[frame="2 80"][align=center]

[align=center]قصة ابن العلقمي والخواجة الطوسي وسقوط بغداد
حكاية أسطوانة مشروخة أخرى..




[size=3]بقلـــــــــــــــــــم المفكر المغربي السيد ادريس هاني[/align]

[/align][/frame]
[align=justify]

رأيت


أكثر من استقبل غزو العراق المنكر من قبل قوات التحالف بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية ، تنتابهم غواية أنكر ، تستمتع بلعبة خلط الأزمنة وتتحكم بأذهانهم نزعة الأشباه والنظائر إلى حد الفحش.. فقد التفتوا إلى تراث الغابرين بخفة نظر وقلة ورع.. واستدعوا من أحجيات القدامى ما لا يقبله لب ولا يستسيغه خاطر..وبينما عز عليهم أن يقرؤوا الأحداث بعين الحاضر ويستنبطوا العلل من الحوادث المحدقة بهم ومن معطيات معقولة وفاعلة في منطق الدول ومعاش الأمم، راحوا يقمسون بدلاء الجهل في صور ما مضى قبل قرون خلت لم تكن قد ظهرت الدولة الحديثة ولا حدث ما حدث في مسرح العمران البشري من انقلاب في الموازين وتحولات في النهج السياسي وتمخضات في الثقافة السياسية..وهب أن ما قد قاسوا حاضرهم به كان من صحيح ما أرخوا له، إذن لعذرناهم وقلنا إن القوم مأخوذون بالتاريخ أخذ الممسوس أو المولع بغريب الإخبار. لكن مصيبتهم أن تاريخهم لا يزال محفلا للأغلاط المستقبحة وبؤرة للظلم الفاحش وصناعة للتحريف والتزييف..فلنصحح تاريخنا قبل أن نزفه أنموذجا نقيس به حاضرنا البئيس..ولننظفه من آثار التزييف والتخريف والتهريج قبل أن ننصبه معمدا لوعينا المعاصر وشعرا نستقبح به ما نشاء ونهجو ونستحسن به ما نشاء ونمدح..حيث التاريخ غدا عندنا شعرا لا علما..تحيزا لا تموضعا..إنصافا لا تجديفا..ولا أدل على ذلك مما نسمعه اليوم كطنين تصم له الآذان كل منصف ، من ترديد عبارات وكليشهات مغالطة متناقضة تفيض جهلا وكراهية وتفاهة..صفويون ، مجوس ، كسرويون ـ وهو تكفير لأمة بكاملها وقاحة بلا أدنى حياء ـ وما شابه مما ناقشناه في مناسبة أخرى.. وهي شعارات ليس فقط أن بها مس عنصري هجين، بل بها مس تكفيري وكراهية تسعى لتوتير وضع أمة بكاملها ، بالتحريض الطائفي الذي نجحوا إلى حد ما في صبه على العراق صبا..وقد رأينا كلما ما حلت بفنائهم هزيمة منكرة ، وجهوا اللوم تلو اللوم إلى الآخر بدل توجيهه إلى أنفسهم..وفي أحسن الحالات وجهوا لومهم إلى قريب يشاركهم التاريخ والدين والحضارة بدل أن يوجهوه إلى غريب يتربص بأوطانهم وسيادتهم..كنت أرى في هذا التهريج أمرا خطيرا..فإن كنا لن نرحم أهل فارس ونعلق كل فشل الأمة عليهم ، فلماذا فتحناها ولما فرحنا بالقادسية أصلا ؟! وهل فرحتنا تلك كانت فرحة قومية أم دينية..فلنحدد موقفنا ولنمحض مشاعرنا..فنحن نرتكب في تعبيراتنا ما لم ترتكبه فارس.. لقد ندم بعض العرب على دخول فارس إلى الإسلام ، فليس من مخرج إلا أن نمحوا آثار فارس من لوح الوجود وربما ستتبعنا لعنة الايرانوفوبيا بعد ذلك. كما وجدنا بعض محترفي الكراهية يقول: علينا أن نطرد إيران من منظمة المؤتمر الإسلامي ومن اتحاد المسلمين..وهو يعتقد أن هذه الهيئات تستحق أن نحرم منها إيران!؟ ..إيران قائمة بذاتها لا بغيرها كدولة لها أكثر من
رهان لو شاءت ذلك..

