النتائج 1 إلى 14 من 14
  1. #1
    تاريخ التسجيل
    Feb 2003
    المشاركات
    29,593

    Arrow كتاب "إقتصــــــادنا"..ومحل النظرية الإسلامية الإقتصادية في الألفية الثالثة..

    [align=justify][align=center]
    تحديات الإقتصاد الإسلامي

    [mark=FF6600]ما هو محل النظرية الاسلامية من الإعراب في الألفية الثالثة؟![/mark][/align]

    [align=center][/align]

    [align=center] د. موفق الربيعي[/align]




    [mark=CCCCCC]صعوبة البحث[/mark]

    [mark=CCCCCC] 1-[/mark] من الصعب تقويم كتاب «اقتصادنا» تقويما موضوعيا بمعزل عن مشاعر الحب والتقدير والعرفان، التي تملا جوانح‏الباحث لصاحب الكتاب، خاصة عند اولئك الذين عاصروه وصاحبوه، وغرفوا من بحره، وشربوا من نبعه الصافي. هناتختلط المشاعر مع التقويم الاكاديمي العلمي الموضوعي.

    [mark=CCCCCC]2-[/mark] الصعوبة الثانية هي ان الباحث يشعر وكانه يقف امام عملاق من عمالقة التاريخ، يتهيب عندما يريد ان يشير الى ;ژرس‏ز÷ثغرة;ژرس‏ز÷،لانه يخشى ان يكون قد فاته جانب آخر لم يلتفت له يجيب عن الاشكال الظاهري، فيبقى في حيرة وتردد في التاشيرعلى مواطن يراها جديرة بالتقويم.

    [mark=CCCCCC]مشكلة المصطلح [/mark]

    هل يصح ان نطلق على اقتصاد يعالج النواحي الاقتصادية في المجتمع الاسلامي مصطلح اقتصادنا

    لماذا لم يطلق صاحب «اقتصادنا» على كتابه «الاقتصاد الاسلامي‏» واطلق عليه «اقتصادنا» بدلا عن ذلك؟ هل يمكن الحديث عن: التكنولوجيا الاسلامية او الفيزياء او الكيمياء الاسلاميتين او العلم الرقمي الاسلامي؟ اذا قورن «الاقتصاد الاسلامي‏» بالمذاهب الاقتصادية الاخرى مثل اقتصاد آدم سميث وكارل ماركس، سوف نلحظ ان‏تلك المذاهب مبنية على اسس تجريبية واحصائية، وبعضها على قواعد تطبيقية. وقد تطورت هذه المذاهب من خلال‏الممارسات العملية، حتى اصبحت موجهة باتجاه تنمية وتطوير الانظمة والمناهج المتبعة في تلك النظريات والمذاهب.

    فعلى هذا الاساس، فان اكثر ما يمكن ان نتوقع من ما يسمى بــ «الاقتصاد الاسلامي‏» هو:

    1- تحديد اهداف عريضة مقبولة ضمن المنظومات الاسلامية العامة.

    2- تحليل لرؤى ومشاكل اقتصادية تعنى بشكل خاص بالمجتمعات الاسلامية.

    فعلى اساس هذا الفهم في التعريف: يكون الاقتصاد الاسلامي فرع صغير من نظريات التنمية والتطوير الاقتصادي في‏اي بلد، اي يشكل جزءا من قوانين تحليل الربح والكلفة والتحويل العام وبقية فروع نظرية التنمية الوطنية.

    وقد حاول الكثيرون اعطاء تعريف للاقتصاد الاسلامي ولم يوفقوا، ففي السبعينات - مثلا - اعيت السبل مفكرين‏واسلاميين في «بنك التنمية الاسلامي‏»، ثم بعد ذلك «المؤتمر الاسلامي في لندن‏»، «تبعها مؤتمر مكة‏» في اكتوبر 1978 وماخرج عنه.

    ومع ان كل ذلك جاء متاخرا على «اقتصادنا»، فانهم لم يوفقوا في وضع تعريف يحدد ما هو «الاقتصادالاسلامي‏».

    وبات «الاقتصاد الاسلامي‏» يتجه نحو تطوير السياسات والمؤسسات الاقتصادية التي ينجذب اليها المسلم الملتزم،واصبح «الاقتصاد الاسلامي‏» يحاول ان يسد حاجات هذه المجموعة من المسلمين الملتزمين. ولم يطرح نظريا او عمليا اي‏حل اقتصادي كامل وشامل ضمن اطروحة اسلامية عامة، اي كجزء من كل في منظومة المناهج الاسلامية. ورغم هذه‏الجهود الجبارة بقي الاقتصاد الاسلامي محددا في قضية واحدة: الا وهي تجنب الربا في المعاملات الشخصية‏والمؤسساتية. ولم يطرح الاقتصاد الاسلامي كبديل حقيقي ودائمي للاقتصاد المعاصر.

    استمر هذا الوضع حتى اكتشف «العالم الاسلامي‏» او اعاد اكتشاف «اقتصادنا» بعد عشرين عاما من كتابته.

    [mark=CCCCCC]«اقتصادنا» - الاطروحة:[/mark]

    لا يخفى ان «اقتصادنا» جاء رد فعل على تصاعد المد الشيوعي في الشرق العربي، ولكن الكتاب ذهب الى اكثر من ذلك،حيث تجاوز رد الفعل من اجل تقديم البديل. فلم يقل «اقتصادنا» «لا اله‏» فحسب، ولكنه اردفها ب‏«الا اللّه»، وهذا هو ديدن‏معظم الاعمال الجبارة في التاريخ، فهي ابنة الظروف ولكنها تتجاوز الظرف الزماني والمكاني لتقدم البديل الاكثر تطورا.

    يمكن تقويم الاطروحة في ضوء قضيتين:

    1- الزمان الذي كتبت به الاطروحة.

    2- التجارب العملية التي استفدنا منها منذ كتابة الاطروحة.

    هنالك عدة اشياء استحدثت منذ ظهور «اقتصادنا» الى الوجود، بعضها اثر على النتائج التي توصل اليها «اقتصادنا» بشكل‏او آخر، من امثلتها:

    -القطبية الاحادية وتاثيرها على الاقتصاد العالمي، وسيطرة التنافس الاقتصادي البحت.

    -غياب التنافس الاديولوجي.

    -انتشار ظاهرة «شركات متعددة الجنسيات‏».

    -التضخم الاقتصادي وتباطؤ النمو سيطر على الاقتصاد الغربي في الستينات والسبعينات وحتى الثمانينات.

    لقد مثل ثلث الكتاب تقريبا نقضا ونقدا للماركسية والديالكتيك الذي لم يعد له اثر ولا عين. بينما يعط‏ي «اقتصادنا»اهتماما اقل مما ينبغي للراسمالية مما يعادل 1/12 من الكتاب. ويمكن تفسير ذلك:
    بان السيد الصدر كان قلقا من تحدي‏الماركسية ونظريتها في ذلك الوقت، لان الاشتراكية كانت قد رسخت اقدامها في عراق الستينات. فالخطر المحسوس هومن الشيوعية، اما الديمقراطية الليبرالية وما يتبعها من قواعد اقتصاد السوق فلم تمثل خطرا آنيا في العراق حينئذ، وانماكانت خطرا.

    [mark=CCCCCC]«الاقتصاد الاسلامي‏» في «اقتصادنا»:[/mark]

    يلخص «اقتصادنا» «الاقتصاد الاسلامي‏» بـ :

    1- الاقتصاد المختلط: شخصي، عام، دولة، وتعاوني.

    2- الحرية الاقتصادية للافراد محددة بـ :

    ا - المسموح المعنوي للافراد.

    ب - الممنوع الاجتماعي.

    3- تحقيق العدالة الاجتماعية او التوازن الاجتماعي.

    الفكرة الاساسية التي يتبناها «اقتصادنا» هي ان تطبيق «الاقتصاد الاسلامي‏» لا يمكن لوحده، انما ينبغي ان يكون ضمن‏المنظومة الاسلامية الكاملة. فمن هذا المنطلق لا ينبغي تسمية «اقتصادنا» بالمرادف الشائع الاستعمال «الاقتصاد الاسلامي‏»،وينبغي تسميته ب «الاقتصاد ضمن الاسلام‏».

    ومن اجل تطبيق «الاقتصاد ضمن الاسلام‏» في مجتمع ما لا بد من تحقيق ثلاثة شروط:

    1- نظام فكري ايماني اسلامي مقبول بصورة عامة لدى افراد ذلك المجتمع.

    2- تقييم الاشياء والموضوعات في ذلك المجتمع تكون على اساس الاولوية للاسلام. اي ان المجتمع يعتمد في تقييمه‏للاشياء بشكل تلقائي على القيم والتعاليم الاسلامية، اي ان المعيار الاساسي في المجتمع هو معيار اسلامي.

    3- ردود الفعل العاطفية والنفسية للناس تكون اسلامية.

    هذا هو الفرق الجوهري بين ما طرحه «اقتصادنا» في اطروحة «الاقتصاد ضمن الاسلام‏»، اي ضمن منظومة الانظمة‏الاسلامية الاخرى، وما طرحه الاخرون من مفكرين اسلاميين بما فيهم المتاخرين.

    و«اقتصادنا» يقول: ينبغي اسلمة المجتمع اولا، ثم تطبيق الاقتصاد ضمن المنظومة الاسلامية الكلية. ومن خلال ذلك‏نستطيع القول: ان السيد الصدر كان يدعو الى الاسلمة الكلية للمجتمع (فكرا وسلوكا) من خلال مراجعة اجتماعية وسياسية ‏كلية، بعكس ما طرحه الاخرون في طريقة سد الثغرات في اقتصاديات الدول غير المؤسلمة.

    و«اقتصادنا» يؤكد الصعوبات الجمة التي يواجهها اي باحث يتبنى اي حل جزئي انتقائي، ويرفض تشكيل وتطبيق اي‏خطط او مناهج اقتصادية تسبق اسلمة المجتمع. فهو يدعو الى بناء الاسس الفكرية والسلوكية للمجتمع على اساس‏الاسلام، ثم الى بناء «اقتصاد ضمن الاسلام‏».

    ويرفض «اقتصادنا» اي منهج ترقيعي لسد الثغرات الاقتصادية اسلاميا في اقتصاد دولة غير مؤسلمة، لان اقتصاديات‏الدول غير المؤسلمة مبنية على اساس النظام الربوي الذي هو اساس الاسس في الاقتصاد، والعمود الفقري الذي يرتكزعليه الاقتصاد الحديث.

    «اقتصادنا» يرفض تحويل «الاقتصاد الاسلامي‏» الى علم. ولكن يذهب الى اكثر من ذلك، ليحدد العلاقة بين «الاقتصاد في‏الاسلام‏» والعلم من خلال طرح الفكرة التالية: يحدد المجتمع الاسلامي اولا الاهداف التي يريد التوصل اليها اقتصاديا، ثم‏بعد ذلك يتم تشكيل الهياكل والخطط والسياسات الاقتصادية التي توصله الى تلك الاهداف. ويمكن ان تستعمل القواعدالعلمية الاقتصادية في هذه الخطط والسياسات، وتساعد على تعيين وتقرير الحقائق الاقتصادية، وتساعد في فهم‏الفرضيات والاحتمالات في الممارسات الاقتصادية.

    وهذه القواعد العلمية الاقتصادية التي يستعملها «الاقتصاد ضمن الاسلام‏» يمكن ان تكون ماركسية او راسمالية ما دامت‏اسسا علمية بحتة ليس لها مضامين فكرية. اي ان «اقتصادنا» لا يرفض استخدام القوانين الاقتصادية العامة التي يمكن‏تطبيقها، بغض النظر عن الابعاد الثقافية والاجتماعية والدينية لاي مجتمع.

    [mark=CCCCCC]«اقتصادنا» والراسمالية:[/mark]

    يختصر «اقتصادنا» الراسمالية ويرجعها الى دعائهما الاساسية الثلاثة:

    1- حق التملك الخاص.

    2- الحق في التصرف في الملك الخاص.

    3- الحق في الانفاق في الملك الخاص.

    وهذه المسلمات الثلاث توضع مقابل وتنتج عنها ثلاث اخر:

    1- التنافس.

    2- عدم العدالة.

    3- الشعور بعدم الامان الاجتماعي.


    وبعد ذلك يتعامل «اقتصادنا» مع القوتين اللتين تدفعان الاقتصاد الراسمالي وتحركانه، وهما:

    1- موضوع الاستعمالات الشخصية.

    2- قوانين العرض والطلب.

    ويتوقف «اقتصادنا» عند هذا الحد.

    كان يمكن لاقتصادنا ان يعط‏ي وقتا ومجالا اوسع من ذلك ويطور اطروحته، لتتناول الاسس الاخرى للراسمالية،وخاصة التي وضعها اعلام الراسمالية المتاخرين من امثال: كينز، وفريدمان، وفون هايك. ومايز في كلا الجناحين‏الراسمالية المحافظة والراسمالية الليبرالية (المتحرره)، اي الاقتصاد الحر المعاصر.

    النقطة الاخرى هي ما يتعلق بالتصدي للراسمالية. كان يمكن لاقتصادنا ان يركز في نقده على اقتصاد السوق وليس‏الراسمالية، وكما هو معلوم فان «اقتصادنا» اتبع طريقة تاريخية في نقده وتصديه للراسماليه، فقد تتبع الخطوات التاريخية ‏للراسمالية واصفا وناقدا ومهدما الاسس الفكرية للراسمالية. النقد والتجريح كان اقوى في «اقتصادنا» عندما تعرض الى‏الافكار الراسمالية عند جهابذة الراسمالية ومفكريها في القرن التاسع عشر، وتناول بالنقد افكارهم الليبرالية. ولكن لم‏يتطرق «اقتصادنا» الى الافكار المعاصرة الحديثة لاقتصاد السوق.

    هذه الثغرة كان يمكن ان تمر بدون ملاحظة في الستينات عندما كان اثر الجهابذة التاريخيين للراسمالية لا زال‏محسوسا، ولكن منذ الستينات ولحد الان تعرض الفكر الاقتصادي في الغرب الى تطورات وتحولات هائلة من امثال‏ظهور التفكير النقدي ، والاقتصاد التقليدي المتجدد ، وكذلك ظهور عالم جديد باسم نظرية‏التطور والنمو الاقتصادي. حتى ان مفكرين من امثال:

    كينز، ومارشال، وسكومبتر، الذين كانوا من المؤسسين والرواد في‏تطوير الاسس الراسمالية في القرن العشرين، اصبحت اعمالهم الان عرضة للنقد والتجريح والتعديل.

    [mark=CCCCCC]الثروة في «اقتصادنا»:[/mark]

    اقتصادنا يقول: ان الراسمالية تتبنى فكرة ان مصادر الثروة محدودة، وهي موزعة بين مصالح متضاربة ومتنافسة، ومن‏هذه ينتج قوانين العرض والطلب، وآليات التسعير والتوفير والاستثمار وغيرها.

    وحسب «اقتصادنا»، فالماركسية تعني ان العلاقات الاقتصادية هي نتيجة صراع وتفاعل الانتاج والتوزيع والعلاقة الجدلية‏بينهما، وان كل الثروات ومصدرها تملك من قبل المجتمع ككل، وذلك من خلال جهاز الدولة المركزي. وعلى هذاالاساس، فالاقتصاد يصبح عملية رياضية، وارقاما ليس الا.

    وهذه العملية الرياضية البحتة تتعلق بنظرية وممارسة التخطيط‏المركزي للحكومة.

    اقتصادنا يتبنى ان الاساس الاول في «الاقتصاد ضمن الاسلام‏» هو ان اللّه - عز وجل - خلق الثروة بكمية تكفي للنوع‏الانساني، ولكن الانسان اساء استعمالها، و«الاقتصاد ضمن الاسلام‏» يحاول حل المعضلة من خلال:

    1- توزيع الثروة.

    2- القضاء على سوء استخدام الثروة.


    وكلا هذين الهدفين هو عبادة.

    اقتصادنا يحاول ان يعيد تعريف مبدا الفائدة او الربح ليقول: ان الربح التجاري - اي الناتج عن المرابحة - مسموح به،والاسلام يشجع عليه، ويمكن ان ننظر له وكانه نقيض ايجابي لنظرية فائض القيمة عند ماركس.

    في المفهوم الراسمالي: الحق الطبيعي للانسان في ان يحصل على اقصى ربح. ولكن اقتصادنا يتبنى فكرة ان الربح‏وتحصيل الثروة ينبغي ان يكون من خلال العمل والجهد المبذول. اما التداول او المرابحة بصرف المال، وجعل الفائدة‏والربح من خلال التبادل المالي الصرف، فغير مسموح به، لانه تعامل ربوي.

    وعلى هذا الاساس، طرح «اقتصادنا» مفاهيم اقتصادية اسلامية نظير: المشاركة، والمرابحة، والمضاربة، وهي معاملات‏يشجع عليها داخل «الاقتصاد ضمن الاسلام‏». فقد وضع «اقتصادنا» نظرية بديلة لنظريتي الشرق والغرب (الماركسية‏والراسمالية)، اللتين تعتمدان على نظرية واحدة وهي «نظام القيمة‏».

    طرح «اقتصادنا» الراسمالية والماركسية ووضع خطوطا فاصلة وعازلة وحتمية بينهما، لعل ذلك كان مبررا من اجل تقريب‏المفهومين الى اذهان القراء من خلال طرح الاشياء واضدادها.

    ولعل «اقتصادنا» اعط‏ى القارئ حينئذ جزء، وليس كل حقيقة وواقع، الصورة في الغرب الراسمالي والشرق الماركسي‏سابقا.

    لقد بدات حركة جديدة تنمو في الدول التي كان يحكمها اقتصاد السوق، وهذه الحركة نمت بشكل مضطرد، واصبحت‏فاعلة في الساحة السياسية والاقتصادية، وهي الحركة «الديمقراطية الاجتماعية‏»، والتي خففت من غلواء الراسمالية، ولم‏تعد الراسمالية تطرح ولا تطبق بشكلها الكامل. وتاسست في ضوء مفهوم الديمقراطية الاجتماعية دولة الرعاية الاجتماعية ، وتطور القطاع العام بشكل لم يسبق له مثيل من قبل، وكذلك ازدادت حالات اشراف الدولة، ووضع القوانين‏لتنظيم حركة السوق والاقتصاد. كل ذلك قلل من اهمية الراسمالية باعتبارها حالة البعد الواحد في الاقتصاد الحر في‏المجتمعات الغربية، حتى اصبح الاقتصاد الاسلامي، اذا استثنينا منه الجانب العبادي، يمائل في كثير من جوانبه اقتصادالحركات الديمقراطية الاجتماعية في اوربا الغربية في حقبة الستينات والسبعينات.

    ومن جانب آخر، فان مركزية الاقتصاد والطبيعة الشمولية للنظام الماركسي كان لهما الاثر البالغ على تطبيقات النظرية‏وممارستها على ارض الواقع. وهذه التطبيقات العملية للنظرية الماركسية، والصعوبات التي واجهها التطبيق، اثر بشكل اوآخر على فهم الاخرين للنظرية، وكان ينبغي ان ياخذ اقتصادنا هذا التحوير بنظر الاعتبار.

    كان يمكن لاقتصادنا ان يستفيد كثيرا لو تعرض بشكل من الاشكال الى التجربة العملية للدول الراسمالية او الماركسية.

    ومن جهة اخرى، يمكن ان نقول: ان اي متتبع اقتصادي او قارئ واع، كان يمكن ان يستفيد كثيرا من «اقتصادنا» لو اختبرنظريته على الواقع العملي، اي نظرية «الاقتصاد ضمن الاسلام‏». فلو تعرض «اقتصادنا» نفسه للاختبار العملي من خلال‏التطبيق الفعلي في مجتمع اسلامي لتمكن السيد الصدر ان يطور النظريات والنتائج في ضوء تجربة الواقع.

    وعليه، فيمكن ان نقول: ان «اقتصادنا» كان بحثا نظريا حلق في علوه في عنان السماء، ولكنه كان يحتاج الى محاكاة‏الواقع العملي سواء في دحضه النظري للراسمالية، او تصديه للاسس النظرية للماركسية، او حتى في طرحه البديل‏الاسلامي الموسوم بالمذهب الاقتصادي الاسلامي.

    يبقى السؤال: هل كان اقتصادنا ينتهي الى نتائج مغايرة لما هي عليه الان؟ وفي الجواب اقول: لا اعتقد ان اقتصادنا كان‏يمكن ان يخرج بنتائج مغايرة عما هو عليه، ولكن كان يمكن ان تكون هذه النتائج مبنية على اسس عملية تطبيقية، وادلة‏وتجارب واقعية، سواء بالنسبة الى الراسمالية او الماركسية او حتى نظرية «الاقتصاد ضمن الاسلام‏».

    واخيرا فقد انتهى اقتصادنا بعدد من الاسئلة بقدر ما اجاب عنه من اسئلة، مثال:

    التطبيقات والخطط العملية للاقتصاد الاسلامي تركت بدون توضيح، ولم تطرح رؤية واضحة عن كيفية تشكيل وادارة‏المؤسسات الاقتصادية للدولة في حالة قيامها، ولا كيفية عمل هذه المؤسسات في حالة قيام دولة تقوم على معان واسس‏فكرية وثقافية اسلامية.

    من الصعب اعطاء تصور كامل وتفصيلي عن طريقة عمل هذه المؤسسات ووضع الانظمة الاقتصادية لها قبل انشاء عددجيد منها، ومراقبة عملها، وتقييم ادائها وفعاليتها مع التزامها بالمثل والقيم الاسلامية كما جاءت في «اقتصادنا». وكان يمكن‏للسيد الصدر ان يستفيد من الملاحظات والتجارب العملية والامثلة الحية التي ترافق التجربة، وكان يمكن ان يعيد كتابة‏«اقتصادنا» مدعما بالامثلة العملية والتجارب التطبيقية. ولو كان، لجاء اقتصادنا اقوى وامتن مما هو عليه الان .

    كل ما قلنا بصدد «الثغرات‏» في «اقتصادنا» هو من وحي «النظر الى الاشياء من الخلف‏»، اي بمعنى آخر: رؤية الماضي بعين‏الحاضر مع الاستفاد من الزمن واستحقاقاته.

    فماذا لو جاء السيد الصدر واعاد كتابة «اقتصادنا» في ضوء احداث العقدين الماضيين؟ وبالخصوص ماذا ستكون الطبعة‏المنقحة الاخيرة من اقتصادنا في سنة 2000، خاصة بعد عشرين عاما من ظهور المجتمع الاسلامي في ايران، او تاسيس‏وتطوير عدد من المؤسسات الاقتصادية الاسلامية في عدة اقطار مسلمة وغير مسلمة، او انهيار النظام الماركسي،والسيطرة الكاملة لاقتصاد السوق وفلسفته على العالم بما في ذلك الدول التي بقيت اسميا ماركسية مثل الصين وفيتنام.

    لا استطيع ان ادعي انني اعرف كيف كان يمكن ان تكون الطبعة المنقحة لسنة 2000 على يد السيد الصدر، ولكن اذا حاولنااستخراج منهجه في البحث والتحليل، استطعنا ان نخرج ببعض الاستنتاجات:

    فمثلا يؤكد «اقتصادنا» انه لا يمكن اقامة مؤسسات اقتصادية اسلامية ناجحة الا اذا كان المجتمع التي تقوم به مهيئا او في‏طريقه الى الالتزام بالقيم والمثل الاسلامية ، ثقافيا وفكريا.

    اذا اسسنا على ذلك، فيمكن ان نقول: ان اقتصادنا سوف لا يوافق على فرض المؤسسات الاقتصادية الاسلامية على‏مجتمع ليس فيه المقبولية المجتمعية للاسلام ثقافيا وفكريا. اي ان النشاطات الاقتصادية ومناهجها في «الاقتصاد في‏الاسلام‏» تتطور وتنمو بموازاة وبشكل تدريجي وعضوي مع الاسلمة المتدرجة والكلية للمجتمع. وكان يمكن لصاحب‏«اقتصادنا» ان ينظر بعين الشك والريبة لاقامة مؤسسات اقتصادية اسلامية، مثل المصارف الاسلامية في مجتمعات غيرمؤسلمة او مجتمعات اقتصادها مبني على اسس غير اسلامية في التوزيع والانتاج. ونتيجة ذلك يصبح الاقتصاد في‏الاسلام شانا سياسيا وجزءا لا يتجزا من شؤون السلطة السياسية والحكم القائم.

    في التحليل النهائي يمكن القول: ان الاقتصاد الموسوم بالاسلامي، وفي عصرنا الحاضر، يمكن اقامته من خلال ثلاثة‏طرق:

    1- من خلال اعادة اسلمة المجتمع بواسطة برنامج سياسي اسلامي . وفي هذه الحالة: سوف يكون الاقتصاد في‏الاسلام ناتج طبيعي وافراز تكويني لعملية اسلمة المجتمع. وهذا هو الطريق الذي اتبعته الجمهورية الاسلامية في ايران،والى حد ما في السودان، والى حد اقل بكثير في الباكستان.

    2- يمكن اقامة الاقتصاد الاسلامي بواسطة المحاولة والخطا، والدخول الحذر للمؤسسات الاسلامية في اقتصاديات‏دول ذات اقتصاد غربي. وهذا الطريق اتبعته بعض الدول الخليجية وماليزيا ومصر. ففي هذه الدول: المؤسسات الاقتصادية‏الاسلامية، ومؤسسات التكافل لا ان يسمح لها بالعمل فقط، وانما تعط‏ى افضلية من قبل الدولة، وتوفر لها تسهيلات ايجابية‏على حساب غيرها، بينما يترك المجتمع يختار اي مجموعة من المؤسسات يريد ان يدعمها او يتعامل معها.

    3- الطريق الاخير: هو استعمال طرق التعامل المالي الاسلامية بين المسلمين الملتزمين اسلاميا او القريبين منهم.

    وهذه‏المؤسسات الاقتصادية الناتجة عن هذا التفاعل والتعامل الحر بين اناس قد قرروا ان يتعاملوا بينهم بطرق اسلامية صحيحة،وبمحض ارادتهم. ومن جملة فوائد هذا الطريق، دفعه الافراد والمجموعات الى مزيد من الاسلمة، وهذا الاسلوب منتشربين الجاليات المسلمة في الغرب.

    «اقتصادنا» بعد اربعين عاما «اقتصادنا» بدون شك او ريب كان «الدستور» الذي اهتدى به الاسلاميون حينئذ. ولكن السؤال الذي يطرح نفسه الان:

    هل‏ تمكن‏« اقتصادنا» ان يخترق الزمن، ويحضر فاعلا وحيويا في الالفية الثالثة؟ والجواب عن هذا التساؤل معقد وليس بالامرالهين.

    لا شك ان كتاب «اقتصادنا» كان كتاب زمانه، وتمكن من دحض الماركسية حينئذ، وطرح البديل، واعط‏ى شحنة عمل‏ودليل، واصبح دستورا يهتدي به الاسلاميون حينئذ، وبوصلة يتجه لها العاملون. ولا شك كان موجها لقراء ذلك الزمان‏بهمومهم وآمالهم وطموحاتهم، وناقش بطريقة عملاقة شؤونا تنتمي الى حقبة النصف الثاني من القرن العشرين.

    ولا شك ان قسما كبيرا من «اقتصادنا» لا زال حيا وصحيحا ورائدا في مجاله، وبنفس الوقت هناك فصول في «اقتصادنا»بحاجة الى اعادة كتابة، واخرى الى توسعة، واخرى الى شرح، واخرى الى تحديث، واخرى الى تعليق، واخرى الى تعديل.

    اربعون عاما مرت على «اقتصادنا» اوصلته الى مرتبة الكتب العملاقة، ولكنها في الوقت نفسه اظهرت بعض الثغرات‏والمحدودية في بعض الجوانب، والتي هي بحاجة الى مراجعة وتغيير او تحديث .

    وخلال الاربعين عاما الماضية حدثت تغييرات سياسية واقتصادية ضخمة في العالم والعالم الاسلامي، ومن المجحف‏حقا القول ان هذه التغييرات ليس لها اثر على الاستنتاجات التي توصل لها «اقتصادنا».

    وهناك ثلاثة مساحات تحتاج الى مراجعة واعادة بحث وتحديث:

    يظهر«اقتصادنا» بشكل مباشر او غير مباشر قلقه من انتشار آثار الماركسية. ولو اعيد كتابة «اقتصادنا» الان لما استحق ان‏يضع ولو فقرة صغيرة تعالج الماركسية.

    بينما حازت الماركسية على اكثر من ثلث الكتاب بوصفه الحالي، لان اقتصادنا كان موجها الى قراء من نوع آخر وحقبة‏اخرى، لان تحدي القيم والمبادئ الاسلامية في عصرنا الحاضر لم يات من الماركسية، وانما جاء من مصادر اخر.

    ان صمود باع الغرب في العالم، وسيادة نظام السوق، فرض مجموعة جديدة من التحديات للاسلام وقيمه في داخل‏وخارج العالم الاسلامي. اضف الى ذلك التطور التقني المتسارع، وقوة واهمية الشركات متعددة الجنسيات، وكونها العصب‏الحيوي للاقتصاد العالمي، والعولمة وآثارها السلبية والايجابية على العالم والعالم الاسلامي بشكل خاص، وكذلك تطورونمو الراسمالية اليابانية، والتي هي ليست غربية ( في منظومتها القيمية والثقافية) في الشرق الادنى وجنوب شرق آسيا.وكذلك انتشار اجهزة وانظمة الاتصالات والمعلومات، واختراع الكومبيوتر، كل ذلك وغيره لم يكن معروفا في الستينات‏عندما ولد «اقتصادنا»؟ اذن، كيف يواجه الاسلام هذه التحديات وهذه القوى الجديدة خاصة في ظرف غابت فيه القطبية، وانفرد الغرب‏الراسمالي بعد ان استسلم الشرق الماركسي بدون شروط؟ «اقتصادنا» ينبغي ان يراجع، وسوف لا يستطيع اي شخص مراجعته وتحديثه، الا شخصية عبقرية مثل السيد الصدر.

    «اقتصادنا» ينبغي ان يراجع، ليصبح بامكانه ان يتعاط‏ى مع هذه التطورات الهائلة، ويعايشها مع حاجات العالم الاسلامي،وفهم الاسلام من منظور الالفية الثالثة.
    [/align]





  2. #2
    تاريخ التسجيل
    Feb 2003
    المشاركات
    29,593

    افتراضي

    [align=justify]

    [mark=66cc00]البحث الاقتصادي عند الشهيد الصدر[/mark]
    "اقتصــــادنا"
    من وجهة نظر مختلفة

    [mark=cccccc]بقلم :محمد طاهر الحسيني الياسري[/mark]

    يعتبر كتاب (اقتصادنا) والذي صدر في الستينات، الكتاب الرئيس الذي يجمع أفكار السيد الصدر الاقتصادية وآراءه، ومنذ ذلك الوقت يعتبر هذا الكتاب مرجعاً هاماً للباحثين في الاقتصاد الإسلامي(1)، بالرغم من وصف السيد الصدر نفسه لكتابه هذا بالمحاولة البدائية مهما أُوتي من النجاح وعناصر الابتكار(2).
    و (اقتصادنا) بالفعل محاولة تأسيسية قصد السيد الصدر منها تقديم صورة نظرية متكاملة للاقتصاد الإسلامي، منتظراً من العلماء والباحثين دراستها وتطويرها. وهي محاولة تأسيسية للاعتبارات الزمنية والعلمية معاً. فمن حيث الاعتبار الزمني، كانت المحاولة الأَقدم من نوعها، إذ لم يسبق أَحدٌ السيد الصدر في خوض هذا المضمار وتقديم صورة متكاملة ومتجانسة للمذهب الاقتصادي في الإسلام. أما على الصعيد العلمي فهي تأسيسية نظراً لتوفر عناصر الإبداع والابتكار، مع الاحتفاظ بعنصر الأصالة الفقهية. وكان قد نبه عدد غير قليل من الباحثين الإسلاميين على هاتين الحقيقتين، حيث كتب الأستاذ الدكتور محمد المبارك يقول: "" وتعتبر محاولة العلامة السيد محمد باقر الصدر في رأيي محاولة جريئة من هذا النوع خطت خطوات عظيمة. وكانت دراسة علمية رائدة نأمل أن يقدم لنا الأخصائيون في الاقتصاد رأيهم فيها، كما يمكن أن يسهم الفقهاء الراسخون والمفكرون الإسلاميون في بحثها باعتبارها مشروعاً ناضجاً يقدمه مفكر وفقيه كبير من علماء الإسلام المعاصرين""(3). وكتب أيضاً: "" اقتصادنا للبحاثة الإسلامي المفكر السيد محمد باقر الصدر، وهو أول محاولة علمية فريدة من نوعها لاستخراج نظرية الإسلام الاقتصادية من أحكام الشريعة من خلال استعراضها استعراضاً تفصيلياً بطريقة جمع فيها بين الأصالة الفقهية ومفاهيم علم الاقتصاد ومصطلحاته""(4).

    وقد كتب إقبال آساريا مقالاً في تحليل ونقد كتاب (الاقتصاد في الإسلام) للبروفسور سيد نواب نقوي جاء فيه: "" يمثل اقتصادنا أولى المحاولات لعرض إطار نظري محكم للنظام الاقتصادي في الإسلام قائم على أساس جمع وتنسيق مختلف الأحكام الإسلامية ذات الارتباط بتنظيم الحياة الاقتصادية""(5).

    هذه المحاولة التأسيسية التي قدَّمت رصيداً ضخماً للباحثين في مجال اكتشاف المذهب الاقتصادي الإسلامي، ورغم مضي ما يقرب من ربع قرن على إنجازها، لا تزال أَحدث الدراسات في هذا المجال(6).
    لقد كان صدور (اقتصادنا) منعطفاً تاريخياً في طبيعة الصراع بين النظام الإسلامي والنظام الماركسي، إذ لم تكن الكتابات والبحوث التي سبقت (اقتصادنا) سوى أَبواق للتشهير بالماركسية والنظام الاشتراكي في الاتحاد السوفياتي، تردد ما تدعيه الرأسمالية الغربية، فغيَّر (اقتصادنا) طبيعة هذا الصراع الموهوم الذي يظهر فيه علماء الإسلام وكأنهم واجهات إِعلامية للرأسمالية الغربية، ونقله إلى الصراع الفكري الحضاري والموضوعي في آنٍ واحد.

    وكان صدور (اقتصادنا) ـ أيضاً ـ نقلة نوعية في مجال الدراسات الاقتصادية الإسلامية، وذلك يعود إلى اجتماع عناصر الأصالة الفقهية ـ باعتبارها أول محاولة ينجزها فقيه كبير من فقهاء الإسلام ـ ومفاهيم علم الاقتصاد ومصطلحاته. كما تميزت هذه المحاولة بالعمق والشمولية كما هو المعتاد في دراسات الشهيد الصدر وأبحاثه العلمية.

    مضافاً إلى بروز مظهر الابتكار والإبداع في كتاب (اقتصادنا) والذي مازالت تفتقر إليه معظم الدراسات الإسلامية في مجال الاقتصاد الإسلامي.

    إنَّ محاولة السيد الصدر الرائدة لا تزال تنتظر اهتمام المفكرين ومساهمتهم لتطوير الدراسات الاقتصادية الإسلامية، ولا يتحقق ذلك إلاَّ من خلال الدراسات الجادَّة والهادفة إجلالاً للبحث العلمي والتزاماً بالخلق الإسلامي، والابتعاد عن الدراسات العقيمة التي لا يقصد منها سوى المصالح الآنية من شهرة ووجاهة، إذ ليس من الموضوعية والإنصاف التنكر لمفكر إسلامي كبير، شهد له الداني والقاصي بجلالة القدر، وسعة الاطلاع، وطول الباع. وليس من الخلق الإسلامي واحترام العقل اللجوء إلى الأَساليب الساذجة، والتنكر لمناهج البحث العلمي وطرائقه. فهل يحترم كاتب عقله وهو يلجأ بطريقة لصوصية إلى سرقة أفكار الغير دون أَدنى إشارة أَو تنبيه؟!.

    لقد نشر في مجلة (العربي)(*) الكويتية مقال تحت عنوان (مفهوم إسلامي عن الملكية الخاصة والعامة) بقلم الدكتور عبد الرحمن زكي إبراهيم، نقل عن (اقتصادنا) حرفياً وبصورة مفرطة، دون أَدنى إشارة أو تنبيه لذلك. وأكثر من ذلك طرافة محاولته تمويه القارئ بتبديل بعض الكلمات وإعمال التقديم والتأخير تارة أخرى.

    والأَدهى من ذلك محاولة الدكتور محمد عبد المنعم عفر في كتابه (الاقتصاد الإسلامي) المؤلف من ثلاثة أجزاء، حيث يتجاهل الإشارة إلى مواطن استفادته من كتاب (اقتصادنا)، الذي يعتمد عليه في معظم بحوث كتابه المذكور. فقد استعار منه حرفياً تعريف المذهب الاقتصادي والفرق بينه وبين علم الاقتصاد (انظر ص 341 ج1)، واستعار منه طبيعة العلاقة بين الإنتاج والتوزيع (انظر ص 68 ج1)، وكذلك تحليل السيد الصدر للطلب في السوق الرأسمالية والطلب في الاقتصاد الإسلامي (انظر ص 68، 69 ج1).

    ورغبة منه في إخفاء هذه السرقات يجعل الدكتور عفر من كتاب (اقتصادنا) مصدراً ثانوياً في كتابه، لا يشير إليه إلاَّ في مواضع قد يستهجن الذوق السليم والبحث العلمي ذكرها (انظر ص67 ج3).

    ومن ذلك ـ أيضاً ـ تحليل الدكتور محمد عبد المنعم الجمّال المشكلة الاقتصادية في نظر الإسلام، إذ استعار ذلك من كتاب (اقتصادنا) من غير تنبيه على هذه الاستعارة(*) (موسوعة الاقتصاد الإسلامي ص 39).
    وفي رأيي أنَّ مثل هذه المحاولات تكشف عن عظمة كتاب (اقتصادنا) وجلالة قدر مؤلفه، غير أنَّ ذلك يكشف ـ أيضاً وللأسف ـ عن العجز والخواء الذي يتحمله المفكرون الإسلاميون في هذا المجال، إذ يمضي ربع قرن على صدور (اقتصادنا) ولا جديد على مستوى الفكر أو المنهج على حدٍّ سواء. وجميل مقالة كاتب إسلامي في (اقتصادنا) كتب يقول: "" اقتصادنا، كتاب وكاتب مظلوم، لم تثر لحد الآن منطلقاته ولم يتابع خطه على مستوى البحث والتحقيق، رغم الأَثر الثقافي الذي يفعله وفعله هذا الكتاب الهادف…""(7).
    أُذكِّر أنَّ للسيد الصدر كتباً أخرى في الاقتصاد منها (البنك اللاربوي في الإسلام) وهو عبارة عن اطروحة قدمها للندوة الفكرية التي هيأت لإنشاء بيت التمويل في الكويت. وكتابه (صورة عن اقتصاد المجتمع الإسلامي) و(خطوط تفصيلية عن اقتصاد المجتمع الإسلامي) و(الأسس العامة للبنك في المجتمع الإسلامي) وهي عصارة لأفكاره الأساسية في (اقتصادنا) مع تطوير وتوضيح، وقد طبعت مع كتابين آخرين له في ما يسمى (الإسلام يقود الحياة) وهي (طبعة سقيمة، ينبغي لتلامذة السيد الصدر تصحيحها).

    [mark=cccccc]الاقتصاد الإِسلامي:[/mark]

    ماذا نعني بالاقتصاد الإِسلامي الذي يعبّر بالضرورة عن الترابط بين (الاقتصاد) و(الإِسلام) الذي مضى على انبثاقه وطلوع فجره ما يزيد على أربعة عشر قرناً، مع العلم أنَّ (الاقتصاد) كعلمٍ حديث النشأة بلا شك، وإِن أُختلف حول النقطة التي بدأ فيها، فهو عند البعض يبدأ مع كتاب (ثروة الأمم) لآدم سميث (1776م)، وعند آخرين يبدأ مع كتاب كانتيلون (بحث في طبيعة التجارة بصفة عامة) (1730م)، وهو في نظر فريق ثالث يبدأ مع المدرسة الطبيعية التي ظهرت في فرنسا حول منتصف القرن الثامن عشر(8).
    أَما كلمة (اقتصاد) فقد كان أَرسطو أَول من استعملها، وكان معناه يقتصر على علم قوانين تدبير الشؤون المنزلية، إذ أنَّ كلمة (اِقتصاد) مشتقة أَصلاً من كلمتين يونانيتين هما (أَويكوس) وتعني المنزل، و(نوموس) وتعني قانون.

    أَما مصطلح (الاقتصاد السياسي) فقد استخدم لأول مرة في أَوائل القرن السابع عشر من قبل (مونكرتيريان) في كتابه (شرح الاقتصاد السياسي) الصادر في عام (1615م). ولم يكن هذا المصطلح يعني بالنسبة للمؤلف أكثر من مبادئ اقتصاد الدولة نظراً لأنه كان مهتماً بدراسة ماليتها. إلاَّ أنَّ مصطلح (الاقتصاد السياسي) أَصبح فيما بعد لا يدل على دراسة مالية الدولة وحسب، وإنما تعدى هذا النطاق ليدل على بحث مشكلات الاقتصاد الاجتماعي، وذلك لأن كلمة (سياسي) وهي مشتقة من الأصل اليوناني (بولتيكوس) تعني أَساساً (اجتماعياً) وبذلك يعد المصطلحان (الاقتصاد السياسي) و(الاقتصاد الاجتماعي) مترادفين، وإن كان اصطلاح الاقتصاد الاجتماعي ربما يصلح بصورة أَفضل للتعبير عن موضوع هذا العلم(9).

    إِذن يحق للمرء أن يتساءل عن حقيقة وماهية الاقتصاد الإسلامي.

    السيد الصدر وهو يقدم للمسلمين قبل أكثر من ربع قرن نظرية الإسلام الاقتصادية، لم يلق الحبل على الغارب، بل عمد إلى تبديد الغموض الذي يكتنف مفهوم (الاقتصاد الإسلامي)، وذلك في مقدمة كتابه (اقتصادنا) حيث كتب يقول: ""وبودي أَن أقول هنا وفي المقدمة شيئاً عن كلمة (اقتصادنا) أو كلمة الاقتصاد السياسي الذي تدور حوله بحوث الكتاب، وما أَعنيه بهذه الكلمة حين أَطلقها، لأن كلمة الاقتصاد ذات تاريخ طويل في التفكير الإِنساني، وقد أَكسبها ذلك شيئاً من الغموض نتيجة للمعاني التي مرَّت بها، وللازدواج في مدلولها بين الجانب العلمي من الاقتصاد والجانب المذهبي. فحين نريد أن نعرف مدلول الاقتصاد الإسلامي بالضبط، يجب أن نميز علم الاقتصاد عن المذهب الاقتصادي، وندرك مدى التفاعل بين التفكير العلمي والتفكير المذهبي، لننتهي من ذلك إلى تحديد المقصود من الاقتصاد الإسلامي، الذي نتوفر على دراسته في هذا الكتاب. فعلم الاقتصاد هو العلم الذي يتناول تفسير الحياة الاقتصادية وأَحداثها وظواهرها، وربط تلك الأحداث والظواهر بالأَسباب والعوامل العامة التي تتحكم فيها. وهذا العلم حديث الولادة، فهو لم يحدث ـ بالمعنى الدقيق للكلمة ـ إلاّ في بداية العصر الرأسمالي منذ أَربعة قرون تقريباً، وإن كانت جذوره البدائية تمتد إلى أَعماق التاريخ، فقد ساهمت كل حضارة في التفكير الاِقتصادي بمقدار ما أُتيح لها من إِمكانات، غير أن الاستنتاج العلمي الدقيق الذي نجده لأَول مرة في علم الاقتصاد السياسي، مدين للقرون الأَخيرة. وأما المذهب الاقتصادي للمجتمع فهو عبارة عن الطريقة التي يفضّل المجتمع اتباعها في حياته الاقتصادية، وحل مشاكلها العلمية. وعلى هذا الأَساس لا يمكن أن نتصور مجتمعاً دون مذهب اقتصادي، لأن كل مجتمع يمارس إنتاج الثروة وتوزيعها لابد له من طريقة يتفق عليها في تنظيم هذه العمليات الاقتصادية، وهذه الطريقة هي التي تحدد موقفه المذهبي من الحياة الاقتصادية""(10). فيكون من الطبيعي تصور مذهب اقتصادي في الإسلام، ينظم علاقات الإنتاج والتوزيع، وفقاً للتصورات الإسلامية. وحينما "" نطلق كلمة الاقتصاد الإسلامي لا نعني بذلك علم الاقتصاد السياسي مباشرة، لأن هذا العلم حديث الولادة نسبياً، ولأن الإِسلام دين دعوة ومنهج وليس من وظيفته الأَصلية ممارسة البحوث العلمية.. وإنما نعني بالاقتصاد الإسلامي: المذهب الاقتصادي للإسلام، الذي تتجسد فيه الطريقة الإسلامية في تنظيم الحياة الاقتصادية، بما يملك هذا المذهب ويدل عليه من رصيد فكري، يتألف من أَفكار الإسلام الأَخلاقية والأفكار العلمية الاقتصادية أو التاريخية التي تتصل بمسائل الاقتصاد السياسي أو بتحليل تاريخ المجتمعات البشرية""(11).

    وقد أكَّد السيد الصدر هذا الفرق مراراً وفي أكثر من موضع في كتابه (اقتصادنا)، ولكن رغم هذا التأكيد المتواصل يقع البعض في خلط غريب، ومن هؤلاء الدكتور محمود الخالدي(12) الذي اعتبر أن السيد الصدر أخطأ في حصر أُسس الاقتصاد السياسي الرأسمالي في (حرية التملك ـ حرية الاستغلال ـ حرية الاستهلاك)، وتوهم الدكتور الخالدي هذا ناشيء من عدم التفريق بين النظام والعلم، وبعبارة أوضح بين المذهب الرأسمالي، وبين علم الاقتصاد الرأسمالي، ولو تمعن في نصوص كتاب(اقتصادنا) لتجنب هذا الخلط واتهامه السيد الصدر بغير حق، إذ عنون السيد الصدر بحثه وبخط بارز بـا(الرأسمالية المذهبية في خطوطها الرئيسية)، وكتب بصريح العبارة: ""فهذه هي المعالم الرئيسية في المذهب الرأسمالي التي يمكن تلخيصها في حريات ثلاث: حرية التملك، والاستغلال، والاستهلاك""(13).

    وقد يكون السيد الصدر هو أول من نبَّه إلى الفرق بين المذهب والعلم، وحدَّد ميدان كل منهما وبشكل دقيق وعلمي، ثم سار على منواله جلُّ الباحثين من بعده، وإن غفل بعضهم لحد الآن عن أهمية هذا الفرق. كما يلاحظ أن جلَّ من أَولى اهتمامه لهذه الحقيقة لم يخرج عن الإِطار الذي قدَّمه السيد الصدر ونبَّه عليه دون زيادة(14)، بل عمد بعضهم إلى النقل حرفياً عن السيد الصدر، ودون أدنى تنبيه إلى (اقتصادنا) كما هو شأن الدكتور محمد عبد المنعم عفر، الذي ذكر هذا الفرق بقوله: "" ويختلف علم الاقتصاد عن النظام الاقتصادي في أنًّ علم الاقتصاد هو العلم الذي يتناول تفسير الحياة الاقتصادية وأَحداثها وظواهرها وربط تلك الأَحداث والظواهر بالأسباب والعوامل العامة التي تتحكم فيها. أما النظام الاقتصادي فهو الطريقة التي يفضل المجتمع اتباعها في حياته الاقتصادية وحل مشاكلها العملية..""(15).

    وقد أطلق الشيخ مرتضى المطهري على علم الاقتصاد مصطلح الاقتصاد النظري أو الوصفي، بينما أطلق على المذهب مصطلح الاقتصاد المبرمج والقانوني، على أساس أَن الأول يعتبر فناً وعلماً حقيقياً، في حين يعتبر الثاني طريقة تنظيم للحياة الاقتصادية لها علاقة وثيقة بمفهوم العدالة الاجتماعية، فيدخل المذهب في ضمن الأَيديولوجيات والعقائد(16). وقد يكون المطهري تأثر إلى حدٍّ كبير بالسيد الصدر كما يبدو بالمقارنة مع (اقتصادنا) في الفصل الذي عقده السيد الصدر تحت عنوان (عملية اكتشاف المذهب الاقتصادي)(17).

    [mark=cccccc]الموقف من علم الاِقتصاد[/mark]

    إذا كان علم الاقتصاد هو العلم الذي يعنى بدراسة وتحليل الحياة الاقتصادية وأَحداثها وظواهرها، فما هي علاقته بالمذاهب الاقتصادية ومدى تأثره بها؟ وبعبارة أَوضح هل يعتبر علم الاِقتصاد علماً حيادياً يجب قبوله دون أَدنى تحفظ أو لا يكون كذلك فيتحتم علينا الموقف الإِنتقائي حينئذٍ؟

    الموقف الإِنتقائي يبدو واضحاً، فقد جاء في (أصول الاقتصاد الإسلامي) أَنه: ""لا بأس بالأَخذ بقوانين العرض والطلب، لأنها اكتشاف لسنة الله في تحديد الأَثمان، وهي قضية تختلف تماماً عن انتشار ظاهرة سعر الفائدة كثمن على القرض..""(18). وهو ما يظهر من قول الدكتور سعيد مرطان: "" إِنَّ بلورة فكر اقتصادي يستمد أصوله من تعاليم الشريعة الإسلامية لا يعني بأي حال من الأحوال الاِستغناء التام عن المفاهيم وأَدوات التحليل الاقتصادية الحديثة التي تمثل إِنتاج عدة قرون من التفكير والتنظير والتطبيق، إِنما يعني اختيار ما يلائم العقيدة الإِسلامية ونبذ ما يجافيها. فحيث لا نجد حرجاً في استخدام معظم أَدوات التحليل الاقتصادي التي تدرس في مواد مثل الاقتصاد الرياضي والاقتصاد القياسي ومواد النظريات الاقتصادية، فإِننا بالتأكيد لا نقبل الأَخذ ببعض أَدوات السياسة الاقتصادية المعاصرة كسعر الفائدة في السياسة النقدية مثلاً. أَيضاً سيكون لنا تحفظاتنا على الأَهداف التي تسعى إلى تحقيقها وحدات القرار الاقتصادي، وعلى أَساليب تحقيق هذه الأَهداف وعلى الإِفتراضات التي تقف وراء اشتقاق أَدوات التحليل الاقتصادي""(19).

    الدكتور محمد الزرقاء عرض مشكلة الموقف من مقولات ونتائج التحليل الاقتصادي الحديث، وتقرير ما إِذا كان هذا التحليل علماً حيادياً يتوجب قبوله، أم تتأثر هذه المقولات والنتائج بأنماط السلوك والنظم غير الإِسلامية فيتوجب التحفظ بلحاظ بعضها على الأقل، ملخصاً الموقف بقوله: ""لقد جرى جمهور الباحثين في الاقتصاد الإسلامي حتى الآن على التمييز بين النظام الاقتصادي من جهة والتحليل الاقتصادي من جهة أخرى. فهم يؤكدون بحق أنَّ الإسلام يقدم نظاماً اقتصادياً متميزاً. لكن ماذا عن التحليل الاقتصادي أو ما يسمى علم الاقتصاد؟ هل يختلف هذا من نظام لآخر. أم أنه حيادي تصح مقولاته ـ دون تعديل ـ في مختلف الأَنظمة الاِقتصادية. لقد اختلف الباحثون في الاقتصاد الإسلامي في الجواب عن هذا السؤال. فحسب الرأي الأَول: فإِنَّ التحليل الاقتصادي يصف ما هو كائن، ويحوي مجموعة من السنن أَو (القوانين) الاِقتصادية، فهو حيادي بطبيعته وعالمي لا يخص بلداً دون بلد، أو نظاماً دون نظام، شأنه في ذلك شأن علوم الفيزياء والزراعة مثلاً. وإنَّ عالمية الشريعة الإسلامية بمعنى أنها أُنزلت للناس كافة ـ ومن ذلك نظامها الاقتصادي ـ ليدل على أنَّ في السلوك الإنساني الاقتصادي قدراً من الإضطراد يسمح بوحدة التشريع. وبحسب الرأي الثاني: فان التحليل الاقتصادي إِنما يدرس السلوك الإنساني في المجال الاقتصادي، ولا يصح تشبيه (قوانينه) بقوانين الطبيعة لأسباب معروفة. كما أنَّ أكثر مقولاته المعاصرة استمدت من استقراء مجتمعات وأَنماط سلوكية لا إسلامية. وفوق ذلك فإن التحليل الاقتصادي ليس حيادياً تماماً بل هو كثير التأثر بالقيم المسبقة والإِفتراضات الضمنية للباحث""(20). ويرى الزرقاء صدق كلا الرأيين في حالات دون حالات أخرى، ولذلك يجب تمحيص مقولات التحليل الاقتصادي المعاصر، وتمييزها إلى الفئات التالية:

    أ - مقولات حيادية أو تنطوي على قيم أو افتراضات سابقة ليست محل اختلاف بين النظم الاقتصادية.

    ب - مقولات تنطوي على قيم وافتراضات سابقة مقبولة إِسلامية.

    ج - مقولات تنطوي على قيم وافتراضات غير مقبولة إسلامية مع تحديد تلك القيم أَو الافتراضات وبيان بدائلها الإسلامية(21).

    ما هو موقف السيد الصدر من هذه المشكلة؟

    تحت عنوان (القوانين العلمية في الاقتصاد الرأسمالي ذات إطار مذهبي) يرى السيد الصدر "" أن المذهب الرأسمالي يحدد إطار القوانين العلمية في الاقتصاد الرأسمالي، ويؤثر عليها في اتجاهها ومجراها. ومعنى هذا أن القوانين العلمية في الاقتصاد الرأسمالي، قوانين علمية في إطار مذهبي خاص، وليست قوانين مطلقة تنطبق على كل مجتمع وفي كل زمان ومكان، كالقوانين الطبيعية في الفيزياء والكيمياء.. وإنما يعتبر كثير من تلك القوانين حقائق موضوعية، في الظروف الاجتماعية التي تسيطر عليها الرأسمالية، بجوانبها الاقتصادية وأَفكارها ومفاهيمها، فلا تنطبق على مجتمع لا تسيطر عليه الرأسمالية ولا تسوده أَفكارها""(22). فكثير من القوانين والمقولات الاقتصادية هذه، علمية وحقائق موضوعية ـ حسب رأي السيد الصدر ـ في مجتمعات رأسمالية تتخذ الرأسمالية نظاماً ومنهاجاً، وهي ليست كذلك في مجتمعات لا تحكمها الرأسمالية ولا تتخذ منها طريقة لتنظيم حياتها الاقتصادية(23).

    أَما السبب في تأطير هذه القوانين، وعجزها عن أن تكون قوانين مطلقة تنطبق على كل مجتمع فإِنه يكمن في دور الإرادة الإنسانية التي تختلف بين إنسان وآخر. وهو ما طرحه السيد الصدر بوضوح في (اقتصادنا) حيث يقول: "" إنَّ هذه القوانين نظراً إلى علاقتها بإرادة الإِنسان تتأثر بكل المؤثرات التي تطرأ على الوعي الإِنساني، وبكل العوامل التي تتدخل في إِرادة الإِنسان وميوله. وبدهي أن إرادة الإِنسان التي تعالجها تلك القوانين تتحدد وتتكيف وفقاً لأفكار الإِنسان ومفاهيمه، ولنوعية المذهب السائد في المجتمع، ولون التشريعات التي تقيد سلوك الأَفراد. فهذه العوامل هي التي تملي على الإِنسان إِرادته وموقفه العلمي، وحين تتغير تلك العوامل يختلف اِتجاه الإنسان وإرادته، وبالتالي تختلف القوانين العلمية العامة التي تفسر مجرى الحياة الاقتصادية، فلا يمكن في كثير من الأحيان، إعطاء قانون عام للإنسانية في الحياة الاقتصادية، بمختلف إطاراتها الفكرية والمذهبية والروحية. وليس من الصحيح علمياً أن نترقب من الإِرادة الإِنسانية في مجرى الحياة الاقتصادية أن تسير وتنشط ـ دائماً وفي كل مجتمع ـ كما تسير وتنشط في المجتمع الرأسمالي، الذي درسه الاقتصاديون الرأسماليون، ووضعوا قوانين الاِقتصاد السياسي في ضوئه، مادامت المجتمعات قد تختلف في إطاراتها الفكرية والمذهبية والروحية، بل يجب أن تؤخذ هذه الإِطارات كمدلولات ثابتة في مجال البحث العلمي. ومن الطبيعي أن تتكشف نتائج البحث حينئذٍ عن القوانين الجارية ضمن تلك الإِطارات خاصة""(24).

