النتائج 1 إلى 9 من 9
  1. #1
    تاريخ التسجيل
    Aug 2008
    المشاركات
    26

    افتراضي في الحاجة إلى تهذيب الأخلاق، وبيان ثمرته وشدة الاعتناء بشانه

    السلام عليكم ورحمة الله وبركاته


    كتاب جميل قرأته واحببت ان انقله اليكم بعضا ماجاء فيه كي نستفيد منه جميعا ان شاءالله
    للشيخ حسين بن علي بن صادق البحراني وهوعالمٌ فاضلٌ



    في الحاجة إلى تهذيب الأخلاق، وبيان ثمرته وشدة الاعتناء بشانه


    اعلم أيدك الله أنّ النبي صلى الله عليه وآله قال: بعثت لأتمم مكارم الأخلاق .


    ولا التباس في ذلك، فإنّ أمر المعاد والمعاش لا ينتظم، ولا يتهنأ طالبه إلا بالخُلق الكريم، فلا تتوهم أن العمل الصالح الكثير ينفع من دون تهذيب الخلق وتقويمه، بل يجيئ الخلق السيئ فيُفسد العمل الصالح، كما يفسد الخلّ العسل ..


    فأي نفع فيما عاقبته الفساد؟.

    ولا تتوهّم أنّ العلم الكثير ينفع من دون إصلاح الخلق وتهذيبه، حاشا وكلا ّ، فإنّ أهل البيت عليهم السلام قالوا: لا تكونوا علماء جبّارين، فيذهب بحقكم باطلُكم . أمالي الصدوق: 9/294



    ولا تتوهّم أنّ صاحب الخلق السيئ، يقدر أن يتهنّأ بمعاشرة والد أو ولد أو زوج ...............
    ....... أو صديق أو رفيق أو دار أو أستاذ أو تلميذ ..كلا، بل كلهم يتأذّون منه وينفرون عنه، وكيف يمكنه اكتساب الكمالات المتفرّقة في الناس، وأهل الكمال ينفرون منه ويهربون عنه؟!..

    واعلم أنّ من نظر إلى طريقة أهل البيت عليهم السلام ، وتتبع في أثارهم وجد هدايتهم للخلق، وجلبهم للدين، إنما هو بأخلاقهم الكـريمة، وبذلك أمروا شيعتهم فقالـوا: كونوا دعاة للنـاس بغير ألسنتكم .

    بل يعنون بأخلاقكم الكريمة، وأفعالكم الجميلة، حتى تكونوا قدوة لمن اقتدى، وأسوة لمن تأسّى.
    فإذا ظهر أنّ أمر المعاش والمعاد إنما يتمّان بمكارم الأخلاق،

    وإنّ إتمام مكارم الأخلاق هو فائدة البعثة، التي ما صلح الوجود إلا بها، تبيّن أنّ تهذيب الأخلاق مقدّمٌ على كلّ واجب وأهم من كل لازم، ومع ذلك هو مفتاح كل خير، والمنبع لكل حسن، والجالب لكل ثمرة، والمبدأ لكل غاية.




    انظر فيما ورد من أنّ الكفار يثابون على مكارم الأخلاق .. وفي الذي كان دأبه مخالفة النفس فجرّه ذلك إلى الإيمان .. وفي الذي كان سخياً وكان من الأسرى عند النبي صلى الله عليه وآله، فنزل جبرائيل عليه السلام من الله عزّ وجلّ بأن: لا تقتلوه لسخائه، فجرّه ذلك إلى السلامة من القتل في العاجل، والفوز بالجنة آجلاً .

    فإذا عرفت هذه المقدمة، التي يظهر لكل من اختارها وجرّبها صحتها وصدقها، فاعلم - وفّقك الله وأرشدك - أنّ لأهل البيت عليهم السلام أصولاً في الأخلاق، وقواعد وضوابط تُعين ملاحظتها على كسب الأخلاق بسهولة ويسر، لا بتكلف وعسر، كما يدور عليه كلام علماء الأخلاق.


    يتبع

  2. #2
    تاريخ التسجيل
    Aug 2008
    المشاركات
    26

    افتراضي

    فإنّ النبي (ص) أتانا في علم الشريعة بالشريعة السمحة السهلة ، موافقاً لما أخبرنا به ربه عزّ وجلّ ، من أنه يريد بنا اليسر ولا يريد بنا العسر ، وأنه ما جعل علينا في الدين من حرج .. كذلك في علم الطريقة فتح لنا أبواب اليسير ، وسدّ عنا أبواب العسير.