[align=center][frame="8 80"][align=center]إن الذي يتحدث اليوم عن الصفوية باعتبارها عنوان التدخل الإيراني في العراق ، هم أنفسهم من يتحدث عن خيانة ابن العلقمي، وبالتالي عن شيعة العراق. تعددت العناوين والمقصود واحد: أن الشيعة شر سواء أكانوا عراقيين أو إيرانيين..أكثرية أم أقلية..وحدويين تقريبيين أو طائفيين..متدينين أو علمانيين..رجال دين أو مثقفين...[/align][/frame][/align]


فالعرب هم الذين في حاجة إلى إيران وليس العكس..وهم اليوم يسعون بتحريضهم ذاك وتهريجهم إلى أن تختار إيران الاصطفاف في المشروع الأمريكي والصهيوني ،ـ كما كان الشاه يوما يعربد فوق رؤوسهم ولا أحد امتلك الجرأة أمام الإمبراطور الجديد رضا بهلوي ـ ولا أعتقد أن إيران بثقلها التاريخي والحضاري والجيو ـ ستراتيجي تطمح أكثر مما تطمح إليه دولة صغيرة مثل قطر...ندرك أن دعوى هؤلاء هي أبعد من إيران ، لأنها مفضوحة في عناوينها ومفضوحة في تعبيراتها..فهي تقصد القضاء على شيعة العراق ، إنهم لا يميزون بين أحد منهم حتى لو كانوا عربا أقحاح..وليتك تدرك أن العقلية ذاتها التي تدعوا إلى طرد إيران من منظمة المؤتمر الإسلامي هي نفسها التي تدعوا إلى إمكان أن تتمتع إسرائيل بعضوية في جامعة الدول العربية..حتى أن بعضهم يخفي كراهيته الجنونية لشيعة العراق بمزيد من التمسرح التسامحي مع كل ملل الدنيا كما يفعل الحاقد الدغيم الذي تفضحه كل كلمة يقولها بأنه تاجر هجاء لئيم وحامل كراهية أثيم ، بعد أن كفر أمة بكاملها وخلط اليابس بالأخضر. فالحديث عن الصفوية والخطر الإيراني هو تكتيك يخفي استراتيجية كبرى ، هي عدم السماح للشيعة العرب بأن تكون لهم مكانة في دولهم حتى لو كانوا أغلبية فيها كما هو وضع العراق..وهي دعاوى تصرف الأمة عن التفكير في عدوها الحقيقي..فالذين يهجون الصفوية صباح مساء، هم أنفسهم الذين يهجون المقاومة اللبنانية ويتهمونها بالخيانة..وكان على أهل العراق لا سيما سنتهم أن لا يستسلموا لهذه الدعوات المغرضة التي ورثوها عن العهد الصدامي أو جاءتهم من الخارج، لتزج بالعراق في عداوة دائمة مع جيرانه ، وتحويله من دولة قوية مستقلة حرة مسالمة إلى حربة في خاصرة الجيران..كأن صدام لم يعدم..وكأنهم يرسمون للعراق مغامرة لقادسية صدامية جديدة ، تغرق العراق في مصير مجهول من الحروب والتوترات..إن العراق هو أكبر من أن يخشى عليه إذا قامت دولته..والعلاقة بين العراق وإيران هي الضمانة الوحيدة لاستقرار المنطقة..وما نسمعه من تهريج وما ينسج من عناوين طاعنة في التخريف والبلادة ، هو محاولة غبية لتوتير مستدام للمنطقة..