    [mark=cccccc]علم اقتصاد إِسلامي[/mark]

    إذا كان المراد من كلمة الاقتصاد الإسلامي يعني المذهب الاقتصادي للإسلام، الذي تتجسد فيه الطريقة الإِسلامية في تنظيم الحياة الاقتصادية بما يملك هذا المذهب ويدل عليه من رصيد فكري يتألف من أفكار الإسلام الأَخلاقية والأفكار العلمية الاِقتصادية أو التاريخية التي تتصل بمسائل الاقتصاد السياسي أو بتحليل تاريخ المجتمعات البشرية(25)، وإذا كنا ننفي الطابع العلمي عن الاقتصاد الإسلامي لوضوح: إن الإسلام دين يتكفل الدعوة إلى تنظيم الحياة الاِقتصادية كما يعالج سائر نواحي الحياة، ولوضوح أنه ثورة لقلب الواقع الفاسد وتحويله إلى واقع سليم، وليس تفسيراً موضوعياً للواقع، فهل يعني كل ذلك عدم إمكان تكوّن علم اقتصاد إسلامي بعد أن يقوم الاقتصاد الإسلامي كمذهب بدوره في عملية تغيير الواقع؟

    السيد الصدر يرى أنه: "" يمكن أن يتكون للاقتصاد الإسلامي علم بعد أن يدرس دراسة مذهبية شاملة من خلال دراسة الواقع في هذا الإِطار""(26)، إذ يأتي دور الباحث الاقتصادي لدراسة الواقع وتفسيره ضمن مجتمع إسلامي يطبق فيه مذهب الإسلام تطبيقاً كاملاً، ويقارن السيد الصدر في هذه النقطة بين المذهب الإسلامي والمذهب الرأسمالي حيث يقول: ""فالاِقتصاد الإسلامي من هذه الناحية ـ يقصد لا باعتباره علماً ـ يشبه الاِقتصاد الرأسمالي المذهبي، في كونه عملية تغيير الواقع لا عملية تفسير له، فالوظيفة تجاه الاقتصاد الإِسلامي هي: الكشف عن الصورة الكاملة للحياة الاِقتصادية وفقاً للتشريع الإسلامي، ودرس الأَفكار والمفاهيم العامة التي تشع من وراء تلك الصورة كفكرة انفصال شكل التوزيع عن نوعية الإِنتاج، وما إِليها من أفكار، وأَما الوظيفة العلمية تجاه الاِقتصاد الإِسلامي فيأتي دورها بعد ذلك، لتكشف عن مجرى الحياة الواقعي وقوانينه، ضمن مجتمع إِسلامي يطبق فيه مذهب الإسلام تطبيقاً كاملاً، فالباحث العلمي يأخذ الاِقتصاد المذهبي في الإِسلام قاعدة ثابتة للمجتمع، الذي يحاول تفسيره وربط الأَحداث فيه بعضها ببعض. فهو في هذا نظير الاِقتصاد السياسي لعلماء الاقتصاد الرأسماليين، الذين فرغوا من وضع خطوطهم المذهبية، ثم بدأوا يفسرون الواقع ضمن تلك الخطوط، ويدرسون طبيعة القوانين التي تتحكم في المجتمع الذي تطبق عليه، فنتج عن دراستهم هذه علم الاقتصاد السياسي""(27).

    ولكن، كيف يمكن وضع علم الاقتصاد الإِسلامي كما وضع الرأسماليون علم الاِقتصاد السياسي في مجتمعاتهم؟

    السيد الصدر في معرض جوابه على هذا التساؤل يرى أَن التفسير العلمي لأَحداث الحياة الاقتصادية يرتكز على أَحد أَمرين: أَولهما: جمع الأَحداث الاِقتصادية من التجربة الواقعية للحياة، وتنظيمها تنظيماً علمياً يكشف عن القوانين التي تتحكم بها في مجال تلك الحياة، وشروطها الخاصة. وثانيهما: البدء في البحث العلمي عن مسلّمات معينة تفترض إِفتراضاً، ويستنتج في ضوئها الاتجاه الاقتصادي ومجرى الحياة.
    والأَمر الأَول غير متاح للاقتصاديين الإِسلاميين، لغياب ـ أَو تغييب ـ الاقتصاد الإِسلامي عن مسرح الحياة، مما يعني عدم إِمكانية الظفر بتجارب واقعية من حياتهم الاقتصادية المعاصرة، كما ظفر الاِقتصاديون الرأسماليون، ولا يبقى أَمام الاِقتصاديين الإِسلاميين سوى الأَمر الثاني، إذ لا يعدمون إِمكانية الاِنطلاق من نقاط مذهبية معينة واستنتاج آثارها في مجال التطبيق المفترض، ووضع نظريات عامة عن الجانب الاِقتصادي في المجتمع الإِسلامي على ضوء تلك النقاط المذهبية. وقد مثَّل السيد الصدر لذلك بانطلاق الباحث الإِسلامي من نقطة إلغاء النظام الربوي للمصارف في المجتمع الإِسلامي، فيمكن للباحث استنتاج: أَنَّ مصالح التجارة متفقة في المجتمع الإِسلامي مع مصالح رجال المال وأَصحاب المصارف، لأَنَّ المصرف في المجتمع الإِسلامي يقوم على أَساس المضاربة لا على أساس الربا، فهو يتجّر بأموال زبائنه ويوزع الأَرباح بينه وبينهم بنسبة مئوية معينة من الربح، وفي النهاية يتوقف مصيره المالي على مدى الربح التجاري الذي يجنيه، لا على الفائدة التي يقتطعها من الديون.

    إذن، من الممكن قيام علم اقتصاد إسلامي يتكفل تفسير الواقع واستكشاف خصائصه العامة، ذلك الواقع الذي يقوم على أسس مذهبية إسلامية، ولكن ثمة شرطاً يرى السيد الصدر ضرورة توفره في إِمكان ولادة هذا العلم يتمثل في تجسيد هذا الاِقتصاد في كيان المجتمع بجذوره ومعالمه وتفاصيله، ودراسة الأَحداث والتجارب الاقتصادية التي يمر بها دراسة منظمة(28)، وقد ورَّطت هذه الحقيقة التي أكد عليها السيد الصدر بعض أساتذة الاِقتصاد فكتب أحدهم: (على أَية حال، فإنَّ العلاّمة محمد باقر الصدر ـ صاحب المؤلف الهام عن الاقتصاد الإِسلامي ـ يعلن بتواضع أن "" علم الاقتصاد الإسلامي لا يمكن أن يولد ولادة حقيقية، إلاَّ إذا جُسد هذا الاقتصاد في كيان المجتمع، بجذوره ومعالمه وتفاصيله، ودرست الأَحداث والتجارب الاقتصادية التي يمر بها دراسة منظمة"" وهنا يكمن التحدي والاِختبار الرئيسي لمقولات الاِقتصاد الإسلامي)(29). وما يدعيه الكاتب من تحدٍّ واختبار مزعوم يقوم على عدم التمييز بين المذهب والعلم، وما ذكره السيد الصدر من شروط يختصّ بإمكان ولادة العلم ـ أعني علم الاقتصاد الإسلامي ـ لا المذهب.

    [mark=cccccc]الحد الفاصل بين المذهب والعلم[/mark]

    تقدم وأَن بيَّن السيد الصدر المفهوم الذي يعنيه من كلمة (المذهب) وذكر أَنَّ المذهب الاقتصادي للمجتمع هو: عبارة عن الطريقة التي يفضل ذلك المجتمع إِتباعها في حياته الاِقتصادية وحل مشاكلها العملية. بينما عرَّف علم الاِقتصاد: بأَنه ذلك العلم الذي يتناول تفسير الحياة الاقتصادية وأَحداثها وظواهرها وربط تلك الأَحداث والظواهر بالأسباب والعوامل العامة التي تتحكم فيها، وبتحديد طبيعة كل من المذهب والعلم وضع حداً فاصلاً بينهما، ولكن للدقة العلمية ولإِيجاد ضابط صارم بين موضوعات المذهب والعلم والمجالات التي يعمل كل منهما فيها، يؤكد السيد الصدر ضرورة عدم الاكتفاء بما وضعه سالفاً من علامة فارقة بين المذهب والعلم، تلك العلامة التي تمثلت في كون المذهب الطريقة التي يفضل المجتمع إِتباعها لحل مشاكله الاقتصادية، وكون العلم تلك المقولات وأَدوات التحليل التي تفسّر الواقع الاقتصادي.

    لقد كان الحدّ الفاصل الذي وضعه السيد الصدر في مقدمة نظريته بين المذهب والعلم كافياً للتمييز بينهما، وذلك لتوضيح وشرح طبيعة الاقتصاد الإِسلامي وتمييزه عن علم الاقتصاد، ولكنه (هذا التمييز) لم يعد كافياً في مقام التعرف على مجالات وحدود كل منهما، مما يحتم على الباحث وضع ضابط دقيق يجنبه الخلط بين موضوعاتهما.

    كان يكفي ـ للتأكيد على الطابع المذهبي للاقتصاد الإسلامي ولنفي كونه المقصود بعلم الاقتصاد وما يترشح عنه من شبهات ـ أَن يقول السيد الصدر عن المذهب أنه: طريقة، وعن العلم أنه: تفسير، وهو فارق جوهري بينهما. ولكن لمعرفة في أَي حقل يعمل المذهب الاقتصادي؟ وإلى أي مدى يمتد؟ وما هي الصفة العامة التي نجدها في كل فكر اقتصادي مذهبي، لنجعل من تلك الصفة علامة فارقة للأَفكار المذهبية في الإِسلام، التي نحاول جمعها وتنسيقها في إطراد واحد؟ لمعرفة الجواب على هذه التساؤلات يرى السيد الصدر ضرورة "" أن نعطي للمذهب المتميز عن العلم مفهوماً محدداً، قادراً على الجواب عن كل هذه الأَسئلة، ولا يكفي بهذا الصدد القول: بأنَّ المذهب مجرد طريقة""(30)إذ يأبى المنهج العلمي إلاَّ أن يوغل في خلق حدود فاصلة، ووضع ضوابط جامعة للمجالات التي يعمل فيها المذهب، ومانعة للاختلاط بمجالات العلم والاندماج معها.

    ثمة من يقصر عمل المذهب على مجال التوزيع، ولذلك قيل عن المذهب الاقتصادي بأَنه: فن توزيع الثروة، بينما يقتصر عمل العلم على مجال الإنتاج فعرف بأَنه: علم قوانين الإنتاج. فكل بحث يبيِّن الثروة وتملكها والتصرف فيها فهو مذهبي يتصل بالنظام الاِقتصادي. ولأجل ذلك تختلف الرؤى المذهبية في مجال التوزيع بين رؤية رأسمالية واشتراكية وإِسلامية. بينما يعتبر كل بحث يتعلق بالإنتاج وتحسينه علماً اِقتصادياً ذا صفة عالمية لا تختلف فيه الأمم على اختلاف مذاهبها الاقتصادية وتنافرها.

    هذا المعيار للتفريق بين مجال عمل كل من المذهب والعلم لا ينال رضا السيد الصدر وقبوله ويرى أنه: "" ينطوي على خطأ كبير، لأَنه يؤدي إلى اعتبار الصفة المذهبية والصفة العلمية نتيجتين لنوعية المجال المدروس. فإذا كان البحث في الإنتاج فهو بحث علمي، وإذا كان في التوزيع فهو بحث مذهبي. مع أن العلم والمذهب مختلفان في طريقة البحث وأَهدافه، لا في موضوعه ومجالاته. فالبحث المذهبي يظل مذهبياً ومحافظاً على طابعه ما دام يلتزم طريقته وأَهدافه الخاصة، ولو تناول الإنتاج نفسه، كما أن البحث العلمي لا يفقد طبيعته العلمية إذا تكلم على التوزيع ودرسه بالطريقة والأَهداف التي تتناسب مع العلم""(31). ولا أَدل على خطل هذا المعيار ومجافاته للصواب من فكرة التخطيط المركزي للإنتاج ـ التي تتيح للدولة الحق في وضع سياسة الإنتاج والإشراف عليه ـ وهي إحدى النظريات المذهبية المهمة مع أَنها تدخل في مجال الإنتاج ولا تتصل بمسألة التوزيع. كذلك يجد المرء كثيراً من الأَفكار التي تعالج قضايا التوزيع تندرج في علم الاِقتصاد، فـا(ريكاردو) حين يقرر مثلاً: أنَّ نصيب العمال من الثروة المنتجة، الذي يمثل فيما يتقاضونه من أُجور، لا يزيد بحال من الأَحوال عن القدر الذي يتيح لهم معيشة الكفاف.. لم يكن يقصد بذلك أَن يقرر شيئاً مذهبياً.

    أَما المعيار الذي يرتأي السيد الصدر ضرورة تبنيه للتفريق بين المذهب الاِقتصادي وعلم الاِقتصاد فهو (فكرة العدالة الاِجتماعية) التي تصلح أَن تكون حداً فاصلاً بين مجال كل من المذهب والعلم. حيث يقول السيد الصدر: "" ففكرة العدالة الاجتماعية هي الحد الفاصل بين المذهب والعلم، والعلامة الفارقة التي تميز بها الأَفكار المذهبية عن النظريات العلمية، لأَن فكرة العدالة نفسها ليست علمية، ولا أَمراً حسياً قابلاً للقياس والملاحظة، أَو خاضعة للتجربة بالوسائل العلمية، وإِنما العدالة تقدير وتقويم خلقي""(32). ولذلك يندرج مبدأ الملكية الخاصة، أو الحرية الاِقتصادية، أَو إلغاء الفائدة أَو تأميم وسائل الإنتاج… في المذهب، لأنه يرتبط بفكرة العدالة، بينما تندرج قوانين تناقص الغلة وقوانين العرض والطلب، أَو القانون الحديدي للأُجور.. في مجال علم الاِقتصاد، لأنها لا ترتبط بفكرة العدالة الاجتماعية، إذ أن قانون تناقص الغلة لا يحكم بأَن هذا التناقص عادل أَو ظالم، وإنما يكشف عنه بوصفه حقيقة موضوعية ثابتة، كذلك قانون العرض والطلب فهو لا يبرر ارتفاع الثمن بسبب قلة العرض أَو زيادة الطلب على أَساس مفهوم معين عن العدالة، وإنما يبرر الترابط موضوعياً بين الثمن وكمية العرض والطلب باعتباره ظاهرة حتمية للسوق الرأسمالية.

    وعلى ضوء هذا المعيار يرى السيد الصدر أَن "" المذهب الاقتصادي يشمل كل قاعدة أَساسية في الحياة الاقتصادية، تتصل بفكرة العدالة الاجتماعية""(33)، بينما "" العلم يشمل كل نظرية تفسر واقعاً من الحياة الاقتصادية بصورة منفصلة عن فكرة مسبقة أَو مثل أعلى للعدالة""(34). غير أن هذا الفصل الحاسم بين البحث العلمي والبحث المذهبي لا يحول دون إضفاء الطابع المذهبي على القوانين العلمية وتأثرها بالمبادئ المذهبية "" كما في قوانين العرض والطلب أو قانون الأجور الحديدي للعمال، فإن أمثال هذه القوانين إنما تصدق علمياً وتنطبق على الواقع الذي تفسره… في مجتمع رأسمالي يطبق الرأسمالية المذهبية، فهي قوانين علمية في إطار مذهبي معين، وليست علمية ولا صحيحة ضمن إطار آخر""(35).
    عملية اكتشاف المذهب الإِسلامي

    ثمة فارق جوهري بين المذهب الإِسلامي والمذاهب الاِقتصادية الأخرى يحسه الباحث الإسلامي وهو يمارس عملية البحث المذهبي، ويتجلى هذا الفارق في طبيعة المذهب الاقتصادي الإِسلامي نفسه "" فالمفكر الإسلامي أمام اقتصاد منجَّز تمَّ وضعه، وهو مدعو إلى تمييزه بوجهه الحقيقي، وتحديده بهيكله العام، والكشف عن قواعده الفكرية، وإبرازه بملامحه الأَصلية، ونفض غبار التاريخ عنها، والتغلب بقدر الإِمكان على كثافة الزمن المتراكم والمسافات التاريخية الطويلة، وإِيحاءات التجارب غير الأَمينة التي مارست ـ ولو اسمياً ـ عملية تطبيق الإِسلام، والتحرر من أُطر الثقافات غير الإِسلامية التي تتحكم في فهم الأَشياء، وفقاً لطبيعتها واتجاهها في التفكير""(36). وعليه فإنَّ "" مهمة الباحث في الاقتصاد الإسلامي ليست عملية إِنشاء المذهب الاقتصادي في الإِسلام أَو ابتداع الأَنظمة الاِقتصادية الإِسلامية، وإنما هي عملية الكشف عن المذهب الاِقتصادي الإِسلامي، واستظهار الحلول الاِقتصادية الإِسلامية فيما يعرض للمجتمع من مشاكل اقتصادية""(37).

    ويترتب على هذا الفارق الجوهري عدة نتائج منها: "" إِنَّ محاولة التغلب على كل هذه الصعاب، واجتيازها للوصول إلى اقتصاد إسلامي مذهبي هي وظيفة المفكر الإسلامي""(38). وهو أَمر غاية في الوضوح ""فالبحث عن الاقتصاد الإسلامي لا يختص به رجال الاقتصاد، وإنما يختص به المفكر الإسلامي الذي يوضح التصور الإسلامي بشكله المتكامل، ثم ينتقل بعد ذلك إلى الجوانب النظرية المختلفة للنظرية الإسلامية، حيث يتولى المتخصصون في علم الاقتصاد إبراز معالم النظرية الإسلامية في المجال الاقتصادي معتمدين في ذلك على المصادر الأَساسية للفكر الإسلامي في المجال التشريعي والاقتصادي والاجتماعي""(39). وينتج عن ذلك ـ أيضاً ـ وجوب الرجوع إلى المصادر الرئيسية للاقتصاد الإسلامي وهي النصوص الشرعية للإسلام والأَدلة الشرعية كما هو مقرر في محله، و""عليه فإِنَّ أَية محاولة لدراسة النشاط الاقتصادي خارج نصوص القرآن والسنّة، أو بغير الطرق الشرعية المقررة لا تمت إلى الاقتصاد الإِسلامي بصلة ولا يوصف المذهب الاقتصادي أَو النظم الاِقتصادية المختلفة بأَنها إِسلامية إِلاَّ بقدر تعبيرها عن نصوص القرآن والسنّة والتزامها للطرق الشرعية المقررة""(40).

    وعلى أَساس الفرق الجوهري بين عملية اكتشاف المذهب الإِسلامي ـ باعتباره مذهباً تم إنجازه ووضعت أسسه في وقت سابق ـ وبين عملية التكوين التي يمارسها الباحثون المذهبيون في المذاهب الاقتصادية الأخرى كالرأسمالية والاشتراكية، يختلف سير البحث العلمي الذي يمارسه الباحث الإِسلامي عن غيره، إِذ يجري سير البحث العلمي في حالة تكوين المذهب الاقتصادي بصورة طبيعية، حيث يتم وضع النظرية العامة للمذهب لتكون فيما بعد أَساساً لبحوث ثانوية وقوانين تتفرع عنها، كالقانون المدني الذي يرتكز ويقوم على ضوء النظرية العامة للمذهب ويتأثر بمبادئها وأَسسها. والأَمر مختلف في عملية اكتشاف المذهب الاقتصادي ""فقد ينعكس السير ويختلف المنطلق وذلك حينما نكون بصدد اِكتشاف مذهب اقتصادي لا نملك له أَو لبعض جوانبه صورة واضحة، ولا صيغة محددة من قبل واضعيه، كما إذا كنا لا نعرف أنَّ المذهب يؤمن بمبدأ الملكية العامة أَو مبدأ الملكية الخاصة، أَو لا نعرف الأَساس النظري للملكية الخاصة هل هو الحاجة أَو العمل أَو الحرية؟ ""(41).

    عندما يكون الأَمر كذلك فإنَّ سير البحث يبدو مقلوباً وعكس الاِتجاه الذي يسير عليه الباحث في حالة تكوين المذهب الاقتصادي، الذي تتضح فيه الأُسس العامة للمذهب وما يترشح عنها إلى القوانين والبحوث الثانوية. هذه الحقيقة ـ أعني تأثر وارتكاز القوانين المدنية مثلاً على المذهب ـ تؤكد ضرورة السير المقلوب للبحث في عملية الإِكتشاف، حيث يلجأ الباحث الإِسلامي إلى عملية التفتيش عن إشعاعات المذهب الإِسلامي في المجالات المختلفة من بحوث ثانوية وقوانين، ليصل عن طريق هذه الإِشعاعات إلى الأُسس العامة التي يقوم عليها المذهب الاِقتصادي الإسلامي. وبهذا الصدد يقول السيد الصدر: ""وهذا هو الذي يجعل عمليه الاكتشاف التي يمارسها الفكر الإسلامي تظهر أحياناً بشكل مقلوب. بل قد يبدو أنها لا تميز بين المذهب والقانون المدني حين تستعرض أَحكاماً إِسلامية في مستوى القانون المدني، وهي تريد أن تدرس المذهب الاقتصادي في الإِسلام، ولكنها في الواقع على حق ما دامت تستعرض تلك الأَحكام بوصفها بناءً علوياً للمذهب قادراً على الكشف عنه، لا باعتبار أنها هي المذهب الاقتصادي والنظريات الاِقتصادية نفسها""(42).

    [mark=cccccc]دراسة شاملة للأَحكام الإِسلامية[/mark]

    السير المقلوب للبحث المذهبي يحتم ويبرر ـ في آن واحد ـ دراسة حشد كبير من أحكام الإسلام وتشريعاته في المعاملات، والحقوق التي تنظم العلاقات المالية بين الأفراد أو بينهم والدولة، وإن لم تكن هذه الأحكام داخلة كلها في صميم المذهب ذاته، وذلك تمهيداً لاِكتشاف معالم المذهب الاقتصادي الإسلامي. بيد أنَّ ذلك لا يعني دراسة شاملة لأحكام الإسلام وتشريعاته، بل ستقتصر على الأحكام التي تُعدُّ بناءً علوياً للمذهب. وبعبارة أَوضح تلك الأَحكام التي يصيبها إِشعاع المذهب دون سواها، حيث تستبعد الأَحكام التي لا تساهم في عملية الاِكتشاف، أي تلك الأحكام التي لا تتأثر بالمبادئ المذهبية للاقتصاد و لا تصيبها إشعاعاتها. ولأجل ذلك اِستبعد السيد الصدر أَحكاماً، مثل: (حرمة الغش، وضريبة الجهاد)، إذ لا تتمتع حرمة الغش بإِطار مذهبي مما يجعلها محل اتفاق معظم قوانين دول العالم على اختلاف مذاهبها الاقتصادية، وكذلك ضريبة الجهاد التي تتصل بدور الدعوة في الدولة الإسلامية.

    بينما يرى السيد الصدر دخول أحكام أخرى مثل: (حكم الربا، وضريبة التوازن ـ الزكاة)، باعتبارها أحكاماً تسهم في عملية الاِكتشاف وتدخل في صميم المذهب، حيث شُرعت الزكاة لحماية التوازن الاجتماعي، في حين تكشف حرمة الربا عن القاعدة العامة للتوزيع في الإسلام(43).



    [/align]





  3. #3
    تاريخ التسجيل
    Feb 2003
    المشاركات
    29,593

    افتراضي

    [align=justify][mark=cccccc]عملية التركيب بين الأَحكام[/mark]

    لمّا كانت عملية اكتشاف المذهب الاقتصادي في الإسلام تستدعي دراسة عدد كبير من الأحكام الإِسلامية، فإِنَّ ذلك لا يعني كفاية عرضها وفحص كل واحد منها بصورة منعزلة ومستقلة، لأن طريقة العزل أو الانفرادية في بحث كل واحدة من هذه الأَحكام حسب رأي السيد الصدر "" إِنما تنسجم مع بحث على مستوى القانون المدني في أحكام الشريعة، فإِنَّ هذا المستوى يسمح بعرض المفردات مستقلة بعضها عن البعض، لأنّ دراسة أَحكام الشريعة في مستوى القانون المدني لا تتخطى المجالات التفصيلية لتلك الأَحكام، وإنما تتكفل بعض أَحكام الإسلام التي تنظم عقود البيع والإِيجار والقرض والشركة مثلاً، وليست مكلفة بعد ذلك بعملية تركيب بين هذه الأحكام""(44). والأمر مختلف في عملية اكتشاف المذهب الاقتصادي الذي يعني مجموعة النظريات العامة والأُسس التي يعتمدها ذلك المذهب لحل مشكلات الحياة الاقتصادية ""فلا يجدي عرض المفردات فحسب لاكتشاف المذهب، وإِن اكتفت بحوث كثير من الإِسلاميين بهذا القدر، بل يتحتم علينا أن ننجز عملية تركيب بين تلك المفردات، أي أن ندرس كل واحد منها بوصفه جزءً من كل، وجانباً من صيغة عامة مترابطة، لننتهي من ذلك إلى اكتشاف القاعدة العامة التي تشع من خلال الكل، أو من خلال المركّب، وتصلح لتفسيره وتبريره""(45).

    [mark=cccccc]دور المفاهيم في عملية الاكتشاف[/mark]

    تسهم المفاهيم الإِسلامية في تذليل العقبات التي تعترض سبيل الباحث الإسلامي، وتقوم بتيسير فهم النصوص الشرعية التي يعتمدها في عملية اِكتشافه المذهب الاقتصادي في الإسلام. فمثلاً التصور الإسلامي للملكية على أنها عملية استخلاف للمال والثروة، يجعل من الملكية وظيفة اِجتماعية يسندها الشارع إلى الفرد للقيام بمتطلبات الخلافة لحساب الجماعة ولحسابه أيضاً، ويهيئ الذهنية الإسلامية ويعدّها لقبول النصوص الشرعية التي تحد من سلطة المالك وفقاً لمتطلبات المصلحة العامة. ويرجع السيد الصدر تردد بعض الفقهاء في قبول هذه النصوص الشرعية المسوّغة لانتزاع الملكيات من بعض أصحابها، إلى تجاهلهم دور المفاهيم الإسلامية في الإِشعاع على هذه الأَحكام(46).

    وقد استلهم السيد الصدر طابع القيمومة للمفاهيم الإِسلامية على الأَحكام الإِسلامية، من نصوص شرعية لاحظت هذا المعنى تمهيداً لإعطاء الحكم الشرعي. وفي هذا الخصوص يقول: "" ونحن نجد بعض تلك النصوص التشريعية قد لاحظت هذا المعنى بوضوح فأَعطت المفهوم أو الإِطار تمهيداً لإعطاء الحكم الشرعي فقد جاء في الحديث بشأن الأَرض وملكية الإِنسان لها: ""إِنَّ الأَرض لله تعالى، جعلها وقفاً على عباده، فمن عطل أَرضاً ثلاث سنين متوالية لغير ما علةٍ أُخذت من يده، ودفعت إلى غيره"". فنحن نرى ـ والحديث ما زال للسيد الصدر ـ أنَّ الحديث قد اِستعان بمفهوم معين عن ملكية الأَرض، ودور الفرد فيها، على توضيح الحكم بانتزاع الأَرض من مالكها وتبرير ذلك""(47).

    ولم يقتصر دور المفاهيم الإِسلامية على مهمة الإِشعاع وتيسير فهم النصوص الشرعية، بل تقوم بدور تموين الدولة بنوعية التشريعات الاِقتصادية التي يجب أن تملأ بها منطقة الفراغ(48).

    [mark=cccccc]عملية الاِجتهاد والذاتية[/mark]

    تتوقف عملية اكتشاف المذهب الاِقتصادي الإِسلامي التي يقوم بها الباحث الإسلامي، على ما يملكه من أحكام ومفاهيم إسلامية، يلجأ إلى فحصها وتدقيقها والتركيب بين بعضها والبعض الآخر، في عملية شاقة معقدة تدعى عملية (الاجتهاد). ويكمن تعقيد هذه العملية في النصوص الشرعية التي لا تبرز ـ في الغالب ـ مضامينها التشريعية أو المفهومية بشكل صريح ومحدد، مما يجعل فهم هذه النصوص الإِسلامية معقداً يفتقر إلى مزيد من الفحص والتحقيق، وكل ذلك يستدعي أو يؤدي إلى التباين في فهم النصوص، واختلاف في الوصول إلى نتائجها، وينتج عن ذلك تعدد الصور التي يكوّنها الباحثون الإِسلاميون للمذهب الاقتصادي في الإسلام تبعاً لاِختلاف اجتهاداتهم وهي اجتهادات ليست بالضرورة صائبة أو واقعية لإِمكان تصور الخطأ فيها. ويبدو التساؤل وجيهاً عن مدى اكتسابها الصفة الإسلامية رغم اختلافها وتباينها.

    وفقاً لرأي السيد الصدر: "" تعتبر كل تلك الصور صوراً إسلامية للمذهب الاقتصادي، لأنها تعبر عن ممارسة عملية الاجتهاد التي يسمح بها الإسلام وأَقرّها، ووضع لها مناهجها وقواعدها. وهكذا تكون الصورة إسلامية ما دامت نتيجة لاجتهاد جائز شرعاً بقطع النظر عن مدى انطباقها على واقع المذهب الاقتصادي في الإِسلام""(49).

    وتشكل هذه الحقيقة رصيداً كبيراً في الفكر الإسلامي، الذي تتعدد فيه الاجتهادات والبدائل الإسلامية، لتفسح للمسلمين سعة الاختيار بين هذه البدائل، وفقاً لظروفهم، وبما يناسب مصالحهم، ما دامت هذه البدائل كلها مشروعة وسائغة إسلامياً. ولكن بالرغم من مشروعية تعدد الاجتهادات وتباينها فإنَّ ثمة خطراً ـ حسب رأي السيد الصدر ـ يحف بتلك العمليات الاجتهادية، ويخشى عليها من الزيغ والانحراف، ويتمثل هذا الخطر فيما يسميه السيد الصدر بــا: (العنصر الذاتي)، أَو (تسرب الذاتية إلى عملية الاجتهاد)، حيث يُفقد الغطاء الذاتي عملية الاكتشاف طابعها الحقيقي، وموضوعيتها ومصداقيتها الإِسلامية، ويبتعد بالعملية عن الأَصالة، ويسلبها المشروعية.

    ولخطورة تسرب الذاتية إلى عملية الاجتهاد، يشدد السيد الصدر على ضرورة تحديد منابعها، حيث ذكر أسباباً أربعة بوصفها أهم المنابع لخطر الذاتية وهي:

    أ ـ تبرير الواقع.
    ب ـ دمج النص ضمن إطار خاص.
    ج ـ تجريد الدليل الشرعي من ظروفه وشروطه.
    د ـ اتخاذ موقف معين بصورة مسبقة تجاه النص.


    [mark=ffcc00]أ ـ تبرير الواقع[/mark]

    ثمة فواصل تاريخية وواقعية بين الباحث الإِسلامي والنصوص الإسلامية التي يسعى إلى فحصها وتدقيقها لاكتشاف المذهب الاقتصادي في الإِسلام، حيث الاِبتعاد عن عنصر النص، والعيش في واقع مخالف للمفاهيم والنصوص الإسلامية. وإزاء هذه الحالة قد ""يندفع فيها الممارس ـ بقصد أَو بدون قصد ـ إلى تطويع النصوص، وفهمها فهماً خاصاً يبرر الواقع الفاسد الذي يعيشه الممارس، ويعتبره ضرورة واقعة لا مناص عنها، نظير ما قام به بعض المفكرين المسلمين، ممن استسلم للواقع الاِجتماعي الذي نعيشه، وحاول أن يخضع النص للواقع، بدلاً عن التفكير في تغيير الواقع على أَساس النص، فتأَول أَدلة حرمة الربا والفائدة. وخرج من ذلك بنتيجة تواكب الواقع الفاسد. وهي: أن الإسلام يسمح بالفائدة إذا لم تكن أضعافاً مضاعفة، وإنما ينهى عنها إذا بلغت مبلغاً فاحشاً، يتعدى الحدود المعقولة""(50).

    [mark=ffcc00]ب ـ دمج النص ضمن إطار خاص [/mark]

    قد يعيش الباحث الإسلامي وهو يمارس عملية الاكتشاف واقعاً اجتماعياً معيناً، أو واقعاً فكرياً يتبناه ويدافع عنه، فيحاول فهم النصوص ضمن هذا الواقع الاجتماعي أو ذلك الإطار الفكري المعين، ويلجأ إلى عملية تطويع قسرية للنصوص، لتنسجم مع الواقع الاجتماعي الذي يعيشه أو الإطار الفكري المتبنى، فإذا صادف أن عجز عن هذه العملية أهمل هذه النصوص واجتازها إلى نصوص أخرى تماشى غاياته وما يتبناه. ويردُّ السيد الصدر إهمال بعض الفقهاء للنصوص الإِسلامية التي تتضمن الحد من سلطة المالك، إلى هذا السبب حيث لا تتفق هذه النصوص مع الأُطر الفكرية لأَولئك الفقهاء، تلك الأُطر التي تشع بتقديس الملكية الخاصة. وتأثَّر بعضهم بالأُطر التاريخية أيضاً حيث عمد إلى الاستدلال على تشريع الملكية الخاصة في الأَرض على الضرورة وكون الإنسان مدنياً بالطبع يلجأ إلى مسكن يأوي إليه. بينما لا يحمِّل آخرون أَنفسهم عناء البحث فيبادرون إلى فهم كلمة وردت في النص الشرعي كما هي ـ في العصور اللاحقة لعصر التشريع ـ دون الالتفات إلى تطور اللغة وتغير الاستخدام. بمعنى آخر عدم الالتفات إلى عمر الكلمة ـ كما يسميه السيد الصدر ـ فقد تحتفظ كلمة ما بمدلولها اللغوي، غير أنها لا تحتفظ كذلك بمدلولها السيكولوجي، حيث يتأثر هذا المدلول بمذاهب جديدة وحضارات ناشئة، فتقترن حينئذٍ بفكر خاص أو سلوك معين، فتكون مشروطة بذلك الفكر وذلك السلوك، ويغيب مدلولها اللغوي ليطغى مدلولها السيكولوجي الجديد. ولا أدلَّ على ذلك من كلمة (الاشتراكية) "" فقد اَشرطت هذه الكلمة خلال مذاهب اجتماعية حديثة عاشها الإِنسان المعاصر.. بكتلة من الأفكار والقيم والسلوك، وأصبحت هذه الكتلة تشكل إلى حد ما جزءً مهماً من مدلولها الاجتماعي اليوم، وإن لم تكن على الصعيد اللغوي المجرد تحمل شيئاً من هذه الكتلة فإذا جئنا إلى نصوص تشتمل على كلمة الاشتراكية، نواجه خطر الاستجابة للاشراط الاجتماعي في تلك الكلمات، وإعطائها المعنى الاجتماعي الذي عاشته بعيداً عن جو النص، بدلاً من إعطائها المعنى اللغوي الذي ترمز إليه""(51).

    [mark=ffcc00]ج ـ تجريد الدليل من ظروفه وشروطه [/mark]

    تجريد الدليل من ظروفه وشروطه ـ حسب رأي السيد الصدر ـ هو عملية تمديد للدليل دون مبرر موضوعي. وغالباً ما تتم هذه العملية في نوع خاص من الأدلة الشرعية، وهو ما يعرف فقهياً بـا(التقرير). وهو جزء من السُنة التي تعني: قول المعصوم وفعله وتقريره. والتقرير هو: سكوت المعصوم (النبي أو الإِمام) عن عمل معين يقع على مرآى منه ومسمع، سكوتاً يكشف عن سماحه به وجوازه في الإِسلام، إذ لو لم يكن المعصوم موافقاً على صدوره لتصدى للنهي والزجر عنه. والتقرير على قسمين:

    1 ـ تقرير خاص: ويتجلى في سكوت المعصوم عن فعل قام به فرد معين على مرأى ومسمع منه، فيكشف هذا السكوت عن جواز الفعل، وموافقة المعصوم عليه بالنسبة لهذا الفرد المعين، وغيره في الظروف والشروط ذاتها.

    2ـ تقرير عام: ويتمثل في سكوت النبي عن عمل عام يتكرر صدوره من الناس في حياتهم الاعتيادية. ويعتبر هذا السكوت دليلاً على جوازه والموافقة عليه.

    ويتوقف الاستدلال بهذا النوع الخاص من الأدلة الشرعية ـ أَعني التقرير ـ على عدة أمور:

    أولاً: يجب التأكد من وجود ذلك السلوك تاريخياً في عصر التشريع، وأَلاَّ يكون سلوكاً متأخراً زمنياً.
    ثانياً: التأكد من عدم صدور النهي من الشارع، ولا يكفي في المقام عدم العلم بصدوره، لتصور صدور النهي وعدم وصوله، فيلزم على الباحث الإِسلامي الفحص عن عدم صدور النهي والجزم بذلك.
    ثالثاً: يجب أخذ جميع الصفات والشروط الموضوعية المتوفرة في ذلك السلوك بعين الاعتبار، إذ يمكن أن يكون لبعض تلك الصفات والشروط أثر في السماح بذلك السلوك وعدم تحريمه.

    وتتخذ عملية تجريد الدليل الشرعي من ظروفه وشروطه ـ كما بينه السيد الصدر ـ شكلين:

    الأَول: فقد يعيش الباحث واقعاً عامراً بسلوك اقتصادي، ويحس وضوح هذا السلوك وأَصالته وعمقه إلى درجة يتناسى العوامل التي ساعدت على إِيجاده والظروف المؤقتة التي مهدت له، فيخيل له أَنَّ هذا السلوك أَصيل وممتد في التاريخ إلى عصر التشريع، فيستدل على جوازه وشرعيته، لعدم صدور نهي من الشارع عنه.

    الثاني: ويظهر في تجريد السلوك ـ الذي لا شبهة في معاصرته لعهد التشريع ـ من خصائصه والعوامل التي قد تكون دخيلة في السماح به، فيعمد الباحث إلى عزل السلوك عن هذه العناصر والعوامل المؤثرة وتعميمه على حالات يفترض خلوها من هذه العناصر والعوامل الداخلة في الحكم بالجواز وعدم النهي، كما لو اختص عدم النهي بحالة مرض أَو فقر أو غير ذلك من الخصوصيات.

    [mark=ffcc00]د ـ اتخاذ موقف مسبق تجاه النص: [/mark]

    ويقصد السيد الصدر باتخاذ موقف معين تجاه النص: الاتجاه النفسي للباحث الذي يترك الأَثر الكبير على عملية فهمه للنصوص. ويفترض السيد الصدر شخصين يمارسان دراسة النصوص، يتجه أحدهما نفسياً إلى اكتشاف الجانب الاجتماعي وما يتصل بالدولة من أحكام الإسلام ومفاهيمه، بينما ينجذب الآخر لاتجاه نفسي نحو الأَحكام التي تتصل بالسلوك الخاص بالأَفراد. فانهمَّا بالرغم من مباشرتهما نصوصاً واحدة، سوف يختلفان في المكاسب التي يخرجان بها من دراستهما لتلك النصوص، فيحصل كل منهما على مكاسب أكبر فيما يتصل باتجاهه النفسي وموقفه الخاص، وتنطمس أمام عينيه معالم الجانب الآخر الذي لم يتجه إليه نفسياً.

    ولا يقتصر - حسب رأي السيد الصدر - تأثير هذه المواقف النفسية المسبقة على إخفاء بعض معالم التشريع، بل تؤدي إلى التضليل في فهم النص الشرعي والخطأ في استنباط الحكم منه، ""والأمثلة على هذا من الفقه عديدة. وقد يكون نهي النبي عن (منع فضل الماء والكلأ..) أَوضح مثال من النصوص على مدى تأثر عملية الاستنباط من النص بالموقف النفسي للممارس.. وهذا النهي من النبي عن منع الماء والكلأ، يمكن أن يكون تعبيراً عن حكم شرعي عام، ثابت في كل زمان ومكان، كالنهي عن الميسر والخمر. كما يمكن أَيضاً أن يعبر عن إِجراء معين، اتخذه النبي بوصفه ولي الأَمر المسؤول عن رعاية مصالح المسلمين، في حدود ولايته وصلاحياته، فلا يكون حكماً شرعياً عاماً، بل يرتبط بظروفه ومصالحه التي يقدرها ولي الأَمر. وموضوعية البحث في هذا النص النبوي تفرض على الباحث استيعاب كلا هذين التقديرين، وتعيين أحدهما على ضوء صيغة النص وما يناظره من نصوص. وأما أولئك الذين يتخذون موقفاً نفسياً تجاه النص بصورة مسبقة، فهم يفترضون منذ البدء أن يجدوا في كل نص حكماً شرعياً عاماً، وينظرون دائماً إلى النبي من خلال النصوص بوصفه أداة لتبليغ الأحكام العامة، ويهملون دوره الإيجابي بوصفه ولي الأَمر، فيفسرون النص الآنف الذكر على أساس أنه حكم شرعي عام. وهذا الموقف الخاص في تفسير النص لم ينبع من النص نفسه، وإنما نتج عن إِعتياد ذهني على صورة خاصة عن النبي، وطريقة تفكير معينة فيه درج عليها الممارس، واعتاد خلالها أن ينظر إليه دائماً باعتباره مبلغاً، وانطمست أمام عينيه شخصيته الأخرى بوصفه حاكماً، وانطمست بالتالي ما تعبر به هذه الشخصية عن نفسها في النصوص المختلفة""(52).



    [mark=cccccc]ضرورة الذاتية أَحياناً[/mark]

    لمّا كانت عملية اكتشاف المذهب متوقفة على عملية الاجتهاد التي يمارسها الباحث في فهم النصوص الشرعية وتنسيقها والتوفيق بين مدلولاتها في إطراد واحد، لزم بالضرورة تعدد الصور التي يقدمها الباحثون الإسلاميون. وهي صور شرعية تصح نسبتها إلى الإسلام ـ كما تقدم ذكره ـ على سبيل الظن لا القطع، لإِمكان تصور الخطأ فيها، وابتعاد الباحث عن الواقع الإسلامي، وعدم تمكنه من إعطاء الصورة الصحيحة للمذهب الإسلامي.

    كل ذلك يعني تعدد الصور ـ التي يقدمها الباحثون ـ لمذهب اِقتصادي إسلامي واحد، إذ ليس من المنطقي أن نترقب اكتشاف أكثر من مذهب اقتصادي في الإِسلام، ولذلك ارتأى السيد الصدر ضرورة التمييز بين عملية الإِجتهاد على صعيد استنباط فقه الأَحكام، وبينها ـ أي عملية الاجتهاد ـ على صعيد فقه النظريات. ويبدو الفرق بينهما في صورة التناقض ـ التي تعترض الباحث ـ بين النصوص الشرعية، حيث يحتمل تفسيره بوجهين أحدهما: أن يرد الباحثُ التناقض المذكور إلى عدم صحة بعض النصوص التي اعتمدها، فأَدَّت إلى تنافر الأحكام المستنبطة بسبب دخول هذه النصوص التشريعية الغريبة في عملية إجتهاد الباحث. وثانيهما: أن يرد هذا التنافر، إلى عدم قدرته على التوفيق بين هذه النصوص التشريعية المتضاربة، والاهتداء إلى سرّ الوحدة بينهما.

    وعلى أَساس هذين التفسيرين يختلف موقف الباحث على صعيد فقه الأحكام، عن موقفه على صعيد فقه النظريات، فهو باعتباره مجتهداً يستنبط الأَحكام لا يمكنه أن يتخلى عن الأحكام التي أدى إليها اجتهاده، وإن كانت متنافرة، لاحتمال عدم قدرته على الاِهتداء إلى سرّ وحدتها والتوفيق بينها. أَما على صعيد فقه النظريات فالأَمر مختلف تبعاً لطبيعة العملية التي تحتم أن تكون الأَحكام التي اعتمدها الباحث منسجمة ومتسّعة لاِكتشاف الأُسس العامة للاِقتصاد الإِسلامي. فإذا ما وجد الباحث على هذا الصعيد تنافراً بين هذه النصوص يجب عليه بالضرورة إزالة هذه العناصر القلقة التي أنتجت هذا التناقض، واللجوء إلى اجتهاد الآخرين ليستبدلها بعناصر أكثر انسجاماً، فيكوِّن مجموعة ملفَّقة من اجتهادات عديدة يتوفر فيها الانسجام والوئام. وتبدو الذاتية في هذه الحالة ضرورية ولا مفرَّ منها، بل "" إنَّ ممارسة هذا المجال الذاتي، ومنح الممارس حقاً في هذا الاِختيار ضمن الإطار العام للاجتهاد في الشريعة.. قد يكون أحياناً شرطاً ضرورياً من الناحية الفنية لعملية الاِكتشاف""(53).

    إِيمان السيد الصدر هذا لم يكن لوناً من الترف والتكاسل عن تحمل أَعباء ومشاق الاِجتهاد في أحكام الشريعة، بل كان ذلك نتيجة تجربة شخصية عاشها وهو يخوض غمار البحث الفكري والفقهي للكشف عن المذهب الاِقتصادي في الإِسلام.

    [mark=cccccc]خداع الواقع التطبيقي[/mark]

    لقد تجسد المذهب الاقتصادي الإِسلامي في واقع العلاقات الاقتصادية التي كانت قائمة بين أَفراد المجتمع الإِسلامي إبان عصر النبوة وما تلاه، وهو ما يفترض ضرورة البحث عنه على هذا الصعيد التطبيقي، باعتباره مرآة تعكس ملامح الاقتصاد الإِسلامي وخصائصه.

    وهنا تنشأ المشكلة التي تواجه الباحث الإسلامي، فيكون لزاماً عليه حينئذٍ التمييز بين دراسته للمذهب الاِقتصادي في النصوص التشريعية، ودراسته له في إِطار الواقع التطبيقي، إذ أنَّ "" النصوص التشريعية للنظرية أَقدر على تصوير المذهب من الواقع التطبيقي، لأنَّ التطبيق نص تشريعي في ظرف معين قد لا يستطيع أن يعكس المضمون الضخم لذلك النص، ولا أن يصوِّر مغزاه الاجتماعي كاملاً، فيختلف إلهام التطبيق ومعطاه التصوري للنظرية عن المعطى الفكري للنصوص التشريعية نفسها. ومرد هذا الاختلاف إلى خداع التطبيق لحواس الممارس الاِكتشافية، نتيجة لاِرتباط التطبيق بظروف موضوعية خاصة""(54).

    ويقدم السيد الصدر أمثلة على خداع الواقع التطبيقي، وضرورة الحذر والحيطة، وتجنب الانزلاق في متاهات هذا الواقع المخادع. ومن هذه الأمثلة: ما يستشعره الباحث من حرية اقتصادية كان يتمتع بها إنسان عصر التشريع، حيث لا قيود تحد حريته وتكبل نشاطه الفكري، فهو حر في عملية استغلال ثروات الطبيعة ومعادنها وخيراتها، وهو ما يوحي إلى البعض بالطابع الرأسمالي. ولو اكتفى الباحث بالتعويل على دراسة هذا الواقع دون الرجوع إلى النصوص الشرعية لانطلى عليه خداعه، بيد أنه قادر على التخلص منه بالعودة إلى النصوص الشرعية التي تعبِّر بتفوق وجدارة عن خصائص الاقتصاد الإسلامي وملامحه، حيث تمنع هذه النصوص عن تملك مصادر الثروات الطبيعية، واستغلالها بما يزيد عن حاجة المنتفع، وشرط أن يباشر الفرد استغلالها بنفسه. وبذلك ينكشف له زيف الواقع التطبيقي وخداعه، وتظهر المفارقة بين النظرية والتطبيق، والتي يرجع سببها إلى ""الظروف التي كان إِنسان عصر التطبيق يعيشها، ونوع الإِمكانات التي يملكها، فان المضمون اللارأسمالي للنظرية في الاقتصاد الإسلامي، كان مختفياً في مجال التطبيق إلى حد ما، بقدر ما كانت إِمكانات الإِنسان وقدرته على الطبيعة ضئيلة، ويبرز المضمون اللارأسمالي باطراد، ويتضح في مجال التطبيق الأَمين للإسلام، بقدر ما ترتفع تلك الإِمكانات وتتسع تلك القدرة""(55).

    [mark=cccccc]صفات الاِقتصاد الإِسلامي [/mark]

    للاِقتصاد الإسلامي صفتان أساسيتان، تبدوان في غاياته، ووسائله لتحقيقها

    وهما: الواقعية والأَخلاقية.

    أَما الواقعية فهو:

    "" اِقتصاد واقعي في غاياته لأنه يستهدف في أنظمته وقوانينه الغايات التي تنسجم مع واقع الإنسانية، بطبيعتها ونوازعها وخصائصها العامة، ويحاول دائماً أن لا يرهق الإِنسانية في حسابه التشريعي، ولا يحلِّق بها في أَجواء خيالية عالية فوق طاقاتها وإِمكاناتها… وإِنما يقيم مخططه الاِقتصادي دائماً على أساس النظرة الواقعية للإِنسان، ويتوخى الغايات الواقعية التي تتفق مع تلك النظرة""(56). فيسعى إلى تحقيق العدالة الاجتماعية، وحماية الإِنسان من ألوان الفقر والفاقة، بل ويسعى إلى خلق الظروف المناسبة لحياته وضمان كرامته وإنسانيته، وبذلك يتميز عن النظام الرأسمالي الذي يزعم وجود قانون طبيعي ـ وتلقائي ـ وراء تحريك الحياة الاِقتصادية، ليبرر ألوان الجشع والاِستغلال، ويضفي المشروعية على هذه الأَوضاع الفاسدة. وكذلك يختلف عن النظام الشيوعي الذي يغرق الإنسان في رومانسيته وخيالاته اللامحدودة، وهو يبشره بخلق ذلك المجتمع المعصوم، وتلك الحياة الإِنسانية الرفيعة والفردوس الأَرضي.

    هذا على صعيد الغايات والأَهداف، أما في طريقته فهو واقعي أيضاً "" فكما يستهدف غايات واقعية ممكنة التحقق، كذلك يضمن تحقيق هذه الغايات ضماناً واقعياً مادياً، ولا يكتفي بضمان النصح والتوجيه، التي يقدمها الوعاظ والمرشدون، لأنه يريد أن يُخرج تلك الأَهداف إلى حيز التنفيذ، فلا يقنع بإِيكالها إلى رحمة الصدف والتقادير. فحين يستهدف مثلاً إيجاد التكافل العام في المجتمع، لا يتوسل إليه بأساليب التوجيه واستثارة العواطف بحسب، وإنما يسنده بضمان تشريعي، يجعله ضروري التحقيق على كل حال""(57).

    والصفة الثانية للاقتصاد الإسلامي هي الصفة الأَخلاقية والتي بدورها تشع ليس فقط في غاياته فحسب، بل في طريقته أيضاً.

    والصفة الأَخلاقية "" تعني ـ من ناحية الغاية ـ أنَّ الإسلام لا يستمد غاياته التي يسعى إلى تحقيقها في حياة المجتمع الاقتصادية، من ظروف مادية وشروط طبيعية مستقلة عن الإنسان نفسه، كما تستوحي الماركسية غاياتها من وضع القوى المنتجة وظروفها.. وإنما ينظر إلى تلك الغايات بوصفها معبرة عن قيم عملية ضرورية التحقيق من ناحية خلقية. فحين يقرر ضمان حياة العامل مثلاً، لا يؤمن بأنَّ هذا الضمان الاجتماعي الذي وضعه، نابع من الظروف المادية للإنتاج مثلاً، وإنما يعتبره ممثلاً لقيمة عملية يجب تحقيقها""(58).

    وتتجلى الصفة الأَخلاقية ـ من ناحية الطريقة ـ في إيمان الإسلام بضرورة خلق شروط نفسية وذاتية في عملية تحقيق غايات الاقتصاد الإِسلامي وأَهدافه، ولذلك فإنَّ ""الإسلام يهتم بالعامل النفسي، خلال الطريقة التي يضعها لتحقيق أَهدافه وغاياته. فهو في الطريقة التي يصنعها لذلك، لا يهتم بالجانب الموضوعي فحسب ـ وهو أن تتحقق تلك الغايات ـ وإنما يعنى بوجه خاص بمزج العامل النفسي والذاتي بالطريقة التي تحقق تلك الغايات""(59)، ولذلك لا يكتفي الإسلام بأخذ المال من الغني لحساب الفقير، وإنما يتصدى لخلق الدافع الخلقي وعامل الخير في نفس الغني نفسه، ويجعل من هذه العملية عبادة شرعية لا تختلف عن العبادات الأخرى ـ من ناحية مفهوم العبادة والتقرب لله تعالى ـ مما يؤدي إلى تخفيف ظاهرة التهرب من دفع الضرائب وأَداء التكاليف المالية.

    [mark=cccccc]الاقتصاد الإِسلامي جزءٌ من كل[/mark]

    يعبّر الاِقتصاد الإِسلامي عن رؤية إسلامية، لتنظيم الحياة الاِقتصادية، لا تنفصل عن مجموع الرؤى الإِسلامية المتعددة التي تنظم المجالات الأخرى من حياة الإِنسان. وتمثل هذه الرؤى بمجموعها الصيغة الإِسلامية العامة التي تهدف إلى تنظيم شتى نواحي الحياة الإنسانية، فهي متجانسة ومتسقة، ويكمل بعضها البعض الآخر، ويعتبر تعطيل أي جزء من هذه الصيغة العامة وعزله عن مسرح الحياة، محاولة لاغتيال فرص النجاح في عمل الصيغ الإِسلامية الأخرى، وإعاقة لعملها، ومنعها من أنْ تؤتي ثمارها ومردودها المنتظر. وانطلاقاً من هذه الحقيقة نبّه السيد الصدر على الدور المهم الذي تلعبه الصيغ العامة للمذاهب الاجتماعية في تقدير مخططاتها الاقتصادية، ولذلك اعتبر من الخطأ بمكان أن لا نعير الصيغة الإسلامية العامة الاهتمام، وأن لا ندخل في الحساب طبيعة العلاقة بين الاقتصاد وسائر أَجزاء المذهب، والتأثير المتبادل بينها في كيانه العضوي العام(60).

    الصيغة الإسلامية العامة هي الأخرى لا تنفصل عن أَرضيتها الخاصة التي أُعدت لها، وهيأت لها كل عناصر البقاء والقوة. وإذا كانت الصيغة العامة هي عبارة عن مجموع الصيغ الاجتماعية والاقتصادية والسياسية للإسلام، فإنَّ الأَرضية المعدَّة لهذه الصيغ ـ كما يحددها السيد الصدر ـ هي عبارة عن العناصر التالية:

    أولاً: العقيدة، وهي القاعدة المركزية في التفكير الإسلامي، التي تحدد نظرة المسلم الرئيسية إلى الكون بصورة عامة.

    ثانياً: المفاهيم التي تعكس وجهة نظر الإسلام في تفسير الأشياء، على ضوء النظرة العامة التي تبلورها العقيدة.

    ثالثاً: العواطف والأَحاسيس التي يتبنى الإسلام بثها وتنميتها، إلى صف تلك المفاهيم، لأنَّ المفهوم ـ بصفته فكرة إسلامية عن واقع معين ـ يفجر في نفس المسلم شعوراً خاصاً تجاه ذلك الواقع، ويحدد اتجاهه العاطفي نحوه. فالعواطف الإسلامية وليدة المفاهيم الإسلامية، وهي بدورها موضوعة في ضوء العقيدة الإسلامية.

    هذه العلاقة، والتأثير المتبادل بين الأَرضية والصيغة الإسلامية العامة، ثم الترابط الصارم بين عناصر هذه الصيغة، يمثل الشرط الأَساس في نجاح المذهب الاِجتماعي الإسلامي، إذ "" عندما يستكمل المجتمع الإسلامي تربته وصيغته العامة، عندئذٍ فقط نستطيع أن نترقب من الاِقتصاد الإسلامي. أن يقوم برسالته الفذة في الحياة الاِقتصادية، وأن يضمن للمجتمع أسباب السعادة والرفاه، وأن نقطف منه أعظم الثمار""(61). ويبدو إعمال جزء من الصيغة الإسلامية العامة وإطلاق سراحه في عملية بناء المجتمع الإسلامي، والحجر على أجزاء أخرى مكوّنة لهذه الصيغة العامة، ليس حجراً لهذه الأجزاء فحسب بقدر ما تمثله هذه العملية من تكبيل لهذا الجزء (المطلق السراح) وهو يدور في حلقة مفرغة، تشل عمله وتزيف نتائجه.

    وذلك لأن "" الإسلام اشترع نهجه الخاص به، وجعل منه الأَداة الكاملة لإسعاد البشرية على أن يطبق هذا النهج الإسلامي العظيم في بيئة إسلامية، قد صبغت على أَساس الإسلام في وجودها وأفكارها وكيانها كله، وأن يطبق كاملاً غير منقوص يشد بعضه بعضاً. فعزل كل جزء من النهج الإسلامي عن بيئته ـ وعن سائر الأجزاء ـ معناه عزله عن شروطه التي يتاح له في ظلها تحقيق هدفه الأَسمى""(62).

    بيد أن ذلك لا يعني ـ بالطبع ـ الامتناع عن الأَخذ بالحلول الإسلامية ـ ولو جزئياً ـ لحل مشكلات الإنسان، بقدر ما يؤكد على الترابط العضوي لأجزاء الصيغة الإسلامية العامة، وضرورة الحفاظ على هذه العلاقة، لضمان نتائج طيبة، ومردود أَفضل، وسريع، وهو ما لا يمكن ترقبه في حالات التطبيق الجزئي لهذه الصيغ المترابطة، حيث يؤدي بالتأكيد إلى ضمور نتائج، واختفاء مردود أكبر.
    [/align]





  4. #4
    تاريخ التسجيل
    Feb 2003
    المشاركات
    29,593

    افتراضي

    [align=justify][mark=cccccc]الهيكل العام للاقتصاد الإِسلامي[/mark]
    يحدد السيد الصدر أَركان رئيسية ثلاثة للاقتصاد الإسلامي، تحدد محتواه المذهبي وتميزه عن المذاهب الاقتصادية الأخرى وهي:

    الركن الأول: مبدأ الملكية المزدوجة.

    الركن الثاني: مبدأ الحرية الاقتصادية في نطاق محدود.

    الركن الثالث: مبدأ العدالة الاجتماعية.

