النتائج 1 إلى 2 من 2
  1. #1
    تاريخ التسجيل
    Feb 2003
    المشاركات
    29,595

    |طبيعة المجتمع العراقي بين الصدر والوردي..سرديات كبرى..سرديات مصغرة|..صادق الصقر..




    طبيعة المجتمع العراقي بين الصدر والوردي
    سرديات كبرى.. سرديات مصغرة
    صادق ناصر الصكر


    ان العراقي، سامحه الله، اكثر من غيره هياماً بالمثل العليا ودعوة اليها في خطاباته وكتاباته ولكنه، في نفس الوقت، من اكثر الناس انحرافاً عن هذه المثل في واقع حياته..انه اقل الناس تمسكا بالدين وأكثرهم انغماساً في النزاع بين المذاهب الدينية. فتراه ملحداً من ناحية وطائفياً من ناحية اخرى“..

    في وقت ما، كانت هذه العبارات المنسوبة للدكتور علي الوردي، بالنسبة لنا نحن الشغوفين بالايديولوجيات وتصوراتها الكبرى عن العالم، لا تعدو كونها نوعاً من الاختزال والتسطيح لمشاكل من الدرجة الثانية لا يفترض بأي كان ان يتحدث عن رؤيتها بدون استخدام المنظار الايديولوجي حتى اننا لم نكلف انفسنا عناء الاصغاء المعرفي لسرديات الوردي المصغرة عن المجتمع العراقي وكنا نردد، حتى مع انفسنا لكي لا ننسى الوصايا الايديولوجية او نرتكب خطيئة خيانة تلك الوصايا المقدسة، ان الوردي ليس اكثر من بوق براغماتي مريب يخطط للايقاع بالهوية الوطنية والا ما معنى ان يكتب:”ان الشعب العراقي منشق على نفسه وفيه من الصراع القبلي والطائفي والقومي الكثير“!!، وكنا نعتقد ان مدونات الوردي، السرديات المصغرة لعلم اجتماعه العتيد، والتي تشرح”التطبيقات الصغيرة والاحداث المحلية لا المفاهيم الكونية او العالمية الواسعة“ سوف لن تنجو من الموت على يدي الفلسفة التي علمنا الاساتذة، نقلاً عن اتيان جيلسون، انها تفلح دوما في دفن حفاري قبورها.

    اما الان، وبعد ان تفتحت عيوننا على ما يمتلكه المجتمع العراقي من ثروة فاحشة من التناقضات والمفارقات وبعد ان تكبدنا الكثير من الخسارات ونحن نقف، كما يجب ان يقف التلميذ المجتهد والخجول والمطيع، لمراقبة الاساتذة وهم يقومون باعادة انتاج ما كان فردريك نيتشة قد اعتبره خطأ سقراط المميت، أي الحكم على الحياة بالفكرة فقط، فقد آن الاوان للكتابة عن الطرق التي قد نموت بها، بلغة مايكل كننجهام، وذلك عبر المقارنة-حسب معلمة الاسترشاد الخاصة بهذا المقال-بين سرديات الوردي المصغرة عن طبيعة المجتمع العراقي وبين الرؤية الايديولوجية المكثفة لدى المفكر العراقي الكبير محمد باقر الصدر عن ذلك المجتمع.

    وقبل الشروع بتشكيل ملامح السلطة الابلاغية لما نريد ان نقول، فأنه لابد من الاشارة الى النقطتين التاليتين: الاولى، هي ان القضية، برمتها، لا تتمحور حول الاقتناع النهائي بالصوابية المطلقة لرؤية الوردي للأمور، بل هي تتعلق بحاجة الثقافة العراقية لتكريس المقصديات الابستمولوجية لمشروع الوردي واشتغالاته الحفرية في الكشف والابانة عن هذا الذي ندعوه مجتمعاً عراقياً، اما النقطة الثانية، ومن اجل توضيح التباس القصد، فأننا لا نرى ان الايديولوجيا تمثل، بالضرورة، وعياً زائفاً او انها ليست اكثر من واحدة من الاساطير المؤسسة، كما يعبر عن ذلك ليوتار بالنيابة عن المجموعة الباريسية من الما بعد حداثيين، ولككنا نعتقد انها ستكون كذلك، وستمهد الطريق امام ما هو اسوأ من ذلك، اذا ما استحضرت-في تفسيرها للأشياء- متخيلها عن الواقع بدلاً من الواقع نفسه او اذا ما كانت مدونات ادمغتها الكبرى هي الدليل الوحداني، الاطلاقي والوثوقي، في تعرفها على الحياة لأنها-حينذاك- ستكون كما يريدها التوسير: قد تتحدث عن اشياء موجودة بالفعل، ولكنها لا تجعل المعرفة ممكنة.

