بسم اللّه الرحمن الرحيم

الحمدُ للّه ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد، وآلهِ الطيبين الطاهرين، وصحبهِ الـمُنتجبين، وعلى جميع أنبياءِ اللّه الـمُرسلين .


فكر وثقافة

السنة السابعة: 27جمادى الأولى 1424هـ/26-7- 2003م، العدد:313

في هذا الأسبوع، بدأ سماحة آية اللّه العظمى السيد محمد حسين فضل اللّه - دام ظله - حديثاً عن مكانة العقل في تنمية حياة الإنسان واستكشاف سُنَن الكون والتاريخ، وذلك على النحو التالي.



العقل ودوره في الحياة

لقد أراد اللّه للإنسان أن يكون عقلاً يفكِّر ويبدع ويخطّط، ومن العقل يتحرك العلم وينمو ويتطوّر ليطوِّر الحياة، ومن العقل يُنتَج معنى الروح في شخصية الإنسان؛ لأن العقل يفتح آفاق الإنسان نحو اللّه سبحانه وتعالى، لينفتح بذلك كلُّ النور على كيان الإنسان كله، لأن الانفتاح في معنى العقيدة وفي معنى الروح يجعل الإنسان ينفتح نحو المطلق، فتقترب محدوديته كبشرٍ من بعض ملامح المطلق ليحلِّق في الأعالي. وقد ورد في الحديث الشريف عن أئمة أهل البيت (ع): "إن اللّه سبحانه لمّا خلق العقل قال له أقبل، فأقبل، ثم قال له أدبر، فأدبر" والعقل ليس جسماً مادياً، ولكن ذلك الخطاب واردٌ على نحو الكناية، حيث أراد اللّه سبحانه وتعالى للعقل أن يَبرز بكل عمقه وامتداده وخصائصه التي تعطي الحياة نموّها وتطوّرها، وتعطي للإنسان سموّه وانفتاحه، ((ثمّ قال: وعزّتي وجلالي، ما خلقت خلقاً أعز عليَّ منك، إيّاك آمُر وإيّاك أنهى..)) فالله عندما يأمر الإنسان أو ينهاه فإنما يأمر عقله؛ لأن العقل هو الذي يعي معنى الأمر والنهي، ((وبك أُثيب وبك أعاقب)). وقد ورد أن اللّه سبحانه وتعالى يثيب الإنسان بمقدار عقله ويعاقبه بمقدار عقله، يعني أن الظروف العقلية في وعيها للطاعة وفي وعيها للمعصية هي التي تحدد حجم الثواب وحجم العقاب.



في آفاق القرآن

ونحن عندما ندخل إلى آفاق القرآن الكريم، نجد أن القرآن يتحدث عن كل آيات اللّه في الكون، ليقول للإنسان: اقرأ كتاب الكون، وانطلق بعقلك لتدرس كل آيات اللّه في الكون وكل ما فيه من السنن والظواهر، لتطّلع على أسرارها، فتنفتح من خلال العقل على اللّه سبحانه وتعالى.

ومن هنا، فإنّ الإنسان المؤمن ـ من خلال ما نستوحيه من القرآن الكريم ـ لا ينعزل عن الكون، ولا يمر به مروراً عابراً، ولا يعيش أمام ظواهره بروح اللامبالاة، وإنما يفكر في كل ظاهرة كونيّة في كل ما أودعه اللّه سبحانه وتعالى في النظام الكوني، أو سنة تاريخية فيما ركّزه الله سبحانه في النظام الإنساني من قوانين وأنظمة، فقال للإنسان اقرأ كتاب ربك في سر عظمة الخلق، ولْتُحقِّق الامتداد للعلم وللإبداع. ولذلك فنحن نختلف مع الذين يقولون إن العلم ينفتح على الإلحاد، إلاّ إذا كان العلم سطحياً، فإنه عندها يمكن أن لا ينفتح على الإيمان، لأنه كلما فهم الإنسان أسرار الكون أكثر، كلما عرف اللّه أكثر، ونحن نقرأ الحديث المأثور ((من عرف نفسه فقد عرف اللّه)).