    الركن الأول: مبدأ الملكية المزدوجة

    من الأَركان الرئيسية التي يرتكز عليها المذهب الرأسمالي هو مبدأ الملكية الخاصة، وامتداد حق تملك الفرد إلى كل مجالات وميادين الثروة، وعليه "" فالمجتمع الرأسمالي يؤمن بالشكل الخاص الفردي للملكية، أي الملكية الخاصة، كقاعدة عامة، فهو يسمح للأفراد بالملكية الخاصة لمختلف أنواع الثروة في البلاد تبعاً لنشاطاتهم وظروفهم، ولا يعترف بالملكية العامة إلاّ حين تفرض الضرورة الاجتماعية وتبرهن التجربة على وجوب تأميم هذا المرفق أو ذاك، فتكون هذه الضرورة حالة استثنائية، يضطر المجتمع الرأسمالي ـ على أساسها ـ إلى الخروج عن مبدأ الملكية الخاصة، واستثناء مرفق أو ثروة معينة من مجالها""(63). ويختلف الحال في ظل المذهب الاشتراكي فتبدو الملكية الخاصة بركان الشر، ومصدر التناقضات الطبقية، يجب القضاء عليها، وإزالتها لتخليص المجتمع من شرورها وآثامها، ولتبقى ""الملكية الاشتراكية فيه هي المبدأ العام الذي يطبق على كل أَنواع الثروة في البلاد. وليست الملكية الخاصة لبعض الثروات في نظره إلا شذوذاً واستثناءً، قد يعترف به أَحياناً بحكم ضرورة اجتماعية قاهرة""(64).

    لقد رفض النظام الاشتراكي الملكية الخاصة، لأنها ولاّدة لألوان الفقر والحاجة والفاقة والتسكع، وتشجع الرأسماليين وتضطرهم إلى ممارسة الاِستعمار، لامتلاك أسواق وخيرات جديدة في الخارج، بعد أن تضيق بهم أَسواقهم الداخلية وخيراتهم عن تلبية رغباتهم وتحقيق طموحاتهم.

    يقول السيد تفنيداً لهذه المزاعم: "" إِنَّ مبدأ الملكية الخاصة ليس هو الذي نشأت عنه آثام الرأسمالية المطلقة، التي زعزعت سعادة العالم وهناءه، فلا هو الذي يفرض تعطيل الملايين من العمال في سبيل استثمار آلة جديدة تقضي على صناعاتهم، كما حدث في فجر الانقلاب الصناعي، ولا هو الذي يفرض التحكم في أجور الأجير وجهوده بلا حساب، ولا هو الذي يفرض على الرأسمالي أن يتلف كميات كبيرة من منتوجاته، تحفظاً على ثمن السلعة وتفضيلاً للتبذير على توفير حاجات الفقراء بها، ولا هو الذي يدعوه إلى جعل ثروته رأس مال كاسب يضاعفه بالربا، وامتصاص جهود المدينين بلا إنتاج ولا عمل، ولا هو الذي يدفعه إلى شراء جميع البضائع الاستهلاكية من الأسواق ليحتكرها ويرفع بذلك من أَثمانها، ولا هو الذي يفرض عليه فتح أَسواق جديدة، وإن انتهكت بذلك حريات الأمم وحقوقها وضاعت كرامتها وحريتها.. كل هذه المآسي المروعة لم تنشأ من الملكية الخاصة، وإنما هي وليدة المصلحة المادية الشخصية التي جعلت مقياساً للحياة في النظام الرأسمالي، والمبرر المطلق لجميع التصرفات والمعاملات. فالمجتمع حين تقام أسسه على هذا المقياس الفردي والمبرر الذاتي لا يمكن أن ينتظر منه غير ما وقع، فإنَّ من طبيعة هذا المقياس تنبثق تلك اللعنات والويلات على الإنسانية كلها، لا من مبدأ الملكية الخاصة. فلو أُبدل المقياس ووضعت للحياة غاية جديدة مهذبة تنسجم مع طبيعة الإنسان.. لتحقق بذلك العلاج الحقيقي للمشكلة الإنسانية الكبرى""(65).

    إذن ليست الملكية الخاصة ـ كما توهمتها الماركسية ـ مصدراً لهذه الآثام وكل هذه الجرائم، إذ أن "" الحاجة والفاقة وألوان الفقر والتسكع لم تنشأ عن السماح بالملكية الخاصة لوسيلة الإنتاج، وإنما نشأت عن الإطار الرأسمالي لهذه الملكية""(66). الإِطار الذي يأذن للإنسان أن يبتلع أَخاه الإنسان، ويسمح له بتدميره، وباستعاضة هذا الإطار بإطار آخر ينظم حقوق الفرد والمجتمع، على أساس العدل والمساواة، تسترجع الملكية الخاصة عافيتها، وتنفض عن نفسها أَدران النظام الرأسمالي وموبقاته. وأَما ظاهرة الاستعمار التي يخيل للماركسيين أنها نشأت من رحم الملكية الخاصة، حين عجزت الخيرات والأَسواق الداخلية عن تمشية مصالح الطبقة الرأسمالية، فهي لم تنشأ من رحمها (الملكية الخاصة) وإنما هي التعبير العملي للمقاييس المادية التي خلقها الإطار الرأسمالي نفسه. وهو ما يفسر نشوء هذه الظاهرة متزامناً مع بداية الرأسمالية ووجودها التاريخي في المجتمعات الأُوربية. وما تدعيه الماركسية من أنها (ظاهرة الاستعمار) المرحلة العليا للرأسمالية، وهمٌ يكذبه الواقع التاريخي حيث سارعت الدول الأوربية في ظل الرأسمالية إلى اقتسام الدول الضعيفة، ولم تنتظر بلوغها تلك المرحلة العليا المزعومة(67).

    إنَّ إلغاء الملكية الخاصة واستبدالها بالملكية العامة فحسب لا يحل المشكلة ولا يخلص المجتمع من الفقر والفاقة، ولا ينجيه من سيطرة طبقة معينة على رقاب أبناء المجتمع. فالنظام الاشتراكي وإن صادر ملكيات الطبقة الرأسمالية، لا يقطع الطريق على نشوء طبقة أخرى تتمتع بمزايا الطبقة الرأسمالية ذاتها، بل تكرس الطبقية والاستغلال بحكم القانون وبالقيم الماركسية نفسها، وبأبشع صورها وأَقسى درجاتها، حيث تقرر دكتاتورية البروليتاريا ممثلة بالحزب الشيوعي، حزبها الطليعي الذي يمسك بالأمور وبمنتهى الصرامة وأَشدها، وبأعلى درجات الإدارة المركزية. فالواقع لم يتغير حيث أن ""الثروة التي تسيطر عليها الفئة الرأسمالية في ظل الاقتصاد المطلق والحريات الفردية، وتتصرف فيها بعقليتها المادية، تسلم ـ عند تأميم الدولة لجميع الثروات وإلغاء الملكية الخاصة ـ إلى نفس جهاز الدولة، المكون من جماعة تسيطر عليهم نفس المفاهيم المادية عن الحياة، والتي تفرض عليهم تقديم المصالح الشخصية بحكم غريزة حب الذات، وهي تأبى أن يتنازل الإنسان عن لذة ومصلحة بلا عوض. وما دامت المصلحة المادية هي القوة المسيطرة، بحكم مفاهيم الحياة المادية، فسوف تستأنف من جديد ميادين للصراع والتنافس، وسوف يعرض المجتمع لأشكال من الخطر والاستغلال""(68). فالمذهب الماركسي والرأسمالي متحدان في الفشل وللسبب ذاته، ألا وهو النظرة المادية والنزعة الفردية التي يحملها كلا المذهبين، ويفتحان الطريق واسعاً لنشوء الصراع والتنافس ويعرضان المجتمع لأشكال من الخطر والاستغلال وإن اختلفت صورهما وأشكالهما في كل من المذهبين تبعاً لطبيعتهما المختلفة من نواح أخرى.

    لقد اختفت النزعة الفردية من المذهب الماركسي وراء شعارات براقة إدعت حماية المجتمع وذوبان الفرد في كيانه، فشاع بين الكثيرين نعت المذهب الرأسمالي بالطابع الفردي، بينما اعتبر المذهب الماركسي اجتماعياً يفني الفرد في المجتمع.

    شهادة البراءة التي منحت المذهب الماركسي لا أساس لها من الصحة، ويأباها الواقع، إذ "" الواقع: أن كلا المذهبين يرتكز على نظرة فردية، ويعتمد على الدوافع الذاتية والأنانية، فالرأسمالية تحترم في الفرد السعيد الحظ أنانيته، فتضمن له حرية الاستغلال والنشاط في مختلف الميادين، مستهترة بما سوف يصيب الآخرين من حيف وظلم نتيجة لتلك الحرية التي أَطلقها لذلك الفرد ما دام الآخرون يتمتعون بالحرية مبدئياً، كما يتمتع بها الفرد المستغل. وبينما توفر الرأسمالية للمحظوظين إِشباع دوافعهم الذاتية، وتنمي نزعتهم الفردية.. تتجه الماركسية إلى غيرهم من الأَفراد الذين لم تتهيأ لهم تلك الفرص، فتركز دعوتها المذهبية على أساس إثارة الدوافع الذاتية والأنانية فيهم، والتأكيد على ضرورة إِشباعها. وتسعى بمختلف الأساليب إلى تنمية هذه الدوافع، بوصفها القوة التي يستخدمها التاريخ في تطوير نفسه، حتى تتمكن من تفجيرها تفجيراً ثورياً. وتشرح لأولئك الذين تتصل بهم: أن الآخرين يسرقون جهودهم وثروتهم، فلا يمكن لهم أن يقروا هذه السرقة، لأنها اعتداء صارخ على كيانهم الخاص""(69).

    المذهب الماركسي لا يلغي الصراع الطبقي، بل يخلق صراعاً من نوع آخر لا يقل ضراوة وفتكاً ـ على أقل تقدير ـ عن الصراع الطبقي في ظل الرأسمالية، وإن اختلفت خصائصه وتنوعت صوره. فهو صراع اقتصادي يرتدي الزي السياسي، ويتجلى في عمليات التطهير المعتادة في تاريخ الأنظمة الاشتراكية صراعاً على السلطة والنفوذ، وخير شاهد على ذلك ما آلت إليه الأَوضاع هناك في الأيام الأخيرة وما انتهت إليه من سقوط هذه الأنظمة.

    إِنَّ إلغاء الملكية الخاصة وتأميمها لتصبح ملكاً لجميع أفراد المجتمع تبقى عملية شكلية، ويبقى حظ المجتمع في تملكه لهذه الملكيات حظاً قانونياً فحسب، إذ تستلم الطبقة الحاكمة هذه الملكيات وتفرض سيطرتها المطلقة في ظل مفاهيم دكتاتورية البروليتاريا، والتناقض الطبقي، والعنف الثوري.. ، وبذلك يهيئ المذهب الماركسي لهذه الطبقة الحاكمة فرصاً من التسلط أكبر من تلك التي هيأتها الرأسمالية، حيث تتم كل وسائل القهر والاستغلال والاستبداد تحت مظلة الشرعية وتمثيل الطبقة الكادحة.

    مما تقدم يبدو أن الملكية الخاصة هي المبدأ العام في المجتمع الرأسمالي وما سواه يبقى استثناء، بينما الملكية العامة هي المبدأ في المجتمع الاشتراكي وما سواها استثناء. أما المذهب الاقتصادي الإسلامي فلا تمثل الملكية الخاصة المبدأ العام، ولا الملكية العامة بدورها تمثل المبدأ، وليست إحداهما أصلاً والأخرى إستثناءً، بل يكوّن كل منهما القاعدة والأَصل والمبدأ. فالإسلام "" يؤمن بالملكية الخاصة، والملكية العامة، وملكية الدولة، ويخصص لكل واحد من هذه الأشكال الثلاثة للملكية حقلاً خاصاً تعمل فيه، ولا يعتبر شيئاً منها شذوذاً واستثناءً، أو علاجاً مؤقتاً اقتضته الظروف""(70)، على خلاف النظم الاِقتصادية الأخرى إذ ""تعيش بعيداً عن مبادئها الأَساسية التي قامت عليها. فالرأسمالية على سبيل المثال انحرفت عن مبادئ المذهب الحر، إذ سمحت بتدخل الدولة في الحياة الاقتصادية وظهور القطاع العام فيها. والنظام الاشتراكي أَيضاً اضطر إلى التراجع عن كثير من مبادئه، فبدأ يسمح ـ على نطاق ضيق(*) ـ بالملكية الخاصة ونظام الأَسعار وذلك لافتقار اقتصاده إلى الحافز المادي الفردي (الربح) ولعجزه عن توفير المتطلبات الأَساسية (كالغذاء في الاتحاد السوفياتي) وأخيراً بتأخر قطاعه الصناعي والتقني عن مثيله في الدول الرأسمالية""(71). وبقدر ما يوحي هذا التراجع بفشل هذه الأَنظمة، يدل على صحة الموقف الإسلامي وتوازنه وانسجامه مع الطبيعة البشرية.

    [mark=6699ff]الركن الثاني: مبدأ الحرية في نطاق محدود[/mark]

    يرتكز المذهب الرأسمالي على مبدأ حرية الإنسان المطلقة في المجال الاقتصادي، باعتبارها وسيلة لتحقيق المصالح العامة، ولدورها الفعّال في تنمية الإنتاج وتفجير الطاقات والإمكانات وتجنيدها للإنتاج العام. مضافاً إلى كونها حقاً إِنسانياً أَصيلاً وتعبيراً عملياً عن الكرامة البشرية. وبذلك يرتقي مفهوم الحرية من مجرد أَداة للرفاه الاجتماعي أو تنمية الإنتاج، إلى تحقيق إنسانية الإنسان ووجوده الطبيعي الصحيح(72).
    وفي الوقت الذي يسرف فيه النظام الرأسمالي بإضفاء الطابع الإنساني والقانوني والاقتصادي على هذه الحرية، يعمد المذهب الاشتراكي إلى العكس من ذلك تماماً، فيلجأ إلى مصادرة الحريات ويخضع النشاط الاقتصادي إلى إشراف ورقابة صارمتين، ومركزية شرسة تحوِّل بها النشاط الاقتصادي من عملية إنسانية حيوية إلى عملية آلية خالية من أي مضمون إنساني.

    أما الاقتصاد الإسلامي فيتميز بموقف متوازن كما هو المألوف في معالجاته للمشاكل الإنسانية، بما يتفق مع الفطرة والطبيعة الإنسانية، فيسمح للأفراد بممارسة حرياتهم ضمن نطاق القيم والمثل التي تهذب الحرية وتصقلها، ويجعل منها أداة خير للإنسانية كلها.

    والتحديد الإسلامي للحرية الاجتماعية في الحقل الاقتصادي على قسمين:

    الأَول: التحديد الذاتي الذي ينبع من أَعماق النفس، ويستمد قوته ورصيده من المحتوى الروحي والفكري للشخصية الإسلامية. وهو ""يتكون طبيعياً في ظل التربية الخاصة التي يُنشئ الإسلام عليها الفرد في المجتمع الذي يتحكم الإسلام في كل مرافق حياته (المجتمع الإسلامي). فإنَّ للإِطارت الفكرية والروحية التي يصوغ الإسلام الشخصية الإسلامية ضمنها، حين يعطي فرصة مباشرة واقع الحياة وصنع التاريخ على أساسه.. إن لتلك الإطارات قوتها المعنوية الهائلة وتأثيرها الكبير في التحديد ذاتياً وطبيعياً من الحرية الممنوحة لأفراد المجتمع الإسلامي وتوجيهها توجيهاً مهذباً صالحاً، دون أن يشعر الأفراد بسلب شيء من حريتهم، لأن التحديد نبع من واقعهم الروحي والفكري، فلا يجدون فيه حداً لحرياتهم، ولذلك لم يكن التحديد الذاتي تحديداً للحرية في الحقيقة، وإنما هو عملية إنشاء للمحتوى الداخلي للإنسان الحر، إنشاءاً معنوياً صالحاً، حيث تؤدي الحرية في ظله رسالتها الصحيحة""(73).

    الثاني: التحديد الموضوعي الذي يعبر عن قوة خارجية، تحد السلوك الاجتماعي وتضبطه. فقد لا تأخذ التربية الإسلامية في نفوس البعض مفعولها، ولا تجد طريقاً في ضمائرهم ووجدانهم، فتتكفل عندئذٍ القوة الخارجية بإرغامهم لاحترام القانون الإسلامي والإِذعان له. ويرى السيد الصدر أنَّ التحديد الموضوعي هذا تمَّ تنفيذه بطريقتين(74):

    الأولى: حيث كفلت الشريعة في مصادرها العامة، النص على المنع عن مجموعة من النشاطات الاقتصادية والاجتماعية، المعيقة في نظر الإسلام تحقيق المثل والقيم التي يتبناها الإسلام، كالربا والاحتكار وغير ذلك.

    الثانية: وضعت الشريعة مبدأ إشراف ولي الأمر على النشاط العام، وتدخل الدولة لحماية المصالح العامة وحراستها، بالتحديد من حريات الأفراد فيما يمارسون من أعمال. وقد كان وضع الإسلام لهذا المبدأ ضرورياً لكي يضمن تحقيق مثله ومفاهيمه في العدالة الاجتماعية على مر الزمن. فإنَّ متطلبات العدالة الاجتماعية التي يدعو إليها الإسلام، تختلف باختلاف الظروف الاقتصادية للمجتمع، والأوضاع المادية التي تكتنفه، فقد يكون القيام بعمل مضراً بالمجتمع وكيانه الضروري، في زمان دون زمان، فلا يمكن تفصيل ذلك في صيغ دستورية ثابتة وإنما السبيل الوحيد هو فسح المجال لولي الأمر، ليمارس وظيفته بصفة سلطة مراقبة وموجهة، ومحدّدة لحريات الأَفراد فيما يفعلون أو يتركون من الأمور المباحة في الشرع، وفقاً للمثل الإسلامية في المجتمع.

    [mark=6699ff]الركن الثالث: مبدأ العدالة الاجتماعية[/mark]

    يقول السيد الصدر: "" إنَّ الإسلام حين أدرج العدالة الاجتماعية ضمن المبادئ الأساسية التي يتكون منها مذهبه الاقتصادي لم يتبن العدالة الاجتماعية بمفهومها التجريدي العام، ولم يناد بشكل مفتوح لكل تفسير، ولا أَوكله إلى المجتمعات الإنسانية التي تختلف في نظرتها للعدالة الاجتماعية، باختلاف أَفكارها الحضارية ومفاهيمها عن الحياة… وإنما حدَّد الإسلام هذا المفهوم وبلوره، في مخطط اجتماعي معين، واستطاع - بعد ذلك - أن يجسد هذا التعميم في واقع اجتماعي حي، تنبض جميع شرايينه وأوردته بالمفهوم الإسلامي للعدالة""(75). وتتجسد هذه العدالة في مجموع العناصر والضمانات التي زود بها نظام توزيع الثروة الإسلامي بما يتكفل قدرته على تحقيق هذه العدالة. ولم يتبّن الإسلام العدالة الاجتماعية شعاراً فحسب، بل وضع تصوراته التفصيلية لهذه العدالة، وأقام مدلولها الإسلامي الخاص المميز. والصورة الإسلامية لهذه العدالة ـ كما يعتقد السيد الصدر ـ تحتوي على مبدأين عامين(76) لكل منهما خطوطه وتفصيلاته:

    أحدهما: مبدأ التكافل العام:

    وهو "" المبدأ الذي يفرض فيه الإسلام على المسلمين كفاية، كفالة بعضهم لبعض، ويجعل من هذه الكفالة فريضة على كل مسلم في حدود ظروفه وإمكاناته، يجب عليه أن يؤديها على أي حال، كما يؤدي سائر فرائضه""(77).

    وثانيهما: مبدأ التوازن الاجتماعي: وهو مسؤولية الدولة في إيجاد حالة التوازن بين أفراد المجتمع في مستوى المعيشة(78).

    وسيأتي بحث كل من هذين المبدأين بشيء من التفصيل في فصل (مسؤوليات الدولة الاقتصادية) في الاقتصاد الإسلامي.


    [mark=cccccc]المشكلة الاقتصادية[/mark]

    لماذا يقضي الملايين من البشر نحبهم جوعاً؟ لماذا يعرى الملايين هؤلاء، ويعجز العالم عن تأمين ما يستر أَجسادهم ويسدَّ رمقهم؟ لماذا يعجز الإنسان عن تأمين لقمة عيش كريمة له ولعائلته، بينما يعيش الآخرون من بني جنسه في وحل الترف والإسراف؟ تلك هي المشكلة، فما هو سببها، وما الحيلة لتفادي مخاطرها؟
    تعتقد الرأسمالية أن السبب الرئيس لهذه المشكلة هو قلة الموارد الطبيعية نسبياً. فهي محدودة حيث لا يمكن أن يزاد في كمية الأرض التي يعيش عليها الإنسان، ولا في كمية الثروات المخبوءة فيها، مع نمو حاجات الإنسان وازديادها باطراد، وفقاً لتطور المدنية وازدهارها. الأمر الذي يجعل الطبيعة عاجزة عن تلبية جميع تلك الحاجات إلى الأفراد كافة، فيؤدي ذلك إلى التزاحم بين الأفراد على إشباع حاجاتهم وتنشأ عن ذلك المشكلة الاقتصادية.

    والماركسية تردّ المشكلة إلى التناقض بين شكل الإنتاج وعلاقات التوزيع، فمتى تم الوفاق بين ذلك الشكل وهذه العلاقات ساد الاستقرار في الحياة الاقتصادية، مهما كانت نوعية النظام الاجتماعي الناتج عن التوفيق بين شكل الإنتاج وعلاقات التوزيع.

    أَما النظام الإسلامي، فكيف ينظر إلى المشكلة وما هو الحل المقترح إسلامياً؟ لقد اختلف الباحثون الإسلاميون في تصوير المشكلة وكيفية حلها، تبعاً لتصوراتهم المختلفة لها. ويتجلى هذا الاختلاف في اتجاهات عدة:

    الاتجاه الأول: ما ذهب إليه الدكتور عبد المنعم عفر فإنه بعد أن عرَّف المشكلة الاقتصادية في الفكر الرأسمالي بأنها: "" ندرة الموارد المتاحة بالنسبة للحاجات الإنسانية""(79) قال: "" لا ينكر الإسلام تعدد الحاجات وتطورها وتجددها، وكذلك فإنه لا يعترض على محدودية الموارد الاقتصادية بالتعريف السالف الذكر، إلاّ أنه ينظر إلى المشكلة على أنها قصور في الوسائل المتاحة للإنسان عن تسخير الموارد الممكن له استخدامها والإفادة منها في إشباع حاجاته وتطوير طاقاته، علاوة على كسل الإنسان وتجاوزه الحد في تقدير حاجاته""(80). وبعد أن يأتي على ذكر الآيات القرآنية الكريمة بصدد تسخير ما في الكون للإنسان، يقول: "" إنَّ تسخير الكون كله للناس لا يعني حصولهم على كل ما فيه بلا عمل، بل ربطت ـ أي الآيات ـ بين التسخير والدعوة إلى التفكير والبحث والاطلاع. وهي في هذا ترشد الناس أن يستخدموا الأسلوب العلمي في المشاهدة والملاحظة والتجربة والبحث عن الظواهر المختلفة واستنباط القوانين الطبيعية للإفادة مما خلق الله لهم، وأنه لو شاء لهم لبسط الرزق بلا عناء. ولكن ذلك سيكون مدعاة للترف والكسل والبغي في الأرض بغير حق، ولذلك جعل للإنسان من الرزق ما يناسب جهده""(81). فالدكتور عفر يعتقد باعتراف الإسلام بمحدودية الموارد وندرتها، ولكنه يرجح المشكلة أيضاً إلى قصور الوسائل المتاحة لتسخير الطبيعة علاوة على عجز الإنسان وكسله. وقد جاء في كتاب (أصول الاقتصاد الإسلامي): "" إن المشكلة ليست مشكلة موارد من البداية، لا من الناحية الواقعية ولا من البيان القرآني، إنما هي مسألة جهد لابد أن يبذل ليبلونا الله أيّنا أحسن عملاً""(82). والكتاب من تأليف الدكتور عفر بمشاركة مؤلف آخر. ويبدو التناقض بين رأيه في كتابه (الاقتصاد الإسلامي) ورأيه الأخير حيث لا يجد حرجاً هناك من التسليم بندرة الموارد، بينما ينفي ـ بمشاركة زميله ـ أن تكون المشكلة مشكلة ندرة لا من حيث الواقع ولا من حيث البيان القرآني.

    ولا يبتعد الدكتور سعيد مرطان عن هذا الاتجاه في تصويره للمشكلة الاقتصادية حيث يرى أنَّ: ""الندرة النسبية للموارد تمثل أحد جانبي ـ المشكلة الاقتصادية ـ ليس فقط لأنها واقع ملموس نعيه في كل لحظة من حياتنا اليومية بل لأن الإسلام يجعل منها حافزاً للعمل وتعمير الأرض، كما يجعلها مجالاً للابتلاء والاختبار. وهذا يعني أن ظهور الندرة النسبية لا يتعارض البتة مع وفرة وكفاية الموارد التي أنزلها الله سبحانه وتعالى وسخرها لعباده""(83).

    الاتجاه الثاني: وهو ما ذهب إليه الدكتور محمد أحمد صقر، فقد إرتأى وجوب النظر إلى المشكلة الاقتصادية من جوانب ثلاثة: "" 1ـ جانب إمكانية الإنتاج. 2ـ جانب أسلوب الإنتاج. 3ـ الجانب الشخصي لسلوك الإنسان. والإسلام يحاول أن يواجه المشكلة من هذه الجوانب الثلاثة وبصورة مجتمعة.

    وهذه المعالجة الشمولية من شأنها أن تخفف من حدة المشكلة الاقتصادية في الإسلام فضلاً عن أن الإسلام تنمية لطاقات الإنسان الروحية والأخلاقية يجعله قادراً على الاستمتاع بصورة أَفضل مهما كان القدر المادي الذي يحققه. وفي النهاية فإن وجود المشكلة الاقتصادية في حد ذاته يعتبر محركاً للنمو والتطور الاقتصادي والتحسن الفني. ولو حلَّت المشكلة الاقتصادية نهائياً لجمِّد الاقتصاد، واستقر عند حالة السكون. ولذا فنحن نخالف الشيخ باقر الصدر""(84).

    ويبدو أن الدكتور صقر لا يرى حلاً لهذه المشكلة دون الأَخذ بالاعتبار هذه الجوانب الثلاثة مجتمعة: دفع عجلة الإنتاج وتنميته، وتطوير أساليبه، والتوزيع العادل. وبذلك يخـالف السيد الصدر. الأَمر الذي يستدعي توضيح رأي السيد الصدر في هذه المشكلة لمعرفة وجه هذه المخالفة إن تحققت. وهو ما نعرضه في الاتجاه الثالث.

    الاتجاه الثالث: لقد كتب حسن حبيب العبندي بصدد بيان وجهة النظر الإسلامية في المشكلة الاقتصادية: "" إِنَّ السلوك الخاطئ لأفراد المجتمع هو السبب الحقيقي لظهور المشكلة الاقتصادية في نظر النظام الإسلامي""(85). وأكَّد العبندي أنَّ السيد محمد باقر الصدر في كتابه «اقتصادنا» يعتبر أول من قدم هذا التصور للمشكلة. وأَجد من الضروري التأكيد على موقف الصدر الإيجابي من المشكلة الاقتصادية حيث يرفض المحاولات التفسيرية التي تسلِّم بواقع المشكلة الاقتصادية، وتعترف بحتميتها، بدلاً من الكشف عن الحل الذي يقضي عليها(86). وهو ما يعمق المشكلة ويمنحها غطاءً شرعياً.

    السيد الصدر في محاولته لتصوير المشكلة الاقتصادية ينطلق من الآية الكريمة: الله الذي خلق السموات والأَرض، وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقاً لكم، وسخر لكم الفلك لتجري في البحر بأمره، وسخّر لكم الأنهار وسخر لكم الشمس والقمر دائبين، وسخر لكم الليل والنهار، وآتاكم من كل ما سألتموه، وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها، إن الإنسان لظلوم كفار (87). ثم يقول: "" فهذه الفقرات تقرر بوضوح: إنَّ الله تعالى قد حشد للإنسان في هذا الكون الفسيح كل مصالحه ومنافعه، ووفر له الموارد الكافية لإِمداده التي منحها الله له، ولكن الإنسان هو الذي ضيَّع على نفسه هذه الفرصة التي منحها الله له بظلمه وكفرانه إن الإنسان لظلوم كفار. فظلم الإنسان في حياته العملية وكفرانه بالنعمة الإلهية، هما السببان الأَساسيان للمشكلة الاقتصادية في حياة الإنسان، ويتجسد ظلم الإنسان على الصعيد الاقتصادي: في سوء التوزيع. ويتجسد كفرانه بالنعمة: في إِهماله لاستثمار الطبيعة وموقفه السلبي منها. فحين يمحى الظلم من العلاقات الاجتماعية للتوزيع، وتجند طاقات الإنسان للاستفادة من الطبيعة واستثمارها، تزول المشكلة الحقيقية على الصعيد الاقتصادي""(88). إذن ""هذه الآيات الكريمة بعد أن استعرضت مصادر الثروة التي أنعم الله تعالى بها على الإنسان أكدت أنها كافية لإشباع الإنسان وتحقيق سؤله وآتاكم من كل ما سألتموه. فالمشكلة الواقعية لم تنشأ عن بخل الطبيعة، أو عجزها عن تلبية حاجات الإنسان. وإنما نشأت من الإنسان نفسه كما تقرره الآية الأخيرة إن الإنسان لظلوم كفار. فظلم الإنسان في توزيع الثروة وكفرانه للنعمة بعدم استغلال جميع المصادر التي تفضل الله بها عليه استغلالاً تاماً هما السببان المزدوجان للمشكلة التي يعيشها الإنسان البائس منذ أبعد عصور التاريخ. وبمجرد تفسير المشكلة على أساس إنساني يصبح بالإمكان التغلب عليها، والقضاء على الظلم وكفران النعمة، بإيجاد علاقات توزيع عادلة، وتعبئة كل القوى المادية لاستثمار الطبيعة، واستكشاف كل كنوزها""(89).
    [/align]





  5. #5
    تاريخ التسجيل
    Feb 2003
    المشاركات
    29,593

    افتراضي

    [align=justify]وواضح أن تصوير السيد الصدر للمشكلة الاقتصادية يتألف من شقين

    أحدهما: ظلم الإنسان وسوء توزيعه الثروة.

    وثانيهما: عدم استغلال جميع المصادر التي تفضل الله بها على الإنسان. وهو ما أكده السيد الصدر في أكثر من موضع، غير أنه تراءى للبعض الشق الأول وأَغفل الثاني. ويبدو أن منشأ خلاف الدكتور صقر الذي يزعمه ما ذكرناه من إغفال الشق الثاني، وإلاَّ فإنَّ ما ذكره الدكتور صقر في تصوير المشكلة الاقتصادية لا يختلف عن تصوير السيد الصدر لها، حيث لا يخرج ما ذكره عن الشقين، غير أنه (الدكتور صقر) جعلها ثلاثة جوانب.

    ولعلَّ الفرق ـ في تصوري ـ بين السيد الصدر والدكتور صقر، يكمن في حقيقة موقف كل منهما من المشكلة، ففي الوقت الذي بدا فيه موقف الدكتور صقر سلبياً مستسلماً للواقع، رفض السيد الصدر الاعتراف بحتمية المشكلة الاقتصادية، والاستسلام لواقعها المزعوم. وأظن أنَّ عبارات الدكتور صقر لا تأبى ذلك حيث ذكر أنَّ وجود المشكلة في حد ذاته محرك للنمو والتطور الاقتصادي، وأنَّ حل المشكلة نهائياً يجمِّد الاقتصاد. ثم عطف على ذلك قوله: "" ولذا فنحن نخالف الشيخ باقر الصدر"". فيبدو أنَّ محل الخلاف هو ـ وفقاً للدكتور صقر ـ اعتقاد السيد الصدر إمكان الحل نهائياً لهذهِ المشكلة مما يؤدي إلى تجميد الاقتصاد. غير أنَّ إيجاد علاقات توزيع عادلة، واستغلال الطبيعة استغلالاً جيداً، لا يتم دفعة واحدة وبشكل نهائي.
    الإنتاج وأهميته في الاقتصاد الإسلامي:

    يقول السيد الصدر: "" إنَّ الاقتصاد الإسلامي يتفق مع كل المذاهب الاجتماعية الأخرى في ضرورة الاهتمام بالإنتاج وبذل كل الأساليب الممكنة في سبيل تنميته وتحسينه وتمكين الإِنسان الخليفة على الأَرض من السيطرة على المزيد من نعمها وخيراتها، ولكن الإسلام حينما يطرح تنمية الإنتاج كقضية يجب السعي اجتماعياً لتحقيقها، يضعها ضمن إِطارها الحضاري الإِنساني ووفقاً للأهداف العامة لخلافة الإنسان على الأَرض. ومن هنا يختلف عن المذاهب الاجتماعية المادية في التقييم والمنهج اختلافاً كبيراً. فالنظام الرأسمالي يعتبر تنمية الإنتاج هدفاً بذاتها. بينما الإسلام لا يرى تجميع الثروة هدفاً بذاته وإنما هو وسيلة لإيجاد الرخاء والرفاه وتمكين العدالة الاجتماعية من أن تأخذ مجراها الكامل في حياة الناس وشرطاً من شروط تحقيق الخلافة الصالحة على الأَرض وأَهدافها الرشيدة في بناء مجتمع التوحيد""(90).

    فتنمية الإنتاج والاستفادة من الطبيعة إلى أقصى حد ممكن ضمن الإطار العام للمذهب، قد تكون النقطة الوحيدة التي تتفق عليها المذاهب الإسلامية والرأسمالية والماركسية جميعاً على الصعيد المذهبي، شرط أن تنسجم أساليب وطرق التنمية مع الإطار العام للمذهب(91).

    لقد وضع الإسلام التنمية والاستمتاع بالطبيعة هدفاً للمجتمع في ضوء السياسة الاقتصادية التي يحددها المذهب الإسلامي، والظروف والشروط الموضوعية للمجتمع. وينقل السيد الصدر كتاب الإمام علي (ع) لواليه محمد بن أبي بكر حين ولاّه مصر، الذي اعتبره السيد الصدر نظرية المتقين في الحياة، إذ يبدو بوضوح من الكتاب أنَّّ اليسر المادي الذي يحققه نمو الإنتاج، واستثمار الطبيعة إلى أقصى حد، هدف يسعى إليه مجتمع المتقين، وتفرضه النظرية التي يتبناها هذا المجتمع، ويسير على ضوئها في الحياة. فقد جاء في الكتاب قوله: ((يا عباد الله إنَّ المتقين حازوا على عاجل الخير وآجله، شاركوا أَهل الدنيا في دنياهم، ولم يشاركوا أهل الدنيا في آخرتهم، أباح لهم الله الدنيا ما كفاهم به وأغناهم، قال الله عز وجل: من حرَّم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق، قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة، كذلك نفصل الآيات لقوم يعلمون سكنوا الدنيا بأفضل ما سُكنت، وأكلوها بأَفضل ما أُكلت، وشاركوا أهل الدنيا في دنياهم، فأكلوا معهم من طيبات ما يأكلون، وشربوا من طيبات ما يشربون، ولبسوا من أفضل ما يلبسون، وسكنوا من أَفضل ما يسكنون، وركبوا من أفضل ما يركبون، أَصابوا لذة الدنيا مع أهل الدنيا، وهم غداً جيران الله يتمنون عليه فيعطيهم ما يتمنون، لا ترد لهم دعوة، ولا ينقص لهم نصيب من اللذة، فإلى هذا يا عباد الله يشتاق من كان له عقل، ويعمل له بتقوى الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله)).


    [mark=CCCCCC]وسائل الإسلام في تنمية الإنتاج: [/mark]

    لم يضع الإسلام تنمية الإنتاج هدفاً للمجتمع الإسلامي فحسب، بل هيأ ـ مذهبياًـ الوسائل التي يتوقف عليها تحقيق هذا الهدف. وهي ـ كما يرتأي السيد الصدر ـ على نوعين:

    1ـ وسائل مذهبية.

    2ـ وسائل تطبيقية.


    أما الوسائل المذهبية فهي من وظيفة المذهب الاجتماعي، وعلى عاتقه إيجادها وضمانها، بينما يترك أمر الوسائل التطبيقية إلى الدولة تمارسها على ضوء الاتجاه المذهبي العام(92).

    1ـ الوسائل المذهبية:

    [mark=CCCCCC]أ:[/mark] وسائل الإسلام من الناحية الفكرية: فمن الناحية الفكرية حثّ الإسلام على العمل والإنتاج، وربط به كرامة الإنسان وشأنه عند الله، وقرن العمل بالعبادة، بل أصبح العامل في سبيل قوته وقوت عياله عند الله أفضل من المتعبد، وصارت البطالة والخمول والترفع عن العمل نقصاً في إنسانية الإنسان وسبباً في تفاهته. ويبدو ـ بوضوح ـ رفض الإسلام لفكرة البطالة وتعطيل ثروات الطبيعة وعدم الاستفادة منها، حيث دفع إلى توظيف أكبر قدر ممكن من قوى الطبيعة وثرواتها للإنتاج وخدمة الإنسان في مجالات الانتفاع والاستثمار، واعتبر فكرة التعطيل أو إِهمال الطبيعة وعدم استثمارها من الأفكار الغريبة عن الإسلام. قال تعالى: قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق، قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا، خالصة يوم القيامة كذلك نفصل الآيات لقوم يعلمون، وقال تعالى يشجب أسطورة تحريم بعض الثروات الحيوانية: ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام، ولكن الذين كفروا يفترون على الله الكذب، وأكثرهم لا يعقلون، وقال تعالى يهيب بالإنسان إلى استثمار مختلف المجالات: وهو الذي جعل لكم الأرض ذلولاً، فامشوا في مناكبها، وكلوا من رزقه وإليه النشور.

    وفي الحديث أنَّ الإمام الصادق سأل عن رجل فقيل أصابته الحاجة، وهو في البيت يعبد ربه، وأخوانه يقومون بمعيشته فقال (ع): ((الذي يقوته أشد عبادة منه)).

    [mark=CCCCCC]ب:[/mark] وسائل الإسلام من الناحية التشريعية: وأما من الناحية التشريعية فثمة تشريعات كثيرة تتفق ومبدأ تنمية الإنتاج الذي يؤمن به الاقتصاد الإسلامي وتساعد على تطبيقه. وقد ذكر السيد الصدر عشرين(93) من هذه التشريعات والأحكام نقتصر على ذكر بعضها:

    - حكم الإسلام بانتزاع الأَرض من صاحبها إذا عطلها حتى خربت، وامتنع عن إعمارها، وللحاكم الشرعي انتزاعها واستثمارها بالأسلوب الذي يراه. وحكم الإسلام هذا نابع من إيمانه العميق بعدم جواز تعطيل الدور الإيجابي للأرض في الإنتاج.

    - منع الإسلام عن الحمى، والحمى هو السيطرة على مساحة الأَرض الغامرة وحمايتها بالقوة دون ممارسة عمل في إحيائها واستثمارها، وهو تعبير آخر عن تعطيل دور الأَرض في عملية الإنتاج، لذلك ربط الحق في الأَرض بعملية الإِحياء دون أعمال القوة التي لا شأن لها في الإنتاج، وفي استثمار الأَرض لصالح الإنسان.

    - في الحالات التي يجوز للأفراد أحياء المصادر الطبيعية لم يعط الإسلام الحق لهم في تجميد تلك المصادر، وتعطيل العمل لإحيائها ولم يسمح لهم بالاحتفاظ في هذا الحق في حالة التعطيل هذه، لأنها تؤدي إلى حرمان الإنتاج من طاقات تلك المصادر وإمكاناتها.

    - لم يسمح الإسلام لولي الأمر بإقطاع الأفراد شيئاً من المصادر الطبيعية تزيد على قدراتهم الإنتاجية، لأَن إقطاع الفرد ما يزيد على قدرته يبدد ثروات الطبيعة وإمكاناتها الإنتاجية.

    - حرَّم الإسلام الكسب بدون عمل عن طريق استئجار الفرد أرضاً بأجرة وإيجارها بأجرة أكبر للحصول على التفاوت بين الأجرتين، وتحريم هذه الصورة، وإلغاء هذا الدور الوسيطي يوفر على الإنتاج، لأنَّ مثل هذا الوسيط لا يقوم بأي دور إيجابي للإنتاج، وإنما يعيش على حساب الإنتاج بدون خدمة يؤديها إليه.
    - حَرَمَ الإسلام القادرين على العمل والنشاط الاقتصادي من الضمان الاجتماعي ومنعهم من الاستجداء، وبذلك سدَّ عليهم منافذ التهرب من العمل المثمر، وهذا يؤدي بطبيعته إلى تجنيد طاقاتهم للإنتاج والاستثمار.
    - يقوم الضمان الاجتماعي بدور كبير في القطاع الخاص، لأنَّ إحساس الفرد بأنه مضمون من الدولة، وأنَّ مستوى كريماً من الحياة مكفول له ولو خسر في مشروعه، رصيدٌ نفسي كبير يزيد من شجاعته، ويدفع به إلى مختلف ميادين الإنتاج، وينمي فيه عنصر الإبداع.
    - تحريم الإسراف والتبذير مما يؤدي إلى الحد من الإنفاق الاستهلاكي ويهيئ كثيراً من الأَموال للإنفاق الإنتاجي.
    - أَوجب الإسلام على المسلمين كفاية تعلم جميع الفنون والصناعات التي تنتظم بها الحياة.
    - إعطاء الدولة حق الإشراف على الإنتاج، وتخطيطه مركزياً لتفادي الفوضى التي تؤدي إلى شل حركة الإنتاج وتعصف بالحياة الاقتصادية. ومكَّنها من قيادة جميع قطاعات الإنتاج عن طريق ممارستها للقطاع العام، وتجميع القوى البشرية العاملة في تشغيل هذه القطاعات بشكل يحول دون تبديد الفائض البشري للقوى العاملة عن حاجة القطاع الخاص.

    2ـ الوسائل التطبيقية:

    لقد هيأ المذهب الإسلامي الوسائل الفكرية والتشريعية الكفيلة بدفع عملية التنمية إلى الأمام والحؤول دون تعطيلها أو تجميدها، وترك للدولة الحرية في وضع السياسة الاقتصادية بعد دراسة الشروط الموضوعية للحياة الاقتصادية، بما لا يتعارض مع الإِطار العام للمذهب. وقد ترك المذهب الاقتصادي للدولة هذه الحرية في رسم تفاصيل السياسة الاقتصادية إِيماناً منه بحقيقة اختلاف الظروف والشروط الموضوعية للحياة الاقتصادية زماناً ومكاناً، حيث اقتصر على وضع الأَهداف الرئيسية لهذه السياسة، وحدودها العامة وإطارها المذهبي الشامل، الذي يجب على الدولة التقيد به ووضع سياستها ضمنه.

    [mark=CCCCCC]صلة المذهب بالإِنتاج:[/mark]

    في معرض بيان وتوضيح صلة المذهب بالإنتاج يبحث السيد الصدر عن حقيقة عملية الإنتاج وطبيعتها، فيرى أنَّ لعملية الإنتاج جانبين تتحدد على ضوئهما معرفة مدى صلة المذهب بالإنتاج،

    وهما الجانب الذاتي: ويتمثل في الدافع النفسي، والغاية التي تستهدف من تلك العملية، وتقييم العملية تبعاً للتصورات المتبناة عن العدالة. وتختلف المذاهب الاجتماعية والاقتصادية في هذا الجانب بشكل واضح، حيث لكل مجتمع نظرته الخاصة للإنتاج، وتقييمه لتلك العملية على أساس تصوراته العامة، وطريقته المذهبية في تحديد الدوافع وإِعطاء المثل العليا في المجتمع. فلماذا ننتج؟ وإلى أي مدى؟ وما هي الغايات التي يجب أن تستهدف من وراء الإنتاج؟ وما هو نوع السلعة المنتجة؟ وهل هناك قوة مركزية تشرف على الإنتاج وتخطيطه؟ هذه هي الأسئلة التي يجيب عليها المذهب الاقتصادي، وتختلف الاجابة عليها بين مذهب اقتصادي وآخر.

    الجانب الموضوعي: ويتمثل في الوسيلة التي تستخدم، والطبيعة التي تمارس، والعمل الذي ينفق خلال عملية الإنتاج. وهذا الجانب من العملية هو موضوع علم الاقتصاد بمفرده أو بالمساهمة مع العلوم الطبيعية الأخرى، وذلك لاكتشاف القوانين العامة التي تسيطر على الوسيلة والطبيعة لكي يتاح للإنسان التحكم في تلك القوانين بعد اكتشافها، وتنظيم الجانب الموضوعي لعملية الإنتاج تنظيماً أفضل وأكثر نجاحاً، "" فعلم الاقتصاد يكشف مثلاً عن قانون الغلّة المتناقصة في الزراعة القائل: إنَّ زيادة وحدات إضافية من العمل ورأس المال بنسبة معينة، تقابلها زيادة في النتائج بنسبة أقل، ويستمر هذا التفاوت بين نسبة زيادة الوحدات ونسبة زيادة الإنتاج، وبالتالي تستمر زيادة الغلة في التناقص حتى تتعادل زيادة الغلة مع نسبة زيادة وحدات العمل ورأس المال، وحينذاك لا تكون ثمة مصلحة للزارع في أن يزيد في الإنفاق على الأَرض من جديد. وهذا القانون يلقي ضوءً على العملية وباكتشاف المنتج له يستطيع أن يتفادى التبذير بالعمل ورأس المال، ويحدد عناصر الإنتاج تحديداً يكفل له أكبر قدر ممكن من الناتج""(94). و ""في هذا المجال ليس للمذهب الاقتصادي مهما كان نوعه أي دور إيجابي، لأنَّ الكشف عن القوانين العامة والعلائق الموضوعية بين الظواهر الكونية أو الاجتماعية من وظيفة العلم، ولا يدخل في صلاحيات المذهب إطلاقاً. ولهذا كان لمجتمعات مختلفة في مذاهبها الاقتصادية أن تلتقي على الصعيد العلمي وتتفق على استخدام معطيات علم الاقتصاد وسائر العلوم والاسترشاد بها في مجالات الإنتاج""(95).


    [mark=CCCCCC]مصادر الإنتاج[/mark]

    تحدد مصادر الإنتاج في الاقتصاد السياسي بما يلي:

    1ـ الطبيعة.
    2ـ رأس المال.
    3ـ العمل.


    ويضم التنظيم الذي يمارسه مدير المشروع ويحدد نصيب كل واحد منها على أساس قوانين العرض والطلب.

    أما في الاقتصاد الإسلامي ـ وفقاً لرأي السيد الصدر ـ فإنه لا يصح أن يبقى في عداد مصادر الإنتاج سوى الطبيعة، بعد استبعاد كل من رأس المال والعمل، إذ يعتبر رأس المال ـ في الحقيقة ـ ثروة منتجة وليست مصدراً أَساسياً للإنتاج، لأنه يعبر اقتصادياً عن كل ثروة تم إنجازها، وتبلورت خلال عمل بشري لكي تساهم من جديد في إنتاج ثروة أُخرى، كالآلة التي تنتج النسيج، فهي ليست ثروة طبيعية خالصة، وإنما هي مادة طبيعية، كيَّفها العمل الإنساني خلال عملية إنتاج سابقة وأما العمل فهو العنصر المعنوي من مصادر الإنتاج، وليس ثروة مادية تدخل في نطاق الملكية الخاصة أو العامة. وعلى هذا الأساس تكون الطبيعة وحدها من بين مصادر الإنتاج(96). وقد قسم السيد الصدر مصادر الطبيعة إلى عدة أقسام:

    1ـ الأَرض: وهي أهم ثروات الطبيعة، التي لا يكاد الإنسان يستطيع بدونها أن يمارس أي لون من ألوان الإنتاج.
    2ـ المواد الأولية: التي تحويها الطبقة اليابسة من الأرض، كالفحم، والكبريت، والبترول، والذهب، والحديد، ومختلف ألوان المعادن.
    3ـ المياه الطبيعية التي تعتبر شرطاً من شروط الحياة المادية للإنسان، وتلعب دوراً خطيراً في الإنتاج الزراعي والمواصلات.
    4ـ بقية الثروات الطبيعية من محتويات البحار والأنهار وما يعيش على الأرض، والقوى الطبيعية المنبثة في أرجاء الكون.


    وقد استبعد السيد الصدر كلاً من رأس المال والعمل انطلاقاً من تقسيمه البحث إلى: توزيع الثروة إلى مرحلة ما قبل الإنتاج، وتوزيعها إلى ما بعد الإنتاج. وقد خرج رأس المال والعمل من المرحلة الأولى حيث ليس في المقام من مصادر الإنتاج سوى الطبيعة، فالطبيعة هي المصدر الأساس والوحيد، وملكية ثرواتها تقوم على أساس العمل، ولذلك يبقى العامل وحده هو مالك هذه الثروة، العامل الذي أنفق جهده واستفاد من هذه الثروة وحازها، ولا تخرج من ملكه إلا برضاه، فالقطن ـ مثلاً ـ يبقى ملكاً للفلاح، ولا يجوز تطويرها ـ أي الثروة ـ والتصرف بها بصورة منفصلة عن إرادته(97)، بل يجب على صاحب المعمل ـ مثلاً ـ أن يتعاقد معه.

    [mark=CCCCCC]الصلة بين الإنتاج والتوزيع:[/mark]

    لقد اختلفت النظرية الماركسية والنظرية الإسلامية في تقرير وجود الصلة بين الإنتاج والتوزيع أو عدمها. فبينما يصر الماركسيون على وجود هذه الصلة وتأكيدها وفقاً لقانون التطور(98) الذي يفرض نوعاً خاصاً من التوزيع ينسجم مع شكل الإنتاج، أنكرت النظرية الإسلامية هذه التبعية ـ أعني تبعية علاقات التوزيع لشكل الإنتاج ـ واعتبرت أن "" قواعد التوزيع التي جاء بها ـ الإسلام ـ ثابتة وصالحة في كل زمان ومكان، لا يختلف في ذلك عصر الكهرباء والذرة عن عصر البخار، ولا عصر البخار عن عصر الطاحونة الهوائية والعمل اليدوي""(99). ولكن النظرية الإسلامية بإنكارها ورفضها هذه التبعية لا تقطع الصلة بالمرة بين التوزيع وشكل الإنتاج، بل يؤمن الإسلام بصلة يفرضها المذهب، ويحدد فيها الإنتاج لحساب التوزيع، بدلاً من تكييف التوزيع طبقاً لحاجات الإنتاج. وكل ما رفضه ـ الإسلام ـ هو تلك العلاقة التبعية وفقاً لقانون طبيعي كما تقرره الماركسية، ولذلك أصبحت ـ إسلامياً ـ عمليات الإنتاج ظرفاً لتطبيق قواعد التوزيع، وتبعاً لذلك نشأت الصلة المذهبية بين الإنتاج والتوزيع، والتي مردها في الحقيقة إلى فكرة التطبيق الموجّه التي تعطي ولي الأمر الحق بتحديد الإنتاج لحساب التوزيع.



    [mark=CCCCCC]جهاز التوزيع[/mark]

    يرى السيد الصدر أنَّ: "" جهاز التوزيع في الإسلام يتكون من أداتين رئيسيتين، وهما: العمل والحاجة، ولكل من الأداتين دورهما الفعّال في الحقل العام للثروة الاجتماعية""(100). وأما العمل فيعتبره الإسلام سبباً لملكية العامل نتيجة عمله، كما وتعتبر هذه الملكية الخاصة القائمة على أساس العمل ""تعبيراً عن ميل طبيعي في الإنسان إلى تملك نتائج عمله، ومرد هذا الميل إلى شعور كل فرد بالسيطرة على عمله، فإنَّ هذا الشعور يوحي طبيعياً بالميل إلى السيطرة على نتائج العمل ومكاسبه، وبذلك تكون الملكية القائمة على أساس العمل حقاً للإنسان، نابعاً من مشاعره الأصيلة""(101).

    وقد عقَّب الدكتور محمود عبد الفضيل على هذه الفقرة بقوله: "" ولعلّ هذه الرؤية توائم وتناظر الإنتاج السلعي الصغير (ذي الطبيعة الحرفية) حيث يمتلك الحرفي ناتج عمله ويتصرف فيه مباشرة، وحيث هناك شعور لدى الفرد (الحرفي) بالسيطرة على ظروف عمله، وكذا على نتائج عمله ومكاسبه، ولكن في ظل التقسيم المعقد والمطرد للعمل في المجتمعات الحديثة، وفي ظل الأشكال المختلفة ""للعمل الأجير"" يصبح من الصعب تصور كيف يتملك العامل نتائج عمله وكيف يسيطر على نتائج العمل ومكاسبه. وهكذا يتضح أن هذه المقولة حول علاقات التوزيع إنما هي مرتبطة بشكل معين من أشكال الإنتاج الحرفي والإنتاج السلعي الصغير، ولا تطابق الواقع خارج هذا الشكل الإنتاجي""(102).

    ويرد على الدكتور عبد الفضيل عدة اعتراضات.

    أولها: أن الصعوبة المدعاة لا تنفي صحة مقولة السيد الصدر خاصة وقد ذكرها على نحو القضية الشرطية التي لا تتصدى لتحقيق موضوعها.

    وثانيها: أنه أغفل دور الدولة في رقابة الإنتاج والإشراف على عمليات التوزيع، ودورها في مراقبة أجور المواد الأولية وأجور العمال وأجور أدوات العمل، مضافاً إلى مسؤولياتها في تحقيق التوازن العام والمنع من الاحتكار وإلغاء الندرة.
    وثالثها: خلطه بين مرحلتين من مراحل الإنتاج وعدم التمييز بينهما وهما: مرحلة الإنتاج الأولي ومرحلة الإنتاج الثانوي وتبعاً لذلك لم يميز بين العامل المالك وبين العامل الأجير الذي يعمل بأجر لقاء بذل قوة عمله.
    والسيد الصدر في مقولته السابقة الذكر أراد العامل الأول دون الثاني حيث ذكر في نفس الصفحة التي استقى الدكتور منها مقولة الصدر: "" فالعمل إذن أساس لتملك العامل في نظر الإسلام، وعلى هذا الأساس فهو أداة رئيسية في جهاز التوزيع الإسلامي، لأن كل عامل يحظى بالثروات الطبيعية التي يحصل عليها بالعمل، ويمتلكها وفقاً لقاعدة إن العمل سبب الملكية""(103) أما العامل الذي يعمل في المعمل لتطوير هذه المادة في إطار الإنتاج الثانوي فهو أجير وليس مالكاً. وقد ميز السيد الصدر بين مرحلتين أيضاً مرحلة سار فيها المجتمع الإسلامي وفقاً لقواعد التوزيع الإسلامية، ومرحلة سار فيها المجتمع وفقاً للأوضاع الفاسدة، وقد أعطى للدولة الدور الكبير في إعادة الأمور إلى نصابها الصحيح(104).

    والأداة الرئيسية الأخرى هي الحاجة إذ تسهم هذه الأداة في عملية التوزيع إلى جانب العمل، حيث يتم التوزيع للقادرين على العمل وحده وفقاً للأداة الأولى، بينما تعتمد الفئات العاجزة عنه على الأداة الثانية للتوزيع ـ أعني الحاجة ـ في تحصيل نصيبها من التوزيع وضمان حياتها كاملة على أساس حاجاتها وفقاً لمبادئ الكفالة العامة والتضامن الاجتماعي في المجتمع. وتعتمد الفئات القادرة على العمل مع عجزها عن توفير تمام حاجاتها بواسطته على كل من الأداتين: العمل والحاجة.

    وثمة أداة ثانوية للتوزيع هي الملكية نفسها وذلك باعتراف الإسلام بالربح التجاري، عن طريق النشاطات التجارية التي سمح بها ضمن شروط خاصة لا تتعارض مع المبادئ الإسلامية للعدالة الاجتماعية(105).

    [mark=CCCCCC]مسؤوليات الدولة في الاقتصاد الإسلامي[/mark]

    لقد تطور مفهوم الدولة عبر العصور من مفهوم الدولة الحامية (الحارسة) إلى مفهوم الدولة الراعية، ولم يكن ليتطور هذا المفهوم إلا بعد تجربة قاسية ومريرة، فقد كانت الدولة مسؤولة عن حماية رعاياها دون أن تتدخل في نشاطهم الفردي، الاقتصادي والتجاري والزراعي والصناعي. وحينئذٍ فليس لها أن تتدخل إلا لصالح الأفراد وأمنهم الداخلي والخارجي، دون أن تفرض القيود على حريتهم في التجارة والصناعة والزراعة.. وكان ذلك يقوم على أساس ما أسموه (القانون الطبيعي) الذي يعني: "" أن مصلحة المجتمع ككل تتحقق حتماً من خلال عمل كل فرد فيه على تحقيق مصلحته الخاصة""، وهو الشعار الذي يعبر عن مضمون الليبرالية، الذي لا يسمح للدولة أن تتدخل إلاّ لمصلحة هذا القانون، أي فقط لحسابه، ومنع محاولات تعويق فعاليته. ومن رحم هذا القانون ولدت الرأسمالية، وكان نموها يتطلب وجوب حرية التجارة والعمل، والحدّ من تدخل الدولة في النشاط الاقتصادي، واقتصار دورها على تنظيم وحماية التنافس في الأسواق.
    هذا هو المبدأ الأساس في الأنظمة الرأسمالية. أما النظام الاشتراكي فإنَّ المبدأ الأساس فيه هو قيادة الدولة للنشاط الاقتصادي وتعاظم دورها المركزي في التخطيط الاقتصادي، والاستحواذ على معظم المقدرات الاقتصادية والاستئمار في صنع القرار الاقتصادي. كل ذلك يتلخص في مقولة (المركزية الشديدة والصارمة).