    لم يكتب الصدر شيئا محددا عن المجتمع العراقي لسبب بسيط، وتلك هي المعضلة، هو انه كتب عن كل المجتمعات بلغة الايديولوجيا، ولذلك فأن القارئ المأزوم برصده لسخونة الوقائع الاجتماعية المتنوعة والمتكاثرة وعمق امتداد جذورها، الخارجة في الغالب عن طاعة اللوغوس، في المجتمع العراقي، سيشعر ان حديث الصدر، وهو يكتب عن عناصر المجتمع، حول (المحتوى الداخلي للانسان بوصفه لحركة التاريخ وان المثل الاعلى هو نقطة البدء في بناء المحتوى الداخلي للجماعات البشرية، وان هذا المثل الاعلى يرتبط في الحقيقة بوجهة نظر عامة الى الحياة والكون يتحدد من قبل كل جماعة بشرية على اساس وجهة نظرها العامة نحو الحياة والكون“، هو حديث فضفاض، سردي، يستعير من الايديولوجيا، كما يتمثلها الصدر، اوراق الدخول الى كل المجتمعات ولكنه سيكون عاجزاً عن الاستيطان في مجتمع محدد لأن ايديولوجيا الصدر الشمولية لا تعني-في ذاتها- واحدة من اخطاء الثقافة العراقية المعنية بالكشف عن مجتمعها ولكن المشكلة ان فضاءها السجالي، شبه الاحترابي والمتجه دوما نحو الخارج حيث الماركسية المناوئة والرأسمالية المتربصة والامبريالية، قد انساها انها وبسبب انشغالها بالكوني والعالمي، بشقيه المعاصر والماضوي، لا تمتلك ما تقوله عن المجتمع العراقي ولذلك فأنها عندما نطقت، بهذه الطريقة العابرة للتاريخ، لم يصدر عنها سوى نصوص وخطابات ايديولوجية تأخذ، شيئا فشيئا، شكل السرديات الكبرى ومسعاها، اللا واعي ربما، لاخفاء ما تدعوه ماري كليجز بالتناقضات وعوامل عدم الاستقرار المتأصلة في اي تنظيم او تطبيق اجتماعي.

    ان المجتمع العراقي يعيش، بسبب تكوينه المعقد، وضعا تطلق عليه كينيث جيرجين تسمية ”الاضطراب المتعدد“ وهو وضع تتنافس فيه الاصوات المختلفة لكينوناتنا المتشعبة الاجتماعية على جذب الانتباه وتقويض اية خطوة نتخذها نحو تشكيل الهوية العقائدية، ولذا فأن التكوين الطائفي والقومي للمجتمع العراقي وما يبثه ذلك التكوين من خطابات ووقائع وما يستعيده من احداث ومرموزات وما يقوم باعادة تشييده من متخيلات وحقائق، لن تجعل العقل العراقي او الشخصية العراقية، التي تحدث الوردي عن ازدواجيتها الاجتماعية، تستجيب بسهولة لأصوات الايديولوجيا التي تقفز، بسبب طغيان التفكير المزمن بالمملكة السماوية، على هموم الظروف المحلية، وتلك هي اللحظة الجهنمية في تحولها الى سرديات كبرى تتخيل الواقع ولا تحدق فيه وهي عادة ما تكون سرديات شبه منومة لا تحرك ساكناً ولا تبقى في الذاكرة مقارنة برشاقة وحيوية وحميمية السرديات المصغرة التي كان الوردي الرجل الاول، بأمتياز، في صناعتها داخل الثقافة العراقية.

