العراق: مراجع الشيعة يجب أن يتكلموا

نريد أن نسمع رأيا واضحا لمراجع الشيعة وعقلائهم في ما يتعرض له أهل السنة فى العراق. ذلك انه لا يعقل أن يقف الجميع متفرجين إزاء الدعوات التي يروج لها البعض هناك لإنهاء الزيجات بين السنة والشيعة، بزعم ان استمرارها «يغضب الله».

وهي المفاجأة التي وقعت عليها ذات صباح، حين قرأت خبرا على الصفحة الاولى في جريدة الاهرام القاهرية (عدد 10/11) يقول ان سيدة عراقية شيعية تزوجت من مسلم سني منذ 18 عاما، أقاما خلالها حياة مستقرة أثمرت أربعة أطفال، لكن عائلتها اجبرتها مؤخرا على الطلاق منه بدعوى ان العيش معه «يغضب الله». ونقل خبر «الاهرام» عن الشبكة الاقليمية للأنباء (ايرين) ان ثمة تهديدا مماثلا لأكثر من مليوني أسرة عراقية قائمة على الزواج المختلط بين السنة والشيعة. وهو ما يمثل نحو ثلث عدد أسر المجتمع العراقي. كما نقلت الشبكة التي تتبع الامم المتحدة بشكل شبه رسمي عن جمعية «السلام للعراقيين» الاهلية فى بغداد، ان حالات الطلاق تلك تعرض الاطفال لما يشبه «غسيل المخ»، الذي يجعلهم يتقبلون العنف بشكل عام، والطائفي منه على وجه الخصوص، وان ثمة حالات حاول فيها بعض الاطفال الانتحار لمنع وقوع الطلاق بين الوالدين بسبب اختلاف المذهب.

بذات القدر فانه لا يعقل ان يقف الجميع متفرجين إزاء انتشار مظاهر التعصب وحالات الاشتباك الطائفي بين اطفال المدارس الابتدائية. وهو ما تحدثت عنه «الشرق الاوسط» في تقرير لها (نشر في 7-11) تضمن تصريحات لعدد من مديري المدارس الذين اعربوا عن قلقهم من تنامي تلك الظاهرة التي لم يكن الاشتباك بين التلاميذ الشيعة والسنة هو التجلي الوحيد لها، لأن بعض الآباء من أهل السنة اشتكوا من ان أبناءهم منعوا من المشاركة في نشاط ديني لزملائهم الشيعة، في الوقت ذاته عبرت مديرة احدى المدارس عن قلقها من اتجاه المسؤولين عن الوقفين الشيعي والسني الى فتح مدارس خاصة لمختلف مراحل التعليم، الأمر الذي يؤدي إلى تخريج جيلين مختلفين ومتعاديين من الطلاب. وكنت قد قرأت من قبل خبرا مفاده ان الاطفال الذين يحملون اسماء بعض الصحابة (خصوصا ابو بكر وعمر، رضي الله عنهما) منعهم آباؤهم من الذهاب الى المدارس، لتجنب تعريضهم للأذى من جانب متعصبي الشيعة.

لا يعقل كذلك ان يظل الجميع متفرجين إزاء استمرار حالات الخطف والتصفية والترويع التي يتعرض لها السنة بصورة يومية ودورية، من جانب من يسمون بفرق الموت، وكذلك اتساع نطاق عمليات التهجير التي تلاحق اهل السنة في بغداد وبعقوبة وكركوك والموصل وغيرها، مما يعد تطهيرا عرقيا صريحا. وهو ما يراد له أن يمهد لإقامة الفيدرالية الشيعية التي دعا اليها السيد عبد العزيز الحكيم في العام الماضي، والتي يفترض ان تستأثر بثروة العراق النفطية.

هذا اللامعقول إذا صحت الأخبار التي تحدثنا عنه يحز في نفس كل وطني عراقي مخلص لبلده، وكل عربي غيور على أمته، وكل مسلم حريص على دينه. كما انه من الطبيعي ان يستثير أهل السنة ويدفعهم الى التعبير عن الاستياء والغضب. فضلا عن انه لا بد ان يقلقنا من حيث ان تلك الرياح البائسة اذا استمرت، فان اصداءها يخشى منها ان تثير الحساسية إزاء الجماعات الشيعية التي تعيش في كنف المجتمعات السنية في العديد من اقطار العالم العربي والاسلامي. وهو ما قد يؤثر على التعايش والتلاحم والاستقرار في تلك الاقطار.

حين أعلنت فتوى الشيخ ابن جبرين التي نالت من الشيعة وآذت مشاعرهم إبان العدوان العدوان الاسرائيلي على لبنان، كان رموز اهل السنة ومراجعهم في مقدمة الذين استنكروها وردوا للشيعة اعتبارهم، ومن ثم عبأوا الرأي العام العربي والاسلامي للوقوف الى جانب حزب الله في لبنان والانتصار له، والذين اقتربوا من الحدث وقتذاك ـ وكنت واحدا منهم ـ يدركون جيدا مدى الجزع الذي اصاب مراجع وأركان المذهب الجعفري من جراء اعلان كلام ابن جيرين. كما يذكرون لا ريب حجم الجهد الذي بذل على أصعدة متعددة لاحتواء الموقف وتصحيح الصورة لصالح مساندة حزب الله والحفاوة بوقفته الباسلة في وجه العدوان. وحين تحركت المراجع السنية على ذلك النحو فانها كانت مدركة ان تصويب الادراك وترشيده. هو مسؤولية يجب أن ننهض بها في كل وقت. وفي مواجهة الهجمة الاسرائيلية بوجه أخص، وما يتعرض له اهل السنة الآن في العراق يشكل خرقا حادا وحالة خطرة للغاية تقتضي من مراجع الشيعة وعقلائهم ان يخرجوا عن صمتهم ويتحركوا، ان لم يكن لاطفاء نار الفتنة. فعلى الاقل لتحديد موقف واضح يستنكرها ويحرمها، ويحذر من تداعياتها. وهم بذلك لا يبرئون ذمتهم امام الله والتاريخ فحسب، ولكنهم ايضا يحسمون لغطا مثارا في اوساط اهل السنة يشكك في موقف المراجع. ويذهب الى الزعم بان ما يجرى ليس حماقة من جانب نفر من المتعصبين والمتطرفين، وانما هو سياسة لطائفة لها تطلعاتها القريبة ومقاصدها البعيدة.

