فيلسوفان و فاشية واحدة


الأشياء الممكنة بين الصدر ومطاع صفدي

بقلم : صادق ناصر الصكَر

عندما قامت صحيفة " لوموند " بنشر المقال الشهير للفيلسوف الفرنسي جان بودريارد والمعنون" ذهنية الارهاب " ، والذي اثار الكثير من اللغط في الاوساط الثقافية الفرنسية بسبب ما اعتبره جمهرة من الكتاب الفرنسيين تعاطفا ً مشعوذا


ً مع الارهاب(حتى ان احدهم قد وصف بودريارد بانه فيلسوف النموذج الارهابي)، آنذاك ، أي عندما نشر المقال، كان جيرار هوبير قد تساءل وهو يعلق على السحر الأسود لمقال بودريارد : " لم كل هذا الحقد؟! لم يعمد فيلسوف يغتذي من انجازات الحداثة الى حرق صنم مثاله هذا ويسلم اسلحته لألد اعدائه “ ؟!.

غلطة النخب

ان بودريارد، وهو " المثقف المرموق وأحد المفكرين الذين لايؤتى على ذكرهم في الوسط الاعلامي الا بقدر من الاحترام ، وأحد الوجوه المرحب بها دوما ً لكفالة كل المعارك، أحسنها وأقبحها " كان يمثل، أي بودريارد ، شخصية تعبر - كما يقول المفكر الفرنسي الان مينك - عن عجز الانتلجنسيا الفرنسية العريق عن الاقرار بوجود سلم للقيم وان الرجوع الى مبدأ اخلاقي ما ليس عيبا ً . الضجة التي رافقت نشر مقال بودريارد، ومع معرفتنا بان الأخير، ككل رفاقه الما بعد حداثيين، ينتج " فكرا ً يكمن تحت سحره عالم انتزعت انسانيته وانحط إلى مصطلح لغوي غير حقيقي، ستذكرنا، أي تلك الضجة، وكما يعبر عن ذلك جاك جوليار ، مؤلف كتاب - غلطة النخب - ، ان " رجلا ً واحدا ً قد تمكن من شفاء الانتلجنسيا الفرنسية من كراهيتها للتقدم، هذا الرجل يدعى كارل ماركس ، لأنه - وهنا عبقريته - قد ربط بين فلسفة البروليتاريا وفلسفة التقدم ، وبتبنيه الاولى وجد المثقف المحب للبشر نفسه مرغما ً على ان يرفدها بالثانية ، وبهذا صار مثقفا ً تقدميا ً . اما التتمة فمشهورة، انها تتمة حزينة على غرار قصص الحب . كان ينبغي ، بل كان كافيا ً ، ان تنهار الماركسية لكي تنهار معها تقدمية المثقفين " ( ربما كانت تقدمية ماركس ، على طريقته الخاصة، ونزعته الانسانية التي بذل التوسير المستحيل في مطاردتها واقصائها، واحتقاره - أي ماركس - لكل الحركات البهلوانية والسحرية في تاريخ الفلسفة، هي ما كانت مثارا ً لكلمات الاحترام التي اطلقها، بحق ماركس، الاستاذ الشهيد محمد باقر الصدر على صفحات كتابه العظيم - اقتصادنا - مع انه كان يقوم بحملة نقدية، لا هوادة فيها، على الماركسية وماديتها التاريخية .
موضوع بودريارد ، واعتراف مينك المتأخر بجوهرانية المبدأ الاخلاقي في الممارسة الخطابية وانتاج النصوص ، اعادتني الى تلك الصورة الضوئية التي ظهر فيها الفيلسوف العربي مطاع صفدي على شاشة التلفزيون العراقي ليعلن تضامنه مع الفاشية القومانية بعيد التهامها الكويت ودفعها للعراق نحو الخراب الشامل بعد ان وضعته امام فوهة المدفع الإمبريالي ... وليست القضية هنا ، وأنا افكر بالكتابة عن اكثر الجوانب قدرة على الجذب لدى الفلاسفة الذين لا يعرفون أن كل شيء ممكن ، أمثال محمد باقر الصدر، هي - فقط - قضية تحالف صفدي مع " رجل فارغ وجائع للمديح ، غير راض وغير مرض، مثل صدام ، وبطريقة هي أقل حياءً بكثير من تعاطف بودريارد مع الارهاب المحض، بل هي -اضافة لذلك - تتمثل بالتناقض القاتل بين الاصطفاف مع الفاشية ، بوصفها أحد أشد السموم الشمولية والتوتاليتارية فتكا، وبين النقد الما بعد حداثي الذي لم يتوقف مطاع صفدي ، منذ اكثر من عقد ونصف، عن توجيهه، وبلغة قاسية، لكل اليقينيات والشموليات والايديولوجيات.