    فاذا كان الوردي قد تحدث عن ازدواج الشخصية العراقية بالمعنى الاجتماعي”اي بوصفها ظاهرة اجتماعية وليست مرضا نفسياً“، فأنه قد كتب بوضوح ان تلك الظاهرة تحدث لدى كثير من الناس حيث يظهر لديهم صراع ثقافي يسميه بيج ومكايفر، الثنائية الثقافية، التي عادة ما تحدث عندما يتعرض الفرد، كما هو الحال في المجتمع العراقي، لمطاليب ثقافات اجتماعية متناقضة، لاسيما في مراحل نموه الاولى، وهو -نتيجة لذلك- قد لا يتمكن من تكوين شخصية متكاملة، وهو يحاول ان يوفق بين تلك المطاليب المتناقضة من دون جدوى، ولهذا-والكلام للوردي- فهو قد يصبح ذا شخصية مزدوجة، قليلاً او كثيرا.

    وقد اثبت الوردي بواسطة سردياته المصغرة، ودون ان ينطلق من قيمة او يتجه نحو قيمة، ان المجتمع العراقي، بشكل عام، يعاني من أسوأ اشكال الثنائية الثقافية كما ان الكثير من الوقائع والمنطوقات اللاحقة قد برهنت على عمق انغراز تلك الظاهرة في البنية الاجتماعية العراقية (يكفي ان نحدق بما يدور حولنا من اصغر حلقات الحياة الى اكبرها في المجتمع العراقي).. ويبدو، حسب موجهات المقايسة بين الصدر والوردي، ان الخطاب الايديولوجي الضبابي للصدر عن المشكلة الاجتماعية وعناصر المجتمع وهموم المحتوى الداخلي، بخطوطه العريضة وطموحاته الكونية، لن يستحمل الحديث المخيف عن الثنائية المتأصلة في الشخصية العراقية، بوصف تلك الثنائية وضعا انطولوجيا متجذرا حيث المحايثة والارضنة ولا علاقة لها بمشكلة النفاق كما يتحدث عنها القرآن الكريم، ولذلك فأن ذلك الخطاب سيحث الخطى داخل عوالمه الايديولوجية العمودية بدلاً من الاصغاء لمسرودات الوردي المصغرة من دون ان يفكر انه، حينذاك، سيكون قد استبدل المعطف الايديولوجي الثخين بالثياب الشفافة للسرديات الكبرى (ان خطاب الوردي لن يشعر بالحيف عندما نصفه بكونه سرديات صغرى، على العكس تماما، انه لا يريد دورا اكبر من ذلك لأنه يرى ان الحكايات الواقعية عن حياة الناس هي الاسلوب الوحيد لبناء علم اجتماع حديث قد تكون له الكلمة الفصل في المستقبل الثقافي الذاهب، بقوة، نحو فتوحات النقد الثقافي، اما الايديولوجيا، وتلك هي المفارقة في تحولها الى سرديات كبرى كما حدث مع الصدر وهو يتحدث عن مجتمعه الورقي، فأن تجاهلها لما يطلق عليها اورهان باموك القوى المتراكمة داخل التاريخ والتي تكونت بآليات قد تقع، بالكامل احيانا خارج المعقول والمتخيل الخاص بالخطاب الايديولوجي، سيحيلها-اي الايديولوجيا-الى واحدة من القصص الكبرى التي تشبه زهرة اللوتس في البهاغافادغيتا، التي تظل سوية، متعالية فوق المستنقع، على الرغم من التصاقها بالوحل). ان قضية الصدر ومجتمعه المجهول لا تخص الابستمي الذي ينتمي له الصدر فقط، بل هي محنة كل الخطابات الايديولوجية الكبرى المهيمنة، تاريخيا، على وسائل انتاج الثقافة العراقية لنصوصها، اذ من ينسى الحكاية الطريفة لليسار العراقي عن الجماعة البشرية التي لا وجود لها والتي اصطلح على تسميتها، حسب اشتراطات الاستيراد الثقافي، بالبروليتاريا العراقية!!