[align=justify]د. مراد الصوادقي

حلم كل عربي أن يشتري شيئا مكتوبا عليه مصنوع في العراق أو مصر أو سوريا أو الأردن وغيرها من الدول العربية. حلم بعيد وعزيز لأنه مفقود وهو يدعو للفخر والشعور بالقيمة والهيبة والتفاعل الخلاق مع العصر. كالشعور الذي يتملك الصيني عندما يجد معظم البضائع, وأينما ذهب في العالم, مكتوبا عليها مصنوعة في الصين فلا يشتري إلا ما صنع في بلاده, وكذلك الكوري وغيرهم من أبناء البلدان التي تسيدت وتفاخرت بأن ما يباع في أسواق الدنيا من صناعتها
وقد ذكر لي أحد الأصحاب أنه كان مع طالب من هذه البلدان وأراد أن يشتري بعض لوازم الدراسة فذهب معه إلى السوق ووجده لا يشتري إلا ما مصنوع في بلاده. وكأنه يدعم ذلك ويفخر بصناعة بلاده, وعندما سأله لماذا لا يشتري ما مصنوع في بلد آخر أجابه لماذا يشتري شيئا مصنوعا في بلد آخر وبلده أفضل صنعا منه. ومضى صاحبي يقول أنهم قد تربوا في المدرسة ومنذ الطفولة على أن صناعة بلادهم هي الأفضل ومن الواجب الوطني شراء المصنوعات الوطنية. والعرب جميعا يغصون بهذا الفقدان الحضاري القاسي وهيهات هيهات أن تجد شيئا مصنوعا في بلداننا عدا بعض المنسوجات هنا أو هناك وبنوعيات لا تضاهي المنسوجات الصينية. وفي هذا المأزق الحضاري الذي نحن فيه تدلهم الأيام وتتفاقم المشاكل والأزمات وتحترق العقول وتضيع الأفكار, ويبقى الشعب في حالة من العناء الدامي. وكلما تأملت الصين وقرأت تأريخها أقف مندهشا أمام عظمة إنجازها وقوة ثورتها, التي قامت بها في بداية الخمسينيات من القرن المنصرم, والتي كانت في حينه بلدا أكثر تأخرا من أي بلد عربي. بل أن العراق كان أكثر تقدما منها ولديه العديد من البنى التحتية اللازمة لتحقيق المشاريع الصناعية والزراعية وغيرها من الأهداف المعاصرة. وقد قامت ثورة الصين وحققت إنجازات مذهلة في ظرف عقود قليلة جدا. وفي العراق قامت ثورات تلو ثورات وما أنجزت شيئا وما تواصلت مع أي هدف أو شعار رفعته, حتى ليتساءل المرء لماذا قامت الثورات في العراق وما هي مبرراتها, لأن الأيام كشفت بطلانها ولا جدواها. وعندما نقارن ثوراتنا العربية بالثورة الصينية التي تواصلت إنجازاتها إلى الوقت الحاضر وتسيدت على قدرات الاقتصاد الأرضي, نشعر بالخجل والدهشة وتنطلق آلاف الأسئلة في رؤوسنا.(فما الذين جعل الصين دولة صناعية وزراعية عظمى؟ وما الذي جعل الدول العربية دولا لا صناعية ولا زراعية؟) من حقنا أن نتساءل وأن نقف بشجاعة وقوة أمام هذا المصير الذي صنعناه لأجيالنا ونحن ندعي الثورات والتغيرات على مدى مائة عام مضت من أعمار أوطاننا. وما قدما سوى الأحزان والويلات والحروب والصراعات والتفاعلات السلبية مع بعضنا البعض. وقد تجاهلنا كل شيء وتناسينا العوامل والأسباب ورحنا نعلق دواعي عجزنا على شماعة هو الذي رأى, وهو الذي أراد, وكأننا لا نرى ولا نريد. مائة عام مضت ونحن نتمنى أن نشتري شيئا مكتوبا عليه made in Iraq وما تحققت هذه الأمنية, بل حملتها الأجيال معها إلى قبورها المشحونة بالطموحات المؤودة والأحلام المقبورة في رمال حياتها وتراب أحزانها وأنينها وقهرها الفياض.مائة عام مضت والعربي يحلم أن يشتري شيئا مصنوعا في بلده ويراه في دول العالم التي يزورها , لكي يتذوق طعم الفخر والعزة والقوة ويؤكد دوره ومعاصرته وقدرته على الابتكار والإبداع الإنساني النافع. فلماذا عجزنا عن فعل ما فعله غيرنا؟ لا يوجد فرق بين عقولنا وعقولهم, ولكن يوجد فرق كبير جدا بيننا وبينهم في مناهج التفكير وأساليب الاقتراب من الموضوعات والتحديات, فعقولنا مرهونة بسطوة الماضي ومأسورة بزنزانة كان يا ما كان في قديم الزمان, ولم نحقق التحرر من هذا الأسر المأساوي الذي ألقى بنا أجيالا تلو أجيال في وديان الهلاك الحضاري, ومزقنا كأمة وكشعب وكملة واحدة وحولنا إلى عصف مأكول تتناهبه رياح المعاصرة الهابة من كل الجهات, وتكتسحه اكتساحا قاسيا وبلا رأفة أو رحمة. ولازلنا إلى اليوم نعيش في حالة اجترار مأساوي ونتقاتل فيما بيننا على موضوعات لا ناقة لنا فيها ولا جمل , ونجتهد في خلق مشاكل ما بين الأموات, ونسعى بما أوتينا من طاقات من أجل استحضار ما عفت عليه الأزمان إلى واقع وجودنا لنستهلك حياتنا فيه.وما دام منهاج تفكيرنا خارج متطلبات العصر فأننا لن نحلم مثل باقي الشعوب ولن نفعل مثلها, بل سننطوي ونأكل أنفسنا ونعتاش على بعضنا البعض كالأسماك في مستنقع الضياع. فشعوب العالم الأخرى عندما تقرأ ما نكتبه , تصاب بالدهشة والحيرة لأن اقترابنا لا ينتمي إلى العصر وأفكارنا بعيدة عن زماننا ومأسورة في حفرة قد حفرت قبل أكثر من ألف عام, ولا زالت أجيالنا تتساقط فيها باندفاع فائق ولذيذ. فهل سنستيقظ من رقدة الضلال والبهتان؟ وهل سنشتري شيئا مصنوعا في بلادنا؟!
[/align]