[align=justify][align=center]
الشهيد الصدر

[mark=CCCC00]وإشكاليات نشوء الدولة[/mark][/align]


[mark=CCCCCC]صلاح عبد الرزاق[/mark]

ظهرت العديد من النظريات التي حاولت تفسير ظاهرة نشوء الدولة في التاريخ البشري، كل واحدة تنطلق من أرضية أيديولوجية وخلفية فلسفية وبيئة حضارية معينة. وقد طرح الشهيد السيد محمد باقر الصدر نظريته في نشوء الدولة. وهذه الدراسة تناقش هذه النظرية.

تعريف الدولة وعناصرها

تعرف الدولة بأنها الكيان السياسي والإطار التنظيمي الواسع لوحدة المجتمع، والناظم لحياته الاجتماعية وموضع السيادة فيه، بحيث تعلو إرادة الدولة فوق إرادات الأفراد والجماعات الأخرى في المجتمع وذلك من خلال سلطة إصدار القوانين واحتكار حيازة وسائل الإكراه وحتى استخدامها في سبيل تطبيق القوانين بهدف ضبط حركة المجتمع وتأمين السلم والنظام وتحقيق التقدم في الداخل والأمن من العدوان في الخارج(1).

يطلق مصطلح الدولة على معنيين، فتارة يراد به الحكومة أو الجهاز السياسي الحاكم، فيقال مسؤولية الدولة أو صلاحياتها أو شرعيتها. وتارة يتسع المعنى ليشمل الأمة ذات الكيان السياسي. ويقصد بالدولة في مثل هذه الاستعمالات مجموع الكيان السياسي الذي تكونه الأمة وجهاز الحكم. ونقصد في هذا البحث المعنى الأول، أي الجهاز السياسي الحاكم أو السلطة السياسية الحاكمة.

وتتشكل الدولة (الأمة) من ثلاثة عناصر رئيسة هي 1-الشعب 2- الأرض 3- السلطة. والعنصران الأولان لا ينفصلان عن وجود أي تجمع إنساني لأية جماعة بشرية مهما كانت درجة تحضرها أو طبيعة تركيبها، سواء كانت قبيلة أو مجموعة قبائل. أما العنصر الثالث أي السلطة، فقد تباين وجوده وقوته وتأثيره من جماعة إلى أخرى. فتارة هو زعيم القبيلة، وتارة هو الكاهن أو الساحر أو أقوى فرد في الجماعة.

أما الدولة -الجهاز السياسي الحاكم- فلا توجد إلا في ظل مجتمع مستقر في مدينة أو مجموعة مدن. وليس بالضرورة أن توجد الدولة (الحكومة) في كل مجتمع مديني، فمكة المكرمة والمدينة المنورة كانت تفتقد لوجود سلطة سياسية قبل الإسلام، وكانت المسؤوليات والمهام تتوزع بين القبائل المقيمة فيها. ولا تنشأ الدولة في ظل الجماعات البشرية المتنقلة، كما لا تنشأ في مجتمع غير متحضر. فلا تنشأ في مجتمع يعيش في الغابات أو الصحراء أو الجبال عيشة البداوة. بل نشأت في ظل تجمعات بشرية استطاعت أن تشيد حضارات إنسانية عريقة، حيث تطورت الدولة وأجهزتها وأسلوب الحكم بمرور حقب تاريخية طويلة.

نظريات نشوء الدولة

يعود نشوء الدولة إلى مَيل الإنسان نـحو الحياة الاجتماعية التي تحتاج إلى تنظيم قواعد التصرف والحقوق والواجبات الاجتماعية للأفراد، ووجود سلطة عليا في المجتمع قادرة على الحكم والحفاظ على القانون وإدارة شؤونها الداخلية وضبط الأمن والسلم وحماية الأموال والأنفس من الاعتداء وحماية البلاد من الأعداء.

ومقابل ذلك ينصاع المجتمع لها ويطيع أوامرها، ويرضى باستخدام القوة لضمان التزام الأفراد والجماعات بالقوانين. وتختلف صيغة الحكم وطبيعة العلاقة بين الحاكم والمحكومين من مجتمع إلى آخر، ومن مرحلة تاريخية إلى أخرى.

وهناك نظريات عدة حاولت تفسير نشوء الدولة، فـ(أفلاطون) يرى أن الدولة ظهرت نتيجة رغبة الأفراد في إشباع حاجاتهم، فالحاجة هي الدافع الفردي لظهور الدولة والمجموعة التي تكونت للتعاون فيما بينها من أجل إشباع هذه الحاجات بعد أن شعر الفرد بعجزه عن تلبية رغباته المادية.

أما (أرسطو) و(شيشرون) فيتفقان على اعتبار العائلة هي النواة الأولى لقيام الوحدة السياسية في شكل الدولة. فتجمع العوائل من أجل إشباع الحاجات المادية للأفراد أدى إلى نشوء المدينة ثم الدولة. ويؤكد (فيلمر) على دور العائلة في قيام الدولة معتبراً أنها ظهرت مع ظهور آدم فهو أول رب لعائلة على الأرض، وعنه توارث الملوك السلطة السياسية، وصار سلطانهم مطلقاً وأشخاصهم مقدسة. أما (لوك) و (روسو) فيعتقدان بوجود عقد اجتماعي بين طرفين، وأن الأفراد كانوا أحراراً متساوين، وأبرموا العقد برضاهم، حيث تنازلوا عن مقدار من حقوقهم للحاكم الذي يمثل الطرف الآخر في العقد. ويرى (هوبس) و (بوسويه) أن نشوء الدولة يعود إلى الغلبة والقوة، وأن حالتي الخوف من الأقوياء والمصلحة المادية للأفراد هي التي استلزمت ظهور الدولة لتولي تحقيقها. أما ماركس فقد عدّ الدولة نتيجة للصراع الطبقي من اجل الملكية، وبزوال الملكية تزول الدولة.