    هذا هو الأصل عند كل من الفريقين، فالأصل في الرأسمالية أن لا تتدخل الدولة، ولا يعني التدخل فيها سوى (الاستثناء). والأصل في الاشتراكية تدخل الدولة بل رأسمالية الدولة ورعويتها، وعدمه لا يعني سوى (الاستثناء). ولكنَّ الأمر لم يبق على حاله عند كل من الفريقين، فلقد مال الدور الاقتصادي للدولة في الأنظمة الرأسمالية إلى التعاظم، وأصبحت القوى الداعية ـ بالأمس ـ إلى حرية الأسواق هي نفسها الأكثر تحمساً لتفعيل دور الدولة في النشاط الاقتصادي وتطوير وسائل تدخلها، وقد ساعد على ذلك طغيان الأزمات الطارئة التي مرَّت بها الرأسمالية وما زالت، وكان لاندلاع الحربين العالميتين الأثر الكبير في تزايد دور الدولة الاقتصادي في تلك الأنظمة، ولخلق تعبئة اقتصادية لمواجهة أزمة الحرب، ثم احتفظت الدولة الرأسمالية بقيادتها الاقتصادية بعد نهاية الحربين ولم تتخل عنها خاصة في الواقع الرأسمالي الذي أخذت تتفاقم فيه الأزمات الاقتصادية وتهدد الحياة في ذلك العالم الجشع والمادي الصرف. وكذلك في العالم الاشتراكي فلم يعد الأمر كما هو من حيث المركزية الصارمة والتدخل المباشر، وصنع القرار الدولتي، فالدولة التي صادرت الملكيات الصغيرة والكبيرة، وألغت الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج وكذلك الملكية الزراعية، وأممَّت كل المؤسسات الصناعية والتجارية و… واستأثرت بصنع القرار الاقتصادي، هذه الدولة وبعد مضي أربع سنوات أعلنت تراجعها والتخلي عن دورها المركزي هذا، وسمحت بحرية اقتصادية لرؤوس الأموال وللملكيات الخاصة بل سمحت باحتكار الشركات الأجنبية للثروات في بلاد الاشتراكية وذلك على عهد لينين نفسه حيث منح شركة أمريكية احتكار استغلال بعض الثروات في جبال الأورال ثم منح حوالي عشرين احتكاراً أخر لشركات إنجليزية وألمانية وفرنسية وأمريكية، وكتب يقول: "" إننا أغبياء وضعفاء، وقد اعتدنا القول بأن الاشتراكية شيء حسن، وأن الرأسمالية شيء سيئ، ولكن الرأسمالية ليست سيئة إلاَّ بالنسبة للاشتراكية، أما بالنسبة إلى القرون الوسطى، حيث لا تزال روسيا متأخرة، فليست الرأسمالية سيئة""(106). وكان لينين نفسه يصف الخطوات الجديدة هذه بأنها تتضمن العودة إلى نظام اقتصادي مختلط ومرحلي(107). وكان آخر ما آلت إليه الاشتراكية هو الوضع الراهن وثورة البيرسترويكا الجديدة وما يسمى بالإصلاحات وإعادة البناء.

    ولست في مقام المقارنة بين كل من النظامين إلاَّ بقدر ما سنوضِّحه من مبدأ تدخل الدولة في النظرية الإسلامية وحدود هذا التدخل، ووسائله، وأهدافه. فما هو مبدأ تدخل الدولة في المذهب الاقتصادي الإسلامي، وما هي حدوده، وأهدافه، ومصاديق التدخل هذا ووسائله؟ كل ذلك على ضوء أفكار ونظريات الشهيد الصدر..في المذهب الاقتصادي الإسلامي "" تدخل الدولة في الحياة الاقتصادية، يعتبر من المبادئ المهمة في الاقتصاد الإسلامي الذي تمنحه القوة والقدرة على الاستيعاب والشمول""(108)، إذ يحقق هذا التدخل لأحكام الإسلام الاقتصادية وتشريعاته اقتداراً على حل المشكلات الاقتصادية وتحقيق العدالة الاجتماعية والتوازن الاجتماعي، وتبدو هذه الأحكام بمعزل عن هذا المبدأ مجردة عن الوسائل التي تنقلها من حيز النظريات إلى عالم الحقيقة وساحة التنفيذ والتطبيق، بل تتجلى بهذا المبدأ صلاحية الأحكام الاقتصادية الإسلامية لكل زمان ومكان ولكل عصر ومصر(109).

    ومرة أخرى ما هو حجم هذا التدخل في المنظور الإسلامي؟ هل يتسم تدخل الدولة – إسلامياً - في الفعاليات الاقتصادية بالشمولية والاستيعاب، بشكل يجعلها تهيمن على حركة الاقتصاد في المجتمع، وتمتلك السلطة المركزية لقيادة هذا الاقتصاد بقرار مركزي صارم، ورقابة عاتية، وشمولية لا تسمح بالمنافسة؟ أم تكتفي بالرقابة والتوجيه والإشراف؟

    هذا ما سنتعرف عليه في قراءة سريعة لفكر الشهيد محمد باقر الصدر في صياغته لمبدأ أو نظرية تدخل الدولة في النشاط الاقتصادي وفق المذهب الاقتصادي الإسلامي، الذي عقد له فصلاً في خاتمة كتابه (اقتصادنا) تحت عنوان (مسؤولية الدولة في الاقتصاد الإسلامي)، كما نحاول متابعة الخطوط العامة ومصاديقها في غير هذا الفصل من الكتاب، مع مراجعة أفكاره ونظرياته في آخر ما كتبه تحت عنوان (الإسلام يقود الحياة).

    وللإجابة على السؤال المتقدم يقول السيد الشهيد: "" يمكن تحديد مسؤوليات الدولة الإسلامية عن الحياة الاقتصادية في المجتمع في خطين عريضين أحدهما: تطبيق العناصر الثابتة في الاقتصاد الإسلامي، والآخر: ملء العناصر المتحركة وفقاً لظروف الواقع وعلى ضوء المؤشرات الإسلامية العامة""(110). فثمة عناصر ومؤشرات ثابتة في الاقتصاد الإسلامي، تلك التي نصت الشريعة على إباحتها أو المنع منها، والتي لا يجوز بأي حال من الأحوال مخالفتها وتشريع ما يتناقض معها. وثمة عناصر متحركة ويقصد بها تلك الأحكام التي روعي فيها تغير الظروف وتطور الحياة، والتي يجب أن لا تشذ عن المؤشرات العامة والعناصر الثابتة في الشريعة ولا تفوِّت ملاكاتها.

    وإزاء هذين العنصرين (الثابت والمتحرك) تبدو مسؤولية الدولة الإسلامية إذ ""لا يقتصر تدخل الدولة على مجرد تطبيق الأحكام الثابتة، بل يمتد إلى ملء منطقة الفراغ من التشريع، فهي تحرص من ناحية على تطبيق العناصر الثابتة من التشريع وتضع من ناحية أخرى العناصر المتحركة وفقاً للظروف""(111). ويبدو من خلال ذلك أن مسؤوليات الدولة لا تقتصر على الإشراف والرقابة والتوجيه والإدارة بل تمتد إلى مجال التشريع إذ "" تملأ الدولة منطقة الفراغ التي تركها التشريع الإسلامي للدولة لكي تملأها في ضوء الظروف المتطورة بالشكل الذي يضمن الأهداف العامة للاقتصاد الإسلامي ويحقق الصورة الإسلامية للعدالة الاجتماعية""(112).

    منطقة الفراغ هذه ترك أمرها وملؤها إلى الحاكم الشرعي، سواء في عهد النبوة وصدر الإسلام أم في العصور المتأخرة، ولذلك فإنَّ ما يقوم به النبي صلى الله عليه وآله وسلم في عملية ملء منطقة الفراغ بنصوصٍ تشريعية لا تمثل ثوابت وعناصر غير قابلة للتغيير، لأنها نصوص تشريعية أُخذ في استصدارها مراعاة الظروف التي كانت تشهدها الأمة الإسلامية على عهده صلى الله عليه وآله وسلم، إذ "" أن النبي الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم قد ملأ ذلك الفراغ بما كانت تتطلبه أهداف الشريعة في المجال الاقتصادي على ضوء الظروف التي كان المجتمع الإسلامي يعيشها، غير أنه صلى الله عليه وآله وسلم حين قام بعملية ملء هذا الفراغ لم يملأه بوصفه نبياً مبلغاً للشريعة الإلهية الثابتة في كل مكان وزمان، ليكون هذا الملء الخاص من سيرة النبي لذلك الفراغ معبراً عن صيغٍ تشريعية ثابتة، وإنما ملأه بوصفه ولي الأمر، المكلّف من قبل الشريعة بملء منطقة الفراغ وفقاً للظروف""(113). ولأجل ذلك يأخذ الشهيد الصدر على الفقهاء اعتقادهم في قضاء النبي ((بأن لا يمنع فضل الماء أو نفع شيء))، أنه نهي كراهة لا نهي تحريم. وقد اضطرهم إلى كل هذا التأويل اعتقادهم وإيمانهم بعدم حمل الحديث إلاَّ على أحد معنيين: أحدهما النهي التحريمي أو النهي الترجيحي الإستحساني، ويكون نهي الرسول عن منع فضل الماء على الأول محرماً في الشريعة كتحريم الخمر وغيره من المحرمات الأخرى، ويكون على الثاني مكروهاً لا غير. ولمّا كان المعنى الأول غريباً عن الذهنية الفقهية وجب أخذهم بالمعنى الثاني(114)، وقد اضطرهم لهذا اللون من التأويل استبعادهم لحقيقة ثالثة وهي صدور بعض الأحكام الشرعية من النبي بما هو ولي أمر المسلمين، ولا تتصف مثل هذه الأحكام بالثبات الذي تتصف فيه الأحكام الشرعية الصادرة عنه صلى الله عليه وآله وسلم بوصفه نبياً ومبلغاً. وتتجلى هذه الحقيقة في "" أن النبي (ص) والأئمة لهم شخصيتان الأولى بوصفهم مبلغين للعناصر الثابتة عن الله تعالى، والأخرى بوصفهم حكاماً وقادة للمجتمع الإسلامي والروح الاجتماعية والإنسانية للشريعة المقدسة""(115). فمثلاً منع الرسول (ص) عن أمور مقطوعة الإباحة كالمنع عن عقد إجارة الأراضي، كما وضع الإمام علي (ع) الزكاة على أموال غير الأموال التي وضعت عليها الزكاة في الصيغة التشريعية الثابتة(116).
    لماذا منطقة الفراغ؟

    في الحياة الاقتصادية نوعان من العلاقة أحدهما: علاقة الإنسان بأخيه الإنسان. وثانيهما: علاقته بالطبيعة أو الثروة. ويفترق هذان النوعان في المستوى الثاني إذ لا يشترط أن يعيش الإنسان ضمن جماعةٍ ما، فهو في احتكاك واشتباك مع الطبيعة وتفاعل معها على أي حالٍ دون أن تتوقف علاقته هذه على وجوده ضمن الجماعة، وإن كان وجوده ضمنها يؤدي إلى تجميع الخبرات والتجارب، وهو ما يزيد من تطور هذه العلاقة ويسرِّع نموَّها. أما العلاقة الأولى: علاقة الإنسان مع أخيه الإنسان، فإنَّ وجوده ضمن الجماعة يعتبر شرط تحققها ووجودها، وينتج عن هذه العلاقة نشوء الحقوق والواجبات في الجماعة.

    وإزاء هذا الفرق الكبير بين هذين النوعين من العلاقة وقف الإسلام موقفاً متميزاً ينسجم مع طبيعة كل من هذين النوعين، إذ رأى تطور علاقة الإنسان مع الطبيعة حقيقة لا ريب فيها توكدها ممارسة الإنسان وتفاعله الدؤوب مع الطبيعة لتسخيرها في خدمته والاستفادة من قوانينها وثرواتها وكنوزها. بينما لا يرى للعلاقة الأخرى مثل هذا التطور، لأن هذه العلاقة لا تعالج بطبيعتها مشاكل ثابتة جوهرياً مهما اختلف إطار هذه العلاقة ومهما تغير وتنوع مظهرها، كمشكلة التوزيع والحقوق، سواء كان الإنتاج على مستوى البخار والكهرباء أم على مستوى الطاحونة اليدوية.

    وحينئذٍ يكون من الواقعي جداً أن تتصف الصور التشريعية والصيغ القانونية الناظمة لعلاقة الإنسان بأخيه الإنسان، بالثبات والبقاء ـ من الناحية النظرية ـ ومن الطبيعي أيضاً أن تتصف الصور التشريعية الناظمة لعلاقته مع الطبيعة بالتغير والتطور والمرونة. ويبدو ـ بوضوح ـ على ضوء ما تقدم حقيقة (منطقة الفراغ) الذي ترك أمرها وملؤها للحاكم الشرعي على ضوء المؤشرات العامة والعناصر الثابتة وفقاً للتطور والتغير المستمر على مستوى علاقة الإنسان مع الطبيعة والثروة، لضرورة أن "" الإسلام لا يقدم مبادئه التشريعية للحياة الاقتصادية بوصفها علاجاً موقوتاً، أو تنظيماً مرحلياً، يجتازه التاريخ بعد فترة من الزمن إلى شكل آخر من أشكال التنظيم، وإنما يقدمها باعتبارها الصورة النظرية الصالحة لجميع العصور، فكان لابد لإعطاء الصورة هذا العموم والاستيعاب، أن ينعكس تطور العصور فيها، ضمن عنصر مُتحرك يمد الصورة بالقدرة على التكيف وفقاً لظروف مختلفة""(117).

    وفي الوقت الذي يؤكد فيه مبدأ (منطقة الفراغ) على قدرة الإسلام على تلبية حاجات البشرية وحل مشاكلها، كذلك يستبعد ـ وبشدة ـ افتراض دلالة منطقة الفراغ على النقص في الشريعة أو إهمالها لبعض الوقائع والأحداث وذلك "" لأن الشريعة لم تترك منطقة الفراغ بالشكل الذي يعني نقصاً أو إهمالاً، وإنما حددت للمنطقة أحكامها بمنح كل حادثة صفتها التشريعية الأصيلة، مع إعطاء ولي الأمر صلاحية منحها صفة تشريعية ثانوية، حسب الظروف""(118). وحالئذٍ تكون منطقة الفراغ جزءً مقوِّماً في المذهب الاقتصادي الإسلامي، وينتج عن ذلك "" أن تقويم المذهب الاقتصادي في الإسلام لا يمكن أن يتم بدون إدراج منطقة الفراغ ضمن البحث، وتقدير إمكانيات هذا الفراغ، ومدى ما يمكن أن تساهم عملية ملئه مع المنطقة التي ملئت من قبل الشريعة ابتداءً.. في تحقيق أهداف الاقتصاد الإسلامي. وأما إذا أهملنا منطقة الفراغ ودورها الخطير، فإنَّ معنى ذلك تجزئة إمكانيات الاقتصاد الإسلامي والنظر إلى العناصر الساكنة فيه دون العناصر المتحركة""(119).

    وبذلك نخلص إلى القول بأنَّ تدخل الدولة في المجال الاقتصادي يعتبر عنصراً من ثلاثة عناصر تتعاون وتشترك في تحقيق أهداف النظام الاقتصادي في الإسلام، ويتمثل هذا النظام في الشعور النفسي لدى المسلم الناشئ عن العقيدة الإسلامية، والصيغ القانونية والتنظيمية للنشاط الاقتصادي، وتدخل الدولة في هذا النشاط(120)، وتحقيق أهداف المذهب الاقتصادي الإسلامي في التوازن الاجتماعي، والضمان الاجتماعي، ورعاية القطاع واستثماره، والإشراف على مجمل حركة الإنتاج وإعطاء التوجيهات اللازمة لتفادي مشاكل الفوضى في الإنتاج، ووضع سياسة اقتصادية لتنمية الدخل الكلي للمجتمع ضمن الصيغ التشريعية التي تتسع لها صلاحيات الحاكم الشرعي، والحفاظ على القيم المتبادلية الحقيقية للسلع وأشكال العمل، ومقاومة الاحتكار في كل مجالات الحياة الاقتصادية(121).

    [mark=CCCCCC]التوازن الاجتماعي[/mark]

    من المسؤوليات الاقتصادية التي تقع على عاتق الدولة الإسلامية هي تحقيق التوازن الاجتماعي في المجتمع، إذ يعتبر مبدأ التوازن الاجتماعي أحد مبدأين(*) عامين يحددان الصورة الإسلامية للعدالة الاجتماعية، وتصورات الإِسلام التفصيلية لهذه العدالة التي ينادي بها، ويرفع شعارها، وبدونهما لا يبقى للعدالة الاجتماعية سوى المفهوم التجريدي العام الذي تختلف المجتمعات الإنسانية فيه(122).

    ويبرز ـ بوضوح ـ اهتمام النظرية الإسلامية بمبدأ التوازن الاجتماعي إلى درجة السماح لولي الأمر (الدولة) بتعطيل القواعد العامة التي قد يتم استغلالها أو قد تشكل خطراً على التوازن العام وتؤدي إلى الإخلال به، ويبدو ذلك في المثال الذي يأخذه السيد الشهيد الصدر في إحياء الأرض، فإن القاعدة تمنح الفرد الحق في إحياء الأرض، ولكن هذه القاعدة قد يتم استغلالها بما يشكل خطراً على التوازن العام في العصر الحاضر، إذ كان الإنسان في عصور العمل اليدوي عاجزاً عن إحياء مشاعات واسعة بسبب عدم قدرته لوحده للقيام بهذا العمل وهو ممنوع من استخدام الأُجراء معه في هذا العمل، فكان لابد أن يباشر الإحياء في حدود خاصة، بينما اختلف الأمر في عصر العمل الآلي، إذ قد يكون بمقدور فرد ما إحياء مساحات واسعة شاسعة جداً دون عناء بفضل توفر الآلة وتقدمها وبذلك سيهدد أفراد قلة التوازن العام، وتكون هذهِ القاعدةِ ـ الآنفة الذكر ـ عائقاً لتحقيق التوازن وخطراً عليه، ولذلك منحت النظرية الإسلامية الحق لولي الأمر (الدولة) بتعطيل هذه القاعدة إذا أدت إلى مثل هذه النتيجة وتقنينها بشكل ينسجم مع تصورات الإِسلام للعدالة الاجتماعية(123).

    [/color]
    [/align]





  6. #6
    تاريخ التسجيل
    Feb 2003
    المشاركات
    29,593

    افتراضي

    [align=justify]وبعد، فما هي نظرة الإسلام إلى التوازن الاجتماعي وما هو السبيل إلى تحقيقه؟

    يرى السيد الصدر أنَّ الرؤية الإِسلامية تعتمد على حقيقتين: إحداهما حقيقة كونية ومضمونها هو "" تفاوت أفراد النوع البشري في مختلف الخصائص والصفات، النفسية والفكرية والجسدية. فهم يختلفون في الصبر والشجاعة، وفي قوة العزيمة والأمل، ويختلفون في حدة الذكاء، وسرعة البديهة، وفي القدرة على الإِبداع والاختراع، ويختلفون في قوة العضلات وفي ثبات الأعصاب، إلى غير ذلك من مقومات الشخصية الإنسانية التي وزعت بدرجات متفاوتة على الأفراد""(124) والتي تؤثر في صياغتها عوامل كثيرة وراثية ونفسية وبيئية و.. ولذلك يرفض السيد الصدر أن يفسَّر التفاوت تفسيراً مادياً على أساس أنه حدث عرضي يترشح من عوامل اقتصادية مثلاً(125)، إذ "" لا يمكن بحالٍ من الأحوال أن يكون العامل الاقتصادي أو أي وضع اجتماعي، كافياً لتفسير ظهور تلك الاختلافات والتناقضات الخاصة بين الأفراد، وإلاَّ فلماذا اتخذ هذا الفرد دور الرقيق، وذلك الفرد دور السيد المالك؟! وأصبح هذا الفرد ذكياً قادراً على الإبداع، والآخر خاملاً عاجزاً على الإجادة؟! ولماذا لم يتبادل هذان الفردان دورهما ضمن إطار النظام العام؟!""(126). وتبعاً لذلك يكون من الخطأ والخطل القول: "" بأنَّ هذا الفرد أصبح ذكياً، لأنه احتل دور السيد في التركيب، الطبقي وذاك أصبح خاملاً، لأنه قام بدور العبد في هذا التركيب، لأنه لابد لكي يحتل هذا دور العبد، ويحظى ذلك بدور السيد أن يوجد فارق بينهما مكَّن السيد بإقناع العبد بتوزيع الأدوار على هذا الشكل""(127).

    أما الحقيقة الأخرى التي ينطلق الإسلام في بناء رؤيته للتوازن على أساسها هي القاعدة المذهبية للتوزيع التي تقرر: أنَّ العمل هو أساس الملكية. وعلى ضوء هاتين الحقيقتين يتضح علاج الإسلام وتصوراته تجاه قضية التوازن الاجتماعي إذ يبدو من الطبيعي أن يقر الإسلام هذا التفاوت ""لأنه وليد الحقيقتين التي يؤمن بهما معاً ولا يرى فيه خطراً على التوازن الاجتماعي ولا تناقضاً معه""(128). وعلى ضوء هاتين الحقيقتين تتلخص رؤية الإسلام في "" أن التوازن هو التوازن بين أفراد المجتمع في مستوى المعيشة، لا في مستوى الدخل. والتوازن في مستوى المعيشة معناه: أن يكون المال موجوداً لدى أفراد المجتمع ومتداولاً بينهم إلى درجة تتيح لكل فرد العيش في المستوى العام، أي أن يحيا جميع الأفراد مستوى واحداً من المعيشة، مع الاحتفاظ بدرجات داخل هذا المستوى الواحد تتفاوت بموجبها المعيشة ولكنها تفاوت درجة، وليس تناقضاً كلياً في المستوى كالتناقضات الصارخة بين مستويات المعيشة في المجتمع الرأسمالي""(129). فما يقره الإسلام هو التفاوت في مستوى المعيشة الواحدة. أما التناقض الذي يجعل من البعض في بروج الترف والإسراف المبتذل، ويجعل من الآخرين في ضنك العيش والفقر المدقع والحرمان فهو ما لا يقره الإسلام بأي حال من الأحوال، بل يسعى إلى محاربة مثل هذا الوضع المريض، ولذلك يسعى لتحقيق التوازن الاجتماعي على مستوى المعيشة في مسارين "" بضغط مستوى المعيشة من أعلى بتحريم الإسراف وبضغط المستوى من أسفل بالارتفاع بالأفراد الذين يحيون مستوى منخفضاً من المعيشة إلى مستوى أرفع""(130). ويظهر المسار الثاني في مسؤولية الدولة بإغناء أصحاب الدخول الفقيرة التي لم تبلغ المستوى العام، فقد روي عن أبي بصير: "" أنه سأل الإمام جعفر الصادق عن رجل له ثمانمائة درهم، وهو رجل خفّاف وله عيال كثير، أله أن يأخذ من الزكاة؟ فقال له الإمام: يا أبا محمد أيربح من دراهمه ما يقوِّت به عياله ويفضل؟ قال أبو بصير: نعم. فقال الإمام: إن كان يفضل عن قوته مقدار نصف القوت فلا يأخذ الزكاة. وإن كان أقل من نصف القوت أخذ الزكاة. وما أخذه منه فضَّه على عياله حتى يلحقهم بالناس""(131). ومثل هذا الحديث ـ مما روي ـ كثير كلها تشير إلى هذه الحقيقة. ولذلك فإنَّ مسؤولية الدولة عن تحقيق حالة التوازن مهمة مستمرة غير موقوتة بوقت، ولا تقف في لحظة ما، ما دام الإسلام قد أعطى لمفهوم الفقر والغنى مفهوماً مرناً تحدده الظروف المكانية والزمانية(132).

    وتحقيقاً لهذا الهدف تسعى الدولة إلى محاربة كل المظاهر التي تهدد التوازن وتحاول تعميق الهوة والتفاوت بين الأفراد بطرق غير مشروعة بل وبطرقٍ مشروعةٍ أيضاً إذا كانت تلك الطرق تهدد التوازن الاجتماعي.
    وتظهر تطبيقات التوازن الاجتماعي في أحكام اقتصادية إسلامية عديدة فمثلاً: "" حرَّم الإسلام الكسب بدون عمل عن طريق استئجار الفرد أرضاً بأُجرة وإيجارها بأُجرة للحصول على التفاوت بين الأُجرتين، وما شابه ذلك من فروض..""(133)، و""حرم الإسلام بعض الأعمال العقيمة من الناحية الإنتاجية، كالمقامرة والسحر والشعوذة، ولم يسمح بالاكتساب عن طريق أعمال من هذا القبيل بأخذ أُجرة على القيام بها..""(134). ومنع الإسلام من تركيز الثروة في فئة قليلة إذ يؤدي مثل هذا التركيز لا محالة إلى تهديد التوازن(135)، ومنع من الاحتكار ومحاربة الناس بأرزاقها واستغلال الظروف، و""حرّم الإسلام الربا تحريماً قاطعاً لا هوادة فيه، وبذلك قضى على الفائدة ونتائجها الخطيرة في مجال التوزيع وما تؤدي إليه من إخلال بالتوازن الاقتصادي العام""(136).

    ولم تقتصر النظرية الإسلامية على تحديد مفهوم التوازن بل تكفلّت بتوفير الإمكانات اللازمة للدولة لممارسة وتحقيق هذا المفهوم. ويلخص السيد الصدر هذه الإمكانات في:

    أولاً: فرض ضرائب ثابتة تؤخذ بصورة مستمرة وينفق منها لرعاية التوازن العام.

    ثانياً: إيجاد قطاعات لملكية الدولة، وتوجيه الدولة إلى استثمار تلك القطاعات لأغراض التوازن.

    ثالثاً: طبيعة التشريع الإسلامي، الذي ينظم الحياة الاقتصادية في مختلف الحقول.


    أولاً: فرض ضرائب ثابتة

    لقد تطورت الضريبة من مبلغ كان يدفعه المواطن إلى الحاكم كمنحة لمساعدته على تنفيذ المشروعات العامة إلى مشاركة ومساهمة في الأَعباء العامة بصورة دائمة وإلزامية ، وأضحت بهذا الشكل فريضة إلزامية على كل مواطن يجب أداؤها. وبذلك يكون مفهوم الضريبة عبارة عن فريضة مالية تضامنية تقتطعها الدولة بصورة نهائية ومباشرة لتستخدمها في تحقيق أهدافها العامة. وبهذا يظهر الفرق بينها وبين الرسم إذ يعني الأخير مبلغاً من المال يؤديه المنتفع للدولة مقابل منفعة خاصة ومعينة لها صفة الخدمة العامة. فلا يتقوم مفهوم الرسم إلا في عصر الانتفاع من الخدمة العامة ليؤدي المنتفع مقابلها مبلغاً من المال. بينما يؤدي المواطن الضريبة دون مقابل! انتفع بالخدمة العامة أم لم ينتفع، فإنه قد ينتفع المواطن بالخدمات العامة دون أن يدفع الضرائب ـ كما إذا لم يكن مكلفاً بدفعها ـ وقد لا ينتفع بها المواطن الآخر مع توجّب الدفع عليه. وبذلك تعبِّر الضريبة عن التضامن والمشاركة في الأعباء العامة تبعاً لمقدرة المواطنين وإمكاناتهم المالية، وهو ما يظهر في الضرائب المالية (العبادية) التي فرضها الإسلام كالزكاة والخمس، بل حتى الضريبة فإنها وإن توجّب دفعها على غير المسلمين من مواطني الدولة الإسلامية مقابل إعفائهم من الضرائب الأخرى (الزكاة والخمس و…) ومقابل الخدمات التي تؤديها الدولة الإسلامية لهم. فإنه حتى في هذه الضريبة يظهر مفهوم التضامن ولأجل ذلك يستثنى أصحاب الدخل المحدود من غير المسلمين من الجزية(137) مع انتفاعهم بالخدمات العامة التي تؤديها الدولة وحقهم في الضمان كما سيأتي.
    أما مطرح(*) الضريبة في الإسلام فإِنه متعدد بحيث يشمل الثروة النقدية (ذهب، فضة، مسكوكة)، والثروة الحيوانية (الإبل، البقر، الغنم)، والثروة النباتية (الحنطة والشعير والتمر والزبيب)، والثروة البحرية (ما يستخرج بالغوص من البحار)، والعوائد التجارية (ما يفضل للتاجر من مؤونة عياله سنة كاملة)، والثروة الصناعية (ما يفضل لذوي الصناعات من أرباح الصناعة بعد إخراج مؤونة العيال سنة كاملة)، والثروة الزراعية (ما يفضل للزارع عن مؤونة عياله سنة كاملة) والأموال المختلطة (المال الحلال المختلط بالمال الحرام) و… (138) وترك لولي الأمر فرض ضرائب على غير ما نصَّ عليه في الحالات الضرورية والتي يرى الولي ضرورة فرضها على مطارح ضريبية غير منصوص عليها لأجل زيادة النفقات العامة، أو التخفيف من حدة التناقضات، أو لتحقيق التوازن الاجتماعي إذ "" قد تطرأ على الحياة الاجتماعية أوضاع طارئة غير عادية، أو تحدث ثغرات مالية كبيرة، تتطلب نفقات كثيرة لا تغطيها الموارد المالية التي شرعت للحالات الاعتيادية كما يحدث في أوقات الحرب.. ففي مثل هذه الأحوال تلتجئ الدولة الإسلامية إلى فرض ضرائب مالية جديدة في حدود حاجة البلاد وإمكانيات الأمة المالية لملأ هذه الثغرات""(139). وبهذا أفتى العديد من فقهاء المسلمين، إذ كلما تلاحظ الدولة الإسلامية نقصاً في المبالغ اللازمة لتأمين المصارف التي تتطلبها الخطط العامة جاز لها أن تفرض ضرائب جديدة غير منصوص عليها(140) على مواطنيها كل حسب مقدرته وإمكانياته المالية، وهذا ما يظهر من عبارات السيد الصدر في الضمان الاجتماعي وحق الدولة في إكراه رعاياها على أداء الواجبات الشرعية المكلفين بها(141) والتي من بينها أداء الضرائب التي يتوقف عليها إدارة الشؤون العامة للدولة أو تحقيق الضمان. وبذلك يظهر الملاك في تحريم الكنز إذ أنَّ الإسلام لا يحد أصل الملك من جهة الكمية بحدٍّ، وإنما حرَّم الكنز لعدم إنفاقها في سبيل الله وهو ما توقف عليه قيام دين الله ومصالح وشؤون مجتمع المسلمين، فإذا عرض المسلم أمواله وجعلها في متناول الدولة الإسلامية وإخضاع هذه الأموال للضرائب المفروضة من قبل ولي المسلمين فلا يعد هذا المسلم مانعاً عن سبيل الله ولا تعد أمواله كنزاً(142). ويوحي كل هذا إلى جواز فرض ضرائب جديدة على الأموال وإن لم يكن منصوصاً عليها، ولهذا يعتبر اكتناز الذهب والفضة (باعتبارهما شكلاً من أشكال النقد) جريمة يعاقب عليها بالنار، لأنَّ الإكتناز يعني بطبيعة الحال التخلف عن أداء الضريبة الواجبة شرعاً(143).

    أما علاقة الضرائب بأغراض التوازن فيبدو من خلال النصوص التي يستعرض السيد الصدر قسماً منها:

    فعن إسحاق بن عمار: ((قال: قلت للإمام جعفر بن محمد: أعطي الرجل من الزكاة مائة؟ قال: نعم، قلت: مائتين؟ قال: نعم. قلت: ثلاثمائة؟ قال: نعم. قلت: أربعمائة؟ قال: نعم. قلت:خمسمائة؟ قال: نعم حتى تغنيه))، الوسائل للحر العاملي ج6 ص180.

    وعن أبي بصير: ((أن الإمام جعفر الصادق (ع) تحدث عمن تجب عليه الزكاة وهو ليس موسراً. فقال:

    يوسع بها على عياله في طعامهم وكسوتهم. ويبقي منها شيئاً يناوله غيرهم. وما أخذ من الزكاة فضه على عياله حتى يلحقهم بالناس))، الوسائل ج6، ص159.

    وعن إسحاق بن عمار: ((قال: قلت للصادق (ع): أعطي الرجل من الزكاة ثمانين درهماً؟ قال: نعم، وزده. قلت: أعطيه مئة؟ قال: نعم، وأغنه، إن قدرت على أن تغنيه))، الوسائل 6/179.

    وتدل هذه الروايات على أن من وظيفة الضريبة أن تحقق التوازن بين أفراد المجتمع وتلحق الفقير بالغني.

    يقول السيد الصدر عن دلالة هذه الروايات: "" فهذه النصوص تأمر بإعطاء الزكاة وما إليها إلى أن يلحق الفرد بالناس: أو إلى أن يصبح غنياً، أو لإشباع حاجاته الأولية والثانوية من طعام وشراب وكسوة وزواج وصدقة وحج على اختلاف التعابير التي وردت فيها وكلها تستهدف غرضاً واحداً. وهو تعميم الغنى بمفهومه الإسلامي وإيجاد التوازن الاجتماعي في مستوى المعيشة""(144).

    وبذلك يكون التوازن الاجتماعي من الأهداف التي تسعى الدولة الإسلامية إلى تحقيقها بشكلٍ مستمر وغير موقوت ما دام لم يعط الإسلام للفقر مفهوماً مطلقاً ومضموناً ثابتاً إذ يكون عدم التحاق البعض في المعيشة بمستوى الآخرين مؤشراً على اختلال التوازن الاجتماعي الذي يجب أن تبادر الدولة الإسلامية إلى معالجته وتحقيق التوازن في المجتمع.

    ويتلخص من ذلك كله أن "" المهم في تشريع الضرائب المالية في الإسلام أن الغرض منها ليس فقط تهيئة المال الكافي لتسيير المرافق الاجتماعية وتغطية نفقات الدولة الإسلامية وإن كان ذلك جزءً كبيراً من الغرض في التشريع الضريـبي على كل حال.. بل المهم من تشريع الضرائب المالية امتصاص الثروات الفائضة عن دخول الطبقات الغنية وإعادتها إلى الطبقات الفقيرة أو إلى المرافق الاجتماعية التي تنشأ لصالح الفقراء""(145).

    ثانياً: إيجاد قطاعات عامة

    يعتبر وجود قطاع عام في الاقتصاد الإسلامي أمراً طبيعياً لحق الجماعة والأمة الإسلامية في الانتفاع بثرواتها ومواردها باعتبارها المالك الحقيقي لهذه الموارد والثروات ويتجلى هذا الحق في ملكية الأمة وملكية الدولة. وطبيعة التشريع الإسلامي تشير بوضوح إلى هذه الحقيقة كحق الأفراد في الضمان والمنع من الاحتكار، والمنع من تملك رقبة المال في الثروات الطبيعية والاكتفاء بالانتفاع فقط، وحق الأفراد في الإحياء واكتساب حق الأولوية في الانتفاع من هذه الثروات، وليس هذا الإحياء أو الأولوية إلاّ أحد الأشكال الممكنة التي تمارسها الدولة في استثمار القطاع العام(146)، إذ يمكنها أن تمنع منه إذا أساء لهذا القطاع بوصفها الأمينة على ملكية الأمة والملكية التي تعود إلى الدولة واستثمار هذه الملكيات بالشكل الذي يحقق الازدهار للمواطنين ومالكيها الحقيقيين.

    ويرى السيد الصدر أن الطريقة المذهبية لتحقيق الضمان الاجتماعي هي فكرة القطاع العام وهو ما يوحي به المقطع القرآني من سورة الحشر قوله تعالى: وما أفاء الله على رسوله منهم فما أوجفتم عليه من خيل ولا ركاب ولكن الله يسلط رسله على من يشاء والله على كل شيء قدير* ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل كي لا يكون دُولةً بين الأغنياء منكم.. (آية: 6- 7 سورة الحشر).

    يقول السيد الصدر تعليقاً على المقطع القرآني: "" ففي هذا النص القرآني قد نجد إشِعاعاً بالأساس الذي تقوم عليه فكرة الضمان. وهو حق الجماعة كلها في الثروة كي لا يكون دُولةً بين الأغنياء منكم، وتفسيراً لتشريع القطاع العام في الفيء، بكونه طريقة لضمان هذا الحق، والمنع عن احتكار بعض أفراد الجماعة للثروة وتأكيداً على وجوب تسخير القطاع العام لمصلحة اليتامى والمساكين وابن السبيل ليظفر جميع أفراد الجماعة بحقهم في الانتفاع بالطبيعة، التي خلقها الله لخدمة الإنسان""(147). وعليه "" تدل الآية بوضوح على أن إعداد الفيء للإنفاق منه على الفقراء يستهدف جعل المال متداولاً وموجوداً لدى أفراد المجتمع ليحفظ بذلك التوازن الاجتماعي العام ولا يكون دولة بين الأغنياء خاصة""(148).

    أما علاقة القطاع العام بالتوازن الاجتماعي فيستظهر السيد الصدر هذه العلاقة من الحديث المروي عن الإمام موسى الكاظم (ع): قال وهو يتحدث عن نصيب اليتامى والمساكين وابن السبيل من الخمس : ((إن الوالي يقسم بينهم على الكتاب والسنة ما يستغنون به في سنتهم، فإن فضل عنهم شيء فهو للوالي، فإن عجز أو نقص عن استغنائهم كان على الوالي أن ينفق من عنده بقدر ما يستغنون به)). أصول الكافي: 1/540، فإنه (رحمه الله) استظهر من كلمة (من عنده) إنها ""تدل على أن غير الزكاة من موارد بيت المال يتسع لاستخدامه في سبيل إيجاد التوازن بإغناء الفقراء ورفع مستوى معيشتهم""(149). وبذلك: "" لم يكتف الإسلام بالضرائب الثابتة التي شرعها لأجل إيجاد التوازن بل جعل الدولة مسؤولة عن الإنفاق في القطاع العام لهذا الغرض""(150).

    ثالثاً: طبيعة التشريع الإسلامي

    التشريعات الإسلامية - مضافاً إلى الضرائب الثابتة والقطاع العام - هي الأخرى تسهم بطبيعتها في تحقيق التوازن الاجتماعي وخلقه، وهي تشريعات كثيرة يكتفي السيد الشهيد بالإشارة إلى بعضها لا على سبيل الحصر، مثل: إلغاء الفائدة، وأحكام الإرث، وتحريم الكنز، وإلغاء الاستثمار الرأسمالي للثروات الطبيعية الخام.. وكلها تهدف إلى خلق التوازن الاجتماعي وتحقيقه، مضافاً إلى صلاحيات الدولة ضمن منطقة الفراغ. "" فالمنع عن اكتناز النقود وإلغاء الفائدة، يقضي على دور المصارف الرأسمالية في إيجاد التناقض والإخلال بالتوازن الاجتماعي وينتزع منها قدرتها على اقتناص الجزء الكبير من ثروة البلاد الأمر الذي تمارسه تلك المصارف في البلاد الرأسمالية عن طريق تشجيع الناس على الادخار وإغرائهم بالفائدة""(151)، وذلك يقضي بانتزاع قدرة رأس المال الفردي على التوسع في حقول الإنتاج والتجارة بالشكل الذي يضرُّ بالتوازن، وبذلك يفقد الرأسمال الفردي الإمكانية على إقامة المشاريع الكبيرة، خاصة بغياب المصارف التي تتعامل بالفائدة، ويكون بذلك الباب واسعاً أمام القطاع العام لإدارة مثل هذه المشاريع ضماناً وحماية للتوازن الاجتماعي.

    أما تشريع الإرث وأحكامه فهي الأخرى تهدف إلى تحقيق التوازن المنشود عبر تفتيت الثروة التي غالباً ما تنتقل من فرد إلى عدة أفراد من أقرباء المورِّث.

    أمّا صلاحيات الدولة في ملء منطقة الفراغ فهي الطريق الواسع والأسلوب المرن لتحقيق التوازن حسب ما تقتضيه الظروف والأوضاع.

    [mark=cccccc]الضمان الاجتماعي[/mark]

    إنَّ من الحقوق الأساسية للفرد في الدولة الإسلامية توفره على عملٍ يسمح له المساهمة في النشاط الاقتصادي والعيش بكرامة، فإن اتفق وكان الفرد عاجزاً عن العمل، أو امتنع على الدولة منحه فرص العمل لظروف استثنائية كان عليها أن تضمنه وذلك عن طريق "" تهيئة المال الكافي لسدِّ حاجات الفرد وتوفير حدٍّ خاص من المعيشة له""(152).

    ولا يظهر الضمان الاجتماعي في هذا الجانب فحسب، بل يتجلى بصورة أكثر إيجابية وبدور أكثر فعالية وذلك عندما "" يقوم بدور كبير في القطاع الخاص، لأن إحساسَ الفرد بأنه مضمون من قبل الدولة، وإنَّ مستوى كريماً من الحياة مكفول به ولو خسر في مشروعه، رصيدٌ نفسي كبير، يزيد من شجاعته، ويدفع به إلى مختلف ميادين الإنتاج وينمي فيه عنصر الإبداع والابتكار خلافاً لمن يفقد ذلك الضمان ولا يحس بتلك الكفالة، فإنه في كثير من الأحايين يحجم عن ألوان من النشاط والتجديد خوفاً من الخسارة المحتملة التي لا تهدد ماله فحسب، بل تهدد حياته وكرامته ما دام لن يجد من يكفله ويوفر له أسباب الحياة الكريمة إذا خسر ماله وضاع في خضم التيار""(153).

    ويرتكز مبدأ الضمان الاجتماعي في المذهب الاقتصادي الإسلامي على أساسين، وتمارسه الدولة على مستوى كل من هذين الأساسين.

    الأول: التكافل العام:

    ويقوم هذا الأساس على مبدأ كفالة المسلمين بعضهم لبعض كل في حدود إمكاناته وقدراته المالية. وهو مبدأ يرقى إلى مفهوم الفريضة بمعنى وجوب كفالة المسلم للمسلم على نحو الوجوب الكفائي الذي يسقط بامتثال البعض الذي يتحقق في امتثاله هدف الشارع وغايته.

    وكان يمكن الاكتفاء بما تقوم به الدولة من إجبار الأغنياء على كفالة الفقراء بفرض ضرائب تؤدى وتستقطع من الطبقات الغنية لحساب الفقيرة دون حاجة لإضفاء صفة الفريضة على هذه العملية أو صبغها بالطابع العبادي، غير أن الإسلام باهتمامه بالعامل الذاتي والنفسي أصرَّ على أن لا يتم تحقيق مبدأ التكافل هذا بطريقة مجردة عن الدافع الخلقي والعامل النفسي الذي يدفع المكلف بشكل واعٍ ومقصود لتحقيق هذا المبدأ مصحوباً بالتقرب إلى الله تعالى مما يسهل عمل الدولة في تحقيق الضمان بأقل جهد وأدنى رقابة(154).

    ولكن الإسلام بإصراره على تصعيد الدوافع الخلقية وتنميتها لا يفسح المجال للتهرب من المسؤولية تحت غطاء الوازع الذاتي، إذ قد يتخلف المسلم عن أداء الفريضة (التكافل) ولا يبادر إليها دون رقابة وإشراف الدولة، فأعطى الإسلام للدولة الحق في إلزام رعاياها على امتثال التكاليف الشرعية، ولإيضاح هذه الحقيقة يقول السيد الصدر: "" والضمان الاجتماعي الذي تمارسه الدولة على أساس هذا المبدأ للتكافل العام بين المسلمين يعبر في الحقيقة عن دور الدولة في إلزام رعاياها بامتثال ما يكلفون به شرعاً، ورعايتها لتطبيق المسلمين أحكام الإسلام على أنفسهم. فهي بوصفها الأمينة على تطبيق أحكام الإسلام والقادرة على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مسؤولة عن أمانتها، ومخوَّلة حق إكراه كل فرد على أداء واجباته الشرعية، وامتثال التكاليف التي كلّفه الله بها، فكما يكون لها حق إكراه المسلمين على الخروج إلى الجهاد لدى وجوبه عليهم كذلك له حق إكراههم على القيام بواجباتهم في كفالة العاجزين، إذا امتنعوا عن القيام بها. وبموجب هذا الحق يتاح لها أن تضمن حياة العاجزين وكالة عن المسلمين، وتفرض عليهم في حدود صلاحياتها مدّ هذا الضمان بالقدر الكافي من المال، الذي يجعلهم قد أدوا الفريضة وامتثلوا لله تعالى""(155).

    أما حدود كفالة المسلم لأخيه المسلم فإنها لا تتعدى الحاجات الضرورية وهو ما يستظهر من الحديثين اللذين ينقلهما السيد الصدر (قدس سره)، إذ جاء في الحديث الصحيح عن سماعة: ((أنه سأل الإمام جعفر بن محمد عن قوم عندهم فضل، وبإخوانهم حاجة شديدة، وليس يسعهم الزكاة أيسعهم أن يشبعوا ويجوع إخوانهم؟ فإن الزمان شديد. فردَّ الإمام عليه قائلاً: إن المسلم أخ المسلم لا يظلمه ولا يخذله، ولا يحرمه، فيحق على المسلمين الاجتهاد فيه والتواصل والتعاون عليه، والمواساة لأهل الحاجة)) الوسائل 11/ 597. وفي حديث آخر: أن الإمام جعفر قال: ((أيما مؤمن منع مؤمناً شيئاً مما يحتاج إليه، وهو يقدر عليه من عنده أو من عند غيره، أقامه الله يوم القيامة مسوداً وجهه، مزرقّة عيناه، مغلولة يداه إلى عنقه، فيقال: هذا الخائن الذي خان الله ورسوله، ثم يؤمر به إلى النار)) الوسائل 11/599.

    الثاني: حق الجماعة في مصادر الثروة:

    وتبدو مسؤولية الدولة في الضمان الاجتماعي على هذا الأساس في النصوص التشريعية إذ جاء في الحديث عن الإمام جعفر الصادق (ع) قوله: ((أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يقول في خطبته: من ترك ضياعه فعليَّ ضياعه ومن ترك ديناً فعليَّ دينُه، ومن ترك ماله فأكِلْه))، وفي حديث عن الإمام موسى بن جعفر (ع) قال محدداً ما للإمام وما عليه: ((إنه وارث من لا وارث له، ويعول من لا حيلة له))، وغير ذلك من النصوص.

    يقول السيد الصدر: "" وأما الأساس النظري الذي ترتكز فكرة الضمان في هذا المبدأ عليه، فمن الممكن أن يكون إيمان الإسلام بحق الجماعة كلها في موارد الثروة، لأن هذه الموارد الطبيعية قد خلقت للجماعة كافة، لا لفئة دون فئة خلق لكم ما في الأرض جميعاً وهذا الحق يعني أن كل فرد من الجماعة له الحق في الانتفاع بثروات الطبيعة والعيش الكريم منها. فمن كان من الجماعة قادراً على العمل في أحد القطاعات العامة والخاصة، كان من وظيفة الدولة أن تهيئ له فرصة العمل في حدود صلاحياتها. ومن لم تتح له فرصة العمل، أو كان عاجزاً عنه.. فعلى الدولة أن تضمن حقه في الاستفادة من ثروات الطبيعة بتوفير مستوى الكفاية من العيش الكريم""(156).

    ويبدو الفرق بين الأساسين المتقدمين في نقطتين من حيث حدود كل من الأساسين ومقتضياتهما، ومن حيث مسؤولية الدولة على مستوى كل من الأساسين، فمن حيث حدودهما فإنهما يفترقان في أن حدود "" الأَساس الأول للضمان لا يقتضي أكثر من ضمان إشباع الحاجات الحياتية والملحَّة للفرد، بينما يزيد الأساس الثاني على ذلك ويفرض إشباعاً أوسع ومستوى أرفع من الحياة""(157). أما من حيث مسؤولية الدولة في تحقيق الضمان الاجتماعي على المستويين (أو الأساسين المذكورين) فإنها تكون على مستوى الأساس الأول مسؤولية غير مباشرة ولا يتعدى دورها عملية إلزام رعاياها المقتدرين على امتثال ما كلفوا به من كفالة بعضهم البعض الآخر. وذلك خلافاً لمسؤولية الدولة على الأساس الثاني إذ "" تكون الدولة مسؤولة بصورة مباشرة عن ضمان معيشة المعوزين والعاجزين بقطع النظر عن الكفالة الواجبة على أفراد المسلمين أنفسهم""(158).

    ومن الجدير بالذكر أن ضمان الدولة الإسلامية لا يختص بالمسلم وحده، بل يشمل غير المسلم ممن يعيش في ظل الدولة الإسلامية. وقد جاء عن الإمام علي (ع): أنه مرَّ بشيخٍ مكفوف كبير يسأل، فقال أمير المؤمنين: ما هذا؟ فقيل له: يا أمير المؤمنين إنه نصراني. فقال الإمام: استعملتموه حتى إذا كبر وعجز منعتموه!! أنفقوا عليه من بيت المال(159). وردَّ البعض كفالة الدولة لغير المسلم إلى ما يأمر به الإسلام من الإحسان وإعانة المحتاجين والرحمة بهم، وهي معاني لا تقتصر على المسلم بل تشمل كل حي وهو ما يظهر من كلام لرسول الله (ص): ((في كل كبد رطبة أجر))(160).

    [mark=cccccc]إشراف الدولة على الإنتاج: [/mark]

    يقول السيد الشهيد: يجب "" على الدولة في المجتمع الإسلامي أن ترسم سياسة اقتصادية للإنتاج تقوم على العناصر المتحركة المستوحاة من تلك الدراسات والخبرات على أن تكون أهداف السياسة منسجمة مع تقييم الإسلام للإنتاج وتوجيهه الحضاري له. وكما يجب على الدولة في هذا المجال أن تتوخى في رسم سياسة الإنتاج إزالة العوائق الطبيعية بالاستفادة من خبرات العلم ومنجزاته ووضع خطة موجهة له تقوم على أساليب الإحصاء، كذلك يجب على الدولة أن تزيل العوائق السياسية عن استثمار المجتمع لثروته وتقضي على كل ظواهرها التي تمس كرامة الأمة وسيادتها على ثرواتها""(161).

    أما مبررات تدخل الدولة في رسم السياسة الاقتصادية لحركة الإنتاج ومشروعية هذا التدخل فيظهر في ما يلي:

    أولاً: إن إعطاء الدولة الإسلامية الحق في الإشراف على الإنتاج وتخطيطه مركزياً يهدف إلى تفادي الفوضى التي تؤدي إلى شل حركة الإنتاج، وتعصف بالحياة الاقتصادية(162).

    ثانياً: "" كما أن رسم سياسة اقتصادية للتنمية الاقتصادية ورفع مستوى الإنتاج يعتبر واجباً على الدولة في حدود صلاحياتها وذلك لأن القوة الاقتصادية أصبحت من أكبر القوى الاجتماعية التي تدخل في تقييم المجتمعات وتحديد درجة قوتها وصمودها على الساحة الدولية""(163). في وقت أصبح الضغط الاقتصادي من أشرس وسائل القوى الاستكبارية للنيل من كرامة الشعوب وارتهان مصائرها.

    ثالثاً: كما تنبع مسؤولية إشراف الدولة على حركة الإنتاج "" من وجوب تطبيق السياسة الإسلامية في مجال الإنتاج وضمان إنتاج الحاجات العامة بدرجة توفر للجميع فرصة الحصول عليها والحيلولة دون الإسراف في الإنتاج إذ كما أن الفرد يحرم عليه الإسراف في الإنفاق كذلك يحرم على المجتمع الإسراف فيه""(164). بل يبدو الإسراف العام والجماعي أخطر بكثير من الإسراف الفردي إذ يودي بثروات المجتمع إلى الهدر والضياع. ولكي تضمن الدولة الحد الأَدنى من السلع الضرورية التي يحتاجها أفراد المجتمع والحد الأعلى الذي لا يجوز التجاوز عنه فلابد لضمان سير الإنتاج الاجتماعي بين الحدين من إشراف الدولة وتوجيهها(165). ومضافاً إلى ما تقدم فإن التشريع الإسلامي بشأن توزيع الثروات الطبيعية يفسح المجال بتدخل الدولة هذا، إذ يتوجب حفاظاً على هذه الثروات أن يتم للدولة الهيمنة على الصناعات الإستخراجية وإنتاج المواد الأولية وهو يعني بالضرورة تدخلها بصورة غير مباشرة على مختلف فروع الإنتاج في الحياة الاقتصادية(166).

    رابعاً: من المبررات التي تستوجب تدخل الدولة في الإنتاج الصلة المذهبية في الإسلام بين عملية الإنتاج والتوزيع ـ وهي ما يسميها السيد الصدر بفكرة التطبيق الموجه ـ والتي تحدد الإنتاج بوصفه عملية تطبيق لقواعد التوزيع لضمان عدالة التوزيع. وعلى أساس هذه الفكرة يحق للدولة الإسلامية التدخل في تطبيق القواعد الثابتة في مجال الإنتاج لحساب التوزيع، إذ قد يُمكّن نمو الإنتاج وتطور وسائله الأفراد من استغلال هذه القواعد(*) بشكل يؤثر سلبياً على عدالة التوزيع، فتبادر الدولة إلى المنع من هذا الاستغلال(167). ويعتقد السيد الشهيد الصدر أن هذه الفكرة تعبر بوضوح عن صلاحية قواعد الإسلام العامة في التوزيع وانسجامها مع تصوراته للعدالة الاجتماعية في كل زمان ومكان(168).

    خامساً: كما أن سيطرة الدولة على القطاع العام يجعلها في وضع متميز يجعل منها قوة موجهة وقائدة للحقول الإنتاجية الأخرى(169).

    سادساً: كما ويعتبر المفهوم الإسلامي للتداول الأساس الذي يخوِّل الدولة استعمال صلاحياتها في مجالات تنظيم التداول فتمنع كل محاولة من شأنها الابتعاد بالتداول عن الإنتاج. وجعله عملية لإطالة الطريق بين المستهلك والسلعة المنتجة(170)، فتسعى الدولة إلى استئصال الأدوار الطفيلية للوسطاء بين عمليتي الإنتاج والاستهلاك والتقريب بينهما(171).

    وثمة مبررات عديدة ومصاديق أخرى لتدخل الدولة في مجال الإنتاج لم نأت على ذكرها أو استقرائها، لضرورة افتقار مثل هذا العمل إلى بحث وتحقيق.

    [mark=cccccc]الإشراف على السوق:[/mark]

    لقد "" أعطى - الإسلام - لولي الأمر صلاحيات تجعل له الحق في الرقابة الكاملة على سير التداول والإشراف على الأسواق للحيلولة دون أي تصرف يؤدي إلى الضرر وزعزعة الحياة الاقتصادية أو يمهد للتحكم الفردي غير المشروع في السوق وفي مجال التداول""(172). وعلى أساس ذلك تمنع الدولة من حالات التضخم المصطنع في المجتمعات الرأسمالية والذي يظهر في تعدد الوسطاء بين المنتج والمستهلك، وزيادة الهوة بينهما، وهو ما يؤدي بدوره إلى رفع الأسعار والتحكم بالسوق. وبذلك يتجه الإسلام إلى استئصال هذه الأدوار الطفيلية التي يتزين بها الوسطاء في عملية خلق حاجات وطلبٍ مصطنع غير واقعي(173).

    كما ويظهر إشراف الدولة على السوق في مقاومة الاحتكار وكل عملية يستهدف منها إيجاد حالة ندرة مصطنعة للسلعة بقصد رفع ثمنها(174).

    وجدير بالذكر أن الاحتكار المنهي عنه في الإسلام ليس ما تعلق أو اختص بأقوات الإنسان أو الأقوات الخاصة الواردة في بعض الروايات بل إن "" تعيين موضوعات الحكرة من شؤون الوالي في كل عصر، وتعيينها في الأخبار الحاصرة كان من هذا القبيل فلا يعم جميع الأعصار""(175)، بل حتى وإن فرض اختصاص النهي عن احتكار الأقوات الخاصة كما ـ هو عند بعض الفقهاء ـ فإنَّ لولي أمر المسلمين المنع عنه عملاً بصلاحياته لملء منطقة الفراغ.

    وكذلك الأمر في الأسعار فإن تحديدها من شؤون الدولة الإسلامية، ويتم ذلك على أساس موازين العدل وعدم الإجحاف.

    [mark=cccccc]مسؤولية الدولة عن القطاع العام:[/mark]

    ثمة ملكية عامة ثابتة في المذهب الاقتصادي الإسلامي لا يسمح أن يصار إلى إلغائها أو التصرف بها على غير الوجه الشرعي الذي أمر به الإسلام تحت أية ذريعة كانت. نعم قد يسمح في وسائل الاستفادة منها وتطوير استثمارها. وتعتبر الدولة الإسلامية الحارس الأمين المكلف بحماية هذه الملكية والمنع من التعدي عليها. وفي هذا الصدد يقول السيد الصدر: "" وأما مسؤولية الدولة في رعاية القطاع العام فهي ثابتة بحكم كونها أمانة تتسلمها الدولة للحفاظ عليها وتحقيق الأهداف الربانية التي شرحتها آية الفيء. فلابد لولي الأمر في رعاية هذا القطاع والاستفادة من أحدث الأساليب، وكل المستجدات العلمية في سبيل تنميته وإصلاحه والانتفاع بمستوى قدرته الإنتاجية لكي يكون قوة كبيرة موجهة للحياة الاقتصادية نحو أهدافها الإسلامية الرشيدة""(176). ولذلك اعتبر السيد الصدر "" أن سماح الدولة للأفراد بالإحياء واكتساب حق الأولوية على مصادر الثروة الطبيعية ليس إلاَّ أحد الأشكال الممكنة التي تمارسها الدولة في استثمار القطاع العام وتوظيفه اقتصادياً، وللدولة أن تمارس استثمار القطاع العام بأشكال أخرى إذا كانت تحقق نتائج أفضل بالنسبة إلى مجمل الحياة الاقتصادية للمجتمع الإسلامي""(177)، ويكون من حق الدولة أن تشتري حق الأولوية من الفرد المحيي وتلزمه ببيعه إذا أدى بقاء هذا الحق إلى إخلال في عدالة وتوزيع المصادر الطبيعية والتوازن الاجتماعي(178).

