صفحة 3 من 3 الأولىالأولى 123
النتائج 31 إلى 41 من 41
  1. #31
    تاريخ التسجيل
    Jul 2004
    الدولة
    هناك
    المشاركات
    28,205

    افتراضي

    [align=justify][align=center]انتفاضة رجب المباركة 1979 م[/align]

    كيف بدأ انتفاضة رجب المباركة؟ وما هي مبرّرات قيامها، وما هي الأحداث التي رافقتها وأعقبتها؟
    وأعتقد أن الكثير من الغموض يشوب معالم هذا الحديث الكبير، وسيبقى كذلك بسبب الظروف الخاصة التي تحول دون الحديث بإسهاب عن هذا الموضوع. وهنا سوف أسعى لإعطاء القارئ الكريم بعض الملامح العامّة التي تعينه على إدراك بعض الحقائق عن انتفاضة رجب المباركة.
    وكنت في فترة الحجز قد طلبت من السيد الشهيد أن يكتب هذا الفصل بنفسه إيمانا منّ بأهميته هذا الموضوع وحسّاسية بعض فصوله وأحداثه.
    كانت سلطة البعث العفلقيّة تعيش حالة من الرعب والقلق بسبب انتصار الثورة الإسلامية في إيران، وما سوف يسببّه لها هذا الحدث الكبير من مشاكل داخلية خطيرة، ذلك أن قيام حكومة إسلامية يقودها فقيه في دولة مجاورة للعراق ليس أمرا يمكن تجاهله بسهولة، فالحدث ـ على أقل تقدير ـ سيعزز من تطلّع العراقيين نحو إقامة حكومة إسلامية في العراق.
    لقد كان وهج الثورة قد غطى آفاق العراق، وتغلغل إلى قلوب العراقيين كبارا وصغارا، ولم نكن نستغرب ونحن نستمع لأطفالنا وهم يردّدون النشيد المعروف (إيران إيران إيران خون ومرك وعصيان) رغم عدم معرفتهم ما تعنيه هذه الكلمات، ولكن لكثرة سماعهم لإذاعة إيران كان هذا النشيد وغيره يعبّر عن مدى تجاوبهم وانشدادهم للثورة الإسلامية.
    ومن هنا كان موقف السلطة موقف المنافق، فعلى الصعيد الإعلامي العلني تظاهرت بتأييد محدود جدا للثورة تمثلّ بإرسال برقية من قبل صدّام ـ الذي كان نائبا لرئيس ما يسمّى مجلس قيادة الثورة ـ بعثها أولئك أحمد حسن البكر رئيس الجمهوريّة آنذاك إلى الإمام الراحل السيد الخميني. ولم يكن من مناص أمام السلطة إلا إظهار هذا النوع من (المباركة والتأييد) للثورة خاصة بعد أن وقفت إيران من القضايا التي تهمّ الأمة الإسلاميّة والشعب العراقي موقفا مبدأيا، كموقفها من القضية الفلسطينيّة، أو (إسرائيل) وأمريكا وما شابه ذلك.
    وفي الواقع العملي فإن السلطة شنّت حملة إعلاميّة مكثّفة في نطاق حزب البعث وأجهزة الدولة على الثورة وقادتها، فوجّهت التهم والافتراءات المختلفة لهم، وفسّرت أسباب الثورة ودوافعها بأنّها اقتصادية بحتة، وأنّها طائفيّة! وأمريكيّة! وأنّها ضد مصالح الأمة العربية وإلى غير ذلك/ وطلبت من الحزبيين ترسيخ هذه التهم في أذهان أبناء الشعب كما بدأت أجهزة الأمن والمخابرات برصد الكوادر والقوى الإسلاميّة التي كانت تعتقد أنها ستقوم بدور فعّال وخطير في المستقبل على صعيد السعي لإقامة حكومة إسلاميّة في العراق.
    وما من شك إن أهم ما كان يقلق سلطة البعث هو نجاح التحرّك الجماهيري الإسلامي بقيادة العلماء لإقامة حكومة إسلامية، فالثورة الإسلامية ليست (انقلابا عسكريّا) حيكت خطّته في الظلام وقادة عسكري في فجر يوم والناس نيام. إن الثورة الإسلامية كما يشهد لها واقعها ومسيرتها كانت جماهيريّة وشعبيّة تخطو إلى النصر بدماء أبناء الشعب من الرجال والنساء والأطفال، وهم جميعا لا يحملون من السلاح إلا سلاح الإيمان والهتاف بنداء (الله أكبر). ولم يتح لقائدها الإمام الخميني من وسائل فعاّلة إلا قيادته الحكيمة وشجاعته النادرة ووسائل الإعلام التي كان من خلالها يوجّه الشعب ويقود الثورة.
    إن هذه الظاهرة كانت تقلق السلطة، فكانت تبحث عن الوسائل التي تساعدها

    (1)هذه المعلومة مأخوذة من خطاب لصدام بصوته وصورته احتفظ به.
    على التغلّب على هذه المعظلة الكبيرة التي تهدد وجودها تهديدا واقعيا.
    ومن الطبيعي أن تتجه إلى السيد الشهيد الصدر وإلى الحركة الإسلاميّة والكيان الإسلامي في العراق للقضاء عليه بأيّ أسلوب، وبأي ثمن.
    إن العراق كان المرشّح الطبيعي ـ لو توفرت المستلزمات الضرورية ـ الثورة الإسلامية جماهيرية على غرار ما حدث إيران. وهذا ما تعرفه السلطة.
    ولم يكن توجّه السلطة هذا وتفكيرها وسعيها الدائب في التخطيط والتنفيذ للوقوف بوجه المد الإسلامي في العراق خافيا على سيّدنا الشهيد الصدر فقد كان يقول:
    (إذا سكتنا فسوف تقتضي السلطة على الوجود الإسلامي في العراق.)
    إن السيد الشهيد كان يعلم أن الظروف لم تكن مهيئة لتحرك جماهيري بمستوى التحرّك الذي حدث في إيران لأمور وأسباب معروفة لعل أهمّها بطش النظام ووحشيّته، التي لا نظير لها في تاريخنا المعاصر، ومنها ضعف الحركة الإسلامية وعدم قدرتها على مواجهة قد تكون طويلة وشاقة خاصّة مع افتقارها إلى الإمكانات المادّية، كما أن مرجعيّة السيد الشهيد الصدر لم تكن قد استوعبت الساحة العراقيّة استيعابا كاملا بحيث يتاح لها التحرّك بمفردها دون حاجة إلى مساعدة الآخرين، ومنها أن بعض الأوساط المرجعيّة والحوزويّة كانت لا ترى ضرورة لتحرّك من هذا القبيل.
    إن هذه الأسباب وغيرها تحتاج إلى بحث ودراسة مفصّلة، وأن هنا لست بصد ذلك، وإنّما قصدت الإشارة فقط، والذي يهمّني هنا هو رأي السيد الشهيد، وأستطيع أن أجزم بأنه كان يرى أن العمل الإسلامي يجب أن لا يعتمد على التحرّك الجماهيري فقط، بل يجب أن ندخل في عملنا الأساليب التي تقتضيها ظروف العراق وأوضاعه وما تتطلّبه من مستلزمات، ويجب أن يتم ذلك بدقّة وحكمه؛ ولهذا كان قد خطط للعمل معتمدا على أساليب أخرى وقد تحدثت عن ذلك في موضوع استراتيجيّة السيد الشهيد السياسيّة.
    ومما لا شك فيه أن حدث انتصار الثورة الإسلامية في إيران نضّج بعض الأفكار وسرّع في تجاوز بعض العقبات، وفرض أوضاعا جديدة، وكان على السيد الشهيد؛ أن يواكب المستجدّات بدقّة بالغة.
    وكان من المنطقي أن لا يخطوا السيد الشهيد من دون تنسيق وتشاور مع الإمام الخميني، وهو ولي أمر المسلمين وقائدهم، خاصّة بعد أن دعا إلى طاعته، والالتفات حول قيادته، والذوبان في وجوده.
    وعلى هذا الأساس جر حديث خاصّ بيني وبينه حول الأسلوب الأمثل للتشاور والتنسيق، فكان المقترح الأوّلي أن أقوم بحمل رسالة شفهيّة واسافر إلى إحدى دول الخليج، ومن هناك أتّصل بسماحة حجة الإسلام المسلمين السيد محمد الغروي وهو أحد طلاب السيد الشهيد الأوفياء الأبرار، وهو بدوره يكون حلقة الوصل والتنسيق بين السيد الشهيد والسيد الإمام.
    إلا أن السيد الشهيد عدل عن هذا المقترح بعد أن اجتمع بسماحة السيد محمود الهاشمي ـ ولم أحضر ذلك الاجتماع ـ، إلا أنّي علمت أنّ السيد الشهيد بعث سماحة السيد الهاشمي إلى إيران ليكون ممثّلا له ، ومنسّقا مع القيادة الإسلاميّة في إيران.
    وقد حرص السيد الشهيد على أن يتم هذا الأمر بسرّية تامّة، وإن كانت هذه السرّية سوف لا تطول؛ لأن سماحة السيد الهاشمي من أبرز طلاب السيد الشهيد والمقرّبين منه، وهو مراقب من قبل السلطة، وسوف تعرف ـ ولو بعد حين ـ بسفره إلى إيران وتمثيله للسيد الشهيد فيها.
    كان هذا العمل قد جعل السلطة في حالة من التوجّس والقلق عمّا سوف يجري في المستقبل، إذ أنّها تعلم أن السيد الهاشمي شخصيّة كبيرة وخطيرة، وليس منطقيا أن يكون سفره بلا هدف كبير وخطير، ولهذا السبب كثّفت السلطة من رقابتها للسيد الشهيد بشكل لم يسبق له نظير.

    برقية الإمام
    ولم يمض وقت طويل على مغادرة سماحة السيد الهاشمي إلى إيران حتّى بثّت وسائل الإعلام في جمهورية إيران الإسلاميّة ومنها إذاعة طهران القسم العربي برقية وجّهها الإمام الراحل إلى السيد الشهيد ونصّها كالتالي:
    بسمه تعالى
    سماحة حجة الإسلام والمسلمين الحاج السيد محمد باقر الصدر دامت بركاته.
    علمنا أن سماحتكم تعتزمون مغادرة العراق بسبب بعض الحوادث، إنّني لا أرى من الصالح مغادرتكم مدينة النجف الأشرف مركز العلوم الإسلامية وإنّني قلق من هذا الأمر، آمل إن شاء الله إزالة قلق سماحتكم والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته...

    روح الله الموسوي الخميني

    وقد أجاب السيد الشهيد على برقية السيد الإمام بالبرقية التالية:
    بسم الله الرحمن الرحيم
    سماحة آية الله العظمى الإمام المجاهد السيد روح الله الخميني دام ظلّه.
    تلقّيت برقيّتكم الكريمة التي جسدت ابوّتكم ورعايتكم الروحيّة للنجف الأشرف، الذي لا يزال منذ فارقكم يعيش انتصاراتكم العظيمة،

    وإنّي أستمد من توجيهكم الشريف نفحة روحيّة، كما أشعر بعمق المسؤولية في الحفاظ على الكيان العلمي للنجف الأشرف.
    وأودّ أن اعبّر لكم بهذه المناسبة عن تحيّات الملايين من المسلمين والمؤمنين في عراقنا العزيز، الذي وجد في نور الإسلام الذي أشرق من جديد عيى يدكم ضوءا هاديا للعالم كلّه، وطاقة روحيّة لضرت المستعمر الكافر، والاستعمار الأمريكي خاصّة، ولتحرير العالم من كل أشكاله الإجراميّة، وفي مقدّمتها جريمة اغتصاب أرضنا المقدّسة فلسطين.
    ونسأل المولى أن يمتّعنا بدوام وجودكم الغالي، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
    الخامس من رجب 1399 هـ النجف الاشرف
    محمد باقر الصدر

    والحقيقة أن السيد الشهيد لم يستلم برقية السيد الإمام إذ أنّها احتجزت لدى السلطة،وإنّما سمعها بعد أن سجّلتها له على شريط الكاسيت عندما أذيعت من إذاعة طهران القسم العربي.
    وكان في وقتها قد طلب منّ تكرار سماع البرقية المسجّلة عليه، فكان يستمع إليها بدقّة ثم طلب السيد الشهيد أن نتّصل بسماحة السيد الهاشمي ونستفسر عن هذا الأمر، وعن مقصود السيد الإمام الحقيقي من ذلك حيث إن السيد الشهيد لم يكن عازما في واقع الأمر على مغادرة العراق، بل لم يفكر بذلك مطلقا، فهل هناك شئ فرض أن تكون صياغة البرقية بهذا الشكل والسيد الشهيد لا يعلم؟ وكان هذا الاحتمال أقوى المحتملات التي تتعلّق بهذا الموضوع.
    لقد أجرينا عدّة اتصالات هاتفية كان السيد الشهيد حاضرا بعضها، أو لعل معظمها، وإن لم يكن هو المتحدّث، نستفسر عن حقيقة البرقية، والهدف منها.
    ولكن ـ للأسف ـ لم تثمر تلك الاتصالات شيئا، ولم يتحقّق السيد الشهيد من هذه القضية، ولم يعرف الأسباب والدوافع حتّى اليوم الذي استشهد فيه.
    وعلى ضوء ذلك ماذا سيكون موقف السيد الشهيد والوقت يجري بسرعة والأحداث تتوالى وهي تتطلب اتّخاذ الموقف المناسب تجاه هذه القضية.[/align]

  2. #32
    تاريخ التسجيل
    Jul 2004
    الدولة
    هناك
    المشاركات
    28,205

    افتراضي

    [align=justify][align=center]الاجتماع التاريخي[/align]
    دعا (رضوان الله تعالى عليه) بعض طلابه والمقربين منه إلى اجتماع خاصّ لدراسة هذه القضية، وما هو الموقف منها، وكيف يجب أن نتعامل معها؟ وجرى في ذلك الاجتماع كلام كثير، وتمّت دراسة الموقف من جوانبه المتعدّدة والآثار التي تترتّب على كل موقف، السلبيّة والإيجابيّة منها. ولم يقع الكلام في أصل الجواب على برقية السيد الإمام ، فأن ذلك كان مقررا منذ البدء، وإنما الحديث كان حول مسألة هل نبدأ مرحلة المواجهة مع السلطة؟ وهل ستتجاوب الأمة بالقدر المطلوب الذي يضمن نجاح المواجهة والوصول إلى وضع مطلوب يشكل منعطفا كبيرا في التحرك الإسلامي في العراق.
    وأخيرا استقر الرأي في تلك الجلسة على بدء الخطوة الجديدة.... ما هي هذه الخطوة؟
    كان السيد الشهيد يعلم أن قطاعات كبيرة من أبناء الشعب قد استمعت لبرقية الإمام السيد الخميني، وقد أقلقها أن يغادر الشهيد العراق، ويترك الجماهير من دون قائد يرعاهم وهم في أمسّ الحاجة إليه، وفي أخطر وأهمّ مرحلة من مراحل التحرّك الإسلامي وكانت أعداد كبيرة من المؤمنين تتوافد إلى النجف، تسأل عن هذا الأمر، وهل حقا سيغادر السيد الشهيد العراق؟
    من هنا بدأت فكرة مجيء وفود البيعة تبرز إلى السطح وتتبلور في ذلك الاجتماع وهل هو عمل يناسب هذه المرحلة أم لا؟ فكان الرأي قد انتهى إلى أن نبدأ بهذه الخطوة مهما كانت النتائج، وكان هدف السيد الشهيد أن يبدأ مرحلة جديدة من المواجهة مع السلطة، ويضع من خلال ذلك الشعب العراقي في طريق الصراع المباشر من النظام، ومواصلة الطريق حتى تحقيق الهدف المنشود بإقامة حكم الإسلام في العراق، حتى لو كان الثمن هو دم السيد الشهيد نفسه.
    وكنت قلقا جدا من نتائج ذلك الاجتماع، ومتوجّسا من العواقب التي سينتهي إليها التحرك، لأني أعلم أن السلطة العملية لا تتحمّل أقل من هذا العمل لو صدر من السيد الشهيد، فكيف لو حدث أن جاءت وفود كبيرة، وقد قلت للسيد الشهيد بعد أن انفضّ الاجتماع: إن هذا يعني أنكم قد صمّمتم على الاستشهاد في سبيل الله تعالى في وقت تكون الأمة فيه بأمس الحاجة إليكم؟ فقال: هل تريد إقامة حكومة إسلاميّة في العراق؟ قلت: نعم، فقال:
    (إني أرى أن طريقها هذا، أن استشهد لتستثمر الجماهير دمي، المهمّ أن أعمل ما أعتقد أنّ يخدم الإسلام حتّى لو كان ثمنه حياتي ولا أفكر بنصر سريع.).

    [align=center]وفود البيعة[/align]

    تقاطرت وفود البيعة، وهي تضم قطاعات واسعة وكبيرة من أبناء الأمة، وخاصة الشباب المثّقف منهم، يطالبون السيد الشهيد بالبقاء معهم، وعدم مغادرة العراق.
    وكان السيد الشهيد يستقبل الوفود طوال النهار وشطرا من الليل، بروح من التفاعل والتجاوب، بخلق محمدي رفيع رغم المشاكل الصحيّة التي كان يعاني منها.
    ولأجل أن يكون تقييمنا صحيحا للنتائج التي تترتب على مجيء الوفود يجب أن نشير إلى أهمّ ما كان يميّزها، وما اتّسمت به من خصائص.