    فلا يثبطنّك الشيطان عن أخذ نصيبك من علم الأخلاق ، بأن ذلك أمر صعب يتوقف على مجاهدة النفس ، ورياضات بالغة !.. وأين أنت عن ذلك؟!.. فإنا رأينا أهل المجاهدات الشاقة ، والرياضات البالغة ، ما أوصلتهم إلا لمقاصد دنيوية ، ومقامات ردية ، من غير رسوخ لهم بطريقة أهل البيت عليهم السلام ، ولا تشبه لهم في أطوارهم.

    وأصل هذا المعنى وبيانه: أن تعلم أن الله سبحانه وتعالى بلطف حكمته وجميل صنعته بهر العقول ، وامتحن أهلها ، بأن طلب من الخلق أمورا كلية عظيمة ، وجعل مفاتيحها امورا جزئية حقيرة ، فمن استعظم الامور الموصلة إليها وتهاون عنها ، فاته ما أريد منه ، وكان ذلك من أعظم الامتحان له ، ومن توسّل بتلك الأمور الجزئية ، أوصلته إلى تلك المطالب النفيسة الكلية ، فهو لم يأت إلا الجزئي الحقير مع أنه أوصله إلى الكلي النفيس الكثير ، وذلك من أعظم السعادات له.

    فتدبّر هذه الحكمة البالغة ، وأمعن النظر فيها ، يظهر لك كيف أقام الحجة البالغة على هذا الخلق ، وأكمل لهم النعمة السابغة.

    فيا لها من نعمة!..كيف أوصلهم بهذه الجزئيات إلى هذه المراتب السامية ؟!..

    ويا لها من حجةٍ !.. كيف عرّضوا أنفسهم للهلكةالدائمة ، والعقاب الأليم ، وكان يخلّصهم منها الإتيان بجزئيات حقيرة؟!..

    فمن تأمّل هذه الحكمة واقتبسها من آثار أهل البيت عليهم السلام ، ظهر له معنى قوله: إنّ من استقلّ قليل الرزق حرم كثيره [ الكافي:2/207] وأنّ مبدأ كل الشرور والمهلكات هو استقلال القليل ، واستحقار الحقير.
    كما أن مبدأ الخير نابعٌ من مهفوم هذا الحديث ، فإنّ مَن لم يستقلّ قليل الرزق لم يُحرم كثيره.

    وبعد تتبعك هذا المعنى تجد شواهده في الحبل المحكم ، والأخبار لا تُحصى ولا تُعد منها قولهم: اتقوا محقرات الذنوب [ الكافي:2/207].

    وقولهم: لا تستحقروا طاعة ً، فربما كان رضا الله تعالى فيها .. ولا تستحقروا معصيةً .. فربما كان سخط الله فيها.

    إلى غير ذلك من أخبارهم عليهم السلام ، فاتضح للمستبصر المسترشد أن طريقة الشرع الشريف المحمدية ، إنما هي مبنية على أمور جزئية سهلة يسيرة بإذن الله موصلة إلى أسنى المطالب وأهنى الرغائب

    ويزيد هذا المعنى وضوحاً ، التأمل في الحديث القدسي ، حيث يقول رب العزة سبحانه : أن من تقرّب إليّ شبراً أتقرّب إليه ذراعاً . [الجواهر السنية : 129].
    فإذا كان هو سبحانه يدنو إلى من دنا منه ، ويدعو إلى نفسه من أدبر عنه ، فكيف بمن أقبل إليه ، وقرع بابه؟!..

    وكفاك قول سيد العابدين في دعاء السحر: وإن الراحل إليك قريب المسافة ، وإنك لا تحتجب عن خلقك إلا أن تحجبهم الآمال دونك ، أو تحجبهم الأعمال السيئة .. في بعض النسخ.

    فيا أيها الأخ الطالب للإقبال على الله !.. والمتمني لهذه المرتبة السنيّة ، استمع مني مقالة ناصحٍ لك ، مقتبسة من مشكاة أهل البيت عليهم السلام لا سواهم ، لأن من شذّ عنهم شذّ إلى النار وهي:

    إنك بعد أن علمت أن المطلوب من العبد التخلّق بالأخلاق الكريمة التي بشرفها نسبت إلى الرب ، رب العزة ، فقد ورد عنهم : تخلّقوا بأخلاق الله. شرح الاسماء الحسنى للسبزواري : 2/41
    وهي أخلاق محمد (ص) وعلى آل بيته الطيبين الطاهرين وشيعتهم.

