نظرات في الكتابة الروائية – د. زياد الحكيم

لا بد ان يجعل الكاتب من الكتابة عادة من العادات. وهذا يعني ان عليه ان يكتب باستمرار وباوقات منتظمة.وقد شبهت الكاتبة الروائية ماري ويبراي الكتابة بالعضلات: فاذا توليت عضلاتك بالرعاية والتمرين فانها تكتسب مرونة وقوة، وتصبح قادرة على العمل بجهد اقل وبالم اقل. خذ مثالا اخر الكاتبة دوروثي براند التي نشرت كتابا بعنوان (كيف تصبح كاتبا)، وهو واحد من افضل الكتب في هذا الموضوع. تنصح براند الكاتب الذي يريد احتراف الكتابة ان يكتب شيئا كل يوم. قد لا يكون هناك موضوع مهم تكتب فيه كل يوم. في هذه الحالة، اكتب أي شيء يخطر في البال، كأن تسجل ما تعتزم اداءه من مهمات في ذلك اليوم، او تعليقا على برنامج تلفزيوني او حتى ما تشعر به ازاء حالة الطقس. بمعنى اخر: لن تعدم موضوعا تكتب فيه في أي وقت. وقد يشعر بعض المبتدئين في الكتابة انها مسألة بسيطة، ولا تحتاج الى كثير من الجهد. الواقع ان الامر ليس كذلك. الكتابة، من حيث هي حرفة، لها ادواتها التي يجب على الكاتب ان يمتلكها. الكتاب الناجحون يدربون انفسهم على الكتابة بانتظام ويكتسبون مهارات جديدة كل يوم تقريبا. صحيح انه قد نتعرف الى كاتب عبقري استطاع ان يكتب روائع ادبية دون ان يتلقى تدريبا كثيرا. ولكن هذا النوع من الكتاب نادر حقا.

والمثابرة على الكتابة تحتاج الى كثير من الانضباط. فمشاغل الدنيا كثيرة، ودون ان تشعر، يمضي يوم ويومان وفجأة تشعر انك لم تكتب شيئا. ويمضي مزيد من الوقت دون ان تكتب، وتركن الى الراحة والكسل. يبدأ بعض الكتاب رواية، ثم يتكاسلون ويعزفون عن الكتابة ويتركون الرواية نصف مكتوبة ومهملة في الادراج. طبعا الكتابة عمل يستوجب ان يبقى الممارس له وحيدا. فالوحدة رفيقة الكاتب. ولكن الكاتب عليه ان يعشق هذه الوحدة وان يتعايش معها، وان يدرك انه في هذه الوحدة يستطيع ان يبدع وان يستخرج من اعماقه افكارا وصورا وتخيلات وان يسجلها على الورق ليسهم بها في الكشف عن خبايا النفس البشرية مع غيره من الكتاب.

وعلى الكاتب ان يكون عاشقا للكلمة وقدرتها على التعبير عن المشاعر والاحاسيس وعلى وصف الاحداث والاشخاص، وقدرتها على اثارة اهتمامات القارىء وتعاطفه وغضبه وضحكه او على تغيير افكاره وآرائه. ويسعى الكتاب الى زيادة مخزونهم من المفردرات اللغوية ليختاروا منها الالفاظ الاكثر تعبيرا عن افكارهم. ولا بد للكاتب ان يتمتع بخيال خصب وخلاق. قد يشعر البعض ان خيالهم محدود، ولكن يمكن التغلب على هذا الشعور بالمثابرة على الكتابة وباطلاق العنان للقلم دون توجس او خوف. والكاتب بحاجة الى الخبرة الحياتية ولكن يجب ان لا ننسى ان بذور الانسانية ترقد في اعماق كل واحد منا، وهذه البذور تمنحنا لونا من المعرفة الاولية التي يمكننا غالبا ان نبني عليها وان ننطلق منها.