نظرية الصدر في نشوء الدولة

أما الشهيد السيد محمد باقر الصدر فقد رفض هذه النظريات إذ يقول: »فمن ناحية تكوّن الدولة ونشوئها تاريخياً، نرفض إسلامياً نظرية القوة والتغلب، ونظرية التفويض الإلهي الإجباري، ونظرية العقد الاجتماعي، ونظرية تطور الدولة عن العائلة«(2). وقد طرح نظريته التي يمكن تسميتها بـ(الدور النبوي في نشوء الدولة) حيث يرى أن »الدولة ظاهرة اجتماعية أصيلة في حياة الإنسان. وقد نشأت على هذه الظاهرة على يد الأنبياء ورسالات السماء، واتخذت صيغتها السوية، ومارست دورها السليم في قيادة المجتمع الإنساني وتوجيهه، من خلال ما حقق الأنبياء في هذا المجال من تنظيم اجتماعي قائم على أساس الحق والعدل، يستهدف الحفاظ على وحدة البشرية، وتطوير نموها في مسارها الصحيح«(3). وقد اعتمد الشهيد محمد باقر الصدر في بناء نظريته على الآية الكريمة (كان الناس أمة واحدة، فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين، وأنزل معهم الكتاب بالحق، ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه. وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه من بعد ما جاءتهم البينات بغياً بينهم. فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه. والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم)(البقرة: 213).

فيقول »نلاحظ من خلال هذا النص أن الناس كانوا أمة واحدة في مرحلة تسودها الفطرة، وتوحد بينها تصورات بدائية للحياة، وهموم محدودة وحاجات بسيطة، ثم نمت - من خلال الممارسة الاجتماعية للحياة- المواهب والقابليات، وبرزت الإمكانيات المتفاوتة، واتسعت آفاق النظر، وتنوعت التطلعات، وتعقدت الحاجات، فنشأ الاختلاف، وبدأ التناقض بين القوي والضعيف، وأصبحت الحياة الاجتماعية بحاجة إلى موازين تحدد الحق وتجسد العدل، وتضمن استمرار وحدة الناس في إطار سليم، وتصب كل القابليات والإمكانيات التي نمتها التجربة الاجتماعية في محور ايجابي يعود على الجميع بالخير والرخاء والاستقرار بدلاً عن أن يكون مصدراً للتناقض وأساساً للصراع والاستغلال. وفي هذه المرحلة ظهرت فكرة الدولة على يد الأنبياء. وقام الأنبياء بدورهم في بناء الدولة السليمة، ووضع الله تعالى للدولة أسسها وقواعدها كما لا حظنا في الآية الكريمة المتقدمة الذكر.وظل الأنبياء يواصلون بشكل وآخر دورهم العظيم في بناء الدولة الصالحة. وقد تولى عدد كبير منهم الإشراف المباشر على الدولة كداود وسليمان وغيرهما. وقضى بعض الأنبياء كل حياته وهو يسعى في هذا السبيل كما في حالة موسى عليه السلام. واستطاع خاتم الأنبياء (ص) أن يتوج جهود سلفه الطاهر بإقامة أنظف وأطهر دولة في التاريخ، شكلت بحق منعطفاً عظيماً في تاريخ الإنسان، وجسدت مبادئ الدولة الصالحة تجسيداً كاملاً ورائعاً«(4).

مناقشة النظرية

اعتمد السيد الصدر على فكرة أن الناس أي البشر كانوا في مرحلة معينة تسودها الفطرة، حيث فسّر (الأمة الواحدة) بالفطرة الواحدة. في سياق تحليله التاريخي- الاجتماعي لتطور العلاقات الاجتماعية بين البشر ثم راح يوضح معالم هذه المرحلة فيذكر التصورات البدائية للحياة والحاجات المحدودة للمجتمع البشري الأول.

وبتعقد العلاقات الاجتماعية وبروز المصالح المتضادة بين أفراد المجتمع بدأ التنافس والصراع على الثروات والسلطة أخذت (مرحلة الفطرة) تزول تدريجياً لتبدأ (مرحلة الإختلاف) والحاجة إلى موازين تحدد الحق وتجسد العدل. وهنا ظهرت فكرة الدولة على يد الأنبياء. وقبل أن ندخل في مناقشة النظرية نجد من اللازم فهم ما يقصده السيد الصدر بالفطرة كي نتجنب سوء الفهم والقصد. يوضح السيد الصدر صفات الفطرة ودورها في تشكيل المجتمع البشري في بحثه (الأساس الإسلامي لخطي الخلافة والشهادة) فيقول : »فالإيمان بالله الواحد ورفض كل ألوان الشرك والطاغوت ووحدة الهدف والمصلحة والمسير معالم الفطرة الإنسانية. وأي شرك وجبروت وأي تناقض فهو انـحراف عن الفطرة. وهكذا شكلت الفطرة في البداية أساساً لإقامة مجتمع التوحيد«(5).