[align=center][frame="8 80"][align=center]إن صحت حكاية الجيش المغولي الذي لا يقهر ، كان موقف ابن العلقمي أو الطوسي صحيحا..وإن صحت حكاية "لولا خيانة ابن العلقمي لما سقطت بغداد"، كان تصويرهم للجيش المغولي الذي لا يقهر كذبة ..فأيهما نختار؟[/align][/frame][/align]

لا أريد أن استطرد أكثر في هذا الموضوع .. بل حسبي أن أقف عند فرية أخرى من فيض جهالتهم وتخريفاتهم ، التي استلهموها من تاريخ زاخر بالتزييف وملوث بالكراهية والتحرش العنصري والتكفير والكراهية ونزعة الاستئصال..ومنها أن رأينا بعضهم يقرأ في سقوط بغداد أمام الغازي الأمريكي سقوط بغداد نفسه أمام الغازي المغولي..وبينما تراءى لهم أن هذا السقوط ما كان له أن يتم لولا خيانة بن العلقمي . فسقوط بغداد اليوم لم يتم إلا بعد خيانة شيعة العراق بالجملة ـ لا يهم حتى لو كانوا أغلبية أهل العراق ـ..التاريخ يعيد نفسه؛ هكذا قالوا . لكن الحقيقة هي أن الجهل يعيد نفسه في وعي الذين قرءوا الأحداث على أساس هذا النمط الهجين من التحليل الذي يعلن قطيعته مع شروط العصر وتناقضات المرحلة المعاصرة ويستند إلى قراءات إذا صح نهجهم فهي لم تصح تاريخيا وإذا صحت فلن يصح نهج الخلط بين أنماط العمران التاريخي..

أصبحت هذه الأكذوبة رائجة وتشاع بوسائل الإعلام حتى باتت شهرتها في الإعلام تفوق كل شهرة..في حين أن ذلك مهما كان لن يجبر كسر ضعفها الذي يعبر عن وجهة نظر من كانوا بالأمس كما اليوم يقفون مواقف سياسية ضد شيعة العراق أو إيران ، فوجهوا لهم تهمة الخيانة في سقوط بغداد. إن الذي يتحدث اليوم عن الصفوية باعتبارها عنوان التدخل الإيراني في العراق ، هم أنفسهم من يتحدث عن خيانة ابن العلقمي، وبالتالي عن شيعة العراق. تعددت العناوين والمقصود واحد: أن الشيعة شر سواء أكانوا عراقيين أو إيرانيين..أكثرية أم أقلية..وحدويين تقريبيين أو طائفيين..متدينين أو علمانيين..رجال دين أو مثقفين..فهل درى هؤلاء ما هو وجه الحقيقة في قصة التتار وسقوط بغداد قبل أن يملؤوا ضجيجا بهذا الزيف التاريخي؟!..

يرى البعض أنه لولا خيانة الوزير ابن العلقمي لما سقطت بغداد..ولكنهم يرون أيضا في موارد أخرى بأن أمر التتار كان خطيرا..فرسموا لهم صورة تكاد تقارب الأسطورة ، وكأنهم فرسان من الجن..فلئن كان الأمر كذلك فلما اللوم على ابن العلقمي أو نصير الدين الطوسي..فإن صحت حكاية الجيش المغولي الذي لا يقهر ، كان موقف ابن العلقمي أو الطوسي صحيحا..وإن صحت حكاية "لولا خيانة ابن العلقمي لما سقطت بغداد"، كان تصويرهم للجيش المغولي الذي لا يقهر كذبة ..فأيهما نختار؟


[align=center][frame="8 80"][align=center]



إن الزج بالشيخ الطوسي وهو الأسير في هذه المؤامرة دونه خرط القتاد..بل يظهر من خلال الفحص أن التلويح بذلك له أسباب طائفية ومذهبية، لذا لم تجد عند المؤرخين الذين أرخوا لسقوط بغداد أي دور للطوسي في هذا السقوط ..بل تجدها عند ابن تيمية حيث تناقلها بعض تلامذته كابن قيم الجوزية.. وحتى ابن كثير حينما يروي قصة قتل الخليفة لا يتهم الخواجة نصير الدين بالصورة الجازمة التي سيتحفنا بها ابن تيمية على عادته في إطلاق التهم من دون تحقيق..
[/align][/frame][/align]