، ثم ان الموضوع، بكليته، لا يعني الانزلاق مع الحركات البهلوانية لألاعيب وشعوذات ما بعد الحداثة، بل هي مجرد محاولة لاسترداد الوعي الاجتماعي اليقظ المدفون تحت ركام هائل من الخطابات التي اطلقها المنظرون خارج التاريخ الفعلي للبشر الواقعيين، التاريخ الحافل بالمفارقات والاقصاءات والتحولات والتنقلات التي يجب ان تمنح ما تستحقه من العقلنة الاجتماعية المايكروسكوبية قبيل ان تدمغ بختم الحلول السحرية، وهذا هو ما يدعوني الى القول بأن الوردي قد اكتشف الحلقة المفقودة في الثقافة العراقية المعاصرة.. كان الوردي، وهو المهموم بالهواجس المعرفية لما ندعوه الان بالنقد الثقافي، يراقب البث الايديولوجي، وكان يتساءل، وهو العارف بالمخفي والمسكوت عنه في الوعي الجمعي، هل يعقل ان اساتذة العقل المجرد في العراق لا يعلمون شيئا عن طبيعة المجتمع الداخل ضمن مخططاتهم الايديولوجية؟، وهل يعقل ان حرصهم الايديولوجي الشديد على التهرب من رؤية المشهد الموجع للتمفصل الجارح وغير المدروس بعناية بين ايديولوجيات عالمية وبين مجتمع محلي صعب المراس، احترابي شبه بدوي، وموغل في الاعتداد المرضي بكل ما هو فئوي ابتداء بالعرق مرورا بالعشيرة والطائفية وصولاً الى الحزب، هل يعقل ان ذلك الحرص كان وراء اقترافهم لواحدة من اكثر اخطاء الثقافة شهرة، وهي نسيان الحقيقة الاجتماعية التي عبر عنها داريوش شايغون بالقول”ان التعايش مع يأس مدجن اسهل من الاستمتاع بآمال غير اكيدة، تعد بقمم وجبال وعجائب“. وفي واحدة من كشوفاته الاجتماعية، التي يفترض ان تنبه الايديولوجيين الى ارتكاسات خطابهم الكلياني، كان الوردي قد كتب قائلاً:”ان الطائفية اصبحت من اخطر الادواء التي يشكو منها المجتمع العراقي، وربما صح القول انها اتخذت شكل العقدة المكبوتة في شخصية الفرد فيه. ومن طبيعة العقدة انها تزداد استفحالاً كلما استمرت كامنة في اعماق النفس وتوالى عليها الجدال المتحيز يوماً بعد يوم“، والوردي-كما يعلم الجميع- لم يكن مفكرا طائفيا وهو يعي جيداً البون الشاسع بين ان يكون المرء طائفيا وبين ان يتحدث، بوضوح، عن وجود مشكلة طائفية، بل كان-اي الوردي- باحثا اجتماعيا مرموقا تحدث عن عقدة تستلزم حلا واقعيا. فاذا افترضنا ان مهمة الوردي ستنتهي هنا، فان بوابات من الاوهام ستفتح امامنا مع قيام محرري الخطابات الايديولوجية بالالتفاف، وبصمت، على الوقائع التي كشفت عنها سرديات الوردي المصغرة.. فالصدر، مثلا، كان يبث خطابا ايديولوجيا نبوئيا وكأنه لا يستشعر ان السلطة، عبر مراحل تاريخية متعاقبة، كانت قد انتجت نظاما معرفيا وواقعا اجتماعيا استطاع، بمعونة تراث غاطس في المذهبية الشرسة، ان يستميل جماعة بشرية كبرى، هم اهل السنة في العراق، للعمل كخزان بشري جاهز لتمويل استراتيجية السلطة في الهيمنة. ان الوردي، وبلا انحيازات قيمية وبلا مواقف ايديولوجية دوغماتية ودون ان يثقل على قراءة بنثيث من الديماغوجيات، طالب بدفع هذه المشكلة الى الواجهة، بتحليلها ثقافيا بدلاً من التستر عليها او التنكر لها لأغراض تتعلق بأنسجام الخطاب الايديولوجي مع ذاته واستشعار منتجيه بما يمكن ان تسببه السرديات المصغرة من منغصات لذلك الخطاب (بسخرية مدبرة، اهدى الوردي كتابه الممتاز، دراسة في طبيعة المجتمع العراقي، الى اولئك الذين يشغفون بالافكار العالية فيحاولون تطبيقها مع مجتمعهم بغض النظر عن طبيعة المجتمع وظروفه).

