حمى جنون الأسعار تلتهم الأخضر واليابس .. خبراء اقتصاديون : التضخم ... فاق الحدود وبات ينذر بانفجار

المؤتمر – فلاح الشيباني

بدأ التضخم كالشبح يستشري في المجتمع العراقي ، يتغلغل أكثر فأكثر في سياق حياة المواطن اليومية ، عجز الخبراء الاقتصاديون عن معرفة أسبابه الحقيقية أو متى سينتهي .. إنه التضخم الذي بدأ يؤرق العراقيين ، ويلتهم ميزانية الأسر دون أن يردعه أحد ، فعلى مدى السنتين الماضيتين بدأت وتيرة ارتفاع أسعار المواد الغذائية الأساسية التي هي غذاء الفقراء ومتوسطي الدخل تأخذ مسيرتها ارتفاعاً بنسب متسارعة لم يشهدها العراق في السابق

القفزات القياسية للأسعار في السوق العراقية شأنها شأن الدول العربية ، وكان وما زال وقعها أشد أثراً على سكانها عموما الذين من بين عدد نفوسهم البالغ (300) مليون نسمة هناك أكثر من (76) مليون فقير ... فليس عجباً أنه في العراق وبعض الدول تتغير أسعار السلع بشكل يومي تقريباً ... يضع البائعون الأسعار اليوم ثم يغيرونها في اليوم التالي ليعكسوا مفهوم ( التضخم ) والتغير في القوة الشرائية للنقود التي تتناقص بشكل يومي ، حيث لم تعد فرحة زيادة الرواتب مرسومة على الوجوه كسابق عهدها
تعريف التضخم
التعريف الشائع للتضخم هو الارتفاع في المعدل العام للأسعار، لكن هذا لا يعد تعريفاً دقيقاً للتضخم ، وإنما ارتفاع الأسعار هو إحدى نتائج التضخم.اما التعريف الدقيق للتضخم هو انخفاض القوة الشرائية للنقود، والتي تنتج عن الزيادة من المعروض النقدي. أي أن الدول بسعيها لطباعة المزيد من النقود الورقية تفرض بشكل غير مباشر ضريبة خفية على المواطنين تتمثل في انخفاض قيمة أجورهم ودخولهم الحقيقية.( تيم ماهون ) الاقتصادي المتخصص في موضوع التضخم يشبه عملية طبع النقود بقيام شخص بكتابة شيك دون رصيد يعاقب عليها القانون بالسجن والغرامة وما إلى ذلك من الجزاءات ، لكن الأمر يختلف عندما تقوم البنوك المركزية بنفسها بكتابة شيكات دون رصيد تتمثل في النقود التي تقوم بطباعتها بشكل يومي. والسؤال الذي يطرح هل يعني ذلك أن الدول التي تتحكم بشكل في المعروض النقدي قد لا تعاني التضخم .؟ حيث يؤكد الباحثون الاقتصاديون ان الإجابة على ذلك السؤال هي بنعم ، بشرط ألا تعاني اختلالات توازنية في المعروض والمطلوب من السلع، والذي هو الآخر يعد أحد الأسباب الرئيسة للتضخم
استمرار المشكلة
تشير أحدث المؤشرات الاقتصادية في العراق إلى أن التضخم سيستمر بلا هوادة وأن على واضعي السياسة الاقتصادية في العراق ان يتبنوا نهجاً اقتصادياُ ناجحاً رغم الظروف الصعبة لمكافحة ظاهرة ارتفاع الأسعار في السوق العراقية ، على الرغم من كثرة الحديث حول إعادة تقييم الدينار وهبوط مستوى الدولار امام الدينار العراقي ، إلا أنه من غير المرجح أن يكون له تأثير كبير على مجمل مستويات التضخم
التضخم عالمياً