    أوّلا: كان طابع الشمول من أهم ما يميّز تلك الوفود، فمن الناحية الجغرافيّة كانت معظم مدن العراق قد شاركت فيها مشاركة شاملة وواسعة، ومن ناحية الكيف فان مختلف شرائح الأمة وطبقاتها شاركت في تلك الوفود، فترى الكهل والشاب والمرأة، وترى الطبيب، والمهندس، والمدرس، والطالب، والكاسب، في صف واحد، وهذا الأمر يدل على الأفق الكبير لمرجعيّة السيد الشهيد وامتداده العميق في أوساط الأمة، وهذا ما كانت تخشاه السلطة وتحسب له ألف حساب.
    ثانيا: الكثافة الكبيرة من حيث الكم، فلقد ضاق سوق العمارة والأزقة القريبة من منزل السيد الشهيد، وامتلأت شوارع النجف الأشرف بالوفود القادمة من كل مكان، حتّى أثار ذلك استغراب النجفيين أنفسهم، وأستطيع القول: إن النجف لم تشهد في تاريخها المنظور تحرّكا جماهيريّا بهذا الحجم والكيف، باستثناء تشييع جنازة المرحوم الإمام الحكيم. وكان هذا الكم الكبير هو الذي جعل السلطة تتريّث في استعمال القوّة لقمع الوفود في حينها، واكتفت بالتقاط الصور، وتسجيل الأسماء فقط.
    ثالثا: تحوّلت الوفود ـ وفي فترة زمنيّة قصيرة من وفود للمطالبة ببقاء السيد الشهيد في العراق إلى وفود لمبايعته، ومبايعة الإمام الخميني، وكانت معظم شعارات الوفود وهتافاتهم من مثل: (باسم الخميني والصدر الإسلام دومه منتصر)، (عاش عاش عاش الصدر والدين دومه منتصر)، أمثالهما.
    رابعا: مشاركة أعداد من إخواننا أهل السنة في وفود البيعة، وتعتبر هذه الظاهرة فريدة من نوعها، فقد أثبت أن الحواجز النفسيّة سرعان ما تنهار حينما تتوفّر البيئة المناسبة، والقيادة الواعية.
    وكان لهذا التكاتف والتوحد في الموقف دوره الكبير في إعطاء التحرّك

    (1) كلمة عامية تعني دائماً.


    الإسلامي بعدا كبيرا يصعب على السلطة تحديّه بسهولة.
    خامسا: مشاركة المرأة العراقية في تلك الوفود مشاركة فعّالة جدا، وكانت معظم الوفود النسائية تلتقي بشهيدنا الصدر في منزل العائلة، إلا وفدا كانت تقوده المجاهدة الشهيدة سلوى البحراني، فقد التقى بالسيد الشهيد في البراني الخاص بالرجال، وطالبين بالبيعة، كما كان في زمن رسول الله، فأحضرنا إناء كبيرا مملوءا بالماء، فوضع السيد الشهيد يده فيه، ثم قامت كل واحدة منهن بوضع يدها فيها، وبايعنه على الشهادة.
    وقد ألقي فيهنّ كلمة قيّمة نحتفظ بتسجيلها على شريط الكاسيت هذا نصّها:
    بسم الله الرحمن الرحيم
    المشاعر التي أحس بها في قلبي اتجاهكم، اتجاه البنات من أمثالكم، مشاعر لاحد لها، إحساس بمسؤوليتكن في العصر الحاضر كبير جدا.
    يا بنات فاطمة الزهراء...
    أنتن المثل الأعلى لمرأة اليوم....اليوم أنتم تقدمون المثل الأعلى للمرأة التي تحمل بإحدى يدها إسلامه، ودينها وقيمها، ومثلها، وحجابها، وإصرارها على شخصيّتها الأصيلة القويّة الشريفة النظيفة التي حفظها الإسلام لها، وتحمل بيدها الأخرى العلم والثقافة، لكن لا هذه الثقافة التي أرادها المستعمرون لنا منذ أن دخل المستعمرون عالمنا الإسلامي قبل ستين سنة، أرادوا أن يقنعوا شبابنا وشابّاتنا بأن الثقافة عبارة عن لون من المجون.. عبارة عن ألوان السفور والاختلاط... عبارة عن السعي وراء الشهوات والنزوات..
    عبارة عن الابتعاد عن المسجد، وعن الإسلام، وعن المرجع، وعن الصلاة...قالوا لشبابنا وشاباتنا بأن الإنسان التقدّمي، والإنسان التقدّمية المثقّفة هي من تقطع صلتها بهذه الأمور وتنغمس إلى رأسها في الشهوات والملذّات... هكذا أراد المستعمرون منذ ستّين سنة أن يسرّبوا إلى نفوس بناتنا الطاهرات، وفي نفوس شبابنا الزاكين هذا المفهوم الخاطئ للتقدميّة وللثقافة.
    أنتن يا بنات الزهراء تقع عليكن مسؤولية أن تعرّفوا العالم أن الثقافة والعلم الحقيقي يحمل مع الإيمان، يحمل مع الدين، يحمل مع رسالة السماء كما حملتها فاطمة الزهراء....
    أمّكنّ العظيمة فاطمة الزهراء كانت مثلا أعلى في الإسلام، في الجهاد عن الإسلام... في الصبر على محن الإسلام... كانت مع أبيها في كل شدائده، في كل محنه... كانت تخرج معه في الحروب، كانت تواسي جروحه، كانت تلملم محنه،كانت دائما إلى جنبه، كان يستمدّ منها سلوة في اللحظات العصيبة، كان يستمدّ منها طاقة في لحظات صعبة جدّا، كانت امرأة مسلمة مجاهدة بكل معنى.
    هذا من جانب، ومن جانب آخر أن فاطمة الزهراء كانت امرأة عالمة، وكانت المثل الأعلى في العلم والثقافة، لكن لا هذه الثقافة التي أرادها المستعمرون لنا، لا ثقافة المجون والسفور، لا ثقافة الاختلاط والتميّع، لا ثقافة التحلّل، وإنّما الثقافة الحقيقة،
    انطلقت فاطمة الزهراء....انطلقت إلى مسجد أبيها حينما اقتضى منها الواجب ان تخرج إلى مسجد أبيها، وخطبت تلك الخطبة العظيمة التي لا يقدر عليها الكبار من العلماء ..... كانت البلاغة والفصاحة والحكمة تتدفقّ من كلماتها كما يتدفّق السيل من البحر، وكان عمرها الشريف أقل من عشرين سنة، لكنّها علّمت العلماء علّمت الحكماء، ضربت المثل الأعلى الذي لم تصل إليه حتّى الآن المرأة الأوروبية.
    هذه فاطمة الزهراء التي استطاعت ان تثبت في تاريخ الإسلام أن العلم يجتمع مع الدين وأن الثقافة توأم مع الإيمان بالله، ومع التمسّك بالحجاب، ومع التمسّك بشعائر الدين.
    أنتن حملن رسالة فاطمة الزهراء....
    أنتن من سوف يعرف العالم عن طريقكن أن العلم يجب أن يكون إلى جانب الإيمان، وأنه ليس من العلم في شئ السفور، وليس من الثقافة في شئ الاختلاط والتحلّل.
    إن المرأة يمكن أن تصل إلى أعلى مدارج الكمال والرقي في كل الميادين، من دون أن تتنازل عن قيمة من قيمها الإسلاميّة، وعن شئ من تراثها، ومن رسالة ربّها رب العالمين.
    الأوروبيين حاولوا أن يثنوكم، وعليكم أنتم أن تفهموا العالم كله أنّهم على خطأ وأنكم على حق.
    نسأل الله أن يوفّقكم جميعا إن شاء الله ويرعاكم بعينه)
    إن مشاركة المرأة العراقيّة في عمل اجتماعي سياسي كهذا كان خطوة كبيرة في تلك المرحلة، وتحديا لكل العقبات التي كانت تحول بينها وبين ممارسة دورها في خدمة الإسلام، وهذا الأمر أقلق السلطة قلقا بالغا، ويكفينا دليلا على ذلك الشهيدة السعيدة سلوى البحراني التي أعدمت بالسم بعد أيام قليلة من أيّام البيعة.
    لقد كان السيد الشهيد سعيدا بما تحقّق من تحدّ للسلطة من قبل وفود

    (1) من شريط مسجل بصوت السيد الشهيد.



    البيعة، إذ أعتقد أن ما حدث أثبت للسلطة أن الإسلام حيّ باق، وأن المرجعيّة الدينيّة رغم التطويق الشديد لها لازالت أمل العراقيين، وهي أيضا من يملك مفتاح تحريك الجماهير.
    لقد رأى السيد الشهيد أن الجماهير ورغم الجهود الكبيرة التي بذلتها السلطة لمسخ هويّتها وإرادتها وكرامتها لازالت حيّة تستجيب لنداء الحق، متى ما وجدت القيادة الرشيدة والواعية، وهذا هو الذي زرع الأمل في قلبه، وقد سمعته يقول:
    (من كان يظن أن الجماهير ستستجيب إلى هذا الحد، وتتوافد إلى النجف الأشرف تطلب منّي أن أبقى معها، أو تعلن عن بيعتها على الموت في سبيل الله تعالى، في مثل هذه الظروف الأمنيّة القاسية؟ إن هؤلاء جميعا يعلمون أن ثمن مجيئهم الإعدام، أو السجن على أحسن التقادير ومع ذلك فقد تحدّوا الموت وجاءوا، إن هذا هو النصر المبين.)
    وحقّا إن ما حدث كان شيئا عظيما، بل كان ثورة جماهيريّة عارمة، وقد قال مدير أمن النجف في أول لقاء له بالسيد الشهيد في فترة الحجز:(سيدنا، إن ما حدث كان ثورة كادت أن تنجح لولا حزم القيادة!).
    كما أن السيد على بدر الدين أخبر السيد الشهيد أن أحد أعضاء مجلس قيادة الثورةـ لا أتذكر اسمه ـ قال له: (إن السيد محمد باقر الصدر قاد ثورة ضدّنا ، ومن الآن سوف نتعامل معه على هذا الأساس)، وأخبره أيضا: أن القيادة السياسيّة والعسكريّة كانت مجتمعة ومتأهبة طيلة تلك الفترة، وهي في حالة إنذار قصوى.
    وكانت السلطة قد استدعت معظم كوادرها الأمنيّة والحزبيّة، من مختلف المدون إلى النجف لمراقبة الأوضاع فيها أو السيطرة عليها، في حال تطوّر الأوضاع إلى حد المواجهة المسلّحة.
    في هذا الجو الحماسي الثوري كتب السيد الشهيد البيان الأوّل الذي وجّهه إلى الشعب العراقي، وهذا نصّه:
    بسم الله الرحمن الرحيم

    والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيّدنا محمّد وعلى آله الطاهرين، وصحبه الميامين.
    أيّها الشعب العراقي المسلم...إنّي أخاطبك أيّها الشعب الأبيّ وأنا أشدّ الناس إيمانا بك، وبروحك الكبيرة. وبتاريخك المجيد، وأكثرهم اعتزازا بما طفحت به قلوب أبنائك البررة من مشاعر الحب والولاء، والبنوّة للمرجعيّة، إذ تدفّقوا إلى أبيهم يؤكّدون ولاءهم للإسلام بنفوس ملؤها الغيرة والحمية والتقوى، يطلبون منّي أن أطلّ إلى جانبهم أواسيهم،وأعيش آلامهم عن قرب لأنّها آلامي.
    وإنّي أودّ أن اُأكّد لك ـ يا شعب آبائي وأجدادي ـ أني معك، وفي أعماقك، ولن أتخلّي عنك في محنتك، وسأبذل آخر قطرة من دمي في سبيل الله من أجلك.
    وأود أن اُأكد للمسؤولين: أن هذا الكبت الذي فرض بقوّة الحديد والنار على الشعب العراقي فحرمه من أبسط حقوقه وحرّياته في ممارسة شعائره الدينيّة لا يمن أن يستمر، ولا يمكن أن يعالج دائما بالقوّة والقمع.
    إن القوة لو كانت علاجا حاسما دائما لبقي الفراعنة والجبابرة.
    اسقطوا الأذان من الإذاعة فصبرنا..
    واسقطوا صلاة الجمعة من الإذاعة فصبرنا....
    وطوّقوا شعائر الإمام الحسين عليه السلام ومنعوا القسم الأعظم منها فصبرنا..وحاصروا المساجد وملأوها (أمنا) فصبرنا، وقاموا بحملات الإكراه على الانتماء إلى حزبهم فصبرنا، وقالوا إنّها فترة انتقال يجب تجنيد الشعب فيها صبرنا، ولكن إلى متى؟ إلى متى تستمرّ فترة الانتقال؟ إذا كانت فترة عشرة سنين من الحكم لا تكفي لإيجاد الجوّ المناسب لكي يختار الشعب العراقي طريقه، فأيّ فترة تنتظرون لذلك؟
    وإذا كانت فترة عشر سنين من الحكم المطلق لم تتح لكم ـ أيّها المسؤولون ـ إقناع الناس بالانتماء إلى حزبكم إلا عن طريق الإكراه، فماذا تأملون؟
    وإذا كانت السلطة تريد أن تعرف الوجه الحقيقي للشعب العراقي فلتجمّد أجهزتها القمعيّة أسبوعا واحدا فقط، ولتسمح للناس بأن يعبّروا خلال أسبوع عمّا يريدون.
    إنّي أطالب باسمكم جميعا.. أطالب بإطلاق حريّة الشعائر الدينيّة، وشعائر الإمام أبي عبد الله الحسين.
    وأطالب باسمكم جميعا بإعادة الأذان وصلاة الجمعة، والشعائر الإسلامية إلى الإذاعة.
    وأطالب باسمكم جميعا بإيقاف حملات الإكراه على الانتساب إلى حزب البعث على كل المستويات.
    وأطالب باسم كرامة الإنسان بالإفراج عن المعتقلين بصرة تعسّفية، وإيقاف الاعتقال الكيفي الذي يجري بصورة منفصلة عن القضاء.
    وأخيرا أطالب باسمكم جميعا باسم القيم التي تمثّلونها بفسح المجال للشعب ليمارس بصورة حقيقيّة حقّه في تسيير شؤون البلاد، وذلك عن طريق إجراء انتخاب حر ينبثق عنه مجلس يمثّل الأمة تمثيلا صادقا.
    وإنّي أعلم أن هذه الطلبات سوف تكلّفني غاليا، وقد تكلّفني حياتي ... ولكن هذه الطلبات ليست طلب فرد لتموت بموته، وإنّما هذه الطلبات هي مشاعر أمة وإرادة أمة، ولا يمكن أن تموت أمة تعيش في أعماقها روح محمّد، وعلي، والصفوة من آل محمّد وأصحابه.
    وإذا لم تستجب السلطة لهذه الطلبات، فإنّي أدعو أبناء الشعب العراقي الأبيّ إلى المواصلة في حمل هذه الطلبات مهما كلّفه ذلك من ثمن، لأنّ هذا دفاع عن النفس، وعن الكرامة، وعن الإسلام، رسالة الله الخالدة، والله ولي التوفيق.

    20 رجب 1399 هـ
    محمد باقر الصدر

    وكان لإصدار هذا البيان مبرّراته ودواعيه، إذ أنّ السيد الشهيد كان يعتقد أنّ درجة احتمال استشهاد عالية جدّا، ولا يمكن للسلطة أن تتجاوز هذا التحدّي الكبير من دون أن تنتقم بمستوى الفعل، فكان لابد من موقف أو عمل يعطي رؤية واضحة للجماهير، لتستثمر مناسبة استشهاده.
    ومن الواضع أن هذا البيان التاريخي تضمّن مطالب مختلفة، بدأت بالمطالبة بإعادة الأذان، وصلاة الجمعة إلى الإذاعة، وانتهت بالمطالبة بأن يمارس الشعب العراقي إدارة شؤون البلاد. وعلى هذا الأساس لو أن السيد الشهيد نال الشهادة في تلك الفترة، فأن الجماهير العراقيّة سوف تحمل نفس المطالب وتجاهد في سبيل تحقيقها، فهو قد أعطى مبرّرات مواصلة الجهاد والهدف الذي يجب أن تتجه إليه المسيرة:
    وهذا بخلاف ما لو كان قد استشهد من دون أهداف واضحة، ومطالب معيّنة، فإنّ غاية ما يمكن أن يحدث عبارة عن ردود فعل آنيّة، ستنتهي بعد حين، ولهذا أكّد، في بيانه على أن (هذه المطالب ليست مطالب فرد لتموت بموته وإنّما هذه المطالب هي مشاعر أمة وإرادة أمة.)



    وأكّد أيضا على ضرورة الاستمرار في مواصلة الطريق، ودعا الجماهير إلى التضحية في سبيل تحقيق هذه المطالب مهما كان الثمن.
    وكنت قد سمعت من السيد الشهيد أنّه أراد أن يخلق قضيّة واضحة المعالم بالنسبة للمؤمنين والمجاهدين،ومعقّده جدّا بالنسبة للسلطة، فالسلطة سوف لن تستجيب لمعظم البيان، وإن فرض أنّها ستستجيب، فإن ذلك يعني زوالها وسقوطها في فترة زمنيّة قصيرة.
    ومن الحقائق التي يجب أن أشير إليها هي أن السيد الشهيد لم يستهدف النصر السريع في كل تحرّكه، لأنّه يعتقد أن الظروف لا تساعد عليه، وإنّما كان هدفه التضحية الهادفة المدروسة التي تمهّد لذلك النصر المطلوب، ولهذا السبب فإن بياناته الثلاثة كانت تدعو إلى مواصلة الجهاد، ولا تشير إلى النصر، إلا بإشارات بسيطة جدّا.[/align]

  3. #33
    تاريخ التسجيل
    Jul 2004
    الدولة
    هناك
    المشاركات
    28,205

    افتراضي

    [align=justify][align=center]توقّف الوفود[/align]

    لاحظ السيد الشهيد أن هذا القدر من التحرّك كان كافيا لتحقيق الهدف المقصود في تلك الفترة، فأوعز إلى بعض وكلائه ومحبّيه أن يدعو الناس إلى الكفّ عن مواصلة مجيء الوفود إلى النجف حيث لا ضرورة تقتضي ذلك.
    وكان وراء اتّخاذ هذا القرار عدّة أمور، أشير إلى بعضها:
    أوّلا: أن السلطة أخضعت معظم الوفود لمراقبة شديدة، ففضلا عن التقاط صورة فوتوغرافية لهم، كانت مفارزها الأمنية في كافّة الطرق المؤديّة إلى النجف تضبط أسماءهم، بدقّة وكانت هذه الإجراءات قد اتخذت تمهيدا لاعتقالهم فيما بعد. ولم يكن السيد الشهيد يجد ضرورة للتضحية بهذا الكم الهائل من الناس، وإنّما أراد لهم أن يستغلّوا تضحيته هو فيما بعد.
    وثانيا: حرص على عدم كشف القطّاعات الأخرى من المؤمنين الذين كانوا يعتزمون المجيء إلى النجف، وكان يقول:
    (إن أولئك ذخيرة العمل المستقبلي، ويمكن أن نفاجئ بهم السلطة في المستقبل إذا تسنّى لنا تصعيد المواجهة معها).
    وثالثا: وجد السيد الشهيد في تجاوب أبناء الشعب العراقي واستعدادهم الكبير في انتفاضة رجب الفرصة المناسبة للسعي الجاد نحو إقامة حكومة إسلاميّة في العراق، وكان همّه الكبير في البحث للاستفادة من القوى الجماهيرية في هذا المجال، وقد قال لي في بداية الحجز:(إن الحجز سيحقّق لنا الفرصة المناسبة لبحث هذا الأمر) ولكن بمرور الزمن بدأت آماله تتضاءل في أن يتمكّن من تحقيق ذلك لا لأن الشعب العراقي غير مستعد أو متجاوب بل لأنّه أحسّ بعدم اهتمام أو تجاوب من ان يعتمد عليه في هذا المجال، واستمرّت الأحداث تجري بسرعة ووجد أن الاستشهاد الهادف وإراقة دمه هو السبيل الوحيد الذي يمكنه خدمة الإسلام من خلاله، وهكذا فعل والحديث في هذا المجال واسع لا أرى ضرورة لخوض تفاصيله في هذا الكتاب المختصر عن السيد الشهيد.

