واسط -( أصوات العراق)
ترتبط أيام عاشوراء بتقاليد قديمة توارثها العراقيون وبالأخص المسلمون الشيعة منهم منذ زمن بعيد ،وراحوا يحرصون كثيراً على إحيائها بروح إيمانية كبيرة... ولعل من بين تلك التقاليد ( الهريسة) ، تلك الأكلة التي يحرص العراقيون على صنعها وتوزيعها خلال أيام عاشوراء... ولا سيما في العاشر من المحرم ذكرى مقتل الإمام الحسين .
والهريسة بحسب الروايات يرجع تاريخها إلى عام (61) من الهجرة ،العام الذي استشهد فيه ( الإمام الحسين) وآل بيته وأصحابه ،وأخذت عياله بمن فيهم الأطفال سبايا إلى بلاد الشام.. وهناك أنهكهم الجوع بعد أن أعياهم التعب لطول الطريق ،فكانت العقيلة زينب بنت الإمام علي بن أبي طالب تجمع الحبوب الموجودة في الخربة التي احتجزت فيها السبايا... وراحت تعمل من هذه الحبوب القليلة طعاما تسد به رمق الجوع الذي أنهك الأطفال.
يقول الباحث والمؤرخ مثنى الغرباوي لوكالة أنباء ( أصوات العراق) المستقلة "منذ ذلك الحين ظلت الهريسة (الزاد) والطعام المفضل الذي يعمله العراقيون في أيام عاشوراء ،
ويتم توزيعه بين الجيران ثواباً على روح الإمام الحسين بن علي والذين استشهدوا معه."
وأضاف الغرباوي أن الهريسة صارت من الأكلات المشهورة في الوطن العربي والعالم الإسلامي وتسمى عند البعض ( العاشورية) لأنها تطبخ في أيام عاشوراء بينما يسميها البعض الاخر ( الحبيّة) لأنها تصنع من حبوب القمح المهروسة أي المقشرة.
وتابع أن تاريخ الهريسة يرجع الى عام 61 للهجرة وفي أثناء أخذ عيال الحسين (ع) سبايا الى بلاد الشام بعد واقعة الطف ومقتل الإمام وأبنائه وأخيه (العباس) وأبناء إخوته وأصحابه البالغ عددهم (72) شخصا ، تم احتجاز العيال في خربة بدمشق ..وعندها أحس الأطفال بالجوع بعد أن انهكهم الطريق فكانوا يبحثون في الخربة عن شيء يسدون به رمق الجوع .
واوضح أنه أخذت العقيلة زينب (ع) تجمع شيئاً من الحبوب وجدتها في أرض الخربة وكانت قليلة جداً فوضعتها في قدر كبير على النار لكن سرعان ما امتلأ القدر فقدمت ما فيه من زاد لإطعام العيال حتى شبعوا.
وإستطرد الغرباوي قائلا "وهناك من يعتقد أن الهريسة هي أكلة قديمة كانت تسمى (السويق) وهي موجودة منذ قبل الإسلام وتتكون من القمح أي الحنطة والسكر والزيت. ولكنه قال انه "ليس هناك تأكيدات على هذا الاعتقاد فالهريسة التي تعملها غالبية العوائل اليوم عرفت منذ انتهاء واقعة الطف وظلت سائدة الى الآن."
واشار الى ان الهريسة تختلف في مكوناتها تبعا للمكان أو الدولة التي تطبخ فيها فهناك من يسميها (شلة) خاصة في محافظة كربلاء ومناطق الفرات الاوسط إذا ما احتوت على حبوب القمح إضافة الى قليل من الرز والماش أو العدس أو اللوبياء ،وتسمى (آش) مثلا في بلدة جصان شرق محافظة واسط ، وكذلك في المناطق المحاذية لإيران.
وقال إنه ربما في إيران تسمى ( آش) عند البعض لكنها معروفة عند الجميع بالهريسة، مضيفا أن الهريسة تختلف في عملية طبخها وتركيبها من مكان لآخر في العراق، فمنهم من يحرص على طبخها على النار المكونة من الحطب وهناك من يطبخها على الغاز ولكل واحدة نكهتها وطعمها الخاص.
وأوضح أن مكونات الهريسة تكون بحسب رغبة الشخص الذي يعملها أو ما توارثه عن آبائه وأجداده.
ونوه الباحث الى أنه يمكن عمل الهريسة في أي يوم من أيام عاشوراء لغاية أربعينية الامام الحسين (ع) لكنها تصنع في الغالب في الأيام العشرة الأولى وبالذات في العاشر من محرم ويتم توزيعها بين الجيران.
وأشار الغرباوي الى ان "الرجال هم من يطبخون الهريسة على الارجح ويكون الطبخ في الغالب في مكان مفتوح وليس بالضرورة ان يكون داخل المنزل. وعادة ما يجتمع مجموعة من أبناء المحلة لطبخ الهريسة أو أنهم أصلا يشتركون قبل ذلك بتهيئة مستلزماتها."