    ولعل من أهم ما يهدف إليه المذهب الاقتصادي الإسلامي في تشريعه (القطاع العام) هو:

    1- تحقيق الضمان الاجتماعي الذي يعتبر من أهم مسؤوليات الدولة الإسلامية، وقد اعتبر السيد الصدر أن الطريقة المذهبية التي وضعت لتنفيذ فكرة الضمان الاجتماعي هي إنشاء القطاع العام(179).

    2- تحقيق التوازن الاجتماعي والحؤول دون نشوء ملكيات خاصة ضخمة. وقد تم ذلك عبر عدة تشريعات، لعل من أهمها تحريم الإسلام للاكتناز، وهو ما سهَّل عملية القضاء على مشكلة من أهم مشاكل الإنتاج التي تمنى بها الرأسمالية، إذ يعتمد المجتمع الإسلامي في سبيل تنمية الإنتاج وإقامة المشاريع الكبيرة على حقول الملكية العامة وملكية الدولة، ويبقى للملكيات الخاصة المجالات التي تتسع لها إمكاناتها(180).

    3- ولقد "" مكَّن الإسلام الدولة من قيادة جميع قطاعات الإنتاج عن طريق ممارستها القطاع العام""(181) إذ تمتلك الدولة الوسائل المؤثرة والفاعلة في قيادة الإنتاج وتوجيهه والإشراف عليه باعتبارها مالكة لأكبر المشاريع الإنتاجية في البلاد.

    4- كما تبدو إيجابية القطاع العام في "" منح الإسلام الدولة القدرة على تجميع عدد كبير من القوى البشرية العاملة والاستفادة منها في مجالات القطاع العام. وبذلك يمكن للدولة أن تحول دون تبديد الفائض عن حاجات القطاع الخاص من تلك القوى البشرية وتضمن مساهمة جميع الطاقات في حركة الإنتاج الكلي""(182).
    [/align]





  7. #7
    تاريخ التسجيل
    Feb 2003
    المشاركات
    29,593

    افتراضي

    [align=justify]

    [mark=cccccc]اقتصـــــــادنا من وجهة نظر مختلفة [/mark]

    تمهيد:

    كتاب (اقتصادنا) - بتعبير الشهيد الصدر نفسه محاولة بدائية - للغوص إلى أعماق الفكرة الاقتصادية في الإسلام ـ مهما أوتي من النجاح وعناصر الابتكار. وعندئذٍ يلزم أن يدرس، على حد تعبر الشهيد الصدر أيضاً ـ بوصفه بذرة بدائية لذلك الصرح.

    غير أنَّ عناصر الابتكار والنجاح فرضت نفسها على حركة التفكير الإسلامي في هذا الحقل المعرفي، فاعترف المفكرون الإسلاميون ـ وغيرهم ـ بتفوق (اقتصادنا) وتألقه، وذلك لأنه ـ بتقييم المفكر الإسلامي محمد المبارك ـ أول محاولة علمية فريدة من نوعها ينجزها فقيه، يتكرس في كتابه البعد العلمي للاقتصاد والفقهي للشريعة.

    ولم يكن يُتصور أن يكتسب (اقتصادنا) هذا الموقع المتميز، وقد مرَّ على كتابته ما يقرب من أربعة عقود. فبقي متألقاً وهّاجاً على الدوام. ولئلا يتخذ الوصف للإطراء والثناء، يمكن المقارنة بين (اقتصادنا) وبين ما تم إنجازه إلى الآن في الإطار نفسه. وأزعم أنَّ معظم ما كتب عيالٌ على (اقتصادنا) في أهم الأفكار والرؤى الأساسية للاقتصاد الإسلامي ومدينٌ له.

    غير أنَّ هذا الإطراء لا يعني سدَّ الباب أمام النقد والقراءة العلمية لــا(اقتصادنا)، بل على العكس تماماً، فإنَّ نقداً من هذا القبيل يُعبّر عن الاحترام الأكيد والشديد للمؤلَّف ـ بالفتح ـ والمؤلِّف ـ بالكسر ـ معاً. لكن وفقاً للمنهج العلمي والموضوعي. خاصة وأن الكتاب تاريخي، بمعنى أنه كتب في حقبةٍ زمنية، كانت لها أجواؤها الخاصة وطبيعتها أيضاً، فضلاً عن المستوى الفكري الذي كانت تطرح فيه يومذاك. ولذلك افترضه الشهيد الصدر بذرة. وأية بذرة!!

    ومهما يكن من أمر، فإننا وعلى خلفية تفعيل النقد حاولنا رصد بعض القراءات والدراسات النقدية لكتاب (اقتصادنا)، أو التي قيل عنها إنها كذلك، واقتصرتُ على مُهمِّها.

    وقد وجدتها في اتجاهين:

    الأول: ما كان يصدر منها عن موقفٍ مسبقٍ وقَبْليٍّ، فيقرأ (اقتصادنا) في غرفٍ مظلمة لا يبصر منه إلاّ ما يريد أن يبصر.

    وهنا لم يكن مستغرباً أن تتصدى الأقلام الماركسية لتسجيل بعض الملاحظات النقدية! على الأقل بداعي ردّ الاعتبار وحفظ ماء الوجه، وهي في معظمها كذلك.

    خاصة تلك التي كانت في معركة سافرة مع الاتجاه الإسلامي في العراق، التي لم يكن متوقعاً منها قراءة نقدية منصفة، في ظل الإحتراب والصراع المرير. وهذا ما تعبِّر عنه كتابات هادي العلوي تحديداً(*)، وإلى وقت متأخر، وهو يخبط خبط عشواء ويحتطب في الليل.

    ولكن من المستغرب أن تتصدى بعض الأقلام الإسلامية لنقد (اقتصادنا) بالطريقة الماركسية ذاتها، على خلفية الصراع المذهبي البغيض، في وقت كان فيه (اقتصادنا) صيغة إسلامية تجاوزت المذهبية نفسها، كما يشهد بذلك الأثر الذي تركه في المحافل الفكرية والثقافية على تنوعها المذهبي.

    وعلى أية حال، فقد رصدتُ في هذا الاتجاه تيارين ـ إن صحّ التعبير ـ الأول: ويمثله الحسُّ المذهبي الضيق، وشاهده الوحيد، كتاب (الاقتصاد الإسلامي بين فقه الشيعة وأهل السنة ـ قراءة نقدية في كتاب اقتصادنا) لمؤلفيه بالاشتراك أبو المجد حرك ويوسف كمال. والثاني: وتمثله الأقلام الماركسية والاشتراكية، وقد أشرت إلى ثلاثة نماذج: كتبها، أحمد صادق سعد، وغسّان محمود إبراهيم، وفالح عبد الجبار.
    الثاني: وهو إلى حدٍ ما، يصدر عن موقفٍ علمي وروح علمية، وإن كان يشكو من نقاط ضعفٍ كثيرة. وأشرت إلى دراستين: الأولى: كتاب (أصول الاقتصاد الإسلامي) للدكتور رفيق المصري، والثانية: كتاب (تجديد الفقه الإسلامي ـ محمد باقر الصدر بين النجف وشيعة العالم) للدكتور شبلي الملاّط.

    الاتجاه الأول:

    التيار الأول: وممثله كتاب (الاقتصاد الإسلامي بين فقه الشيعة وفقه أهل السنة ـ قراءة نقدية في كتاب إقتصادنا) من تأليف (أبو المجد حرك) بالاشتراك مع (يوسف كمال) في بحثين منفصلين، قال الناشر: "" إنه كتاب يهدف إلى تعرية كتاب ذوائع الصيت ـ يعني كتاب اقتصادنا ـ مُقابلٌ بحسن ظنٍ كبير رغم احتوائه ـ على حد تعبيره ـ على أخطاء منهجية قاتلة ونتائج فقهية مضللة""(*) وقد ذكر الناشر أنَّ المولفين لم يتقابلا ولم ير أحدهم الآخر ـ ولو لمرة واحدة حتى كتابة هذه السطور ـ وذلك للإيحاء بصدقية نتائجهما وأنه مما يمكن إكتشافه دونما تأثير من أحد، ولكن رغم ذلك يلاحظ الباحث أنَّ المقولات النقدية ـ المزعومة ـ واحدة وتكاد تكون نُسخاً متطابقة، إن لم تكن هي كذلك بالفعل.
    جدير بالذكر أن من حق الكاتبين ـ وغيرهم ـ أنْ يسجلا تحفظاتهما على بعض المقولات العلمية التي اشتمل عليها كتاب (اقتصادنا)، وهو منجز فكري نظير كل المنجزات الفكرية التي تركها لنا المبدعون والمفكرون، ومع ذلك وقعت موقع النقد، بل إن مصيرها إلى ذلك يُعدُّ أكبر شاهد على قيمتها العلمية واحترام المفكرين والمثقفين لها ولمنجزيها، وإلاّ لم تكن موضع عنايتهم ومحط أنظارهم.

    ولذا لم نفاجأ بنقد كتاب (اقتصادنا)، وقد تمنى الشهيد الصدر ذلك كما يبدو في مقدمة كتابه، إنما المفاجئ للباحثين هو منطلقات هذا النقد، التي تكشف عن نوايا ومعايير نقدية لا تنسجم مع روح البحث العلمي والأخلاق العلمية.

    منطلقات النقد:

    مطلع البحث الأول (اقتصادنا ـ كما نراه ـ قراءة متأنية في كتاب اقتصادنا لمحمد باقر الصدر) بقلم (أبو المجد حرك) كتب حرك في الهامش: "" قدم محمد باقر الصدر كتابه إلى القراء تحت عنوان: اقتصادنا: دراسة موضوعية ـ تتناول بالنقد والبحث المذاهب الاقتصادية للماركسية والرأسمالية والإسلام، في أُسسها الفكرية وتفاصيلها"" وهذا العنوان الضخم ـ بهذه الديباجة ـ يشكل من البداية أحد المواضع، التي جانب المؤلف فيها الصواب، حيث جعل نقده حسبما يتضح من هذا التعريف، منصباً ـ أيضاً ـ على المذهب الاقتصادي للإسلام، وهو ما لا نعتقد أن المؤلف قد قصد إليه(1).

    وفي الوقت الذي يُلاحظ فيه الباحث الموقع العلمي الذي يحظى به السيد الشهيد الصدر في الأوساط الإسلامية السُنية، وخاصة في مجال الفقه الاقتصادي، فقد جاءت عبارات الكاتب (حرك) خلواً من ذلك، بل سيتضح بعد حين ـ في هذه السطور ـ أنَّ (حرك) وصاحبه (يوسف كمال) ينعيان على علماء الإسلام السنة تأثرهم بفكر السيد الشهيد في هذا المجال الاقتصادي، وما يحظى به هذا الفكر من إكبار وتقدير.

    ولذلك ـ وبكل أسفٍ ـ تبدو الفقرة التي صدَّر بها (حرك) بحثه، مشبعة بالاتهام والتشكيك بنوايا السيد الشهيد، وكأنه في مهمة سبر لأغوار النفس والسرائر، بما يتنافى ومهمة الباحث، خاصة في ظل فقدان القرائن التي يمكن أن تدعم مثل هذه القراءة الاتهامية. وإذا كان الشهيد الصدر لا يقصد التأسيس لخطاب اقتصادي إسلامي والكشف عن مذهب الإسلام في الاقتصاد كما يحاول تأكيده (حرك) فماذا كان هدفه؟! وما هي موضوعات البحث إذن؟! وقد استغرق السيد الشهيد في الحديث عن (المذهب الاقتصادي في الإسلام) أكثر من نصف الكتاب، الذي زادت صفحاته على سبعمائة صفحة.

    ومهما يكن من أمر، فإنَّ منطلقات النقد عند (حرك) كما حدَّدها نفسه ليست في الإطار العلمي وليست ذات صلة به، بل هي تنبع من رؤية خاصة يؤطرها الانتماء الطائفي أو المذهبي كما يبدو ـ واضحاً ـ في خطاب (حرك) وزميله (كمال).

    وربما تكفي صراحة (حرك) لتأكيد ما ذكرناه، فقد كتب في هذا الصدد:"" . .من هنا، فإنَّ معرفتنا لانتماء محمد باقر الصدر، كمؤلف شيعي المذهب، لا يجب أن تفارقنا طوال رحلة قرائتنا للكتاب، وسنجد أنَّ هذه المعرفة بالرجل، وبالمذهب، وبمنطلقاته الفكرية، قد قدمت لنا خير عون في تقييم الكتاب.. غير أنَّ سؤالاً آخر كان ملازماً لنا، منذ البداية، وهو: إن لم يكن بمقدور باقر الصدر التجرد عن تكوينه العقائدي، والفكري، فما هي المواطن التي ظهر فيها تأثره بالمذهب الشيعي واضحاً في هذا الكتاب..؟ .. غير أن المحظور الذي حرصنا على عدم الوقوع فيه هو ألاّ نندفع بدورنا إلى إدانة هذا الجهد المبذول لاكتشاف مذهب اقتصادي إسلامي بشكل مبدأي. وبناء على ذلك فلا نجد غضاضة في قبول ما توافق مع فقهنا السني من اجتهادات وأحكام وهو قليل، مع ثبوت الحق في النقد والاعتراض على ما نراه مخالفاً لأصولنا الفقهية المعوَّل عليها..""(2).

    والكاتب (حرك) وإن حاول تلطيف عباراته أحياناً إلاّ أن النقد ـ عنده ـ يقوم أساساً على منطلق طائفي ومذهبي ضيِّق، يكون فيه معيار النجاح والصحة والخطأ هو توافق فكر الآخر مع فكره الخاص، وتطابقه معه تطابقاً لا يسمح معه بالاختلاف في وجهات النظر، وإلاّ كان مجانباً للصواب، وأصبح من تحصيل الحاصل أن يكون موقفه سلبياً تجاه أشهر وأعمق كتاب فقهي اقتصادي في المكتبة الإسلامية باعتراف العلماء من المدرسة الإسلامية والمدارس الفكرية الأخرى.

    كتب (حرك): "" فالفكر الشيعي، والفقه الشيعي هو المكوّن الرئيسي ـ إذن ـ لفكر مؤلف (اقتصادنا). ولا غنى عن معرفة هذه الحقيقة، التي أصبحت غير قابلة للنقاش، أثناء شروعنا في تناول موضوعات الكتاب بالعرض والتحليل""(3).

    ولا يخلو تأكيد (حرك) وزميله على الانتماء المذهبي للشهيد الصدر من مغزى، لأن انتماء الشهيد الصدر إلى مدرسة أهل البيت (ع) مما لم يخف على أحد، من حيث لغته وأدوات البحث عنده، ومعظم مصادره.. ولذلك نرجِّح أن يكون هذا التأكيد نوعاً من التحريض المذهبي والدعوة إلى الانغلاق وتعميق الهوة بين أتباع المذاهب الإسلامية، وإلاّ فما ينقم به (حرك) وزميله على الشهيد الصدر من عنايته بفقه مدرسة أهل البيت (ع)(4) على حساب فقه مدرسة أهل السنة، مما لا تسلم منه كتابات علماء أهل السنة في مجال الاقتصاد، إذ اقتصروا في ذلك على تراثهم الخــاص، دونما اهتمام بتراث المدارس الفقهية الأخرى، وخاصة مدرسة أهل البيت (ع).

    وربما نجد العذر للسيد الشهيد ولغيره ـ أيضاً ـ في ذلك، بما يمكن تسميته بالأنس الذهني الذي يغلب على تفكير هؤلاء فيأنس كل واحد منهم بما حوله من تراث فقهي على حساب تراث المدارس الأخرى، بل يمكن أن يقال: إن الشهيد الصدر وإن بدا عليه تأثره بالمصادر الفقهية في إطار مدرسة أهل البيت (ع)، إلاّ أنه نقل كثيراً عن عدد غير قليلٍ من المصادر الفقهية الإسلامية الأخرى، والمصادر الحديثية أيضاً، في وقتٍ تخلو فيه كتب علماء السنة في الحقل الاقتصادي من الآراء الفقهية لمدرسة أهل البيت (ع) أو أحاديثهم.

    على أنَّ الاقتصار على بعض المصادر الفقهية في إطار بعض المذاهب الفقهية لا ينفي إسلامية هذه الرؤى والأفكار ولا يعمِّق المشكلة، وذلك لاشتراكها في عدد كبير من هذه المسائل الفقهية، بل ربما القسم الأكبر منها.

    كتب الدكتور محمد المبارك (أحد أبرز مفكري أهل السنة المعاصرين) بصدد تقييم كتاب (اقتصادنا) ما نصه: "" اقتصادنا للبحاثة الإسلامي المفكر السيد محمد باقر الصدر، وهو أول محاولة علمية فريدة من نوعها لاستخراج نظرية الإسلام الاقتصادية من أحكام الشريعة الإسلامية من خلال استعراضها استعراضاً تفصيلياً بطريقة جمع فيها بين الأصالة الفقهية ومفاهيم علم الاقتصاد ومصطلحاته. وقد جعل المؤلف كتابه في جزأين كبيرين، خصص أولهما لعرض المذهبين الرأسمالي والماركسي ومناقشتهما ونقدهما نقداً علمياً، والثاني لاستخراج معالم النظرية الإسلامية في الاقتصاد. وحبذا لو أن المؤلف لم يقتصر في الآراء الفقهية التي استند إليها على المذهب الجعفري وحده، كما فعل غالباً، وجعله شاملاً للمذاهب الفقهية الأخرى، إذن لكانت الصورة أكمل وأتم، وإن كان هذا لا ينقص من قيمة الكتاب باعتباره معبِّراً عن النظرية الإسلامية لاشتراك المذاهب كلها في هذه الآراء اشتراكاً يكاد يكون تاماً، ولكن توسيع الإطار له دلالته البعيدة وأثره المفيد""(5).

    وعوداً على بدء، يمكن تلمُّس التحريض المذهبي في خطاب (حرك) و(كمال) في عدة موارد يبلغ بعضها حدّ الاسراف، إذ يكتشف في بعضها كاتبنا (حرك) شيعية الصدر! من التزامه بالصلاة على الآل في كل مرة يصلي فيها على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، فقد كتب: "" ويصادف القارئ كتاب (اقتصادنا) في مواضع عديدة قول المؤلف عند ذكر النبي صلى الله عليه وآله وسلم: صلى الله عليه وآله (ص401 مثلاً). ونحن لا نعترض على ذلك في ذاته، إلاّ أننا نراه من المؤشرات الدالة على صحة ما قررناه من تأثر الكاتب بمذهبيته. فمؤلف كتاب (اقتصادنا)، الشيعي المذهب، يكنّ من المعتقدات الشيعية كثيراً مما نعرفه، ونحن نعرف منها مثلاً افتراءات الشيعة على الصحابة، وبغضهم لعمر بن الخطاب وأبي بكر الصديق… ويبدو أن باقر الصدر، حين شرع في كتابه هذا ـ قد أخفق في التخلص من هذه المشاعر الشيعية ببغض الصحابة أو أكثرهم، وبعدم الاعتراف بمشروعية الخلافة الإسلامية قبل وبعد خلافة علي بن أبي طالب…""(6).

    ولا ندري كيف اكتشف كاتبنا (حرك) شيعية الشهيد الصدر! وهو لم يخف انتماءه إلى مدرسة أهل البيت (ع)! بل لماذا يخفيه؟! علاوة على معروفيته في الأوساط العلمية والشعبية، وانتمائه إلى أسرة لا تخفي انتسابها ولا انتماءها أيضاً.

    ولا ندري كيف تكون الصلاة على (الآل) الميامين ذات مغزى! ونقل فضيلة ذلك، صحاح أهل السنة وأرباب المسانيد والحديث الشريف(7).

    كما لا ندري كيف اكتشف كاتبنا (حرك) أن الشهيد الصدر لم يُوفق للتخلص من عبء العقائد الشيعية في كتابه (اقتصادنا)، بل وبالتحديد من بغضٍ للصحابة، وعدم اعترافٍ وتشكيك بخلافة هذا أو ذاك، إذ لم يدلنا (حرك) إلى المواطن التي تجلى فيها إخفاق الشهيد الصدر ـ كما يدعى ـ للتخلص من هذه الأفكار!! وأين تمظهر ذلك في كتابه موضوع النقد!

    وإذا كانت منطلقات النقد عند (حرك) مذهبية ترتكز على تقييم الآخر من رؤية ذاتية، فهي كذلك عند (يوسف كمال) لا تشذ عمّا عليه محاكمات زميله (حرك) ومعاييره النقدية، هذا لو سلمنا أنها معايير تستند إلى الفقه السني، لأننا سنجد أنها معايير يحكمها التعصب والانغلاق أيضاً.

    ومهما يكن من أمر، فإنّ مبرر النقد(8) عند (كمال) لـا(اقتصادنا) يقوم على أساس مخالفة الخطوط الرئيسية في (اقتصادنا) لأصول أهل السنة الاعتقادية، وبناؤها لقواعد عقلية مصادمة لأصول فقه أهل السنة، ووصولها إلى نتائج اقتصادية، مصادمة لفقه جماهير أهل السنة في الملكية والكسب والعقود. وبكلمة مختصرة: إن المشكلة في انتماء الصدر إلى مدرسة أهل البيت (ع) وبما أسماه الكاتب بشيعية الصدر مذهبياً(9).

    بل أنَّ هذه الرؤية المذهبية الضيقة لا تشكل مبرراً نقدياً عند (كمال) وحسب، وإنما تشكل عنده مبرراً للإلغاء أيضاً، فيجد الباحث إسرافاً في الجنوح وإفراطاً في الانحراف عن الضوابط العلمية للتقييم، إذ يعمد (كمال) في خاتمة المطاف إلى التقييم النهائي لـأ(اقتصادنا) فيكتب في عدة سطور:"" ومن الناحية الاقتصادية فليس هنا جديد، لا في العرض، ولا في الاكتشاف، ولا في البناء حسب تعبيره. والكتاب ـ بهذه الطريقة ـ ينزع العقل السليم من جذوره، ويسلمه إلى متاهات لا ضابط لها..""(10).

    ويبدو الفرق واضحاً بين رؤية متعصبةٍ مفرطةٍ في إلغاء الآخر، وبين رؤية تنتمي إلى المدرسة نفسها ـ مدرسة أهل السنة ـ وهي تعتبر (اقتصادنا) أول محاولة علمية تجمع بين الأصالة الفقهية والنضج الاقتصادي، على حدّ تعبير الدكتور محمد المبارك أحد أبرز مفكري مدرسة أهل السنة المعاصرين.

    لكن لو سلمنا تقييم (كمال) وهو ينفي أي مظهر من مظاهر الإبداع والتجديد في (اقتصادنا)، ألا يحق لنا التساؤل عن سبب انبهار الباحثين الإسلاميين في المجال الاقتصادي بالصدر وتأثرهم بمنهجه كما يعترف به (كمال) وبما يُعنون له في نقده! با(نماذج لأثر الكتاب على المفكرين). وهم كثر على حد تعبير (كمال) وفي مقدمتهم أبرز المفكرين الاقتصاديين الإسلاميين في مدرسة أهل السنة!!؟!(11).

    ومهما يكن من أمر ـ فإنّ تأثير العقيدة الشيعية ـ من وجهة نظر حرّك وزميله ـ على اقتصادنا هو الخلل الكبير الذي يصادر جهود السيد الصدر ويجعلها بعيدة عن الإسلام وينزع العقل المسلم من جذوره على حد تعبير (كمال)!!

    هذه هي المنطلقات التي دعت (حرك وزميله) إلى مهاجمة (اقتصادنا) مع أن من غير المنطقي أن يحاكم الباحث آراء غيره وفقاً لمعاييره الخاصة، ولكن ما هي هذه الأصول الإسلامية (السنية)! التي تجاوزها السيد الصدر وأراد نقضها وبناء اقتصاد إسلامي يتناقض معها تماماً؟!


    يتبع ..

    [/align]





  8. #8
    تاريخ التسجيل
    Feb 2003
    المشاركات
    29,593

    افتراضي



    ومن مجموع كلمات (حرك وزميله) يمكن أن نقتنص أهم هذه (الأسس) التي شكلت أساس الفكر الإسلامي ـ من وجهة نظر أهل السنة بل ومن وجهة نظر الكاتبين بعبارة أدق ـ وقد تنكّر لها السيد الصدر.

    أولاً: مركز الحاكم الإسلامي:

    تعليقاً على ما ورد في (اقتصادنا) من أن "" كل ما كان ملكاً للمنصب الإلهي في الدولة، فهو ملك للدولة ولمن يشغل المنصب أصالة أو وكالة التصرف فيه وفقاً لما قرره الإسلام""، استنكر (حرك) أن يكون هناك منصب إلهي من المنظور الإسلامي، وتساءل عما إذا كانت هناك مناصب إلهية أو غير إلهية، وفيما إذا كانت تشغل بالأصالة أو الوكالة، مع أنه ـ كما اعترف ـ لم يجد في (اقتصادنا) ما يوضح المراد من هذا المصطلح، ولذلك يرى (حرك) أن المصطلح المشار إليه مشبّع بالفكر الشيعي ولا علاقة له بالنظرية التي يتبناها أهل السنة.

    وبصدد بيان الموقف الصحيح ـ من وجهة نظر حرك ـ فإنه يتصدى إلى شرحه وبإسهاب شديد فيقول: "" أما من وجهة نظرنا، فالحاكم، في حقيقته، مجرد فرد من أفراد الأمة. اختارته طوعاً وكيلاً عنها، لما يمتلكه من مؤهلات تراها الأمة كافية لشغل هذا المنصب، والقصد من هذه الوكالة أن ينظر في تصريف أمورها وتحقيق مصالحها، بالعدل والحكمة، وفقاً للمقتضيات الشرعية.. ومن هنا نفهم إلزام الإسلام الحاكم باستشارة أهل الشورى، الذي يحصلون على ثقة المسلمين، ويرى الأستاذ أبو الأعلى المودودي في (الحكومة الإسلامية): أنه يجب على ولي الأمر أن يأخذ بما يجمع عليه أهل الشورى وأكثريتهم.. فليس لولي الأمر صفات خاصة تجعله طليق العنان في اختيار ما يراه.. وطاعة ولي الأمر مرهونة بطاعته لله، أي طاعته لأوامره سبحانه، وإقامته لحدوده، وعدم ظلمه للناس.. ولكن الله (وحده) هو المطاع الرئيسي في النظام الإسلامي، وطاعة الرسول (ص) تأتي، لكونه مصدراً موثوقاً به، تصل إلينا عن طريقه أحكام الله وأوامره، فهي من طاعة الله أصلاً... هذا هو اعتقاد أهل السنة في الأئمة، ليس هناك عصمة، ولا ارتفاع فوق بشرية البشر ولا تمتع بخلافة تكوينية، تخضع لولايتها وسيطرتها جميع ذرات الكون كما يدعون""(12).

    ويحسن أن نشير إلى أنَّ أهم ما يؤكده (حرك) هو: اعتبار الحاكم وكيلاً عن الأمة، وأنه يتوجب عليه العمل وفقاً لمقتضيات العدالة والشرعية، وأنه غير طليق العنان، ولا طاعة له باستقلال، وانه يتوجب عليه استشارة أهل الشورى والأخذ بأكثرية آرائهم أو الاجتماع إن اتفق ذلك.

    وهنا يمكن أن نشير إلى أنَّ ما يذكره (حرك) ليس شيئاً مهماً على مستوى التفاصيل، فهو عبارة عن مقولات عامة لا يختلف عليها المسلمون عموماً، وليس في المسلمين من يرى طاعة الحاكم ـ أيا كان ـ في عرض طاعة الله، ليقال له، كما يقول (حرك): إنَّ الله وحده هو المطاع الرئيسي في الفكر الإسلامي، ولا خلاف بين المسلمين في وجوب طاعة الرسول (ص). إنما الخلاف بينهم في خليفة النبي (ص)، ومن هو صاحب الحق في تولي مهام النيابة عن النبي (ص)، وما هي صفاته، على أنّ اختلافهم لا يضر في الأصل المذكور آنفاً مما أشار إليه السيد الصدر من افتراض نيابة عن النبي (ص) بما أسماه بالمنصب الإلهي في الدولة الإسلامية، على مستوى الحكم الولايتي وبصفته (ص) حاكماً لا بوصفه نبياً، وبذلك يكون السيد الصدر قد أحال على مسألة أولية، وهي المسألة الكلامية، مما لا مجال للبحث فيها، بل مما لا يمكن الخوض فيها، مع افتراض كونه بصدد صياغة نظرية اقتصادية إسلامية تنسجم وتتلائم مع الخطوط الإسلامية العامة، بعيداً عن التفاصيل المذهبية، ولذلك أعطى السيد الصدر لعبارته مما اعترض عليه (حرك) مرونة كافية تصلح لجميع الصيغ الكلامية، سواء على الصعيد الشيعي الإثنا عشري ـ في عصر حضور المعصوم ـ أو على الصعيد نفسه في غيبة الإمام المعصوم، أو على الصعيد السني أيضاً.

    وقد غفل (حرك) أو تغافل عما ذكره الشهيد الصدر في هذا الصدد، وأنه ليس في وارد البحث عن الصيغ الكلامية مما هو موضع النزاع والخلاف الكلامي بين المسلمين.

    فقد كتب الشهيد الصدر في ذيل الفقرة التي نقل منها (حرك) ما نصه: "" ومن الواضح أن هذا الكتاب ما دام يبحث في المذهب الاقتصادي، فليس من وظيفته أن يتكلم عن نظام الحكم في الإسلام، ونوعية الشخص أو الجهاز الذي يصح أن يخلف الرسول شرعاً في ولايته وصلاحياته، بوصفه حاكماً، ولا عن الشروط التي يجب أن تتوفر في ذلك الفرد أو الجهاز، فإنَّ ذلك كله خارج عن الصدد، ولهذا سوف نفترض في بحوث الكتاب حاكماً شرعياً، يسمح له الإسلام بمباشرة صلاحيات النبي كحاكم، ونستخدم هذا الافتراض في سبيل تسهيل الحديث عن المذهب الاقتصادي ومنطقة الفراغ فيه..""(13).

    وقد تصدى الشهيد الصدر لبيان هذه الجهة في ما ذكره من أوجه الارتباط بين الاقتصاد الإسلامي وسائر العناصر الإسلامية الأخرى، فكتب في هذا الاتجاه ما نصه: "" الارتباط بين الاقتصاد الإسلامي والنظام السياسي في الإسلام، لما تؤدي عملية الفصل بينهما في البحث إلى خطأ في الدراسة، فللسلطة الحاكمة صلاحيات اقتصادية واسعة، وملكيات كبيرة تتصرف فيها طبقاً لاجتهادها، والضمانات التي وضعها الإسلام لنزاهة ولي الأمر واستقامته: من العصمة أو الشورى أو العدالة، على اختلاف المذاهب الإسلامية، ففي ضوء هذه الضمانات نستطيع أن ندرس مكانة الدولة في المذهب الاقتصادي، ونؤمن بصحة إعطائها الصلاحيات والحقوق المفروضة لها في الإسلام""(14).

    وذكر المعنى نفسه في بحث تدخل الدولة في النشاط الاقتصادي ومبرره الفكري الشرعي، فكتب في جملة ما كتب: "" . . ولا خلاف بين المسلمين، في أن أُولي الأمر هم أصحاب السلطة الشرعية في المجتمع الإسلامي، وإن اختلفوا في تعيينهم وتحديد شروطهم وصفاتهم. فللسلطة الإسلامية العليا إذن حق الطاعة والتدخل..""(15).

    وإذا كان الشهيد الصدر واضحاً في لغته، مكرِّساً الإطار الإسلامي العام باعتباره الإطار الشامل لجميع المذاهب والتيارات والرؤى الإسلامية، فأين هذا الإطار المذهبي الضيّق الذي يحاول (حرك) وزميله تغليف (اقتصادنا) به، وتقديمه للقراء بوصفه رؤية لا صلة لها بالإسلام حتى؟!.

    والأكثر غرابة في ما ينقله (حرك) ما ذكره من تقييد (الحاكم)، وإنه ليس لولي الأمر صفات خاصة تجعله طليق العنان… أو أنه مقيد بحدود الوكالة، وكونه يُصرِّف شؤون المسلمين وفقاً لمصالحهم ووفقاً للمقتضيات الشرعية، فإنّا لا ندري ما هو السرّ في التأكيد على مثل هذه المقولات التي لا يختلف عليها اثنان؟! فهل عثر كاتبنا (حرك) على ما يوحي له باعتقاد للشهيد الصدر ما نحو مغايرٍ، وبشكل يتناقض مع هذه المقولات؟!

    قد نلتمس لكاتبنا (حرك) العذر في التأكيد على هذه المقولات، ولكنّ ـ للأسف ـ فإن عبارات الشهيد الصدر واضحة وجليَّة في استبعاد توهمٍ من هذا القبيل لأنه ـ الشهيد الصدر ـ كان واضحاً كل الوضوح في التأكيد على هذه المقولات، وكأنه يستشرف المستقبل ويرى بعين القادم، وهو يدفع هذا التوهم، لكيلا يُتهم أو تُحمَّل عباراته وكلماته ما لا تحتمل.

    لقد كتب الشهيد الصدر في هذا الصدد: "" فللسلطة الإسلامية العليا إذن حق الطاعة والتدخل لحماية المجتمع وتحقيق التوازن الإسلامي فيه، على أن يكون هذا التدخل ضمن دائرة الشريعة المقدسة. فلا يجوز للدولة أو لولي الأمر أن يحلل الربا، أو يجيز الغش أو يعطل قانون الإرث، أو يلغي ملكية ثابتة في المجتمع على أساس إسلامي، وإنما يسمح لولي الأمر في الإسلام بالنسبة إلى التصرفات والأعمال المباحة في الشريعة أن يتدخل فيها، فيمنع عنها أو يأمر بها وفقاً للمثل الإسلامي للمجتمع، فإحياء الأرض، واستخراج المعادن ـ وشق الأنهار ـ وغير ذلك من ألوان النشاط والاتجار أعمال مباحة سمحت بها الشريعة سماحاً عاماً، ووضعت لكل عمل نتائجه الشرعية التي تترتب عليه، فإذا رأى ولي الأمر أن يمنع عن القيام بشيء من تلك التصرفات أو يأمر به، في حدود صلاحياته كان له ذلك، وفقاً للمبدأ الآنف الذكر""(16).

    وكتب في موضع آخر: "" وحدود منطقة الفراغ التي تتسع لها صلاحيات أولي الأمر، تضم في ضوء هذا النص الكريم كل فعل مباح تشريعياً بطبيعته، فأي نشاط وعمل لم يرد نص تشريعي يدل على حرمته أو وجوبه يسمح لولي الأمر بإعطائه صفة ثانوية، بالمنع عنه أو الأمر به، فإذا منع الإمام عن فعل مباحٍ بطبيعته أصبح حراماً. وإذا أمر به، أصبح واجباً، وأما الأفعال التي ثبت تشريعاً تحريمها بشكل عام كالربا مثلاً، فليس من حق ولي الأمر، الأمر بها. كما أن الفعل الذي حكمت الشريعة بوجوبه كإنفاق الزوج على زوجته لا يمكن لولي الأمر المنع عنه ـ لأن طاعة أُولي الأمر مفروضة في الحدود التي لا تتعارض مع طاعة الله وأحكامه العامة..""(17).

    وكتب في موضع آخر: "" وفي المجال التشريعي تملأ الدولة منطقة الفراغ التي تركها التشريع الإسلامي للدولة، لكي تملأها في ضوء الظروف المتطورة، بالشكل الذي يضمن الأهداف العامة للاقتصاد الإسلامي، ويحقق الصورة الإسلامية للعدالة الاجتماعية""(18).

    وعليه فإذا كانت صلاحية الحاكم المسلم ـ من وجهة نظر الشهيد الصدر ـ محدودة ومقيدة بالأهداف المحددة إسلامياً، وفي ضوء الصورة الإسلامية، وفي طول طاعة الله، فلا يأتي (حرك) بجديد وهو يتحدث عن تقييد صلاحيات (الحاكم) من وجهة نظر أهل السنة، لأنَّ هذه الصورة مما يشترك فيها المسلمون ولا يختلفون فيها، وإن اختلفوا فإنه اختلاف لا يمس جوهر هذه الصورة.

    على أنَّ في آراء الكاتب (حرك) مصادرات فكرية لم يُحسم فيها الجدل في دائرة أهل السنة، فضلاً عن الدائرة الأوسع، ومن ذلك ما ذكره بشأن إلزام الحاكم بإجماع أهل الشورى أو أكثرية أصواتهم فيما نقله عن المودودي، لأن مفكري أهل السنة أنفسهم يختلفون في هذه المسألة، ويدور فيما بينهم جدل لم ينته إلى اليوم، بين من يرى إلزام الحاكم المسلم بذلك وبين من لا يرى ذلك كما هو رأي الدكتور محمد سعيد البوطي(19) أحد أبرز مفكريهم في القرن الأخير.

    وعندئذٍ يمكن أن نشير ـ وبدون مجازفة ـ إلى أن كاتبنا (حرك) غالباً ما ـ إن لم يكن على الدوام ـ يحاكم الآخرين وفقاً لاتجاهات فكرية معينة أنس بها وتأثر ليضفي عليها إطاراً عاماً وصفة شمولية، لتكون معاييره العامة التي يحتكم إليها ويُدين وفقاً لها، ويتهم الآخرين إنهم تنكروا لها.

    على أن هناك من مفكري مدرسة أهل البيت (ع) من يتبنى إلزام الحاكم المسلم برأي أهل الشورى والأخذ بالأكثرية عند الاختلاف، وهو ما اختاره وتبنّاه الشهيد الصدر نفسه في كتابه (الإسلام يقود الحياة)، حيث كتب تعليقاً على قوله تعالى: وأمرهم شورى بينهم، وقوله تعالى: والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، ما نصه: "" فإن النص الأول يعطي للأمة صلاحية ممارسة أمورها عن طريق الشورى ما لم يرد نص خاص على خلاف ذلك، والنص الثاني يتحدث عن الولاية، وإن كل مؤمن وليّ الآخرين. ويريد بالولاية تولي أموره بقرينة تفريع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عليه، والنص ظاهر في سريان الولاية بين كل المؤمنين والمؤمنات بصورة متساوية. وينتج عن ذلك الأخذ بمبدأ الشورى وبرأي الأكثرية عند الاختلاف""(20).

    ويبدو أنَّ (حرك) غير قادر على قراءة أفكار الشهيد الصدر بطريقة سوية وذلك على خلفية التصنيف المذهبي بما أشرنا إليه، وبما انعكس في عدد من التعليقات وبما لا ينسجم مع المنطق العلمي والنقد الموضوعي.

    ولعل أسوأ قراءة له، قراءته الشهيد الصدر في التمييز بين ما أسماه بملكية الدولة، وملكية الإمام، وملكية الأمة، إذ فهم (حرك) أن الشهيد الصدر يخلط على الدوام - على حد تعبيره - بين ملكية الدولة وملكية الإمام ملكية شخصية تخوله التصرف في أملاك وأموال المسلمين، كما يتصرف في أملاكه وأمواله الخاصة، كما هي سيارته الخاصة ومنزله الخاص ومتاعه الشخصي(21).

    ولا ندري من أين فهم (حرك) هذه التسوية، فضلاً عن تفسيره الخاطئ لملكية الإمام وأنها ملكية شخصية له يتصرف بموجبها كما يتصرف في أملاكه الخاصة؟!! كيف وقد عقد الشهيد الصدر فصلاً(22) للفرق بين ملكية الدولة أو الإمام وبين ملكية الأمة، وقد تحدث في أثناء ذلك بطريقة تبدِّد هذا الوهم وأن ملكية الإمام أو الدولة وإن كانت تعود من حيث التصرف إلى الحاكم إلاّ أنها ملكية تتفق من حيث المغزى الاجتماعي مع ملكية الأمة، ولذلك صحّ إدراجها تحت عنوان الملكية العامة، وعليه لا يجوز للحاكم التصرف فيما أُسمي بملكية الدولة أو الإمام على حد تصرفه بأملاكه الشخصية، بل أنَّ تصرفاته محكومة ومحدودة بالقواعد التشريعية، نعم، هناك اختلاف في هذه القواعد التشريعية، فيما هي القواعد التي تحكم ملكية الأمة، وفيما هي القواعد التي تحكم ملكية الدولة أو الإمام، وقد نظَّر لهما الشهيد الصدر بما هو المعروف الآن من الفرق بين أموال الدولة الخاصة وأموالها العامة(23).

    ثانياً: اجتهاد ولي الأمر:

    ومن المقولات التي يرى (حرك) أن الشهيد الصدر يسوِّق لها في (اقتصادنا) انطلاقاً من رؤية شيعية خاصة بالمذهب الشيعي ما نقله عن الشهيد الصدر، وتحديداً قوله "" ويشتمل النظام الاجتماعي في الإسلام ـ أيضاً ـ على جوانب مفتوحة للتغير، وفقاً للمصالح والحاجات المستجدة، وهي الجوانب التي سمح فيها الإسلام لولي الأمر أن يجتهد. وفقاً للمصلحة والحاجة على ضوء الجانب الثابت في النظام""، فكتب (حرك) معلقاً على ذلك: "" فحصر ـ يعني الشهيد الصدر ـ الاجتهاد في ولي الأمر، ولم يشرك فيه غيره من علماء الدين وفقهائه، أو من خبراء الدنيا المتخصصين في شتى فروع المعرفة. فالنص تزكية للاجتهاد الفردي لولي الأمر، وتجاهل لضرورة الاجتهاد الجماعي، في عالم تشعبت أزماته، وتعقدت مشكلاته، ولم يعد يغني رأي الإمام الواحد، أو الفقيه الواحد أو الخبير الواحد. ومما لا شك فيه أن النص السابق متأثر أشد التأثر بفكرة (الإمام) وفكرة (ولاية الفقيه) كما يقول الخميني: "" نحن نعتقد أن المنصب الذي منحه الأئمة للفقهاء لا يزال محفوظاً""، فولي الأمر ـ عند الشيعة ـ هو الفقيه، حتى يعود الإمام الغائب، وهم لا يرون بأساً في تصديق أن فقيهاً من الفقهاء يتصل بالإمام الغائب ـ الذي غاب منذ أكثر من ألف عام، وكان عمره وقت غيابه خمس سنوات ـ ويراسله ويستفتيه، ويكون نائباً له، وينقل عنه الأحكام والفتاوى، التي لا تناقش كما يقول الخميني: "" فالسائل المعاصر لأوائل غيبة الإمام، وهو على اتصال بنوابه ويراسل الإمام ويستفتيه، لم يكن يسأل عن المرجع والفتوى، فهل هذا ما يراد لأمة المسلمين من أوضاع ومن ولاة للأمور""(24).

    والباحث أمام نصٍ حافل بالخلط والمغالطات بل والمهاترات أيضاً، فهل دلّنا (حرك) على فقيه شيعي زعم انه يتصل بالإمام الغائب وأنه يأخذ منه فتاواه الشرعية، مما وصفه بالفتاوى التي لا تناقش، كيف وقد دأب الفقهاء في مدرسة أهل البيت (ع) بتصدير كتب الفتاوى عندهم بعبارة موجزة ذات دلالة كبيرة ومغزى علمي كبير، إذ يكتبون: "" إن العمل بهذه الرسالة أو الفتاوى مبرئ ومجز للذمة إن شاء الله"" للدلالة على احتمال الخطأ فيها وعدم إصابة الواقع. على أنَّ مسألة النيابة عن الإمام المعصوم مسألة فقهية تتصل بمسألة كلامية، لسنا بصددها الآن لئلا نخرج باستطرادات كثيرة يضيع معها محور البحث والمسألة الأم.

    أما ما وصفه من تكريس للاجتهاد الفردي على حساب الاجتهاد الجماعي في زمن تشعبت فيه الأزمات وتعقدت فيه المشكلات، فإنه وإن بدا بصبغةٍ برّاقة إلاّ أنه ـ وللأسف ـ ينطوي على شيء غير قليل من المغالطة، وذلك لجهة أنَّ الشهيد الصدر ليس في وارد تحديد ولي الأمر ـ كما ذكرنا ـ وليس في وارد الحديث عن كيفية الوصول إلى اجتهاد سليم يستبعد معه الخطأ قدر الإمكان ليقال له: إن الاجتهاد الجماعي أكثر مصداقية من الاجتهاد الفردي، بل هو بصدد بيان مرونة النظام الإسلامي واستجابته لمتطلبات العصر وفقاً للقواعد الثابتة من الشريعة. وقد ذكرنا ـ فيما سبق ـ أن الشهيد الصدر من الميّالين إلى الأخذ بنتائج الشورى ووفقاً للأكثرية إن عُدم الإجماع والتوافق بين أهل الشورى والخبرة.

    أما دعواه بأنه ـ الشهيد الصدر ـ في تكريسه الاجتهاد الفردي يستند إلى رؤية شيعية وهي فكرة (الإمامة) وفكرة (ولاية الفقيه) فهي غريبة إلى حد بعيد، ذلك أن الفقه السني نفسه يرى في (ولي الأمر) شرط الاجتهاد والفقاهة، فأي فرقٍ بين المدرستين من هذه الجهة؟!

    وأين يضع (حرك) مفكري مدرسة أهل السنة من الميّالين إلى الاجتهاد الفردي، وأن ولي الأمر غير ملزمٍ بالأخذ برأي الأكثرية، وأنه يشاور أهل الشورى، ثم هو في حلّ من آرائهم، فله رأيه وعليه إتّباعه لأنه مجتهد ويرى أصوبية رأيه، كما يراه الدكتور البوطي صريحاً(25)؟!! فهل يصنِّف (حرك) البوطي في المتأثرين بفكرة الإمامة وولاية الفقيه؟!

    على أنَّ فكرة الاجتهاد الجماعي حديثة العهد عند أهل السنة أنفسهم، وقد حاول البعض التنظير لها والتماس المبررات الشرعية، في ضوء ما يروونه من روايات في جوامعهم ومسانيدهم الحديثية.

    ولذلك ذكر الدكتور يوسف القرضاوي ـ أحد أبرز مفكري أهل السنة ـ: "" إن عملية الاجتهاد في ذاتها عملية فردية في الأساس. وإنما الاجتهاد الجماعي هو التشاور فيما وصل إليه أفراد المجتهدين""(26).

    ثالثاً: اكتشاف المذهب الاقتصادي:

    ومما كان موضعاً للنقد من وجهة نظر (حرك) ما أسماه با(الخطأ المنهجي في اكتشاف المذهب"".
    والخطأ المنهجي هذا كما يبدو بلغة (حرك) يتلخص في عدة نقاط:

    كتب (حرك) معلقاً على ما عبّر عنه الشهيد الصدر با(اكتشاف المذهب الاقتصادي في الإسلام): "" وبما أن الاكتشاف لا يكون إلاّ لشيء مجهول، فإن تكرار هذا الاصطلاح في الكتاب يضع الكاتب في مظهر البادئ من الفراغ، وكأن جهده في التعريف بالاقتصاد الإسلامي جهد غير مسبوق، فيذرو بكتابات الفقهاء وعلماء الاقتصاد والكتّاب المعاصرين أدراج الرياح..""(27).

    وهذه الملاحظة النقدية!! مردودة لسبب واضح جداً، وذلك لأنها لم تتولد إلاّ من نية سيئة وقراءة تعسفيةٍ معبأةٍ بالتشنج النفسي، إذ لم ترد في (اقتصادنا) أية قرينة يمكن أن تدعم مثل هذا الاستنتاج، بل الأمر على العكس تماماً، لأن الشهيد الصدر ـ وهو يتوفر على إنجاز اقتصادنا ـ إنما يحاول أن يقدم الصورة الكاملة نسبياً عن الاقتصاد الإسلامي، كما نفهمه اليوم ومن مصادره وينابيعه(28)، ولم يدَّع ـ على الإطلاق ـ أنه بصدد إنجاز صورة كاملة للاقتصاد الإسلامي غير منقوصة، بل إنه يعتبر (اقتصادنا) محاولة بدائية مها أُوتي من النجاح وعناصر الابتكار، وتمنَّى أن يُدرس بهذه الرؤية ومن هذا المنظور(29).

    على أنَّ الآراء التي عرضت في الكتاب هي آراء فقهية للعديد من الفقهاء المسلمين، ومنها ما يخالف آراء واجتهاد الشهيد الصدر نفسه(30)، وهو ما يدحض استنتاج (حرك)، ويؤكد أنَّ الشهيد الصدر في عرضه للمذهب الاقتصادي الإسلامي بصدد إنجاز اقتصاد إسلامي، وفقاً لما انتهت إليه آراء العديد من الفقهاء المسلمين، ومن مذاهب فقهية متعددة. وليس بصدد إنجاز اقتصاد من هذا القبيل، وفقاً لما انتهت إليه وجهات نظره الخاصة في هذا الإطار. وهذا ما يُفنِّد مزاعم (حرك) وهو بصدد تحريضٍ غير نبيل، يرتكز على دعوى نبيلة وبرَّاقة، وكأنه يتباكى على التراث الفقهي الإسلامي الذي تنكّر له الشهيد الصدر في (اقتصادنا)!!.

    ولا ندري لما لا يتجرع الكاتب (حرك) ما يراه من موقعٍ علمي فريدٍ لـا(اقتصادنا)، وما توفر عليه من الإبداع والابتكار. الذي يذعن له أكابر فقهاء أهل السنة أنفسهم، وممن لهم أيادٍ بيضاء على الفكر الإسلامي.
    ولسنا في مقام تحشيد الشهادات العلمية مما قيل في اقتصادنا، إلاّ أننا أشرنا فيما سبق من سطورٍ إلى تقييم الدكتور محمد المبارك فليراجع وله تقييم آخر مقتضب، إذ كتب ما نصه: "" وتعتبر محاولة العلاّمة السيد محمد باقر الصدر في رأيي محاولة جريئة من هذا النوع خطت خطوات عظيمة، وكانت دراسة علمية رائدة، نأمل أن يقدم لنا الأخصائيون في الاقتصاد رأيهم فيها، كما يمكن أن يسهم الفقهاء الراسخون والمفكرون الإسلاميون في بحثها، باعتبارها مشروعاً ناضجاً يقدمه مفكر وفقيه كبير من علماء الإسلام المعاصرين""(31).

    في ما بحثه الشهيد الصدر تحت عنوان (اكتشاف المذهب الاقتصادي) نبّه على ما يمكن أن يواجهه الباحث الإسلامي بصدد نفض غبار السنين عن رؤية الإسلام ونظريته في الاقتصاد، فذكّر بضرورة توفره على عملية الربط بين أحكام الإسلام التشريعية، وبما ينتج عنه من نظرية منسجمة ومتجانسة، وهذا ما لا يمكن التوفر عليه دائماً، إذ ربما يؤدي اجتهاد الفقيه لسبب وآخر إلى نتائج قلقة لا يمكن تجاوزها إلاّ عن طريق ملء نقاط الضعف فيها باجتهاد مجتهد غيره، على خلاف ما هو الحال في فقه الأحكام مما لا يمكن تجاوزه، على خلفية عدم مسؤولية المجتهد تجاهها شرحاً وتفسيراً وتكييفاً.

    إزاء هذا التنظير وقع (حرك) في التباسٍ شديد، وفهم خاطئ غير مبرر على الإطلاق، إذ فهم من الشهيد الصدر أنه بصدد تجاهل الأحكام الشرعية وبصدد محاولة إلغاء بعضها.

    كتب (حرك) معلّقاً بإسهاب: "" وقبل الحديث عن ذلك، يهمنا أن نلاحظ ـ هنا ـ كيف يتجاهل المؤلف أن الأحكام الإسلامية، لم يستنبطها رجال قانون، وفقاً لمذهب اقتصادي سبق الاتفاق عليه، كما هو الحال بالنسبة للقانون المدني في بلد رأسمالي مثلاً، بل هي تشريعات إلهية مباشرة من القرآن الكريم أو غير مباشرة من السنة المطهرة، فهي تشريعات من لدن صاحب (المذهب نفسه)، وهي تشريعات لا نجد بُداً من اعتبارها طريقنا الوحيد الممكن في معرفة المذهب.. فنقطة الخلل الرئيسية في منهج باقر الصدر ـ إذن ـ هي: عدم اكتراثه بهذه الحقيقة، حيث يرى أن المجتهد الذي يتصدى لاكتشاف المذهب الاقتصادي للإسلام يجب عليه أن يختار مجموعة متسقة من الأحكام منسجمة في اتجاهاتها ومدلولاتها النظرية ليستطيع أن يكشف، على أساسها المذهب. أما الأحكام (غير المتسقة) مع هذه المجموعة فيرى الصدر: ضرورة التحايل على عزلها: مرة بادعاء الوضع ومرة بالتأويل على أساس أن التناقض الظاهر بينها وبين المجموعة المتسقة تناقض سطحي، وأما حين يتعذر ذلك، فلا مفر من عزل هذه الأحكام غير المتسقة، لأن الفقيه عند اكتشافه للمذهب يجب أن يتخطى فقه الأحكام إلى فقه النظريات.. بهذا المنهج الانتقائي التلفيقي يبيح الصدر التضحية بأحكام وأحاديث ونصوص على مذبح اكتشاف المذهب… كأنه الإيمان ببعض الكتاب والكفر بالبعض الآخر، والعياذ بالله""(32).

    ونحن أمام لوحةٍ أدبية!! تزخر بالشعارات وتنبض بالحماسة الفائقة في الدفاع عن الشريعة! وكأن الشهيد الصدر بصدد تدميرها ومحو آثارها! إنها لوحة تشي بفهم خاطئ وقراءة سطحية للنص الأصلي في (اقتصادنا) وما يريده من التمييز بين فقه الأحكام وفقه النظرية، فضلاً عن الفهم الخاطئ لطبيعة النصوص من حيث ثبوتها ونسبتها إلى الشارع المقدس. ومن حيث وضوح دلالاتها.

    ولا ندري ما هو مدلول هذا الاستنتاج بالضبط بعد افتراض أن اكتشاف المذهب الاقتصادي يقوم على قراءة متأنية للأحكام الشرعية ومحاولة فهمها؟!

    إنّ ما حجب الرؤية عند (حرك) هو قراءة نصوص (اقتصادنا) بـا(نظارات) سوداء معتمة، حالت دون أن يرى الجوانب المضيئة فيه. بل حالت دون الاستمرار في قراءة (النص) لتكون القراءة بعد ذلك مجتزأة وناقصة. وإلاّ فهل يخفى على (حرك) ما يؤكده الشهيد الصدر من مرجعية (الكتاب) و (السنة) وطبيعتهما من حيث الثبوت ومن حيث الدلالات. بل وطبيعة المناهج الفقهية وطرائق الاستدلال(33). وهل يخفى على (حرك) تأكيد الشهيد الصدر على إسهام (الأحكام) و(المفاهيم الإسلامية) وما أسماه با(منطقة الفراغ) في عملية الاكتشاف هذه(34). بل هل يخفى على (حرك) صريح عبارات الشهيد الصدر من أنه بصدد الإشارة إلى التركيب بين الأحكام الشرعية ـ مما يسهم في اكتشاف المذهب ـ لا تجميع هذه الأحكام(35)، وصريح عباراته في أن الاستبعاد إنما يتم لا للإلغاء ـ كما يشاء (حرك) ـ بل لأنها تدخل في إطار آخر غير ما نحن فيه.

    كتب الشهيد الصدر: "" على أساس ما تقدم يصبح من الضروري أن ندرج عدداً من أحكام الإسلام وتشريعاته التي تعتبر بناءً فوقياً للمذهب في نطاق عملية اكتشاف المذهب، وإن لم تكن داخلة كلها في صميم المذهب ذاته. ولأجل هذا سوف يتسع البحث في هذا الكتاب الكثير من أحكام الإسلام في المعاملات والحقوق التي تنظم العلاقات المالية بين الأفراد، كما يتسع لبعض أحكام الشريعة في تنظيم العلاقات المالية بين الدولة والأمة، وتحديد موارد الدولة وسياستها العامة في إنفاق تلك الإيرادات، لأن هذا الكتاب ليس كتاب عرض للمذهب الاقتصادي فحسب، وإنما هو كتاب يحاول أن يمارس عملية اكتشاف لهذا المذهب، ويحدد لهذه العملية أسلوبها وسيرها ومضمونها ونتائجها. ولهذا سوف نقتطف وننسق من أحكام الإسلام في المعاملات والحقوق والضرائب ما يُعد بناء علوياً للمذهب، ويلقي ضوءً عليه في عملية الاكتشاف. وأما الأحكام التي لا تساهم في هذا الضوء فهي خارجة عن مجال البحث، فعلى سبيل المثال نذكر الربا والغش، وضريبة التوازن، وضريبة الجهاد. فإن الإسلام قد حرم الربا في المعاملة كما حرّم الغش أيضاً، غير أن تحريم الربا والمنع عن القرض بفائدة يساهم في عملية الاكتشاف، لأنه جزء من بناء علوي لنظرية توزيع الثروة المنتجة، فهو يكشف عن القاعدة العامة للتوزيع في الإسلام كما سيأتي في بحث توزيع ما بعد الإنتاج، وأما حرمة الغش فليس لها إطار مذهبي، ولذلك قد تتفق عليها قوانين جميع البلاد المختلفة في مذاهبها الاقتصادية، وكذلك الأمر في ضريبتي التوازن والجهاد، فإن الضريبة التي يشرعها الإسلام لحماية التوازن ـ كالزكاة مثلاً ـ تدخل في عملية الاكتشاف، دون ضريبة الجهاد التي يأمر بها الإسلام لتمويل جيش المجاهدين، فإنها تتصل بدور الدعوة الإسلامية في الدولة الإسلامية، لا بالمذهب الاقتصادي في الإسلام""(36).