وقوة الملاحظة على درجة عالية من الاهمية للكاتب. فالكتاب يلاحظون سلوك الاخرين ويشغلون انفسهم بتحليل الدوافع والرغبات والاجواء ويلاحظون ما يقومون به من عمل، ويتساءلون عن الاسباب والنتائج. وهم يهتمون بالتفاصيل. والثقة بالنفس خاصة اخرى من خصائص الكاتب: انك لا تعدم ناقدا ينتقد عملك بقسوة شديدة، ولكن ذلك يجب ان لا ينال من ثقتك بقدرتك. يجب ان تدرك دائما ان ما تقوم به من عمل هو جدير بالاعتبار والاحترام. وانا ارى انه لا بأس ان يكون الكاتب على درجة صحية من الانانية تخوله ان يصر على ان يكون له فسحة زمانية ومكانية يكتب فيها بعيدا عن الازعاج والضوضاء. قد يكون ذلك مثارا للسخرية من الاهل والاصدقاء في اول الامر، ولكن مع مرور الوقت يعتاد هؤلاء على معاملة الكاتب باهتمام واحترام. وارى ان اهم خاصة يتمتع بها الكاتب هي الموقف المهني من الكتابة. اذا سئل ماذا يعمل، يجب ان يسارع الى القول: انا كاتب – دون تردد ودون غمغمة. وليس من الضروري ان يكون الكاتب ممارسا بدوام كامل وان يكون معتمدا على الكتابة لكسب قوته ليقول بتصميم: انا كاتب. عليه ان يقول: انا كاتب، وان يصدق ما يقول وان يتصرف كما يتصرف الكتاب: عليه ان يتعلم صنعته ويتقنها، وان يفاخر بها (طبعا بشىء من الدعابة والظرف!)

يقول الروائي العظيم ويليام فوكنر ان الكاتب يحتاج الى ثلاث خصائص هي الخبرة والملاحظة والخيال، واي اثنتين من هذه يمكن ان تعوضا الافتقار الى الثالثة.

والمراجعة على درجة عالية من الاهمية. واعتقد ان جميع الكتاب يراجعون بعناية كتاباتهم قبل دفعها الى الناشر. بعد الانتهاء من الكتابة يضع الكاتب المخطوطة في الدرج بعيدا عنه مدة قد تصل الى ثلاثة اشهر. عندما يعود اليها يستطيع ان ينظر اليها بعين ناقدة. وكتب ماركون كونتليان، قبل الفي سنة، يقول: لا شك عندي ان افضل طريقة لمراجعة كتاباتك هي ان تضعها جانبا لبعض الوقت قبل ان تعود اليها. وعندما تعود اليها ستجدها جديدة. وبامكانك ان تدخل عليها ما تراه مناسبا من اضافات وتحذف منها ما تراه غير مناسب. في خلال الفترة التي تترك فيها عملك بعيدا يبقى عقلك الباطن نشيطا. وما يحدث في عقلك الباطن في هذه الفترة يشبه السحر بعينه. فعلى الرغم من انك لا تفكر فيما كتبته، تجد انه يتولد هناك كل انواع التحسينا على الفكرة والاسلوب. وعندما يعود الكاتب الى المخطوطة يمارس النقد الذاتي الصارم الى ابعد حد. ويوظف في العملية كل ما يتوفر عنده من وقت وعناية. ومن المفيد ان يقرأ العمل بصوت عال، لان بامكان الاذن ان تلتقط ما في النص من عيوب لغوية وايقاعات مغلوطة وتكرار. والعين لا تستطيع ان تلتقط هذه العيوب وحدها. بل في بعض الاحيان يطلب من صديق يثق بحكمته وخبرته ان يقرأ المخطوطة وان يعلق عليها. ويستعين بملاحظات هذا الصديق في اعادة مقاطع من المخطوطة.

في فترة المراجعة يبحث عن نقاط بحاجة الى توضيح وتنظيم وضبط. ويضيف الى متانة بناء النص وايقاعاته والوانه. ويعمد الى الايجاز أي حذف مقاطع وجمل من هنا وهناك. نذكر هنا عندما أنه عندما عرض ت. س. اليوت مخطوطة "الارض اليباب" على صديقه ازرا باوند حذف باوند نصف القصيدة. وبفضل هذا الحذف بلغت القصيدة درجة اعلى من الروعة.

يقول معظم الروائيين ان كثيرا من شخصياتهم تتشكل من ملاحظاتهم لما يدور حولهم من شؤون. ولكن في اغلب الاحيان تتشكل هذه الشخصيات في خيالهم. ففي داخل كل واحد منا تكمن بذور الانسانية، كما قلنا، وهذا هو ما يجعلنا قادرين على فهم اشخاص اخرين يختلفون في ثقافتهم وسلوكهم اختلافا كبيرا. يخبرنا علماء النفس ان في داخل كل رجل بعض الانوثة، وفي داخل كل امرأة بعض الرجولة، وتوجد في طبيعة كل منا عناصر من القديسين ومن الاشرار بدرجات متفاوتة. والفروق بيننا سببها كثافة هذه العناصر او تلك ودرجة سيطرتنا عليها.