صراع الهويات

إننا، وحسب احدث فتوحات النقد الثقافي والدراسات الثقافية التي تؤكد " أن كل ما هو دال فهو لغة وخطاب تعبيري سواء كان حركة أو فعلا ً أو هيئة أو نصا، لأن كل ذلك أنظمة في الخطاب، سنكون إزاء نوع من الأبوريا وهي اللغز أو الأحجية أو المعضلة ، وهي في الفلسفة اليونانية مشكلة يصعب حلها بسبب التناقض في الموضوع نفسه أو في التصور الخاص به .. إذ كيف لي أن أفهم ، على مستوى التلقي، ذلك التقاطع المدوخ، الذي لا يجيد ابتكاره سوى الفلاسفة الذين يعرفون أن كل شيء ممكن ، بين مقولات الحداثة البعدية لدى صفدي في كتبه الأخيرة (راجع، على سبيل المثال، كتابيه: نقد العقل الغر بي، ونظرية القطيعة الكارثية)، وبين تضامنه مع الفاشية العراقية .كان كمال ابو ديب ، في مقدمته التي كتبها لكتاب " الثقافة والامبريالية " لأدوارد سعيد، وبقطع النظر عن اختلاف الموضوع، قد تنبه إلى انزراع تناقضات كهذه لدى بعض المفكرين، إنه يقول: " وارى فكر سعيد في ازمة تقوض بعض مرتكزاته ، بالمدلول الدريدائي للتقويض: فهو الفلسطيني العربي الذي لا أعرف الكثيرين ممن حاربوا دفاعا ً عن الهوية الفلسطينية أكثر منه، غير أنه، على مستوى آخر، نبيُّ رفضَ الهويات. وما أظنه سيحل هذا التعارض في فكره وذاته، ولكن ابو ديب، وبدلا ًمن المبادرة لاستخلاص الدروس الثقافية الخطيرة والمؤثرة من هذه الظاهرة ، فإنه يتحرك بإتجاه اقرب الحلول الايهامية الساذجة لطمر الازمة والقفز إلى ما ورائها، عندما يكتب: " لا اريد له ان يفعل شيئا ً لحل هذا التعارض ، فهو احد اسرار الوهج والقلق الانساني اللذين يشعان من كتاباته ويعطيانها حيويتها " ... هل سيكون بإمكاننا، إذن ، وحسب الاطار المفهومي العام لهروب أبو ديب من أمام تناقض طروحات صديقه، أن نستمتع بمراقبة مطاع صفدي وهو يقوم باستعراض مهاراته الخطابية في تحبيك القصة الفاشية لإن هذا التحبيك هو أحد أسرار الوهج والقلق الانساني في فكر صفدي !! . إنني ، وقبل أن أنتقل إلى محمد باقر الصدر بوصفه واحدا ً من اولئك الذين لا يعرفون أن كل شيء ممكن، لا أريد أن أكتفي بخطاب المماحكة الأخلاقية لصفدي على تحالفه المشبوه مع