[align=center][frame="8 80"][align=center]إذا كانت تهمة ابن تيمية للطوسي في هذا الجرم تصح ، كان علينا أن نصدق اتهامه بالكفر والإلحاد والزندقة وترك الصلاة وما إليها من تهم رجما بالغيب..ولا أدل على ذلك اعتراف من ترجم له من أهل العلم والسلف بالفضل والعلم والصلاح..بل لا أدل على ذلك أن ابن تيمية وصف غير الخواجة الطوسي بأنكر من ذلك وقد عرفوا بالفضل والصلاح أيضا عند أهل التراجم المعتبرين ..[/align][/frame][/align]


والحق أن المغول كانوا جيشا عرمرم سارت به الركبان، لا قبل لجيوش المنطقة حينئذ به..فلقد غزو الصين وبكين والحقوا بها خسائر واستولوا على بعض من بلادها..لقد فتكوا وقتدلوا ودمروا من دون رحمة..ثم إن الأمر لم يكن يتعلق ببغداد وحدها حيث بفضل العلقمي نجت من التدمير المغولي المتعارف ، فلقد دمروا إمبراطورية خوارزمشاهية و قضوا على جيش جلال الدين بن محمد..وقد كانت خوارزمشاه تتمتع بقوة عسكرية كبيرة واصلت قتال المغول ومقاومتهم بلا جدوى..وكان جلال الدين مصرا على عدم الاستسلام فخاض معهم معارك وصلت إلى بلاد الهند..هذا بينما كانت بغداد تعاني من ضعف قياداتها وفساد ملكهم..وقد تنبه بروكلمان إلى فرية الخيانة ليقول بأن الخلافة بعد وفاة الناصر الموصوف بالحزم والهمة آلت إلى خلفاء ضعاف ـ الظاهر بأمر الله ، والمستنصر بالله ، والمستعصم بالله ـ..ويقول بروكلمان:" والحق أن هولاكوا ما كان في حاجة إلى أن يحرض الشيعة من الفرس كالطوسي مثلا ، على قصد بغداد والاستيلاء على هذه الغنيمة الباردة".


[align=center][frame="8 80"][align=center]ابن العلقمي الذي شيطنوه سياسيا ، فيحكي أبو الفداء في تاريخه عن فتنة جرت بين السنة والشيعة بالكرخ ، وكانوا روافض مثلما كان الوزير مؤيد الدين ابن العلقمي رافضيا..فأمر أبو بكر ابن الخليفة وركن الدين الدوادار العسكر فنهبوا الكرخ وهتكوا النساء وركبوا منهن الفواحش ، فعظم ذلك على الوزير ابن العلقمي فكاتب التتر وأطمعهم في ملك بغداد..ومع أن المؤرخ أبى الفدا اعترف بأن الخليفة فتك بأهل الكرخ وهتك نساءهم ، إلا أن هذا الربط بين الفتك بأهل ابن العلقمي وإطماع هولاكو ببغداد يبقى مجرد تهمة بلا دليل..فكان أحرى أن نقبل شهادته ولا نقبل استنتاجه![/align][/frame][/align]


والحق أن لا أحد يريد أن يقرأ التاريخ العربي والإسلامي قراءة سياسية..فإذا قبلنا بفرية خيانة ابن العلقمي وتسليمه بغداد ورأس الخليفة المستعصم للمغول، كان أولى أن نصدق بحكاية من قال أن الخليفة الناصر العباسي كان أول من اتصل بجنكز خان وحرضه على غزو خوارزم لإشغالها عن الخلافة في بغداد بالحرب..وقبل أن نعود إلى بغداد والعلقمي ، يجدر بنا أن نتحدث عما اقترفه المغول في فارس..يحاول بعض المؤرخين أن يصوروا نوعا من التحالف كان قائما بين فارس والمغول..ولم يتوقفوا مليا عند الدمار الذي لحق بفارس من قبل زعماء المغول وقوة الفتك الذي ألحقوه بأبنائها..وما احتفاظهم بالطوسي إلا بعد أن لا حقوه وكان أسيرا بحصن ميمون في آلموت، بعد أن أمسكوا بنصير الدين وفتكوا في من كانوا يعرفون بالحشاشين يومها وقتلوا منهم خلقا كثيرا..وحيث أنهم قاتلوا هؤلاء وإن كانوا إسماعيلية ، فإننا نشير إلى أن أحد أحفاد هولاكو المدعو غازان وهو المغولي الذي تخلى عن البوذية واعتنق الإسلام كان قد اختار المذهب السني.. وكان أخوه ألجايتو خدابنده قد تحول إلى التشيع..فالمسألة أكبر من كونها طائفية أو مذهبية . فالمغول كانوا غزاة وقد أسلموا بعد أن فتكوا بالمسلمين سنة وشيعة..هذا في الوقت الذي كان العالم الإسلامي يعاني من تدهور شديد وضعف في قياداته وفساد سياسته..لكن ما قصة الخواجة نصير الدين الطوسي والعلقمي و المغول؟