    [align=center]بداية الحجز[/align]
    كان هدف السلطة من اعتقال السيد الشهيد في يوم (17 )رجب هو تنفيذ حكم الإعدام فيه، ولما فشلت في تحقق ذلك اضطرت إلى اتخاذ إجراء آخر تمثّل بفرض الإقامة الجبريّة (الحجز) عليه، فبعد ساعات قليلة من عودة السيد الشهيد إلى النجف، أتّصل المجرم مدير الأمن العام ومدير الشعبة الخامسة المعروف بزهير ـ أبو أسماء ـ ليبلّغ بقرار الحجز، وقال : لا يحقّ للسيد الصدر الخروج من المنزل، ولا يحق لأحد الدخول عليه.
    تطويق المنزل
    ثم طوّقت أجهزة الأمن منزل السيد الشهيد من كل الجهات، ومنع الناس من المرور من الزقاق الذي قع فيه، وضيّقوا الخناق على المنطقة كلّها، كما وضعوا جهازا للمراقبة فوق بناية مطلّة على منزل السيد الشهيد والمنطقة لتصوير ما قد يحدث، وكانت تعمل ليل ونهار.
    وهكذا بدأ الحجز الذي استمرّ تسعة أشهر، وانتهى بالشهادة.
    وممّا يجب أن نشير إليه: أن السلطة العملية كانت مضطرّة لفرض الإقامة الجبريّة على السيد الشهيد، إذا كانت تعتقد أن الأحداث سوف تكون خطيرة جدا لو ترك السيد الشهيد حرّا.
    وكان الاعتقاد السائد أن ردودا من الفعل ستحصل من خارج العراق، وخاصّة من قبل العراقيين المتواجدين هناك ستساهم في تحقيق فرص أخرى تتيح للسيد الشهيد تحرّكا أكثر خطورة وأهميّة.

    قطع الماء والكهرباء والهاتف
    ثم قامت السلطة بقطع الماء والكهرباء والهاتف واستمرّ ذلك ما يقرب من خمسة عشر يوما، ولولا وجود خزّانات المياه لقتلنا العطش حتما، ويبدوا أن السلطة كانت تستهدف ذلك.

    منع خادم السيد الشهيد من دخول البيت
    ورافق ذلك أن السلطة منعت الحاج عباس ـ خادم السيد الشهيد ـ من دخول المنزل، وهو الذي كان يوفّر ما تحتاجه عائلة السيد الشهيد من مواد غذائيّة قبل الحجز، وكان الهدف من ذلك هو قتل السيد الشهيد وعائلته جوعا.

    وبسبب هذه المحاصرة الجائرة اضطررنا إلى الاستفادة من الخبز اليابس الذي لا يصلح للأكل، وكن يوما أتغذي مع السيد الشهيد من هذا الطعام، فلمّح في وجهي علامات التأثّر، وكن في نفسي أقول: سبحان الله: أن نائب المعصوم يأكل من هذا الفتات بينما يأكل الطغاة ما لذ وطاب! فقال لي:
    (أن هذا الطعام ألذ طعام ذقته في حياتي؛ لأنّه في سبيل الله ومن أجل الله).
    وكلما مرّت الأيّام كان تشتدّ المحنة على السيد الشهيد سيّما من الناحية العاطفيّة، فإنّ كان يحسّ بحرج كبير وهو يرى أطفاله جياعا، وأمّه المريضة المقعدة تطلب الدواء ولا دواء، وكان يقول لي:
    (سيموت هؤلاء جوعا بسببي، ولكن ما دام ذلك يخدم الإسلام فأنا سعيد به، ومستعد لما هو أعظم منه).
    كانت أول عملية اقتحام لفكّ الحصار الغذائي قام بها سماحة العلامة السيد مير حسن أبو طبيخ، وكان موقفا شجاعا وبارّا، فقد هيأ كمّية من المواد الغذائية، وجاء إلى الزقاق الذي يقع فيه منزل السيد الشهيد بعد أن سمحت السلطة للناس بالمرور عبره متظاهرا بالمرور منه إلى جهة شارع الإمام زين العابدين، ولمّا وصل إلى الباب طرقه فهرعت الشهيدة بنت الهدى لتعرف ماذا حدث، فسمعت السيد مير حسن أبو طبيخ يقول لقوّات الأمن التي حاولت منعه:
    (الآن أذهب معكم إلى حيث تريدون، هل تريدون قتل الأطفال جوعا وعطشا؟).
    وعندها فتحت الشهيدة الباب لأنّها كانت تعرف صوته، فألقى زنبيلين من المواد الغذائية، وأغلق الباب.
    ولم تنجح خطّة الحصار الغذائي بعد أن انتشر خبرها، وشاع بين الناس، فقد واجهت السلطة ضغطا لا من المرجعيّة، ولا من الحوزة، بل من الشباب وعامّة المؤمنين الذي ملأوا الجدران بالشعارات، وبالمناشير التي توزّع بسريّة، وتندّد بالحصار الغذائي مما اضطر السلطة إلى فك الحصار، فسمحت للحاج عباس بإيصال الغذاء يوميّا ولكن في ظل رقابتها، وكان شرطي الأمن يرافقه كظلّه في السوق، ولا يسمح له بالكلام مع عائلة السيد الشهيد، فكان يستلم ورقة صغيرة كتبت عليها احتياجات العائلة من المواد الغذائية فيقوم بشرائها تحت إشراف الأمن، وهكذا استمرّ الحال لفترة طويلة.[/align]

  4. #34
    تاريخ التسجيل
    Jul 2004
    الدولة
    هناك
    المشاركات
    28,205

    افتراضي

    الأمن يبحث عنّي
    في الشهر الأول من الحجز شكّت السلطة بوجودي في منزل السيد الشهيد فجاء مساعد مدير أمن النجف، وطلب من الشهيدة بنت الهدى حضوري إلى دائرة الجنسيّة والإقامة لمدّة خمس دقائق فقط، لأني كنت قد كفلت سماحة الشيخ المسلمي ـ وهو أحد طلاّب السيد الشهيد ـ وقد صدر الأمر بتسفيره إلى إيران فكان يجب علي أن أفي بما التزمت به لدائرة الإقامة، وأقوم بإحضاره. نفت الشهيدة وجودي في البيت، وقالت لهم: فتشّوا عنه في غير هذا المكان، ولم يكن أحد يعلم بوجودي في البيت إلا السيد الشهيد وأخته الشهيدة وكان ذلك في بداية الأحداث.
    وبعد ثلاثة أيام جاء أحد ضبّاط الجنسية وطلب من الشهيدة حضوري إلى دائرة الجنسيّة لنفس السبب، فواجه نفس الجواب، واستمرّ الحال على هذا المنوال مدّة شهر تقريبا.
    وكان لا بد من حل، فاتّفقت مع السيد الشهيد على تضليل السلطة بتقديم دليل قاطع على عدم وجودي في منزل السيد الشهيد، وذلك بأن أخرج من البيت بطريقة ما ، ثم أتّصل هاتفيا بالسيد الشهيد، واعرّفه نفسي وأستفسر عن صحّته وأحواله، وبما أن الهاتف مراقب، والمكالمات تسجّل، فإن السلطة ستعتقد أنّي خارج المنزل قطعا، بل ستطمئن أنّي في خارج العراق حسب بعض فقرات المكالمة الهاتفيّة التي سأتحدّث بها مع السيد الشهيد.
    وهكذا كان، وبعدها انقطع السؤال عنّي تماما وعدت إلى البيت، وبقيت مع السيد الشهيد إلى آخر يوم من حياته،والحمد لله رب العالمين على ذلك.

    العزلة التامة
    من اليوم الثامن عشر من رجب تقريبا وحتى اليوم الأخير من شهر شعبان كنّا في عزلة كاملة عن العالم، فلا أخبار الناس تصل إلينا، ولا أخبارنا تصل إليهم، وكأنّنا أحياء دفّنا في قبر كبير.
    كان يؤنسنا المذياع، نستمع إلى أخباره، وكانت تسرّنا أبواق السيارات، فنسعد بها؛ لاننا نشعر بأنّنا قرب العالم، وكان صوت اُم تنادي ولدها أو صراخ طفل يصل إلى مسامعنا يؤنسنا غاية الاُنس، وكان دويّ المخبز الملاصق للمنزل أحلى من أي لحن، هكذا يشعر الإنسان إذا وضع في قفص خانق.

    بداية الاتصال
    وبدأت لنا أوّل صلة بخارج البيت في اليوم الأخير من شهر شعبان حينما صعدت إلى سطح المنزل، ووقفت في زاوية منه بحيث لا تراني أجهزة المراقبة ولا عيون الأمن مترقّبا هلال شهر رمضان المبارك، فرأيت سماحة الأخ حجة الإسلام والمسلمين السيد عبد العزيز الحكيم، وكان هو أيضا قد صعد إلى

    (1) كان لسماحته دور بطولي و فدائي في خدمة السيد الشهيد فمن اليوم الآخر منشهر شعبان وحتى نهاية الحجز كان اهم حلقة توصل السيد بخارج البيت و البمنفذ الحكيم لكل ما كان يطلبه السيد الشهيد رغم احتمال ان يؤدي به الأمر ان يضحي بنفسه وعائلتهفي أي لحظة وقد اشاد به السيد الشهيد كثيراً وفي آخر رسالة كتبها وهي اقرب ما تكون الى = السطح مترصّد الهلال.
    وبما أن المسافة بعيدة ـ نسبيا ـ بين دار السيد الشهيد وداره، كان تفاهمنا عبارة عن إشارات باليد، بعضها كانت مفهومة والأخرى غير مفهومة، ولكن الشيء الذي اتّفقنا عليه من خلال الإشارات أن نلتقي في اليوم التالي في نفس الوقت.
    وهكذا بدأت لنا أول صلة بالعالم من خلال هذا الطريق بعد عزلة تامّة استمرّت ما يقرب من خمسين يوما.
    وفي اليوم الثاني صعدت إلى السطح، فرأيته من بعيد يشير إليّ بإشارات، وأنا أيضا اُقابله بإشارات مماثلة حاولت من خلالها أن أفهم ما يقول وافهمه بما اريد، ولكن من دون نتيجة تذكر، حيث لم يفهم بعضنا مراد البعض عبر الإشارات فاتّفقنا على موعد آخر.
    وفي اليوم الذي بعده كتب عبارات على قطعة من الكارتون استطعت أن أقرأ بعضها، وعجزت عن قراءة البعض الآخر، وكان هذه المحاولة بداية التوصل إلى الأسلوب المناسب للتخاطب، فبعد ذلك كنت أكتب ما يريده السيد الشهيد؛ على (صينية الطعام) بخط كبير ـ وقد يستدعي ذلك عدّة صواني وأقوم بعرضها الواحدة بع الأخرى على حسب تسلسل كلمات الجملة، فاقدّم الاولى ثم الثانية وهكذا حتى تتمّة الجملة، وهو يقرأها بواسطة الناظور المقرّب (الدوربين) ويفهم ما نريد إيصاله إليه، وهكذا نحن نقرأ ما كان يكتبه لنا، ويتمّ التفاهم بيننا بهذا الأسلوب.
    وكنّا فيما بعد نتّفق على أكثر من موعد في اليوم حسب ما تقتضيه الظروف، وقد يحدث أن يتم الاتّصال من دون موعد في بعض الأحيان.

    =الوصية , وبعثها الى سماحة آية الله السيد محمود الهاشمي اوصاه به وبي بعبارات قلما يعبر السيد الشهيد بمثلها لأحد ,فجزاه الله (تعالى ) خير الجزاء .
    ولا انسى دور سماحة الأخ حجة الإسلام و المسلمين الشيخ عبد حليم الزهيري (حفظه الله ) فقد قام بدور كبير في تلك الفترة وكان اكبر همه السيد الشهيد والدفاع عنه وتنفيذ اوامره فجزاه الله خيراً.

    وبهذه الطريقة استطاع السيد الشهيد أن يكون على اطّلاع كامل على الأوضاع، ومن خلاله كانت تصل توجيهاته وتعليماته إلى المجاهدين والمؤمنين.

    السلطة تبعث طبيبا
    بعثت السلطة الدكتور ضياء العبيدي من دون طلب سابق بحجّة إجراء فحوصات للسيد الشهيد، والكشف عن وضعه الصحّي، فقالت له الشهيدة بنت الهدى: أن صحّة السيد بخير، ولا يحتاج إلى طبيب، فأصر على السيدة الشهيدة وقال: إن السلطة سمحت لي بذلك، وهي أيضا أصرت على عدم وجود ضرورة لذلك، ولم تسمح له بدخول البيت، ولا ندري ما هو الهدف الحقيقي من هذه المبادرة!!!
    وإذا كان لنا الحق في أن نشك في كل أعمال السلطة على ضوء ما نعرف عنها من خبث وحق،فأن ما حث قد يكون محاولة لاغتيال السيد الشهيد.

    السلطة تبعث بجاسوسة
    وعلى الرغم من وجود أجهزة التجسّس الإلكترونية المنصوبة في داخل البيت فأن السلطة كانت قلقة من الأوضاع في داخل منزل السيد الشهيد، فبعث إحدى النساء لمعرفة ما يجري في داخله.
    طرقت الباب: ففتحت لها الشهيدة بنت الهدى الباب، ومن دون استئذان دخلت وقال: إني أرغب بزيارتكم.
    فقالت لها الشهيدة: وكيف حصلت على الإذن من السلطة بزيارتنا؟ فقالت: لا يحتاج ذلك إلى الإذن.
    الشهيدة: ورجال الأمن الذين يطوّقون بيتنا لم يمنعوك من ذلك؟!
    قالت : كلا.
    كان الانطباع الأوّلي أن تكون المرأة كغيرها من النساء أو الرجال الذي لم يكونوا على اطلاع كامل عن الأوضاع فجاءوا لزيارتنا السيد الشهيد أو عائلته وهم في الحجز فالقي القبض عليهم،إلا أن السيدة الشهيدة لاحظت أن هذا الوجه غريب، بل لم تكن المرأة هذه تعرف من المتحدّثة معها أيضا، هل هي بنت الهدى أو أم جعفر، ثم إن هذه التضحية الكبيرة ـ وهي الزيارة العلنية في هذا الظرف العصيب ـ التي لم يجرأ عليها اقرب المقرّبين من السيد الشهيد، أو الشهيدة بنت الهدى باعثة على الاستفهام والاستغراب... وما هي إلا دقائق معدودة حتى كشفت هذه المجرمة عن هويّتها، من خلال الأسئلة التي كانت تطرحها. واستمرّت هذه المجرمة تتردّد على منزل السيد الشهيد بين الحين والآخر حتّى نهاية الحجز.

    فوتوغرافية سفير الجمهوريّة الإسلاميّة

    وفي تلك الفترة حاول سماحة حجّة الإسلام والمسلمين السيد محمود دعائي سفير جمهوريّة إيران الإسلامية في بغداد زيارة السيد الشهيد وهو في الحجز. حدث ذلك حينما كنت أنظر إلى الزقاق من فتحة أحدثها كسر صغير في زجاجة النافذة التي تطل عليه، فشاهدت السيد الدعائي يقترب من منزل السيد الشهيد، فذهبت بسرعة ووقفت خلف الباب لأستمع للحديث الذي سيدور بينه وبين قوّات الأمن التي تطوّق المنزل.
    حاول سماحته أن يدقّ الجرس، فقال له أحدهم: سيدنا، إن السيد الصدر غير موجود.
    السيد الدعائي: أنا أعلم أن السيد في بيته.
    (الأمن): السيد ذهب إلى الكاظمية، أو سامراء للزيارة ـ والترديد منّي ـ ... وجرى بينهم حديث آخر يدور حول نفس الموضوع، كان بعضه يصل إلى مسامعي، والبعض الآخر لا يصل، ولم يتمكّن من زيارة السيد الشهيد.
    بعد محاولة سماحة السيد الدعائي زيارة السيد الشهيد شدّدت السلطة من إجراءاتها الأمنية، ومراقبتها للمنزل وللزقاق، وكان بعض أفراد الأمن المجرمين يصيح بصوت عال ليسمع السيد الشهيد، أو عائلته عبارات مثل (عملاء إيران مصيرهم الإعدام)، أو (انكشفت الحقائق، وتبيّنت العمالة) وأمثال ذلك.