ويلاحظ على هذه النظرية ما يأتي:

1. الدولة ظاهرة اجتماعية

إن السيد الصدر ذكر أن الدولة ظاهرة إجتماعية أصيلة في حياة الإنسان، والظاهرة الإجتماعية تعني أنها تستقي مقومات ظهورها من وجود مجتمع إنساني مهما كان نوع المجتمع أو درجة رقيه العلمي والإقتصادي. فالنزوع نـحو التجمع بين أفراد البشر ظاهرة اجتماعية لم تخلُ منها التجمعات البشرية في أي عصر، حتى قيل أن الإنسان حيوان اجتماعي. فلما كانت الدولة ظاهرة اجتماعية يعني أنها يمكن أن تظهر في أي تجمع بشري يتميز بالمقومات اللازمة لتشكيل الدولة، أي حينما يقطع مراحل من الرقي وتعقد العلاقات الاجتماعية بين أفراده، وتظهر الحاجة لتنظيم هذه العلاقات لمنع الصراعات والتنافس وإقرار الأمن عندها تتبلور مرحلة تأسيس الدولة أو الحكومة. فإذا كانت الدولة ظاهرة اجتماعية ويمكن نشوءُها في أي مجتمع تتوفر فيه الشروط اللازمة لها، فلماذا يفترض السيد الصدر أن الأنبياء وحدهم هم السبب المباشر لنشوء الدولة، وأنها ظهرت على أيديهم دون غيرهم من أفراد المجتمع؟

من هنا يجب أن يثبت لنا أن تشكيل الدول في مختلف المجتمعات البشرية تم على أيدي الأنبياء. فالتجمعات البشرية لم تكن في بقعة واحدة، بل تشكلت وتطورت في أماكن عديدة، في الصين والهند والعراق ومصر وآسيا وأوربا. فعلى ذلك يستلزم وجود الأنبياء في كل هذه الأماكن في بداية (مرحلة الإختلاف)، وأنهم دعوا أقوامهم أو اتخذوا زمام المبادرة لتأسيس الدولة. وهذا الإفتراض بحاجة إلى دليل عقلي أو تاريخي. وإذا افترضنا أن مرحلة الاختلاف بدأت حين كان التجمع البشري في بقعة واحدة أي كان هناك في مكان ما مجتمع بشري واحد على الأرض. وأن نبي ذلك المجتمع وتلك الفترة دعا المجتمع إلى إنشاء الدولة للخروج من الأزمة الاجتماعية التي عصفت بالمجتمع بسبب الاختلاف. ولو سلمنا جدلاً بهذه الفرضية، إذن كان ظهور الدولة على يد نبي واحد وليس كل الأنبياء، فمن هو ؟ أما إذا قيل إن كل الأنبياء دعوا إلى فكرة الدولة نفسها في كل مجتمع أو مرحلة زمنية وجد فيها نبي، فما الداعي لذلك والمجتمع قد عرف الفكرة وقام بتأسيس دولة، وتعاقب عليها الحكام والملوك ؟ فهل يستلزم تكرار الفكرة والجهاز السياسي الحاكم المتمثل بالسلطة موجود في مرحلة ما بعد الإختلاف؟

2. مرحلة الفطرة

يرى السيد الصدر أن (مرحلة الفطرة) كانت هي السائدة في المجتمعات البشرية قبل (مرحلة الاختلاف). وأن معالم مرحلة الفطرة تتمثل في وجود »تصورات بدائية للحياة وهموم محددة وحاجات بسيطة)، أي كان أفراد المجتمع البشري يعيشون في سلام ووئام حتى بدأت مرحلة الاختلاف. ويؤيد السيد الطباطبائي فكرة الفطرة المسالمة حيث يقول في شرحه للآية (وكيف كان فظاهر الآية يدل على أن هذا النوع قد مر عليهم في حياتهم زمان كانوا على الاتحاد والاتفاق، وعلى السذاجة والبساطة، لا اختلاف في المذاهب والآراء«(6).

وتواجه هذه الفكرة عوائق عديدة، قرآنية وتاريخية. فعلى الصعيد القرآني نجد أن المجتمع البشري الأول الذي اقتصر على النبي آدم وزوجه وولديه، قد عانى من صراع الخير والشر، صراع الحق والباطل، والتنافس على النفوذ والمركز، حتى انتهى الأمر بأول جريمة قتل في التاريخ. فهل يمكن اعتبار الدوافع التي تدفع البشر لارتكاب جريمة هموماً محدودة؟ فكيف يمكن تصور مجتمعاً بشرياً باقياً على الفطرة، من دون صراع الخير والشر ؟ وما معنى أن المجتمع الأول كان يحمل (تصورات بدائية للحياة) ؟ ألم يكن آدم نبياً يبشر بالهداية الإلهية ويرسخ دعوة الله تعالى البشر إلى التزام الحق والعدل والخير، وترك الشرك والكفر والظلم والباطل ؟ ألم يدعُ آدم إلى التوحيد والعدل الإلهي ويبشر بالجنة وينذر المجتمع الأول من العقاب الإلهي والنار ويدعو للحياة الكريمة والعلاقات الاجتماعية السامية والأخلاق الرفيعة؟ ألا تعني المعارف الإلهية التي حملها النبي آدم (ع) ترسيخاً لنسق فكري وعقائدي لا يختلف في أسسه عمّا بشّر به بقية الأنبياء في المراحل التاريخية اللاحقة ؟ فكيف يمكن وصف هذه التصورات بالبدائية؟

3. هل أسس آدم دولة؟

إذا كانت الدولة قد ظهرت على يد الأنبياء فهل يعني أن النبي آدم (ع) قد أسس حكومة في مجتمع بشري لا يتجاوز الأسرة الصغيرة ؟ أو أنه قد أسسها بعد تزايد أفراد أسرته وتكاثرهم ليصلوا إلى عدد لا بأس به، استلزم تشكيل الدولة. لا يوجد دليل على ذلك، هذا من جانب. ومن جانب آخر إذا كان آدم قد دعا لإنشاء الدولة فذلك يعني أنه قد أنجز أكبر إنجاز اجتماعي، ولا داعي لتكرار الدعوة إلى إنشاء الدولة طالما عرفت البشرية هذه الفكرة وبدأت بممارستها عملياً فيما بعد هذا ويرى السيد محمد حسين الطباطبائي في تفسيره للآية المذكورة(البقرة: 213) (أن ظهور الاختلاف بين الناس هو الذي استدعى التشريع، و هو جعل قوانين كلية يوجب العمل بها ارتفاع الاختلاف، ونيل كل ذي حق حقه وتحميلها للناس)(7). فهنا يوجد احتمالان:

الأول: إن المدّة التاريخية التي عاش فيها آدم وأسرته كانت على الفطرة ولم يكن بينها اختلاف ولم تكن بحاجة إلى التشريع لأن الاختلاف هو الذي استدعى التشريع. أي أن آدم لم يأت بتشريعات إلهية تنظم ذلك المجتمع الصغير، وفق تصور الطباطبائي، وهذا أمر مستبعد عقائدياً.

الثاني : إن المدّة التاريخية التي عاش فيها آدم وأسرته عرفت الإختلاف والصراع والتنافس، وكان هناك تشريع إلهي هو الذي نزل به آدم (ع)، على الرغم من بساطة المجتمع وعدم تعقد علاقاته. أي أن التشريع الإلهي والهداية الربانية ومفاهيم الحق والعدل والخير جاءت مع آدم وبقيت تتكرر على أيدي الأنبياء من بعده، بعد أن يشوب الرسالات الإلهية التحريف والضلال والتشويه.

وإذا صح الإحتمال الثاني، وهو ما نراه، فأين هي مرحلة الفطرة الخالية من (التناقض بين القوي والضعيف). إننا نعتقد أن الصراع بين الخير والشر صراع إنساني طالما وجد من لم يؤمن بالرسالات السماوية وإرشادات الأنبياء. وهؤلاء موجودون في كل المجتمعات البشرية وفي كل العصور التاريخية.

4. مرحلة الاختلاف

يرى السيد الصدر أن (مرحلة الاختلاف) بدأت بعد نمو (المواهب والقابليات، وبرزت الإمكانيات المتفاوتة، واتسعت آفاق النظر، وتنوعت التطلعات، وتعقدت الحاجات، فنشأ الاختلاف. وبدأ التناقض بين القوي والضعيف، وأصبحت الحياة الاجتماعية بحاجة إلى موازين تحدد الحق وتجسد العدل). وهنا نرى أن مرحلة الاختلاف ما زالت قائمة وأنها بدأت بأول أسرة بشرية على الأرض، ولم تزل حتى اليوم. من جانب آخر يرى السيد الصدر أن دخول البشرية في تلك المرحلة استدعى تدخل الأنبياء من أجل إنشاء الدولة وترسيخ مفاهيم الحق والعدل بين البشر، و كي (تضمن استمرار الناس في إطار سليم). ولما كنا لا نعرف كم دامت تلك المرحلة في عمر التاريخ، وهل تساوى طول تلك الفترة لدى مختلف المجتمعات البشرية أم أنها اختلفت بسبب التباين في التطور والرقي والحضارة، مما استدعى تأسيس الدولة في مجتمعات قبل غيرها. وهذا يستدعي إثبات ما يأتي:

1. إن الأنبياء شهدوا تلك المرحلة.

2. إنهم تدخلوا تدخلاً مباشراً لتأسيس الدولة.

ولا يمكن ذلك حيث إن الله يبعث الأنبياء إلى الأمم، ولكن لا يستلزم عدم خلو الأرض من نبي في مدّة محددة، يقول تعالى : (يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم على فترة من الرسل)(المائدة : 19) والفترة يقصد بها عدم وجود رسول أو نبي، أي المرحلة التاريخية الممتدة من بعثة عيسى (ع) وحتى بعثة النبي محمد (ص) وهي فترة تمتد حوالي سبعة قرون.

إذن هناك فترات تاريخية تخلو من بعثة الأنبياء، وكل ما يتبقى هو شريعة ذلك النبي التي يفترض أن يتمسك بها الناس، ولكن الضلال والانـحراف أمر طبيعي في سلوك البشر، مما يستدعي بعثة نبي آخر سواء بشريعة جديدة أو لبعث الروح في الشريعة السابقة. واستمرت الحالة هذه حتى بعثة خاتم الأنبياء محمد (ص). فلا نعلم كم استغرقت مرحلة الاختلاف حتى بداية تأسيس أول دولة في التاريخ. كما أن تأسيس الدولة لم يلغ أو يخفف من الاختلاف بين البشر. من جانب آخر لم يذكر السيد الصدر متى قامت فكرة الدولة وعلى يد أي من الأنبياء (ع) ؟ في حين يقول »قام الأنبياء بدورهم في بناء الدولة السليمة، ووضع الله تعالى للدولة أسسها وقواعدها«.

الغريب أن الذين اختلفوا بعد نزول الكتاب أو التشريع الإلهي ليس الناس العاديين أو عامة الشعب، بل أولئك الذين نزل عليهم التشريع، أي أتباع الرسل وأنصارهم، أو الذين آمنوا بدعوتهم ورسالتهم. يقول تعالى في سياق الآية ((وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه، وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه من بعد ما جاءتهم البينات بغياً بينهم))(البقرة :213). ففي الوقت الذي كان يفترض أن أتباع الرسالة يبشرون بها ويدعون إلى ترسيخ التشريعات الواردة فيها في المجتمع الذي يعيشون فيه، نرى أن بعضهم كان سبب الاختلاف واستمراره بعد نزول الكتاب. يقول السيد محمد حسين فضل الله: »بعض الناس الذين أوتوا الكتاب بالحق لم يستريحوا إلى ذلك، لأنهم كانوا يعيشون على حساب تلك الخلافات، فنقلوا تلك الخلافات إلى نفس الكتاب فيما أثاروه من تأويلات وتفسيرات وتطبيقات، مما جعل القضية في حياتهم موضع خلاف فكري في أمر الكتاب. ولم يكن اختلافهم نتيجة اختلاف اجتهادات، فيما تنطلق فيه من سبل الوصول إلى الحق التي قد تتنوع تبعاً لتنوع الثقافة أو النظرة إلى الأمور، بل كان اختلافهم نتيجة البغي والحقد والعداوة فيما بينهم كنتيجة طبيعية للعلاقات المتأزمة الخاضعة لأسباب غير شرعية. وهكذا امتد هؤلاء في خلافاتهم حتى حولوا الساحة البشرية إلى قاعدة للتنازع والتجاذب والخصام«(8).