[align=center][frame="8 80"][align=center]أ لقد سعى الخواجة نصير الدين وقبله الوزير العلقمي عبثا إلى تجنيب بغداد كارثة محققة من قبل المغول ، لكنهم في الوقت نفسه استطاعوا التأثير على سياستهم باتجاه استيعابهم واحتوائهم وهو ما يفسر أسلمة المغول لما أصبحوا جزءا من الحضارة الاسلامية [/align][/frame][/align]


[align=center][frame="8 80"][align=center]



لم تسقط بغداد بالأمس على يد الحاكم المغولي بخيانة الوزير ابن العلقمي أو إشارة الخواجة نصير الدين الطوسي..كما لم تسقط بغداد اليوم بسبب خيانة شيعة العراق أو إشارة من المعارضة العراقية بالأمس..هذا اختزال هجين ..كل ما هنالك أن الاستبداد وسياسة الاستئصال والجرم السياسي المشهود ساهم في سقوطها اليوم مثل أمس..لكن بغداد بعد كل نكبة تنهض وتستوي على ساقها وترسم لها مستقبلا جديدا قبل أن ينقض عليها طاغية جديد فيوردها موارد القابلية للاستعمار..
[/align][/frame][/align]


إن الزج بالشيخ الطوسي وهو الأسير في هذه المؤامرة دونه خرط القتاد..بل يظهر من خلال الفحص أن التلويح بذلك له أسباب طائفية ومذهبية، لذا لم تجد عند المؤرخين الذين أرخوا لسقوط بغداد أي دور للطوسي في هذا السقوط مع وقوف بعضهم عند ابن العلقمي لأسباب سنأتي على ذكرها مع التحقيق..بل تجدها عند ابن تيمية حيث تناقلها بعض تلامذته كابن قيم الجوزية.. وحتى ابن كثير حينما يروي قصة قتل الخليفة لا يتهم الخواجة نصير الدين بالصورة الجازمة التي سيتحفنا بها ابن تيمية على عادته في إطلاق التهم من دون تحقيق، بل اكتفى بقوله أن من الناس من يزعم أن الطوسي أشار على هولاكو بقتل الخليفة ، مردفا قوله بعبارة :"فالله أعلم"..بل لعله استبعد ذلك لما أشار :" وعندي أن هذا لا يصدر من عاقل ولا فاضل". ثم أثنى على علمه وفضله ..ومثل ذلك نجده عند من ترجم له من أمثال الذهبي وأبي الفدا ونظرائهما..وإذا كانت تهمة ابن تيمية للطوسي في هذا الجرم تصح ، كان علينا أن نصدق اتهامه بالكفر والإلحاد والزندقة وترك الصلاة وما إليها من تهم رجما بالغيب..ولا أدل على ذلك اعتراف من ترجم له من أهل العلم والسلف بالفضل والعلم والصلاح..بل لا أدل على ذلك أن ابن تيمية وصف غير الخواجة الطوسي بأنكر من ذلك وقد عرفوا بالفضل والصلاح أيضا عند أهل التراجم المعتبرين .. ويكفي أن كتابات الطوسي في الإلهيات والتوحيد هي مما لا يرقى إليه نظراء عصره..وحسبك كتاب تجريد الاعتقاد الذي لا يزال قبلة المتكلمين ومتنا كثرت حوله الحواشي والشروح.. وكان ابن تيمية قد وصف بأفحش الوصف تلميذا له هو ابن مطهر الحلي المعروف بالعلامة والذي وضع شرحا على تجريد الاعتقاد للطوسي ، وهو صاحب منهاج الكرامة الذي وصفه ابن تيمية بابن المنجس واتهمه بالشرك وما ترك من صفة مستقبحة إلا ونعته بها في كتابه منهاج السنة الذي هو في الأصل رد على كتاب نهج الكرامة للعلامة ..لكن الطريف في الأمر أنه لما التقاه بالحج واعجب بآرائه الفقهية دنى منه وسأله من يكون ، فقال له الحلي: أنا الذي سميته ابن المنجس ، فحصل بينهما كما يقال بعض أنس ومباسطة..إذا كان ابن تيمية يصف تلميذا للخواجة نصير الدين الطوسي بكل التهم وهو لا يعرفه ، فقس ذلك على موقفه من الخواجة نصير الدين الطوسي..هو الجهل إذن..لا بل الجاهلية نفسها..وفي الجاهلية يعتبر هذا مخالفا للمروءة..