    كتابة البيان الثاني

    وكتب السيد الشهيد البيان الثاني وهذا نصّه:
    بسم الله الرحمن الرحيم
    والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيّدنا محمّد، وعلى آله الطاهرين، وصحبه الميامين.
    يا شعبي العراقي العزيز...
    يا جماهير العراق المسلمة التي غضبت لدينها وكرامتها ولحرّيتها وعزّتها، ولك ما آمنت به من قيم ومثل...
    أيها الشعب العظيم:
    أنّك تتعرّض اليوم لمحنة هائلة، على يد السفّاكين والجزّارين الذين هالهم غضب الشعب، وتململ الجماهير، بعد أن قيّدوها بسلاسل من الحديد، ومن الرعب والإرهاب، وخيّل للسفّاكين أنّهم بذلك انتزعوا من الجماهير شعورها بالعزّة والكرامة، وجرّدوها من صلتها بعقيدتها وبدينها، وبمحمّدها العظيم، لكي يحوّلوا هذه الملايين الشجاعة المؤمنة من أبناء العراق الأبي إلى دمى وآلات يحرّكونها كيف يشاؤون، ويزقّونه ولاء عفلق وأمثاله من عملاء التبشير والاستعمار بدلا من ولاء محمّد وعلي صلوات الله عليهما.
    ولكن الجماهير دائما هي أقوى من الطغاة مهما تفرعن الطغاة، وقد تصبر ولكنها لا تستسلم، وهكذا فوجئ الطغاة بان الشعب لا يزال ينبض بالحياة، ولا تزال له القدرة على ان يقول كلمته، وهذا هو الذي جعلهم يبادرون إلى القيام بهذه الحملات الهائلة على عشرات الآلاف من المؤمنين والشرفاء من أبناء هذا البلد الكريم، حملات السجن والاعتقال والتعذيب والإعدام، وفي طليعتهم العلماء المجاهدين، الذي يبلغني أنّهم يستشهدون الواحد بعد الآخر تحت سياط تعذيب.
    وإنّي في الوقت الذي اُدرك فيه عمق هذه المحنة التي تمر بك يا شعبي، يا شعب آبائي وأجدادي أؤمن بأنّ استشهاد هؤلاء العلماء، واستشهاد خيرة شبابك الطاهرين، وأبنائك الغيارى تحت سياط العفالقة لن يزيدك إلا صمودا وتصميما على المضي في هذا الطريق، حتّى الشهادة أو النصر.
    وأنا أعلن ـ يا أبنائي أنّ صمّمت على الشهادة،ولعل هذا آخر ما تسمعونه منّي ، وإن أبواب الجنة قد فتحت لتستقبل قوافل الشهداء، حتّى يكتب الله لكم النصر.
    وما ألذ الشهادة التي قال عنها رسول الله : إنها حسنة لا تضر معها سيئة، والشهيد بشهادته يغسل كل ذنوبه مهما بلغت.
    فعلى كل مسلم في العراق ، وعلى كل عراقي في خارج العراق، أن يعمل كل ما بوسعه ـ ولو كلّفه ذلك حياته ـ من أجل إدامة الجهاد والنضال، لإزالة هذا الكابوس عن صدر العراق الحبيب، وتحريره من العصابة اللاإنسانيّة، وتوفير حكم صالح فذ شريف، يقوم على أساس الإسلام.
    والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
    10 شعبان 1399 هـ
    محمّد باقر الصدر

  5. #35
    تاريخ التسجيل
    Jul 2004
    الدولة
    هناك
    المشاركات
    28,205

    افتراضي

    [align=center]زيارة مدير أمن النجف[/align]

    عندما تسلم صدّام السلطة قام بدعوة إفطار لمجموعة من العلماء أكثرهم من علماء إخواننا السنة وبعض الأفراد من علماء الشيعة منهم السيد حسين السيد إسماعيل الصدر وقد رفض الاستجابة لهذه الدعوة فاعتقل، وفي مديرية الأمن صعدوا به إلى مقصلة الإعدام إن لم يستجب لحضور دعوة الإفطار، فاضطرّ لقبول ذلك، وفي هذه الدعوة سلّم صدّام على السيد حسين وسأله عن السيد الصدر سؤالا عابرا وكان سلام وسؤال عزّت الدوري أوسع، وهنا طلبوا منه أن يتدخّل لفك الحصار وتسوية الصراع، ولم يكن من خيار أمامه إلاّ القبول، وكان النظام قد أطلق سراح بعض السجناء وهم أكثر من مائتين كإبداء لحسن النيّة في عهد الطاغية الأسود، وعلى أثر ذلك وبعد عيد الفطر المبارك اتصل مدير أمن النجف وطلب من الشهيدة بنت الهدى الإذن لزيارة السيد الشهيد، فقالت له: إن السيد نائم، ولا يمكن أن أتحدّث مه، فقال لها: سوف اتصل بكم بعد ساعة.
    وخلال هذه الساعة جرى حديث بنا حول الموقف المناسب تجاه هذا الطلب، وكان موقف السيد الشهيد الرفض أوّلا على أساس أن الزيارة قد تمتصّ همم وغضب العاملين، أو من كان يعتق أنّ مهتم بأمر احتجاز السيد الشهيد، وكان يريد أن يجعل عملية الاحتجاز قضيّة كبيرة توجّج الروح الثوريّة لدى الناس، وتدفعهم إلى مواصلة الجهاد، ومن ناحية ثانية كان السيد الشهيد بحاجة إلى معرفة المستجدّات في موقف السلطة، ليتمكّن على ضوء ذلك من معرفة ما يجب أن يفعله. وبما أن زيارة مدير الأمن ستكون شبه سريّة، ولن تنعكس إلا على نطاق محدود من الناس، فقد وافق على أن تتم بعد الظهر، حيث يقل تردد الناس في زقاق المنزل إلى حد كبير.
    وبعد ساعة اتصل مدير أمن النجف فقالت له الشهيدة: لا مانع من ذلك على أن تكون الزيارة بعد الظهر.
    وبعد الظهر جاء مدير أمن النجف، والتقى بالسيد الشهيد، وجرى بينهما الحوار التالي:
    مدير الأمن: سيّدنا أنا آسف على أن أزوركم في هذه الظروف، وكنّا نرغب في أن لا يحدث هذا الوضع.
    السيد الشهيد: أي وضع؟
    مدير الأمن: الاحتجاز.
    السيد الشهيد: أنا راض بهذا الوضع، ولست متضايقا منه.
    مدير الأمن: نحن غير راضين به،ونتمنّى أن ينتهي بسرعة، وتعود الحياة إلى طبيعتها.
    السيد الشهيد: إذا كان هذا الوضع غير طبيعي فأنتم سببه.
    مدير الأمن: سيّدنا أنت لا تعلم بما حدث ـ في رجب ـ، لقد كانت ثورة حقيقية كادت أن تنجح لولا حزم القيادة. إنّنا لم نواجه حدثا كهذا ثورة 17 تموز وحتّى ذلك، اليوم، إن الأوضاع كانت خطيرة، جدا وإلى الآن توزّع المناشير، وتكتب الشعارات على الجدران التي تحرّض الناس علينا.
    ثم قال: نحن نعلم أن ظروفكم غير طبيعيّة، وقد تكون بحاجة إلى المال، نحن بخدمتكم لأي مقدار تحتاجون إليه.
    السيد الشهيد: لست محتاجا إلى المال.
    مدير الأمن: هل من خدمة أقدمها لكم؟
    السيد الشهيد: أطلقوا سراح المعتقلين، فإن هؤلاء لا ذنب لهم.
    مدير الأمن: سأنقل طلبكم إلى الجهات المختصّة.
    هذا بعض ما جرى في تلك الزيارة.
    ومن المؤكد أن السيد الشهيد قد حصل على كل ما كان يريد، وتأكد له أن الحجز يمكن أن يكون قضيّة كبيرة تستثمر لخدمة الإسلام،وعلى هذا الأساس تشدّد في اللقاءات الأخرى في موقفه من فك الحجز.
    موفد آخر للسلطة:
    وبعد مضي شهر واحد تقريبا من لقاء مدير أمن النجف بالسيد الشهيد بعثت السلطة الشيخ عيسى الخاقاني بمهمّة خاصة.
    وقبل أن نعرف طبيعة هذه المهمّة يجب أن نشير إلى حقيقة مهمّة، وهي أن الشيخ الخاقاني لا يرتبط بأي شكل من العلاقات بالسيد الشهيد، فليس هو من تلاميذه، ولا من وكلائه، كما أن الشيخ المذكور يعتبر من أعداء الثورة الإسلاميّة في إيران، وكان له دور كبير في تأجيج الفتن في المنطقة العربية من خوزستان.
    والحقيقة أن السيد الشهيد استغرب كثيرا حينما اتّصل الشيخ الخاقاني هاتفيا، وطلب الإذن بزيارته، وكان الاحتمال الأقرب الذي تبادر إلى أذهاننا قبل أن نلتقي بالسيد الشهيد هو أن ضغطا حصل من قبل الشيعة في دول الخليج على السلطة البعثيّة مما أجبرها على السماح لممثّل لهم يزور السيد الشهيد ليطمئن على صحّته وسلامته، أمّا أن يأتي على أساس أنه ممثّل أو مبعوث للسلطة، فهو أمر لم يكن محتملا لدينا.
    التقى الشيخ الخاقاني بالسيد الشهيد، وكان يرافقه شخص آخر، لم نعرفه بشكل دقيق ومن المحتمل أن يكون من أقاربه.
    وبدأ الخاقاني حديثه مخاطبا السيد الشهيد بخجل مفتعل، فقال: لقد جئت إلى خدمتكم لأجل حل هذه المشكلة، وإعادة الأمور إلى طبيعتها.
    السيد الشهيد: ومن كلّفك بهذه المهمّة؟
    الخاقاني: القيادة.
    السيد الشهي: ماذا تقصد بالقيادة؟
    الخاقاني: رئيس الجمهورية والمسؤولين.
    السيد الشهيد: الأزمة سبّبتها الدولة، إنّها لا تتحمّل فوتوغرافية وفود لم يرفعوا شعارا ضدها ولم يهدّدوا الأمن، إن كل وفد منها كان يأتي ويجلس معي عشرة دقائق يطلب منّي أن لا اغادر العراق، ثم يعود بكل هدوء إلى بلده، هل هذا العمل يعتبر جريمة أو تهديدا للسلطة؟
    الخاقاني: كلا، فالحكومة لا تعتبر ذلك جريمة، وإنّي أودّ أن أطلعكم بأن المسؤولين قالوا لي: أبلغ السيد الصدر أن بإمكانه أن يفتح بابه، ويستقبل أي أحد يرغب بزيارته، أو يخرج إلى أي مكان شاء ويمارس حياته الطبيعيّة.
    السيد الشهيد: إنّ حياتي طبيعيّة، وأنا سعيد للوضع الذي أنا فيه، ولا حاجة إلى ذلك كلّه.
    بعد ذلك كشف الشيخ عيسى الخاقاني عن المهمّة الحقيقيّة التي بعثوه من أجلها، فقال: سيّدنا تعلمون أن الحوزة العلمية بحاجة إلى تغيير وبناء جديد، وبحاجة إلى دعم وإسناد.
    السيد الشهيد: نعم، إنّها بحاجة إلى ذلك.
    الخاقاني: وخاصّة الحوزة العلمية العربيّة، إنّها بحاجة إلى بناء جديد، ولا أحد يستطيع أن يفعل ذلك غيركم، وأنا مستعد لتنفيذ كل أوامركم بهذا الشأن.
    السيد الشهيد: الحوزة العلميّة في النجف الأشرف كيان واحد لا يتجزأن ليس لدينا حوزة عربية وأخرى فارسيّة، وثالثة أفغانيّة، بل لدينا حوزة فيها العربي، والفارسيّ، والأفغاني، والباكستاني، ومن مختلف القوميات.
    الخاقاني: ولكن يا سيدي سيطر على الحوزة، فمعظم المراجع منهم.
    السيد الشهيد: الأجواء في الحوزة العلمية حرّة، وكل ما يثبت لياقة وجدارة يتقدّم، ولا يمنعه من ذلك أحد.
    الخاقاني:هل تعلم ـ يا سيدي ـ ماذا فعل العجم بالعرب في خوزستان، لقد قتلوا شبابهم، وهتكوا أعراضهم، وسلبوا أموالهم، لقد وقف الخميني ضدّ العرب، أذلّهم وسحق كرامتهم.
    السيد الشهيد: أن لا أسمح لك أن تتكلّم بهذا، إنّ السيد الخميني مرجع عادل لا يفرق بين عربيّ وأعجمي كان هنا في النجف يمنح المرتب الشهري للعرب والعجم، لا يفرّق بين أحد منهم. وإذا كان الغرض من مجيئك إلى هنا هو هذا فلست مستعدا لمواصلة الحديث.
    الخاقاني: معذرة، لم يكن الهدف هذا، وإنّما كان الهدف تطوير الحوزة، وفي أثناء ذلك أحببت أن أخبركم بأنّ أحداثا مؤلمة وقعت لعرب خوزستان.
    السيد الشهيد: عرب خوزستان يعيشون في ظل دولة إسلامية، لهم ما لغيرهم، وعليهم ما على غيرهم، ولا احبّ أن يتكررّ هذا الكلام مرّة أخرى.
    انتهى هذا اللقاء، ومن الواضح أن هدف السلطة كان تحريك الحس القومي، واستغلاله لإيجاد فاصلة كبيرة بين النجف والثورة الإسلامية.
    إنّ الشيخ عيسى الخاقاني يعيش في دولة من دول الخليج لا في النجف، وهو يعلم أن السيد الشهيد محتجز لا تسمح السلطة بالاتصال به، فكيف استطاع تجاوز هذه الحدود، وبادر إلى تحمّل مسؤولية بناء الحوزة العلميّة العربيّة في النجف!! بل ولماذا في هذا الوقت بالذات؟!
    إن التفسير الأقرب لما حدث هو أن السلطة استهدفت ـ عن غباء ـ أن تجعل من السيد الشهيد منافسا قويّا لقيادة السيد الخميني، وتجعل من النجف منافسا قويا لحوزة قم، وتقوم بتأجيج الصراع بينهم. وهذا لو حدث فإنّه يحقّق لها من الآمال مالم تكن تحلم به.
    ولا أدري كيف خطر في ذهن القيادة البعثيّة هذا وهي ترى السيد الشهيد وقد ألقى بكل ثقله لتأييد الثورة الإسلامية وقائدها الإمام الخميني.


    وعاد الخاقاني مرّة أخرى
    وبعد فترة قصيرة جاء الشيخ عيسى الخاقاني مرّة أخرى، وقال للسيد الشهيد: إن هذه هي الفرصة الوحيدة التي يمكن أن تستفيدوا منها لحل هذه الأزمة، إنّنا بحاجة إلى حوزة ومرجعيّة عربيّة، والسلطة مستعدّة لتقديم كافّة المساعدات، كالرواتب للطلبة، والإعفاء من الخدمة العسكريّة، وقد بحثت مع المسؤولين كافّة التفاصيل.
    فأجابه السيد الشهيد: بأن الحوزة والمرجعيّة ليست بحاجة إلى مساعدة أحد، الحوزة قائمة بنفسها، وإمام العصر يرعاها، وأنا لست مستعدّا لقبول أي عرض ممّا تقول.
    وخابت مؤامرة السلطة التي حاولت تنفيذها بواسطة الشيخ عيسى الخاقاني، أمام صمود ووعي وحكمة السيد الشهيد، وتضحيته في سبيل مبادئه.

    وساطة السيد على بدر الدين

    ومن المحاولات التي جرت أثناء فترة الحجز محاولة قام بها المرحوم السيد علي بدر الدين، فمن خلال علاقاته الواسعة بالمسؤولين في السلطة،وخاصّة القياديين منهم طلب أن يتوسّط لديهم لحلّ الأزمة بينهم وبين السيد الشهيد، وكان يتصوّر أن بإمكانه ذلك.
    وحينما علم السيد الشهيد أن السيد على بدر الدين سوف يأتي لهذه المهمّة استرّ لذلك؛ لأنّه يعلم أن السيد بدر الدين على اطّلاع كبير بما يجري خلف الكواليس، ولن يتردد في الكشف عن كل مخطّطات السلطة تجاه هذه القضية، وأنّ ما سوف يكشف عنه على بدر الدين سيكون له تأثير كبير على تخطيط السيد الشهيد.
    وبعد مكالمة هاتفيّة استأذن فيها لزيارة السيد الشهيد جاء وجلس في الغرفة الخاصّة باستقبال الضيوف لوحده وكنت في مكان بحيث يمكنني أن أستمع لما يجري فيها من حديث، فسمعته يقول: إلهي بحق محمد وآل محمد وفّقني لحلّ هذه المشكلة وإنقاذ السيد الصدر.
    بعد ذلك حضر السيد الشهيد، فسأله عن موقف السلطة،وبماذا تفكّر؟
    فقال: لقد سمعت منهم كلاما خطيرا، وأنا قلق جدا من ذلك، إن ما يستفزّهم جدا ويغيظهم ويثير فيهم الحقد عليكم هو تأييدكم للثورة الإسلامية في إيران، لابد من إيجاد حل لهذه القضية.
    السيد الشهيد: وماذا يريدون؟
    السيد بدر الدين: يريدون شيئا من التأييد لهم، أو التراجع عن موقفكم من تأييد الثورة الإسلامية في إيران بشكل مناسب.
    السيد الشهيد: وإذا لم أفعل؟
    السيد بدر الدين: والله ـ يا سيّدي ـ إنّهم يفكّرون بإعدامكم، والتخلّص منكم، لا حديث لهم إلا هذا ، ولا هم لهم إلا التفكير في كيفيّة تنفيذه، إن هؤلاء قساة لا رحمة في قلوبهم، إني أرجوك ـ يا سيّدي ـ أن تفكر ولو بقليل من التنازل لإنقاذ حياتك، إن استشهادك خسارة كبيرة.
    السيد الشهيد: كيف ينظرون لما حدث في رجب، وما أعقبه من أحداث؟ السيد بدر الدين: إنّهم في قلق وخوف دائمين،إنّهم يخشون من تصاعد الأحداث وتطوّرها، إنّهم يعتبرون ما حدث في رجب ثورة لم تنجح، وخوفهم من تكرر ذلك.
    السيد الشهيد: لا أتنازل أبدا، وموقفي ثابت، وإذا كان هؤلاء يفكّرون بإعدامي، فأنا مستعد لذلك.
    السيد بدر الدين: سيّدي، هل من أمل ولو ضعيف؟
    السيد الشهيد: أبدا.
    وبكى السيد علي بدر الدين بكاءا شديدا، ثم قال: إنّني سأترك العراق، وأسافر إلى لبنان، أنا لا اريد أن أبقى هنا وأشاهد جنازتكم.
    وكان هذا آخر لقاء له بالسيد الشهيد، وبعدها غادر إلى لبنان، وبعد مضيّ فترة من الزمن قامت المخابرات العراقيّة باغتياله هناك.
    وعلى ضوء المعلومات التي أدلى بها السيد علي بدر الدين، وكذلك الانطباعات التي حصلت بعد زيارة مدير أمن النجف للسيد الشهيد تأكّد أن الحجز رغم ما فيه من صعاب وآلام يعتبر مشكلة كبيرة للسلطة، كما أنّه يمكن أن يكون قضيّة تستثير الجماهير، وتحرّضها على مواصلة الجهاد.
    وكانت الأدلّة تتوارد، ففي كل يوم تقع أحداث تؤكد صحّة هذه الرؤية، فكانت أعمال الاغتيال والتفجير، والمواجهات المسلّحة، وكتابة المناشير وتوزيعها، وكتابة الشعارات على الجدران من الأحداث اليومية التي أصبحت وكأنها طبيعيّة، وكان السيد الشهيد يسمع بنفسه أصوات إطلاق النار في بعض الليالي أثناء المواجهات المسلّحة بين المؤمنين وقوّات السلطة، فكان شعوره بصحّة هذه الرؤية يقوى يوما بعد آخر.

