د.وائل فاضل علي
اخصائي نفسي واستاذ جامعي
[email protected]
سايكولوجية المهاجر العربي
بين احلام اليقظة وصدمة الواقع

ان واقع الشباب العربي الذي يعيشه اليوم في ما يتمناه في حياته وفي احلام اليقظة لديه من كيفية الوصول الى ( ارض الاحلام ) اوربا ، والعمل وتحقيق الاحلام ، والعيش فيها والتعايش معها كانما هي حيقيقة واقعة ، وبين صدمة الحقيقة التي يتعرف عليها حال وصوله الى ارض الحقيقة .. حيث ان الشاب العربي في موطنه وارضه الام يشعر بعدم الرضا وعدم القناعة ويحلم باليوم الذي ياتي ليسافر ويترك هذه الحياة ( التعيسة والمؤلمة ) التي كل همه فيها البحث عن لقمة العيش ويتصور ان ذهابه الى بلدان الغرب هو اشبه بالحلم الذي يسعى جاهدا الى تحقيقه وباي وسيلة واي ثمن ممكن ان يدفعه من اجل تحقيقه بل والاكثر من هذا انه في بعض الاحيان مستعد ان يضحي بحياته من اجل تحقيق هذا الحلم فيركب الصعاب ويخاطر بماله ونفسه في البحر عندما يتقبل الخطر الرهيب بركوبه امواج البحر بقارب يغرق وهو على الشاطيء ، بل ويعيش ويحيا ويحلم بانه اذا وصل الى تلك البلاد سيعيش كالملك ويمكن له في غضون شهور او ايام معدودة ان يحقق ما كان يصبو اليه ويتمناه بدون عناء او تعب . كما انه ( يتوقع) ان العمل هناك بانتظاره باستمرار وانه سيجمع منه اموال وارباح يحلم فيها ، من خلالها بانه سيبني ويشتري ويركب افخم واحدث السيارات واحدث تصاميم البناء وغيرها ، بل ان بعض منا من يذهب الى اكثر من ذلك فيبدء باطلاق الوعود الى الاصدقاء والاقرباء بمساعدتهم في الزواج او البناء او القيام بالمشاريع حال وصوله وعمله هناك !!!!! كما ان البعض من المهاجرين العرب من حملة الشهادات الاكاديمية المختلفة وعلى مختلف المراحل من يتصور منهم بان مايحمله من شهادة اكاديمية سيجعل الغربيين يتلقفونه بل يرجونه للعمل معهم ، وتقاسم خبراته المهنية والعملية او العلمية معهم وانه بالامكان ان يطور لهم ما لايتصورونه وما لا يحلمون به نظرا لخبرته وامكانياته التي يمتلكها والتي لايمكن له ان يفجرها في بلده الاصلي ، وهو محق في ذلك فاين يمكن له ان يشعر بالحرية والامكانية للعمل اذ هو محاصر بتلك القوانين الروتينية والانظمة المتحكمة في العقول ؟ ومن يمد له يد المساعدة ليقوم بما يريد ومتى يحقق تلك الاحلام اذا هو لم يبدء بها بل ويخاف حتى من البوح بها الا لاقرب الاصدقاء الذي يتوجس منه خيفة البوح بها لكي لا يكون ( في خبر كان ) ، ومن يكافأه اذا ما حقق ما يريد ومن يدفع له ومن ، ومن ، ومن وغيرها من العراقيل التي نضعها امامه وامام غيره من الشباب الذين يعرفهم او يسمع بهم ، بينما هو يتابع اخبار قريب فلان الذي هو صديق صديقه عندما ذهب الى الدولة الفلانية وكان معدوما واصبح الان يتحدث بالعملة الصعبة لا بل انه اصبح يوزع الهدايا والهبات على اقربائه وبعض من اصدقائه القدامى ويبني بيوتا للمحتاجين والفقراء وكل هذا حدث نتيجة سفره الى الخارج وبفترة زمنية بسيطة وبالمناسبة فان هذا الشخص لايملك حتى شهادة او مهنة معينة ، كما انه يمتع نفسه هناك بين السفرات السياحية والصبايا الشقراوات ومختلف انواع الزجاجات الملونة المسكر منها وغير المسكر ويدفع صدقة جارية وزكاة وتكفير عن ذنوبه لبيوت الله !!!