    واعلم أنّ قوام ذلك المعنى ونظامه إنما هو الجلوس على بساط الاستقامة ، ومجانبة الإفراط والتفريط ، فتقرّب إلى الله تعالى بما تيسّر لك من الطاعات ، واجتناب ما يكرهه من السيئات.

    واجعل بناء أمرك على عدم المسامحة والمماهلة في جزئي ولا كلي ، فكل ما تعلمه راجحاً من الأمور المعلومة الرجحان اجعل همك في فعله ، ولو كان جزئياً حقيراً في نظرك ، وكل ما تعلمه بعدم الرجحان من الأمور فاجعل همك في تركه واجتنابه، وإن كان جزئياً حقيراً في نظرك.

    ولا تجعل بناء أمرك على التسامح والتساهل لا في جزئي ولا كلي ، بل ليكن أمرك مبنياً على الضبط والاتقان.

    وإياك أن تتعلق بالإكثار من الأعمال من دون ملاحظة الضبط والإتقان ، فإن ّأمراً واحداً تتقنه وتضبطه وتوقعه على وجهه على وفق الوضع المراد ، ينتج نتيجه الألوف من الأعمال الحسنة ، لا على وجه الضبط والإتقان، بل الآلاف الكثيرة من الأعمال الحسنة غير المتقنة ، لا تنتج نتيجة واحدة من الأعمال المتقنة المضبوطة ،
    بل لا نسبة بينها عند أهل المعرفة والحكمة

    لا أقول لك: لا يقع منك الإخلال بجزئي ولا بكلي ، حتى تستعظم هذا المعنى وتقول: إنى لي به ، وأنا أنا.

    بل أقول لك: لا تجعل بناء أمرك على الإخلال بجزئي مسامحة ومساهلة ، فأما إذا وقع منك الإخلال بأمرٍ لغلبة الهوى ، ومخادعة النفس والشيطان، فذلك أمر آخر ، وذلك من شأن غير المعصوم ، فمقصودنا توطين النفس على عدم المسامحة والمساهلة.

    فهذه الجزئيات من الشرع عند المواظبة عليها ، وترك التسامح والتساهل فيها ، تفيد الترقّي والوصول إلى المقامات الرفيعة العالية ، فإن الله سبحانه قد جعلها بإذنه مفاتيح تلك الخزائن ، ومن قبض مفاتيح الخزائن بيده استغنى وفاز فوزاً عظيماً.

    ولولا خشية الإطناب لأوضحت إيضاحاً شافياً ، وأكثرت الشواهد عليه ، وهو حقيق بذلك ، فإنه أتقن وأضبط باب يفتح منه ألف باب من الحكمة الإلهية ، وعسى أن نزيده بياناً في الأبواب الآتية إن شاء الله

    يتبع

  3. #3
    تاريخ التسجيل
    Aug 2008
    المشاركات
    26

    افتراضي

    الباب الثاني

    في رجحان الخوض في علم الأخلاق وصرف برهة من العمر فيه

    اعلم أنه اشتبه الأمر على جملة من الصلحاء الأبرار ، والأخوان الصافين من الأكدار ، من أهل المجاهدة للنفس الأمّارة بالسوء ، فإنهم لما رآهم الشيطان (لعنه االله) في مقام المجاهدة النفس - الذي هو أفضل الجهاد حتى سماه النبي صلى الله عليه وآله (الجهاد الأكبر) - أراد أن يخدعهم عن ذلك ، فألقى في روعهم شبهة عظيمة من شبهه.

    وهي: أنّ ملاحظة المواعظ والنصائح والتذاكر بها وطلب العثور عليها والتدبر لها - ما هو قوام علم الأخلاق - أمرٌ لا راجحيّة فيه.
    فإن مع ما نرى من أنفسنا من العمل بخلاف ما نعلم ، يكون وبالاً وزيادة في إقامة الحجة على العبد ، فيكون التغافل والتناسي مع هذا الحال أحق وأحرى ، فإنّ ذنب العالم ليس كذنب غير العالم ، وأنه كلما قلّ علم الإنسان واطلاعه على التحذيرات ، وأنواع التهديدات يكون أقلّ امتراء ، وأقرب إلى المعذورية ، وأنه ليس من لا يعلم كمن يعلم.