الفاشيست ، وهو في أوج نضجه النظري ، مع امتلاكي لحق الإكتفاء بذلك (الفرنسيون فعلوا ذلك مع بودريارد دون أن يقال لأحدهم أنك تقليدي وأمي أو أنك لا تعرف شيئا ً عن نزوات المثقفين)، ولكنني احاول أن أتعرف، وأنا اتأمل امتداد الخط المعرفي والاخلاقي لدى الصدر على استقامته، على الأبوريا التالية : إن الحداثة البعدية لدى مطاع صفدي ، وهو يبشر بحكايتها الكبرى بطريقة هي أشبه ما تكون بالاستعارات الهلوسية المتكررة ، كانت تأتي دائما ً على لسان صفدي بوصفها هدما ً واقتلاعا ً لكل المفاهيم والأفكار والموروثات الايديولوجية التي قد تفتتح افقا ً ، ولو محدودا ً ، يسمح بعودة الكليانيات المنقرضة ، يقول صفدي : " لقد تخطى الفلسفي تاريخ تعريفاته كلها حتى أقتنع اخيرا ً بموقع اللاموقع الذي كان يسكنه دائما ً ولا يرضى به ، ويحاول من مذهب إلى آخر أن يبتكر لنفسه بوصله للهداية، لا يلبث أن يحطمها ليلتقط أخرى ، كيما يتجاوزها، وهو يدعو، دائما ً، إلى استعادة السؤال الفلسفي، الما بعد حداثي طبعا ً ، وانبثاقه من تحت صخور الايديولوجيا ... ولكنه - إلى جوار ذلك - لا يتردد في اطلاق خطابه المتضامن ، وبلغة اصطفائية قبيحة ، مع الجلاد الفاشي في بغداد في منعطف حرج ، اخلاقي اكثر من كونه ابستمولوجيا ، يفرض علينا ان نقوم بمصادرة الذاكرة الثقافية الخاصة بقراءة مطاع صفدي الذي اتفق كل الباحثين المعنيين بحضور الفكر الما بعد حداثي في الخطابات الثقافية العربية المعاصرة على انه- في نهاية الأمر - كان واحدا ً من " اولئك المعادين ، لصالح التفكير والبحث في الموجود واللامفكر فيه والانتماء إلى فلسفة الاختلاف ، لأية فلسفة حول الهوية المركزية باسم العمومية والخصوصية ، واحاديثه المطولة - أي صفدي - عن لغة هي سكن للكينونة وانتفاء تصور وجود خارج اللغة وما يعنيه ذلك من أن نظام الإحالة لا يقدم حلا ً شافيا ً لإن الإحالة ستسلمنا بالضرورة إلى إحالة اخرى في حركة تقهقر لا متناهية من إصل إلى آخر وهكذا .. من هنا عدم كفاية المفهوم وعدم اهلية نظام الاحالة ، ولعلنا ، هنا ، نشهد إقتراب صفدي من مظلة فكر الاختلاف الذي انبثق مع هيدغر وتكرس مع دريدا.