يحاول الكاتب ان يعرف كل ما يستطيعه عن الشخصية التي تشارك في اعماله، ويتخيل نفسه في موقفها. يحرص على معرفة خصائصها جميعا، حتى تلك التي لا علاقة لها باحداث الراوية علاقة مباشرة. يسجل تفصيلات الشخصيات كالعمر والطول والوزن والمهر البدني والعنوان والمهنة، والعادات والتربية والدرجة العلمية. ويسجل ايضا ما هو اهم من ذلك كالذكاء والموقف من الحياة والناس والعالم والعلاقة مع الاخرين. واسجل اهدافها في الحياة وطموحاتها. هذا ما يتعلق بالشخصيات الرئيسية. اما في يتعلق بالشخصيات الثانوية فليس من الضروري ان يعرف كل كبيرة وصغيرة عنها. ولكن علينا ان نتذكر ان خصائص الشخصيات هي التي تسهم في تكوين ظروفها وتطور الفعل الدرامي في الرواية. احيانا اقتبس بعض شخصياتي من الحياة، ولكني اجد ان من الصعب ان اكيف هذه الشخصيات في مواقف معينة. وكما قال أي ام فورستر، اذا اخذت شخصية من الحياة فاني احرص على ان اغير بعضا من خصائصها واضعا اياها في ظروف تختلف عن ظروفها الحياتية.

يعرف النقاد الاسلوب بانه الطريقة التي يسجل بها الكاتب الكلمات جنبا الى جنب عندما يكتبون، وهو انعكاس للعادات في التكلم والتفكير. يكتب البعض جملا قصيرة، احيانا اسمية واحيانا فعلية، فيما يكتب البعض الاخر جملا طويلة تكاد لا تنتهي، بالغة التعقيد، كثيرة الالتفاف، ويستعملون مفرادات غريبة غير متداولة. جون فيرفاكس في كتابه (كيف تكتب) يتحدث عما يسميه "صوت الكاتب" وهو يعني بذلك الاسلوب. ويعرف الاسلوب بانه الطريقة الفريدة التي يستعمل فيها الكاتب اللغة التي تمكنه منا لتعبير عن مادته بشكل لا يمكن ان يجاره فيه احد غيره. فلكل كاتب، اذن، اسلوبه الفريد الطبيعي وما على الكاتب الا ان يعمل جاهدا على صقل هذا الاسلوب الى ان يصبح من الخصائص التي يعرف بها وتعرف به.

ان الكلمات اشياء جميلة، ولها قدرة فائقة على اثارة الافكار والمشاعر عند المتلقي، ومن يكتب باللغة العربية امامه فرصة رائعة للتعامل مع واحدة من اغنى اللغات العالمية. وكل من يستعمل العربية هو مسؤول عن صيانتها وتطويرها. ويجب ان يحرص على ان تبقى لغة جميلة ودقيقة. وهذا واجب علينا جميعا ان نؤديه باحساس عال بالمسؤولية.

والكلام هو اكثر وسائل الاتصال شيوعا بين الناس، والقارىء يحب ان يقرأ الحوار في الرواية، فهو سهل الفهم، وهو يوحي بان الشخصيات من لحم ودم، وهي تشبهنا في طريقة تواصلها مع العالم الذي تعيش فيه. وارى ان الحوار طريقة سهلة وممتعة وفعالة لدفع القصة الى امام. يضاف الى ذلك ان الحوار طريقة مؤثرة للكشف عن الشخصية. اذا كان الكاتب بارعا بما فيه الكفاية فان الحوار يجعلنا نشعر اننا امام شخصيات ممتعة ومقربة الينا.

والحوار اداة من ادوات رسم الشخصية، فالشخصيات تختلف باختلاف اسلوبها في الحديث، وطول جملها او قصرها،وتختلف في استخدام المفردات. فالطفل اسلوبه يختلف عن اسلوب الكبير، ومفردات المرأة تختلف عن مفردات الرجل، والمثقف يختلف عن غير المثقف. والجمل القصيرة النابضة بالحياة توحي بالحيوية. وارى ان احد اهم ما يميز الحوار الجيد هو الايجاز مع الوضوح.

د. زياد الحكيم

لندن – بريطانيا

[email protected]