزمن ، فلو سألنا الجيل الذي عاصر السيد حيدر وما بعده والجيل الموجود فعلاً عن رأيه في تقييم شعر السيد حيدر فأحسب أنّنا لا نجد اختلافاً بينهم في مدى حرارته وفي استجابتهم لتأثيره . وكلّ ذلك فيما أرى ناتج من كونه حَمل هاشمية متأصلة لم تزاحمها مؤثرات أعراق أخرى وعلى عقيدة عميقة بأنّ الذي استهدف في قتل الحسين هو رسول الله والإسلام . كما توفّر على وعي بأنّ الإستجابة لهذا الرزء بدمعة ساكبة ليس بالجزاء المطلوب لتلك الدماء الطاهرة والنفوس الكريمة . إنّك حين تقرأه تبرز أمامك هذه الجوانب كما أنّ هذه المكانة لشعره في النفوس لعدة أجيال متعاقبة أمر يصعب الحصول عليه لولا عوامل متوفرة هناك منها ما هو موضوعي ومنها ما يسمى في عرف أهل الولاء بمسحة القبول ، لأنّه حمل الهاشميين صورة فريدة في خواصها متميزة عن النظائر ولقد نظم كثير من الشعراء المتأخرين في ملحمة الطف وأجادوا وأبدعوا ولكن مزاج السامعين لا يتفاعل معهم كما يتفاعل مع الشعر الكلاسيكي التقليدي الذين نظم بالواقعة وخصوصاً شعر السيد حيدر . وهذا ليس ناتجاً من الإلفة فقط ، ولكنّه ناتج من الوشائج الشديدة بشهداء الطف مع السيد سواء كانت وشائج عقائدية أو دموية أضف إلى ذلك أنّه يترجم ما يعتمل في نفوس السامعين من مشاعر ومن نزعة تريد أن تبكي شهداءالطف بكاء يجمع بين التفجّعوالشموخوإنّك لتلمس تصويره لذلك في مثل قوله:


    لقد مات لكن ميتة هاشمية***لهم عرفت تحت القنا المتقصد


    إنّه يصور المعادلة فيضع الهاشميين في طرف رجال مبادئ وفوارس حرب ومنارة هدى ويضع الأمويين في الطرف الآخر ذئاباً متعطشة للدم وجفاة لم يدخل الدين قلوبهم ولم تهذبهم طباع أو تربية فالواقعة عكست أخلاق الفريقين وسمات المعسكرين . هذا ما يحمله شعر السيد إلى نفوس السامعين فيدفعهم إلى تقييم المعسكرين . وقد آن الأوان لأن نقدم شواهد بصورة مختصرة للتدليل على ما طرحناه من مفاهيم كما تبرز لنا مواضع الإبداع في شعر السيد هذا الرجل الذي سيظلّ نائحة الطف .





    تتوزّع هذه الشواهد على المضامين التالية :


    1 ـ المضمون الأول الذي هو التنويه بذكر المبرر لنهضة الحسين (عليه السلام) التي سالت فيها دماء وقطعت فيها رقاب فلابدّ من ذكر المبرّر وإلاّ اهتزّت صورة النهضة في وعي الناس الإيماني . وهذا المعنى بالتأكيد هو لغير من يعرف أنّ الحسين إمام مفترض الطاعة ولكن نظراً لسعة الخطاب وشموله لمن لا يعرف مكانة الحسين أو يعرفها ويتجاهل ولا يأخذ بلوازم هذه المعرفة . وفي هذا الحقل طرح السيد حيدر مجموعة من المفاهيم كفيلة بتقديم مبررات النهضة ومنها : إنّ النهضة لم تكن بسبب عداء شخصي ، ولا لهدف فردي من وراءه مطامع وإنّما النهضة استجابة لما أمر الله تعالى به وتجسيد لإرادته في الدفاع عن دينه وعن كلمته . وإنّ الأمويين حين استهدفوا الحسين فعلوا ذلك لأنّه من القنوات التي تحمل فكر الإسلام وتعتبر امتداداً للرسالة فاسمعه يقول في ذلك :


    يا تربة الطف المقدسة التي هالوا***على ابن محمّد بَوْ غاءَها


    واريت روح الأنبياء وإنّما***واريت من عين الرشاد ضباءَها


    دفنوا النبوة وحيها وكتابها***بك والإمامة حكمها وقضاءَها


    فوديعة الرحمن بين عباده***قد أودعته أمية رمضاءَها


    وهذه الأبيات من قصيدة من غرر شعره وقد تضمّنت الكثير من مبررات النهضة . ويقول في قصيدة ثانية يصف فيها هوية معسكر الحسين ومعسكر قتلته وكأنّه يشير إلى ما ذكره المفسرون في تفسير الآية المرقمة 60 من سورة الإسراء وهي قوله تعالى : ( وما جعلنا الرؤيا التي الخ ) فقد نصّ مفسروا المسلمين ومنهم الطبرسي في مجمع البيان والسيوطي في الدرّ المنثور ، والقرطبي في تفسيره وغيرهم على أنّها نازلة بسبب رؤيا النبي بني أمية ينزون على منبره نزو القردة ، فحزن النبي لذلك إلى آخر ما ذكروه وفيه رأي السيدة عائشة زوج النبي وروايتها أنّ الشجرة الملعونة هم بنو أميّة . يقول السيد في ذلك :