    وإني لمّا سمعت منهم هذا المعنى ، وعلمت أنه من خدع الشيطان الرجيم (لعنه الله) نبّهتهم على رواية رواها الشيخ الحرّ في - الجواهر السنية في الأحاديث القدسية- وفيها قمع هذه الشبهة من أصلها ، وإبطالها من رأسها.

    ومعنى الرواية أن الله سبحانه يقول : لا تقولوا : نخاف أن نعلم ولا نعمــل ، ولكن قولوا : نعلم ونرجو أن نعمل ، فإني ما أتيتكم إلا وأنا أريد أن أرحمكم بها. الجواهر السنية - باختلاف

    وهذا الخطاب الإلهي أقمع هذه الشبهة ، ولولا مخادعة الشيطان لما كان محلاً للاشتباه حتى يحتاج إلي الإزالة ، ولكن كفى بهذا البيان الإلهي قامعاً .. ونزيدك بياناً تعرف به جلية المسألة في العلم والعمل وثمرة كل منهما ، ويتجلّى لك ما وضع لأجله الباب من رجحان هذا العلم وثمراته فنقول: إنه من المعلوم أنه لا نفع للعلم بدون العمل ، كما لا نفع للعمل بدون علم ، ولكن العبد مأمورٌ بكل منهما ، وكل واحد منهما يؤكد صاحبه ويقوّيه.

    فمن اتخذ العلم لا للعمل بل ليفتخر به ، ويستر بمحاسن العلم وشيوع الجمال وبهائه بين الناس ، قبحَ أفعاله وخصاله القبيحة ، فلا شكّ أن هذا قرين إبليس اللعين ، وعلمه وبالٌ عليه ، وعلى غيره ، وإنّ أهل النار يتأذّون به ، وهو من الذين يحملون أثقالهم ، وأثقالاً مع أثقالهم ، وهو شيطان في صورة إنسان - نعوذ بالله منه -.

    وكذا من اتخذ العلم عادة اعتادت عليها نفسه (1).....
    (1) إشارةً إلى نقطةٍ مهمةٍ لا ينبغي أن يغفل عنها الخواص .. فإنّ العلم ليس إلا انكشافاً للواقع في الذهن في أفضل حالاته .. وإلا فإنّ حالات عدم المطابقة والجهل المركب هو الشائع في كل العلوم .. وعليه فإنّ احتراف تخزين صورة الواقع في الباطن والتلذذ بذلك - كمن يستلذ بجمع الكتب في الظاهر - لا يمكن أن تُعدّ عملية مقدسة توجب بنفسها قرباً للعبد إلى الحق المتعال ، وعليه فإنّ العلم المتراكم بلا عملٍ قد يتحول إلى شغلٍ شاغلٍ تألفه النفس ، فلا يعود العبد يفكّر بعدها للعمل ، شغلاً بما فيه من الإنكشافات الذهنية التي لا قيمة لها في الخارج..( المحقق )

    .....ورياء وسمعة بهذه الصورة الممدوحة بين الناس من دون بصيرة ولا معرفة ، فهذا حمار مربوط ملحق بالأول ، وإن كان أقلّ منه ضرراً على العباد.

    وأما من كان عاقلاً فهماً ، وطلب ما به صلاح نفسه وسعادته في داريه ، وهو المتوجّه إلى الله الطالب ما عند الله ، وهو المقصود بخطابات هذا الفن لتربيته وترقيه فيما هو طالب له ، فليعلم أنه كلما انفتح له باب من العلم سهل له العمل به ، وزاده نشاطاً ورغبةً فيه ، وكلما عمل بما علّمه الله من العلم أورثه ذلك علم ما لم يعلم ، وزاد في علمه ، كما في أخبار أهل البيت عليهم السلام حيث قالوا : إنه من عمل بما علم أورثه علم ما لم يعلم.

    فيكون في الحقيقة عمله نوعاً من العلم ، حيث إنه مورث له ومحصل له ، فيدخل
    تحت طلب العلم الذي تواترت الروايات بفضله ومدحه.