اوهام المستقبل

كلنا يعرف صدام وفضيحة إذلاله للعراق بعد احتلاله للكويت ، انه - بلغة حنة ارندت - الفاتح التوتاليتاري " الذي لما كان يتصرف انى كان بقساوة شديدة حتى لكأنه في أرضه ، توجب عليه ، في مطلق الأحوال ، أن يتعاطى مع شعبه بقساوة الفاتح الأجنبي ، ولهذا يصح القول تماما ً ان الحركة التوتاليتارية إذ تستولي على السلطة تتصرف أبدا ً شأن الفاتح الأجنبي الذي يحتل بلدا ً ويحكمه لصالح شيء آخر وشخص آخر ، دون صالحه الخاص " ... هل كان صفدي يجهل ذلك ؟! هل كانت الحقيقة التي تقول أن الايديولوجية العنصرية للفاشية العراقية تقع على النقيض تماما ً من تعاليم الحداثة البعدية ونفورها مما تعتبره حكايات بالية عن الحقيقة المتعالية ورسالة التاريخ ومرجعيات الدال في عمق الوجود اليومي ... هل كانت هذه الحقيقة غائبة عن أكبر مروجي ما بعد الحداثة الفلسفية في الثقافة العربية.؟!
أية مفارقة ... صفدي الذي يكتب ، في سياق نقده العصابي للايديولوجيا قائلا ً : " لم يحدث مرة أن تسلطت القوة العارية من أية معيارية وكتب لها الاستمرارية . ولذلك كانت الطوباوية بشكل عام خزينا ً ومؤونة من أوهام المستقبل التي تستخدم تغطية على الاستبداد الحاضري الذي يحتاج الى شعاراتها واسمائها " ، هو نفسه صفدي الذي يقف ، في الصورة الضوئية ، الى جوار اسوأ صناع الطوباويات الظلامية واكثرهم مهارة في ابتداع المراوغات القاسية والمشؤومة لتغطية الاستبداد الحاضري ( الفاشية هي ، على سبيل الجدل ، نسق من المعقوليات ، بقطع النظر عن كونها معقوليات تقف على رأسها أو على أرجلها ، ولكنها - بعد كل شيء - ايديولوجية شمولية تقع في عمق الفضاء المسكون باشباح السرديات الكبرى ، آخر الابتكارات الاصطلاحية والمفاهيمية الما بعد حداثية للكناية عن التاريخ ومقولاته بوصفها مسرودات مكتوبة حسب مقاسات المتخيل الحكائي واساطيره الهائمة على وجوهها بحثا ً عمن يقوم بالارتحال بها من خانة المسحور الى تخوم العقلنة الايديولوجية ، وصفدي يعلم ذلك جيدا ً ، على الأقل في المرحلة التي اعقبت افول أفكار الرومانس القوماني لديه ، وذلك هو مسوغ تشغيل محركات النقد الثقافي للكشف عن الفصام الثقافي الناجم عن اصطفافه مع الفاشية إن ما يرى لا يجد موقعه اطلاقا ً فيما يقال ، هذه هي باختصار طبيعة التناقض، المعرفي و الاخلاقي، في واقعة قيام حاخام الحداثة البعدية في الفكر العربي المعاصر ، مطاع صفدي ، بالإعلاء من شأن الفاشية العراقية ... القضية ليست من اختراعنا لأن ما تقوله تيارات ما بعد الحداثة ، بناءً على ما تم توضيحهُ في الاستشهادات السابقة من نصوص صفدي ، سيجعلنا نفكر في العيوب النظرية والقيمية، غير المستورة، عندما يقال لنا أن بودريارد قد أثنى، ببلاغياته القابلانية، على ايديولوجيا الإرهاب وأن نسخته العربية قد أطلت على الجمهور العراقي، المقموع والمستلب، لتحدثه عن الانتصارات القادمة للفاشية .
هذه الازدواجية، شبه الذهانية، ستعود بنا للتفكير، مرة اخرى، باولئك الذين لم يخذلوا أحدا ً ولم يسببوا حرجا ً لقرائهم بعد أن ظل الخط على استقامته، إنهم اولئك الذين يعرفون أن بعض الأشياء، مثل التحالف مع الفاشية ، ستبقى من الأمور غير الممكنة حتى لو كانت المشهدية الاحتفائية من نصيب الحواة الذين سببوا كثيرا من الخيبات والوجع للعقل والضمير عندما كانوا يحررون الخطابات وكأن كل شيء ممكن بما في ذلك رغبة الفيلسوف في أن يكون ما بعد حداثيا ً وايديولوجيا ً شوفينيا ً، في الوقت نفسه.