    علت فوق أعواد النبي ببيعة***بها من ثقيل الوزر طال احتقابها


    تقلّب بين المسلمين أناملا***تريك عن الإسلام كيف انقلابها


    أعد نظراً نحو الخلافة أيّما***أحقّ بأن تضفى عليه ثيابها


    أمن هو نفس للنبي أم التي***له كان داءاً سلمها واقترابها


    إلى أن يقول :


    وهذي بنو عصارة الخمرأصبحت***على منبر الهادي يطنّ ذبابها


    ويقول في قصيدة أخرى :


    عترة الوحي غدت في قتلها***حرمات الله بالطف حلالا


    قُتلت صبراً على مشرعة***وجدت فيها الردى أصفى سجالا


    يوم ألت ألُ حرب لا شفت***حقدها إن تركت لله إلا

    وهكذا فالمقتولون إلى الله والقاتلون إلى حرب أعمدة الجاهلية والشرك ، واللوازم التي تترتب على ذلك معروفة . وتجد هذا المضمون منبثّاً في شعره للإشارة إلى أنّ الصراع بين إسلام وجاهلية فلا يبقى بعد ذلك مبرر للتساؤل عن مشروعية النهضة . وأنت ترى أنّ الشعر هنا يلعب دوراً رسالياً يجتمع مع الرثاء .
    2 ـ المضمون الثاني : هو المقارنة بين أخلاقيات المعسكرين والتي تنبع من خواص الأسرة وممارساتها وتنعكس على أفراد تلك الأسرة . ولمّا كان التمسك بالدين وبالإسلام كفيل بطرد الأخلاق الذميمة والممارسات الخاطئة فأهل الدين بمنجاة من ذلك ، أما الذين لا دين لهم وإنّما هم على جاهليتهم فماذا ينتظر منهم إلاّ الإنحراف فاسمعه ماذا يقول :


    يلقى ابن منتجع الصلاح كتائبا***عقد ابن منتجع السفاح لِواءَها


    من أين تخجل أوجه أموية***سكبت بلذات الفجور حياءَها


    حشدت كتائبها على ابن محمّد***بالطف حيث تذكّرت آباءَها


    ويقول في قصيدة أخرى :


    أمية غوري بالضلال أو انجدي***فمالك في العلياء فوزة مشهد


    هبوطاً إلى أحسابكم وانخفاضها***فلا نسب ذاك ولا طيب مولد


    فماذا الذي أحسابكم شرّفت به***فأصعدكم في الملك أشرف مصعد


    وفيها يستعرض مواطن الهبوط وردىء الأخلاق عندهم . وبالجملة فإنّ المقارنة بين سمات هؤلاء وهؤلاء كثيرة في شعره يجدها القارىء بسهولة .
    3 ـ المضمون الثالث : التأكيد على هول المصيبة الناتج من كون هذا المعسكر العاري من الدين والخلق يصرع هذا الرعيل من آل الله تعالى . وهذا المضمون بالذات من المضامين المنبثّة في مواريث العرب وتراثهم الأدبي يعرفه من له أدنى إلمام بحضارتهم . ولنستمع لبعض الشواهد في هذا المعنى يقول :


    ابني لؤي والشماتة أن يرى***دمكم لدى الطلقاء وهو جبار

    أتوانياً ولكم بأشواط العلا***دون الأنام الورد والإصدار


    هذي أمية لا سرى في قطرها***غض النسيم ولا استهلّ قطار


    لبست بما صنعت ثياب خزاية***سوداً تولى صبغهنّ العار


    ويلاحظ هنا المقابلة بين أمية ولؤي ، ولذلك خلفية تاريخية تبيّن اختلال المعادلة .