لقد كانت مهمّة الإسلام أن ينطلق عقل الإنسان نحو اللّه ليقترب منه من خلال اقترابه في كل الحياة، وأنزل الله سبحانه القرآن من أجل تنمية العقل، فكل ما في القرآن الكريم هو حركة ومفاهيم قيّمة لا بد للإنسان أن يتدبرها من أجل أن ينمو عقله ويكبر.

وعلى هذا، فإنّنا نؤكِّد ـ كما أكدّنا في بعض حواراتنا مع المسيحيين الذين كانوا يقولون إن الإيمان فوق العقل، والإيمان عادةً ينطلق من خلال الشعور والإحساس من المنطقة الخفية ـ نؤكّد أن الإسلام يعتقد أن العقل هو الذي يؤكّد الإيمان، وأن الإيمان يمر بطريق العلم، وكلما ازداد الإنسان علماً كلما ازداد إيماناً..

كتاب الكون

ولابد لنا هنا من أن نتابع بعض الآيات القرآنية التي توحي بما ذكرناه، لنعرف كيف يجعل القرآن للعقل قيمة في أعلى مواقعها، وكيف يريدنا أن نتدبر القرآن ونفهمه من أجل إغناء العقل والروح والانفتاح على منهج العلم.

الآية الأولى: ما جاء في سورة البقرة الآية 164، وهو قوله تعالى: ]إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ[ في كل ما يمثله هذا الخلق من أسرار وامتداد، ومن غنى في الثروات الموجودة في السماء بكل رحابتها، وفي الأرض بكل تشعّباتها، ]وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ[، هذا الاختلاف الذي جعله الله سبحانه لتنظيم حركة الزمن لتنتظم من خلاله حياة الإنسان، فبينما ينقص الليل ليزداد النهار ويزيد الليل لينقص النهار، أو يتوازنا، نجد أن هذا النظام الزمني الكوني لم يختلف مع مرور ملايين السنين، ولم يتخلّف بمقدار ثانية واحدة.. ]وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنْ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ[.. وسقوط المطر هو نظام طبيعي أودعه اللّه في أجواء السماء، بحيث إذا تجمعت أنتجت المطر.. ]فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ[ فهذا التنوّع من الحيوانات التي لا عدَّ لها ولا حصر في خصائصها وأوضاعها.. ]وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ[ في وظيفة السحاب في الحياة، خلال الحرّ والبرد وما إلى ذلك.. ]لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ[.. فعليك أن تحرّك عقلك وتطلقه باتجاهٍ منطقي سليم، من أجل أن تغنيه ومن أجل أن توسع علمك، وأن تبدع في ما تستمده من حركتك الإنتاجية والعلمية من خلال فهم أسرار الخلق وأسرار الطبيعة. وكلُّ ما جاء به الإنسان من اكتشافات لم تكن اختراعاً لقانون، وإنما كانت استهداءً للقوانين الموجودة في الكون وحاول أن يستنتجها بطريقة وبأخرى. ولذلك فإن كل الاكتشافات ـ بما في ذلك الاستنساخ أو أطفال الأنابيب ـ ليس خلقاً كما يعتبره بعض الناس، فالخلق في حقيقته هو خلق القانون، أما أن تصنع شكلاً من خلال ما أودعه اللّه سبحانه وتعالى من قوانين وسنن، فهذا ليس خلقاً وإنما استهداء للخلق.

الآية الثانية التي تؤكد على دور العقل في محاولة استنطاق ظواهر الكون، قوله تعالى في سورة النحل (الآيات 10-11): ]هُوَ الَّذِي أَنزَلَ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ[ تأكلون منه.. ]يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالأَعْنَابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ[.. والفكر نتيجة العقل، وهو حركة العقل في إنتاج الفكر، ولذلك يقول سبحانه وتعالى لا تنظروا إلى هذه الظواهر نظرة سطحية، بل يجب أن تكون النظرة إليها النظرة العميقة المفكرة، وهو ما يطلق عليه القرآن الكريم مصطلح "التدبُّر"..