    (1) وبرع المجاهدون في توزيع المناشير وكانت بعض اساليبهم في غاية الطرافة فمثلاًقام احد المجاهدين بكتابة شعارات على قصاصات ورقية صغيرة ثم غلف بها قطع الحلوى –الجكليت- واعاد تغليفها مرة اخرى بورقها الاصلي واعطاها لاحد عملاء السلطة الذين يخدمون في الحرم الشريف وقال له انثر هذه الحلوى في الصحن على الزوار –وهذا العمل متعارف على انه وفاء لنذر او عهد فقام بنثره على رؤوس الزوار وكان ممن اخذ من تلك الحلوى بعض رجال قوات الأمن الورابطين في الصحن فلما فتحوها وجدوا الأوراق التي تحمل شعارات تندد بالسلطة فالقوا القبض على زميلهم وانهالوا عليه بالضرب داخل الصحن ثم اخذوه الى مديرية امن النجف وضاع من ذلك اليوم شخصه وخبره وكانت معظم الملابس الجاهزة للبيع في شركة (اورزدي باك) ملغمة بالمناشير ففي جيب كل بدلة اكثر من منشور مما جعل اكثر الناس يتجنبون الإقتراب منها وتجد في معظم المصاحف وكتب الادعية عدة مناشير تندد بالسلطة وتطالب بالأفراج عن السيد الشهيد .





    إن السيد الشهيد قدم كل ما يملك وفعل ما يمكن، ولا شئ أكبر من أن يستعد لقبول الاحتجاز له ولعائلته وأطفاله في سبيل ضماهن مستقبل التحرّك والجهاد لإسقاط السلطة، وإقامة حكومة إسلاميّة ربّانيّة على أرض العراق، تحكم بما أنزل الله، وتحقق للشعب حرّيته وكرامته وحقوقه.
    قد لا أستطيع أن اُعبر بشكل دقيق عن واقع الحجز، إنّه في الحقيقة مأساة مروّعة عاشتها عائلة كاملة، ولولا وصيّة السيد الشهيد لي بكتمان بعض تلك المأساة لذكرت من الأحداث ما يشيب له الرضيع.
    فأي أب يحب أن يرى أبناءه جياعا وهو لا يعرف إلى متي ستستمرّ هذه الحالة؟
    وأي أب يتحمل أن يرى مشهدا لطفلة له تتلوّى من ألم الأسنان وهو لا يستطيع أن يوفّر لها قرصا مسكنا؟
    وأي ابن يتحمّل أن يرى أمّه العجوز التي أنهكتها مصائب الدنيا تختنق من شدّة السعال وهو يعجز عن توفير الدواء لها؟
    وأي أب يتحمل أن يرى عائلته وأطفاله يعيشون عدة اشهر في بيت لا يعلم في أي لحظة سينهار بهم جميعا .. ولا منجاة لهم منه؟!
    وإنّي على يقين من أن تلك المشاهد العاطفيّة، وغيرها من اللحظات المثيرة وما هو مشعر بالخطر منها كانت تأخذ من قلبه مأخذا كبيرا لدرجة جعلته يتمنّى الموت أحيانا، ولكنّه كان يقول: (إن ذلك بعين الله تعالى ،إن الناس سبقونا إلى ما هو أعظم مما نحن فيه ، وكان يهون مما ألم به ذكر الشهيد السعيد السيد قاسم الشبّر ويقول:

    (1) ذكرت بعض ذلك لسماحة آية الله السيد الحائري حرصاً على حفظه وعدم ضياعه وهو غير صالح للنشر .


    (إنّه يعاني من التعذيب مالم نعان نحن بمقدار عشرة...)
    ويذكر حصار الرسول وجميع آل هاشم في شعب أبي طالب لا يظلّهم من أشعة الشمس شئ، وهم يفقدون الماء والغذاء،فيقول:
    (كان ذلك من أجل الإسلام، فلنكن امتدادا لهم، وعلى خطّهم وهدفهم).
    إن أحدا من أهله لم يشتك من المأساة ولم يتململ يوما من الأيام،ولكن ما طفح كان من مشاعر الأبوة العطوفة الحانية التي يعينها أمر اُسرتها وأبنائها، ويهولها ما يحدق بها من مخاطر، ويحوطها من محن، فيؤلمه ما يؤلمها، ويسرّه ما يسرّها.
    ومع ذلك كله صمم على أن يستمر ـ هو ومن ومعه ـ على تحمّل هذه المأساة وتحويلها إلى قضيّة تحقق الإسلام وللعمل الإسلامي أكبر قدر ممكن من الانتصار، ومرارا سمعته يقول:
    (إنّني مستعد لأن أبقى مع عائلتي محتجزا مدى العمر، أو اُضحّي بنفسي وبهم، إذا كان ذلك يحقّق للإسلام نصرا في العراق).
    كان السيد الشهيد يعتقد أن قضيّة الاحتجاز سوف تستثمر من قبل المهتمين بأمر العمل الاسلامي، وكان يتوقع أن يسمع أخبارا تسرّه، فليس منطقيّا أن يتقدّم القائد إلى الإمام ويبقى المقاتلون في مواضعهم ينظرون إلى أشلائه تقطع بأيدي أعدائه، وليس من المتوقّع أن يحتجز السيد الشهيد وفي خارج العراق الكثير من فرص العمل الإعلامية، والسياسيّة ، والجهاديّة التي يمكن أن تسخّر لخدمة القضيّة.
    كنّا نتابع الإعلام ليلا ونهارا عسى أن نستمع لحدث، أو قضيّة تخصّ قضيّتنا، وكنّا نقول: هل يعقل أن أحدا لم يخطط لاختطاف طائره، أو اقتحام سفارة، أو اغتيال مسؤول قيادي في السلطة يتجوّل في دول العالم بهدف إلفات نظر العالم إلى هذه القضيّة الكبيرة مثلا؟ إن ذلك غير محتمل على الإطلاق.
    إلا أن السيد الشهيد فوجئ بأنّه وبدلا من أن يستمع لإخبار من هذا القبيل أخذ البعض يطالبه من خلال الهاتف المراقب وهو في الحجز بأن يجيب على برقيات لبعض العلماء الأعلام ما زاد من غضب السلطة وحقدها عليه بسبب ذلك! كما أنّه لم يحدث شئ مما كان يتوقّعه. فلا طائره تختطف، ولا سفارة تقتحم، بل برقيات وأخبرا لا طائل من ورائها غير إلحاق الأذى بالسيد الشهيد.
    وحاول أن يطّلع على الحقيقة كاملة، فأرسل رسالة إلى أحد الأشخاص في خارج العراق وكان قد كتبها على شكل أسئلة لتكون الإجابة دقيقة، وركّز في معظم أسئلتها على مثل هذه القضايا.
    ولمّا جاء الجواب ـ على بعض الأسئلة ـ أصيب بخيبة الأمل، وبدأ بتغيير تصوّراته وخططه في العمل، وقال في حينها:
    (إنه لو قدّر للسلطة أن ترفع الحجز عنّي من دون قيد أو شرط، وأعود إلى حياتي ووضعي الطبيعي، فسوف أعتمد في العمل على أمثال (أصحاب الرسالة)، إن هؤلاء أسخى الله تعالى بدمائهم من أجل الإسلام والقيادة الإسلامية، وسأبذل معظم الحقوق الشرعيّة على تربيتهم، إن الإسلام اليوم بحاجة إلى المضحّين الفدائيين، إن واحدا من هؤلاء يستطيع بعمل تضحوي ما أن يغيّر وضعا قائما كان يبدو من المستحيل تغييره، ولا يستعد أن يفعل بعض ذلك من بذلنا الكثير من أجله).
    وعلى هذا الأساس فكّر بإعادة النظر في كل الأمة وقد كتب بعض ذلك بخطّه.

    (1) انظر ص107
    (2) من المؤسف ان احدهم كان يتكلم في مجالس النجف فيقول :ان السيد الصدر جاءني يبكي فقال لي :ماذا يمكن ان افعل للخلاص من هذه الورطة ؟!! فقلت له: سيدنا انك تناطح جبلاً – يعني السلطة - فهل يمكن ان تؤثر فيه وكان المفروض ان لا تفعل ذلك منذ البدأ هذا في الوقت الذي كان فيه السيد الشهيد محتجزاً في منزله ولا يمكنه مغادرته فكيف تسنى له الاتصال بهذا الرجل الخائر خوفاً ورعباًمك السلطة.!!



    وقد أدّت هذه الرؤية إلى تعزيز فكرة الاستشهاد، وأحسّ أن فكّ الحجز حتّى لو حصل من دون ثمن يذكر فإنّه لا يجدي بالنسبة له كقائد، وحديث هذه القضيّة طويل لا أجد ضرورة إلى ذكره.
    أمّا في الداخل، فإن الأوضاع كانت على أفضل حال قياسا إلى الإمكانات المتوفّرة، وفقدان القيادات الميدانيّة التي تنظّم الأعمال الجهاديّة، بالرغم من إرهاب السلطة وبطشها.
    ومن نافلة القول أن أتحدث عن هذا بعد أن أشاد السيد الشهيد؛ في بياناته بالشعب العراقي ومواقفه الشجاعة والبطوليّة في مقارعة السلطة البعثيّة العميلة، وكان ممتنا من العراقيين في داخل العراق، وقد أشار إلى ذلك في موارد كثيرة كان آخرها في الرسالة الأخيرة كتبها إلى سماحة السيد الهاشمي، وعبّر فيها عن اعتزازه بهم.

  6. #36
    تاريخ التسجيل
    Jul 2004
    الدولة
    هناك
    المشاركات
    28,205

    افتراضي

    [align=justify]الزيارة الثانية لمدير أمن النجف

    وجاء مدير أمن النجف مرة أخرى، وكانت مهمّته تتلخّص بما يلي:
    1 - محاولة الحصول على شئ بسيط من التنازل، فقد قال للسيد الشهيد: إن السلطة تشعر أن كرامتها أهينت، وأن أبسط تجاوب منكم سوف ينهي الأزمة.
    ورفض أن يتجاوب مع هذا المقترح وقال له: لم يصدر منيّ شئ من هذا القبيل، إن هذه افتراضات تفترضونها، وأنا على كل حال لا أشعر بالضيق من الوضع الحالي.
    2 - أبره بأن السلطات تسمح للعائلة بالخروج من البيت وللأطفال بالذهاب إلى المدارس، كما تسمح بزيارة بعض الأرحام لكم.
    هذا أهمّ فقرات تلك الزيارة.
    وكان السماح بالخروج من البيت أهمّ فرصة للشهيدة بنت الهدى للعمل رغم مراقبة قوّات الأمن لها، من لحظة خروجها وإلى لحظة عودتها، وقد تحدثنا عن ذلك فيما سبق.

    البرّاك يتصل هاتفيا ويبلّغ برفع الحجز
    ومما لا شك فيه أن السلطة واجهت ضغطا جهاديا وجماهيريّا أجبرها على رفع الحجز عن السيد الشهيد، وهو أيضا كان بحاجة إلى فرصة مناسبة وكافية يستطيع استثمارها، وينفّذ خططه الجديدة على ضوء التجربة المرّة التي عاشها في الحجز، والتي كشفت له عن عدم صحّة بعض المتبنّيات الخاصة في أساليب العمل والعاملين.
    ولى كل حال فقد اتصل فاضل البرّاك مدير الأمن العام، وأبلغ الشهيدة بنت الهدى ان القيادة قرّرت رفع الحجز عن السيد الشهيد، وأن بإمكانه العودة إلى حياته الطبيعية.
    وفي الوقت نفسه رفعت السلطة جميع مظاهر الاحتجاز التي كانت تطوّق بها المنزل والزقاق الذي يقع فيه، وأبقت نقطة مراقبة ثابتة في مقبرة (آل زيني) التي تشرف على الزقاق.
    ولم تكن تخفى على السيد الشهيد حقيقة هذه المبادرة، فهو يعرف أن السلطة في العراق لا تتعامل بمنطق المرونة والحرية مع عدو لدود لها، إلا إذا بلغت إلى مرحلة الاضطرار والقهر التي تجبرها على اتخاذ موقف يخالف طبيعتها الإرهابية والإجرامية، كما أنه ليس من الطبيعي أن ترفع الحجز من دون ثمن يحفظ لها هيبتها وموقعها كدولة وسلطة حاكمة إن لم تكن مضطرّة إلى ذلك.
    وتعامل بالمزيد من الحذر والاحتياط تجاه هذه المبادرة، وقد قال لي في حينها:
    (يجب أن نجعل رفع الحجز أمرا واقعا لا يمكن للسلطة تحدّيه، ونجعل تردّد أصناف من الناس أمرا طبيعيا لنتمكّن من خلال ذلك اقتناص الفرص لتنظيم التحرّك الجهادي في العراق، فليس منطقيّا أن تستمر عملية الجهاد دون قيادة ميدانيّة تمتلك رؤية واضحة عن تفاصيل العمل، وكيفيّة تطويره، وجعله كيانا قويا متراصّا دائم الحركة والتواصل).
    إن الهدف الحقيقي للسيد الشهيد من الاستجابة المحدودة لمبادرة رفع الحجز كان هو ما أشرت إليه، ولهذا السبب منع لدينا حوزة الشباب وتردّدهم عليه في تلك الفترة، وكان يقول:
    (إن هؤلاء هم الطاقة الحقيقيّة، والقوّة الضاربة فيجب أن لا نعرّضهم للخطر في الوقت الحاضر.)كما أن السيد الشهيد بقى من الناحية العملية محتجزا فلم يخرج من بيته مطلقا، وكان يقصد بذلك أن تستمرّ الحالة اللاطبيعيّة في أذهان الناس والمجاهدين، ويحبط أوساط محاولة السلطة التي استهدفت امتصاص نقمة الجماهير وغضبهم برفع الحجز عن السيد الشهيد.
    وقد شاع خبر فك الحجز بين الناس، واستعد الكثيرون للمجيء على شكل وفود كبيرة، كما حث في رجب الحرام، إلا أنّ رفض ذلك، وكانت رغبته أن يقتصر التردّد عل كبار السن، والعلماء والطلبة في المرحلة الاولى، وبعد ذلك يكون لكل حادث حديث.
    وكان من الممكن أن يتحقّق ذلك، ويصبح رفع الحجز أمرا واقعا يصعب على السلطة تحديّه أو إعادة النظر فيه لو أن المرجعيّة العامة والحوزة العلمية وقفتا مع السيد الشهيد موقفا ينسجم مع المسؤولية الشرعية والواجب الديني.
    وكانت خيبة الأمل الكبيرة حينما أحجمت المرجعيّة العامّة من الاستجابة لطلب عدد كبير من العلماء وأبناء الأمور لزيارة السيد الشهيد، واكتفت بتمثيل شخصيّة تنوب عنها في ذلك، وكان لهذا الموقف أهميّته خاصة من وجهة نظر السلطة؛ لأنّه يكشف عن أنّ ردّ فعل المرجعيّة في حال اتّخاذ السلطة لإجراء انتقامي ضدّ الشهيد الصدر سوف لا يكون بالمستوى الذي يولّد للسلطة أزمة، وهو ما حدث بالضبط بعد استشهاده إذ لم يحدث من رد فعل حتّى على مستوى الحداد الصامت، أو الاحتجاج غير المعلن ولو بحجة التمارض مثلا، ولم يكن يوم استشهاد السيد الصدر إلا مثل اليوم الذي سبقه.
    كان المرجع الوحيد الذي بادر لزيارة السيد الشهيد هو المرحوم آية الله العظمى السيد عبد الأعلى السبزواري، فقد جاء متحديّا السلطة، ومحييّا بطولة السيد الشهيد وصبره وتضحيته، فكان موقفه موقف مشكورا، عبّر من خلاله عن موقف العالم الربّاني الذي لا يخشى في الله لومة لائم، وعندما خرج من البيت السيد الشهيد ألقت قوّات الأمن القبض عليه، وحاولت اقتياده إلى مديريّة أمن النجف، فقال لهم: إن واجبي أن أزور السيد الصدر، وأنا مستعد لتحمل مسؤوليّة ذلك، اذهبوا بي إلى حيث تشاؤون.
    وبادر أيضا الكثير من العلماء والطلبة إلى زيارة السيد الشهيد، وامتنع الأكثر، ومع ذلك أوشكت الأمور أن تعود إلى حالتها الطبيعيّة، ويصبح رفع الحجز حقيقة واقعة بمعنى الكلمة، وتعجز السلطة حينها عن اتّخاذ أي رد فعل ضد السيد الشهيد ولحقّقت المرجعيّة والحوزة ـ أيضا ـ قوّة ومكانة، ولما تعرّضت للذلّ والهوان فيما بعد.
    بعد تل المؤشّرات قال لي:
    (إن السلطة ستعود إلى فرض الحجز)
    وهكذا كان ، فبعد أيّام قليلة أعادت كل الإجراءات الإرهابيّة، وفرضت الإقامة الجبريّة بشدّة بالغة، ووحشيّة لا نطير لها إلى درجة اضطرّ خادم السيد الشهيد الحاج عباس إلى ترك العمل، والانقطاع عنّا ، وعادت حالة الفاقة من جديد بشدّة، وأوشكنا على مجاعة حقيقيّة، لولا أن بادر بعض الاخوة إلى إقناع الحاج عباس بالعودة إلى العمل مرّة أخرى فعادت الأمور إلى ما كانت عليه وكان السيد الشهيد يقول:
    (ليس من حقّنا أن نكلّف الحاج عباس أكثر من طاقته، إن الرجل كان يتحمّل مسؤوليته خدمة الضيوف وشراء احتياجات المنزل، أمّا أن يشاركنا المحنة إلى هذا الحدّ فهو أمر فوق طاقته، وخارج عن واجبه، ونحن لا نتوقّع ذلك منه).
    وكان الحاج عباس إذا حضر صباحا لشراء احتياجات العائلة يرافقه أحد أفراد الأمن، ويتجوّل معه في السوق، وهو معه كظلّه لا يفارقه لحظة، وقد يسأله لمن هذه الحاجة، ومن يأكل هذا؟ ولم اشتريت هذه؟ فإذا أكمل مهمّته وعاد بما اشترى إلى البيت، وسلمّه إلى العائلة يرافقه الأمن إلى بيته عند عودته إليه. وكان في بعض الأحيان يتعرّض لتفتيش غير متوقّع، وكان السبب في ذلك أن أحد عملاء السلطة واسمه (باسم)، وكان بيته قريبا من بيت السيد الشهيد قد حرّض قوّات الأمن على ذلك وكنت قد سمعته يتحدّث معهم حول هذا الموضوع، وأخبرهم أن بعض المؤمنين يبعثون رسائل إلى السيد الشهيد بواسطة الحاج عباس، وكان بعضهم يستعمل معه الحرب النفسيّة ويهدّده بالإعدام، وكانت الأجواء تساعد على تصديق ذلك، فشكّلت هذه الأمور وغيرها ضغطا نفسيا عليه اضطرته إلى ترك العمل فترة معيّنة.
    وعلى كل حال فإن السلطة استهدفت من إعادة الحجز أحد أمرين:
    الأول: أن يتنازل السيد الشهيد للسلطة، ويخضع لها خضوعا كاملا.
    الثاني: التمهيد لعملية إعدامه أو اغتياله حسب طبيعة الظروف الآتية.
    وكنت قد تحدّثت مع السيد الشهيد عن فكرة الخروج من العراق، وطرق تنفيذ ذلك وكان الأخ السيد عبد العزيز الحكيم، يخطّط أيضا لتنفيذ هذه الفكرة، وكانت رغبتنا قوية في تحقيق ذلك، وخاصة وأنّني تمكّنت من الخروج من البيت أكثر من مرّة بسبب ضرورات ومسائل مهمّة كان لابدّ لي من تنفيذها حسب أوامر السيد
    الشهيد، وكما يقال ، فأن الوقوع دليل الإمكان، فلماذا إذن لا نحقّق ذلك للسيد الشهيد، وننقذه من مخالب الطغاة المجرمين؟
    وكان بعض المؤمنين قد خطّط لعمليات إنقاذ أخرى، منها أنّه فكّر بحفر نفق يتّصل بمنزل السيد الشهيد وإنقاذه من خلاله.
    كما أن سماحة السيد محمود الدعائي كان قد هيّأ للسيد جوازا للسفر، وآخر لي على أمل أن يستفيد من فك الحجز المؤقّت للخروج من العراق بواسطة جواز.
    إلا أن السيد الشهيد كان قليل الاهتمام بهذه الخطوات، وكان يعتقد أن خياره الوحيد هو الاستشهاد، فلم يتجاوب مع هذه المبادرات، وكنت حينما أطرح عليه هذا الموضوع يسعى جهد الإمكان إلى طرح موضوع آخر.
    وكانت الشهيدة بنت الهدى تشاركنا في بعض الأحيان تلك الجلسات، وقد قالت له يوما:
    أخي، إذ كنّا نحن المانع لك من ذلك فنحن والله لا نبالي، ولا تفكّر بنا، فنحن على استعداد لأن نموت من أجلك، إن هذا طريقنا.
    فقال لها: أو بعد ما استشهد السيد قاسم الشبر وأمثاله من المؤمنين أعدمت بالحياة والأمن؟إن هذا اليوم يوم التضحية، إن لدي رؤية واضحة، إنّ خياري هو الشهادة، فهو آخر ما يمكن أن أخدم به الإسلام.[/align]
    يا محوّل الحول والاحوال ، حوّل حالنا إلى أحسن الحال......