واذا جاز لي ان اذهب الى ابعد في المصارحة، مستثمرا ما اعتز به من مشاعر المودة والثقة التي احظى بها واتبادلها مع العديد من اتباع المذهب الجعفري، فانني لا اريد ان يصدق البعض ما يقال عن ان مراجع الشيعة حريصون على الأخذ دون العطاء، فقد رحبوا وشجعوا الى ابعد مدى الفتوى التي اصدرها في الاربعينات من القرن الماضي الشيخ محمود شلتوت حين كان شيخا للازهر. واعتبر فيها ان المذهب الجعفري مما يجوز التعبد به شرعا، شأنه في ذلك شأن المذاهب الاسلامية الاخرى. لكنهم التزموا الصمت حين اعتبر البعض في العراق ان زواج شيعية من سني او العكس. يعد إثما يغضب الله. وهو ذات المنطق التكفيري الذي يروج له متطرفو أهل السنة، مع فرق اساسي هو ان مراجع اهل السنة استنكروه واثبتوا فساده، في حين ان مراجع الشيعة لم يسمع لهم صوت بشأنه.

إن التفكير في المشهد العبثي الراهن في العراق، لا ينبغي ان يغفل عوامل واعتبارات عدة في مقدمتها ما يلي:

إن الاحتلال الامريكي للعراق هو الذي أيقظ الفتنة النائمة وحركها، حين شكل اول مجلس لحكم البلاد بعد سقوط النظام البعثي، على اساس مذهبي وعرقي، وكأنما اختار ان يفرق من البداية بين ابناء الوطن الواحد لكي يسود ويبسط هيمنته.

ان ثمة جماعات متطرفة من اهل السنة في العراق ارتكبت جرائم مماثلة بحق الشيعة، بعضها كان من قبيل رد الفعل. والبعض الآخر انطلق من موقف تكفيري لهم. لكننا ينبغي ان نلاحظ في هذا الصدد ما ذكرته توا في ان مواقف المتطرفين السنة استنكرتها مراجعهم، لكننا لم نشهد استنكارا مماثلا بذات الوضوح والقوة من المراجع الشيعية.

ان القيادات الشيعية في العراق تتحمل مسؤولية اكبر ازاء ما يجرى، باعتبار انها في الموقف الاقوى في المرحلة الراهنة، فبيدها السلطة، ولديها ما يكفي من الميليشيات والعناصر المسلحة، ثم انها مطمئنة الى الدعم الأمريكي من ناحية، والغطاء الإيراني من ناحية ثانية.

إن ايران ليست بعيدة عما يجري في العراق حيث من الثابت ان ذراعها ـ أو اذرعها ـ طويلة هناك. وإذ نقدر حقها في ان تقوم بدور سياسي يؤمن ظهرها ويحمي أمنها. الا ان الدور السياسي يصبح لعبة خطرة اذا اعتمد على البعد الطائفي. ومن الواضح انها حتى الان تلتزم الصمت ازاء الموضوع الطائفي.. ويتعين عليها أن تجلي الغموض في ذلك الجانب، حتى لا يفهم الصمت بحسبانه تحبيذا او رضاء.

إن الايقاع بين الشيعة والسنة، وتوسيع رقعة المواجهة بين الطوائف في المنطقة حلم راود كل الكارهين للعرب والمسلمين، وما يجرى الان لا يلبي لهم ما تمنوه فقط، وانما ايضا يمهد لهبوب تلك الرياح المسمومة على مختلف ارجاء العالم العربي والاسلامي. في الوقت نفسه فان اشعال ذلك الحريق البائس من شأنه ان يصرفنا عن تحديات اخرى خطيرة تواجه الامة، بدءا من الاحتلال الامريكي للعراق، وانتهاء بالاحتلال الاسرائيلي للأراضى الفلسطينية، مرورا بمخططات الابتلاع والهيمنة التي تتطلع الى تنفيذها الدول الكبرى، مستثمرة حالة الانشقاق والتشرذم والانبطاح التي تعيش في ظلها الامة. ذلك بخلاف التحديات الداخلية التي تعوق تقدم الأمة والنهوض بها.

ان الجميع في هذه الأمة ينبغي ان يكونوا منتبهين ومتيقظين لذلك كله، ويوجعني ان اضطر في ذلك الى ذكر الشيعة والسنة وغيرهما من الطوائف والملل والنحل والأعراق، ومن ثم الى التنويه الى ان الجميع في مربع واحد ومركبة واحدة. وسوف يصحح الادراك اذا ما رفع مراجع الشيعة وعقلاؤهم أصواتهم بإدانة ما يجرى في العراق ورفع الغطاء عنه، لأنني ازعم ان هذه المبادرة ستفتح الباب لالتقائهم مع مراجع اهل السنة، واصطفافهم معا لمواجهة قائمة التحديات الاخرى التي تهدد حاضر الأمة ومستقبلها.