العراق من الدول التي انضمت الى قائمة الأرقام القياسية لمعدلات التضخم ، والذي تجاوز معدل التضخم فيه الى 60% ، فيما سجلت كل من ليبيا واليمن معدلات قياسية للتضخم واللتين تبوأتا المرتبة العاشرة والـ 11 بين قائمة أعلى معدلات التضخم في العالم بمعدل يقارب 15% ، اما زيمبابوي فتعد إحدى الدول التي تعاني حالياً أعلى معدلات التضخم في العالم والذي قارب الـ 100%، ما حدا بالبعض إلى القول إن استخدام النقود الورقية في التجفيف أرخص من شراء ورق التجفيف نفسه.لكن تاريخياً تؤكد التقارير الاقتصادية إن معدل التضخم الذي شهدته ألمانيا عام 1923 يعد أعلى معدلات التضخم العالمية ، وحينها كانت الأسعار ترتفع بأربعة أضعاف كل شهر وتخيل النتائج المترتبة على ذلك. فقد تعلمت ألمانيا من الدرس الذي شهدته قبل 80 عاماً لتضع سياسة مشددة تستهدف معدل تضخم أعلى لكي لا يتكرر السيناريو مرة أخرى
تداعيات التضخم العالية
تصور أنك ترى نقودك تتناقص قيمتها كل يوم أمامك، ما التصرف الحكيم الذي ستقدم عليه؟ طبعاً صرفها وشراء سلع وتخزينها لكي لا تتناقص قيمتها، وهذا ما يحدث فعلاً في الدول التي تعاني معدلات التضخم العالية. فالعمال يجرون للأسواق لصرف ما يكسبونه من أجور لشراء السلع خشية أن تتناقص قيمتها في اليوم التالي، وهذا يؤدي إلى مضاعفة المشكلة، إذ يؤدي ذلك إلى زيادة إضافية في الطلب على السلع، ليس من أجل استهلاكها، ولكن من أجل استخدامها كمخزن للقيمة. المستثمرون أيضاً يتضررون من التضخم العالي المعدل، إذ لن يكون في إمكانهم تقدير تكاليف الاستثمار وحساب معدل الأرباح المتوقع، ما سيؤدي إلى إحجامهم عن الاستثمار.هذا بدوره سيؤدي إلى نقص في الإنتاج ومن ثم نقص في المعروض من السلع، ما سيفاقم من مشكلة التضخم.
التضخم ليس ظاهرة سلبية
يجب التنويه في البداية ان التضخم ليس ظاهرة سلبية بالمطلق خاصة ان كان بنسب منخفضة ولم يكن لاسباب نقدية اي نتيجة الزيادة في عرض النقود اصدار كمية من النقد يفوق النمو الحقيقي للاقتصاد اذ يدل احيانا على ان الاقتصاد ينمو بمعدلات عالية كما يمكن ان يدل على انخفاض معدل البطالة ، لذلك يجب ألا نفترض ان معدلات التضخم المنخفضة اكثر من اللازم والقريبة من الصفر تدل على صحة الاقتصاد ، حيث ان اقتراب معدلات التضخم من الصفر يزيد من احتمالات دخول الاقتصاد في حالة انكماش وذلك بالتأثير السلبي على الانتاجية ومن ثم رفع معدل البطالة ودخول الاقتصاد في حالة انكماش سرعان ما تتحول الى ركود ، لذا يجب على راسمي السياسة الاقتصادية محاولة التوفيق بين عدة عوامل مختلفة ومؤشرات متعددة كمعدل التضخم ومستويات البطالة والانتاجية والاستهلاك والتنافسية وابقائها في نطاق يسهل السيطرة عليه وذلك حسب الظروف الاقتصادية المتغيرة باستمرار
التضخم ... والدولار
في المقابل، رأى احد الاقتصاديين أن فك ارتباط الدينار العراقي بالدولار الأمريكي سيكون له تأثير محدود في أحسن الأحوال على تخفيض مستويات التضخم في العراق ، ويعود الأمر بالضرورة إلى ارتباط ظاهرة الغلاء بعدة أسباب منها النمو الاقتصادي العالمي وارتفاع أسعار المواد الأولية بما في ذلك المشتقات النفطية
الحلول