  7. #37
    تاريخ التسجيل
    Jul 2004
    الدولة
    هناك
    المشاركات
    28,205

    افتراضي

    [align=justify][align=center]كتابة البيان الثالث[/align]

    وكتب البيان الثالث والأخير، وهذا نصّه:
    بسم الله الرحمن الرحيم
    الحمد لله رب العالمين، الصلاة والسلام على محمد وآله وصحبه الميامين.

    (1) من مذكراتي عن الشهيدة بنت الهدى (كتاب مخطوط)

    يا شعبي العراقي العزيز...
    أيّها الشعب العظيم...
    إنّي أخاطبك في هذه اللحظة العصيبة من محنتك، وحياتك الجهاديّة، بكل فئاتك وطوائفك، بعربك وأكرادك، بسنّتك وشيعتك، لأن المحنة لا تخصّ مذهبا دون آخر، ولا قوميّة دون أخرى، وكما أن المحنة هي محنة كل الشعب العراقي، فيجب أن يكون الموقف الجهادي، والردّ البطولي، والتلاحم النضالي هو واقع كل الشعب العراقي.
    وإنّي منذ عرفت وجودي ومسؤوليتي في هذه الأمّة بذلت هذا الوجود من أجل الشيعي والسنّي على السواء، ومن أجل العربي والكردي على السواء، حين دافعت عن الرسالة التي توحّدهم جميعا، وعن العقيدة التي تضمّهم جميعا، ولم أعض بفكري وكياني إلا الإسلام طريق الخلاص، وهدف الجميع.
    فأنا معك يا أخي وولدي السنّي بقدر ما أنا معك يا أخي وولدي الشيعي، أنا معكما بقدر ما أنتما مع الإسلام، وبقدر ما تحملون من هذا المشعل العظيم لإنقاذ العراق من كابوس التسلّط والذلّ والاضطهاد.
    إنّ الطاغوت وأولياءه يحاولون أن يوحوا إلى أبناء البررة من السنّة: أن المسألة مسألة شيعة وسنّة، ليفصلوا السنّة عن معركتهم الحقيقيّة ضدّ العدوّ المشترك.
    وأريد أن أقولها لكم ـ يا أبناء علي والحسين وأبناء أبي بكر وعمرـ : إن المعركة ليست بين الشيعة والحكم السنّي، إنّ الحكم السنّي الذي مثّله الخلفاء الراشدون، والذي كان يقوم على أساس الإسلام والعدل، حمل علي السيف للدفاع عنه، إذ حارب جنديّا في حروب الردّة تحت لواء الخليفة الأوّل (أبي بكر) وكلّنا نحارب عن راية الإسلام، وتحت راية الإسلام مهما كان لونها المذهبي.
    إن الحكم السنّي الذي كان يحمل راية الإسلام، قد أفتى علماء الشيعة ـ قبل نصف قرن ـ بوجوب الجهاد من أجله، وخرج مئات الآلاف من الشيعة، وبذلوا دمهم رخيصا من أجل الحفاظ على راية الإسلام ومن أجل حماية الحكم السنّي الذي كان يقوم على أساس الإسلام.
    إن الحكم الواقع اليوم ليس حكما سنّيا، وإن كانت الفئة المتسلّطة تنتسب تاريخيّا إلى التسنّن، إن الحكم السنّي لا يعني حكم شخص ولد من أبوين سنّيين، بل يعني حكم أبي بكر وعمر الذي تحدّاه طواغيت الحكم في العراق في كلّ تصرّفاته، فهم ينتهكون حرمة الإسلام، وحرمة علي وعمر معا في كل يوم، وفي كل خطوة من خطواتهم الإجراميّة.
    ألا ترون يا أولادي وإخواني أنّهم أسقطوا الشعائر الدينيّة التي دافع عنها علي وعمر معا.
    ألا ترون أنّهم ملأوا البلاد بالخمور وحقول الخنازير، وكل وسائل المجون والفساد التي حاربها علي وعمر معا.
    ألا ترون أنّهم يمارسون أشدّ ألوان الظلم والطغيان تجاه كل فئات الشعب، ويزدادون يوما بعد يوم حقدا على الشعب، وتفنّنا في امتهان كرامته، والانفصال عنه، والاعتصام ضدّه في مقاصيرهم المحاطة بقوى الأمن والمخابرات، بينما كان على وعم يعيشان مع الناس، وللناس، وفي وسط الناس، ومع آلامهم وآمالهم.
    ألا ترون إلى احتكار هؤلاء للسلطة احتكارا عسكريّا عشائريّا، يسبغون عليه طابع الحزب زورا وبهتانا.
    وسدّ هؤلاء أبواب التقدّم أمام كل جماهير الشعب سوى أواسيهم الذين رضوا لأنفسهم بالذلّ والخنوع، وباعوا كرامتهم وتحوّلوا إلى عبيد أذلاء.
    إنّ هؤلاء المتسلّطين قد امتهنوا باسمكم كرامة حزب البعث العربي الاشتراكي، حيث عملوا من أجل تحويله من حزب عقائدي إلى عصابة تطلب الانضمام إليها والانتساب لها بالقوّة والإكراه، وإلا فأي حزب حقيقي يحترم نفسه في العالم يفرض الانتساب إليه بالقوّة؟!
    إنّهم أحسّوا بالخوف حتّى من الحزب العربي الاشتراكي نفسه الذي يدّعون تمثيله، أحسّوا بالخوف منه إذا بقي حزبا حقيقيّا له قواعده التي تبنيه، ولهذا أرادوا أن يهدموا قواعده لتحويله إلى تجميع يقوم على أساس الإكراه والتعذيب، ليفقد أي مضمون حقيقي له.
    يا أخوتي وأبنائي من أبناء الموصل والبصرة، من أبناء بغداد وكربلاء والنجف، من أبناء سامّراء والكاظميّة، من أبناء العمارة والكوت والسليمانيّة؟ من أبناء العراق في كل مكان، إني أعاهدكم بأني لكم جميعا، ومن أجلكم جميعا، وأنكم جميعا هدفي في الحاضر والمستقبل، فلتتوحّد كلمتكم، ولتتلاحم صفوفكم تحت راية الإسلام، ومن أجل إنقاذ العراق من كابوس هذه الفئة المتسلّطة، وبناء عراق حرّ كريم، تغمره عدالة الإسلام، وتسوده كرامة الإنسان، ويشعر فيه المواطنين جميعا على اختلاف قوميّاتهم ومذاهبهم بأنهم إخوة، يساهمون جميعا في قيادة بلدهم وبناء وطنهم، وتحقيق مثلهم الإسلاميّة العليا المستمدّة من رسالتنا الإسلاميّة، وفجر تاريخنا العظيم.
    والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
    محمد باقر الصدر
    النجف الأشرف[/align]

  8. #38
    تاريخ التسجيل
    Jul 2004
    الدولة
    هناك
    المشاركات
    28,205

    افتراضي

    [align=justify][align=center]القيادة النائبة[/align]

    وفي الفترة الأخيرة من أيّام الحجز كان السيد الشهيد مهتما بقضيّة ملء الفراغ الذي سيحدث بعد استشهادهن فمن سيواصل المسيرة؟ ومن سيقود الثورة؟ ومن يستثمر دمه الطاهر لخدمة الإسلام؟
    ولم تكن الخيارات المتاحة له كثيرة؛ وذلك لأن التجربة المرّة أثبتت أن الساحة تفتقر إلى القيادة الرشيدة التي ستستثمر دمه وتواصل المسيرة بحكمة وشجاعة، وخاصّة ساحة المرجعيّة والحوزة التي لم تكن مهتمّة إلا بحياتها الروتينية وأعرافها وأوضاعها الخاصّة، وما تجربة الحجز إلا شاهد حي على صحّة تلك الرؤية إذ لم يتحرّك أحد ممن كان يفترض أنّه سيتحرّك، وهكذا فليس متوقّعا أن تستثمر المرجعيّة أو الحوزة دمه الزكي في حال استشهاده، فكان لابد من عمل ما يكفل قيادة الثورة من ناحية، والاستفادة من دم السيد الشهيد إلى أقصى حدّ في خدمة القضيّة الإسلاميّة من ناحية أخرى.
    وعلى هذا الأساس جاءت فكرة القيادة النائبة كخيار اضطراري لابد منه، وكان تخطيطه أن تواصل القيادة النائبة قيادة الثورة وبيدها أعظم محفّز لتحريك الجماهير واستثارتهم، وهو دم السيد الشهيد.
    وكانت الخطوط العامّة لفكرة القيادة النائبة كما يلي:
    1 - اختار السيد الشهيد ـ مبدأيّا ـ أربعة أشخاص من أجلّة العلماء، ليكونوا القيادة النائبة التي كان من المفروض أن يعلن عن أسمائهم للامّة.
    2 - وضع قائمة بأسماء أشخاص آخرين ـ لعل عددهم أكثر من عشرة ـ يكون من حق القيادة الرباعيّة انتخاب من تشاء منهم، للانضمام إليها فيما إذا اقتضت المصلحة ذلك، أو اقتضى توسّع إضافة أشخاص آخرين لها، حسب نظام كان قد كتبه.
    3 - أن يكتب السيد الشهيد رسالة مفصّلة إلى الإمام الراحل السيد الخميني؛ يشرح له فها فكرة القيادة النائبة، ويبيّن له تفاصيلها، ويطلب منه الاهتمام بالقيادة النائبة، وإسنادها بكل ما يمكن.
    4 - تسجيل بيان بصوت السيد الشهيد موجّه إلى الشعب العراقي يوصيه فيه بوجوب الالتفات حول القيادة وإسنادها، وإطاعتها، والعمل بتوجيهاتها.
    5 - كتابة بيان مفصّل حول نفس الموضوع موقّع من قبله.
    6 - أن يخرج السيد الشهيد إلى الصحن الشريف في الوقت الذي يكن فيه مملوءا بالناس، وهو الفترة الواقعة بين صلاة المغرب والعشاء، وهناك يلقي خطابا على المصليّن، يعلن فيه عن أسماء أعضاء القيادة النائبة، ويطلب من الناس إطاعتهم، والسير تحت رايتهم.
    وقال لي:
    (سوف أظل أتكلّم وأتهجم على السلطة، واندّد بجرائمها، وأدعو الناس إلى الثورة عليها إلى أن تضطرّ قوّات الأمن إلى قتلي في الصحن الشريف أمام الناس، وأرجو أن يكون هذا الحادث محفزا لكل مؤمن وزائر يدخل الصحن الشريف، لأنّه سيرى المكان الذي سوف اقتل فيه فيقول: (ها هنا قتل الصدر، وهو أثر لا تستطيع السلطة المجرمة محوه من ذاكرة العراقيين).
    وكان قد أمرني أن أخرج من البيت، وأشتري قطعة سلاح ـ وهي المرّة الثانية التي خرجت فيها ـ ، وتمكّنت بمساعدة أحد الاخوة الطلبة أن أوفر له ذلك، وآتي به إلى البيت.
    ثم قال لي:(هل أنت مستعد لتشاركني الشهادة؟)
    فقلت : نعم إن شاء الله.
    فقال: إذا نخرج معا، فإذا حاولت قوّات الأمن منعي من الذهاب إلى الصحن فحاول إطلاق النار عليهم، لكي يتاح لي الوصول إليه.
    وكان المفروض ـ كشرط ضروري لتنفيذ الفكرة وضمان نجاحها ـ أن يكون كافّة أعضاء القيادة الرباعيّة في خارج العراق، لأن الإعلان عن أسمائهم وهم في داخله يعني ـ على أقل الاحتمالات ـ قيام السلطة باعتقالهم إن لم يكن إعدامهم. وعلى هذا الأساس عرض فكرة مشروع القيادة النائب على أحدهم، وبعد نقاش للمشروع وشكل اشتراكه في اعتذر عن الاشتراك.
    وفشل مشروع القيادة النائبة، وأصابت السيد الشهيد، خيبة أمل قاتلة، وهم دائم، فتدهورت صحّته، وأصيب بانهيار صحّي، وضعف بدني، باسمكم كان لا يقوى على صعود السلّم إلا بالاستعانة بي، وظهرت على وجهه علامات وحالات لا أعرف كيف أعبّرها عنها.
    قلت لسماحته: سيّدي لماذا هذا الهمّ والحزن والاضطراب..؟
    فقال: لقد تبدّدت كل التضحيات والآمال، أنت تعرف أنّني سوف لن أتنازل للعفالقة، وسوف اقتل... أنا لا اريد أن اقتل في الزنزانات ـ وإن كان ذلك شهادة مقدّسة في سبيل الله ـ بل اريد أن اقتل أمام الناس، ليحرّكهم مشهد قتلي، ويستثيرهم دمي، هل تراني أملك شيئا غير سلاح الدم، وها أنذا قد فقدته، إن قتلني هؤلاء فسوف لن يفلحوا بعدي، ولن ينتصروا.
    وبعد أيّام طلب منّي أن أخرج من البيت، وقال لي:
    (قد أتعبتك، وقد وفيت لي، ولا أجد فائدة في استشهادك معي، حاول أن تنجو نفسك، فرفضت الخروج، وقلت له: سأبقى معك مهما كان الثمن).
    وحاول مرّات عديدة وبأشكال مختلفة أن أخرج من البيت، وأتركه وحده، فرفضت، فقال لي:
    (لقد وفيت لي، وصبرت معي، فهل من طلب تطلبه؟)
    فقلت : نعم.
    فقال: وما هو؟
    فقلت: تعاهدني على أن لا تدخل الجنّة إلا وأنا معك.
    فقال:(عهد الله عليّ أن لا أدخل الجنّة إلا وأنت معي إن شاء الله).
    ولا أعتزّ بشيء في حياتي بمثل هذا العهد.
    اللّهم أسألك بدم أبي جعفر، وآلامه، وما جرى عليه من أجلك إلا ما جعلتني معه كما عاهدني، يا وفي يا كريم.
    هذه هي فكرة القيادة النائبة ملخّصة، وقد أعرضت عن ذكر تفاصيلها حيث لا أجد ضرورة تستدعي ذلك.[/align]
    يا محوّل الحول والاحوال ، حوّل حالنا إلى أحسن الحال......