    كما أنّ علمه وتعلمه وتعليمه من أفضل أفراد العلم ، فعند ذلك تتم للعبد السعادة بالعلم الباعث على العمل ، والعمل المنبعث عن العلم ، والسعادة وإن تمت بالمجموع المركب من العلم والعمل ، إلا أن أفضل الجزءين عند الله إنما هو العلم ، وبه يقع التفاضل بين الأولياء.

    قال مولانا أمير المؤمنين (ع): مسحة من المعرفة خير من كثير من العمل ، وما هما إلا كالنيّة والعمل ، والفضل للنيّة .. وكالروح والجسـد ، والفضل للروح.

    وفيما ذكرناه كفاية لمن طلب الهداية ، والله ولي التوفيق.

    يتبع

  4. #4
    تاريخ التسجيل
    Aug 2008
    المشاركات
    26

    افتراضي


    .الباب الثالث

    في بيان أن الله خلقنا للسعادة الدائمة ، أعدّها لنا وأعدّنا لها

    اعلم أن الإنسان خُلق للحياة الدائمة والعيش السرمدي ، وعمر الآخرة لا نهاية له ، وقد جعل الله هذه الدنيا مزرعةً للآخرة ، ورتّب الجزاء في الآخرة على الأعمال في هذه الدنيا ، فكان تأهل العباد لتلك السعادة الأبدية بهذه الأعمال الدنيوية.(1)

    (1) ان الالتفات الى قِصَر العمر في الحياة الدنيا لمن دواعي اليقظة والحركة للسالك، فان الإنسان بطبيعته يحب نفسه ويحب لها النفع والخلود وان اشتبه في تشخيص مصاديق النافع والضار ، كما هو الواقع خارجا.. وعليه فإن استيعاب قِصَر الحياة ، وان اللامحدود يتحدد سعادةً وشقاءً بهذا العمر المحدود مما يجعل كل آن فيه يقابل اللامحدود ومن المعلوم أن هذه المقابلة الوجدانية – وهي مدعوته بالشرع والنقل – يحول الإنسان على موجود حريص على كل فترة من حياته أضف إلى حرصه لانتقاء أفضل الأعمال التي يملأ بها هذا الوقت القصير الذي سيحدد مصير الأبد في الجحيم أو النعيم!.( المحقق )


    ولا ريب أنّ هذه الأعمار القصيرة ، والمدة القليلة ، لو استغرقت بالعبادة بحيث لم يعص الله فيها طرفة عين ، ولم يصرف مقدار نفس من الأنفاس إلا في طاعة الله ، فهي مع ذلك قاصرة وناقصة بالبداهة والضرورة عن الأهلية للمقابلة ، ومقام المعارضة والمجازاة.


    فلا بدّ بمقتضى الرأفة الإلهية والرحمة الربانيّة ، أن يفتح لهم أبواباً من أبواب كرمه ، يؤهلّهم بها لمقام الجزاء بما لا انقضاء له ولا فناء ، إذ كل نعمه ابتداء ، وكل إحسانه تفضّل.

    فأول ما تفضّل به عليهم بجوده وكرمه ، أن جعل أعمالهم غير منقطعة بانقطاع آجالهم ، ولا منتهية بانتهاء مددهم ، بحيث جعلها يمكن أن تكون منطبقة على عمر الدنيا ، ومستغرقة لأيام العمل ووجود العاملين ، وذلك بأن جعل من أحكام دينه التي حكم بها ، أنّ من سنّ سنّة هدى فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة ، كما أنّ من سنّ سنّة ضلالة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة.مجموعة ورام : 2/236


    وكذلك جعل من أحكامه أنّ الوالدين شركاء مع أولادهما فيما يعملون من أعمال الخير ، بمقتضى التسبب والعلية للوجود ، وهذه سلسلة غير منقطعة.

    وكذلك جعل ثواب بعض الأعمال أن يخلق منها ملائكة يعبدون الله إلى يوم القيامة ، ويكون ثواب عبادتهم لصاحب العمل.


    وكذلك فتح لهم باب التنزيل ، فنزّل العمل ليلة واحدة بمنزلة العمل في ألف شهر ، بل أخبر الله سبحانه فقال : { ليـلة القدر خير من ألف شهر }.
    وجعل تفكّر ساعة بمنزلة عبادة ستين سنة[ البحار 327:17 وفيه: سنة].(2)، على ما في بعض الروايات.