5. الأنبياء واجهوا دول زمانهم

في المراحل اللاحقة أي بعد ظهور فكرة الدولة، وتحققها فعلياً في مختلف بقاع الأرض، يتحدث السيد الصدر عن استمرار دور الأنبياء في الدولة حيث يقول (وظل الأنبياء يواصلون بشكل وآخر دورهم العظيم في بناء الدولة الصالحة. وقد تولى عدد كبير منهم الإشراف المباشر على الدولة كداود وسليمان)، حيث نجد أن السيد الصدر قد اختصر مراحل تاريخية طويلة لم يستلم فيها الأنبياء السلطة واكتفى بذكر فترة الدولة التي أسسها النبي داود (ع) والنبي سليمان (ع) من بعده في (يهودا والسامرة) في جزء من فلسطين الحالية في القرن التاسع قبل الميلاد. في حين يحدثنا القرآن عمن سبق داود وسليمان من الأنبياء، الذين كانوا في مواجهة مع الدول القائمة في عهودهم أمثال إبراهيم ونوح وموسى. هنا يحدثنا القرآن عن بعثة الأنبياء في مجتمعات ودول وحضارات متطورة، ملوك وعروش وأساليب حكم وجيوش وقصور ومعابد وكهنة ومنجمين وسحرة وأسواق وتجارة وصناعة وحرفيين ومحاكم وقوانين وأعياد وطقوس وعادات وتقاليد وكل مفردات المجتمعات المتحضرة. ويؤكد ذلك ما تركته تلك الحضارات من آثار وتماثيل ومعابد وقصور، في أور وسومر وبابل ونينوى ومصر والشام واليونان وغيرها.

فأولئك الأنبياء بعثوا إلى الناس في ظل دول قائمة ومتطورة، ولم يدعوا إلى إنشائها، بل كانت الحكومات جزءاً من التركيب الاجتماعي للمجتمع البشري في تلك الدول. وقد نمت تلك الدول بعيداً عن الرسالات الإلهية لأنها أكدت على عبادة الأصنام والأوثان، وسنت تشريعات ظالمة، ومارس حكامها الظلم والبغي. وتلك الدول هي التي وقفت بوجه الرسالات السماوية، ومارست شتى ألوان الضغط والمعارضة والتشويه الإعلامي لرسالات الأنبياء ودعواتهم، بل سعت لتصفيتهم جسدياً (إلقاء إبراهيم في النار، قطع رأس النبي يحيى بن زكريا). ولم تنته تلك المواجهات لصالح الأنبياء في أغلب الأحوال، مما اضطرهم إلى مغادرة الساحة السياسية التي استعصت عليهم (ابراهيم، لوط، يونس، موسى، …). واضطر آخرون لممارسة سياسة الإفناء والإستئصال وإبادة تلك الشعوب بالمعجزات الإلهية كالطوفان والصاعقة والريح (قوم لوط، ثمود، عاد، المؤتفكات …)، بينما دفع بعض الأنبياء حياتهم في ذلك السبيل. فقد أعدم يحيى، وعشرات من أنبياء بني إسرائيل، في حين غادر آخرون الأرض كلها مثل عيسى (ع).

6. الأنبياء الحكّام

يذكر السيد الصدر أن (عدداً كبيراً من الأنبياء تولى الإشراف المباشر على الدولة). وهذه الفرضية تفتقد للدليلين القرآني والتاريخي، فالقرآن الكريم لا يتحدث عن أنبياء تولوا السلطة سوى داود وسليمان والرسول محمد (ص). وهذا العدد لا يعد كبيراً بل أنه لا يمثل سوى 12% من مجموع الأنبياء الخمسة وعشرين الذين ورد ذكرهم في القرآن الكريم.وهناك نبي واحد شارك في السلطة هو النبي يوسف (ع) حين تولى وزارة المال والإقتصاد في حكومة فرعونية. أما التاريخ فلا يحدثنا عن أنبياء تولوا السلطة في بلادهم، بل هناك بعض الإفتراضات مثلاً هل كان أخناتون نبياً ؟ لأنه دعا للتوحيد مع أنه اتخذ الشمس رمزاً للإله الواحد (آمون).

7. شكل الدولة النبوية وتداول السلطة

لم يوضح السيد الصدر طبيعة الدولة التي أسسها الأنبياء والتي وصفها بـ (الدولة السليمة) و (الدولة الصالحة). كما أن (الصيغة السوية) للدولة التي أشار إليها يكتنفها الغموض. فهل يقصد بها شكل الحكم وآلية تداول السلطة ؟ فلا نعلم شكلاً خاصاً للحكم في العصور الغابرة سوى الشكل الملكي، حيث أضفى الملوك على أنفسهم قدسية جعلتهم في مصاف الآلهة، يعبدهم أفراد الشعب كالفراعنة. وبقيت صيغة الدولة الدينية (الثيوقراطية) هي السائدة في تلك المجتمعات. من جانب آخر نجد أن القرآن الكريم يتحدث عن النظام الملكي كأسلوب للحكم هو الصيغة المعمول بها في تلك العصور، يقول تعالى على لسان ملكة سبأ :(قالت إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها)(النمل:34)، ويقول مذكّراً بني إسرائيل بنعمه العديدة عليهم :(اذكروا نعمة الله عليكم إذ جعل فيكم أنبياء وجعلكم ملوكاً) (المائدة : 20)، فلم ينتقد النظام الملكي بل اعده منّة على بني إسرائيل.