    فاذا اتفقنا ان الطائفية هي واحدة من الانساق الثقافية الناشطة في تكوين شخصية الفرد العراقي، فان الالحاح على موضعة الخطاب الايديولوجي، كما حدث مع الصدر، داخل نسيج اجتماعي طائفي تمر كل الايديولوجيات، الوافدة او المحلية، عبر موشوره الذهبي، ودون التوقف طويلاً لدراسة طبيعة التعالق، الاجتماعي والسايكولوجي والتاريخي، بين التصورات الكبرى للايديولوجية وبين تدجينها الطائفي، سيدعونا الى القول ان سرديات مصغرة تشغل كشافات الضوء على مشكلة اجتماعية حقيقية تعمل حسب موجهات لن تنحني امام نبوءات الصدر الكبرى، هي افضل، منهجياً على الاقل، من مدونات ايديولوجية لا تعلم ان خطابها سيأخذ شكل السرديات المبتورة اذا لم تعمل على تعقل عمقها الاجتماعي حيث الطائفية وازدواج الشخصية وصراع البداوة والحضر وشعور الاقليات القومية بالقهر والاقصاء وما الى ذلك مما يحدث عادة على خشبات المسارح النائية، بلغة باموك. ان الصدر لم يفكر بكل ذلك، كان يفكر بالايديولوجية لوحدها دون ان يتأمل اولئك الذين اطلق خطابه بأتجاههم، فاذا كانت المحركات العالمية لفكر الصدر والنزوعات النبيلة لمفاهيمه النضالية والضرائب المعرفية المفروضة على الفلسفات السجالية عموما، وعلى فلسفة الصدر بشكل خاص، لم تسمح له بمعرفة طبيعة المجتمع العراقي، فاننا لن نقول، كما هي طريقة فوزي كريم في توصيفه للستينيين في الثقافة العراقية:”ان الكتب التي يحدقون بها، لم تترك لهم رغبة في معرفة الناس المحيطين بهم، والمنتمين اليهم، او رغبة في معرفة الحياة“، ولكننا سنكتفي بالقول ان الصدر المأخوذ بقداسة مرجعياته الايديولوجية كان قد نسي ان مرجعياته المقدسة كانت تتحدث، بلسان الصدر، عن مجتمع يعج بجماعات غير مقدسة وقد تجد صعوبة في الحياة تحت سقف المقدس واذا تمكنت من ذلك فأنها ستتعارك تحت ذلك السقف حول حصصها من هبات وعطايا المقدس، وبالتالي فأن السبيل الوحيد لأنعاش الحياة/ تقديسها هو في ممارسة اركيولوجية صارمة لتعقب المهيمنات الاساسية في تكوين رؤى الجماعات والطوائف والاثنيات المكونة للمجتمع العراقي، ومن ثم محاولة استدخال تلك الرؤى، حتى اكثرها اثارة لقلق الايديولوجية، في ابداع المفاهيم التي تنبض بالحياة بدلا من التعلق بالفراغ.. ان الوردي، على عكس الصدر تماماً، كان يعرف بحنكة الباحث الاجتماعي الذي ظل يجوب الطرق ويرتاد المقاهي ويستمع الى حكايات الازقة والشوارع المهجورة جنبا الى جنب مع استماعه لحكايات الكتب، ان كل الخطابات الايديولوجية او الافكار العالية بلغة الوردي، ستعود محملة بالخيبة اذا ما اصرت على ان تقول شيئا ما يتعلق بطبيعة المجتمع العراقي دون ان تكلف نفسها عناء الاصغاء لما يدعوه رورتي بالاوصاف الكثيفة والتي تعني”رسم صورة متعددة الطبقات لأحداث مفردة، وهي تقلل من اهمية النظريات الطموح التي تتناول قضايا عريضة، وتزيد بدلاً منها اهمية الملاحظات المتواضعة التي تصف واقعات صغيرة، وهي تشجع على الولوج الى مادة الحياة اليومية“.