    على أنَّ ما أسماه (حرك) بالتحايل على الأحكام لعزلها واستبعادها، وبما أسماه بالكفر ببعض الكتاب والإيمان ببعض، ينفيه أنَّ الحل الذي اقترحه الشهيد الصدر لتجاوز القلق الذي ينتاب المجموعة التي يكوّنها الفقيه بغية اكتشاف المذهب الاقتصادي الإسلامي يقوم على تجاوز الفهم الشخصي إلى فهم الآخر، أي من الفهم الشخصي الذاتي للنص إلى فهم فقيه آخر للنص نفسه أو لنص آخر لم تسعفه أدواته الاجتهادية في الاعتراف به أو الإيمان به(37). وعندئذٍ لا يكون ذلك تحايلاً على الأحكام، بل هو مشروع قراءة فقهية منجزة، أسهم بها أكثر من فقيه، وهو ما يدعو له (حرك) نفسه، وبما أسماه (الاجتهاد الجماعي)! فهل نسي؟!!.

    هذا البحث نفسه كان سبباً لوقوع زميله (كمال) في المغالطة المشار إليها، فقد كتب: "" ويفرق الكاتب في منهجه بين المذهب والعلم والقانون (الفقه) ويستعير التقسيم الاشتراكي للمجتمع إلى بناء فوقي، وبناء تحتي، فالبناء التحتي هو المذهب، والبناء الفوقي هو النظام الممثل في العلم والقانون. والنظام ينبثق من المذهب، فعلى البناء التحتي يقوم البناء الفوقي، فالأساس أولاً، ثم التفريعات والقاعدة، ثم البناء. ولكنّ الاكتشاف لابد أن يبدأ من التفريعات ـ ليظهر المذهب ـ أي نبدأ من النصوص الجزئية في التشريع، لنصل إلى القاعدة الكلية في المذهب، التي تحكم ـ بعد ذلك ـ على النصوص الجزئية""(38).

    وهنا يجب أن نتغافل ما أسماه بالتأثيرات الاشتراكية أو استعارة التقسيم الاشتراكي للمجتمع، فهو لا يستأهل التعليق.

    أما قوله بأنَّ الاكتشاف لابد أن يبدأ من التفريعات، فهو أمر لا خلاف فيه، وهو ما أشار إليه الشهيد الصدر نفسه(39)، إنما ركّز على تجاوز تجميع هذه الفروع (الأحكام) إلى دراستها بوصفها جزءً من صيغةٍ عامة مترابطة(40).

    وفي البحث المشار إليه آنفاً أشار الشهيد الصدر إلى صعوبة اكتشاف المذهب الاقتصادي لما يكتنف عملية الاجتهاد نفسها من صعوبات وتحديات كبيرة بسبب بُعدنا عن النص الشرعي زمنياً وتطبيقياً، علاوة على طرو العناصر الدخيلة التي قد تسبب الضبابية في فهم النص والتحقق من ثبوته ونسبته إلى الشارع المقدس.

    وهذا ما بحثه الشهيد الصدر في فصلٍ إستوعب صفحات كثيرة، واشتمل على دقائق علمية طريفة جداً، تُنبيءُ عن تجربة اجتهادية شخصية تضج بالحيوية والإبداع والابتكار.

    وقد نبّه الشهيد الصدر في هذا الفصل بما يمكن تلخيصه في مسألتين: الأُولى، ما أسماه بالصعوبات التي تعترض الفقيه في الوصول إلى نظرية متجانسة متكاملة بسبب بعض التحديات الاجتهادية من وجود نصٍ غير متناغم مع المجموعات التي شكّلت الخليط المتجانس من الأحكام، أو من تفسير شخصي لبعض النصوص منع من الوصول إلى نظرية متكاملة. واقترح الشهيد الصدر لتجاوز هذه الإشكالية بالتعويض عن الاجتهاد الشخصي باجتهادٍ فقهي آخر لفقهاء آخرين، يمكن أن يكون فهمهم الحلقة المفقودة، التي تصل بهذه المجموعات المنسقة من الأحكام إلى بناء نظريٍ متجانس. والثانية، ما أسماه بضرورة الذاتية في الاجتهاد، وذلك لأن كل ما يمكن أن يقدمه الفقيه من تصورات فقهية فهو لا يعدو أن يكون فهماً شخصياً ذاتياً، ولكنه في الوقت نفسه مشروع، لأنه ينتسب إلى الشريعة طالماً أنه استهدى منهجها واقتضى آثارها الشاخصة.

    هذا البحث لم يرق لكاتبنا (حرك) فذكر فيما ذكر "" . . أننا لا نضمن باعتراف الكاتب ـ أن أياً من هذه الصور الاجتهادية، سيحالفها التوفيق في التعبير عن المذهب الاقتصادي للإسلام، كما يجب أن نعرفه، ومن حسن الحظ أن الكاتب قد سجل اعترافه هذا بكل وضوح""(41). فنقل بعض الفقرات من (اقتصادنا) ثم كتب معلقاً: "" وبالطبع فلنا أن نختلف حول هذه العبارات، وأن نتحفظ على مدلولها، الذي يبيح لأي مجتهد اكتشاف مذهب غير منطبق على واقع المذهب الاقتصادي في الإسلام ويجيز قبوله منه""(42).
    وهذه اللغة تشي بمفارقاتٍ عديدة على مستوى الفهم العلمي للاجتهاد وأصوله وأدواته، وطبيعة نتائجه، وإلاّ فهل يجزم الفقيه ـ جزماً قاطعاً ـ بصحة نتائج اجتهاده ونسبتها إلى الشارع نسبة لا لبس فيها على الإطلاق، وبضرسٍ قاطع، وفي جميع تفاصيلها؟! وإذا كان الأمر كذلك فَلِمَ يختلف الفقهاء في المذهب الواحد، فضلاً عن المذاهب الإسلامية على تنوعها واختلافها وتعدد قراءاتها للنصوص؟!

    وتتملكنا الدهشة ـ على أشدها ـ حينما يستغرب (حرك) من حرية المجتهدين والفقهاء في اكتشاف المذهب الاقتصادي في الإسلام. ويتساءل بتحفظ عن مدى صحة ما يقول الشهيد الصدر من إمكانية ذلك! لأننا لا نعرف ما هو رأي (حرك) بالضبط في هذه المسألة؟! فهل هناك ما يمنع المجتهدين من ذلك، ولم اعتبرناهم مجتهدين إذن؟!! وما هي الطريق للوصول إلى تجاوز هذه الإشكالية؟!! أليست هي إشكالية قائمة وأمر واقع؟!

    وعلاوة على ذلك، فقد اشتملت عبارات (حرك) على ما يوحي بسوء الفهم، لأنه كتب في تعليقه: "" فلنا أن نختلف حول هذه العبارات، وأن نتحفظ على مدلولها، الذي يبيح لأي مجتهد اكتشاف مذهب غير منطبق على واقع المذهب الاقتصادي في الإسلام"".، فإنه يفترض ـ كما هو ظاهر كلماته ـ أن هناك واقعاً ـ للمذهب الاقتصادي ـ منكشفاً تمام الانكشاف وبما لا يخالطه شك، فكيف يحق للمجتهد أن يكتشف ما لا ينطبق عليه وألاَّ ينسجم معه!.

    وهذا الافتراض يُعبّر عن مغالطة لا يمكن تصورها ـ إطلاقاً ـ لأن الواقع الاقتصادي هذا لو كان منكشفاً بهذه الدرجة من الانكشاف، فلماذا يدأب الفقهاء والمجتهدون، ويبذلون الجهد في اكتشافه أو محاولة اكتشافه؟!
    أما ما هو السبيل ـ عندئذٍ ـ لتجاوز هذه الإشكالية، والوصول إلى أكثر الصور الاجتهادية صدقية وانسجاماً مع الواقع المفترض، فقد تصدى الشهيد الصدر إلى بيان وشرح بعض التحديات التي تعترض عملية الاجتهاد، مما يمكن أن يؤدي بها إلى تنكّب الطريق والخروج عن جادة الشريعة ممّا رسمته، وفقاً لقواعدها وثوابتها، مما دلّ عليه النص الصحيح والصريح(43)..


    يتبع...





  9. #9
    تاريخ التسجيل
    Feb 2003
    المشاركات
    29,593

    افتراضي

    رابعاً: التشريع النبوي:

    ومن المقولات الفكرية التي سجَّل (حرك) تحفظه عليها ما أسماه بموقف الشهيد الصدر من التشريع النبوي، وذلك لتصنيفه السنة النبوية الشريفة إلى ما كان صادراً عن النبي (ص) بوصفه حاكماً وولياً، فلا يكون له إطلاق زماني، بل هو تدبير وحكم إدارة، لابد أن تُلحظ فيه الحيثيات التي دعت إلى إصداره، وبين ما كان صادراً عنه (ص) بوصفه نبياً فيكون من التشريع الأبدي الذي له من الإطلاق الأزماني، الذي لا يختص بزمن دون زمن، ولا يختص بمكان دون آخر…

    كتب (حرك): "" يفرق باقر الصدر بين الأحكام الصادرة عن النبي (ص) بوصفه نبياً، والأحكام الصادرة عنه بما هو ولي للأمر، وهذه فكرة قديمة، قيل بها ـ من قبل ـ مراراً، وشكلّت تحدياً خطيراً أمام الباحث المسلم.. ففي غياب تصنيف نبوي صريح في هذا الشأن، سيختلف معيار كل مجتهد في الحكم على النصوص النبوية، ووضع الأحكام في الصنف الصحيح لها: كأحكام ولاية أو كأحكام تشريع. وقد دخل هذا المدخل بغير علم ولا دراية ولا درع كثيرون، وهلك من هلك في تعطيل أحكام ونصوص. وقد رأينا بعضهم مؤخراً يعطلون أحكاماً من القرآن الكريم نفسه ومن السنة المطهرة، بهذه الطريقة، فتحدثوا مثلاً عن خصوصية الحجاب بالعصر النبوي.. وتحدثوا عن قطع يد السارق، فجعلوه من أحكام الولاية الخاصة بزمان النبوة الأول، وساوى البعض بين الذكر والأنثى في الميراث لاختلاف الظروف عن عصر التشريع.. وسمعنا من يتهم صيام رمضان بتعطيل الإنتاج.. فإننا لا نعتقد أن باقر الصدر يقصد إلى شيء من ذلك ـ ولكنه قد أخطأ خطأ فاحشاً، حين تساهل فقبل ـ من حيث المبدأ ـ هذه التفرقة بين الأحكام النبوية، وحين اعتمد في منهجه على القول بخصوصية بعضها بعصر الرسول الأول.. وهكذا تتبدل المواقع فيهاجم الصدر من يلّتزمون بالنص الشرعي، ويتعرض لهم، في حين يوافق القائلين باختلاف الظروف ، مع ما في ذلك من مخاطر، فبالظروف التي تغيرت تغيراً شاسعاً، يمكن تحريف كل حكم، حتى الخمر، يمكن أن يقال بإباحتها، إذا تطلب واجب المجاملة الاجتماعية ذلك أو مصلحة الوحدة الوطنية.. حتى الميسر، الذي يعتبره الصدر من الأحكام الشرعية العامة، الثابتة في كل زمان ومكان، يمكن أن يدعي إباحته مجتهد آخر لمجرد اختلاف صورته، فشهادات الاستثمار … هي صورة من صور الميسر.. وهذه ـ بالذات ـ هي النقطة الأساسية، التي يستند إليها المناهضون لدعوة تطبيق الشريعة الإسلامية، والملاحقون للمسلمين بشتى أساليب المكر والكيد، إن لم يكن بأنواع البطش والقهر""(44).

    ويرد النقد نفسه عند (كمال)، إذ أنه نعى على الشهيد الصدر "" استخدام أُسلوب التفرقة بين السنة التبليغية الملزمة، والسنة التطبيقية، التي لا تلزم كل عصر، لمحاولة تبرير تخطي القاعدة الكلية للنص الجزئي""(45)، واعتبر كمال أنَّ هذه الطريقة "" تصطدم مع أصل أهل السنة بإعمال النص، حتى تظهر قرينة تبين أنه خصوصيته، ويستخدمون في ذلك قواعد الصحة والضعف. والناسخ والمنسوخ، والراجح والمرجوح، وهذا فرق بين أسلوب الالتزام بالنص، والهروب منه""(46).

    وكتب (كمال) في موضع آخر: "" والثابت المعروف عند أهل السنة أنهم يرون هديه (ص) واجب الاتباع في كل شيء إلاّ ما خصه الدليل من صفات خلقية وأفعال جبلية، أو قام الدليل على أنه من خصوصياته (ص)، فكل ما بينَّه النبي (ص) شرع يجب أتباعه، سواء كان بياناً في أمور الدين، أم في أمور الدنيا، وسواء أكان في القضاء، أم في الفتيا.. والصحابة والتابعون وأئمة المجتهدين، لم يعرف عنهم في مناقشاتهم أو مواطن خلافهم، رد لسنة من سنن رسول الله (ص) بهذه الحجة، التي يراد بها أن تكون قاعدة، تحجب قطاعاً ضخماً من سنة رسول الله (ص) في الأمور السياسية والاقتصادية والاجتماعية""(47).

    ولا أظنني بحاجة إلى تذكير (حرك) و (كمال) بما يُعرف عند الأصوليين بالسياسة الشرعية وما عُلم عندهم من أن سنة النبي (ص) ليست كلها تشريعاً، بل منها ما هو تدبير وإدارة، بل بالغ إخواننا أهل السنة فكتبوا عمّا أسموه با(اجتهاد الرسول). كما أني لست بحاجة إلى تذكيرهما بما أسماه الأصوليون من أهل السنة بقاعدة (لا ينكر تغير الأحكام بتغير الأزمان)، فضلاً عن بحثهم في تعارض المصالح المرسلة مع نصوص الشريعة.

    وعندئذٍ لا أكون بحاجة إلى المناقشة فيما ذكراه من نقدٍ للشهيد الصدر، وهما يذودان عن السنة النبوية الشريفة، وكأنّ الشهيد الصدر في مقام تفويتها وتعطيل أحكامها. إلى درجة يبالغ فيها (حرك) وهو يسرد الأمثلة على محاولات هذا التعطيل، بلغ فيما بلغ إلى حد إمكانية تحليل الخمر، وإن كان قد خفّف من ثمَّ من لغته تجاه الشهيد الصدر، وهو يعرف أن مثل هذه اللغة مما لا يمكن تصديقه، وهو يتحدث تجاه فقيه كبير يُعترف بجلالة قدره وسعة إطلاعه وطول باعه في الأوساط الإسلامية كلها.

    على أنَّ (حرك) وزميله يعترفان بصحة هذه القاعدة ـ من حيث المبدأ ـ وأنَّ هناك نوعين من السنة الشريفة، منها ما هو مطلق شامل وهو ما صدر عنه (ص) بوصفه نبياً، وما ليس كذلك، لأنه صدر عنه (ص) بوصفه حاكماً.

    فقد ذكر (حرك)(48) أنه موقف صحيح، إلاّ أنه محفوف المخاطر على حد تعبيره، وهو ما ذكره (كمال) أيضاً، وإن كان بلغة أخرى ملتوية، مما ذكره من الخروج عن الإطلاق والشمولية بالقرينة(49).

    وإذا كان الأمر كذلك، فَلِمَ هذه المغالطات؟! ولم هذه التعليقات الرنَّانة، وهي تظهر بمظهر الدفاع عن الشريعة؟!

    أما التذرع بالمخاطر فهو لا يكفي في نقد المقولة بهذه الطريقة، وإلاّ فهل يمكن مهاجمة حركة الاجتهاد والمجتهدين بحجة المخاطر التي يمكن أن تكتنف مثل هذه العملية الخطيرة؟!
    وعلاوة على ذلك، فإني أجد (حرك) وزميله بعيدين عن النص الأصلي في (اقتصادنا) وكأنهما لم يطلعا عليه، وأطلعا عليه بالواسطة، وإلاّ فما تفسير عدم متابعتهما لأفكار الشهيد الصدر وعدم قراءتها بتأنٍ وإمعان؟!

    ونذكّر أن الشهيد الصدر وإن لم يكن بصدد المعيار الذي يتم وفقاً له التمييز بين ما هو تشريع وبين ما هو تدبير وحكم ولاية. إلاّ أنه لم ينسَ – بل ولم يغفل – الإشارة إلى ذلك، فذكر في موضعٍ: أنَّ صيغة النص نفسه، وما يناظره من نصوص(50) يمكن أن يحدد أو يعيِّن كونه ينتمي إلى هذا الحقل أو ذاك، وذكر في موضع آخر: أنَّ وضوح الموقف الفقهي لدى الفقهاء يمكن أن يحدّد المراد من النص، وأنه مما يندرج في هذا الإطار أو ذاك(51).

    وعلى هامش الحديث عن موقف الشهيد الصدر من السنة يحسن أن نشير إلى مسألتين وقع فيها (حرك) موقع الالتباس وسوء الفهم.

    المسألة الأولى: في مسألة ما يسمى بدليل (التقرير) لسلوك معين أو جماعي من النبي (ص)، فإن سكوته (ص) عن الفعل وعدم استنكاره يدل على رضاه، وقد ذكر الشهيد الصدر تمثيلاً له فقال: "".. كما إذا شرب أحد الفقاع أمام النبي (ص) فسكت عنه فإنّ هذا السكوت يكشف عن جواز شربه في الإسلام..""(52).

    ومن الطريف أن يقع هذا المثال موقع استغراب الكاتب (حرك) فيكتب: "" وبغض النظر عن توقفنا في قبول حديث الفقاع..""(53) ويظهر أنه لم يعد يميز بين الحديث والمثال؟!

    ولكن الأهم من ذلك، أن الشهيد الصدر اشتراط للاستدلال بـا(التقرير) عدة شروط، وهي(54):

    أولاً: يجب التأكد من وجود ذلك السلوك تاريخياً في عصر التشريع، إذ لو كان السلوك متأخراً زمنياً عن عصر التشريع، لم يكن سكوت التشريع عنه دليلاً على رضاها به. وإنما يستكشف الرضا من السكوت، إذا عاش السلوك عصر التشريع.

    ثانياً: يجب التأكد من عدم صدور النهي من الشريعة عن ذلك السلوك، ولا يكفي عدم العلم بصدوره، فما لم يجزم الباحث بعدم صدور النهي، ليس من حقه أن يستكشف سماح الإسلام بذلك السلوك، ما دام من المحتمل أن تكون الشريعة قد نهت عنه.

    ثالثاً: يجب أخذ جميع الصفات والشروط الموضوعية المتوفرة في ذلك السلوك بعين الاعتبار، لأن من الممكن أن يكون لبعض تلك الصفات والشروط أثر في السماح بذلك السلوك وعدم تحريمه، فإذا ضبطنا جميع الصفات والشروط، التي كانت تكتنف ذلك السلوك الذي عاصر التشريع، أمكننا أن نستكشف من سكوت الشريعة عنه سماحها بذلك السلوك، متى ما وجد ضمن تلك الصفات والشروط التي ضبطناها.

    وقد كتب (حرك) متحفظاً على ذكره الشهيد الصدر وتحديداً الشرط الأول: ""ولا نجد استقامة لهذا المعنى، إلاّ إذا أمكن تصوّر عصر النبوة منقسماً إلى عصرين: عصر التشريع، وعصر التقرير! ولكن بما أن أحداً ـ حسب علمنا ـ لم يقل بذلك، فلا يبقى أمامنا إلاّ أن نفهم السلوك المذكور هنا تقريراً من إمام آخر بعد عصر النبوة، فالشيعة تعطي للأئمة حقاً في التشريع.. ولكن يبقى هذا التناقض ماثلاً في الحديث عن وجود دليل شرعي بالتقرير في غير عصر التشريع وجعل ذلك سبباً في رفضه، فلم الحديث ـ أصلاً ـ عنه باعتباره دليلاً شرعياً؟!""(55).

    لكنّ تحفظه ليس في محله على الإطلاق ـ وذلك لجهات:

    الأولى: أن (حرك) لا يدري مغزى كلام الشهيد الصدر، وذلك لأن الشهيد لا يفترض عصرين كما يقول (حرك) بل هو يفترض أنَّ السكوت الذي يُعدُّ إمضاءً هو السكوت الذي يزامن ويعاصر الفعل، ليقال سكت عنه، وأما إذا كان الفعل لاحقاً لعصر النبي (ص) أو لزمن وجود وحياة النبي (ص) فلا معنى للقول بأنه (ص) سكت عنه: لأنه فعل لم يره ولم يحصل أمامه وبمرأى منه وبمسمع.

    ولا ندري هل يحتاج إدراك هذا المعنى إلى عبقرية مفرطة؟!

    الثانية: أنَّ قوله باستلزام هذا الشرط افتراض عصرين أحدهما للتشريع وثانيهما للتقرير غريب جداً، لأن التقرير من التشريع نفسه. ولكنه يتخذ صيغة مختلفة عن القول والفعل. وفضلاً عن ذلك، فإن تصوره للتقرير وفقاً لما أسماه باعتقاد الشيعة بحق الإمام الذي يلحق عصر النبوة. فإنه هو الآخر غريب جداً، لأنّ هذا الشرط نفسه مما يلزم اعتباره في إمضاء الإمام نفسه، فيقال إن سكوت الإمام الذي يُعدُّ إمضاءً، ثم يستكشف منه الحكم الشرعي، لابد أن يكون الفعل المسكوت عنه في عصر ووجود الإمام، ليقال عنه إنه سكت عنه.
    الثالثة: أن قوله "" فالشيعة تعطي للأئمة حقاً في التشريع.."" ليس صحيحاً على إطلاقه، خاصة عند السيد الشهيد الذي يرى "" انتهاء عصر التشريع بانتهاء عصر النبي (ص)، وأن الأحاديث الصادرة عن الأئمة المعصومين ليست إلاّ بياناً لما شرعه النبي (ص) من الأحكام وتفاصيلها""(56).

    كما سجّل (حرك) تحفظه على الشرط الثاني مما ذكره الشهيد الصدر فكتب: ""ولا نفهم القدر الذي يستطيع به الباحث أن يجزم هذا الجزم، فهل تكفي كتب الفقه والتفسير والحديث في معرفة ذلك، أم أن احتمالية أن تكون الشريعة قد نهت عنه، تستمر قائمة رغم خلو هذه الكتب عن ذلك النهي؟ لأن الصدر يوجب التأكد من عدم صدور النهي، وهذا مستحيل، لأن الباحث قد يستطيع التأكد من صدور النهي، ولكنه لا يستطيع ـ أبداً ـ أن يتأكد من عدم صدوره""(57).

    ولا ندري كيف يمكن أن يجزم (حرك) بأن النبي (ص) أقرَّ فعلاً ما فردياً أو جماعياً، وهو لا يجزم بعدم صدور النهي عنه (ص)؟ فهل يعتبر خلو كتب الفقه والتفسير والحديث قرنية على عدم صدور النهي؟ كيف ونحن نعرف بالوجدان أن أموراً كثيرة حصلت وقد خلت منها الكتب لسبب وآخر. بل هل وصلنا جميع الكتب في هذه الحقول كلها؟!

    نعم يختلف الأمر بين مسألة وأخرى، فإن مسألة إبتلائية يكثر وقوع الناس فيها، ومن المسلمين على اختلاف مشاربهم وتنوع اتجاهاتهم، قرينة قطعية على عدم صدور النهي، لأنه لو كان صدر نهي من هذا القبيل، فإنّ الدواعي قائمة وكثيرة، بل وبعضها يستدعي البعض الآخر، على نقل هذا الموقف الذي يتمثل في النهي.

    ولذلك فما ذكره من استحالة الجزم بعدم صدور النهي ليس في محله، وهو يشي بعدم الخبرة وعدم الإطلاع على مسائل الفقه وغيره.

    كما أنه يخلط بين هذا الموقف، وبين ما يمكن أن يُصار إليه الموقف الفقهي تجاه المسألة ـ أية مسألة ـ في وقتٍ لا يجزم فيه بعدم صدور النهي فيها، لأن المسألة ـ عندئذٍ ـ ستكون محكومة للقواعد الأصولية والفقهية في الحالات التي يكتنفها الغموض، وما إذا كان الموقف الفقهي فيها هو الاحتياط أو البراءة، الحلية أو الحرمة..

    ولم يسجل (حرك) تحفظه على الشرط الثالث، إلاّ بلحاظ ما يدعيه من ضرورة الوقوف على معيار دقيق ـ وفقاً له ـ يمكن التمييز بين ما هو سلوك مقيد بظرفٍ ما، وبين ما ليس كذلك.. وهذه الدعوى ليست ذات شأن، لأن التأكيد عليها ـ مع توضيح الشهيد الصدر ـ لا يأتي بجديد.

    والمسألة الثانية: فيما أشار إليه الشهيد من الواقع الذي وصلت إليه الأحكام الشرعية، من حيث وضوح أدلتها وصراحة دلالاتها من جهة، ومن حيث قطعية صدورها، فنبّه إلى أن الكتاب الكريم ـ ولا إشكال ـ قطعي الصدور، على خلاف الواقع الذي يكتنف السنة الشريفة إذ أن معظمها ظني الصدور. ومع ذلك فإن دلالات القرآن أيضاً ظنية في الغالب، ومع هذه الإشكاليات تنشأ التحديات التي تكتنف عملية الاجتهاد(58)..

    هذه الإشارة لم ترق لكاتبنا (حرك) فكتب بامتعاضٍ شديدٍ: "" فإلى أي هاوية سحيقة نلقي بجهد فقهاء المسلمين عبر العصور، وإلى أي مصير مجهول ندفع بأحاديث الرسول (ص) حين نثير حولها كل هذه الشكوك والهواجس؟! أو حول خمسة وتسعين في المائة منها: يرى الصدر أن المسلمين متفقون على عدم الثقة في وضوحها وضروريتها وصفتها القطعية؟! أليست هذه إحدى السقطات الكبرى في الكتاب؟""(59).

    وحماسة (حرك) بلا إشكال مشكورة، وموقفه يُحمد له، إنما هذه الشعارية لا تغيّر من الواقع شيئاً، لأن (حرك) إن كان من الباحثين في الحقل المعرفي الإسلامي لا إشكال يعرف أن الواقع كما يقول الشهيد الصدر، وإلاّ لماذا اختلف المسلمون وفي المذهب الواحد، وفي التيار الفكري الواحد أيضاً؟!.

    خامساً: منطقة الفراغ:

    ذكر الشهيد الصدر أنَّ المذهب الاقتصادي في الإسلام يشتمل على جانبين: أحدهما، قد مُليء من قبل الإسلام بصورة منجزة، لا تقبل التغير والتبديل. والآخر، يشكّل منطقة الفراغ في المذهب، قد ترك الإسلام مهمة ملئها إلى الدولة أو ولي الأمر، يملؤها وفقاً لمتطلبات الأهداف العامة للاقتصاد الإسلامي ومقتضياتها في كل زمان(60).

    وذكر(61) أنّ ذلك لا يدل على نقصٍ في الصورة التشريعية، أو إهمال من الشريعة لبعض الوقائع والأحداث، بل تعبّر عن استيعاب الصورة، وقدرة الشريعة على مواكبة العصور المختلفة، لأن الشريعة لم تترك منطقة الفراغ بالشكل الذي يعني نقصاً أو إهمالاً، وإنما حددت للمنطقة أحكامها بمنح كل حادثة صفتها التشريعية الأصيلة، مع إعطاء ولي الأمر صلاحية منحها صفة تشريعية ثانوية حسب الظروف.

    هذه الفكرة كانت محل استنكار (حرك) فكتب: "" يستحدث باقر الصدر مقولة وجود الفراغ في التشريع الإسلامي للاقتصاد.. فكأن المقصود من القول بوجود منطقة الفراغ هو التأكيد على صلاحية الإسلام العظيم لكل زمانٍ ومكان.. وهذه نية حسنة نباركها، ونسعى إلى تأكيدها.. ذلك أن صلاحية الإسلام لكل زمان ومكان تعني ثراءه بالتوجيهات الأساسية، التي تغطي كل مستحدثات العصور بشرط الاجتهاد في استنباط الأحكام الجديدة من أصولها الإسلامية العتيدة دون تفريط في شيء من مقتضيات هذه الأصول الشرعية.. فصلاحية الإسلام لكل زمانٍ ومكان دليل ثراء تشريعي، وليست دليل فراغٍ تشريعي. ونحن لا نقدر ـ أبداً ـ على التسليم بوجود فراغ في التشريع، لأن الأمور المستحدثة التي لا نص فيها قد بلغنا أمر المشرع بالاجتهاد في معرفة أحكامها، على ضوء مقاصد الشريعة العامة.. وفي الحقيقة لا ندري ـ على وجه اليقين ـ ما السر، الذي دفع الصدر إلى التورط في إطلاق تسمية (منطقة الفراغ) التي تبدو أنه قد أحس بما تعنيه من إيحاءات، فحاول تبييض صفحتها، فَلِمَ غيَّر القول بأن منطقة الفراغ ليست نقصاً في الصورة التشريعية.. وهو دفاع عديم الجدوى عن اختراعه، في ظل إصراره على قصده في معارضة النصوص بالحوادث، وإطلاق سلطة ولي الأمر في إبطال الأحكام الشرعية..""(62).



    يتبع/





  10. #10
    تاريخ التسجيل
    Feb 2003
    المشاركات
    29,593

    افتراضي


    والظاهر من عبارات (حرك) أنه يختلق الإشكال على الشهيد الصدر إختلاقاً، لأنه في الحقيقة لا يستنكر وجود مساحة لم يُغطِّها النص التشريعي الإسلامي بشكل مباشر، ولذلك أكَّد على أنها مما يمكن تغطيتها بالاجتهاد وفقاً لما أسماه بالمقتضيات الشرعية.

    وعندئذٍ يحق لنا التساؤل عن الفرق (الفارق) بين ما يذكره وما أشار إليه الشهيد الصدر من تغطية هذه المساحة وفقاً للمقتضيات الشرعية والأهداف الإسلامية التي حددتها العناوين الشرعية الأصيلة.

    نعم، الفرق هو أنَّ (حرك) لا يميز بين الاجتهاد وإعطاء الصورة التشريعية للمستجدات من المسائل، وبين (التدابير) التي لا تكتسب صفة التشريع أصلاً، وإن أُعطيت صفة التشريع، فهي صفة ثانوية، وهو ما أشار إليه الشهيد الصدر نفسه(63).

    أما ما ذكره (حرك) تعليقاً على ما نبّه عليه الشهيد الصدر ودفعه لتوهم طرو النقص على التشريع الإسلامي، إذ ربط (حرك) بين مقولة (منطقة الفراغ) وبين ما أسماه بإطلاق سلطة ولي الأمر في إبطال الأحكام الشرعية مما نسبه إلى الشهيد الصدر، فهو غير صحيح على الإطلاق، لأن الشهيد الصدر لم يدع الفرصة لتوهمٍ من هذا القبيل، إذ ذكر أن سلطة ولي الأمر مقيدة بالتشريع الإسلامي، مما هو من الثوابت التشريعية، والعناوين الأولية الأصيلة، والأهداف الإسلامية، ومقتضيات العدالة الاجتماعية التي تبناها الإسلام، فلا يجوز له ـ ولا يحق له ـ أن يُحلَّ حراماً، ولا يمنع واجباً(64)..

    نعم، ربما يستشكل على التسمية وذلك لبعض الإيحاءات، غير أنَّ تحديد المراد من هذا الاصطلاح يدفع بهذه الإيحاءات ويلغي مثل هذا التوهم مما أشار إليه (حرك).

    سادساً: الاقتصاد جزء من كل

    تحت عنوان (الاقتصاد الإسلامي جزء من كل) ذكر الشهيد الصدر أنه يجب أن لا ندرس الاقتصاد الإسلامي "" مجزءً بعضه عن بعض""(65) أو ندرسه "" بوصفه شيئاً مفصلاً، وكياناً مذهبياً مستقلاً عن سائر كيانات المذهب الاجتماعية والسياسية الأخرى.. وإنما يجب أن نعي الاقتصاد الإسلامي ضمن الصيغة الإسلامية العامة التي تنظم شتى نواحي الحياة في المجتمع""(66).

    وذكر الشهيد الصدر أن الإسلام "" إشترع نهجه الخاص به، وجعل منه الأداة الكاملة لإسعاد البشرية، على أن يطبق هذا النهج الإسلامي العظيم في بيئة إسلامية، قد صبغت على أساس الإسلام في وجودها وأفكارها وكيانها كله، وأن يطبق كاملاً غير منقوص يشد بعضه بعضاً، فعزل كل جزء من النهج الإسلامي عن بيئته ـ وعن سائر الأجزاء ـ معناه عزله عن شروطه التي يتاح له في ظلها تحقيق هدفه الأسمى، ولا يعتبر هذا طعناً في التوجيهات الإسلامية ـ أو تقليلاً من كفاءتها وجدارتها بقيادة المجتمع، فإنها في هذا بمثابة القوانين العلمية، التي تؤتي ثمارها متى توافرت الشروط التي تقضيها هذه القوانين""(67).

    وقد استنكر (حرك) على الشهيد الصدر هذه المقولة، فكتب: "".. ويبدو هذا تعطيلاً لأحكام الإسلام الاقتصادية في انتظار حاكم أسطوري يتمتع بصلاحيات النبي الحاكم، أو بتعبير أقرب إلى المعقول: في انتظار تمكين الإسلام من إدارة المجتمع وفقاً لشريعة الله. وهي مقولة تحمل في إهابها الدعوة إلى الإحباط، وتثبيط همم الدعاة إلى إقامة شرع الله خطوة إثر خطوة أو حكماً وراء الآخر، وهو الجهد الذي تكلل في مجال الاقتصاد، مثلاً بإنشاء البنوك الإسلامية وانتشارها، ونجاحها كبديل إسلامي للبنوك الربوية..""(68).

    وشاركه زميله (كمال) في هذه الملاحظة النقدية!! فلاحظ على الشهيد الصدر أنه يدعو إلى تعطيل العلم والفقه، والاقتصار على المذهب، بحجة عدم قيام الإسلام، وغياب الإمام(69)…

    وما يذكره الكاتب (حرك) وزميله (كمال) غريب ويثير الدهشة، فكيف ينوي الشهيد الصدر تعطيل الأحكام الشرعية، وهو بصدد الدعوة إلى تنظيم الحياة في ضوء تعاليم وأحكام الإسلام، ومن الطريف تنويه (حرك) بمشروع (البنك اللاربوي) كبديل للبنك الربوي السائد في حياة المسلمين، متناسياً أنَّ أحد أهم المنظّرين له هو الشهيد الصدر، فيما كتبه كمشروع فقهي، ونشر بعنوان (البنك اللاربوي في الإسلام).

    على أنَّ مراده واضح تماماً من الترابط بين المذهب الاقتصادي والنظام الإسلامي ككل، فإنه بصدد الإشارة إلى أن نتائج النظام الإسلامي في الحقل الاقتصادي لا يمكن أن تكون كاملة في وقت يتم فيه تعطيل النظام الإسلامي في الحقول الأخرى، وهو ما نقله (حرك) عن الشهيد الصدر نفسه، ولا ندري لماذا غفل عنه أو تغافل؟!.

    بل ذكر الشهيد الصدر صراحة في مقدمة الكتاب: أن هذا الارتباط لا يعني تعطيل بعض الأحكام وتعليقها على البعض الآخر، فكتب ما نصه: "" يؤكد الكتاب دائماً على الترابط بين أحكام الإسلام، وهذا لا يعني أنها أحكام إرتباطية وضمنية بالمعنى (الأصولي) حتى إذا عُطِّل بعض تلك الأحكام سقطت سائر الأحكام الأخرى، وإنما يقصد من ذلك أن الحكمة التي تستهدف من وراء تلك الأحكام لا تحقق كاملة دون أن يطبق الإسلام بوصفه كلاً لا يتجزأ، وإن وجب في واقع الحال امتثال كل حكم بقطع النظر عن امتثال حكم آخر أو عصيانه""(70)، وهذا ما نقله (حرك) عن الشهيد الصدر أيضاً. ولا نعرف ما هو السرّ في هذا الاعتراض وتأكيده، بل واتهام الشهيد الصدر بتعطيل الشريعة وأحكامها؟!

    هذه هي مجموعة التعليقات التي سجّلها (حرك) وزميله (كمال)، وهي فيما يبدو غريبة في منطلقاتها، وتفسيرها لبعض أفكار الشهيد الصدر، إلى درجة ظهرت معها متعسفة جائرة، بل وميَّالة إلى الاتهام.

    وفضلاً عن ذلك، فهي التقاطية وعجولة، فما إنْ عثر (حرك) على رأي للشهيد الصدر يتبنى فيه عدم تملك الأرض إسلامياً وفاقاً لبعض الاتجاهات الفقهية، حتى بدأت عملية التصنيف على أشدها، فهو متأثر بالفهم الاشتراكي تارة(71)، وأخرى بالخصوصية الشيعية وبما يتناقض مع أصول فقه السنة تارة أخرى(72).

    ولو أُتيح لـأ(حرك) أن يتريث في أحكامه لأدرك أن ما اختاره الشهيد الصدر في هذه المسألة خلاف المشهور في الفقه الشيعي الإمامي وله جذور في الفقه الإسلامي عموماً، ولا علاقة لهذه المسألة بالتصنيف المذهبي، وانتماء هذا إلى فقه أهل السنة، وانتماء ذاك إلى فقه الشيعة، ومعيار من هذا القبيل يفسد العلم قداسته ويسلبه حياده الموضوعي.

    على أنَّ القول بعدم الملكية الخاصة للأرض لا يعني التأثر بالفكر الاشتراكي، وإلاّ فلماذا لا يتهم (حرك) (أبا الأعلى المودودي) في التأثر بالأفكار الرأسمالية؟! وهو يتبنى بقوة وبشدة الملكية الخاصة.

    وعلاوة على المنطلقات المذهبية التي ألقت بظلالها على هذه الملاحظات التي سجّلها (حرك) وزميله، نجد الكاتبين ـ وفي أحيان كثيرة ـ غير موفقين لقراءة أفكار الشهيد الصدر وفهم مراده من بعض المقولات، إلى درجة أنهما لا يدركان ـ معها ـ أوضح تلك المقولات وأكثرها بداهة.

    ويحسن أن أختم بما يؤكد ما نقول، فقد كتب (حرك) معلقاً على ما ذكره الشهيد الصدر من كون العمل السبب الوحيد للكسب: "" أن مجرد العمل لا يجوز أن يعتبر المبرر الوحيد للملكية ـ وإن كان مبرراً أساسياً لها، ولكننا لا نلاحظ في (اقتصادنا) إشارة إلى هذه الحقيقة، بل نرى في تركيزه على دور العمل في كسب الملك، مع إهماله لوسائل التملك الأخرى كالميراث والهبة والصدقة والزكاة نوعاً من التأثر بالنظريات الاشتراكية المعاصرة..""(73).

    وببساطة شديدة أن (حرك) وهو بصدد قراءة أفكار الشهيد الصدر لا يُحسن الإمعان فيها وقراءتها بنية حسنة، وهو سرُّ تورطه في هذه المفارقات، ووقوعه في مثل هذه المغالطات.
    وفي هذه المسألة بالذات لا يُميّز (حرك) بين أسباب الكسب، وبين أسباب الملك فخلط بينهما دونما وعي بالفرق الفارق، ولذلك تراه ينقل عن الشهيد الصدر أنه يحصر أسباب التكسب بالعمل، وينقض عليه بأسباب الملكية!!

    وفي الختام يحسن أن أشير إلى أنَّ ما سطَّره (حرك) وزميله (كمال) من نقدٍ! (كما أسمياه) لكتاب (اقتصادنا) لا صلة له، لا بالفقه السني، ولا بالذهنية السنية، سواء ذهنية علماء ومفكري أهل السنة، أم ذهنية الأوساط الشعبية المثقفة، التي تُكبر في الشهيد الصدر عبقريته وإبداعه، فضلاً عن تضحياته المخلصة للإسلام والمسلمين.

    التيار الثاني:

    ويمثِّله الكتَّاب الماركسيون وذووا الميول الاشتراكية، وهم وإن لم يكونوا في نقد (اقتصادنا) سواء، من حيث اللغة والمنهج والمحتوى. إلاّ أنهم يشتركون في مواجهة المضمون الفكري لـا(اقتصادنا)، لجهة كونه النقيض العقائدي والفكري لعقيدةٍ ارتضوها وفكرة اختاروا الدعاية والترويج لها.

    وعليه فليس من الغرابة توجيه سهام نقدهم لكتاب يستشعرون خطره على قواعدهم وجماهيرهم وشعارهم، أو ميدان عملهم الثقافي على أقل تقدير.

    ويمكن الإشارة إلى نماذج ثلاثة في هذا التيار:

    الأول: كتاب (دراسات في المفاهيم الاقتصادية لدى المفكرين الإسلاميين ـ الفكر المعاصر) للكاتب أحمد صادق سعد. نشر دار الفارابي/ 1990 (ط أولى/ بيروت).

    الثاني: كتاب (الخطاب الاقتصادي الإسلامي المعاصر ـ قراءة علمية) للدكتور غسان محمود إبراهيم. نشر دار الجندي/ 1993 (ط أولى/ دمشق).

    الثالث: كتاب (المادية والفكر الديني المعاصر ـ قراءة نقدية) للكاتب فالح عبد الجبار. نشر مركز الأبحاث والدراسات الاشتراكية في العالم العربي/1985. (ط أولى).

    وقد اشتملت هذه الأبحاث ـ طيَّاً ـ على نقد (اقتصادنا) كواحدٍ من الصيغ النظرية الفكرية، التي تمثل الفكر الاقتصادي الإسلامي، بل وأبرز وأنضج ما أسهم به المفكرون الإسلاميون في هذا الصدد.

    في الكتاب الأول، وفي معرض الحديث عن أدبيات الاقتصاد الإسلامي والمعالجات النظرية التي صاغها المفكرون الإسلاميون يشدِّد أحمد صادق على أهمية كتاب (اقتصادنا) وتقدمه على سائر الأعمال الفكرية في هذا الحقل المعرفي المهم.

    فقد كتب صادق بصدد تقييم اقتصادنا: "" وفي آخر الستينات أيضاً، أصدر الإمام الشيعي اللبناني محمد باقر الصدر كتابه الضخم المعنون (اقتصادنا) والأهمية الكبيرة لهذا المؤلف تأتي من أن كاتبه قدَّم به عملاً مترابطاً منسقاً لأول مرة، في هيكل نظري ذي منطق منسجم إلى درجة أكبر من الأعمال الأخرى التي تعالج الاقتصاد الإسلامي. بالإضافة إلى أن محمد باقر الصدر استقى معلوماته من شتى المصادر الفقهية السنية إلى جانب الشيعية، فإن استنتاجاته قد تصلح لكي يتبناها أتباع الفريقين على السواء، إذا استبعدنا أجزاء قليلة تفصيلية..""(74).

    ولضخامة العمل الفكري الذي قدَّمه الشهيد الصدر يعتذر صادق سعد عن متابعة أفكار الشهيد الصدر، ويكتفي بعرض مجموعة من الآراء الأساسية التي يقدمها(75).

    ويلاحظ على الكاتب سعد استغراقه في نقل نصوص عديدة ومن مواضع متفرقة من (اقتصادنا)، وهو إذ يفعل ذلك قلَّما يناقش هذه المضامين وإن تعرَّض لها فإنه يقتصر على تعليقات لا تكتسب الصفة العلمية للمناقشات، وهي أقرب إلى تسجيل الانطباعات منها إلى المناقشات.

    ففي وقتٍ يركِّز فيه الشهيد الصدر على خصوصية المجتمع الإسلامي ودوره في إنجاح التنمية الاقتصادية في العالم بما للظروف الموضوعية للأمة وتركيبها النفسي التاريخي من إسهام في عملية التنمية هذه وإنجاحها، وبما يتكفّل تفادي الصعوبات التي تنجم عن الاقتصاد الحر والمشاكل التي تواجهها التنمية الاقتصادية في ظله، وذلك بناء على المفهوم الإسلامي للرقابة غير المنظورة، ينقل صادق سعد عن اقتصادنا ما نصه: "" تتجلى خلال البحوث.. أصالة الاقتصاد الإسلامي ومناقضته للاشتراكية في موقفه من الملكية الخاصة واحترامه لها، واعترافه ـ في حدود مستمدة من نظريته العامة ـ بمشروعية الكسب الناتج عن ملكية مصدر من مصادر الإنتاج غير العمل""، ويحرص من ثمَّ على التعليق فيكتب: ""الاقتصاد الإسلامي في نظره إذن اقتصاد حر في أساسه""(76)، وبذلك ينسب إلى الشهيد الصدر تحديداً خاصاً لصورة الاقتصاد الإسلامي، وصفها سعد بأنها مناقضة للاشتراكية…

    هذا التعليق لا يخلو من مغزى! إلا أن سعد شأنه شأن الكتَّاب من أصحاب الميول الاشتراكية، يحرصون على إضفاء الطابع الرأسمالي على التصورات الإسلامية في المجال الاقتصادي، ولذلك لا يدّخرون جهداً في التقاط بعض المفردات، مغفلين مفردات أخرى، في سبيل تكريس هذه الصيغة.

    ومهما يكن من أمر، فما هو مراد سعد من كون الاقتصاد الإسلامي اقتصاداً حراً؟ هل يعني كونه رأسمالياً، أو كونه ينأى عن الاقتصاد الاشتراكي؟ فإذا كان يعني به إضفاء الصفة الرأسمالية، فهو افتئات على (اقتصادنا) على أقل تقدير، لأن كلام الشهيد الصدر ـ فيما نقله عنه سعد نفسه ـ خلوٌ من ذلك، لأن ما بصدده الشهيد الصدر هو بيان دور التحديد الداخلي والرقابة غير المنظورة، وإسهامهما في تفادي المعوِّقات التي تنتاب التنمية الاقتصادية في ظل النظام الرأسمالي، وهذا لا يعني كون الاقتصاد الإسلامي حراً بالدرجة نفسها في ظل الاقتصاد الرأسمالي، لأنَّ هناك عدداً غير قليل ـ فيما أوضحه الشهيد الصدر ـ من المسائل مما يفترق بها الاقتصاد الإسلامي عن الرأسمالي. وقد ضمَّ (اقتصادنا) عدداً من المسائل التي كشف فيها الشهيد الصدر عن الحدود الفاصلة بين النظام الإسلامي والنظام الرأسمالي، فضلاً عن النظام الاشتراكي.

    وإذا كان يعني بكونه اقتصاداً حراً لجهة ابتعاده عن الاقتصاد الاشتراكي فهو صحيح لأنه ليس اشتراكياً، بل هو اقتصاد ذو صبغة وطابع متميزين.

    كتب الشهيد الصدر في هذا الصدد: "" . وأولئك الذين اعتقدوا بأن الاقتصاد الإسلامي رأسمالي، يؤمن بالحريات الرأسمالية، قد يكون لهم بعض العذر إذا كانوا قد استلهموا إحساسهم من خلال دراسة إنسان عصر التطبيق، والقدر الذي كان يشعر به من الحرية، ولكن هذا إحساس خادع، لأن إلهام التطبيق لا يكفي بدلاً عن معطيات النصوص التشريعية والفقهية نفسها، التي تكشف عن مضمونٍ رأسمالي. وفي الواقع: إن الاعتقاد بوجود مضمون رأسمالي للنظرية الاقتصادية في الإسلام على ضوء ما قدمناه.. ليس نتيجة تطوير أو تطعيم أو عطاء ذاتي جديد للنظرية كما يقول أولئك المؤمنون برأسمالية الاقتصاد الإسلامي الذين يتهمون الاتجاه إلى تفسير الاقتصاد الإسلامي اتجاهاً لا رأسمالياً، ويقولون عنه: إنه اتجاه منافق، يحاول إدخال عناصر غريبة في الإسلام، تملقاً للمدّ الفكري الحديث، الذي شجب الرأسمالية في الحرية والملكية.. ونحن نملك الدليل التأريخي على تفنيد هذا الاتهام، وإثبات أمانة الاتجاه اللارأسمالي في تفسير الاقتصاد الإسلامي، وهذا الدليل هو النصوص التشريعية والفقهية، التي نجدها في مصادر قديمة، يرجع تاريخها إلى ما قبل مئات السنين، وقبل أن يوجد العالم الحديث والاشتراكية الحديثة، بكل مذاهبها وأفكارها. وحين نبرز الوجه اللارأسمالي للاقتصاد الإسلامي، الذي يعرضه هذا الكتاب، ونؤكد على المفارقات بينه وبين المذهب الرأسمالي في الاقتصاد.. لا نريد بذلك أن نمنح الاقتصاد الإسلامي طابعاً اشتراكياً، وندرجه في إطار المذاهب الاشتراكية، بوصفها النقيض للرأسمالية، لأن التناقض المستقطب القائم بين الرأسمالية والاشتراكية، يسمح بافتراض قطب ثالث في هذا التناقض، ويسمح للاقتصاد الإسلامي خاصة أن يحتل مركز القطب الثالث، إذا أثبت من الخصائص والملامح والسمات ما يؤهله لهذا الاستقطاب في معترك التناقض. وإنما يسمح التناقض بدخول قطب ثالث إلى الميدان، لأن الاشتراكية ليست مجرد نفي للرأسمالية، حتى يكفي لكي تكون اشتراكياً أن ترفض الرأسمالية، وإنما هي مذهب إيجابي له أفكاره مفاهيمه ونظرياته، وليس من الحتم أن تكون هذه الأفكار والمفاهيم والنظريات صواباً إذا كانت الرأسمالية على خطأ، ولا أن يكون الإسلام اشتراكياً، إذا لم يكن رأسمالياً، فليس من الأصالة والاستقلال والموضوعية في البحث، ونحن نمارس عملية اكتشاف للاقتصاد الإسلامي.. أن نحصر هذه العملية ضمن نطاق التناقض الخاص بين الرأسمالية والاشتراكية.. فنسرع إلى وصفه بالاشتراكية إذا لم يكن رأسمالياً، أو بالرأسمالية إذا لم يكن اشتراكياً..""(77).

    وهذه الفقرة التي حرصنا على نقلها ـ على طولها ـ تحدد معالم النظام الإسلامي في حقل الاقتصاد وموقعه من التناقض القائم بين الأنظمة السائدة، وتحديداً النظام الرأسمالي والنظام الاشتراكي، وتلقي الضوء على ما يستهدفه الشهيد الصدر من التنظير إلى نظام متميز قائم بنفسه.

    وعندئذٍ فلا موضوع لتعليق الكاتب صادق سعد ـ فيما نقلناه عنه ـ للإيحاء بطبيعة رأسمالية الاقتصاد الإسلامي، وتحديداً من وجهة نظر الشهيد الصدر، فيما أسماه بالاقتصاد الحر، خاصة وقد ورد تعليق صادق سعد على جزء من الفقرة التي نقلنا معظمها فيما تقدم، والتي حدَّد فيها الشهيد الصدر طبيعة النظام الإسلامي وموقعه من الصراع القائم. وربما أغفل الكاتب سعد الإشارة إلى موقع الفقرة التي نقلها عن (اقتصادنا) وتحديد رقم الصفحة، خشية اكتشاف دوره في تقطيع الفقرات وتفسيرها تفسيراً تعسفياً..

    وبصدد ما أسماه الشهيد الصدر بمنطقة الفراغ وأهميتها في تلبية حاجات المجتمع الإسلامي، كتب سعد: "" ويرى الكاتب أن الأحكام الفقهية للسلف لا تستطيع أن تقدم حلولاً لجميع المشاكل الاقتصادية المعاصرة بكليتها، فإنّ هناك ما يسميه منطقة الفراغ""(78).

    هنا لم يشأ التعليق بأكثر مما صدَّر به الفقرة التي نقلها عن الشهيد الصدر بخصوص تفسير (منطقة الفراغ) وفيما إذا كان يشكّل ذلك قصوراً في الشريعة أو يعبّر عن الطبيعة المتحركة والمرنة للشريعة الإسلامية وقدرتها على الوفاء بمتطلبات كل عصر، ولا ندري ما هو مدى تفهمه لهذه الفقرة، وكأنه يوحي باعتراف الشهيد الصدر في عدم وفاء الأحكام الفقهية، التي نسبها إلى السلف بمتطلبات الحياة وقدرتها على حل المشاكل الاقتصادية المعاصرة..

    طبعاً الشهيد الصدر لم يقل ذلك، لأن النصوص الشَّرعية ـ وليست الأحكام الفقهية المنسوبة إلى السلف على حد تعبير صادق صعد ـ قادرة بصيغها التشريعية الأصيلة على الوفاء بذلك. وهذا ما أوضحه الشهيد الصدر في الفقرة ذاتها التي نقلها عنه سعد. إلاّ أنه ـ الشهيد الصدر ـ افترض مجالاً لا يمكن أن يتخذ صيغة جامدة بسبب طبيعته المتحركة المتغيرة، فتركها المشرع للدولة على أن تملأ بما لا يتعارض مع الصيغ التشريعية الأصيلة، بل أنها بعبارة أوضح، ليست أحكاماً، بقدر ما هي تدابير، وإن كانت تكتسب الصفة التشريعية الثانوية بلحاظ كونها صادرة عن الجهة المختصة.

    ولا يغفل الكاتب سعد رأي الشهيد الصدر في تحديد مفهوم الاقتصاد الإسلامي ونفي الصفة العلمية عنه، وكونه المذهب والطريقة، على تفصيل وشرح مبسوط إلى حدٍ ما، وبما يدفع الالتباس أيضاً.

    ولا يعلق الكاتب سعد على هذه المقولة، وربما لم يرد إغفالها على الرغم من ذلك لجهة أنه يوحي بنفي قيمة الاقتصاد الإسلامي وجدواه ـ كما هو رأي عدد من الكتَّاب والباحثين..

    ولعلَّ الأهم في تعليقات صادق سعد ما أورده بخصوص رأي السيد الشهيد في العلاقة بين الإنتاج والتوزيع، والذي يحاول فيه الشهيد الصدر نقض المقولات الماركسية، وهي تربط بينهما على نحو صارمٍ يؤول في النهاية إلى ما أُسمي بالشيوعية واختفاء مظاهر الاستغلال نهائياً.

    كتب صادق سعد في هذا الصدد: "" فهو ينفي أن نمط الإنتاج هو الذي يحدد السمات الأساسية للمجتمع واقتصاده، وبرهانه أن المجتمع الإسلامي خلال تاريخه عرف تطوراً في أساليب الإنتاج دون أن تتغير أساسياته الاجتماعية، وعليه فيقول إن الذي يحدد تلك السمات الاجتماعية هو التوزيع وعلاقاته، وهو عنصر ثابت حسب رأيه في المجتمع الإسلامي، ويقول في هذا الموضوع، مميزاً ما يسميه التوزيع قبل الإنتاج عن التوزيع بعده..""(79).

    ولا يخلو هذا التعليق من التبسيط الشديد، إذ عالج الشهيد الصدر ـ وهو بصدد نفي العلاقة الحتمية بين الإنتاج والتوزيع ـ المسألة من عدة زوايا، ابتداءً بمناقشة الأسس النظرية التي صاغتها الأقلام الماركسية(80)، ومدى نجاح هذه الأفكار على مستوى التطبيق تاريخياً(81)، وتحديداً بخصوص نجاح الثورات الاشتراكية في مكان وإخفاقها في آخر، وانتهاء بالتصورات الإسلامية التي أسست لمقولاتٍ قانونية فصلت بين الإنتاج والتوزيع(82). على نحو يمكن معه قيمومة هذه المقولات على حياة الإنسان، بعيداً عن الإطار الزمني الذي وجدت فيه..

    على أن ما نسبه صادق سعد إلى السيد الشهيد من القول بثبات التوزيع غير صحيح على إطلاقه، وهو يشي بمدى تواضع قراءته لـب(اقتصادنا)، أو أنها على أقل تقدير قراءة إلتقاطية لم تستوعب المحتوى الفكري الذي اشتمل عليه الكتاب.

    وعليه فما بصدده الشهيد الصدر هو نفي الصلة الحتمية بين الإنتاج والتوزيع وبما روَّج له الماركسيون، وليس بصدد إثبات أن التوزيع ثابت وأنه لا يعتوره أي تغيّر، بل أشار الشهيد الصدر ـ وبوضوح ـ أن النظام الاجتماعي الذي يحدِّد علاقات الناس ببعضهم البعض، وبما فيها علاقات التوزيع في تطور وتحول، وأنه لم يتخذ صيغة ثابتة في تاريخ الإنسان، بل اتخذ ألواناً مختلفة باختلاف الظروف وتغيرها(83).

    وبكلمة أخرى: فإنَّ ما بصدده الشهيد الصدر هو نفي جدارة النظام الاشتراكي باعتباره العلاج الضروري للمشكلة الاجتماعية في مرحلة تاريخية معينة، وفقاً للتصورات الماركسية التي ربطت بين الإنتاج والتوزيع على نحو صارمٍ وحتمي، وليس في وارد الحديث عن ثبات التوزيع، إلاّ بقدر ثبات الحاجات الأساسية للإنسان التي لا تتغير مع تغيّر الزمان وتقادمه، وعندئذٍ يكون من المنطقي جداً تصور ثبات قواعد التوزيع في إطار هذا الحاجات وتلبيتها وتحقيقها، مع تصور حاجات إنسانية متغيرة يتم تحقيقها عبر آليات متغيرة أيضاً(84).