وفي عهد ما قبل قيام دولة داود (ع) كان هناك فصل واضح بين السلطة الدينية التي يمثلها النبي، وبين السلطة الدنيوية التي يمثلها الملك، حيث يذكر القرآن الكريم طلب بني إسرائيل في التيه ترشيح ملك ليكون قائداً لهم. وذكرها القرآن من دون إشارة أو قرينة على عدم شرعية هذا الطلب، مما يعني أنه طلب مشروع، بحيث أن الله تعالى استجاب لهم فرشح (طالوت). فلو كان توجه النبي، الذي لم يذكر اسمه، لتأسيس الدولة القادمة لتولى الأمر بنفسه، لكن استجاب لطلب بني إسرائيل وسأل الله أن يستجيب للطلب ويعين ملكاً. يقول تعالى (إذ قالوا لنبي لهم ابعث لنا ملكاً نقاتل في سبيل الله …)(البقرة:246) و (وقال لهم نبيهم : إن الله قد بعث لكم طالوت ملكاً..)(البقرة : 247)، حيث استطاع الملك طالوت أن يحقق النصر ويؤسس الدولة الجديدة، واستمر بالحكم حوالي 15 سنة (1025-1010 ق. م.)، ثم استلم السلطة من بعده النبي داود(ع).

أما الشكل التاريخي لتداول السلطة فلا يعدو عن طريقين:

الأول : الأسلوب الوراثي، عبر وراثة الابن لأبيه أو أحد أقارب الملك الراحل. وقد تسلم النبي سليمان السلطة بعد وفاة أبيه داود. فمن حيث الشكل الخارجي يبدو هذا الأسلوب أسلوباً وراثياً، على الرغم من إيماننا بأن مؤهلات سليمان باعتباره نبياً ومعصوماً هي التي أهلته لتولي السلطة من بعد أبيه. وبعد وفاة سليمان عادت السلطة إلى الملوك من جديد.

الثاني : أسلوب القوة والانقلاب، وهو الأسلوب الذي كان يمكّن الأنبياء من الإستيلاء على السلطة طالما كانت الدول والحكام يعارضون الدعوة الإلهية التي يقودها النبي. فعبر زيادة عدد الأتباع بحيث يصل إلى درجة من القوة يستطيع عندها القضاء على السلطة القائمة وتوليها فيما بعد. وقد أوصل أسلوب القوة داود إلى السلطة، حيث أن الملك طالوت حارب قوات جالوت، وانتصر عليه، وصار ملكاً مكانه. ولما مات طالوت فسح المجال لتولي داود السلطة بشكل مريح. وقد مورس كلا الأسلوبين من قبل الملوك ولم يختصا بالأنبياء، حتى يمكن الإفتراض أنهم أتوا بصيغة جديدة للحكم.

أما الرسول (ص) فلم يجد سلطة قائمة في المدينة المنورة، وكان قد دعا الأنصار للإسلام، فآمن به كثيرون ودعوه للهجرة إليهم، فوجد أرضية صالحة لانطلاق الدعوة الإسلامية من دون عنف، وقد اضطر للجهاد لحماية الدولة والدعوة.

8. لتنظيم الإجتماعي

أما (التنظيم الاجتماعي) الذي حققه الأنبياء بعد تأسيس الدولة من قبلهم، كما يرى السيد الصدر، فهو مبهم، ولم يشر إلى طبيعته أو صيغته. فالمعلوم أن الأنبياء أنفسهم نشأوا في ظل مجتمعات لديها أنظمة اجتماعية متباينة. فالنظام الاجتماعي القديم كان يقسم الشعوب إلى طبقات، أسياد وعبيد وجنود وحرفيين ومزارعين وكهان وأمراء وأسر حاكمة. فإبراهيم (ع) نشأ في أسرة تتولى إدارة المعابد وصناعة الأصنام، وموسى (ع) تربى في بلاط فرعون ونشأ نشأة أرستقراطية، ومحمد (ص) نشأ في أسرة تتولى أمور الحج والسقاية والرفادة، ولها منزلة سامية في مكة والقبائل العربية.

ولم يتم تأسيس نظام اجتماعي جديد أو إلغاء النظام السابق، فكل الشرائع السماوية اعترفت بالعبيد والجواري، أي وجود طبقة من الشعب تفتقد لبعض الحقوق المدنية والحرية الشخصية أو حرية التملك. فاليهودية تقرر أن كل سكان المدينة المفتوحة صلحاً يكونون عبيداً وجواري لليهود.جاء في سفر التثنية من العهد القديم »حين تقترب من مدينة لكي تحاربها، استدعها إلى الصلح، فإن أجابتك إلى الصلح وفتحت لك، فكل الشعب الموجود فيها يكون لك للتسخير ويستعبد لك«(9). وأما لو رفضت الصلح فيذبح الرجال، وتسترق النساء والأطفال.

واعترفت المسيحية بالواقع الإجتماعي المعاصر لها حيث يقول بولس في رسالته لأهل مدينة (أفسس) يخاطب العبيد والسادة معاً : »أيها العبيد ! أطيعوا سادتكم حسب الجسد بخوف ورعدة، في بساطة قلوبكم كما للمسيح... وأنتم أيها السادة ! افعلوا لهم هذه الأمور، تاركين التهديد«(10).