قدم بعض الاقتصاديين العراقيين والعرب في ندوة بحثت ظاهرة ارتفاع الأسعار في دول المنطقة والتي عقدت في العاصمة البحرينية المنامة في الأسبوع الماضي أفكارا لافتة لمواجهة معضلة التضخم في اقتصادات المنطقة ، حيث ركز المنتدون على نقطة جوهرية وهي مناقشة السبل الكفيلة لوقف زحف الغلاء والذي بات يأكل الأخضر واليابس مشكلا تهديدا للطفرة الاقتصادية المتميزة التي تعيشها دول المنطقة وخصوصا المستوى المعيشي للمواطنين على حد سواء والقدرة التنافسية للمؤسسات التجارية. وقد اكد احد الاقتصاديين على ضرورة إفساح المجال أمام مؤسسات القطاع الخاص لإقامة مشاريع البنية التحتية ، مما يعزز دورها لتقليص دور القطاع العام وبالتالي الحد من مزاحمة المؤسسات الرسمية في الحياة الاقتصادية ، حيث تشير التقارير الى أن أحد أسباب التضخم في الآونة الأخيرة إنما يعود إلى تسريع وتيرة المصروفات الحكومية على مشاريع البنية التحتية. وبات صرف المزيد ممكنا نظرا لارتفاع إيرادات الخزانة العامة وذلك على خلفية ارتفاع الأسعار وبقائها مرتفعة في السنوات القليلة الماضية ، ومن المناسب أن تقوم مؤسسات القطاع الخاص بتشييد وتشغيل محطات الكهرباء والماء لأنها تفكر في الربحية وبالتالي العمل بأقل تكلفة ممكنة. فيما يؤكد عدد من الاقتصاديين على ضرورة ان تحدد الدولة أهداف معينة للسياسات المالية والتحويلات الرسمية للبرامج الاجتماعية والمصروفات الرأسمالية ، من قبيل فرض أو تقليل الرسوم المفروضة على الخدمات الحكومية ، والسعي لتوفير الخدمات الاساسية التي من شأنها سترفع عن كاهل المواطن وتقلل من معاناته اليومية.بمعنى آخر، ربما يكون من المناسب تقليل مستويات الرسوم المفروضة على الخدمات الحكومية إذا لم تكن الحاجة ماسة آخذين في عين الاعتبار ارتفاع الدخل النفطي
التطوع لمراقبة الأسعار
ومن بين الأفكار الأخرى الجديرة بالاهتمام في الوسط الاقتصادي هي دراسة مشروع لتشجيع المواطنين بمراقبة الأسعار وإخطار الجهات المسؤولة عن التجاوزات.فقد اشارت التقارير الاقتصدية الى جدوى مثل هذا المشروع الذي اثبت نجاحه في دولة ماليزيا ، حيث سعت الحكومة الماليزية بتشجيع مواطنيها لمراقبة الأسعار وإخطار الجهات الرسمية عن التجاوزات ، وقامت بالترتيب لعمل تطوعي من قبل 14 ألف مواطن لمراقبة الأسعار في المحال التجارية بهدف تشجيع المؤسسات التجارية بالابتعاد عن كل ما شأنه تعريض سمعتها للتشويه.ويقوم هؤلاء المتطوعون بتوفير المعلومات لوسائل الإعلام ما يفسح المجال أمام التعرض لسمعة ومكانة المحال التجارية المتهمة. كما تؤكد بعض البحوث الاقتصادية لمعالجة الحد من التضخم ضرورة قيام الدولة بعمليات الشراء ومن ثم البيع للمواطنين من خلال منافذها التسويقية الخاصة كالاسواق المركزية ومراكز البيع للموظفين في الوزارات والمؤسسات الحكومية وغيرها ، لغرض الاشراف على البيع ، والحد من التجاوزات في الاسعار ، لكن يعيب هذا المقترح صعوبة تنفيذه حيث يتطلب الأمر تنسيقا دائما وعلى كل المستويات.مهما يكن من أمر، تتطلب معالجة ( التضخم ) ومعضلة الغلاء في الاسعار بذل المزيد من الفعاليات والجهود من قبل الحكومة والمسؤولين في القطاع الاقتصادي والتجاري ، لغرض بلورة أفكار ومقترحات جديدة للوقوف أمام أكبر تحد للرفاهية الاقتصادية.