  9. #39
    تاريخ التسجيل
    Jul 2004
    الدولة
    هناك
    المشاركات
    28,205

    افتراضي

    [align=justify][align=center]القيادة النائبة[/align]

    وفي الفترة الأخيرة من أيّام الحجز كان السيد الشهيد مهتما بقضيّة ملء الفراغ الذي سيحدث بعد استشهادهن فمن سيواصل المسيرة؟ ومن سيقود الثورة؟ ومن يستثمر دمه الطاهر لخدمة الإسلام؟
    ولم تكن الخيارات المتاحة له كثيرة؛ وذلك لأن التجربة المرّة أثبتت أن الساحة تفتقر إلى القيادة الرشيدة التي ستستثمر دمه وتواصل المسيرة بحكمة وشجاعة، وخاصّة ساحة المرجعيّة والحوزة التي لم تكن مهتمّة إلا بحياتها الروتينية وأعرافها وأوضاعها الخاصّة، وما تجربة الحجز إلا شاهد حي على صحّة تلك الرؤية إذ لم يتحرّك أحد ممن كان يفترض أنّه سيتحرّك، وهكذا فليس متوقّعا أن تستثمر المرجعيّة أو الحوزة دمه الزكي في حال استشهاده، فكان لابد من عمل ما يكفل قيادة الثورة من ناحية، والاستفادة من دم السيد الشهيد إلى أقصى حدّ في خدمة القضيّة الإسلاميّة من ناحية أخرى.
    وعلى هذا الأساس جاءت فكرة القيادة النائبة كخيار اضطراري لابد منه، وكان تخطيطه أن تواصل القيادة النائبة قيادة الثورة وبيدها أعظم محفّز لتحريك الجماهير واستثارتهم، وهو دم السيد الشهيد.
    وكانت الخطوط العامّة لفكرة القيادة النائبة كما يلي:
    1 - اختار السيد الشهيد ـ مبدأيّا ـ أربعة أشخاص من أجلّة العلماء، ليكونوا القيادة النائبة التي كان من المفروض أن يعلن عن أسمائهم للامّة.
    2 - وضع قائمة بأسماء أشخاص آخرين ـ لعل عددهم أكثر من عشرة ـ يكون من حق القيادة الرباعيّة انتخاب من تشاء منهم، للانضمام إليها فيما إذا اقتضت المصلحة ذلك، أو اقتضى توسّع إضافة أشخاص آخرين لها، حسب نظام كان قد كتبه.
    3 - أن يكتب السيد الشهيد رسالة مفصّلة إلى الإمام الراحل السيد الخميني؛ يشرح له فها فكرة القيادة النائبة، ويبيّن له تفاصيلها، ويطلب منه الاهتمام بالقيادة النائبة، وإسنادها بكل ما يمكن.
    4 - تسجيل بيان بصوت السيد الشهيد موجّه إلى الشعب العراقي يوصيه فيه بوجوب الالتفات حول القيادة وإسنادها، وإطاعتها، والعمل بتوجيهاتها.
    5 - كتابة بيان مفصّل حول نفس الموضوع موقّع من قبله.
    6 - أن يخرج السيد الشهيد إلى الصحن الشريف في الوقت الذي يكن فيه مملوءا بالناس، وهو الفترة الواقعة بين صلاة المغرب والعشاء، وهناك يلقي خطابا على المصليّن، يعلن فيه عن أسماء أعضاء القيادة النائبة، ويطلب من الناس إطاعتهم، والسير تحت رايتهم.
    وقال لي:
    (سوف أظل أتكلّم وأتهجم على السلطة، واندّد بجرائمها، وأدعو الناس إلى الثورة عليها إلى أن تضطرّ قوّات الأمن إلى قتلي في الصحن الشريف أمام الناس، وأرجو أن يكون هذا الحادث محفزا لكل مؤمن وزائر يدخل الصحن الشريف، لأنّه سيرى المكان الذي سوف اقتل فيه فيقول: (ها هنا قتل الصدر، وهو أثر لا تستطيع السلطة المجرمة محوه من ذاكرة العراقيين).
    وكان قد أمرني أن أخرج من البيت، وأشتري قطعة سلاح ـ وهي المرّة الثانية التي خرجت فيها ـ ، وتمكّنت بمساعدة أحد الاخوة الطلبة أن أوفر له ذلك، وآتي به إلى البيت.
    ثم قال لي:(هل أنت مستعد لتشاركني الشهادة؟)
    فقلت : نعم إن شاء الله.
    فقال: إذا نخرج معا، فإذا حاولت قوّات الأمن منعي من الذهاب إلى الصحن فحاول إطلاق النار عليهم، لكي يتاح لي الوصول إليه.
    وكان المفروض ـ كشرط ضروري لتنفيذ الفكرة وضمان نجاحها ـ أن يكون كافّة أعضاء القيادة الرباعيّة في خارج العراق، لأن الإعلان عن أسمائهم وهم في داخله يعني ـ على أقل الاحتمالات ـ قيام السلطة باعتقالهم إن لم يكن إعدامهم. وعلى هذا الأساس عرض فكرة مشروع القيادة النائب على أحدهم، وبعد نقاش للمشروع وشكل اشتراكه في اعتذر عن الاشتراك.
    وفشل مشروع القيادة النائبة، وأصابت السيد الشهيد، خيبة أمل قاتلة، وهم دائم، فتدهورت صحّته، وأصيب بانهيار صحّي، وضعف بدني، باسمكم كان لا يقوى على صعود السلّم إلا بالاستعانة بي، وظهرت على وجهه علامات وحالات لا أعرف كيف أعبّرها عنها.
    قلت لسماحته: سيّدي لماذا هذا الهمّ والحزن والاضطراب..؟
    فقال: لقد تبدّدت كل التضحيات والآمال، أنت تعرف أنّني سوف لن أتنازل للعفالقة، وسوف اقتل... أنا لا اريد أن اقتل في الزنزانات ـ وإن كان ذلك شهادة مقدّسة في سبيل الله ـ بل اريد أن اقتل أمام الناس، ليحرّكهم مشهد قتلي، ويستثيرهم دمي، هل تراني أملك شيئا غير سلاح الدم، وها أنذا قد فقدته، إن قتلني هؤلاء فسوف لن يفلحوا بعدي، ولن ينتصروا.
    وبعد أيّام طلب منّي أن أخرج من البيت، وقال لي:
    (قد أتعبتك، وقد وفيت لي، ولا أجد فائدة في استشهادك معي، حاول أن تنجو نفسك، فرفضت الخروج، وقلت له: سأبقى معك مهما كان الثمن).
    وحاول مرّات عديدة وبأشكال مختلفة أن أخرج من البيت، وأتركه وحده، فرفضت، فقال لي:
    (لقد وفيت لي، وصبرت معي، فهل من طلب تطلبه؟)
    فقلت : نعم.
    فقال: وما هو؟
    فقلت: تعاهدني على أن لا تدخل الجنّة إلا وأنا معك.
    فقال:(عهد الله عليّ أن لا أدخل الجنّة إلا وأنت معي إن شاء الله).
    ولا أعتزّ بشيء في حياتي بمثل هذا العهد.
    اللّهم أسألك بدم أبي جعفر، وآلامه، وما جرى عليه من أجلك إلا ما جعلتني معه كما عاهدني، يا وفي يا كريم.
    هذه هي فكرة القيادة النائبة ملخّصة، وقد أعرضت عن ذكر تفاصيلها حيث لا أجد ضرورة تستدعي ذلك.[/align]

  10. #40
    تاريخ التسجيل
    Jul 2004
    الدولة
    هناك
    المشاركات
    28,205

    افتراضي

    [align=justify][align=center]المفاوضات الأخيرة والاستشهاد[/align]



    [align=center]المفاوضات الأخيرة[/align]
    لقد حدثت مفاوضات متعدّدة في الفترة الأخيرة التي سبقت استشهاده ،وكانت كلّها عقيمة، لأن موقفه كان ثابتا فيها جميعا، ولم تنجح أساليب الترهيب والترغيب في زعزعة موقف أبدا.
    وإذا كانت الظروف والأوضاع لا تسمح لي بذكر كل التفاصيل الدقيقة، فلا حرج من ذكر ما يجوز منها على سبيل الاختصار، والإيجاز.
    إنّ آخر المفاوضات التي جرت، والتي استشهد بعدها بأيّام قليلة كانت بينه وبين مبعوث خاص ومفوّض من قبل القصر الجمهوري، وقد طال كل لقاء من هذه اللقاءات أكثر من ثلاث ساعات، وهنا أسعى لحذف التفاصيل، وأقتصر على البعض المهم من فقراتها موكلا التفصيل إلى وقت آخر.
    بدأت المفاوضات الأخيرة بهذا الشكل: اتصّل فاضل البرّاك مدير الأمن العام بالسيد الصدر، وقال له: إن القيادة ستبعث لكم اليوم ممثّلا لها ليبحث معكم كافّة القضايا، وأرجو أن تكون النتائج طيّبة وإيجابيّة.
    وبعد ساعة واحدة جاء (المبعوث) محاطا بعدد من قوّات الحماية، وطلب من الشهيدة بنت الهدى الإذن بلقاء السيد الشهيد، وكان مؤدّبا حسن المعاملة والتصرّف قياسا بغيره من المسؤولين.
    دخل إلى البيت بعد أن طلب من حمايته البقاء خارج المنزل، ومنعت قوّات الأمن التي تطوّق منزل السيد الشهيد المرور من الزقاق، بما في ذلك السكّان الذين تقع دورهم فيه.
    التقى هذا الشخص بالسيد الشهيد وعرّف نفسه بأنّه مبعوث خاص من قل رئاسة الجمهوريّة، ومخوّل من قبلها، وكنّى نفسه بأبي علي.
    وبدأ خطوته بمجاملة حارّة! وقال: يصعب على السيد الرئيس وعلينا هذا الوضع الذي لم نكن نرغب فيه، ولم نكن نتمنّى لكم هذا الوضع، وأرجو أن نتوفّق لحل هذه المشكلة، فأنت عربي منّا، ومفكّر إسلامي كبير.
    السيد الشهيد: إذا كنت تقصد الحجز فأنا لست متضايقا منه.
    المبعوث: لا أعني الحجز وحده، بل الحالة غير الطبيعيّة بيننا... ثم قال سيّدنا، إنّني مخول من قبل القيادة لبحث كل القضايا والمشاكل، وإن شاء الله سنتوصّل إلى حلّ في هذا اليوم يرضي الطرفين، وتعود الأمور إلى طبيعتها، بل وتحدث بيننا محبّه وصداقة.
    السيد الشهيد: تفضّل.
    المبعوث: سيّدنا، إنّ ما حدث ـ في رجب ـ كان تحدّيا للدولة، وقد أهينت كرامتها، وهتكت حرمتها، إن مسؤوليّة ذلك تقع عليكم، وأحبّ أن أخبركم أن القيادة لم تتسامح مع أحدـ بما في ذلك رفاق قياديين في حزب البعث ـ كما تسامحت معكم، إن من أصعب الأمور بالنسبة لنا هو كيفيّة التعامل معكم، إن هذا من الأمور المعقّدة بالنسبة للقيادة، إن ما صدر منكم مما لا يمكن للقيادة تحمّله.
    السيد الشهيد: وما الذي صدر منّي؟
    المبعوث: أشياء كثيرة، العلاقة بإيران، وفرد المعارضة للسلطة، تحريم الانتماء لحزب البعث.
    السيد الشهيد: علاقتي بإيران لا تتجاوز علاقتي بالسيد الخميني، وهي علاقة العالم بالعلم، وأمّا تأييد الثورة الإسلاميّة فهو موقف ينسجم مع موقف السلطة، فأنتم أيضا أيّدتم الثورة الإسلاميّة.
    المبعوث: ولكن يجب أن يكون ذلك بموافقتنا، ومشورتنا، وما سوى ذلك يعتبر تحدّيا لنا، وليس من حق أيّ مواطن أن يقيم علاقة بدولة، إنّنا نعتبر ذلك عمالة للأجنبي، وعلى كل حال فلأجل حل هذه المشاكل وضعت القيادة شروطا، فإن استجبتم لها فسوف تنتهي هذه الأزمة وتعيش معززا مكرّما.
    السيد الشهيد: وما هي الشروط؟
    المبعوث:
    1 - عدم تأييد الثورة الإسلاميّة في إيران، والاعتذار عمّا صدر منكم من مواقف بهذا الخصوص من خلال بيان يصدر منكم.
    2 - وأن يتضمّن البيان شجبا صريحا للوفود التي جاءت لتأييدكم في رجب.
    3 - أن تصدر فتوى خطّية تعلن فيها حرمة الانتماء لحزب البعث.
    4 - التخلّي عن فتواكم حول حرمة الانتماء لحزب البعث.
    5 - إصدار بيان تؤيّد فيه السلطة ولوفي بعض منجزاتها كتأميم النفط، أو منح الأكراد الحكم الذاتي، أو محو الامّية.
    السيد الشهيد: وإذا لم أستجب لهذه المطالب؟
    المبعوث: الإعدام.
    السيد الشهيد: تفضّل، أنا الآن مستعدّ للذهاب معك إلى بغداد لتنفيذ حكم الإعدام.
    قال لي السيد الشهيد حينما سمع جوابي بقي متحيّرا مذهولا، تارة ينظر إليّ، وتارة يطرق برأسه إلى الأرض، وتغيّر لونه وكأنّه تفاجأ بالجواب، ثم التفت إليّ وقال: ل هذا هو الجواب الأخير؟
    السيد الشهيد: نعم، لا جواب آخر عندي.
    المبعوث: ألا تفكر بالأمر؟
    السيد الشهيد: لا فائدة.
    وانتهى اللقاء، ولكنه جاء في يوم آخر بمشروع جديد، كان يعتقد أن السيد الشهيد سيقبل به لما يحمل من إغراءات كبيرة، فقال المبعوث: سيّدنا، إنّ السيد الرئيس يعدكم في حال قبولكم بهذه الشروط بما يلي:
    1 - سيقوم بزيارتكم، وتغطّى الزيارة من خلال وسائل الإعلام، ومنها التلفزيون.
    2 - في خلال الزيارة سيقدّم السيد الرئيس صدّام حسين سيّارته الشخصيّة هدية لكم، وهذا أعلى مراتب التكريم والحفاوة، ولكي تطمئنّوا إلى صحّة نوايانا فسوف لا نطلب منكم نشر البيان قبل أن تشاهدوا ذلك من التلفزيون.
    3 - تكون أوامركم وطلباتكم نافذة في دوائر الدولة، وبهذا نكون قد بدأنا صفحة جديدة من الصداقة والمحبّة، لأنّنا أقرب إليك من الخميني، وأنت أقرب إلينا منه.
    السيد الشهيد: موقفي هو موقف السابق.
    المبعوث: نحن لا ندري ماذا تريد، والله (بشرفي) إن القيادة لم تتنازل لأحد بهذا المقدار، والله لقد نفّذنا الإعدام بأشخاص عارضونا أقل من هذا، وكان منهم رفاق في الحزب فلماذا هذا الإصرار؟ ماذا تريد أن نفعل؟
    السيد الشهيد: أنا لم أطلب منكم شيئا، وكما قلت لكم إذا كان الحلّ لهذه الأزمة هو الإعدام فأنا مستعد لذلك، ولا كلام آخر عندي.
    ظلّ هذا المبعوث ساكتا، ولم يتكلّم بشيء، وبعد فترة عاد إلى الحديث، ففاوض السيد الشهيد على الشروط متنازلا عنها الواحد تلو الآخر، والسيد الشهيد مصرّ على موقفه، بعدها قال المبعوث: سيدنا، بقي شئ لابد منه، كما أنّه ليس من حقّي أن أتنازل عنه مطلقا.
    السيد الشهيد: ما هو؟
    المبعوث: أن توافق على إجراء مقابلة مع صحيفة أجنبية، وإن شئت تكتب الأسئلة بنفسك فلا مانع ـ حتّى لو كانت فقهيّة ـ ، ولكن بشرط أن تؤكّد في المقابلة أن الاعداء بينكن وبين السلطة أو تشيد ببعض إنجازاتنا كمحو الامّية، أو تأميم النفط، أو منح الأكراد الحكم الذاتي، وفي مقابل ذلك نتعهّد بتنفيذ كل التعهّدات السابقة.
    السيد الشهيد: وإذا لم أفعل؟
    المبعوث: الإعدام، بشرفي لا حلّ غيره.
    السيد الشهيد: أنا مستعد، ولا كلام آخر عندي.
    وتحيّر المبعوث، وظلّ ساكتا فترة طويلة، ثم قاوم وودّع السيد الشهيد، وجرت دموعه على وجهه، وقال بلهجته العاميّة:(حيف مثلك تاكله الكاع ـ أي الأرض ـ حيف، والله حيف).
    وكانت هذه المفاوضات قد جرت في آخر شهر من أشهر الحجز. بعد أن انتهى هذا اللقاء قلت للسيد الشهيد وكانت أخته الشهيدة بنت الهدى حاضرة: إن الشرط الأخير لا يعتبر مهمّا، ولا يفسّر قبولكم به على أنّه تنازل، ثم من لا يعذركم وأنتم تعيشون هذه الظروف القاسية وقد تخلّى عنكم الجميع.إن حياتكم أهمّ للإسلام وللعمل الإسلامي في العراق، وإذا كان الحجز قد كشف لكم عن حقائق هامّة، وغيّر من تصوّراتكم عن بعض القضايا، فمن سيستفيد من هذه التجربة إن أنتم استشهدتم، إنّني أرى أن نستفيد من هذه الفرصة ونهيّئ أنفسنا للفرار من العراق، وإذا كنتم لا ترغبون بالخروج من العراق فلنذهب إلى منطقة آمنة في شمال العراق، فمن هناك يمكن أن تقودوا العمل بشكل أفضل ممّا هو في الحجز. لقد تحدّثت معه كثيرا حول هذا الموضوع، وتحدّثت معه أيضا الشهيدة بنت الهدى، ولكن دون جدوى، فقد أجابني بأن رفع رأسه إلى السماء وقال:
    (اللّهم أنّي أسألك بحق محمد وآل محمد أن ترزقني الشهادة وأنت راض عني، اللهم أنت تعلم أني ما فعلت ذلك طلبا للدنيا، وإنّما أردت به رضاك، وخدمة دينك، اللهم ألحقني بالنبيين والأئمة والصدّيقين والشهداء، وأرحني من عناء الدنيا.)
    ثم كفكف دموعه، وغسل وجهه، وكان يحرص قدر المستطاع أن لا يدخل الحزن على قلوب عائلته وأطفاله، فأمر الشهيدة بنت الهدى أن لا تخبر أحدا بنتيجة هذا اللقاء.
    وكنت أحسّ منه بعد تلك المفاوضات أنّه كان ينظر إلى أطفاله برقّة وعطف، إذ كانت تعلو وجهه ابتسامة يشوبها الحزن كلّما نظر إلى أحدهم، وهذه الحالة لم أكن أعهدها منه قبل هذه الفترة، وكأنّه قد أيقن أنّ أجله قد حان.