وبقي نظام الرق معمولاً به حتى في الممارسات الاجتماعية للأنبياء، فقد تزوج بعضهم من جارية أو أهديت إليه جارية أو عبد. صحيح أن الإسلام سن تشريعات تمهد لإلغاء نظام الرق، لكنه اعترف بالرق كجزء من النظام الاجتماعي. وقد شرع الإسلام تشريعات عديدة خاصة بالرقيق، اعتبرتهم نصف إنسان حر. ولم يتم إلغاء نظام الرق في العالم الإسلامي، لكن تم إيقاف العمل به في التشريعات الحديثة في القرن العشرين بعد أن ألغته الدول الغربية في القرن التاسع عشر.

خاتمة

إن إضفاء الطابع الديني على نشوء الدولة ما زال بحاجة إلى أدلة قوية، وحجج أكثر انسجاماً سواء مع النص القرآني أو السياق التاريخي. وهذه النظرية بحاجة إلى استدلالات أقوى، ربما يتوصل إليها علماؤنا وفقهاؤنا، مثل العديد من العقائد التي جرى تأصيل أدلة قوية تلائم هذه العصر بدلاً عن آراء وتصورات العلماء القدماء في أدلة تلك العقائد نفسها، حيث للتطور العلمي والفكري والفلسفي دوره في تنوع أدلة العقائد. هناك حاجة لتفسير مدلول عبارة (أمة واحدة) الواردة في الآية الكريمة، تفسيراً ينسجم مع النصوص القرآنية والمتبنيات العلمية والتاريخية، بحيث لا يوجد تعارض بينهما، لأن القرآن لا يعارض العقل ولا يخالفه. فالسيد محمد حسين الطباطبائي يرفض فكرة أن (الناس كانوا أمة واحدة على الهداية)، و يرفض فكرة (أن الناس كانوا أمة واحدة على الضلالة) ، كما يرفض فكرة (أن الناس كانوا أمة واحدة مدنية بالطبع لا غنى لهم عن الاجتماع، وهو يوجب الاختلاف، فلذلك بعث الله الأنبياء وأنزل الكتاب). في حين يرى أن (الناس كانوا على الاتحاد والاتفاق، وعلى السذاجة والبساطة، لا اختلاف بينهم بالمشاجرة، ولا اختلاف في المذاهب والآراء) ، وفيه تبسيط للموضوع، وغياب للنزعات العدوانية عن البشر كالحسد والغيرة والكراهية والإنتقام، والتنافس على الشهوات والثروات والسلطة.

ويرى السيد فضل الله أنه (كان الناس أمة واحدة فيما يحملون من فكر، فلم تكن لهم أفكار متعددة في شؤون الكون والحياة ليختلفوا فيها. ولم تكن لديهم اهتمامات في نظام الحياة وقانونها ليتنازعوا فيها، بل كانوا يعيشون مشاكلهم الخاصة في حاجاتهم اليومية، فيتنازعون فيما يأخذ بعضهم أو يدعه، أو فيما يتصرف به جماعة لا توافقها عليه الجماعة الأخرى) . وهو تفسير يفترض الحياة المسالمة في المجتمعات البشرية الأولى، وافتراض السذاجة العقلية بعدم وجود أفكار متعددة في شؤون الكون والحياة. علماً بأن التنازع والتنافس على الثروات والسلطة بين أفراد البشر بقي ظاهرة اجتماعية حتى اليوم. ويورد الفخر الرازي آراء عدة حول مدلول (أمة واحدة) فيقول:

»المسألة الأولى : قال القفّال (الأمة) القوم المجتمعون على الشيء الواحد، يقتدي بعضهم ببعض، و هو مأخوذ من الائتمام.

المسألة الثانية : دلت الآية على أن الناس كانوا أمة واحدة، ولكنها ما دلت على أنهم كانوا أمة واحدة في الحق أم في الباطل، واختلف المفسرون فيه على أقوال :

القول الأول : إنهم كانوا على دين واحد وهو الإيمان والحق، وهذا قول أكثر المحققين.

القول الثاني : وهو أن الناس كانوا أمة واحدة في الباطل، وهذا قول طائفة من المفسرين كالحسن وعطاء وابن عباس.

القول الثالث : وهو اختيار أبي مسلم والقاضي : إن الناس كانوا أمة واحدة في التمسك بالشرائع العقلية. وهي الاعتراف بوجود الصانع وصفاته، والاشتغال بخدمته وشكر نعمته، والاجتناب عن القبائح العقلية كالظلم والكذب والجهل والعبث وأمثالها.

القول الرابع : إن الآية دلت على أن الناس كانوا أمة واحدة، وليس فيها أنهم كانوا على الإيمان أو على الكفر، فهو موقوف على الدليل.

القول الخامس : إن المراد من الناس هاهنا أهل الكتاب ممن آمن بموسى، وذلك لأن هذه الآية متعلقة بما تقدم من قوله (يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة) وإن كثيراً من المفسرين زعموا أن تلك الآية نزلت في اليهود. فقوله تعالى (كان الناس أمة واحدة) أي كان الذين آمنوا بموسى أمة واحدة، على دين واحد، ومذهب واحد، ثم اختلفوا بسبب البغي والحسد، فبعث الله النبيين، وهم الذين جاؤوا بعد موسى (ع) وأنزل معهم الكتاب، كما بعث الزبور إلى داود، والتوراة إلى موسى، والإنجيل إلى عيسى، والفرقان إلى محمد (ص) لتكون تلك الكتب حاكمة عليهم في تلك الأشياء التي اختلفوا فيها. وهذا القول مطابق لنظم الآية وموافق لما قبلها ولما بعدها. وليس فيه إشكال إلا أن تخصيص لفظ الناس في قوله (كان الناس) بقوم معينين خلاف الظاهر، إلا أنك تعلم أن الألف واللام كما تكون للإستغراق فقد تكون أيضاً للعهد
«(13).