    وفي نص آخر يقول :


    أجبناً على الحرب يامن غدوا***على أول الدهر أخدانها


    أترضى أراقمكم أن تعد***بنو الوزغ اليوم أقرانها


    وتنصب أعناقها مثلها***بحيث تطاول ثعبانها


    ويقول في نص آخر :


    طحنت أبناء حرب هامكم***برحى حرب لها كانوا الشفالا


    وهكذا تنتشر هذه المقابلة في شعره كثيراً ، ثمّ بعد هذه المضامين التي هي مقدمات يأتي في شعره للنتيجة التي تؤكد أنّ معسكر الأمويين لا دين له ولا أخلاق فهو عار من الخلق وضيع في الجذور ، فكم هو عظم النكبة أن يقتل حملة هذا العار : حملة القرآن وآل الرسول . إنّ مسألة كهذه لا سبيل للصبر عليها . وهو هنا يتوقّد شواظاً ويتحوّل إلى حمم لاهبة طالباً الثأر ومحذراً من الركون إلى الدمع فإنّه سلاح لا مكان له هنا وإنّما المكان للسلاح فاسمعه يقول :


    لابدّ أن أتداوي بالقنا فلقد***صبرت حتى فؤادي كلّه ألم


    لا أرضعت للعلا ابناً صفو درّتها***إنّ هكذا ظلّ رمحي وهو منفطم


    مالي أسالم قوماً عندهم ترتي***لا سالمتني يد الأيام إن سلموا


    وأسمعه في مقطع آخر وأرجو أن تحبس مشاعرك عن التوثّب وإن لم تستطع فاتركها على سجيّتها ، يقول :


    قف على البطحاء واهتف ببني***شيبة الحمد وقل هبوا عجالا

    كم رضاع الضيم لا شبّ لكم***ناشىء أو تجعلوا الموت فصالا


    كم وقوف الخيل لا كم نسئت***علكها اللجم ومجراها رعالا


    حلّ ما لا تبرك الإبل على***مثله يوماً ولو زيدت عقالا


    ولا يفوته أن يحتدم غيظاً على من يستجيب لهذا الرزء بسكب الدموع فيقول في ذلك :


    أفلطماً بالراحتين فهلاّ***بسيوف لا تتقيها الدروع


    وبكاء بالدمع حزناً فهلاّ***بدم الطعن والرماح شروع


    قلّ الأقراع ملمومة الحتف***فواهاً يا فهر أين القريع


    وبعد هذه المقتطفات التي تشكّل كمّاً صغيراً من المضامين التي حملها شعره في وعاء يجمع بين المتانة والأناقة ويحول الدمع من حالة انكسار فيتسامى به إلى ظاهرة انفعال على فداحة مفارقة وعدوان انتهى إلى زلّة للدهر لا تغتفر :


    عثر الدهر ويرجو أن يقالا***تربت كفّك من راج محالا


    أنزوعاً بعدما جئت بها***تنزع الأكباد وجداً واشتعالا


    ولعلّ البعض يقول : إنّ كثير من شعراء الطف حملّ شعرهم هذه المضامين وليس السيد حيدر وحده ، فما هي ميزته في ذلك ؟ وأعتقد أنّ مجرد قراءة شعر السيد حيدر يكفي في الإجابة على هذا التساؤل ، وللإيضاح أشير إلى ما تميز به السيد في ذلك :
    1 ـ إنّ هذه المضامين في شعره ليست الوحيدة بل قسم من مجموعة لا سبيل لاستعراضها في هذه العجالة . وهي لا تقلّ عمّا ذكرنا ، كما أنّها من حيث انتقائها وتوظيفها في أبعاد ملحمة الطف ذات فاعلية ليست بالقليلة وكلّ أديب يعرف أهمية أسلوب الإنتقاء والعرض في جعل النص فاعلاً ومؤثراً . والظاهر أنّه جمع هذه أكثر منهم وأحسن عرضها وتوظيفها .
    2 ـ إنّ الجملة عنده مركبة من مفردات مكهربة تحسّ بحرارتها وأنت تقرأها ممّا يكشف عن ثاكل لا محترف ، ودعني أضع يدك على اللهب عنده في عتابه للهاشميين :


    جفّت عزائم فهر أم ترى بردت***منها الحميّة أم قد ماتت الشيم


    أم لم تجد لذع عتبي في حشاشتها***فقد تساقط جمراً من فمي الكلم


    وهو بهذه الحرارة لم يضارعه أحد فلنسمع للكعبي وهو شاعر فحل يصف لوعة الفاطميات فيقول :


    وثواكل بالنوح تسعد مثلها***أرأيت ذا ثكل يكون سعيدا


    حسنت فلم ترى مثلهنّ نوائحا***إذ ليس مثل فقيدهنّ فقيدا


    فلنضع هذه الصورة في طرف ونضع صورة مقابلها للسيد حيدر فاسمعه يقول :