    الرؤيا
    وبعد فجر ذلك اليوم جاء (رضوان الله عليه) فأيقظني للصلاة، فقمت وصلّيت الفجر، ثم قال لي: إني ابشّر نفسي بالشهادة إن شاء الله.
    فقلت: خيرا إن شاء الله.
    فقال:
    (رأيت في عالم الرؤيا أن خالي المرحوم الشيخ مرتضى آل ياسين وأخي المرحوم السيد إسماعيل الصدر قد جلس كلّ واحد منهم على كرسيّ، وتركوا كرسيّا لي بينهما، وهما ينتظران قدومي إليهما، ومعهم ملايين البشر ينتظروني أيضا. ووصف لي النعيم وما هما فيه من سعادة لا تتصوّر).
    فقلت: لعل هذه الرؤيا تدل على الفرج والنصر أن شاء الله.
    فقال إن الشهادة أعظم نصر إن شاء الله.


    السيد يكتب وصيّته
    وقد كتب في نفس اليوم وصيّته، أو لعل الصحيح أنّه أعاد كتابة وصيّته وضمّنها أشياء جديدة، وكان قد أطلعني على بعضها شفها، وبما أن المقدار الذي أطلعني عليه خاص بي فلا أجد ضرورة لذكره.
    وكان قد بعث في أول فرصة أتيحت له في فترة الحجز بكل ما يملك من أموال إلى خارج العراق بما في ذلك أمواله الشخصيّة لكي لا تقع هذه الأموال بيد السلطة في حال استشهاد وفيها حقوق شرعيّة،وأيضا بعث بما لديه من أمانات كأموال العبادات إلى الأمام الخوئي بواسطة المرحوم السيد محمد صادق الصدر، ولم يبق شيء في ذمّته.

    إرهاصات ما قبل الإعدام
    بعد فشل كافّة المفاوضات والمحاولات مع السيد الشهيد للحصول ولو على أبسط قدر من التنازل للسلطة، لأجل حفظ ماء الوجه ـ حسب تعبيرهم ـ قرّروا تنفيذ حكم الإعدام بشهيدنا المظلوم، ومفجّر ثورتنا العظيم.
    وقد مهدّت السلطة لذلك باتّخاذ عدّة إجراءات وخطوات، كان أهمّها ما يلي:
    1 - أعلن الحزب العميل لكوادره عن عزم السلطة على تنفيذ هذه الجريمة، وطلب منهم الإعلان عن ذلك على نحو الاحتمال لا اليقين، تمهيدا لتهيئة الأرضية ولمعرفة ردود الفعل الجماهيريّة على تلك الجريمة لو حدثت.
    وأتذكر أن الحاج عباس ـ خادم السيد ـ جاء بعد ظهر يوم من تلك الأيام مضطربا خائفا وهو يبكي،فأخبر السيد الشهيد بأن إشاعة قويّة انتشرت بين الناس مؤدّاها: أن السلطة ستنفّذ حكم الإعدام بالسيد الصدر في المستقبل القريب. فقال له :(لقد بشّرتني، بشّرك الله بكل خير).
    2 - عرض التلفزيون السلطة مقابلة مع أحد المعارضين ـ ولست أعرف مضمون
    هذه المقابلة ولا الشخص المتّهم ـ ذكر فيها اسم السيد الشهيد الصدر استطراقا خلال حديثه عن حزب الدعوة الإسلاميّة.
    3 - ثمّ جاء حادث المستنصريّة المعروف وما تلاه من ضرب المشيّعين الذين كانوا في موكب تشييع من قبل في ذلك الحادث. ومن خلال شاشة التلفزيون أعلن صدّام التكريتي أنّه سينتقم لتلك الدماء، فقال:(والله ... والله.... والله... إن هذه الدماء التي جرت على أرض المستنصريّة لن تذهب سدى).
    وأثناء زيارته للجرحى في المستشفى قالت له إحدى الجريحات: سيّدي سفّر الإيرانيين، فقال لها: نعم ، سنفعل ذلك.
    وكان ذلك قبل أن تثبت التحقيقات أنّ منفّذ العملية من أصل إيراني، وما هي إلا ساعات قليلة حتّى شنّت السلطة حملة هائلة لتهجير حتّى العراقيين الذين يحملون شهادات الجنسيّة من الدرجة الاولى! فأحدث ذلك رعبا عظيما بين الناس. ورافق حملة التهجير عمليات اعتقال كبيرة للشباب المؤمنين الذي كانت السلطة تعتقد أن رد الفعل سيصدر منهم في حال إعدام السيد الشهيد.
    وبعد أيام قليلة عن علم السيد الشهيد بتلك المؤشّرات أمرني بالخروج من البيت، وقال لي:
    (إن قتلك هؤلاء فسوف يضيع تاريخ هذه الفترة من حياتي).
    وكان من الطبيعي أن لا أستجيب، وقلت له: هل يجوز أن أتخلّي عنك وأنت في هذه الظروف؟! لا والله، لا يكون ذلك أبدا، فقال لي:
    (إذ حدث، وجاء هؤلاء الطغاة لاعتقالي، فلا تخرج معي، إنّي أحرّم عليك ذلك).
    وكان قد كتب رسالة أشبه ما تكون بوصيّة عامّة، وقال لي:
    (يجب عليك أن تسلّم تلك الرسالة إلى السيد الهاشمي إن تمكّنت من ذلك وكتب الله لك السلامة من هؤلاء).
    ثم طلبت منه مسبحة كانت بيده، وقلت له: أريدها أن تبقى ذكرى، فقال: (هاك خذها)، وهي عندي مازلت أحتفظ بها.
    أمّا الرسالة فقد بقيت نسختها الأصلية عند سماحة السيد عبد العزيز الحكيم، وقد استنسخها بخطّي قبل خروجي من العراق، وأخفيتها في جهاز راديو صغير، ولم أحمل النسخة الأصليّة خوفا من أن اعتقل، وتضييع آخر رسالة، أو وصيّة للسيد الشهيد، ولمّا وصلت إلى إيران سلّمتها لسماحة آية الله السيد محمود الهاشمي حسب وصيّة السيد الشهيد.

    انقطاع كامل لله تعالى

    وفي هذه الفترة انقطع إلى ربّه انقطاعا كاملا، فكان بين تال للقرآن، أو مسبحّ حامد، وكان أكثر ذكره (سبحان الله ، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله وأكبر) وكان صائما في الأيّام الأخيرة من الحجز، ولم يكن له من هم إلا العبادة، وكنت في بعض الأحيان أثير أمامه بعض المواضيع التي تتعلّق بالعمل الإسلامي فلا يجيب بشيء، ويكتفي بابتسامه بسيطة، وكأنّه لا يريد أن يتحدّث عن شئ من هذه الأمور، إذ لا فائدة ولا أمل في ذلك.
    كان الهمّ والحزن ينخر في قلبه حتّى أصبح كأنّه هيكل عظمي من الضعف، وأعتقد أن البعض لو رآه لظنّه شخصا آخر، وما ان ذلك والله خوفا من القتل، ولا حرصا على الحياة، ولا حبا للدنيا، وما حياته الماديّة تستحق ذلك، إذ كانت بلا رفاه ورغد، فلا قصور منيفة، ولا سيّارات فارهة، استشهد وهو لا يملك من الأرض شبرا واحدا، ولا وضع حجرا على حجر، وما كان همّه في يوم من الأيام السعي وراء زخارف الدنيا وزينتها.
    لقد قضى حياته بين مخالب السلطة العفلقيّة وأنيابها، لا همّ لها إلا اعتقاله ومضايقته والتجسّس عليه، وقد قال لي يوما: (إنّي ـ والله ـ أخشى أن اقبّل أطفالي خشية أن تسترق أجهزة الصوت الموضوعة في البيت ذلك، وتسخّرها السلطة لأغراض دعائيّة ضدّي، وتصوّرها للناس بشكل آخر).
    وأنّي ـ والله ـ لولا خوفي من الاتّهام بالمبالغة والتطرّف لذكرت أشياء تدمي القلب، وتحزّ الفؤاد، فلله صبرك يا سيّدي يا أبا جعفر.

    اليوم الأسود

    في اليوم الخامس من شهر نيسان الأسود عام (1980 م) وفي الساعة الثانية والنصف بعد الظهر جاء المجرم مدير أمن النجف ومعه مساعده الخبيث (أبو شيماء)، فالتقى بالسيد الشهيد وقال له : إن المسؤولين يودّون لقاءك في بغداد. فقال السيد الشهيد: إذا أمروك باعتقالي فنعم، أذهب معك إلى حيث تشاء.
    مدير الأمن: نعم، هو اعتقال.
    السيد الشهيد: انتظرني دقائق حتّى أودّع أهلي.
    مدير الأمن: لا ،ولكن لا حاجة لذلك،ومع ذلك فافعل ما تشاء.
    فقام وودّع أهله وأطفاله. وهذه هي المرة الوحيدة التي أراه يودّعهم من بين الاعتقالات التي تعرّض لها.
    ثم عاد والابتسامة تعلو وجهه، فقال لمدير أمن النجف : هيّا بنا نذهب إلى بغداد.
    وذهب السيد الشهيد إلى بغداد لينال الشهادة، ويفي لشعبه بوعده حينما خاطبه قائلا: الإعدام، والله إنّي سعيدة بذلك، إن هذا طريق آبائي وأجدادي.
    ضابط الأمن: لا علوية، بشرفي إنّ السيد طلب حضورك.
    أجابته الشهيدة مستهزئة: صدقت، بدليل أن قوّاتكم طوّقت بيتنا من جديد.
    ثم قالت له: دعني قليلا، سوف أعود إليك، ولا تخف، فأنا لن أهرب، وأغلقت الباب بوجهه.
    ثم جاءتني وقالت لي:(أخي أبا علي، لقد أدّى أخي ما عليه، وأنا ذاهبة لكي أودّي ما عليّ، إنّ عاقبتنا على خير... أوصيك بأمي وأولاد أخي، لم يبق لهم أحد غيرك، إن جزاءك على أم فاطمة الزهراء، والسلام عليك).
    قلت لها: لا تذهبي معهم.
    فقالت: لا والله حتّى أشارك أخي في كل شئ حتّى الشهادة.
    وشهد الله، لقد صعقت وأنا أستمع إليها، وتحيّرت ماذا سأقول لهذا الجبل الشامخ، من الإيمان، والفداء، والشجاعة، وهي تهزأ بالموت والتعذيب من أجل الله تعالى.

    خبر الاستشهاد والدفن
    وفي مساء اليوم التاسع من نيسان 1980 م، وفي حدود الساعة التاسعة أو العاشرة مساءا قطعت السلطة التيّار الكهربائي عن مدينة النجف الأشرف، وفي ظلام الليل الدامس تسلّلت مجموعة من قوّات الأمن إلى دار المرحوم الحجّة السيد محمد صادق الصدر، وطلبوا منه الحضور معهم إلى بناية محافظة النجف، وكان

    (1) من مذكراتي عن الشهيدة بنت الهدى (كتاب مخطوط)



    بانتظاره هناك المجرم مدير أمن النجف ( أبو سعد)، فقال له: هذه جنازة الصدر وأخته، قد تم إعدامهما وطلب منه أن يذهب معهم لدفنهما.
    فقال المرحوم السيد محمّد صادق الصدر: لا بد لي من تغسيلهما.
    فقال له مدير الأمن: قد تمّ تغسيلهما وتكفينهما.
    فقال: لابد من الصلاة عليهما.
    فقال مدير الأمن: نعم، صلّ عليهما.
    وبعد أن انتهى من الصلاة قال له مدير الأمن: هل تحبّ أن تراهما؟
    فقال: نعم.
    فأمر الجلاوزة بفتح التابوت، فشاهد السيد الشهيد مضرّجا بدمائه، وآثار التعذيب على كل مكان من وجهه، وكذلك كان حال الشهيدة بنت الهدى.
    ثم قال له: لك أن تخبر عن إعدام السيد الصدر، ولكن إيّاك أن تخبر عن إعدام بنت الهدى، إن جزاءك سيكون الإعدام.


    التكتّم على الجريمة
    وضربت السلطة العفلقيّة المجرمة طوقا من التعميم على جريمتها النكراء، فلم يعلم بالحادث إلا القليل من أبناء النجف الذين تسرّب إليهم الخبر عن طريق بعض (الدفّانة) الذين يعملون في مقبرة النجف المسمّاة بـ(وادي السلام).
    وكانت السلطة تنفي في بعض الأحيان وقوع الجريمة، وفي أحيان أخرى تثبتها، وكان النفي والإثبات يتمّ عن طريق كوادر حزب البعث العميل، فوقع الناس في حيرة شديدة، ولا أحد أن يشخّص الموقف العملي المناسب تجاه هذه الجريمة الكبرى، وكانت الأسماع في تلك الفترة متّجهة إلى إذاعة الجمهوريّة الإسلاميّة في إيران ـ القسم العربي ـ فكان أملهم أن تنجلي الحيرة بما سوف يذاع عن هذا الأمر الخطير من خلالها. ويظهر أن خبر استشهاد السيد الصدر وصلهم بعد وقوع الجريمة بعدّة أيّام، فأعلن الإمام الراحل السيد الخميني، نبأ الاستشهاد من خلال بينا تأبيني مهم، ومنه عرف الناس بوقوع الجريمة الكبرى.
    وهكذا خسر العالم الإسلامي والشعب العراقي خسارة لن تعوّض، وفقدا علما خفّاقا في سماء الإيمان والعلم والمعرفة...
    اغتالته يد الطاغية الجبّار، المولغ بدماء المؤمنين الأبرار المجرم صدّام حسين التكريتي. فويل لكل جبار أثيم(وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون).

    بيان الإمام الخميني
    وقد أصدر الإمام الراحل السيد الخميني بيانا تاريخيا أعلن فيه عن استشهاد الإمام السيد الصدر وأخته المظلومة بنت الهدى، هذا نصّه:

    بسم الله الرحمن الرحيم
    إنّا لله وإنّا إليه راجعون!
    تبيّن ـ ببالغ الأسف ـ من خلال تقرير السيد وزير الشؤون الخارجيّة، والذي تم التوصّل إليه عن طريق مصادر متعدّدة وجهات مختصة في الدول الإسلاميّة، وحسب ما ذكرته التقارير الواردة من مصادر أخرى: أن المرحوم آية الله الشهيد السيد محمد باقر الصدر وشقيقته المكرّمة المظلومة، والتي كانت من أساتذة العلم والأخلاق ومفاخر العلم والأدب، قد نالا درجة الشهادة الرفيعة على أيدي النظام البعثي العراقي المنحطّ، وذلك بصورة مفجعة!

    فالشهادة تراث ناله أمثال هذه الشخصيات العظيمة من أوليائهم،والجريمة والظلم أيضا تراث ناله أمثال هؤلاء ـ جنات التاريخ ـ من أسلافهم الظلمة.
    فلا عجب لشهادة هؤلاء العظماء الذين أمضوا عمرا من الجهاد في سبيل الأهداف الإسلامية،على أيدي أشخاص جناة قضوا حياتهم بامتصاص الدماء والظلم، وإنّما العجب، هو أن يموت مجاهد وطريق الحق في الفراش دون أن يلطّخ الجناة أيديهم الخبيثة بدمائهم!
    ولا عجب أن ينال الشهادة المرحوم الصدر وشقيقته المظلومة،وإنما العجب، أن تمر الشعوب الإسلاميّة وخاصّة الشعب العراقي النبيل، وعشائر دجلة والفرات، وشباب الجامعات الغيارى، وغيرهم من الشبّان الأعزّاء في العراق، على هذه المصائب الكبرى التي تحل بالإسلام وأهل البيت رسول الله دون أن تأبه لذلك، وتفسح المجال لحزب البعث اللعين لكي يقتل مفاخرهم ظلما الواحد تلو الآخر.
    والأعجب من ذلك هو أن يكون الجيش العراقي وسائر القوى النظامية آلة بيد هؤلاء المجرمين، يساعدونهم على هدم الإسلام والقرآن الكريم.
    إنّني يائس من كبار القادة العسكريين، ولكنّني لست يائسا من الضباط والمراتب والجنود، وما أتوخّاه منهم هو: إمّا أن يثوروا أبطالا وينقّضّوا على أساس الظلم، كما حدث في إيران وإمّا أن يفرّوا من معسكراتهم وثكناتهم، وألا يتحمّلوا عار مظالم حزب البعث.
    فأنا غير يائس من العمال وموظّفي حكومة البعث المغتصبة وآمل أن يضعوا أيديهم بأيدي الشعب العراقي، وأن يزيلوا هذا العار عن بلاد العراق.
    أرجوه تعالى أن يطوي بساط ظلم هؤلاء الجناة.
    وها أنا أعلن الحداد العام لمدّة ثلاثة أيام اعتبارا من يوم الأربعاء الثالث
    من شهر (ارديبهشت) الثالث والعشرين من نيسان، كما أعلن يوم الخميس عطلة عامّة؛ وذلك تكريما لهذه الشخصية العلميّة، ولهذا المجاهد الذي كان من مفاخر الحوزات العلميّة، ومن مراجع الدين ومفكّري المسلمين.
    وأرجو الخالق تعالى أن يعوّضنا عن هذه الخسارة الكبرى والعظيمة على الإسلام والمسلمين.
    والسلام على عباد الله الصالحين.

    الثاني من شهر ارديبهشت 1359



    روح الله الموسوي الخميني[/align]

  11. #41
    تاريخ التسجيل
    Oct 2008
    المشاركات
    28

    افتراضي

    احسنتم وجزاكم الله خيرا على نشر هذا الموضوع القيم ونسأل الله جميعا ان يلهمنا قلوباً وعقولاً واعية ومتفهمة تفهم اخلاقيات وادبيات ونهج وسلوك السيد وان نعيش السيد فكرا ومنهجا وقولا وتطبيقا وان نبتعد ونتبرئ من كل من يدعي للانتساب للسيد ولنهجه وهو على غير ذلك في موافقه وافعاله وسلوكياته وعلاقاته مع الاخرين .

صفحة 3 من 3 الأولىالأولى 123

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •  
 
شبكة المحسن عليه السلام لخدمات التصميم   شبكة حنة الحسين عليه السلام للانتاج الفني