روح الكتابة

كان الأستاذ الشهيد محمد باقر الصدر، وها نحن نكتب عن رجال ديفيد روسيه الأسوياء، قد اتخذ منهجا ً عقائديا ً دينيا ً يؤمن بقيادة الإسلام للحياة... كانت مؤلفات الصدر، منذ كتاب الصبا الجميل: "فدك في التاريخ" وصولا ً الى الحلقة الأخيرة في سلسلة الابداع المضيء لدى الصدر، اعني: "المدرسة القرآنية، قد وضعت نفسها دائما، سواء على مستوى السؤال الفلسفي أو السياسي فضلا ً عن حقول اشتغالاته الأخرى، امام موقف البحث عن الاجابة على السؤال الجوهري الذي تذكره المثقفون الفرنسيون بعد شعورهم بالخزي امام مقال بودريارد، وهو سؤال : ما هو قول الحق ؟ ... الصدر كان منسجما ً مع ذاته منذ البواكير ، بمعنى أن فلسفة الصدر الممتدة عبر رحلة من البحث اللامع والقوي جدا ً، تجاوزت الثلاثة عقود ، لم تقع في تناقض مع ذاتها مطلقاً ، ولم يخذل الصدر مرجعياته التأسيسية في الكلمة والموقف ، ولو للحظة ، لأنه كان يعي ، كما تحدثنا الحكايات المشرقة العالقة بتجربة الصدر الفكرية، إن الموقف من العالم بالنسبة للمفكر العظيم لا يمكن ان يكون نهبا ً لمصادفات الإغواء وعوامل الشعور بالخوف والسهو عن تقاطع خطابات المواقف مع المرجعيات النظرية او الاستسلام لخدر التحالفات المريحة مع القوى السلطوية وما الى ذلك من الاحداث والرؤى التي قد تعترض طريق الفيلسوف.
إن روح الكتابة في : " فلسفتنا " ، على سبيل المثال ، وبقطع النظر عن المراجعات النقدية التي اضاءت ذلك الكتاب ، لا تتقاطع مع موقف الصدر الصارم من الفاشية التي كان صفدي قد تحالف معها رغم انف الحداثة وما بعدها ( من يستطيع ان ينسى ان السلطة الفاشية كانت قد عرضت على الاستاذ الصدر ان يقبل بمجرد الظهور في لقاء صحفي عادي، لا شأن له بالسياسة، لتصفية الامور بين الرجل السوي واعداء شعبه، وقد رفض الصدر لأنه كان يعلم ، بحدس الرجال الذين لايعرفون ان كل شيء ممكن، ان ما كتبه في " اقتصادنا، على متانته النظرية وطرافته وجدته، سيغدو وثيقة للتبجح وحب الظهور وحدثا ً قزما ً اذا ما قورن بما قد يوحي، مجرد الايحاء، بالمصالحة بين الصدر والفاشية.

وسادة الكتب

انني اتحدث عن اعظم عقول الثقافة العراقية، على الاطلاق، والذي كان بإمكانه ان يغفو على وسادة من الكتب التي تحمل توقيعه دون ان يورط حضوره الفكري العالمي في نزاع خاسر مع فاشية مستذئبة... ولكن ماذا كان يمكن ان يبقى من الصدر لو فعل ذلك ؟! ، بامكاننا ان نتخيل موقف الصدر، في هذه الحالة من الاذلال ، فقط لو كنا نستطيع ان نتخيل شاشة ضوئية يظهر فيها غرامشي وهو يشرب الشاي مع موسوليني او لوركا وهو ينحني امام فرانكو او فالتر بنجامين وهو يكتب البيانات لادولف هتلر . في الدرس الاخير من دروس "المدرسة القرآنية" كان الاستاذ الصدر قد تحدث عن خذلان احدهم لعلي بن ابي طالب مع انه يعلم ان الاخير يمثل امتدادا للخط الرسالي على استقامته... من خذل عليا ً كان يملك كثيرا ً من المعارف عن الصوم والصلاة واحكام الفقه واخبار الناس ولكن الصدر يعتقد