    ونواع برزت من خدرها***تلزم الأيدي أكباداً وجالا


    كم على الندب لها من حنة***كحنين النيب فارقن الفصالا


    كبنات الدوح تبكي شجوها***وغوادي الدمع تنهلّ انهلالا


    وهنا قد تكون المحسنات البديعية وبعض الجوانب الفنية لامعة عند الكعبي ولكن برودة الصنعة طاغية على المشهد ، في حين تلفحك الحرارة عند النواعي اللواتي يضعن الأكف على الأكباد الحرّى الوجلة كما هي في أجواء السيد حيدر .
    3 ـ إن السيد حيدر بالإضافة لكونه ثاكلاً يعطيك إحساساً بأنّه ثائر أنيطت به مسؤولية طلب الثأر واستعداء كلّ جهة للقيام بذلك . وباختصار تحسّ بأنّه عضو يتداعى له العضو الآخر بالألم فهو جزء من الأسرة التي جزرت ، في حين قد يكون بعض من هو خارج عن جسد الأسرة ويجيد رسم المأساة ودور التفجع ولكن شتّان بين الإثنين فليس التمثال كالجسد النابض بالحرارة . ولعلّي إذا جزأت النوابض في شعر السيد حيدر لا أستطيع أن أبرز تأثيرها كما هي مجموعة ، فأحيل القارىء لقراءة شعره ليلمس بنفسه هذه المزايا . كلّ ذلك أعطى شعر السيد حيدر هذه المكانة في نفوس روّاد المآتم ، وسواء أصبنا في تحديد السبب أم أخطأنا فإنّ المحصلة هي أنّ شعره في صوره المأساوية لم يزاحم حتى الآن ولو
    من الصور الحديثة التي أبدع بعضها وتنوّع لكنّه لم يأخذ الأثر الذي يأخذه شعر السيد المشحون باللوعة . أليس هو القائل :


    خذي يا قلوب الطالبيين قرحة***تزول الليالي وهي دامية القرف


    فإنّ التي لم تبرح الخدر أبرزت***عشية لا كهف فتأوى إلى كهف


    لقد رفعت عنها يد القوم سجفها***وكان صفيح الهند حاشية السجف


    وقد كان من فرط الخفارة صوتها***يُغضّ فغضّ اليوم من شدّة الضعف


    وهاتفة ناحت على فقد إلفها***كما هتفت بالدوح فاقدة الألف


    إلى آخر هذه الصورة الزاخرة باللوعة . رحم الله ناعي الطف وحشره مع الشهداء والصالحين .[/align]
    يا محوّل الحول والاحوال ، حوّل حالنا إلى أحسن الحال......








  15. #30
    تاريخ التسجيل
    Jul 2004
    الدولة
    هناك
    المشاركات
    28,205

    افتراضي

    [align=center]



    الخاتمة


    بعد تسجيل هذه الخواطر البسيطة والإنتهاء منها لابدّ من تسجيل بضعة ملاحظات تطلع القارئ على ما لابدّ من الإطلاع عليه وألتمس فيها مبرّراً لبعض الجوانب :
    1 ـ لقد كتبت هذه الفصول على عجل والإستعجال غالباً قرين الخطأ فليسعني عفو القارئ إذا لمس شيئاً من ذلك .
    2 ـ حاولت جهد الإمكان تسجيل خواطري بموضوعية وقد يبدو للبعض أنّ فيها شيئاً من غير الموضوعي وليس لي حق أن أحجر على ما ينقدح في أذهان الآخرين أو أخذهم عليه .
    3 ـ قد يرى بعض زملائي شيئاً من التبجح فيما كتبت وقد حرصت على الإبتعاد عنه ولو قدر وجوده فهو غير مقصود .
    4 ـ سأكون في غاية الإمتنان لو سدّد خطواتي كاتب أو ناقد ببعض الملاحظات البناءة وجزّاه الله خيراً سلفاً .
    5 ـ لقد صاحبني شعور وأنا أكتب هذه الوريقات بضرورة السرعة في إكمالها لأنّ العمر يسابقنا والذاكرة تضعف وبسبب خوف الفوت أعوزني كثير من الإتقان في المنهج والأفكار وقد هوّن عليّ ذلك أنّ هذا الكتيب باكورة في هذا الطريق آمل أن يشفعها الأهم بحوثاً والأكثر إتقاناً والبدايات دائماً تكون متواضعة .
    6 ـ أرفع إلى أعتاب أبي الشهداء روح المنبر ومادته التي لا تنفذ وملهمنا وإمامنا هذا الجهد المتواضع أملاً أن يأخذ بيدي وأيدي إخواني لأن نكون بمستوى الأمانة التي نحملها في خدمة هذه الرسالة .
    7 ـ اللهمّ لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا ، ولا تحرمنا من مكافأة نرجوها هي رضاك وحسبنا بذلك أجراً .[/align]
    يا محوّل الحول والاحوال ، حوّل حالنا إلى أحسن الحال......








صفحة 2 من 3 الأولىالأولى 123 الأخيرةالأخيرة

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •  
 
شبكة المحسن عليه السلام لخدمات التصميم   شبكة حنة الحسين عليه السلام للانتاج الفني