    ولذلك لا يبقى ثمة مجال لتعجب كاتبنا صادق سعد وهو يعلِّق على ما تقدم من الفقرة التي نقلها عن الشهيد الصدر فيقول: "" ولا يسعنا في هذه النقطة إلاّ أن نتعجب من أن هذا الكاتب الكبير يسترسل بهذا الشكل في تأملات فيغمض عينيه عن الواقع التاريخي البديهي الذي يناقض رأيه إلى درجة كبيرة. فهذه مصر مثلاً، وقد صاحب تحولها الصناعي والزراعي إلى الوسائل التقنية الإنتاجية الحديثة مثل استعمال الآلات والري الدائم والكهرباء والمحرك البترولي اختفاء أشكال معينة من العلاقات الاجتماعية الماضية مثل الرق والسبي والولاء القبائلي، وخفوت علاقات أخرى مثل العشائرية والقبائلية.."".(85)

    ولا ينقضي تعجبنا من تعجب كاتبنا صادق سعد !! لأن الشهيد الصدر ـ كما قدمنا ـ لم ينكر تغيراً من هذا القبيل، بل تحدث عن أنَّ هناك حاجات، أساسية للإنسان ثابتة لا تتغير كحاجته إلى الضمان المعيشي والتوالد والأمن وما إليها من الحاجات التي عولجت في أحكام توزيع الثروة(86)، وغير ذلك من الحاجات. وهذا لا يعني ثبات جميع حاجات الإنسان، وأنها مما لا يطرأ عليها التغيُّر والتطور. بل أشار الشهيد الصدر ـ وبوضوح أيضاً ـ إلى أن ليس من المعقول أن تصاغ كليات الحياة وتفاصيلها في صيغ ثابتة، بل يجب أن يكون في النظام الاجتماعي جانب رئيسي ثابت، وجوانب مفتوحة للتطور والتغير، ما دام الأساس للحياة الاجتماعية (الحاجات الإنسانية) يحتوي على جوانب ثابتة وجوانب متغيرة، فتنعكس كل من جوانبه الثابتة والمتطورة في النظام الاجتماعي(87).. بل يمكن أن يُزود الجانب الثابت من النظام بقواعد تشريعية ثابتة في صيغها القانونية، غير أنها تتكيف في تطبيقها بالظروف والملابسات، وبذلك تحدد الأسلوب الصحيح لإشباع الحاجات الثابتة التي تتنوع أساليب إشباعها بالرغم من ثباتها(88).. وليس من الحاجات الأساسية الثابتة ـ من وجهة نظر الشهيد الصدر ـ الرق والسبي والولاء القبلي. على أننا لا نفهم الفرق بين الولاء القبلي الذي اختفى في مصر، وبين العشائرية والقبائلية التي خفتت على حد تعبير الكاتب صادق سعد!.

    يبقى أن نشير إلى ملاحظة وصفها صادق سعد بالعابرة. إذ كتب على هامش رأي الشهيد الصدر السالف الذكر: "" نلاحظ هنا بشكل عابر أن الكاتب لم يدرك مفهوم نمط الإنتاج الإدراك العلمي الصحيح، إذ اعتبره فقط مساوياً لأسلوب الإنتاج من الناحية التقنوية، وفي طريقة تنظيمه، مسقطاً منه علاقات الإنتاج أو علاقة الاستغلال""(89).

    وَصْفُ ملاحظته هذه بالعابرة هو الأكثر صدقية فيها، لأنها تعبِّر عن قراءة سطحية ومبتسرة، ولو كان أتعب كاتبنا صادق سعد نفسه في قراءة (اقتصادنا) بأناةٍ وصبر علميين لعزف عن تسجيل ملاحظة من هذا القبيل تفتقر إلى أدنى درجات قراءة الآخر.. لأن الشهيد الصدر ـ وبكل تأكيد ـ يعي ويدرك هذا المفهوم تماماً، وهو ما شرحه في فصل ""العامل الاقتصادي أو المادية التاريخية""(90) وسجَّل ملاحظاته عليه.

    ولعلَّ أكثر ملاحظات الكاتب صادق سعد طرافة إكتشافه ما أسماه بالتناقض في أفكار الشهيد الصدر، وتحديداً في مسألة استحقاق صاحب الآلة (مثل الجرار) الأجرة من الفلاح، في وقت يعتبر فيه العمل أساس الملكية، فكتب: "" نلاحظ هنا نوعاً من التناقض، فإذا كان الفلاح مثلاً يدفع لصاحب الجرار أجرة مقابل استعماله فإنَّ هذه الأجرة سوف تدخل بطبيعة الحال في قيمة المنتج. أليس هذا نوعاً من المشاركة من صاحب الجرار للفلاح في هذه القيمة؟ وقد نجد تفسيراً لهذا في قول الكاتب بعد ذلك، أنه يعتبر الجرّار عملاً مختزناً يعطي لصاحبه حقاً في مشاركة الفلاح على شكل الأجرة""(91).

    يتبع /





  11. #11
    تاريخ التسجيل
    Feb 2003
    المشاركات
    29,593

    افتراضي


    ولا تخلو هذه الملاحظة من المماحكة، إذ أي تناقض مزعوم بعد الإجابة عليه نظرياً..؟! إن افتراض التناقض إن صحَّ فهو يصح لو غفل الشهيد الصدر عن الصورة النظرية التي تجيب عن هذا التساؤل، فإن أجاب فلا يبقى مجال لافتراض هذا التناقض.

    على أنَّ هذا التفسير المقترح - افتراض العمل المختزن في الآلة - هو المائز بين التفسير الإسلامي وبين التفسير الاشتراكي من وجهة نظر السيد الشهيد، إذ اعتبر التفسير الاشتراكي العمل المباشر الأساس الوحيد للملكية، في وقت يعتبر فيه التفسير الإسلامي العمل هو أساس الملكية سواء كان عملاً مباشراً أم مختزناً.

    وفي الكتاب الثاني: يحاول الدكتور غسان محمود إبراهيم نقد المقولات الاقتصادية التي أرسى دعائمها الشهيد الصدر، وذلك في سياق نقده للخطاب الاقتصادي الإسلامي المعاصر، ولكنه لا يتجاوز ـ في معظم هوامشه النقدية ـ التعليق المبتسر هنا أو المماحكة هناك. وإن سجَّل بعض الملاحظات، فهي ملاحظات تشي بالقراءة الناقصة أو غياب الدقة والأناة في قراءة هذه النصوص ومتابعتها.

    ابتداء يورد إبراهيم ما ذكره الشهيد الصدر بصدد تحديد أركان الهيكل العام للاقتصاد الإسلامي، القائم على مبدأ الملكية المزدوجة، ومبدأ الحرية الاقتصادية في نطاق محدود، ومبدأ العدالة الاجتماعية..

    وهنا لا يختلف إبراهيم مع الشهيد الصدر ـ على حدّ تعبيره ـ حول طبيعة المبدأ الأول، ولكنه يسجل ملاحظته بشأن ما أسماه تجاهل الشهيد الصدر ـ كما يدعي ـ عن الشكل المسيطر للملكية الاجتماعية، وإن سلَّم بوجود هذه الأشكال من الملكية: الخاصة والعامة، وملكية الدولة…

    كتب إبراهيم في هذا الصدد: "" إنَّ جوهر المسألة الخلافية لا يقتصر على وجود هذه الأشكال مجتمعة أو وجود أحدها، وإنما الضبط هو: في تحديد أيها المسيطر على الأشكال الأخرى، هذا أولاً، ما هي النتائج أو الآثار الإيجابية أو السلبية التي ستنجم عن تلك السيطرة، وهذا ثانياً. إنّ الشكل المسيطر للملكية الاجتماعية لا تقرره الإرادة البشرية، أي لا يتحقق ذلك الشكل التاريخي للملكية بقرار سياسي اجتماعي، وإنما بفعل آلية التطور العفوي الطبيعي!""(92).

    ولكنَّ نسبة فرض شكل الملكية بقرار سياسي لم يرد في عبارات الشهيد الصدر، بل يعتبر الشهيد الصدر هذه الأشكال الثلاثة ـ من الملكية ـ تعبيراً عن حاجة الفرد والمجتمع معاً(93).

    وبعبارة أخرى: إنَّ الصفة الواقعية للاقتصاد الإسلامي، هي التي فرضت هذا الاعتراف، والتسليم بالأشكال المتعددة للملكية(94).

    على أنَّ إبراهيم وهو يكتب ملاحظاته! إنما يكتبها برؤية مشبعة بالمفاهيم الاشتراكية، ولا ندري ما هو مفهوم آلية التطور العفوي الطبيعي! هل يعني به التصورات الماركسية التي رسمت قوانين محددة، يتم وفقاً لها ظهور وضمور الطبقات الاجتماعية والنظم الاجتماعية؟! لقد ناقش الشهيد الصدر في صدقية هذه التصورات وفرغ منها في مطلع كتابه (اقتصادنا)، فإن كان لكاتبنا ملاحظات نقدية بهذا الخصوص، فلم غفل عنها؟!
    وعلاوة على ذلك، فقد غفل - أو تغافل - كاتبنا إبراهيم عن القرار السياسي الذي بموجبه تم تعطيل الملكية الخاصة أو تضييق دائرتها، وفرض الأنظمة الاشتراكية في بلدانٍ لم يكن من الممكن ـ نظرياً ـ نجاح أو قيام النظام الاشتراكي فيها.

    ويكتب إبراهيم في الاتجاه نفسه: "" إنَّ طبيعة الملكية الاجتماعية المهيمنة على الأشكال التاريخية الأخرى لهذه الملكية هي التي تحدد فعلياً وقانونياً طبيعة المجتمع التاريخي المعني ـ بالطبع في التحليل الأخير، وإلى جانب محدّدات أخرى مساعدة ـ والباحث يتجنّب طرح المسألة بهذا الشكل، ولذلك يستعيض عن تلك الملكية المسيطرة بمبدأ توازن أشكال الملكية. إنه يقول بتوازن الطبقات الاجتماعية وانسجامها، إنَّ مبدأ توازن أشكال الملكية في الاقتصاد الإسلامي يعبّر عنه الباحث بــا(التنوع) في هذه الأشكال.. ومع ذلك فإننا لا نعتقد أبداً بأنَّ الباحث يريد إقناعنا على أن أحد الأشكال المتنوعة للملكية الإسلامية لا يسيطر على الأشكال الأخرى، أو أنَّ هذه الأشكال تحقق وظائفها الاجتماعية والاقتصادية بالتساوي! فالملكية الاجتماعية هي تعبير عن علاقة اجتماعية فعلية وقانونية تتجسد في الأشياء وتغلّف حركتها الموضوعية، وليست هي هذه الأشياء الكمية بالذات وما يشابهها!""(95).

    ومع اعترافنا لكاتبنا إبراهيم بلغةٍ شاعرية فذة! هنا يتكرر المشهد الثقافي من وجهة النظر الماركسية، لأنه وهو يحاكم (اقتصادنا) مأسور بهذه الرؤية، ولا يلتفت إلى الأسس النظرية التي يبني عليها الشهيد الصدر تصوره للاقتصاد الإسلامي، وإن التفت إليها فإنه يحاول تجنبها، وهو يقف على تأكيد الشهيد الصدر للأسس الفكرية التي يستند إليها المذهب الاقتصادي الإسلامي في شرعنة هذه الأشكال المتعددة من الملكية، وبما يناقض الأسس والقواعد التي قامت عليها الرأسمالية أو الاشتراكية(96).

    على أننا نستغرب دعاوى إبراهيم بشأن ما أسماه تَجنُّب الشهيد الصدر المُشكل في هذه المسألة، والذي حدَّده إبراهيم في طبيعة الملكية الاجتماعية المسيطرة والمهيمنة! لأنَّ ما ذكره كان موضع (نقد) الشهيد الصدر، إن على مستوى التفكير الرأسمالي، أو على مستوى التفكير الاشتراكي، ودلَّل على نجاعة الحل الإسلامي بالتراجع العملي لكلا المعسكرين عن ما أسمياه بالمبدأ الأساس، الملكية الخاصة في المعسكر الرأسمالي ـ أو الملكية الشعبية أو ملكية الدولة(97).

    وهل يخفى على كاتبنا إبراهيم ما لحق النظام الرأسمالي والنظام الاشتراكي من تطورٍ أدخل ـ معه ـ عليهما عدة تعديلاتٍ خفَّفت ما أُسمي بالمبدأ العام وسيطرة النوع الواحد من الملكية؟!

    ولعلَّ الأكثر غرابة فيما يكتبه إبراهيم تأكيده على أن "" الأشكال الثلاثة للملكية موجودة في كل الاقتصاديات الحديثة والمعاصرة بغض النظر عن أيها المسيطر أو المهيمن""(98)، لأنه غير صحيح على المستوى النظري على أقل تقدير، وبالتحديد من وجهة نظر المذهب الماركسي، إذ "" أن الاشتراكية تقطع كل صلةٍ نهائياً بالملكية الخاصة، وتزيل إلى الأبد الاستغلال وكل اضطهاد آخر""(99) و "" إن التركيب الطبقي للمجتمع تبدل جذريا ببناء الاشتراكية في الاتحاد السوفياتي، فقد أُزيلت نهائياً الملكية الخاصة على وسائل الإنتاج وأُلغي استغلال الإنسان للإنسان..""(100)، بل أن العمل الحزبي الدؤوب لثوار البروليتاريا نجحوا في تغيير الإنسان، خاصة في الاتحاد السوفياتي، إذ "" إن العمل الجماعي من أجل الوطن حطم عزلة الفلاح التي استمرت قروناً، وساعد على التغلب على نفسية الملكية الخاصة لديه..""(101).

    وإذا كان ثمة ملكيتان متآخيتان في ظل الاشتراكية، وهما ملكية الشعب بأسره، والملكية التعاونية الكولخوزية، "" ولكن في الشيوعية، بدلاً من شكلي الملكية الموجودين في الاشتراكية، ملكية الشعب بأسره ـ ملكية الدولة والملكية التعاونية ـ الكولخوزية، ستوجد الملكية الشيوعية الواحدة التي تعود لجميع أفراد المجتمع دون استثناء""(102).

    وهذا ما عُبِّر عنه في البيان الشيوعي التاريخي لماركس وأنجلز، إذ ورد فيه بوضوح: "" وبهذا الصدد يستطيع الشيوعيون تلخيص نظريتهم في صيغة وحيدة: القضاء على الملكية الخاصة""(103).

    وعليه فالنظرة إلى هذه الأشكال (الثلاثة) من الملكية من زاوية نظرية تختلف اختلافاً جوهرياً، من مذهب إلى آخر، وإذا كان قد تم التسليم بها، فإنه لم يكن إلاّ على وقع الأزمات التي اعترضت النظرية على الواقع، وهذا ما أشار إليه الشهيد الصدر أيضاً.

    وأحسب أن (إبراهيم) قارئ متعب إلى حد كبير، ولا يتحلى بالصبر كما يبدو لي، ولذلك يعجز عن استيعاب مشروع الشهيد الصدر بتمامه، أو يغض الطرف عنه قصداً، ولذلك فإنَّ تساؤله عن شكل أسلوب الإنتاج المسيطر والطبقات الاجتماعية التي وجدت على أساس هذا الإنتاج في مرحلة الاقتصاد الإسلامي، يعبِّر عن هذه الحال.

    ويحاول إبراهيم تغطية عجزه بإثارة مجموعة من الأسئلة لا تختلف في جوهرها عن سابقاتها، أو أنها لا تتصل بوظيفة الباحث الاقتصادي على المستوى المذهبي/ النظري. كتب إبراهيم في هذا الاتجاه: "" ثم إذا سلمنا مع الباحث بكل ما ذهب إليه بشأن مبدأ الملكية المزدوجة، فالحكاية، كلها ليست هنا من الناحية الجوهرية، بل هي في الإجابة عن هذه الأسئلة التاريخية: ما هو أسلوب الإنتاج الذي كان مسيطراً في المجتمع العربي الإسلامي؟ ثم ما هي الطبقات الاجتماعية التي وجدت على أساس أسلوب الإنتاج ذاك؟ وكذلك ما هو الشكل الذي كان مسيطراً لقوة العمل الاجتماعية؟ ثم ما هو شكل المنتوج الذي كان مسيطراً آنذاك؟ كل ذلك يغفله الباحث دفعة واحدة، كأنه لا يتعلق موضوعياً بطبيعة الملكية الاجتماعية، والسبب الجوهري لذلك هو: تحديده الذاتي لأشكال الملكية الاقتصادية في الاقتصاد الإسلامي"" (104).

    تحشيد هذه الأسئلة محاولة لتأصيل وتجذير ما ذكره سابقاً بصدد ما أسماه بالشكل الاجتماعي المهيمن من بين أشكال الملكية الثلاثة، كمقدمة لإثبات المقولة الماركسية في نشوء الأنظمة الاقتصادية التاريخية، والتي تبلغ الذروة مع النظام الشيوعي، وإلاّ فإن أي واحد من هذه الأسئلة لا يدخل في نطاق بحث الشهيد الصدر، لأنها تندرج في إطار البحث التاريخي المحض.
    نعم بحث الشهيد الصدر في ما هو بصدده كاتبنا إبراهيم، وهو العلاقة بين نمط الإنتاج وشكل الملكية الاجتماعية، والصيغة الاجتماعية للنظام السائد، وقد استوعب الشهيد الصدر هذا البحث بشكل تفصيلي، وتحديداً في مناقشاته المستفيضة للنظرية الماركسية(105).

    وعلى هامش حديث الشهيد الصدر عن مبدأ الحرية الاقتصادية في نطاق محدود كواحدٍ من أركان الاقتصاد الإسلامي العامة، كتب إبراهيم: "" أمّا فيما يتعلق بالمبدأ الثاني، فإننا نسارع إلى القول: بأنه ليس هناك حرية مطلقة في المجتمع الرأسمالي ولا في المجتمع الاشتراكي، بل إن حرية اجتماعية كهذه لم توجد في التاريخ، ولم يكن مقدَّراً لها أن توجد، فالحرية بطبيعتها ذاتها تفترض التحديد.. أم هل يتراءى للباحث أن الحرية غير محدودة في المجتمع الرأسمالي، لقيام هذا المجتمع على مبدأ الملكية الخاصة والحرية الفردية الناجمة عنها؟ لكننا نعرف الآن تماماً أن حقوق الإنسان المعاصر وحقوق المجتمع المدني هما حصراً من نتائج تلك الحرية الفردية الرأسمالية والناجمة عن الملكية الخاصة بالذات، أما على صعيد الحرية الاقتصادية فنعلم الآن أن الاحتكار بوصفه قانوناً داخلياً للاقتصاد الرأسمالي محظّر قانونياً في أعتى الدول الرأسمالية وأكثرها تقدماً وتطوراً وعلماً! ثم أليست الحرية مسألة نسبية أيضاً في الإسلام؟! أليست حدود هذه الحرية الاقتصادية هي: ممارستها بما لا يتفق مع أحكام الشريعة الإسلامية وتعاليمها؟""(106).

    ونصُّ إبراهيم حافل بالتبسيط والتهويل في آنٍ واحد، لأن نفيه للحرية المطلقة في المجتمع الرأسمالي، وتأكيده على طبيعة الحرية المحدَّدة في ذاتها، وأن حرية مطلقة لم توجد ولن توجد على الإطلاق، لا يبتعد عن أسلوب التهويل الذي اعتاد عليه وهو يسجِّل ما يسميه بالملاحظات والنقد! إذ لم يكن الشهيد الصدر في وارد الحديث عن (الحرية) وطبيعتها وفيما إذا كانت تخضع للتحديد أو لا؟ بل هو بصدد الأسس النظرية التي يقوم عليها النظام الرأسمالي وقواعده العامة التي تشكّل المبدأ العام والأصيل، والذي لا يمنع ـ في هذه النقطة بالتحديد ـ قيام الدولة بتحديد الحرية والحدّ منها، فيما إذا كان ذلك متعلقاً بالمصلحة العامة(107)، بل اعتبر الشهيد الصدر أنَّ الرأسمالية في صيغتها المذهبية الكاملة ليست إلاّ مذهباً تاريخياً أكثر من كونه يعيش في واقع الحياة(108).

    وعليه، فإنَّ ما بصدده الشهيد الصدر هو الأسس النظرية للاقتصاد الرأسمالي وموقع (الحرية) اقتصادياً، وليس بصدد ما إذا كانت (الحرية) بطبيعتها محدَّدة أو لا؟! أو بصدد أنَّ (الحرية) في الإسلام نسبية وأنها محدودة بالتعاليم التشريعية الإسلامية، وهو ما أشار إليه (إبراهيم) دونما فائدة لهذه الإشارة، بعد افتراض أنها من تحصيل الحاصل. فضلاً عن إشارات الشهيد الصدر المبثوثة في الكتاب!!.

    مضافاً إلى أنَّ وصف (الحرية) في الاقتصاد الإسلامي بالمحدودة أو المحدَّدة لا يعني كونها ليست كذلك في إطار أو مذهب آخر.. فضلاً عن أن التحديد هذا ليس بالدرجة نفسها في هذا المذهب أو ذاك، لأنَّ التحديد في الأساس ـ يعبِّر عن نظرةٍ قيمية، وهي تختلف من مذهب إلى آخر. فهل التحديد في النظام الرأسمالي نفسه في النظام الإسلامي؟! من وجهة نظر كاتبنا إبراهيم؟!
    وقد كتب إبراهيم في تعليقه على ما أسماه الشهيد الصدر بـا(مبدأ العدالة الاجتماعية) وهو المبدأ الثالث من الأركان العامة للاقتصاد الإسلامي: "" أما بالنسبة للمبدأ الثالث.. فإذا كان مبدأ التكافل الاجتماعي يعني في جوهره توزيع الدخل والثروة بشكل عادل قدر الإمكان، فإنَّ هذا ما تحاوله كل المجتمعات البشرية الراهنة من رأسمالية واشتراكية معاً. ولكن المسألة لا تطرح هكذا، إن طرحها بشكل صحيح يعني ربطها بمجموعةٍ من المسائل مثل: الملكية الخاصة، الطبقات الاجتماعية وموقفها في عملية الإنتاج الاجتماعي، طبيعة السلطة السياسية.. إلاّ أن الباحث يتجنب هذا كله! ولذلك فإنَّ طرح مبدأ التكافل الاجتماعي يبقى طرحاً مثالياً أسطورياً. أما مبدأ التوازن الاجتماعي ـ كنا قد ناقشنا هذا المبدأ بما فيه الكفاية فيما سبق من هذه الفقرة ـ فإذا كان يعني في جوهره تحقيق الانسجام بين أفراد الجماعة والأمة والتقارب الاجتماعي واستبعاد المنازعات والمشاحنات والتمايزات الطبقية، أي بكلمة: تحقيق التجانس الاجتماعي، فذلك ما أنجزته الرأسمالية، وتنجزه يومياً بشكل فعّال وإيجابي! أما الاشتراكية فلا تطرحه أصلاً، لأن مولّده الاجتماعي (الملكية الخاصة) غير موجود في اقتصادها! إنّ مبدأ العدالة الاجتماعية بشقيه: التكافل والتوازن الاجتماعيين يجد مقابله الحديث والمعاصر في مبدأ: المساعدات والإعانات وتأسيس صناديق العمل، وإعادة توزيع الدخل والثروة واكتساب المزيد من الحقوق والحريات المدنية.. بشكل يلغي التفاوت الكبير بين أفراد المجتمع قدر الإمكان. إنَّ هذا المبدأ محقق بجزئه الأكبر في المجتمعات الرأسمالية والاشتراكية. وإذن لماذا تستمر عملية استبدال مقولات اقتصادية حديثة بمقولات اقتصادية إسلامية تعني الشيء نفسه؟! وهل هذه طريقة علمية للبرهان على سمات الاقتصاد الإسلامي أو أركانه..؟!""(109).

    ومتابعة (إبراهيم) في تعليقاته النقدية!! يوحي بالغثيان، لأنه يسوِّد صفحات كتابه (جزافاً) وبمزاجية مفرطة، وغالباً ما يسترسل في تعليقاته إلى درجة تصبح معها أقرب إلى (نـص) انشائي.. لأن افتراض سعي المجتمعات الراهنة، الرأسمالي منها والاشتراكي إلى تحقيق هذا التكافل ـ كما يقول إبراهيم ـ لا يغيِّر من واقع المذهب الاقتصادي الإسلامي كما يعرضه الشهيد الصدر، لأنه بصدد توضيح الآليات التي يتم بها تحقيق ما أسماه بالعدالة الاجتماعية، ومن وجهة نظر الإسلام تحديداً، وهو ما شرحه الشهيد بتفصيل من الناحية النظرية(110).

    وما ذكره إبراهيم من تجنّب الشهيد الصدر طرح المسألة في إطارها الصحيح، من حيث ربطها بالملكية الاجتماعية، والطبقات الاجتماعية وموقعها في عملية الإنتاج، والسلطة السياسية، غير صحيح على الإطلاق، ولا يستند إلى مبررٍ علمي، لأن الشهيد الصدر، وهو بصدد توضيح مبدأ العدالة الاجتماعية والآليات التي يمكن بواسطتها تحقيقها، ربط بحث المسألة بالعامل النفسي الذاتي، وتأثيره في إنجاح مهمة إشاعة العدالة الاجتماعية، وبالعامل الموضوعي، من حيث تفعيل الآليات الذاتية وتحقيق الانسجام بين العاملين، في عملية متبادلة بين المجتمع المسلم والدولة الإسلامية(111).

    كما أنه ـ الشهيد الصدر ـ لم يغفل ما أسماه إبراهيم بطرح المسألة من زاوية علاقة تحقيق العدالة الاجتماعية بالملكية الاجتماعية، لأنه أشار ـ بوضوح ـ إلى الأساس القانوني والفقهي ـ بل والفكري ـ في التأسيس لما أسماه بالضمان الاجتماعي المرتكز على حق الجماعة في مصادر الثروة(112).

    كما أنه ـ الشهيد الصدر ـ لم يغفل بحث المسألة من حيث علاقتها أو ارتباطها بالطبقات الاجتماعية، وتفسير هذا التناقض الاجتماعي، ودور الدولة في التخفيف منه، والآليات التي يمكن من خلالها الوصول إلى الأهداف المرجوّة(113).

    ولعلَّ الأكثر طرافة في تعليقات إبراهيم النقدية!! ما ذكره بخصوص التجانس الاجتماعي وموقعه في النظرية الاشتراكية، فقد أشار إلى خلو الاشتراكية منه، لأنَّ مولِّده الاجتماعي (الملكية الخاصة) غير موجود في اقتصادها(114)، متناسياً ما ذكره في فقرات سابقة، وهو يؤكد على وجود الملكية الخاصة في كل الاقتصاديات الحديثة والمعاصرة(115).

    على أننا لا نعرف سرَّ امتعاضه مما أسماه استبدال مقولات اقتصادية حديثة بمقولات اقتصادية إسلامية! فلماذا لا يسوغ للمسلم الاستهداء برؤى إسلامية قادرة على حلّ مشكلاته وبآليات واقعية لم يعرفها الواقع البشري إلاّ في زمنٍ متأخر، وإذا كان قد توصل المجتمع الرأسمالي إلى هذا المستوى الذي أشار إليه إبراهيم فما هو المسوِّغ لنشوء الاشتراكية، إذا كانت الاشتراكية تسعى إلى تحقيق الأهداف نفسها التي تسعى إليها الرأسمالية، وإن اختلفت في الرؤى؟!

    ويبدو لي أن كاتبنا إبراهيم غير قادر على التمييز بين البحث الوصفي والبحث البرهاني الاستدلالي، وهو ما يظهر من استغرابه ـ السالف الذكر ـ بصدد ما ذكره الشهيد الصدر بخصوص السمات العامة للاقتصاد الإسلامي، إذ لاحظ إبراهيم أنَّ تحديد هذه السمات لا تصلح للبرهنة على سمات الاقتصاد أو أركانه.

    ولا ندري كيف استنتج كاتبنا إبراهيم أن الشهيد الصدر بهذا الصدد، وهو يشبع بحثه في كتاب (اقتصادنا) بالاستدلال تارة أو بالعلامات الفارقة بين الاقتصاد الإسلامي ونظيريه الرأسمالي والاشتراكي تارة أخرى، وتحديداً في مسألة السمات العامة التي حدَّدها الشهيد الصدر بالملكية المزدوجة والحرية في نطاقها المحدود والعدالة الاجتماعية. ومن شاء فليراجع كتاب (اقتصادنا) ليقف على حقيقة الملاحظات النقدية!! التي يسطرها كاتبنا إبراهيم دونما قراءة متواصلة، فضلاً عن كونها واعية وفاحصة(116).

    وفي مسألة تحديد هوية البحث الاقتصادي من وجهة نظرٍ إسلامية ينفي الطابع العلمي عنها، ويحدّدها بالطابع المذهبي، على تفصيلٍ ذكره الشهيد الصدر، ووفق مبررات علمية وتاريخية.

    وهنا ينتهج إبراهيم نهج زملائه من ذوي الميول المناوئة ـ فكرياً ـ للاقتصاد الإسلامي. إنما يتميز عنهم في تدني مستوى إدراكه للتمييز بين المذهب الاقتصادي الإسلامي وبين علم الاقتصاد الإسلامي، ووفقاً للمعيار الذي ذكره الشهيد الصدر، إذ كتب تعليقاً على ما ذكره الشهيد الصدر في تعريف علم الاقتصاد وتعريف المذهب الاقتصادي: "" وبغض النظر عن عدم وجود أية رابطة ضرورية ومنطقية بين التعريفين…""(117) بلغةٍ لا تخلو من التبسيط، لأنه لم يدرك طبيعة العلاقة المنطقية بين التعريفين، وإن لم تكن ثمة علاقة على الإطلاق، فلم لم يتصدَّ لتوضيح ما به يبرهن إنعدام هذه العلاقة.

    ولعلَّ الأكثر تعبيراً ـ ودلالة ـ عن مستوى إدراكه لمقولات (اقتصادنا) ربطها اللامنطقي بين ما نبّه عليه السيد الشهيد في مقدمة (اقتصادنا) من كون التقسيمات التي اشتمل عليها الكتاب تقسيمات إستنتاجية لم ترد ـ بصراحة ـ في النصوص الشرعية، وبين مسألة وجود علم الاقتصاد الإسلامي نفسه، فكتب: "".. وهذه الملاحظة المهمة يتحدد بناء عليها، ما إذا كان هناك علم اقتصاد إسلامي، أو حتى اقتصاد إسلامي أم لا، ولكن للأسف، لا يدعنا الباحث، وغيره من المؤيدين لـأ(الاقتصاد الإسلامي) لحظة واحدة نعيش ذلك البصيص من الأمل، بل يعود فيؤكد لنا أن تقسيماته تلك، ونضيف من جانبنا أن اجتهاده واجتهاد كل الناطقين بالخطاب الاقتصادي الإسلامي المعاصر، لا تأخذ مصداقيتها التشريعية ولا تكتسب قيمتها العلمية إلاّ من خلال شرط واحد لازم وكافٍ: هو مدى انطباق تلك الأحكام الشرعية عليها، أي مدى انطباق الشرعي الديني الاقتصادي!؟؟""(118).

    وما يريده الشهيد الصدر هو التقسيمات والعناوين التي اشتمل عليها كتاب (اقتصادنا) من قبيل تقسيمات الملكية بأشكالها الثلاثة، أو الضرائب الثابت منها وغير الثابت،.. لأنها تعبيرات وعناوين مستحدثة لمضامين معهودة ومعروفة، ولذلك لم يشأ الشهيد الصدر أن يفرض على الفقه الإسلامي عناوين استحدثت بعد عصر التشريع، ولذلك يبقى صدقها متوقفاً على مدى انطباقها مع المضمون الحقيقي الذي تعبر عنه.

    أما ما ذكره إبراهيم من أن اجتهاد الناطقين بالخطاب الاقتصادي الإسلامي المعاصر لا يأخذ مصداقيته وقيمته إلاّ بقدر انطباق تلك الاجتهادات مع واقع الشريعة، فهو معنى صحيح، وليس جديداً على التفكير الإسلامي، وقد نبّه عليه الشهيد الصدر نفسه، وقد أخذه إبراهيم منه إلاّ أنه لم يوفق للتعبير عنه، ولذلك اسقط عليه بعض المقولات التي ابتكرها إبراهيم ولا يعرف مداليلها إلاّ هو، كما هو قوله في "" مدى انطباق الشرعي / الديني على الاقتصادي""!.

    وثمة استنتاجات غريبة جداً. وهي تلتقي بالملاحظة نفسها التي أشرنا إليها، فتعليقاً على ما ذكره الشهيد الصدر في (المقدمة) - أيضاً - بخصوص طبيعة لغة الكتاب ومنهجه في الاستدلال، وأنه يعرض مقولاته الفكرية مجردة عن الاستدلال العلمي المعهود في الأوساط العلمية،كتب إبراهيم: "" لندع جانباً مسألة ضرورة ممارسة البحث العلمي فيما يتصل بالجوانب الفقهية من الاقتصاد الإسلامي، ولنتابع عرض آراء الباحث حول درجة علمية الاقتصاد الإسلامي، إذ يقول: "" وحين تسند تلك الآراء بمدارك إسلامية من آيات وروايات لا يقصد من ذلك الاستدلال على الحكم الشرعي بصورة علمية.. وإنما نرمي من وراء عرض تلك الآيات والروايات أحياناً إلى إيجاد خبرة عامة للقارئ بالمدارك الإسلامية. وبكل موضوعية نقول: إنَّ هذا الفهم العلمي والتاريخي للنص الديني هو فهم يتميز به الباحث من مجمل أصحاب الخطاب الاقتصادي الإسلامي المعاصر، ذلك أن إفحام الخصم الفكري لهؤلاء بالنص الديني أو الاستشهاد بهذا النص كقاعدة عامة فقهية راسخة لدى أولئك الأصحاب، ضد هذا الخصم لا يعني أبداً ـ من وجهة نظر الباحث بالطبع ـ البرهنة العلمية على وجود علم اقتصاد إسلامي بشكل خاص أو على وجهة نظر هؤلاء الأصحاب فيما يتعلق بخطابهم الاقتصادي الإسلامي تحديداً. وفي هذا الإطار نؤكد على أن الاستشهاد بنص شرعي لتأييد فكرةٍ ما أو رفضها ليس برهاناً علمياً بحد ذاته، فالنص الديني ملك للجميع ومن حق الجميع الاستشهاد به، ولكن المشكلة ليست هنا، بقدر ما هي موجودة في شروط موضوعية أخرى منها على سبيل المثال: الطريقة العلمية المعتمدة في أن الباحث كما يبدو بعيد جداً عن عرض رأيه بشكل صريح حول مسائل الاقتصاد الإسلامي، وهذا ما نستدل عليه من نصه التالي: "" توجد تقسيمات في الكتاب ـ كتابه (اقتصادنا) ـ: المؤلف ـ في بعض جوانب الاقتصاد الإسلامي، لم ترد بصراحة في نص شرعي، وإنما انتزعت من مجموع الأحكام الشرعية الواردة في المسألة، ولذلك فإن تلك التقسيمات تتبع في دقتها مدى انطباق تلك الأحكام الشرعية عليها""(119).

    وما أشار إليه الشهيد الصدر في (مقدمة اقتصادنا) من عزوفه عن الاستدلال العلمي المعمَّق المعهود في الأوساط الفقهية المعروفة، لا علاقة له ـ على الإطلاق ـ بما ذكره كاتبنا إبراهيم من تاريخية النص الديني وعدم الاستدلال به في وجه الخصم، وهو ما يميّز الشهيد الصدر من وجهة نظر إبراهيم من مجمل أصحاب الخطاب الاقتصادي الإسلامي المعاصر، ولا علاقة له ـ على الإطلاق أيضاً ـ بما ذكره من كون النص الديني ملكاً للجميع ومن حقهم الاستشهاد به.

    كما أنَّ ما أشار إليه إبراهيم من كون الشهيد الصدر بعيداً عن عرض رأيه الصريح في المسائل الاقتصادية، واستنتجه من الفقرة التي ذكرها الشهيد الصدر بخصوص التقسيمات الواردة في الكتاب غير صحيح في خصوص الاستدلال عليه بما ذكره الشهيد الصدر بخصوص التقسيمات المشار إليها. ولذلك كان على إبراهيم الاستدلال بما ذكره الشهيد الصدر في فقرة أخرى من أن "" الآراء الفقهية التي تعرض في الكتاب لا يجب أن تكون مستنبطة من المؤلف نفسه، بل قد يعرض الكتاب لآراء تخالف من الناحية الفقهية اجتهاد الكاتب في المسألة..""(120)، وهذا يعني أنه ليس من الضروري أن تكون جميع الآراء الفقهية في الكتاب نتيجة اجتهاد الكاتب نفسه، ولا يعني أنه لا يعبر عن آرائه في المسائل الفقهية كما يذكره إبراهيم. وهذا المعنى يتصل بعملية اكتشاف المذهب الاقتصادي الإسلامي والمعوِّقات التي تعترض الفقيه في الوصول إلى نتائجه المتوخاة، وإمكانية التعويض ـ بآراء فقهية لفقهاء آخرين ـ في المواضع التي لا يوفق فيها الفقيه لبناء تصورٍ نظري متكامل وفقاً لآرائه الخاصة(121).

    ويمارس إبراهيم ـ علاوة على ما تقدم ـ قراءة مجتزأة قلَّ نظيرها في حقل القراءات النقدية، فعلى هامش قراءاته للمقدمة الثانية لكتاب اقتصادنا، والتي خصصها الشهيد الصدر لدراسة واقع التنمية في البلاد الإسلامية، كتب إبراهيم تعليقاً على بعض فقراتها: "" في مقدمته للطبعة الثانية، ينبّه الباحث الصدر إلى أنه لا يهدف إلى المقارنة العلمية المجردة بين الاقتصاد الحديث والاقتصاد الإسلامي. بل بين الاقتصاد الأوربي بكلا جناحيه الرأسمالي والاشتراكي والاقتصاد الإسلامي من ناحية قدرة كل منهما على المساهمة في معركة العالم الإسلامي ضد التخلف الاقتصادي ومدى قابلية كل واحد من هذه المناهج ليكون إطاراً لعملية التنمية. وهنا نتساءل: كيف سيجري الباحث عملية المقارنة تلك بين الاقتصاد الأوروبي والاقتصاد الإسلامي؟ وهل ستتم تلك المقارنة من خلال النظرية لكلا الاقتصادين أم من خلال التطبيق لهما أم من خلال الالتحام بين النظرية والتطبيق، أم من خلال مقارنة مختلفة جذرياً عن كل ما تقدم؟ وكيف سيوازن الباحث بين منهج الاقتصاد الأوروبي ومنهج الاقتصاد الإسلامي؟""(122).

    إنَّ هذه الأسئلة النقدية!! التي يثيرها إبراهيم جديرة بالتفكير حقاً، إلاّ أنها ـ وبكل أسف ـ تكشف عن طبيعة قراءة إبراهيم كتاب اقتصادنا إلى درجة يمكن الجزم معها بعدم قراءته فضلاً عن استيعابه وإدراك مقولاته الفكرية، لأن ما بصدده الشهيد الصدر ـ في المقدمة ـ وببساطة شديدة هو بيان قدرة الاقتصاد الإسلامي على إنجاح عملية التنمية في البلاد الإسلامية بالمقارنة مع الاقتصاد الأوروبي بكلا جناحيه، وليس في مقام نفي المقارنة بين الاقتصاد الإسلامي والاقتصاد الأوروبي مطلقاً، وإلاّ فلماذا تضخمت صفحات كتاب (اقتصادنا) وزادت على سبعمائة صفحة؟! هل خصّصها الشهيد الصدر لبحث الطلاسم أو التعاويذ!!

    إنَّ ما ورد نصاً في المقدمة هو التالي: ""وأنا لا أريد هنا أن أُقارن بين الاقتصاد الإسلامي والإقتصادين الرأسمالي والاشتراكي من وجهة نظرٍ اقتصادية مذهبية، فإن هذا ما أتركه للكتاب نفسه، فقد قام كتاب اقتصادنا، بدراسة مقارنة بهذا الصدد، وإنما أُريد أن أُقارن بين الاقتصاد الأوروبي بكلا جناحيه الرأسمالي والاشتراكي والاقتصادي الإسلامي من ناحية قدرة كل منهما على المساهمة في معركة العالم الإسلامي ضد التخلف الاقتصادي ومدى قابلية كل من هذه المناهج ليكون إطاراً لعملية التنمية الاقتصادية""(123).

    وأحسب أن الإطلاع المباشر على نص الشهيد الصدر سيتيح للقارئ تقييم قراءة إبراهيم وقدرته على تحليل الأفكار التي اشتمل عليها كتاب (اقتصادنا) وبالتالي قدرته على تحديد موقف نقديٍ تجاه هذه الأفكار.

    وتتأكد ملاحظتنا السابقة تجاه قراءات إبراهيم النقدية!! وهو يسترسل في إثارة التساؤلات البريئة والساذجة في الآن نفسه، فكتب على هامش ما أشار إليه الشهيد الصدر بالظرف الموضوعي والتركيب النفسي والتاريخي للأمة كشرط لإنجاح عملية التنمية في العالم الإسلامي: "" وكذلك لماذا هذا التركيز المثير للانتباه على الجانبين النفسي والتاريخي وإهمال الجانبين النظري والعملي للاقتصادين المذكورين؟""(124). فقد مرّ نص الشهيد الصدر وأنه بصدد المقارنة على هذا المستوى تاركاً المقارنة النظرية لأبحاث الكتاب نفسه، فكيف أهمل الشهيد الصدر ما أسماه بالجانب النظري؟!

    على أن هذا الظرف الموضوعي والتركيب النفسي والتاريخي للأمة، مما يعترف إبراهيم بدوره وإسهامه، بما أسماه (الهمّ الاجتماعي) لدى أفراد المجتمع ورعايا الدولة(125).

    وهناك تساؤلات أخرى أثارها كاتبنا إبراهيم على هامش دراسته للمقدمة الثانية التي كتبها الشهيد الصدر لتصدير الطبعة الثانية من (اقتصادنا)، وهي لا تقل عن سابقاتها من حيث البراءة والسذاجة.

    فقد كتب إبراهيم: "".. وهنا نتساءل: هل يلعب الدين، أو هل يمكنه أن يلعب، بوصفه معتقداً روحياً، أي دور في مسألة اختيار المنهج الاقتصادي الذي يجب اعتماده؟ لا يصرِّح الباحث بذلك وإن كان يشي به عندما يذهب إلى أن المنهج الصالح للأمة هو بالضبط ذلك الذي يستطيع أن يدمج المعتقد الروحي للأمة ضمنه..""(126).

    ويتملكنا العجب من كاتبنا إبراهيم، وهو ينفي أن يكون الشهيد الصدر قد صرَّح بدور الدين في مسألة اختيار المنهج الاقتصادي الذي يجب اعتماده، مع أنَّ موضوع المقدمة الثانية ذاتها قد كُرِّس لتأكيد دور الدين في إنجاح عملية التنمية في العالم الإسلامي، كما أنه جرى على تأكيد ذلك في مواطن أخرى من كتابه (اقتصادنا) الذي لم يشأ إبراهيم تقليب صفحاته(127)!!
    ولعلَّ أكثر تساؤلاته طرافة، ما كتبه تعليقاً على المقدمة ذاتها:

    "" والسؤال الذي يطرح هنا، هو: ما هي تلك البلدان النامية التي نُقلت إليها مناهج اقتصادية أوروبية فأدت إلى فشل ذريع لتجارب التنمية الاقتصادية فيها؟ لا يجيب الباحث صراحة على هذا السؤال، وإن كان يمكن أن نستنتج ببساطة أن تلك الدول هي: دول إسلامية حصراً..""(128).

    ولا ندري ما هو سرُّ تساؤله هذا إذا كانت الإجابة عليه مما يمكن استنتاجه ببساطة على حد تعبيره!! غير أننا نأسف للجهد الذي بذله إبراهيم في الوصول إلى مثل هذا الاستنتاج، لأنَّ الشهيد الصدر قد صرَّح نفسه بأن المقصود من ذلك هو العالم الإسلامي، وقد وردت لفظة (العالم الإسلامي) بما لا يقل عن ثماني مرات، فضلاً عن طبيعة الموضوع والأجواء المحيطة به، التي لا تترك مجالاً للشك في المقصود، فهل ثمة صراحة أوضح من هذه الصراحة؟!

    ولا يقل عمّا تقدم ما كتبه تعليقاً على تأكيد الشهيد الصدر دور العقيدة الإسلامية وإسهامها في عملية التنمية، فكتب إبراهيم: "" يُستنتج من هذا النص: أن العقيدة الإسلامية، في بلد إسلامي بالطبع ـ سبب لازم وكافٍ لإنجاح أية تنمية تعتمد على هذه العقيدة! وهنا نجد لزاماً علينا طرح السؤال التالي: ماذا لو اعتمدت التنمية الاقتصادية على العقيدة الإسلامية وأخذت في الوقت نفسه بالمذهب الاقتصادي الأوروبي؟ قد يجوز ذلك..""(129).

    ونص إبراهيم يضجُّ بالمفارقات، فضلاً عن العبث الذي يمارسه في التفسير أو الاستنتاج، بل في النقل أيضاً.

    لأن الشهيد الصدر لم يدّع أن العقيدة الإسلامية سبب كافٍ ولازم كما يدّعي إبراهيم، بل ذكر إنَّ للعقيدة الدينية دوراً مهماً، ولو وضع النظام الإسلامي موضع التنفيذ سيجد في العقيدة الدينية سنداً كبيراً له وعاملاً مساعداً على إنجاح التنمية الموضوعة في إطاره، لأن أساس النظام الإسلام أحكام الشريعة الإسلامية، وهي أحكام يؤمن المسلمون بقداستها(130).. وهذا ما نقله إبراهيم عن الشهيد الصدر. وفي النص إجابة شافية لتساؤله البريء تجاه ما أسماه باعتماد المذهب الاقتصادي الأوروبي، مع أن الشهيد الصدر يشير ـ وبوضوح ـ إلى ضرورة أن يكون ذلك في إطار النظام الإسلامي وأحكامه وتشريعاته. وعليه فالعقيدة الدينية ليست بديلاً عن الصيغة القانونية والتشريعية(131)، بل أشار الشهيد الصدر إلى أن الإسلام "" لا يقتصر ـ في مذهبه وتعاليمه ـ على تنظيم الوجه الخارجي للمجتمع، وإنما ينفذ إلى أعماقه الروحية والفكرية، ليوفق بين المحتوى الداخلي وما يرسمه من مخطط اقتصادي واجتماعي..""(132).

    وفي الكتاب الثالث: يقف الكاتب الماركسي العراقي فالح عبد الجبار الموقف نفسه والاتجاه ذاته، في قراءته لنصوص (اقتصادنا) والتعاطي مع مقولاته الفكرية.

    وكتابه ـ في الأصل أُريد له تناول الفكر الديني من زاوية مادية، وتحديداً الفكر الإسلامي في اتجاهاته المعاصرة في العراق، ومحاولة فهم مواقفها، من زاوية مادية محضةٍ، وبأدوات مادية أيضاً(133)، متأثراً بواقعٍ سياسي كان سائداً يومذاك إبّان اشتعال الحرب العراقية ـ الإيرانية، في ظل الصراع الذي كان قائماً ـ أيضاً ـ بين الاتجاه الماركسي والاتجاه الإسلامي، إن في إيران أو في العراق.

    ولذلك وقع الكاتب تحت تأثير هذا الصراع، مما عكس على لغته الطابع الإعلامي في الاحتراب، المشحون بالاتهام والمعبأ بالتشكيك والمماحكة..

    وليس من الصدفة أن يدخل فالح عبد الجبار في مماحكة نقدية لما أسماه بنقد فقه الصدر الاقتصادي، لأن ذلك يعود ـ في الأساس ـ إلى فشل الماركسيين في مواجهة فكر الشهيد الصدر، إن على المستوى الفلسفي أو الاقتصادي، وطيلة عدة عقود خلت. ولا يزال الماركسيون العراقيون يستذكرون الصراع المرير والإحتراب الشديد القائم بينهم وبين الإسلاميين في ما عُرف بحقبة المدّ الأحمر.

    وتبدو ـ عندئذٍ ـ عملية النقد هذه! أقرب ما تكون إلى تصفية حساب مع الشهيد الصدر بغية ردّ اعتبار الذات وإنقاذها من المأزق. ومن يقرأ نصوص الكاتب الماركسي هادي العلوي يقف على حقيقة العداء الماركسي المستحكم تجاه الشهيد الصدر، وإنّ أُطِّر في السنوات الأخيرة بطابع جديد، فكري تارة أو تاريخي تارة أخرى.


    يتبع /





  12. #12
    تاريخ التسجيل
    Feb 2003
    المشاركات
    29,593

    افتراضي

    ومهما يكن من أمر، فإنّ ما سطره فالح عبد الجبار في كتابه المشار إليه ينتمي إلى هذا الاتجاه، وفيه يندرج، ولذلك لم ينتظر منه موقف الإنصاف أو الحوار الموضوعي، والنقد العلمي، وإن حاولت بعض أقلامهم ذلك، ومنهم هادي العلوي نفسه ـ أحياناً ـ وفالح عبد الجبار أيضاً، في محاولةٍ منه للظهور بمظهر النقد العلمي والموضوعي.

    ولذلك سجّل في مطلع نقده! انطباعات تبجيلية تجاه الشهيد الصدر وفكره الاقتصادي تحديداً، إذ كتب: "" يشكل آية الله محمد باقر الصدر، نموذجاً متزناً في الفكر الاقتصادي الإسلامي، فهو يسجل أفكاره وانتقاداته واستنتاجاته في صيغة مفاهيم ومقولات، ويعرضها في إطار نظري واحد. وبالرغم مما قد يراه المرء من نواقص، فإنَّ آية الله الصدر مُلمٌّ بالمفاهيم الاقتصادية بصورة من الصور، ويُعتبر بنظر مقلديه أفضل ممثل للفكر الاقتصادي الإسلامي، والواقع أنه الأكثر إطلاعاً والأوسع نظرة من بين أقرانه.""(134).

    والنص وإن لم يَخلُ من لغةٍ يطغى عليها طابع الامتعاض ومحاولة الانتقاص من الشهيد الصدر ـ على الخلفية التاريخية والسياسية التي أشرنا إليها ـ إلاّ أنه لم يشأ تجاوز حقيقته وإن بدت مرة.

    وقبل الخوض في دراسة ما أسماه فالح عبد الجبار بنقد فقه الصدر الاقتصادي يحسن أن أشير إلى طبيعة قراءته لفكر الصدر الاقتصادي ـ حسب تعبيره ـ ومدى استيعابه لهذا الفكر.

    وفي هذا الصدد كتب فالح عبد الجبار: "" تركزت مناقشة الأعمال الاقتصادية للسيد الصدر على ملخصاته الاقتصادية الأخيرة التي وضعت في 10 ربيع الثاني 1399ه‍ في سلسلة كراريس بعنوان: (الإسلام يقود الحياة)، (2) صورة عن اقتصاد المجتمع الإسلامي، و (3) خطوط تفصيلية في اقتصاد المجتمع الإسلامي. وغني عن البيان أن هذين الكراسين أحدث عهداً من كتاب (اقتصادنا) الذي صدر قبل قرابة عقدين من صدور هذين. ويحتوي الكراسان في الجوهر، على عرض مباشر للأفكار الواردة في (اقتصادنا)، ولكن ليس بنفس السعة بالطبع. فكتاب اقتصادنا مجلد ضخم يبلغ في طبعته السادسة عشر لعام 1982م 783 صفحة. وقد تكرست أول 292 صفحة منه لنقد الماركسية والرأسمالية، من منطلق المساواة بين الاثنين في الجوهر، وإلغائهما معاً عبر طريق ثالث يعترف بالملكية الخاصة في جانب، ويعترف بالملكية العامة في جانب. بعد ذلك يدرس الكتاب ما يسميه (اقتصادنا في معالمه الرئيسية)، أي ماهية الاقتصاد الإسلامي وحلوله التي تقتصر على مشكلات التوزيع. وهذا التوزيع ينقسم بصورة أوضح مما في الكراسين المذكورين أعلاه، إلى توزيع (المصدر الأصيل للإنتاج) ص 436، وتوزيع ما بعد الإنتاج أي المنتوجات (ص530ـ 554). إن الكتاب ينطوي في جانبه الأول (نقد الماركسية والرأسمالية) على تفصيلات مسهبة تتطلب نقداً تفصيلياً بالمثل، أما الجانب الثاني منه، فلا يختلف عما أوردناه هنا، من خطوط عامة. وبوسعنا القول إن الملاحظات النقدية المدرجة في الفصل الاقتصادي بخصوص اطروحات السيد الصدر، تنطبق على الموضوعات الأساسية الواردة في كتاب اقتصادنا، وإن نقد هذا الأخير مباشرة لن يغير شيئاً سوى حجم مادة النقد لا موضوعه، أي جانبه الكمي لا النوعي""(135).

    هكذا يستريح عبد الجبار ويُريح، فهو لم يتعرض بالنقد للمقولات الفكرية الاقتصادية كما هي في اقتصادنا وبشكل مباشر، بل اعتبرها كما هي معروضة في ما أسماه بالكرَّاسين الأحدث تاريخاً، فينسحب عليها ما يرد من ملاحظات نقدية على ما ورد في الكراسين.

    ويُرى ـ هنا مدى التبسيط الذي تشتمل عليه عبارات عبد الجبار، وهو يقتصر على قراءة نصوص مختصرة كتبها الشهيد الصدر كرسالةٍ جوابية على رسالة بعثها إليه عدد من العلماء، ولذلك خلت من الإحالات والمراجع، أو التفصيل في نقد الاقتصاد الرأسمالي أو الماركسي، بل التفصيل في الاقتصاد الإسلامي نفسه.

    وأنا شخصياً أشك في إطلاع كاتبنا عبد الجبار على (اقتصادنا) أو قراءته قراءة فاحصة، وسيأتي ما يدل على ذلك. بل أجده يغفل عنوان ما أسماه بالكراسين أيضاً، لأن عنوان (الإسلام يقود الحياة) هو العنوان الرئيسي الذي وضع لمجموع الموضوعات (الرسائل الجوابية) التي عالجها الشهيد الصدر. ومنها ثلاثة تتصل بالاقتصاد الإسلامي: (صورة عن اقتصاد المجتمع الإسلامي) و(خطوط تفصيلية عن اقتصاد المجتمع الإسلامي) و(الأسس العامة للبنك في المجتمع الإسلامي).
    وقراءة مجتزأة ـ من هذا القبيل ـ لا ينتظر منها أن تنجح، وسيكون نصيبها الفشل لا محالة، وأقل ما يقال عنها إنها منقوصة..

    وربما يكون من المفيد تشخيص أهم الملاحظات النقدية! التي سجّلها عبد الجبار على الشهيد الصدر، وهي بغض النظر عن التعليقات والتفسيرات المادية التي لا تلزم سوى عبد الجبار نفسه، فإنه يمكن تحديدها بالتالي:

    أولاً: في ما أسماه بمصادر معرفة الصدر الاقتصادية، كتب عبد الجبار: ""بوسعنا إضافة حقل رابع يتعلق بمصادر معرفته الاقتصادية، وانتقاداته لماركس الذي يأخذ منه أمثلة وأفكاراً من جهة، ونسب له مقولات وقوانين لا وجود لها عنده. بيد أن هذه الأمور سترد في الحواشي أكثر مما في سياق النص""(136).

    وفي هذا المجال بالذات لم يحدِّد عبد الجبار لا مصادره الاقتصادية بشكل عام، ولا في ما يتصل بانتقادات ماركس، وما ذكر أنه سيرد في الحواشي أكثر مما يرد في سياق النص لم يرد إلاّ في حاشيتين، ولم نعثر على أكثر من ذلك، وهما ـ مع ذلك ـ موضع تساؤل أيضاً.

    فقد كتب في الحاشية الأولى: "" يقول آية الله الصدر إن ماركس يريد تحرير وسيلة الإنتاج من علاقات التوزيع، ويقول في موضع آخر إن ماركس يريد تحرير القوى المنتجة ووسائل الإنتاج من علاقات التوزيع، بينما لا يوجد نص كهذا في طول مؤلفات ماركس وعرضها. فهو يتحدث عن تحطيم علاقات الإنتاج لا التوزيع التي تقيد القوى المنتجة التي تتألف من وسائل الإنتاج + قوة العمل""(137).

    وكتب عبد الجبار ـ أيضاً ـ في الحاشية ذاتها: "" ويقول أيضاً في كتاب خطوط تفصيلية .. إن ماركس اعتبر علاقات التوزيع بناء علوياً حتمياً لعلاقات الإنتاج. هل سمع أحد من قبل أن ماركس يرى علاقات الإنتاج قاعدة وعلاقات التوزيع بنية فوقية؟ إن علاقات الإنتاج تتضمن (1) علاقات الملكية (2) أشكال التداول (3) شكل التوزيع؟ هذه العناصر الثلاث تؤلف علاقات الإنتاج. وعلاقات الإنتاج زائداً القوى المنتجة تؤلف بمجموعها البنية التحتية الاقتصادية للمجتمع، ولا يقول لنا الفقه من أين استمد هذا التعريف وغيره من عشرات التحديدات والمفاهيم غير المستندة إلى مصدر""(138).