يحاول الفخر الرازي التخلص من الإشكالات واختلاف الآراء فيخصص مدلول (أمة واحدة) باليهود وحدهم. علماً بأن القرآن قد يطلق كلمة (الناس) على قسم من البشر سواء مؤمنين أو كفار، حيث يقول تعالى (الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم)(آل عمران :173)، فكلمة الناس الأولى تعني المسلمين الخاذلين المثبطين عن القتال، والثانية يقصد بها المشركون. والآية تشير إلى غزوة حمراء الأسد بعد معركة أحد(14).

إن الدولة حاجة اجتماعية ـ كما يرى السيد الصدر وآخرون ـ أي أنها ترتبط أولاً بالتجمع الإنساني من حيث اجتماعهم لا من جهة فلسفتهم أو عقيدتهم. فالتجمعات البشرية شهدت نشوء الدول والحضارات على الرغم من تباين عقائدها وتصوراتها. فكانت هناك دول وحكومات وحضارات في مجتمعات تعبد الأصنام والأوثان والكواكب والنار والبقر والحيوان، مثلما كانت هناك دول وحضارات في مجتمعات إيمانية ترتكز على التوحيد والمعاد والحق والعدل.

وقد وجدت الدول والسلطات السياسية والتشريعية والقضائية في تلك المجتمعات سواء وجد الأنبياء أم لم يوجدوا إبان تأسيسها، واستمرار وجودها. وما زالت الأبحاث والاكتشافات تكشف النقاب عن حضارات وآثار لدول منقرضة كانت في يوم ما مزدهرة. أما الأنبياء فقد بشروا بمفاهيم الخير والعدل والحق والتوحيد وكافحوا الظلم والجور والضلال والشرك وقد سعوا لبناء دولة صالحة قادرة على تحقيق رسالة السماء. فقد أرسوا موازين الحق والعدل، ولكن ما الدليل على أن الحكومات الجائرة على مدى التاريخ قد التزمت ولو بوصية واحدة من وصايا الأنبياء ؟ إن النصوص التي وصلتنا من آثار تلك الدول والحضارات الغابرة تشير إلى عكس ذلك. فنـحن بحاجة إلى إثبات دور الأنبياء في تلك الدول المنقرضة.

لقد بقي استلام السلطة من قبل الأنبياء هدفاً استراتيجياً سعوا له بالتخطيط والدعوة وجمع الأنصار القادرين على تحقيقه. وقد تمكن بعضهم من تحقيق هذا الهدف المقدس وهم قلة، والغالبية كانت ظروفهم أقوى منهم، لكنهم لم يتركوا التسديد والنصح للحكومات المعاصرة لهم. و بذلوا ما استطاعوا كي يؤمن أولئك الحكام والملوك بدعوتهم كي يختصروا الطريق لسيادة الدعوة الإلهية في مجتمعاتهم، لكن ووجهوا بالرفض والعناد والسخرية، بل والعدوان والقتل والتشريد. فقد نصح إبراهيم ملك زمانه المسمى بالنمرود، ونصح موسى فرعون زمانه، ولكن من دون فائدة مما اضطرهما لمغادرة بلديهما إلى بلاد أكثر أمناً.


_______________________
[overline]الهوامش[/overline]

1. الكيالي، عبد الوهاب، موسوعة السياسة،ج1، ص702.

2. الصدر، محمد باقر، الإسلام يقود الحياة، ص17. خلافاً لمنهجه يلاحظ أن السيد الصدر يرفض هذه النظريات من دون ذكر أي دليل أو ردّ تفصيلي. ولعل الظروف التي كتب فيها البحث كانت غير ملائمة. فقد كتب البحث عن (لمحة تمهيدية عن مشروع دستور الجمهورية الإسلامية) في نهاية السبعينيات وهو يسابق الزمن ويلاحق تطورات الأوضاع في المنطقة وإيران. فقد استشهد بعد فترة قصيرة في نيسان 1980. ومن الممكن أن السيد الصدر كانت لديه أدلة تدحض هذه النظريات لكن ضيق الوقت لم يمهله. فمن المستبعد على شخصية علمية شامخة كالصدر أن يرد هذه النظريات من دون استدلالات عقلية ونقلية.

3. الإسلام يقود الحياة، م. س، ص3.

4. م. ن، ص4-5 . وقد نقلنا النص على طوله كي نتفادى التجزيء، وكي نـحافظ على سياق الفكرة وأدلته.

5. م. ن، ص154.

6. الطباطبائي، محمد حسين، الميزان في تفسير القرآن، ج 2، ص 124

7. م. ن، ص118

8. فضل الله، محمد حسين، من وحي القرآن، تفسير الآية 213 من سورة البقرة. طبعة عام 1983.

9. العهد القديم، سفر التثنية، 20: 10-11

10. العهد الجديد، رسالة بولس إلى أهل أفسس، 6: 5

11. الميزان في تفسير القرآن، م. س، 124-126

12. من وحي القرآن، م.س، تفسير الآية 213 من سورة البقرة.

13. الرازي، فخر الدين، تهذيب التفسير الكبير، ج1، ص 510-511، هذبه وعلق عليه، حسين بركة الشامي.

14. الميزان في تفسير القرآن، م. س، ص 64.



[/align]