    (2) ورد في المصدر (تفكر ساعة خير من عبادة سنة ) .. وأما عبادة ستين سنة فقد روي بالنسبة لمن مرض يوما بمكة (المستدرك ج 9 / ص 364) ولمن تعلم حديثين اثنين ينفع بهما نفسه أو يعلمهما غيره فينتفع بهما (البحار ج 2 ص 152 ) ولمن عدل ساعة (جامع الاخبار /ص 119 ) ومن مرض ليلة فقبلها بقبولها معنى القبول كما ذكره (ع) : لا يشكو ما أصابه فيها إلى أحد (مشكاة الانوار – ص 281).(المحقق )

    وجعل مبيت ليلة عند أمير المؤمنين (ع)، تعدل عبادة سبعمائة سنة.
    وجعل قضاء حاجة المؤمن يعدل عبادة تسعة آلاف سنة ، صائماً نهارها قائما ليلها(البحار 74: 315).

    وجعل صيام ثلاثة أيام من كل شهر ، قائمة مقام صيام الدهر.

    كل ذلك تعطفاً منه على عباده المؤمنين ، وتفضلاً ليؤهلهم لأن يوصلوا إلى رتبة استغراق عمر الدنيا بالطاعة ، حتى يكون لهم شوق التأهل بهذه المرتبة النفيسة بجوده وكرمه.

    ثم ذلك قليل في جنب ما يريد أن يؤهلهم عن استغراق مدة الأمد والسرمد بالعبادة والطاعة له عزّ وجلّ ، فأكمل لهم الامتنان ليتم لهم الأنعام ، بأن فتح لهم باب الجزاء على النية التي هي خير من العمل ، فجعل نيات المؤمنين أن لو خُلّدوا في الدنيا لداموا على طاعتهم لله عزّ وجلّ ، فأثابهم على ذلك ثواب الدائمين على طاعته ، وجعل جزاءهم على هذه النيات الخلود في الجنة.

    كما أن الكفار بسوء نياتهم ، وأنهم لو داموا لداموا على معصيته ، جعل جزاءهم الخلود في عقابه.
    فيا أيها الأخ المسترشد !.. اعلم أنّ أعمالك مبنيّة على الدوام لا على الانقطاع ، وإن كنت تراها منقطعة ، ففي بعض الأخبار: أن السعيد من ماتت سيئاته بموته.
    يعني من سعادته أن لا يُعمل بها بعده ، وإلا فإذا عمل بها اقتداء به واقتداء بمن اقتدى به ، كان عليه وزرها إلى يوم القيامة.

    فالمعصية والعياذ بالله مقتضاها التسلسل... إلا أن يتعطف الله بمحوها وإزهاقها.
    فاحذر كل الحذر من المعاصي !.. فقد تؤثر في الأعقاب وفي أعقاب الأعقاب ، وارغب في الطاعات !.. فإنّ ما كان لله ينمو، ومن نموه أن يؤثر بعده إلى آخر الدهر، وفي الأعقاب وأعقاب الأعقاب إلى يوم القيامة ، فتيقّظ ولا تكن من الغافلين(3)

    (3) إن كتب القوم جميعا لا تخلو من هذه الوصية ، فان العاكف على الذنب ولو كان صغيرا لا إستعداد له للسير في هذا السفر الذي يحتاج في اصله ان يكون المسافر فيه مقبولا لدى مولاه .. فان النجاح في هذا الطريق يتوقف على النفحات الإلهية الآخذة بيد العبد ، وهي لا تتأتّى لمن يتعرض لسخط لمولاه صاحب تلك الفنحات ، ومن المعلوم أن الذنب - وان كان صغيرا - إلا أن من الذي أذنبنا بحقه كبير ، بما يجعل المعصية بين يديه سوء أدبٍ عظيم ، يوجب الخجل والوجل بعد الالتفات إليه.. ومن هنا كان ديدن جميع من سلكوا هذا الطريق هو الاستغفار المتواصل لتجديد العهد بالرب الذي ما عرفناه حق معرفته وما عبدناه حق عبادته .. وأما استغفار الأنبياء والأوصياء (ع) فإنما هو لإظهار التذلل والتعظيم ، بالإضافة إلى تبدل حالاتهم في بعض الأحيان من الأعلى إلى العالي ، وهذا كافٍ لأن يوجب لهم طلب الاستغفار دائما.(المحقق)


    يتبع

  5. #5
    تاريخ التسجيل
    Aug 2008
    المشاركات
    26

    افتراضي

    الباب الرابع

    في ذكر بعض الطرق إلى الله تعالى

    اعلم أنّ الطرق إلى الله بعدد أنفاس الخلائق (1) ......