    وبالرجوع إلى المصدر الذي نقل عنه فالح عبد الجبار، وهو حسب إحالته كتاب التركيب العقائدي للدولة الإسلامية(*)، لا نعثر على نصٍ ينسبه الشهيد الصدر إلى ماركس بل نجد التالي:

    "" ومن هنا واجهت المادية التاريخية مشكلة فيما يتصل بتصوراتها عن مسار التطور البشري وفقاً لقوانين الديالكتيك. وهي أن الهدف اللاواعي الذي تفترضه الماركسية لحركة التاريخ ومسيرة الإنسان هو إزالة العوائق الاجتماعية عن نمو القوى المنتجة ووسائل الإنتاج، وذلك بالقضاء على الملكية الخاصة وإقامة المجتمع الشيوعي فإذا كان هذا هو هدف المسيرة فهذا يعني أنها ستتوقف، وأن التطوير سيتجمد في اللحظة التي يقوم فيها المجتمع الشيوعي""(139).

    والنص ـ كما يبدو ـ عبارة عن تلخيص شديد لما تفترضه الماركسية، ولم ينسبه الشهيد الصدر إلى ماركس، وما ذكره عبد الجبار عن الشهيد الصدر بقوله: "" إن تحرير وسيلة الإنتاج من علاقات التوزيع المعيقة.. "" فهو نص استنتاجي ورد على هامش ما تفترضه الماركسية من الترابط بين شكل الإنتاج وشكل التوزيع ووفقاً لقانونٍ صارم، يؤول في النهاية إلى المرحلة الشيوعية.

    وبالرجوع إلى المصدر الذي أحال إليه عبد الجبار يتضح حال الفقرة الثانية، إذ لم ينسب الشهيد الصدر هذه الفقرة إلى ماركس، وقد مارس عبد الجبار تحويراً عليها للإيحاء ـ بشكل وآخر ـ للقارئ بعدم دقة الشهيد الصدر في إحالته على كتاب ماركس. والنص ـ كما ورد ـ هو التالي: "" وقد ذهبت الماركسية خطأ إلى ربط أشكال التوزيع بأشكال الإنتاج، واعتبرت علاقات التوزيع بناءً علوياً حتمياً لعلاقات الإنتاج، فكل علاقة إنتاج ينشأ منها بالضرورة علاقة توزيع معينة، وهي العلاقة تنسجم مع الشكل السائد للإنتاج..""(140).

    والفقرة المشار إليها تلخيص شديد للمقولة الماركسية، والتي تعدُّ من مسلّمات الفكر الماركسي، ولم يتحدث الشهيد الصدر عن البنية الفوقية للمجتمع، ليقال له، كما يقول عبد الجبار، إن علاقات الإنتاج بما تتضمنه مع القوى المنتجة تؤلف البنية التحتية الاقتصادية والمجتمع، لأنه ليس في هذا الصدد، بل هو بصدد العلاقات بين أشكال الإنتاج وعلاقات التوزيع، على نحو تكون فيه علاقات التوزيع تبعاً لأشكال الإنتاج ونمطه.

    ولعلَّ حرفية عبد الجبار في فهمه للفكر الماركسي هو الذي دعاه لتسجيل مثل هذه الملاحظة، لأن اعتبار علاقات التوزيع بناءً علوياً ليس غريباً عن الفكر الماركسي، لأن البناء الفوقي هو عبارة عمّا يولد من القاعدة وما يرتبط بها وبشكل لا ينفصل عنها، وهنا يعتبر شكل الإنتاج القاعدة التي يرتفع فوقه علاقة التوزيع، وذلك لارتباطها بالقاعدة وتأثرها بها.

    أما الحاشية الثانية فقد وردت في خصوص شرح الشهيد الصدر لعملية التبادل، وقد لاحظ عبد الجبار أنه مما استقاه الشهيد الصدر من ماركس من دون إشارة إلى المصدر(141).

    وملاحظة من هذا القبيل لا تحتاج إلى تعليق، فعلاوة على ما أشرنا إليه من عدم دقة عبد الجبار في ملاحظاته، فإنَّ الشهيد الصدر وهو بصدد كتابة هذه الرسائل الجوابية ـ كما نوّهنا إليه ـ لم يكن في وارد مناقشة الفكر الماركسي في تفصيلاته على المستوى الاقتصادي ، بل لم يكن في وارد التفصيل على مستوى الاقتصاد الإسلامي أيضاً، ولذلك خلت هذه الرسائل الجوابية من الإحالات والإشارة إلى المصادر ـ وهو أمر طبيعي ومنطقي في كتابةٍ من هذا القبيل.

    ثانياً: ويتعلق بمدى استيعاب الشهيد الصدر للمقولات والمفاهيم الاقتصادية، فقد سجّل عبد الجبار على الشهيد في موضعين من كتابه ما يوحي به أن الشهيد الصدر لم يكن موفقاً في إدراك هذه المفاهيم واستيعابها.

    الموضع الأول: كتب عبد الجبار: "".. النقد عند السيد الصدر، كما عند الجميع تقريباً، هو إما ورق اعتباطي سجلت عليه الدولة قيمة تداولية إلزامية، أو هو المعدن الثمين الذي اختير للتداول لمجرد أنه معدن ثمين بطبيعته. أنه لا يدرك منشأ النقد، ويستغرب ببراءة كاملة، استخدامه لغير أغراض التداول. إنه لا يدرك أن النقد سلعة شأن سائر السلع الأخرى، وإن قيمة النقد (السلعة النقدية = الذهب) تتحدد بزمن العمل الاجتماعي الضروري لإنتاجها، وإن النقد الورقي رمز يعبر عن النقد الحقيقي، وإن النقد ليس فقط وسيطاً للتداول، بل له وظائف أخرى، أبرزها كونه التجسيد الشامل للقيمة..""(142).

    في هذا المجال يعمد عبد الجبار إلى التبسط وهو يوحي للقارئ بأنه يسجّل على الشهيد الصدر ملاحظة أساسية تتصل بعالم المقولات الاقتصادية ومدى استيعابه لها، في الوقت الذي نجد فيه بحثاً واسعاً بين الاقتصاديين أنفسهم في ماهية النقود ونشأتها، وحول مصدر قيمة النقود وحقيقته، وتبعاً لذلك اختلفوا في وظائف النقد ودوره في الحياة الاقتصادية، "" ويمكن القول بصفة عامة أن هناك نظريتين رئيسيتين تقتسمان الفكر الاقتصادي في هذا الموضوع، وإن تفرَّعت كل منهما إلى عدة شعب، واختلف الرأي بين أنصار كل منهما في كثير من الشؤون، فهناك النظرية السلعية للنقود.. ويرى أنصار هذه النظرية أن النقود سلعة مثل غيرها من السلع أهّلها للارتقاء إلى مرتبة النقود تواتر استعمالها كوسيط للمبادلة لصفات خاصة تتميز بها فتجعلها أوفر السلع صلاحية لهذا الاستعمال، ومن ثم كانت للنقود قيمة مستمدة مما لها من منفعة كسلعة شأنها في ذلك شأن سواها من السلع، كما تدخلت في تحديد هذه القيمة العوامل نفسها التي تتدخل في تحديد قيم سائر السلع. وهناك النظرية الرمزية للنقود.. ويرى أنصارها بصفة عامة أن النقود ليست سوى بطاقة أو تذكرة تخوّل حاملها حقاً على رصيد الجماعة من السلع والخدمات. ومن ثم كانت للنقود قيمة نسبية تتمثل في قوتها الشرائية على سائر السلع والخدمات، وتدخلت في تحديد هذه القيمة عوامل خاصة تنفرد في التطبيق على قيمة النقود. وتعرف النظرية الأولى للنقود بأنها وسيط المبادلة، على حين تنظر النظرية الثانية للنقود كوحدة مجردة..""(143).

    هذا مضافاً إلى أنَّ السيد الشهيد ليس في وارد شرح دور النقد ووظائفه أو نشوئه، وإنما هو بصدد بيان الموقف الإسلامي النظري من ظاهرة تنمية المال بالربا أو بالادخار. ولذلك فهو يرصد حركة المال ودور النظرية الرأسمالية ورؤيتها لدور النقد(144)، وهذا نظير الموقف النظري الاشتراكي، الذي ينظر إلى دور النقد على نحو يختلف فيه مع وجهة النظر الرأسمالية، إلى درجة روّج معها بعض المفكرين الاشتراكيين إثر الثورة الروسية عام 1917 عدة خطط قصد بها الاستغناء عن الأثمان وعن التعامل بالنقود(145).

    ولا يفوتنا أن نسجّل على عبد الجبار تنكُّره لأصول وقواعد النقد العلمي، إن كان في ما يكتبه نقد! في إطار حملة من التزوير والتحريف، قُصد منها الإساءة إلى الشهيد الصدر، وإلاّ فأين استغرب الشهيد الصدر، وببراءة كاملة على حدِّ تعبيره ـ استخدام النقد لغير أغراض التداول؟!

    الموضع الثاني: في موقف الشهيد الصدر من مقولة العرض والطلب، إذ كتب عبد الجبار: "" يقول السيد الصدر مثلاً "" إن الإنتاج في الاقتصاد الإسلامي لا يتحرك وفقاً لمؤشرات الطلب في التسوق.. بل هو يتحرك.. لتوفير المواد الحيوية اللازمة لكل فرد مهما كانت ظروف السوق "" وينتقد"" المجتمع الرأسمالي الذي يتحرك.. وفقاً للطلب والقدرة الشرائية للطالبين. هذا نموذج من الحلول المطروحة. إن النص يحفل بالتناقضات، ويشي بعدم المعرفة، لا بالطلب ولا بالعرض. فلو كان الإنتاج الرأسمالي مثلاً يتحرك وفقاً للطلب، كما يقول الفقه لما شهد فيض إنتاج قط، ولما اضطر الرأسماليون في أزمات معروفة، إلى حرق وإتلاف كميات هائلة من شتى المنتوجات لتقليص كميتها، أي لخفض العرض بصورة إضطرارية كي يصبح موازياً أو مقارباً للطلب. وتؤكد هذه الحقيقة وقائع الركود والكساد اللذين يتناوبان على الاقتصاد الرأسمالي كالوباء. إن القدرة الإنتاجية التي تقرر العرض والمقدرة الشرائية التي تقرر الطلب أمران مختلفان تماماً، إذ بينما تنمو الطاقات الإنتاجية بمتوالية هندسية تتسع الأسواق في أحسن الحالات بمتوالية حسابية. أما كيف يتحرك الإنتاج الإسلامي لتوفير المواد لكل فرد دون أي اعتبار للطلب، ودون أي اعتبار للمقدرة الشرائية، وكيف يمكن إنتاج حاجة ما لا طلب عليها، وكيف يمكن إنتاج حاجة لا ندري إن كان لدى طالبها قدرة على شرائها أم لا، فتلك مسائل تظل في طي الغيب، لغزاً معمى، وما أكثر الألغاز!""(146).

    وبغض النظر عن طبيعة هذه التناقضات، فإنَّ من المهم تحقيق ما إذا كان الشهيد الصدر مدركاً لمقولة العرض والطلب أو لا؟ وهي الملاحظة الأساسية التي سجّلها عبد الجبار، والتي تولدت عنها تساؤلات أخرى، لم يقف عبد الجبار على أجوبتها لدخولها في طي الغيب أو عالم الألغاز! كما يقول عبد الجبار!!
    ولسوء حظ عبد الجبار سينكشف هذا اللغز المعمّى، وترتفع الحجب عن عالم الغيب هذا الذي حُجب عن عبد الجبار!! وسيُصاب القارئ بالغثيان وهو يقف على منجزات الكاتب عبد الجبار، ودوره في تحريف عبارات الشهيد الصدر وتمزيقها، وعرضها للقارئ كأشلاء متناثرة، لتكون طيِّعة لنقده، وتسهل عملية دحضها كمقولات إسلامية، لا تستحق الاحترام..

    هنا مارس عبد الجبار التقطيع المتعمَّد لعبارة الشهيد الصدر، فحذف منها ما لا يروق له وما يحزنه رؤيته منها. وعبارة الشهيد الصدر، كما هي في المصدر الذي نقل عنه عبد الجبار كالتالي: "" إن الإنتاج في الاقتصاد الإسلامي لا يتحرك وفقاً لمؤشرات الطلب في السوق فحسب كما هي الحالة في المجتمع الرأسمالي، بل هو يتحرك قبل كل شيء ـ إيجاباً ـ لتوفير المواد الحيوية اللازمة لكل فرد مهما كانت ظروف الطلب في السوق، ويعتبر ذلك في المجتمع الإسلامي فريضة يمارسها أفراده كما يمارسون واجباتهم الشرعية وعباداتهم التي يتقربون بها إلى الله تعالى. ويتحرك الإنتاج في الاقتصاد الإسلامي ـ سلباً ـ لشجب كل قطاعات الإنتاج التي تخصص لتوفير سلع الترف والبذخ التي يتعاطاها المترفون والمسرفون. وهكذا يبنى الإنتاج في المجتمع الإسلامي على أن يوفر للأفراد حياة تتوفر فيها كل مقومات المعيشة الصالحة وتنعدم منها كل مظاهر البذخ والاستهتار خلافاً للمجتمع الرأسمالي تماماً الذي يتحرك فيه الإنتاج وفقاً للطلب والقدرة الشرائية للطالبين، فيؤدي ذلك إلى إتجاه الإنتاج نحو توفير سلع الترف وأدوات التسلية وفنون التجميل، لأن طلبها يعتمد على القدرة الشرائية للأغنياء المترفين ـ وتقاعس الإنتاج وانكماشه عن توفير السلع الحيوية بالقدر الكافي.""(147).

    والنص الذي نقلناه عن الشهيد الصدر، ومن مصدره مباشرة، ودونما تعديل من كاتبنا عبد الجبار، لا ينفي دور الطلب والعرض في عملية الإنتاج، ولذلك جاءت عبارته دقيقة إلى حد كبير، ولكن شاء عبد الجبار أن يحذف منها كلمة (فحسب) فبدت مع مجموعة من الأسئلة التي أثارها عبد الجبار تشي بعدم إدراك العرض أو الطلب كما يقول عبد الجبار.

    والسيد الشهيد بصدد شرح الموقف الإسلامي لعملية الإنتاج ونظرته إلى هذه العملية، وهي بالتأكيد تختلف اختلافاً جذرياً عن الفهم الرأسمالي. ولذلك ميَّز السيد الشهيد بين الطلب الحقيقي والطلب الصوري الذي يعبِّر عن حالة نقدية أكثر مما يعبّر عن حاجة المستهلك، وهذا ما أكدَّه عبد الجبار، وهو يتحدث عن إتلاف المنتوجات وإحراقها، وذلك لخفض العرض بصورة اضطرارية.

    وعليه فإنَّ ما يذكره الشهيد الصدر عبارة عن الموقف النظري للاقتصاد الإسلامي تجاه عملية الإنتاج ومحاولة توجيهها وترشيدها على نحو يحقق الحياة الكريمة للإنسانية بعيداً عن القيم المادية، وليس بصدد نفي تأثير العرض أو الطلب على عملية الإنتاج.

    على أنَّ هناك إشكالاً منهجياً يرد على عبد الجبار لأنه لا يعي الوظيفة التي يؤديها البحث الاقتصادي في (اقتصادنا) و (الإسلام يقود الحياة)، لأن الشهيد الصدر وهو يقدِّم هذه التصورات افترض أنها بصدد تغييّر الواقع لا تفسيره مما ترك إلى علم الاقتصاد نفسه، الذي يرصد المقولات التي يمكن أن تظهر في ضوء السياسات الاقتصادية القائمة على رؤية اقتصادية ما(148).

    وبما تقدم يتبدد تساؤل عبد الجبار، وهو يتساءل ببراءة كاملة ـ على حد تعبيره ـ عن كيفية تحرك الإنتاج الإسلامي لتوفير المواد لكل فرد دون أي اعتبار للطلب.. وذلك لأنّ مثل هذا التساؤل افتراض نشأ من سوء فهم على أقل تقدير، إن لم يكن نشأ بداعي التحريف، وهو يقص بمقصه عبارات الشهيد الصدر ويقطع أوصالها بساطوره النقدي!!.

    ثالثاً: وفي مدى قدرة الشهيد الصدر على بناء اقتصادٍ نظري إسلامي قادر على النهوض بالمجتمع بعيداً عن النظم الاقتصادية السائدة، سجّل عبد الجبار على الشهيد الصدر أنه يحاكي النظام الرأسمالي بلغةٍ سريّةٍ يؤطرها بإطار إسلامي، وهذا ما نستنتجه من ملاحظتين سجّلهما عبد الجبار.

    الأولى: إذ سجّل فيها عبد الجبار على الشهيد الصدر أنه يتبنى في بحث ملكية الثروة الطبيعية رأياً أقرب ما يكون إلى الرأسمالية، وذلك بعناوين فقهية من قبيل الحيازة، الإحياء، حق الأولوية، ثم إنه يكشف عبد الجبار تناقضاً في هذا الصدد فيكتب: "" يتبنى السيد الصدر رأيين متناقضين بهذا الصدد.. يقول في كتابه صورة عن اقتصاد المجتمع الإسلامي.. إن الإسلام يسمح بالملكية الخاصة لرقبة المال في مصادر الثروة الطبيعية. أما في كتابه الآخر فيقول العكس. لا يؤذن إسلامياً بنشوء ملكية خاصة لرقبة المال.. بل إن رقبة المال تظل ملكاً للدولة..""(149).

    وبغض النظر عن مدى صحة صدق الطابع الرأسمالي على الاقتصاد الإسلامي فإننا يمكن أن نشير إلى أن هذا التناقض المزعوم لا واقع له. وما كان للكاتب عبد الجبار أن يقع في مثل هذا الاستنتاج لولا قراءته المستعجلة أو نيته السيئة، وهو ما يكفي للتدليل على ثقافته المتواضعة في حقل ثقافي لم يتعرف عليه ولم يوفَّق لقراءته بشكل يؤهله تسجيل ملاحظاته التي يسميها نقدية!!

    ما ذكره عن التناقض كان وليد خطأ مطبعي ورَّطه في استنتاجٍ من هذا القبيل، والصحيح في الفقرة الأولى "" لا يسمح الإسلام بالملكية الخاصة لرقبة المال في مصادر الثروة الطبيعية""(150)، وقد ورد في سياق حديث الشهيد الصدر عن المؤشرات العامة للتشريع الإسلامي.

    وما ورد في الفقرة الثالثة من الكتاب نفسه الذي أشار إليه عبد الجبار يؤكد سقوط (لا) من الفقرة الأولى، إذ ورد فيها: "" إذا تلاشى العمل المنفق في مصدر طبيعي وعاد إلى حالته الأولى كان من حق أي فرد آخر غير العامل الأول أن يستثمر المصدر من جديد ويوظفه توظيفاً صالحاً""(151)، وكذلك ما ورد في الفقرة الرابعة، إذ ورد فيها: "" العمل المنفق في إحياء مصدر طبيعي كالأرض أو في استثماره لا ينقل ملكيته من القطاع العام إلى القطاع الخاص، وإنما يؤكد للعامل حتى الأولوية فيما أحياه على أساس العمل""(152). وجميع هذه الفقرات تؤكد حقيقة واحدة هي عدم إمكانية تملك رقبة المال على نحو يجعلها ملكية خاصة.

    ولو كان عبد الجبار يدرك المضامين الفكرية لهذه المؤشرات/الفقرات التي وردت في هذا الكتاب وفي سياق الفقرة الأولى التي نقلها لاكتشف أن التناقض بين الفقرة الأولى - مع افتراض سقوط (لا) - وبين الفقرة الثالثة والرابعة التي لا يفصلها فاصل عن الفقرة الأولى، وسيكون في غنى عن الإشارة إلى التناقض بينها وبين ما ورد في الكتاب الثاني.

    على أنَّ ما في (اقتصادنا) من شرح تفصيلي كفيل بتوضيح ما بصدده الشهيد الصدر، وهو تأكيد عدم تملك الثروات الطبيعية ملكية خاصة(153).

    وأما ما ذكره من غلبة الطابع الرأسمالي على المقولات الاقتصادية الإسلامية تحت عناوين فقهية من قبيل: الأحياء، حق الأولوية.. فإنه إن دلّ على شيء فهو يدل على المنهج الالتقاطي والانتقائي في قراءة عبد الجبار، إذ لم يكلف نفسه الإطلاع على المقولات الفقهية هذه التي وجد فيها الطريق الموصلة إلى الرأسمالية بعناوين فقهية، لأنَّ لهذه العناوين الفقهية شرائط لا تؤدي إلى الرأسمالية وهو ما أشار إليه الشهيد الصدر وبوضوح أيضاً(154).

    الثانية: وقد سجّل فيها عبد الجبار على الشهيد الصدر أنه وإن كان قد نظَّر إلى كون العمل أساس الكسب وذلك بغية استئصال الكسب بدون عمل، إلاّ أنه نظَّر في الوقت نفسه إلى طريقة يتم وفقاً لها سرقة قوة العمل تحت عنوان آخر، وذلك بما أسماه أجرة أدوات العمل التي يدفعها الرأسمالي إلى العامل، وذلك تحت ستار العمل المتراكم والمختزن، إذ كتب عبد الجبار: "".. فتحت ستار العمل المتراكم الذي يعمل بالنيابة عن الرأسمالي، ينشأ لهذا الأخير (حق) في (مكسب) في أجرة، دون تحديد لمقدار هذه الأجرة، إنَّ الأجرة هي الاسم السري الذي يعطيه الاقتصاد الإسلامي لفائض القيمة الرأسمالي، وبالطبع فإنَّ العلاقة الرأسمالية، لا يهمها بشيء أن يتغير الاسم، بل ستكون سعيدة في أن تجدد رداءها، ودفتر نفوسها!""(155).

    وبغض النظر عن الفوارق النظرية الأساسية بين النظرية الإسلامية وما بين النظام الرأسمالي، وكذلك الاشتراكي والشيوعي، وهو ما تكفل بشرحه السيد الشهيد في كتابه (اقتصادنا)، فإنه يمكن أن نشير إلى ما وُفِّق له عبد الجبار ـ أيما توفيق ـ وهو يفترض إفتراضات ينسبها إلى الشهيد الصدر ثم يُصدّقها، بل ويحاول إقناع غيره بتصديقها، وهي لا تتجاوز مخيلته العظيمة المفعمة بالحيوية! لأنَّ ما تساءل عنه عبد الجبار، وتحديداً في مقدار الأجرة هذه، والتي اعتبرها الاسم السري لفائض القيمة الرأسمالي، يجيب عنه الشهيد الصدر بمنتهى الوضوح، وفي الصفحات نفسها التي نقل عنها عبد الجبار بعض الفقرات عن كتاب الشهيد الصدر.

    فقد كتب الشهيد الصدر: "" بأن العامل إذا كان قد استخدم أدوات ووسائل يملكها الآخرون فلهم عليه أجرة المثل لقاء ما تفتت من عملهم المختزن..""(156) و"" أما أدوات الإنتاج ووسائله التي تتدخل في عملية الإنتاج الثانوي.. لا نصيب لها من السلعة المنتجة.. فلها عليه الأجر المناسب.. وإذا كانت أجور رؤوس المال العينية من أدوات ووسائل وغيرها مرتفعة جداً في المجتمعات الرأسمالية فهذه نتيجة للندرة الطبيعية التي يخلقها الاحتكار الرأسمالي.. ولابد للدولة الإسلامية.. أن تتجه إلى إلغاء هذه الندرة كعامل لتحديد أجرة تلك الأدوات والوسائل.. وفي هذا المجال يجب على الدولة أن تتدخل لمقاومة هذا الاحتكار وتحديد الأسعار بصورة لا يتدخل فيها الاحتكار..""(157).

    وكأن الشهيد الصدر يستشرف المستقبل، إذ سيأتي قوم من الكتَّاب تثقل عليهم القراءة المتواصلة، فكتب ملخِّصاً ذلك بقاعدة أعطاها رقماً بارزاً جاء فيها: "" تحدد أجور أدوات الإنتاج وأجور العمل من قبل الدولة مع الاتجاه إلى إلغاء الندرة المصطنعة التي يخلقها الاحتكار""(158).


    يتبع /





  13. #13
    تاريخ التسجيل
    Feb 2003
    المشاركات
    29,593

    افتراضي

    ومهما يكن من أمر، فإنّ ما سطره فالح عبد الجبار في كتابه المشار إليه ينتمي إلى هذا الاتجاه، وفيه يندرج، ولذلك لم ينتظر منه موقف الإنصاف أو الحوار الموضوعي، والنقد العلمي، وإن حاولت بعض أقلامهم ذلك، ومنهم هادي العلوي نفسه ـ أحياناً ـ وفالح عبد الجبار أيضاً، في محاولةٍ منه للظهور بمظهر النقد العلمي والموضوعي.

    ولذلك سجّل في مطلع نقده! انطباعات تبجيلية تجاه الشهيد الصدر وفكره الاقتصادي تحديداً، إذ كتب: "" يشكل آية الله محمد باقر الصدر، نموذجاً متزناً في الفكر الاقتصادي الإسلامي، فهو يسجل أفكاره وانتقاداته واستنتاجاته في صيغة مفاهيم ومقولات، ويعرضها في إطار نظري واحد. وبالرغم مما قد يراه المرء من نواقص، فإنَّ آية الله الصدر مُلمٌّ بالمفاهيم الاقتصادية بصورة من الصور، ويُعتبر بنظر مقلديه أفضل ممثل للفكر الاقتصادي الإسلامي، والواقع أنه الأكثر إطلاعاً والأوسع نظرة من بين أقرانه.""(134).

    والنص وإن لم يَخلُ من لغةٍ يطغى عليها طابع الامتعاض ومحاولة الانتقاص من الشهيد الصدر ـ على الخلفية التاريخية والسياسية التي أشرنا إليها ـ إلاّ أنه لم يشأ تجاوز حقيقته وإن بدت مرة.

    وقبل الخوض في دراسة ما أسماه فالح عبد الجبار بنقد فقه الصدر الاقتصادي يحسن أن أشير إلى طبيعة قراءته لفكر الصدر الاقتصادي ـ حسب تعبيره ـ ومدى استيعابه لهذا الفكر.

    وفي هذا الصدد كتب فالح عبد الجبار: "" تركزت مناقشة الأعمال الاقتصادية للسيد الصدر على ملخصاته الاقتصادية الأخيرة التي وضعت في 10 ربيع الثاني 1399ه‍ في سلسلة كراريس بعنوان: (الإسلام يقود الحياة)، (2) صورة عن اقتصاد المجتمع الإسلامي، و (3) خطوط تفصيلية في اقتصاد المجتمع الإسلامي. وغني عن البيان أن هذين الكراسين أحدث عهداً من كتاب (اقتصادنا) الذي صدر قبل قرابة عقدين من صدور هذين. ويحتوي الكراسان في الجوهر، على عرض مباشر للأفكار الواردة في (اقتصادنا)، ولكن ليس بنفس السعة بالطبع. فكتاب اقتصادنا مجلد ضخم يبلغ في طبعته السادسة عشر لعام 1982م 783 صفحة. وقد تكرست أول 292 صفحة منه لنقد الماركسية والرأسمالية، من منطلق المساواة بين الاثنين في الجوهر، وإلغائهما معاً عبر طريق ثالث يعترف بالملكية الخاصة في جانب، ويعترف بالملكية العامة في جانب. بعد ذلك يدرس الكتاب ما يسميه (اقتصادنا في معالمه الرئيسية)، أي ماهية الاقتصاد الإسلامي وحلوله التي تقتصر على مشكلات التوزيع. وهذا التوزيع ينقسم بصورة أوضح مما في الكراسين المذكورين أعلاه، إلى توزيع (المصدر الأصيل للإنتاج) ص 436، وتوزيع ما بعد الإنتاج أي المنتوجات (ص530ـ 554). إن الكتاب ينطوي في جانبه الأول (نقد الماركسية والرأسمالية) على تفصيلات مسهبة تتطلب نقداً تفصيلياً بالمثل، أما الجانب الثاني منه، فلا يختلف عما أوردناه هنا، من خطوط عامة. وبوسعنا القول إن الملاحظات النقدية المدرجة في الفصل الاقتصادي بخصوص اطروحات السيد الصدر، تنطبق على الموضوعات الأساسية الواردة في كتاب اقتصادنا، وإن نقد هذا الأخير مباشرة لن يغير شيئاً سوى حجم مادة النقد لا موضوعه، أي جانبه الكمي لا النوعي""(135).

    هكذا يستريح عبد الجبار ويُريح، فهو لم يتعرض بالنقد للمقولات الفكرية الاقتصادية كما هي في اقتصادنا وبشكل مباشر، بل اعتبرها كما هي معروضة في ما أسماه بالكرَّاسين الأحدث تاريخاً، فينسحب عليها ما يرد من ملاحظات نقدية على ما ورد في الكراسين.

    ويُرى ـ هنا مدى التبسيط الذي تشتمل عليه عبارات عبد الجبار، وهو يقتصر على قراءة نصوص مختصرة كتبها الشهيد الصدر كرسالةٍ جوابية على رسالة بعثها إليه عدد من العلماء، ولذلك خلت من الإحالات والمراجع، أو التفصيل في نقد الاقتصاد الرأسمالي أو الماركسي، بل التفصيل في الاقتصاد الإسلامي نفسه.

    وأنا شخصياً أشك في إطلاع كاتبنا عبد الجبار على (اقتصادنا) أو قراءته قراءة فاحصة، وسيأتي ما يدل على ذلك. بل أجده يغفل عنوان ما أسماه بالكراسين أيضاً، لأن عنوان (الإسلام يقود الحياة) هو العنوان الرئيسي الذي وضع لمجموع الموضوعات (الرسائل الجوابية) التي عالجها الشهيد الصدر. ومنها ثلاثة تتصل بالاقتصاد الإسلامي: (صورة عن اقتصاد المجتمع الإسلامي) و(خطوط تفصيلية عن اقتصاد المجتمع الإسلامي) و(الأسس العامة للبنك في المجتمع الإسلامي).
    وقراءة مجتزأة ـ من هذا القبيل ـ لا ينتظر منها أن تنجح، وسيكون نصيبها الفشل لا محالة، وأقل ما يقال عنها إنها منقوصة..

    وربما يكون من المفيد تشخيص أهم الملاحظات النقدية! التي سجّلها عبد الجبار على الشهيد الصدر، وهي بغض النظر عن التعليقات والتفسيرات المادية التي لا تلزم سوى عبد الجبار نفسه، فإنه يمكن تحديدها بالتالي:

    أولاً: في ما أسماه بمصادر معرفة الصدر الاقتصادية، كتب عبد الجبار: ""بوسعنا إضافة حقل رابع يتعلق بمصادر معرفته الاقتصادية، وانتقاداته لماركس الذي يأخذ منه أمثلة وأفكاراً من جهة، ونسب له مقولات وقوانين لا وجود لها عنده. بيد أن هذه الأمور سترد في الحواشي أكثر مما في سياق النص""(136).

    وفي هذا المجال بالذات لم يحدِّد عبد الجبار لا مصادره الاقتصادية بشكل عام، ولا في ما يتصل بانتقادات ماركس، وما ذكر أنه سيرد في الحواشي أكثر مما يرد في سياق النص لم يرد إلاّ في حاشيتين، ولم نعثر على أكثر من ذلك، وهما ـ مع ذلك ـ موضع تساؤل أيضاً.

    فقد كتب في الحاشية الأولى: "" يقول آية الله الصدر إن ماركس يريد تحرير وسيلة الإنتاج من علاقات التوزيع، ويقول في موضع آخر إن ماركس يريد تحرير القوى المنتجة ووسائل الإنتاج من علاقات التوزيع، بينما لا يوجد نص كهذا في طول مؤلفات ماركس وعرضها. فهو يتحدث عن تحطيم علاقات الإنتاج لا التوزيع التي تقيد القوى المنتجة التي تتألف من وسائل الإنتاج + قوة العمل""(137).

    وكتب عبد الجبار ـ أيضاً ـ في الحاشية ذاتها: "" ويقول أيضاً في كتاب خطوط تفصيلية .. إن ماركس اعتبر علاقات التوزيع بناء علوياً حتمياً لعلاقات الإنتاج. هل سمع أحد من قبل أن ماركس يرى علاقات الإنتاج قاعدة وعلاقات التوزيع بنية فوقية؟ إن علاقات الإنتاج تتضمن (1) علاقات الملكية (2) أشكال التداول (3) شكل التوزيع؟ هذه العناصر الثلاث تؤلف علاقات الإنتاج. وعلاقات الإنتاج زائداً القوى المنتجة تؤلف بمجموعها البنية التحتية الاقتصادية للمجتمع، ولا يقول لنا الفقه من أين استمد هذا التعريف وغيره من عشرات التحديدات والمفاهيم غير المستندة إلى مصدر""(138).

    وبالرجوع إلى المصدر الذي نقل عنه فالح عبد الجبار، وهو حسب إحالته كتاب التركيب العقائدي للدولة الإسلامية(*)، لا نعثر على نصٍ ينسبه الشهيد الصدر إلى ماركس بل نجد التالي:

    "" ومن هنا واجهت المادية التاريخية مشكلة فيما يتصل بتصوراتها عن مسار التطور البشري وفقاً لقوانين الديالكتيك. وهي أن الهدف اللاواعي الذي تفترضه الماركسية لحركة التاريخ ومسيرة الإنسان هو إزالة العوائق الاجتماعية عن نمو القوى المنتجة ووسائل الإنتاج، وذلك بالقضاء على الملكية الخاصة وإقامة المجتمع الشيوعي فإذا كان هذا هو هدف المسيرة فهذا يعني أنها ستتوقف، وأن التطوير سيتجمد في اللحظة التي يقوم فيها المجتمع الشيوعي""(139).

    والنص ـ كما يبدو ـ عبارة عن تلخيص شديد لما تفترضه الماركسية، ولم ينسبه الشهيد الصدر إلى ماركس، وما ذكره عبد الجبار عن الشهيد الصدر بقوله: "" إن تحرير وسيلة الإنتاج من علاقات التوزيع المعيقة.. "" فهو نص استنتاجي ورد على هامش ما تفترضه الماركسية من الترابط بين شكل الإنتاج وشكل التوزيع ووفقاً لقانونٍ صارم، يؤول في النهاية إلى المرحلة الشيوعية.

    وبالرجوع إلى المصدر الذي أحال إليه عبد الجبار يتضح حال الفقرة الثانية، إذ لم ينسب الشهيد الصدر هذه الفقرة إلى ماركس، وقد مارس عبد الجبار تحويراً عليها للإيحاء ـ بشكل وآخر ـ للقارئ بعدم دقة الشهيد الصدر في إحالته على كتاب ماركس. والنص ـ كما ورد ـ هو التالي: "" وقد ذهبت الماركسية خطأ إلى ربط أشكال التوزيع بأشكال الإنتاج، واعتبرت علاقات التوزيع بناءً علوياً حتمياً لعلاقات الإنتاج، فكل علاقة إنتاج ينشأ منها بالضرورة علاقة توزيع معينة، وهي العلاقة تنسجم مع الشكل السائد للإنتاج..""(140).

    والفقرة المشار إليها تلخيص شديد للمقولة الماركسية، والتي تعدُّ من مسلّمات الفكر الماركسي، ولم يتحدث الشهيد الصدر عن البنية الفوقية للمجتمع، ليقال له، كما يقول عبد الجبار، إن علاقات الإنتاج بما تتضمنه مع القوى المنتجة تؤلف البنية التحتية الاقتصادية والمجتمع، لأنه ليس في هذا الصدد، بل هو بصدد العلاقات بين أشكال الإنتاج وعلاقات التوزيع، على نحو تكون فيه علاقات التوزيع تبعاً لأشكال الإنتاج ونمطه.

    ولعلَّ حرفية عبد الجبار في فهمه للفكر الماركسي هو الذي دعاه لتسجيل مثل هذه الملاحظة، لأن اعتبار علاقات التوزيع بناءً علوياً ليس غريباً عن الفكر الماركسي، لأن البناء الفوقي هو عبارة عمّا يولد من القاعدة وما يرتبط بها وبشكل لا ينفصل عنها، وهنا يعتبر شكل الإنتاج القاعدة التي يرتفع فوقه علاقة التوزيع، وذلك لارتباطها بالقاعدة وتأثرها بها.

    أما الحاشية الثانية فقد وردت في خصوص شرح الشهيد الصدر لعملية التبادل، وقد لاحظ عبد الجبار أنه مما استقاه الشهيد الصدر من ماركس من دون إشارة إلى المصدر(141).

    وملاحظة من هذا القبيل لا تحتاج إلى تعليق، فعلاوة على ما أشرنا إليه من عدم دقة عبد الجبار في ملاحظاته، فإنَّ الشهيد الصدر وهو بصدد كتابة هذه الرسائل الجوابية ـ كما نوّهنا إليه ـ لم يكن في وارد مناقشة الفكر الماركسي في تفصيلاته على المستوى الاقتصادي ، بل لم يكن في وارد التفصيل على مستوى الاقتصاد الإسلامي أيضاً، ولذلك خلت هذه الرسائل الجوابية من الإحالات والإشارة إلى المصادر ـ وهو أمر طبيعي ومنطقي في كتابةٍ من هذا القبيل.

    ثانياً: ويتعلق بمدى استيعاب الشهيد الصدر للمقولات والمفاهيم الاقتصادية، فقد سجّل عبد الجبار على الشهيد في موضعين من كتابه ما يوحي به أن الشهيد الصدر لم يكن موفقاً في إدراك هذه المفاهيم واستيعابها.

    الموضع الأول: كتب عبد الجبار: "".. النقد عند السيد الصدر، كما عند الجميع تقريباً، هو إما ورق اعتباطي سجلت عليه الدولة قيمة تداولية إلزامية، أو هو المعدن الثمين الذي اختير للتداول لمجرد أنه معدن ثمين بطبيعته. أنه لا يدرك منشأ النقد، ويستغرب ببراءة كاملة، استخدامه لغير أغراض التداول. إنه لا يدرك أن النقد سلعة شأن سائر السلع الأخرى، وإن قيمة النقد (السلعة النقدية = الذهب) تتحدد بزمن العمل الاجتماعي الضروري لإنتاجها، وإن النقد الورقي رمز يعبر عن النقد الحقيقي، وإن النقد ليس فقط وسيطاً للتداول، بل له وظائف أخرى، أبرزها كونه التجسيد الشامل للقيمة..""(142).

    في هذا المجال يعمد عبد الجبار إلى التبسط وهو يوحي للقارئ بأنه يسجّل على الشهيد الصدر ملاحظة أساسية تتصل بعالم المقولات الاقتصادية ومدى استيعابه لها، في الوقت الذي نجد فيه بحثاً واسعاً بين الاقتصاديين أنفسهم في ماهية النقود ونشأتها، وحول مصدر قيمة النقود وحقيقته، وتبعاً لذلك اختلفوا في وظائف النقد ودوره في الحياة الاقتصادية، "" ويمكن القول بصفة عامة أن هناك نظريتين رئيسيتين تقتسمان الفكر الاقتصادي في هذا الموضوع، وإن تفرَّعت كل منهما إلى عدة شعب، واختلف الرأي بين أنصار كل منهما في كثير من الشؤون، فهناك النظرية السلعية للنقود.. ويرى أنصار هذه النظرية أن النقود سلعة مثل غيرها من السلع أهّلها للارتقاء إلى مرتبة النقود تواتر استعمالها كوسيط للمبادلة لصفات خاصة تتميز بها فتجعلها أوفر السلع صلاحية لهذا الاستعمال، ومن ثم كانت للنقود قيمة مستمدة مما لها من منفعة كسلعة شأنها في ذلك شأن سواها من السلع، كما تدخلت في تحديد هذه القيمة العوامل نفسها التي تتدخل في تحديد قيم سائر السلع. وهناك النظرية الرمزية للنقود.. ويرى أنصارها بصفة عامة أن النقود ليست سوى بطاقة أو تذكرة تخوّل حاملها حقاً على رصيد الجماعة من السلع والخدمات. ومن ثم كانت للنقود قيمة نسبية تتمثل في قوتها الشرائية على سائر السلع والخدمات، وتدخلت في تحديد هذه القيمة عوامل خاصة تنفرد في التطبيق على قيمة النقود. وتعرف النظرية الأولى للنقود بأنها وسيط المبادلة، على حين تنظر النظرية الثانية للنقود كوحدة مجردة..""(143).

    هذا مضافاً إلى أنَّ السيد الشهيد ليس في وارد شرح دور النقد ووظائفه أو نشوئه، وإنما هو بصدد بيان الموقف الإسلامي النظري من ظاهرة تنمية المال بالربا أو بالادخار. ولذلك فهو يرصد حركة المال ودور النظرية الرأسمالية ورؤيتها لدور النقد(144)، وهذا نظير الموقف النظري الاشتراكي، الذي ينظر إلى دور النقد على نحو يختلف فيه مع وجهة النظر الرأسمالية، إلى درجة روّج معها بعض المفكرين الاشتراكيين إثر الثورة الروسية عام 1917 عدة خطط قصد بها الاستغناء عن الأثمان وعن التعامل بالنقود(145).

    ولا يفوتنا أن نسجّل على عبد الجبار تنكُّره لأصول وقواعد النقد العلمي، إن كان في ما يكتبه نقد! في إطار حملة من التزوير والتحريف، قُصد منها الإساءة إلى الشهيد الصدر، وإلاّ فأين استغرب الشهيد الصدر، وببراءة كاملة على حدِّ تعبيره ـ استخدام النقد لغير أغراض التداول؟!

    الموضع الثاني: في موقف الشهيد الصدر من مقولة العرض والطلب، إذ كتب عبد الجبار: "" يقول السيد الصدر مثلاً "" إن الإنتاج في الاقتصاد الإسلامي لا يتحرك وفقاً لمؤشرات الطلب في التسوق.. بل هو يتحرك.. لتوفير المواد الحيوية اللازمة لكل فرد مهما كانت ظروف السوق "" وينتقد"" المجتمع الرأسمالي الذي يتحرك.. وفقاً للطلب والقدرة الشرائية للطالبين. هذا نموذج من الحلول المطروحة. إن النص يحفل بالتناقضات، ويشي بعدم المعرفة، لا بالطلب ولا بالعرض. فلو كان الإنتاج الرأسمالي مثلاً يتحرك وفقاً للطلب، كما يقول الفقه لما شهد فيض إنتاج قط، ولما اضطر الرأسماليون في أزمات معروفة، إلى حرق وإتلاف كميات هائلة من شتى المنتوجات لتقليص كميتها، أي لخفض العرض بصورة إضطرارية كي يصبح موازياً أو مقارباً للطلب. وتؤكد هذه الحقيقة وقائع الركود والكساد اللذين يتناوبان على الاقتصاد الرأسمالي كالوباء. إن القدرة الإنتاجية التي تقرر العرض والمقدرة الشرائية التي تقرر الطلب أمران مختلفان تماماً، إذ بينما تنمو الطاقات الإنتاجية بمتوالية هندسية تتسع الأسواق في أحسن الحالات بمتوالية حسابية. أما كيف يتحرك الإنتاج الإسلامي لتوفير المواد لكل فرد دون أي اعتبار للطلب، ودون أي اعتبار للمقدرة الشرائية، وكيف يمكن إنتاج حاجة ما لا طلب عليها، وكيف يمكن إنتاج حاجة لا ندري إن كان لدى طالبها قدرة على شرائها أم لا، فتلك مسائل تظل في طي الغيب، لغزاً معمى، وما أكثر الألغاز!""(146).

    وبغض النظر عن طبيعة هذه التناقضات، فإنَّ من المهم تحقيق ما إذا كان الشهيد الصدر مدركاً لمقولة العرض والطلب أو لا؟ وهي الملاحظة الأساسية التي سجّلها عبد الجبار، والتي تولدت عنها تساؤلات أخرى، لم يقف عبد الجبار على أجوبتها لدخولها في طي الغيب أو عالم الألغاز! كما يقول عبد الجبار!!
    ولسوء حظ عبد الجبار سينكشف هذا اللغز المعمّى، وترتفع الحجب عن عالم الغيب هذا الذي حُجب عن عبد الجبار!! وسيُصاب القارئ بالغثيان وهو يقف على منجزات الكاتب عبد الجبار، ودوره في تحريف عبارات الشهيد الصدر وتمزيقها، وعرضها للقارئ كأشلاء متناثرة، لتكون طيِّعة لنقده، وتسهل عملية دحضها كمقولات إسلامية، لا تستحق الاحترام..

    هنا مارس عبد الجبار التقطيع المتعمَّد لعبارة الشهيد الصدر، فحذف منها ما لا يروق له وما يحزنه رؤيته منها. وعبارة الشهيد الصدر، كما هي في المصدر الذي نقل عنه عبد الجبار كالتالي: "" إن الإنتاج في الاقتصاد الإسلامي لا يتحرك وفقاً لمؤشرات الطلب في السوق فحسب كما هي الحالة في المجتمع الرأسمالي، بل هو يتحرك قبل كل شيء ـ إيجاباً ـ لتوفير المواد الحيوية اللازمة لكل فرد مهما كانت ظروف الطلب في السوق، ويعتبر ذلك في المجتمع الإسلامي فريضة يمارسها أفراده كما يمارسون واجباتهم الشرعية وعباداتهم التي يتقربون بها إلى الله تعالى. ويتحرك الإنتاج في الاقتصاد الإسلامي ـ سلباً ـ لشجب كل قطاعات الإنتاج التي تخصص لتوفير سلع الترف والبذخ التي يتعاطاها المترفون والمسرفون. وهكذا يبنى الإنتاج في المجتمع الإسلامي على أن يوفر للأفراد حياة تتوفر فيها كل مقومات المعيشة الصالحة وتنعدم منها كل مظاهر البذخ والاستهتار خلافاً للمجتمع الرأسمالي تماماً الذي يتحرك فيه الإنتاج وفقاً للطلب والقدرة الشرائية للطالبين، فيؤدي ذلك إلى إتجاه الإنتاج نحو توفير سلع الترف وأدوات التسلية وفنون التجميل، لأن طلبها يعتمد على القدرة الشرائية للأغنياء المترفين ـ وتقاعس الإنتاج وانكماشه عن توفير السلع الحيوية بالقدر الكافي.""(147).

    والنص الذي نقلناه عن الشهيد الصدر، ومن مصدره مباشرة، ودونما تعديل من كاتبنا عبد الجبار، لا ينفي دور الطلب والعرض في عملية الإنتاج، ولذلك جاءت عبارته دقيقة إلى حد كبير، ولكن شاء عبد الجبار أن يحذف منها كلمة (فحسب) فبدت مع مجموعة من الأسئلة التي أثارها عبد الجبار تشي بعدم إدراك العرض أو الطلب كما يقول عبد الجبار.

    والسيد الشهيد بصدد شرح الموقف الإسلامي لعملية الإنتاج ونظرته إلى هذه العملية، وهي بالتأكيد تختلف اختلافاً جذرياً عن الفهم الرأسمالي. ولذلك ميَّز السيد الشهيد بين الطلب الحقيقي والطلب الصوري الذي يعبِّر عن حالة نقدية أكثر مما يعبّر عن حاجة المستهلك، وهذا ما أكدَّه عبد الجبار، وهو يتحدث عن إتلاف المنتوجات وإحراقها، وذلك لخفض العرض بصورة اضطرارية.

    وعليه فإنَّ ما يذكره الشهيد الصدر عبارة عن الموقف النظري للاقتصاد الإسلامي تجاه عملية الإنتاج ومحاولة توجيهها وترشيدها على نحو يحقق الحياة الكريمة للإنسانية بعيداً عن القيم المادية، وليس بصدد نفي تأثير العرض أو الطلب على عملية الإنتاج.

    على أنَّ هناك إشكالاً منهجياً يرد على عبد الجبار لأنه لا يعي الوظيفة التي يؤديها البحث الاقتصادي في (اقتصادنا) و (الإسلام يقود الحياة)، لأن الشهيد الصدر وهو يقدِّم هذه التصورات افترض أنها بصدد تغييّر الواقع لا تفسيره مما ترك إلى علم الاقتصاد نفسه، الذي يرصد المقولات التي يمكن أن تظهر في ضوء السياسات الاقتصادية القائمة على رؤية اقتصادية ما(148).

    وبما تقدم يتبدد تساؤل عبد الجبار، وهو يتساءل ببراءة كاملة ـ على حد تعبيره ـ عن كيفية تحرك الإنتاج الإسلامي لتوفير المواد لكل فرد دون أي اعتبار للطلب.. وذلك لأنّ مثل هذا التساؤل افتراض نشأ من سوء فهم على أقل تقدير، إن لم يكن نشأ بداعي التحريف، وهو يقص بمقصه عبارات الشهيد الصدر ويقطع أوصالها بساطوره النقدي!!.

    ثالثاً: وفي مدى قدرة الشهيد الصدر على بناء اقتصادٍ نظري إسلامي قادر على النهوض بالمجتمع بعيداً عن النظم الاقتصادية السائدة، سجّل عبد الجبار على الشهيد الصدر أنه يحاكي النظام الرأسمالي بلغةٍ سريّةٍ يؤطرها بإطار إسلامي، وهذا ما نستنتجه من ملاحظتين سجّلهما عبد الجبار.

    الأولى: إذ سجّل فيها عبد الجبار على الشهيد الصدر أنه يتبنى في بحث ملكية الثروة الطبيعية رأياً أقرب ما يكون إلى الرأسمالية، وذلك بعناوين فقهية من قبيل الحيازة، الإحياء، حق الأولوية، ثم إنه يكشف عبد الجبار تناقضاً في هذا الصدد فيكتب: "" يتبنى السيد الصدر رأيين متناقضين بهذا الصدد.. يقول في كتابه صورة عن اقتصاد المجتمع الإسلامي.. إن الإسلام يسمح بالملكية الخاصة لرقبة المال في مصادر الثروة الطبيعية. أما في كتابه الآخر فيقول العكس. لا يؤذن إسلامياً بنشوء ملكية خاصة لرقبة المال.. بل إن رقبة المال تظل ملكاً للدولة..""(149).

    وبغض النظر عن مدى صحة صدق الطابع الرأسمالي على الاقتصاد الإسلامي فإننا يمكن أن نشير إلى أن هذا التناقض المزعوم لا واقع له. وما كان للكاتب عبد الجبار أن يقع في مثل هذا الاستنتاج لولا قراءته المستعجلة أو نيته السيئة، وهو ما يكفي للتدليل على ثقافته المتواضعة في حقل ثقافي لم يتعرف عليه ولم يوفَّق لقراءته بشكل يؤهله تسجيل ملاحظاته التي يسميها نقدية!!

    ما ذكره عن التناقض كان وليد خطأ مطبعي ورَّطه في استنتاجٍ من هذا القبيل، والصحيح في الفقرة الأولى "" لا يسمح الإسلام بالملكية الخاصة لرقبة المال في مصادر الثروة الطبيعية""(150)، وقد ورد في سياق حديث الشهيد الصدر عن المؤشرات العامة للتشريع الإسلامي.

    وما ورد في الفقرة الثالثة من الكتاب نفسه الذي أشار إليه عبد الجبار يؤكد سقوط (لا) من الفقرة الأولى، إذ ورد فيها: "" إذا تلاشى العمل المنفق في مصدر طبيعي وعاد إلى حالته الأولى كان من حق أي فرد آخر غير العامل الأول أن يستثمر المصدر من جديد ويوظفه توظيفاً صالحاً""(151)، وكذلك ما ورد في الفقرة الرابعة، إذ ورد فيها: "" العمل المنفق في إحياء مصدر طبيعي كالأرض أو في استثماره لا ينقل ملكيته من القطاع العام إلى القطاع الخاص، وإنما يؤكد للعامل حتى الأولوية فيما أحياه على أساس العمل""(152). وجميع هذه الفقرات تؤكد حقيقة واحدة هي عدم إمكانية تملك رقبة المال على نحو يجعلها ملكية خاصة.

    ولو كان عبد الجبار يدرك المضامين الفكرية لهذه المؤشرات/الفقرات التي وردت في هذا الكتاب وفي سياق الفقرة الأولى التي نقلها لاكتشف أن التناقض بين الفقرة الأولى - مع افتراض سقوط (لا) - وبين الفقرة الثالثة والرابعة التي لا يفصلها فاصل عن الفقرة الأولى، وسيكون في غنى عن الإشارة إلى التناقض بينها وبين ما ورد في الكتاب الثاني.

    على أنَّ ما في (اقتصادنا) من شرح تفصيلي كفيل بتوضيح ما بصدده الشهيد الصدر، وهو تأكيد عدم تملك الثروات الطبيعية ملكية خاصة(153).

    وأما ما ذكره من غلبة الطابع الرأسمالي على المقولات الاقتصادية الإسلامية تحت عناوين فقهية من قبيل: الأحياء، حق الأولوية.. فإنه إن دلّ على شيء فهو يدل على المنهج الالتقاطي والانتقائي في قراءة عبد الجبار، إذ لم يكلف نفسه الإطلاع على المقولات الفقهية هذه التي وجد فيها الطريق الموصلة إلى الرأسمالية بعناوين فقهية، لأنَّ لهذه العناوين الفقهية شرائط لا تؤدي إلى الرأسمالية وهو ما أشار إليه الشهيد الصدر وبوضوح أيضاً(154).

    الثانية: وقد سجّل فيها عبد الجبار على الشهيد الصدر أنه وإن كان قد نظَّر إلى كون العمل أساس الكسب وذلك بغية استئصال الكسب بدون عمل، إلاّ أنه نظَّر في الوقت نفسه إلى طريقة يتم وفقاً لها سرقة قوة العمل تحت عنوان آخر، وذلك بما أسماه أجرة أدوات العمل التي يدفعها الرأسمالي إلى العامل، وذلك تحت ستار العمل المتراكم والمختزن، إذ كتب عبد الجبار: "".. فتحت ستار العمل المتراكم الذي يعمل بالنيابة عن الرأسمالي، ينشأ لهذا الأخير (حق) في (مكسب) في أجرة، دون تحديد لمقدار هذه الأجرة، إنَّ الأجرة هي الاسم السري الذي يعطيه الاقتصاد الإسلامي لفائض القيمة الرأسمالي، وبالطبع فإنَّ العلاقة الرأسمالية، لا يهمها بشيء أن يتغير الاسم، بل ستكون سعيدة في أن تجدد رداءها، ودفتر نفوسها!""(155).

    وبغض النظر عن الفوارق النظرية الأساسية بين النظرية الإسلامية وما بين النظام الرأسمالي، وكذلك الاشتراكي والشيوعي، وهو ما تكفل بشرحه السيد الشهيد في كتابه (اقتصادنا)، فإنه يمكن أن نشير إلى ما وُفِّق له عبد الجبار ـ أيما توفيق ـ وهو يفترض إفتراضات ينسبها إلى الشهيد الصدر ثم يُصدّقها، بل ويحاول إقناع غيره بتصديقها، وهي لا تتجاوز مخيلته العظيمة المفعمة بالحيوية! لأنَّ ما تساءل عنه عبد الجبار، وتحديداً في مقدار الأجرة هذه، والتي اعتبرها الاسم السري لفائض القيمة الرأسمالي، يجيب عنه الشهيد الصدر بمنتهى الوضوح، وفي الصفحات نفسها التي نقل عنها عبد الجبار بعض الفقرات عن كتاب الشهيد الصدر.

    فقد كتب الشهيد الصدر: "" بأن العامل إذا كان قد استخدم أدوات ووسائل يملكها الآخرون فلهم عليه أجرة المثل لقاء ما تفتت من عملهم المختزن..""(156) و"" أما أدوات الإنتاج ووسائله التي تتدخل في عملية الإنتاج الثانوي.. لا نصيب لها من السلعة المنتجة.. فلها عليه الأجر المناسب.. وإذا كانت أجور رؤوس المال العينية من أدوات ووسائل وغيرها مرتفعة جداً في المجتمعات الرأسمالية فهذه نتيجة للندرة الطبيعية التي يخلقها الاحتكار الرأسمالي.. ولابد للدولة الإسلامية.. أن تتجه إلى إلغاء هذه الندرة كعامل لتحديد أجرة تلك الأدوات والوسائل.. وفي هذا المجال يجب على الدولة أن تتدخل لمقاومة هذا الاحتكار وتحديد الأسعار بصورة لا يتدخل فيها الاحتكار..""(157).

    وكأن الشهيد الصدر يستشرف المستقبل، إذ سيأتي قوم من الكتَّاب تثقل عليهم القراءة المتواصلة، فكتب ملخِّصاً ذلك بقاعدة أعطاها رقماً بارزاً جاء فيها: "" تحدد أجور أدوات الإنتاج وأجور العمل من قبل الدولة مع الاتجاه إلى إلغاء الندرة المصطنعة التي يخلقها الاحتكار""(158).


    يتبع /





  14. #14
    تاريخ التسجيل
    Jul 2009
    المشاركات
    46

    افتراضي

    ماذ هذا التعتيم اينما اعلق تمسحون الموقع كله علقت على الصلاة الاولى ومسحتموها وعلقت على ضلمة الصدر ( محمد سعيد الحكيم ) ومسحتم كل هذا الموقع لماذا هذا التكتيم الاعلامي لاني قلت الحقيقة التي انا كنت حاظرا فيها وشاهدا عليها لماذا اذا انتم متدينون فحرام عليكم لا ابرئكم الذمة وانتم مسؤولون امام الله اتقو الله الى متى يبقى السيد محمد محمد الصدر مظلوم حتى وهو في قبره الى متى اتقو الله

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •  
 
شبكة المحسن عليه السلام لخدمات التصميم   شبكة حنة الحسين عليه السلام للانتاج الفني