ويقول صلاح مهدي طعمة، أحد المواطنين الذين يحرصون على عمل الهريسة سنويا، "هذا تقليد اعتدت عليه منذ كنت طفلاً حيث كان والدي يعمل الهريسة لأجل التعبير عن الحب والولاء الى الامام الحسين والى واقعة الطف التي استشهد فيها الحسين في العاشر من محرم الحرام."
وأضاف "الهريسة التي اعملها الآن تكون على الحطب ( أي على نار الأخشاب) ولا اعملها على الغاز أو النفط بالمرة لأنه هذا التقليد الذي اعتدت عليه من خلال والدي"، مشيرا الى أن "الهريسة تطبخ في قدور كبيرة تسمى (قزانات) ومفردها قزان ويكون طبخها في الغالب ليلا وتوزع نهاراً ويستغرق طبخها فترة طويلة من الوقت."
وأوضح ان "من الأدوات الضرورية لعمل الهريسة الى جانب القزانات (المهراسة) وهي أداة تصنع من الخشب ويكون لها رأس كبير يستخدم لهرس الحبوب وهي في القزان. واستخدامها هنا مشابه لاستخدام المس في تدوير الطعام داخل القدر ويطلق على المس عند البعض من أهل الريف جنوب العراق ( الجفجير)."
وذكر أن شباب المحلة الواحدة أو أبناء العائلة الواحدة هم من يوزع الهريسة بين الجيران.
ولكن السيدة إسراء الكناني (أم علي) قالت "ليس الرجال وحدهم من يطبخون الهريسة فالنساء ولا سيما الكبيرات في السن يجدن في طبخها متعة مميزة لأنها أكلة السبايا من عيال الامام الحسين(ع)."
وأضافت "اعتدت على طبخ الهريسة من جدتي التي تجاوز عمرها 80 عاماً وكانت تحرص على طبخها كل عام"، مضيفة " أنا أطبخها على الغاز خلافاً لجدتي التي كانت تعتمد الحطب."
وقالت "هناك من يضيف للهريسة حبوب الرز أو العدس أو غير ذلك ويمكن أن تضاف لها اللحوم وهناك من يطبخها وحدها أي فقط حبوب القمح."
وأوضحت أن هذه التقاليد تختلف من عائلة لأخرى بحسب ما اعتادت عليه تلك العائلات أو ماكان يقوم به الآباء والأمهات وسرنا نحن عليه."
وعن طريقة صنع الهريسة ، قالت أم علي إن "البعض يضع في (القزان) العظام أو ما يعرف عند البعض بـ (الكسور) ، أي عظام أرجل الذبيحة سواء كانت خروفا أو ثوراً ، وهذه العظام تعطي للهريسة نكهة مميزة لأن بداخلها مادة غضروفية تكون لذيذة عندما تنضج في الطهو."
وأشارت الى ان "الهريسة في الغالب تؤكل مُحلاة من خلال إضافة السكر لها أو الدبس ويضاف لها في الغالب السمن الحيواني كذلك الدارسين، وهو من مطيبات الطعام .فلكل شخص أو عائلة خصوصيتها بعمل الهريسة."
وإستطردت "كما متعارف عليه في يوم عاشوراء أي في العاشر من محرم تمتنع العوائل عن الطبخ لان هذا اليوم يوم عزاء للجميع . والشائع ان صاحب العزاء لا يطبخ الطعام لنفسه ..وهنا يشعر الجميع أنهم أصحاب العزاء فيمتنعون عن طبخ الأكلات الاخرى."
وتابعت "وهنا يتم الاعتماد على الهريسة التي تعمل بداخل البيت أو توزع من قبل الآخرين." مضيفة أنه "في يوم عاشوراء يكون هناك أمساك حتى فترة الظهر ويتم الإفطار ظهراً على الهريسة التي تم طبخها ليلاً أو من خلال أي طعام أو شراب." .
ومن جانبه ،قال السيد محمد هاشم وهو صاحب محل تجاري إن "الحبية التي تعمل منها الهريسة في الوقت الحاضر يتم استيرادها من عدة مناشىء فهناك حبية من سوريا وأخرى من تركيا ومن إيران وهناك حبية محلية."
وأضاف أن "سعر الكيلو منها يتراوح مابين 500 الى 1250 دينار حسب النوعية.. لكن المرغوبة أكثر هى الحبية السورية فهي ذات حجم كبير ومقشرة بشكل جيد."
وأشار الى أن أيام عاشوراء تعتبر بمثابة الموسم بالنسبة للإقبال على شراء الحبية لأن غالبية العوائل تشتريها وتعمل منها الهريسة خلال شهر محرم.
ولكنه إستدرك قائلا إنه "في الأيام العادية هناك من يشتري الحبية ويعمل الهريسة أيضا لأنها من الأكلات الطيبة ، لكن تبقى للهريسة في أيام عاشوراء نكهة مميزة ولها مدلولات تاريخية وإيمانية أيضا."