وتاتي اللحظة التي يبتسم فيها الحظ لبعض من هؤلاء الحالمين فيوفق بالحصول على موافقة جشع محتال يطلب منه بيع اعز ما يملك من اجل اخراجه ( بفيزا شنغن ) وهي مضمونة مقابل كذا الف دولار وغير مضمونة مقابل اقل من كذا الف دولار بمئة او مئتين ، ويلعب معه لعبة الحرب النفسية فيشجعه بالكلام المعسول بان هذا المبلغ يمكن ان يعوضه في غضون سنة او سنتين وهو الذي جمعه في عشرات السنين بجهد شاق ودؤوب وان كل الابواب ستفتح امامه وانه يعرف العشرات من الذين اوصلهم هناك الان هم اصحاب محال ومكاتب وشركات كبرى ومن الممكن ان يتوسط له عندهم ليساعدوه ، وان هذا المبلغ لايصل له منه الا شيء قليل فهناك مجموعة كبيرة تعمل من اجل راحته وسفره اللامضمون هذا وحتى وهو في عرض البحر . فتكبر احلام اليقظة ويستلف مبلغا اخر على وعد اعادته بعد اقل من سنة وكيف لا وهو الان على قاب خطوتين او اقل من تحقيق هذه الاحلام الوردية الموشحة بالازرق . ويركب الصعاب هذا المهاجر الحالم ليصل ( ان حالفه الحظ ، ولم يحتال عليه المهرب فيهرب او يغرق الزورق في بداية المشوار او تقبض الشرطة عليه وهو في ارضه وغيرها من الامور التي لم يحسب لها اي حساب ) الى ارض الاحلام ، فيتنفس تنفس الصعداء ويرمي بكل همومه والامه وراء ظهره وهو الان يشعر بالحرية ويتنفس الهواء النظيف وياكل مما طاب له ويرى الحسناوات من مختلف الاجناس والالوان يركضن خلفه من اجل ابتسامة منه فقط ترضيهن ويكبر الحلم وتتصاعد الامال، وفجأة نسمعه يلعن الغربة وهذه الحياة ومن دفعه اليها و (ورطه فيها) ويالها من ورطة فهو الان مثقل بالديون ولايمكن له الرجوع فاشلا بين اصدقائه واهله فماذا سيقولون عنه واين الرجولة التي كان يتمتع بها ؟ واين كلامه وقوة تحمله وصبره وغيرها من الاقاويل التي كان يتبجح بها ؟ وتبدء المعاناة الفعلية ، البحث عن العمل ومن يمكن له ان يشغله ولو بقوت يومه وسكنه ؟!! وكم ساعة يعمل ؟ فهنا يبدي بتذكر بعض مما كان يحصل له في موطنه وداره : في بلدي كنا نعمل ساعات ست او ثمان على الاكثر والان نعمل ست عشر ساعة من اجل التوفير ؟ لا من اجل ان نسد الحاجة . وماذا نعمل ؟ نعمل في اعمالا لانصرح بها للاخرين ولا عن نوعها ونقنع انفسنا بان العمل حلال وهو دليل الرجولة ولا يهم ما نوعه المهم ان الرجل يعمل !! سبحان الله لماذا لم ينصحني احد بهذا وقال لي ستعمل على تنظيف الحمامات وانا حمام بيتي لا ادخله مالم تنظفه وتعطره امي او اختي قبلي !! وانا الان انظف الحمام بهذه الطريقة من اجل راحة الاخرين . يالها من سخرية للقدر ، والان اتذكر صدق فلان عندما قال بان الغربة صعبة ومذلة وانصحك بالتريث والنفكير قبل القدوم على مثل هذا الامر وانا وبكل فظاظة وقوة وسرعة بديهية امتلكها اجبته لا تخف لن إنزل في بيتك ولن اطلب منك المساعدة ولا الاكل فانك وبكل بساطة اناني ولا تحب الخير الا لنفسك ولا تريد الاخرين ان ينعموا بمثل ما انعم الله عليك وفتحها هنا امامك . الم تقل هذا الكلام لكل من نصحك بهذا الحديث ؟ اكيد اننا جميعا سمعناه او قلناه ولابد لنا ان نتذكره يوما وعذرا استاذي العزيز فرويد فلم تكن جميع وسائل الكبت هنا وميكانزمات الدفاع النفسي قادرة على منعي من تذكر هذا او تناسيه في اللاشعور . وياتي حملة الشهادات العليا هنا في نهاية الامر ليرضوا باقل مرتبة للعمل تحت شعار ( العمل شرف ) ولا يهم نوع الشهادة الحاصل عليها بل المهم ان يكون هناك عمل ، طيب لماذا لم يكن لديك يااخي هذا التفكير في بلدك وانت لا تقبل ان تساعد امك او اختك او زوجتك في عمل البيت على اعتبار انك ( تحمل شهادة عليا ) ، وإن هذا قد يقلل من قيمتك امام نفسك والاخرين ، فلماذا اذن لاتقيم نفسك وتضع هنا مفهوما لذاتك اعلى او على الاقل بنفس القدر الذي كنت تحمله في بلدك ؟ ولماذا تضطر الى الذهاب لمكاتب العمل وتقول لهم مستعد للعمل باي وظيفة او مهنة بغض النظر عن شهادتي (العليا ) .
هذه هي حقيقة الكثير ممن ياتي الى عالم مجهول الافق والملامح والمستقبل ، عالم يعيش فيه الفرد بكل انواع الصراع النفسي والتناشزات الفكرية ، مما يولد لديه الشعور بحالة من عدم الاستقرار النفسي والعقلي وهو حالة من الضغط النفسي الكبير الذي يتعرض له والمشكلة انه قد لايجد من يمد له يد العون والمساعدة فكل شيء هنا محسوب بالقدر وكما يقال بالمليم .
صراعات فكرية ونفسية قلما ينجو منها الفرد فيضظر الى احداث تغيير في سلوكه او اتجاهه نحو الكثير من مواضيع الحياة من اجل الراحة النفسية التي لايمكن لها ان تتحقق بسهولة ، هذا ان تحقق فعلا ولو جزءا يسيرا منها ، فهناك فرق كبير بين احلام اليقظة التي عشناها لسنوات طوال واصبحت جزءا ساسيا من تفكيرنا وعقلنا ، وبين صدمة الواقع الذي لمسناه بادينا وبدء البعض منا يعض الانامل من الغيض ...وللحديث بقية اخرى ان شاء الله .