والآية الثالثة قوله تعالى: ]وَسَخَّرَ لَكُمْ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ[ (النحل/112) فيتحدث عن عظمة الخلق والنعمة، فالليل والنهار مسخّران للإنسان لتنظيم حياته، ]وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ[ وتأثيرهما على حياة الإنسان والحيوان والنبات، ]وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ[ فالعاقلون هم الذين يمكن لهم أن يفهموا ظواهر الكون.

وعي الأمثال

ثم يتحدث القرآن عن الأمثال، والقرآن مليءٌ بالأمثال، ولكنه يقول إن فهم المثل في امتداداته خارج الدائرة الضيّقة التي تحرّك في داخلها يحتاج إلى علم وعقل، قال تعالى: ]مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ* إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ* وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلا الْعَالِمُونَ[ ( العنكبوت/41-43)، يعني الناس الذين يملكون العمق العلمي هم الذين يملكون امتداد هذا المثل وكيف يطبقونه وكيف يفهمون ما يماثله في كل شؤون الحياة.

وهكذا يتحدَّث القرآن عن التجربة الحياتية، فالإنسان عندما يتحرك في الأرض، وفي الأرض الكثير من التاريخ والكثير من الثروات ومن الأوضاع، فهنا يقول القرآن: عندما تتحرك في آفاق الأرض عليك أن تعقل كل ذلك، حتى وأنت تتحرك سياحياً، لا تشغل نفسك بمظاهر الجمال الطبيعي بطريقة بلهاء، ولكن ادرس سحر هذا الجمال وخصائصه حتى تكون سياحتك سياحة مثقّفة، لأنك عندما تمر بآثار عاش فيها الكثيرون من قبل في التاريخ، أو عندما تمرّ بالقلاع والحصون، أو بما امتلأت به المتاحف من آثار السلف، والتي تعبر عن الإبداع والفن الإنساني وما إلى ذلك، فإنك تستطيع أن تثقّف نفسك بذلك.

وهذا هو الذي ينطلق بنا إلى مسألة التجربة بكونها مصدراً من مصادر المعرفة. ففي الفلسفة اليونانية، وهي مدينة لأرسطو وأفلاطون وغيرهما، كان مصدر المعرفة الوحيد التأمل ، ولكن الثقافة الإسلامية التي استفاد منها الكثيرون ونقلوها إلى الغرب، اعتبرت التجربة مصدراً ثانياً من مصادر المعرفة، وقد تقدم الغرب هذا التقدم الهائل من خلال ما أخذه من المفكرين المسلمين، مثل ابن رشد في الأندلس، فاستنطقوا التجربة في إبداع المعرفة، ولكننا - مع الأسف - لا نزال نعيش في التجريد الذي يجعل الإنسان يفكر في الفضاء من دون أن يحقق التجربة الإنسانية.. والله تعالى يقول: ]أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا[/(الحج/46) وكلمة (القلب) في القرآن غالباً ما تعني العقل.. ]إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ[(ق/37)، فالقلب يستحضر العقل ليفهم كل شيء يمر به ولا ينظر إلى الأشياء نظرة سطحية وغير عميقة الفهم .. ]كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ[ (البقرة/242).. ونقرأ في آية أخرى ]إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ[ (يوسف/2)، فهذه الآية صريحة القول بأن اللّه أنزل القرآن من أجل أن يصنع للإنسان عقله وأن ينميه ويطوّره في حركة حياته في كلِّ مجالاتها.

لذلك نجد أن القرآن الكريم يركّز على مسألة التدبر وعلى مسألة القلوب المفتوحة، ويتحدث عن كثير من الناس الذين يقرأون القرآن ولا يتدبّرونه، لأن عقلهم مقفل.. ]أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا[ (محمد/24) فبدلاً من أن يشارك القرآن بصناعة عقله، فإنه من خلال طريقة القراءة يقفل على نفسه، لأنها هي التي تجعله يغلق عقله عن فهم آيات اللّه والأسرار التي يريد اللّه للإنسان أن ينطلق بها. وللكلام بقية قد تأخذ أكثر من موقع .

والحمد للّه ربّ العالمين.

بينات
http://www.bayynat.org.lb/books/nadwas/fikr313.htm