بغداد ـ احمد حسين
بعد أن اختنقت رئة الطفل العراقي بدخان الحرائق وضاق عالم الطفولة بالفوضى الأمنية والجدران الكونكريتية، ها هي الأعياد تأتي بهواء نقي ينعش البراءة ويعيد إليها حيويتها لتملأ أجواءنا بضحكاتها الرقيقة، وها هي الأسواق تسترد عافيتها بعد هزال مرضيّ، والمتنزهات




تحتضن المشاكسين الصغار لتتزين بألعابهم ونشاطهم الذي يبعث على الأمل والتفاؤل. وبعد أن حاصر الخوف أطفالنا وحرمهم من حق التمتع بطفولتهم جاءت الأشهر الأخيرة من هذا العام بأعيادها لتمنحهم هذا الحق المستلب وتضيء أفراح عيد الأضحى وأعياد الميلاد ورأس السنة ببريق السعادة في عيون أطفالنا وإشراقة وجوههم المفعمة بالحياة. الصباح شاركت أطفالنا بهذا التحقيق فرحتهم وتجولت معهم في متنزهات بغداد وأسواقها.
في تقاطع القضاة ثمة ساحة يظلها جسر الطريق السريع كانت حتى وقت قريب مكبا للنفايات ومأوى للكلاب السائبة، وقبل شهرين تقريبا باشرت أمانة بغداد بتأهيل هذه الساحة لتحولها إلى متنزه يبعث البهجة في النفوس بعد حالة البؤس التي كانت تعيشها وملاذا للعوائل القريبة المحاصرة بالإجراءات الأمنية والخوف من سعار الإرهاب والجريمة.

نحب الحياة
المواطن احمد كمال من أهالي منطقة راغبة خاتون حدثنا بحماسة عن سعادته وهو يرى أطفاله يمرحون بحرية من دون خوف في مكان عام بعد أن حرمهم الاضطراب الأمني من اللعب حتى أمام منازلهم، يقول كمال:
ـ اشعر كأني كنت مسجونا وأطلق سراحي بالرغم من أنني لم انقطع عن مزاولة عملي إلا أيام حظر التجوال أو ما شابه، السجن الذي كنت أعيشه هو حرمان أطفالي من التمتع بطفولتهم وممارسة هواياتهم وألعابهم التي اعتادوها ككرة القدم و(الغميضان) وغيرها بل حرمان العائلة بصغارها وكبارها من التجوال المسائي اليومي تقريبا والمؤكد في مسائي الخميس والجمعة، هذا الطقس الذي اضطرتنا الظروف الأمنية للتخلي عنه منذ ما يزيد على العامين تسبب في أزمة نفسية حقيقية لنا وخصوصا زوجتي التي كانت المتنفس الوحيد لها من إرهاق المنزل وشغب الأطفال.
في الأيام الأولى لافتتاح هذا المتنزه شاهدت عدداً قليلاً من العوائل فيه لكنني ومنذ تحسن الأوضاع الأمنية بدأ العدد يتزايد يوما بعد آخر ما شجعني على اصطحاب عائلتي لقضاء ساعات العصر هناك، الألعاب المتوفرة في المتنزه وجمالية المكان ومرح أطفالي ساعدتني وزوجتي في التخلص من التوتر الذي كان ملازما لنا طوال الوقت وبدأنا نشعر بتحسن كبير في الوضع النفسي لكلينا، عدنا للضحك والاسترخاء مرة أخرى بعد فراق طويل حتى اننا خططنا لقضاء العيد في هذا المتنزه الذي تحرسه مفرزة للشرطة نرجو من الحكومة أن تعززها بقوة أمنية بسيطة تشجع العوائل التي ما زالت غير مطمئنة على سلامتها وسلامة أطفالها.