ان التضامن مع سلطة اصحاب النفوذ بدلا ً من الاقتناع بسلطة الحق قد : " افقد الصلاة معناها وافقد الصيام معناه وافقد كل شيء مغزاه الحقيقي " لأن الموقف ، وهو نص النصوص، هو من يشكل فرصة للاطمئنان بان هذا الفيلسوف او ذاك لم يكن يسخر من احد وهو يحدثهم عن جهازه المفاهيمي بوصفه الدواء المضاد لكل السموم الثقافية (في هذه النقطة، يبدو لي ان روزنبيرغ ، الدماغ الفلسفي الاول للنازية ، كان اكثر صدقا ً من صفدي لأنه ارتقى منصة الشنق دفاعا عن ترهاته التي لم يخذلها يوما ً واحدا ً ) . ان الفرق بين الصدر وصفدي هو ان الاخير كان نهبا ً لتناقض مروع بين كتب تبشر بافكار ما بعد الحداثة ودفاعها عن معرفة ريبية لا تعدو كونها قصصا مؤقتة سيتم استبدالها بقصص اخرى في فضاء معتم من التأويل المفرط ، وبين خطابه الطباقي مع الفاشية التي تستمد شرعيتها من ايمان حراس الهوية العنصرية برسالة شوفينية تعيش في التاريخ وتتآمر ضده ... اما الاستاذ الصدر ، الذي نأمل ان لا يكون رحيله قد سبب امراضا ً تشبه امراض الثقافة الفرنسية التي انتشرت بعد انهيار الماركسية ، فقد منح من سيأتي بعده فسحة مباركة من الأمل بتطابق النص مع الموقف ... فحتى اللحظة الاخيرة من سنوات عمره القصيرة ظل الصدر مؤمنا ً ان شرف المثقف لا يفترق عن شرف الكلمة سواء أكانت تلك الكلمة كتابا ً ملحميا ً في الاسس المنطقية للاستقراء ام توقيعا ً لا يكاد يرى على خطاطة يتيمة تدعو الى الحوار مع القتلة . لا اريد ، هنا، ان اوجه الانظار الى الوضوح الجميل في كتابات الصدر ووحدة مشروعها وتضافر عناصرها في تنمية ذلك المشروع ( دون ان نضفي على فكر الصدر صفات القداسة لانه ، مثل كل المحطات العملاقة في تاريخ المعرفة ، لديه ما يكفيه من نقاط الضعف في التحليل والكشف ، لكنه اكثر اشراقا ً مع احتساب تاريخ الانتاج ) بالمقارنة مع الكتابات الغامضة لدى صفدي واستغلاق هذه الكتابات وما تستلزمه ، في معظم الاحيان ، من جهد كبير لتجميع افكارها المتقافزة داخل تلافيف لغته التي تبلغ ، احيانا، حدود التعامي المطلق ( قد يفسر ذلك سر مقروئية محمد عابد الجابري وعلي حرب مقارنة بمحدودية انتشار وذيوع كتب صفدي) ... اقول لا اريد ان اركز على هذه النقطة لان هذه الدراسة ، في العمق ، هي محاولة للتذكير بموقف الاستاذ الصدر من ثنائية الفكر / الحياة ، لان اوهام السياسة وألاعيب كثير من صناعها وكرنفالات الميديا قد تنسي المرء احيانا ً ان خطيئة مطاع صفدي هي انه لم يكن يؤمن ، بناءً على التناقض الذي اشرنا اليه،: " ان الغاية من نشاط المثقف هي اعلاء شأن حرية الانسان ومعرفته ولا سيما ان الواقع يقول ان الحكومات ما زالت تضطهد الشعوب على نحو واضح ، وسوء تطبيق العدالة ما زال يحدث ، واستمالة القوة للمثقفين واحتواءهم ما زالا قادرين بفعالية على خفض اصواتهم ، وانحراف المثقفين عن مهمتهم لا يزال السمة السائدة في معظم الاحيان " ... انحراف المثقف عن مهمته : ها نحن امام الرجال الذين يعرفون ان كل شيء ممكن.