أما ابن العلقمي الذي شيطنوه سياسيا ، فيحكي أبو الفداء في تاريخه عن فتنة جرت بين السنة والشيعة بالكرخ ، وكانوا روافض مثلما كان الوزير مؤيد الدين ابن العلقمي رافضيا..فأمر أبو بكر ابن الخليفة وركن الدين الدوادار العسكر فنهبوا الكرخ وهتكوا النساء وركبوا منهن الفواحش ، فعظم ذلك على الوزير ابن العلقمي فكاتب التتر وأطمعهم في ملك بغداد..ومع أن المؤرخ أبى الفدا اعترف بأن الخليفة فتك بأهل الكرخ وهتك نساءهم ، إلا أن هذا الربط بين الفتك بأهل ابن العلقمي وإطماع هولاكو ببغداد يبقى مجرد تهمة بلا دليل..فكان أحرى أن نقبل شهادته ولا نقبل استنتاجه!


يتعين إعادة النظر في الطريقة التي تم التأريخ بها لعلاقة بعض الأعلام ببعض الملوك والوزراء، لا سيما ما يتعلق بموقف نصير الدين الطوسي من هولاكو ..هذا التوصيف المسرف الذي حاول توريط كل من الوزير العلقمي والخواجة نصير الدين الطوسي في مسؤولية سقوط بغداد فيه الكثير من المبالغة والتعسف..كان الوزير العلقمي شخصا مولعا بالعلم وتشجيع العلماء على التصنيف والتأليف ، ويكفي فخرا أن صنف له ابن أبي الحديد المعتزلي كتاب شرح نهج البلاغة ، الذي تضمن ما جمعه السيد الرضي من خطب للإمام علي ابن أبي طالب..حتى أن الوزير ابن العلقمي الشغوف بالعلم أعجب بكتاب نهج البلاغة وقال فيه أبياتا:

[align=center]كلام إذا ما الدر قويس iiقيمة
وحسنا به يوما فقد وصف iiالدر
وإن حير الأذهان تيها ، فإنني
أنزهه عن أن أقول له iiسحر
وإن أسكر الألباب لطفا iiفإنه
على ما أرى لولا طهارته خمر
[/align]

وقد مدحه الشاعر كمال الدين بن البوقي بأبيات جاء فيها:

[align=center]مؤيد الدين أبو iiطالب
محمد بن العلقمي الوزير
[/align]