    عندما كتب الوردي عن صراع البداوة والحضارة والصراع الثقافي وتكوين الشخصية في الريف ومظاهر التدين في العراق والوضع الاجتماعي في المدينة العراقية او حتى ازدواج الشخصية او التفسخ الخلقي في تلك المدن، فأنه كان يقدم اوصافه الكثيفة وسردياته المصغرة عن طبيعة المجتمع العراقي، كما هو وبدون مقصديات ايديولوجية كبرى لان الوردي كان يعي ان الكثير من المقولات الشمولية التي لا تؤمن بما تتحدث عنه السرديات الصغرى ستتعرف على مأزقها عندما يقوم الفلاسفة بأطلاق قذائفها الايديولوجية نحو المجتمع العراقي الذي كشف الوردي، على سبيل المثال لا الحصر عن ثنائية الثقافية ان الصدر في هذا الموضوع هو الوريث العراقي لتقاليد فلسفية تجد صعوبة كبيرة في تقبل الفكرة القائلة بانه توجد في المجتمع العراقي المعاصر الوان من الكثرة والتعدد والسيولة قد لا تقع بالضرورة في قبضة خطاب ايديولوجي معني... كان الصدر صادقا مع ذاته، وكان صادقا مع الايديولوجية -كما فهمها الصدر-والتي ائتمنه على افكارها وكان منتجا حاذقا لاعز المفاهيم على قلب الايديولوجيا ولكن الصدر المشغول منذ البواكير بمعارك الفلاسفة لم يكن يتحدث عن المجتمع واناسه الفعليين الا بلغة اليوتوبيا ..

    انه يضع الخطاطات الورقية لمجتمع بلا قسمات مكون، حسب النموذج المقترح في احد كتب الصدر من ستة طوائف تنجو منها طائفة واحدة تقاوم الفرعونية التي يقول الصدر انها تجزئ المجتمع وتبعثر امكانياته وطاقاته ومن هنا تهدر ما في الانسان من قدرة على الابداع والنمو الطبيعي على ساحة علاقات الانسان مع الطبيعة.

    فالصدر بوصفه ايديولوجيا بامتياز يرى ان هذه الوصفة الفلسفية لطبيعة المجتمعات تصلح للاستشفاء المجتمعي في كل زمان ومكان ولذلك فانه عندما يصمت عن تسمية المجتمعات باسمائها كما فعل الوردي فلانه يرى ان الخطاطة الايديولوجية لا تخص مجتمعا دون سواه لاسيما وان الصدر لن يتوقف عن استحضار الآيات القرآنية وهو يقوم بعرض تصوراته عن عناصر المجتمع ومعنى ذلك انه كان يقدم تفسيرا شموليا للمشكلة الاجتماعية في مشهديه كونية يبدو فيها المجتمع وكانه كتلة من البشر التي تقف عند مفترق طرق بين الانجذاب نحو المثل الاعلى بمعونة الايديولوجيا ومنطقها الصارم وعند ذلك فانها ستنتهي دفعة واحدة من كل مشاكلها وبين الانسياق خلف الاوهام الفرعونية ومثلها العليا التكرارية وهي في ذلك ستعانق انهيارها وموتها ان هذه الطريقة في عرض الافكار هي التي اوحت الى فلسفة ما بعد الحداثة بافكارها الخاطئة عن الايديولوجيات او النظريات عموما بوصفها مجرد سرديات Narrativos كبرى يمكن ان تستبدل حسب مقررات الضرورة البراغماتية للكائن المعني بما تتحدث عنه تلك السرديات فالاحتقان الطائفي والخارطة القومية المليئة بفراغات الحروب والاحساس بجروح التاريخ التي لم تندمل وطبيعة تشكيل الوعي المجتمعي والحضور الراسخ للاضطراب المتعدد في سيكولوجيا الفرد العراقي والكثير من الظواهر التي اشبعها الوردي بحثا في اوصافها الكثيفة كانت تتضافر وهي تتحول الى مضامين مكثفة لسرديات مصغرة قد تكون الذاكرة المضادة لذاكرة الايديولوجيا عندما تتحول الى سرديات لا تمتلك مقومات العبور من المتخيل الى الواقعي كان التوسير وهو يؤسس لقطيعة ماركس الشاب مع ماركس الناضج يتحدث عن الانسان بوصفه ركيزة لعلاقات الانتاج لااكثر وعندما تقرأ للصدر وهو يتحدث عن طبيعة المجتمع فانك ستشعر بانه يتكلم عن الفرد باعتباره مجرد ركيزة للفكرة الايديولوجية عن المجتمع الصالح وكأننا ازاء مخلوقات بلا تاريخ محلي وبلا اضطرابات وخلو من التحيزات العرقية والطائفية وكأنها بلا مكبوتات والاهم من كل ذلك نسيان الترسبات الثقيلة للثنائيات الثقافية التي يمكن ان تتجول في الدروب العراقية مع المخلوقات المسيحانية التي تنظر الى الحياة بعيون الفرعون اليست المحنة الان اذا كان حقا ما يقوله جيمس لوديل من ان المناسبات الجديدة تعلمنا واجبات جديدة هو اكتشافا المتأخر وبعد العصف الاجتماعي الذي احدثه الاحتلال وعودة كل المكبوتات الى الحياة بان طبيعة المجتمع العراقي الان لاتختلف شيئا عن طبيعته كما تحدث عنه الوردي في منتصف القرن الماضي.