البزة الوجودية

لا يقع الامر في دائرة التصورات الانطباعية العابقة برائحة الانحياز الايديولوجي التي لا شأن لها بحفر النصوص، أي قراءتها بعيون مفتوحة ، والاكتفاء بمطاردة المواقف المتناثرة والكلمات التي يريد لها البعض ان تكون عابرة، لأنني لا اتحدث عن الشعر وانساقه الثقافية المضمرة ، كما هي طريقة الغذامي في ثنائيته المعروفة عن المتنبي الشحاذ / الشاعر، او التورم المخيف لانساق الاستفحال والتفحيل لدى ادونيس ونزار قباني - مع اعجابي بما جاء به الغذامي في هذا المجال - ، ولا اكتب عن الانساق الشغالة في بناء ملامح النص السردي قبل ان اعلن عن الكلمة الفصل في ادواته الفنية وعوالمه الجمالية ( مع ان السرد ، الآن ، هو اخطر الممرات لتمرير الدلالات المطاردة بوصف الحكاية، كما يقول الغذامي، مخزنا نسقيا مهما)، ولكنني اتحدث عن لحظات الانحدار والتدهور القيمي في خطابات الفلاسفة الذين يفترض انهم يفكرون بتغيير العالم.
اضافة لذلك، فان خروج صفدي من جلده القومي القديم وارتداءه البزة الوجودية قبل ان يلتحف المعطف الما بعد حداثي، هو الذي يوفر لنا فرصة معقولة للتنبؤ بان هذه الدراسة لن تكون فائضة عن حاجة الاستقبال الثقافي لأننا، ومع ادراكنا بان الفاشية هي ضرب من اللاعقلانية العرقية التي لا يمكن ان تحظى باحترام المثقف الجاد، الا اننا، في النهاية، قد نتفهم تعاطف كثير من القوميين مع تلك الفاشية في منعطفات تاريخية ذات ايحاءات رومانسية بالية كما هو الحال مع التصوير، شبه السيمي، لمعركة صدام مع اعدائه في الكويت، اما الحديث عن قومية مطاع صفدي فقد اصبح حديثا ً متقادما ً ومتهرئا ً ولا يصلح الا للمناوشات الكلامية، شبه الطائفية، الموظفة - اصلا - لبعث عناصر الاثارة في البرامج الفضائية، لان التقاليد الثقافية الرصينة تحتم على القارئ ان يعود الى الكتب والمؤلفات لتحديد نسابة المؤلف الفكرية، ويكفي المرء قراءة استكشافية لمدونات صفدي في السنوات الاخيرة كي يكتشف مزحة الحديث عن قوميته... ان يقال لك، مثلا، بعد الفراغ من قراءة كتاب " نقد العقل الغربي" ان المؤلف هو احد القوميين العرب ، فان الامر سيبدو وكأنه نوع من ألعاب السيرك الفلسفية... من هذا الكتاب، انقل المقاطع التالية وانا اعاود تخيل صفدي وهو يعلن تضامنه مع صدام ، يقول في سياق فصوله المطولة والمخصصة للكشف عن مباهج الحداثة البعدية: "الحداثة البعدية، ليست طليعية فكرية او فنية، وليست دعوة سياسية وايديولوجية، لكنها هي التي تأتي وآتية بعد كل معارك الطليعيات والايديولوجيات والحداثويات. انها هادئة وباردة. وتطلب من مفكريها وممارسيها الا يكونوا ولا ينظروا الا هادئين وباردين. فلقد انتهى تاريخ الحماسات، والمحاربون يعودون جميعا ً الى ديارهم واهلهم مخلفين جبهات الصراع للمتاحف.

من يضحك على من؟

ان الحداثة البعدية تأتي لحظة وعي نادرة في حياة الشعوب والحضارات . ذلك لأن الحداثة البعدية تضع حدا ً لما يسميه ليوتار بالحكايا المستحيلة ، أي كل تلك المذهبيات الكبرى التي حاولت ان تعتقل العقل في انتاج وحيد له يأخذ طابع العقائدية المطلقة " ... هذا هو الفصام الذي اشرت اليه على امتداد هذه الدراسة... هل كان صدام يعلم ان هذا الفيلسوف القادم من باريس قد كتب ، بهذه الطريقة ، عن نهاية الايديولوجيات وحماساتها مثلما انه يستشهد بكلمات ليوتار عن تفتت الحكايا المستحيلة للمذهبيات الكبرى التي دفعت بصدام الى ان يلقي بمئات الآلاف من العراقيين الى المحرقة؟! من كان يضحك على من ؟! الفيلسوف على طاغية لا يقرأ ام ان السنين الطويلة قد علمت الطاغية، الذي سبق له ان قتل الصدر ، ان الفيلسوف الذي لا يؤمن بامتداد الخط على استقامته ويتصرف وكأنه يعرف ان كل الاشياء ممكنة ، لا يستحق شرف القتل حتى لو كتب تلالا ً من الكتب عن اندثار الايديولوجيات الشمولية . اذا كان خطاب صفدي الذي وصل الينا عبر الشاشة الضوئية العائدة لمؤسسة الاعلام الفاشي في العراق يشكل موقفا ً نظريا ً ، وبعد ان قمنا بالكشف عن التناقض الابستمولوجي بين الخيار الما بعد حداثي لدى صفدي وبين ذلك الموقف، فأن مناسبة كهذه ستكفي لتذكيرنا بأننا لا ينبغي " ان نأنف من ان نوجه اصبع الاتهام الى الفلاسفة الذين تعودنا قراءتهم دون أية محاسبة اخلاقية او انسانية لمواقفهم النظرية " ، وهذه المواقف، على الجانب الآخر، هي احد المنعطفات الحاسمة التي تدعونا للكتابة عن اهمية فكر الاستاذ الشهيد محمد باقر الصدر في اشاعة روح النبل في مشاريع الفلاسفة... مشاريعهم على سعتها ، في الفكرة وفي الموقف.