يقول ابن الطقطقا صاحب الفخري بخصوص هذا البيت:" وهذا بيت حسن جمع فيه بين لقبه وكنيته واسمه واسم أبيه وصنعته"..
ويقول صاحب الفخري أيضا في وصف الوزير العلقمي:" وكان مؤيد الدين الوزير عفيفا عن أموال الديوان وأموال الرعية متنزها مترفعا"..كما يذكر أن جميع أعوان الخليفة كانوا يكرهونه ويحسدونه بينما أحبه الخليفة ، وينفي عنه صاحب الفخري أنه خامر حتى أن الفخري اعتبر أكبر دليل على عدم مخامرته تسليم هولاكو البلد إليه إشارة إلى سلامته في هذه الدولة. فلو كان قد خامر على الخليفة حسب صاحب الفخري لما وقع الوثوق إليه..وحينما يتحدث ابن الطقطقا عن لقاء الوزير العلقمي بالسلطان المغولي ، وتوسط نصير الدين الطوسي في هذا اللقاء يصفه :" وكان الذي تولى تربيته في الحضرة السلطانية الوزير السعيد نصير الدين الطوسي قدس الله روحه(...)ـ انظر الفخري ، في الآداب السلطانية والدولة الاسلامية، ص338 دار صادر، بيروت ، بلا تاريخ ـ ..هذا عن ابن العلقمي وكذا الخواجة نصير الدين.. وهي مواقف لا تختلف كثيرا عن غيره..فثمة من تقرب من التتار من الأعلام دون أن تلاحقه لعنة الخيانة..وحسبك موقف ابن خلدون من تيمورلانك التتري حيث قدم له استشارات غاية في الأهمية وكان معه على صلة ولم يثر ذلك ما أثارت الصله بين الخواجة وهولاكو على الرغم من أنها انعكست إيجابا على العالم الإسلامي وجعلت السلطان المغولي يتحول إلى خادم للعلم الإسلامي كما لا يخفى..وكان إيف لا كوست في كتابه عن ابن خلدون قد تحدث حول الصلة بين ابن خلدون وتيمورلانك:"..لقد قدم المؤرخ المغربي للأمير المغولي وهو أسيره معلومات جد دقيقة حول عدد كبير من البلدان، وامتدح انتصاره بتفصيل بالغ، بحيث أنه تحول من أسير للفاتح إلى ضيف . وقد أخذ تيمورلانك بابن خلدون ، إلى الحد الذي جعله يقترح عليه ، ولكن عبثا ، الدخول في خدمته ، بصفة مؤرخ ومستشار" .

أجل لقد سعى الخواجة نصير الدين وقبله الوزير العلقمي عبثا إلى تجنيب بغداد كارثة محققة من قبل المغول ، لكنهم في الوقت نفسه استطاعوا التأثير على سياستهم باتجاه استيعابهم واحتوائهم وهو ما يفسر أسلمة المغول لما أصبحوا جزءا من الحضارة الاسلامية كما تدل على ذلك آثارهم في العراق و إيران وسمرقند وغيرها من البلاد التي امتد إليها نفوذهم..غير أن ثمة ما يستدعي القول بأن الوضع الاستثنائي للشيعة في ظل السلطة الجائرة يومها ، يفرض عليهم مبادلة كل ملك أو وزير مكنهم من بعض حقوقهم أو أبدى المحبة لأهل البيت ، وهو أمر ممكن أن يتكرر في زماننا ، حيث موقف الشيعي يصبح إيجابيا مع كل من رفع عنهم الجور واعترف لهم بالحقوق وعاملهم معاملة على أساس المواطنة من دون تمييز.. وليس لذلك معنى سوى أن مثل هذه العلاقة تتقوم بما يبديه هؤلاء من حسن المعاملة لا من حيث هي علاقة تآمرية ، فتأمل!

لم تسقط بغداد بالأمس على يد الحاكم المغولي بخيانة الوزير ابن العلقمي أو إشارة الخواجة نصير الدين الطوسي..كما لم تسقط بغداد اليوم بسبب خيانة شيعة العراق أو إشارة من المعارضة العراقية بالأمس..هذا اختزال هجين ..كل ما هنالك أن الاستبداد وسياسة الاستئصال والجرم السياسي المشهود ساهم في سقوطها اليوم مثل أمس..لكن بغداد بعد كل نكبة تنهض وتستوي على ساقها وترسم لها مستقبلا جديدا قبل أن ينقض عليها طاغية جديد فيوردها موارد القابلية للاستعمار..إن وراء سقوط بغداد دائما قصة طاغية معربد وملحمة طغيان فاحش..فمتى زهق الطغيان قامت بغداد شامخة ومتى حل بها الطغيان سقطت مرغمة ولو أمام جيش من ورق!

[/align]