    ان احداث المرحلة التاريخية الراهنة هذا الانهيار القيمي المروع المصحوب بانفجار براكين من الاحتقانات وكأن المجتمع العراقي خلال الزمن الفاشي كان اشبه بفوهات بركانية تغلي فيها حمم الرغبات الدفينة في الثأر دون ان تخرج وها هي عربات اليانكي ترفع تلك الفوهات احجار انسدادها تلك الاحداث ذكرت الثقافة العراقية بما كانت تريده ان يبقى طي النسيان بعد ان ابتكرت له حلولا ايديولوجية هي اشبه بالسحر على الضد من مسرودات الوردي الصغرى التي اثبتت لاجيال من العراقيين ان ما يخرج الان من فوهات براكين البنى الشعورية واللا شعورية للمجتمع العراقي قد سبق لها ان خرجت عشرات المرات قبل سعود الفاشية الى السلطة في العراق(يبدو ذلك مفيدا، على الاقل للتوقف عن تعليق كل اخطاء الوعي الجمعي العراقي على الشماعة الفاشية التي تحولت الى هبة سماوية لتبرئة المجتمع العراقي، وان اكتشاف الذات يستلزم اطلاق المزيد من السرديات المصغرة عن هذا المجتمع عبر الاستماع لحكاياته ومراقبة انماطه السلوكية والبحث عن المخفي والمستور في منظوماته القيمية ودروس التاريخ العجائبي الخاص بوسائل التعشيق بين الافكار والفلسفات والمفاهيم التي تغمر وعي المجتمع العراقي من الاعلى، وبين الاساطير والانحيازات ومخلفات الجدل القديم بين البداوة والحضارة داخل العقل والسايكولوجيا العراقية التي نشبت بذلك الوعي من الاسفل في صراع شرس يرسل الكثير من الاصوات والاحداث والرموز والتحولات التي حاول الوردي ان يوجه انتباه الايديولوجيين لها دون جدوى... لقد دعا الوردي عبر كل مؤلفاته الى القيام بالفحص الاجتماعي الجديد لكل الانساق العنيفة بدلا من دفنها تحت ركام من الاوراق الايديولوجية التي ستحرق عندما تطلق هذه الانساق السنة النيران في ازمنة التحولات الخطرة كما هو حادث الان في العراق.

    ان الصدر وهو الدماغ الاول وبلا منازع في الفكر الاسلامي المعاصر كان ذكيا اكثر مما يجب وهو يكتب عن المجتمع ولان الذكاء الفائض عن الحاجة كما يؤكد سارتر كان يمثل وعلى الدوام واحدا من اخطر مشاكل المثقفين فقد بقي الصدر محصورا والى حد كبير داخل اورقة ومطبوعاته الايديولوجية واسرا لما يمكن ان تقوله تلك المطبوعات والاوراق عن المجتمع العراقي وبقية المجتمعات وهذا هو معنى ما نكتشفه الان من مفارقات اجتماعية دراماتيكية تجعل الكتابة الصدرية عن المجتمع وكأنها نوع من اليوتوبيا او السرديات الكبرى وذلك هو احد الفروق الجوهرية فيما يتعلق بدراسة المجتمعات بين الصدر وبين الدكتور علي الوردي بمنسوب ذكائه المعتدل والذي لم يترفع عن حاجته كعالم اجتماع ظل يفكر ولعقود بوصف وتعرية الانساق الثقافية الشغالة في تكوينها لطبيعة المجتمع العراقي.





  2. #2
    تاريخ التسجيل
    Oct 2005
    المشاركات
    1,948

    افتراضي

    شكرا جزيلا اليك على المقال

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •  
 
شبكة المحسن عليه السلام لخدمات التصميم   شبكة حنة الحسين عليه السلام للانتاج الفني