صاحب الفكرة!!
حسام احمد كمال ذو الوجه الجميل والابتسامة اللطيفة المتفائلة أثار اهتمامنا بلغته الواثقة رغم سني عمره التي لم تتجاوز الثانية عشرة لكن آراءه تدل على نضج قد يفتقر إليه الكثير من أقرانه:
ـ أنا صاحب الفكرة وأنا من شجعهم على المجيء لهذا المتنزه، أبي يبالغ في خوفه حتى أنه منعنا من اللعب أمام المنزل بحجة أن الإرهابيين يتجولون في المنطقة لكنني منذ أن رأيتهم وهم يركضون خائفين من القوات الأمنية عرفت انهم جبناء ولا داعي للخوف منهم ولو كان أبي وأصدقاؤه لديهم أسلحة كالتي عند الجنود والشرطة لاستطاعوا أن يطردوهم من منطقتنا ولكننا نتمتع بهذه الألعاب التي في المتنزه منذ وقت طويل، أليس كلامي صحيحا؟.
ليتها تدوم
أم عادل امرأة في حدود العقد الخامس من العمر من سكنة (دور الأرامل) جاءت بعائلتها المكونة من ثلاث بنات في مرحلة الشباب وصبيان، تقول أم عادل:
ـ زوجي يعمل سائق تكسي ويعود في حدود الساعة الواحدة أو الثانية ظهرا لتناول الغداء وبعد أن يأخذ قسطاً من الراحة يأتي بنا كل يومين أو ثلاثة إلى هنا لقضاء بعض الوقت ويعود هو إلى عمله وقبل وقت الغروب يعودنا بنا إلى البيت.
في الأشهر الماضية كنا محبوسين في البيت لا نخرج إلى زيارة الأهل والأقارب ونعود مسرعين بسبب الوضع الأمني المتدهور حينها حتى أنه كان يعود من العمل مبكرا وكثيرا ما عاد بما يسد الرمق وأحيانا كان لا يخرج للعمل حين يسوء الوضع، لكن الآن نحمد الله على هذه النعمة التي نرجو أن تدوم خصوصا ونحن مقبلون على عيد الأضحى.
غادرنا المتنزه وعوائله الهانئة وابتسامات الأطفال وكلماتهم الرقيقة تودعنا وتوجهنا إلى شارع فلسطين. الشارع يضج بالحركة والعوائل والشباب والفتيات توزعت اهتماماتهم بين التبضع وتوفير مستلزمات الأعياد من ملابس وإكسسوارات عطور وغيرها وبين التجوال للتنزه والتحرر من أجواء المنزل والالتزامات العائلية وبين ملاحقات غرامية وتلهف لابتسامة أو نظرة مقصودة أو غير مقصودة ينتظرها الشباب بفارغ الصبر قد تؤسس لعلاقة مؤقتة أو دائمة.
انشغال العوائل بالتسوق والشباب بأحلامهم الوردية حرمنا فرصة استطلاع آرائهم والحديث معهم بشأن الوضع الأمني واستعداداتهم للأعياد القريبة باستثناء عائلة واحدة كانت قريبة منا في محل الأزياء الذي دخلناه، العائلة مكونة من أب وأم في أواخر شبابهم وابنة في مرحلة المراهقة وطفلين، الأم منشغلة بمفاوضات اقتصادية مع صاحب المحل تنم عن خبرة طويلة في هذا المجال فيما تولى الأب مهمة تهدئة وإقناع طفله المنزعج. سألنا الأب (أبو رشا) عن السبب فأجاب مبتسما:

مواقف حرجة
ـ لقد وعدته انني سأشتري له ما يريد في هذا العيد إذا نجح في الامتحان وقد نجح لكن المشكلة أنني لم أضع سقفا ماليا لهذا الوعد، جئنا بهم لشراء ملابس للعيد ولكي أفي بوعدي له لكنه اختار ملابس باهظة الثمن ومنها هذه القمصلة وسعرها خمسة وعشرون ألف دينار، جميع الملابس التي اختارها مرتفعة السعر ولم اعترض رغم امتعاضي والتزاما بوعدي إلا أنه بالغ في الاختيار بحيث كلفني مبلغا أقل بقليل من مجموع ما كلفتني احتياجات شقيقته وشقيقه، أمه تحاول إقناع البائع بسعر لا أظنه يبيع به لذلك أحاول إقناعه باستبدالها بقمصلة أخرى أقل ثمنا:
أم رشا لها رأي في الموضوع إذ تقول:
ـ لقد نصحت أبو رشا عدة مرات أن يترك الإدارة المالية ليّ لكنه يصرّ على أن يضع نفسه في هكذا مواقف حرجة، أبني عنيد وأبوه لين القلب لذا أنا متأكدة من النتيجة وعليه لابد من التفاوض على السعر ويبدو أن صاحب المحل متعاون ولابد أن يتعاون، أليس كذلك؟.
كان سؤالها موجها للبائع مصحوبا بابتسامة عائلية أجابها صاحب المحل بابتسامة مستسلمة وتظلم لطيف جاء فيه:
ـ الحكومة انشغلت بمكافحة الإرهاب المسلح وتركتنا لإرهاب التفاوض على السعر، قبل أشهر كنا نعاني من الكساد والآن مع استتباب الأمن وموسم المدارس والأعياد نعاني من هذه المفاوضات.
تركنا صاحب المحل تحت رحمة الأم وعائلتها التي على ما يبدو ستحقق نصرا في مفاوضاتها وخرجنا إلى الشارع الذي أضاءته مصابيح أعمدة الإنارة والمحال بعد أن غاب
قرص الشمس في الأفق، لكن الحركة
لم تغـب عنه والنـاس تمـلأه ذهابـا
وإيابا.