الى جوار الدكتاتور

ان الصدر لم يكن كاتبا ً مغمورا ً كي نتعكز على استشهاده المؤثر للارتقاء به من مرتبة الكتاب العاديين الى مصاف المفكرين الكبار... الصدر ، سواءً قتل على يدي الدكتاتور او لم يقتل ، كان فيلسوفا ً عظيما ، كتبه تقول ذلك ، ولكن الصدر - وهذا هو الدرس المستقبلي المهدد بالنضوب - كان حريصا ً على التذكير ، وطوال سيرته الفكرية ، بان الفكر المحض سيكون بلا معنى وبلا بريق اذا لم يقف متضامنا ً مع المواقف الانسانية للمثقف الذي يجب، كما يعبر وليم فوكنر في كلمات عذبة: " ان لا يدع مجالا ً في سطوره لشيء سوى حقائق القلب القديمة، الحقائق الكونية القديمة التي بدونها تؤول كل قصة الى زوال سريع : الحب والشرف والكبرياء والرحمة والتضحية"... ولذلك فإن ما اخشاه ، وانا افكر بامتداد الخط على استقامته لدى الصدر، هو ان تكون العاب المثقفين ومهاراتهم المعروفة في اختراع الحلول السحرية للإفلات من مأزق التناقض بين ما تدعو له العقيدة وبين ما يريدونه، هم ، كأفراد يجيدون مهنة التفكير، ما اخشاه ان تتحول تلك الالعاب والمهارات الى وضعية الانماط السائدة في انتاج المعرفة.
الصدر يعلمنا ان لا نثق بهؤلاء (من المهم ان نتذكر، هنا، النقد اللامع الذي وجهه المفكر الهندي الكبير اعجاز احمد الى بعض طروحات ادورد سعيد في قضية مشابهة ) ، لأنه - اي الصدر - كان قد دعا الى اهمية الكشف عن الحدود الفاصلة بين مرونة التفكير وبين خيانة القيم التي تحدث عنها فوكنر بوصفها الجذور الاخلاقية الاقرب الى عقل الانسان وما يصدر من قلبه صعودا ً .ارى أننا نمتلك وقتا ً كافيا ً لاعادة قراءة " الاسس المنطقية للاستقراء " ولدينا ما هو اكثر من ذلك لنقد " فلسفتنا " والبحث في " اقتصادنا " من زاوية اخرى والدفع باصول الفقه الى مختبرات اكثر عصرنة ، ولكننا - ونحن نتأمل سقطات الساسة وتلونات المثقفين - لا نمتلك المزيد من الوقت لتذكيرهم بأن قضية امتداد الخط على استقامته هي قضية اكون او لا اكون ، سواء حدث الامر في حقول الفكر او في الممارسة السياسية .اننا مدينون لمطاع صفدي بالكثير ، يجب ان نعترف بذلك، لاننا ونحن نحدق بصورة الفيلسوف الما بعد حداثي ، الذي اثبت بانه يعرف ان كل الاشياء ممكنة ، وهو يقف الى جوار الدكتاتور ، بعد ان ضرب بعرض الحائط بكل مقولات حداثته البعدية عن الهزء الكامن في الخطابات الايديولوجية ، بشتى انواعها ، وفي مقدمتها تلك التي في سبيل كوابيسها مات الاف البشر تحت مقصلة الطاغية صديق الفيلسوف ، اقول ، اننا قد تعلمنا من صفدي ، ونحن نحدق بصورته الضوئية ، درسا ً اضافيا ً عن عظمة واهمية محمد باقر الصدر ، الفيلسوف الآخر الذي قتله الدكتاتور بعد ان أصر- أي الصدر ، على امتداد الخط على استقامته لأنه ، كبقية الرجال الاسوياء ، لم يعرف ، ورحل عن هذه الدنيا وهو لا يريد ان يعرف ان كل الاشياء ممكنة ، ربما لأنه لو عرف ذلك ، فإننا سنحدق في صورة تجمع الجلاد مع فيلسوفين بدلا ً من فيلسوف واحد.

جريدة الصباح