    (1) هذه من الحقائق التي تزيد العبد بصيرة في سيره إلى الله تعالى ، فليست هنالك معادلة ثابتة في جزئيات السير اليه ، فلكل زمان ، ومكان ، وفرد ، وظرف، موجباته وموانعه ..فلذلك تعددت السبل ، وإن اتحد الصراط ، فجمع الأول وافرد الثاني في القرآن .. ومن هنا لا ينبغي التأسي بخصوصيات السالك الفردية - وإن كان واصلاً - لأن لكل فردٍ ظرفه وتكليفه.. ومعرفة السبيل الأنسب من بين السبل ، شاغل لبال السالكين جميعا.. فليست هناك مشكلة في الحكم الشرعي الالزامي لإمكان معرفة ذلك من خلال ما ورد في الفقه ، وإنما المشكلة كامنة في الاحداث والوقائع الشخصية التي لا دور للفقه فيها كموارد تزاحم الأهم والمهم ، وهنا يحتاج السالك إلى بصيرة نافذه في معرفة السبيل الأقوم في مقابل السبل المستقيمة الأخرى ، وهي إما أن تحصل بالإلقاء في الروع والاحساس اليقيني بذلك ، أو بالتسديد القهري بوضعه على الطريق ولو مع عدم الاحساس بذلك ، او عن طريق اشارات اهل المعرفة الذين فتحت لهم الأبواب ، فناجاهم الله في فكرهم ، وكلمهم في ذات عقولهم فاستصحبوا بنور يقطة في الاسماع والابصار والافئدة (النهج ج2 ص 211). وقد قال النبي (ص) اتقوا فراسة المؤمن فانه ينظر بنور الله (بصائر الدرجات) – ص 375 .( المحقق )

    .......فلكل أحد من الخلق طرق إلى الله بعدد أنفاس كل الخلائق ، والشقي من ضاقت عليه رحمة الله التي وسعت كل شيء.

    واعلم أنه لا طريق أنجح من حسن الظن بالله ، فإنه في ظنّ عبده المؤمن ، إن خيراً فخير ، وإن شراً فشر.

    والناس قد عودوا أنفسهم بمقتضى تسويل النفس والشيطان على سوء الظنّ بربهم ، ومسارعة أذهانهم إلى التفاؤل بالسوء واليأس من الفرج بمجرد مشاهدة آثار الابتلاء ، والتخوّف من شدة البلاء ، متيقنين في ذلك ، فيقعون فيما فرّوا منه ، ويجري عليهم ما تفاءلوا به من البلاء، فإنه والعياذ بالله نوع من سوء الظنّ.

    وقد عرفت أنه بسوء الظنّ يتأهل العبد لأن يعامل بسوء ظنه ، إلا أن يعفوالله سبحانه.
    والنبي (ص) كــان يحب التفاؤل بالخير ، ويكــره الطِّيــرة. [ البحار :92/2 ] ..


    والطِّيرة على حسب ما يراها صاحبها ، إن رآها شديدة كانت شديدة ، وإن رآهـا خفيفة كانت خفيفة ، وإن لم يـرها شيئاً لـم تك شيئاً . [ روضة الكافي :197] ، كذا في خبر في (روضة الكافي).


    فيجب على المؤمن المقتفي آثار أهل البيت ، أن يعوّد نفسه على حسن ظنّه بربه ، فيرجو من الله بالقليل الكثير ، فهو سبحانه الذي يُعطي الكثير بالقليل ، وكلما تؤمله منه وتظنّه به سبحانه وتعالى من أصناف الخير وكرمه فوق ذلك ، وظنّك له نهاية ، وكرمه سبحانه لا نهاية له ، وهو سبحانه قد أخبرك بأنه في ظنّك الحسن ، وعند ظنّك الحسن ،

    وقد قال مولانا أمير المؤمنين (ع): من ظنّ بك خيراً فصدِّق ظنَّه. البحار : 74/212

    فإذا كان حكمه على عباده ، الجاري على لسان أوليائه ، أن يصدقوا ظنّ من ظنّ بهم خيراً ويحققوا ظنّه ، فهو سبحانه عزّ وجلّ أولى بذلك.

    بل يستفاد من الأخبار وتتبع الآثار ، أن كل من يحسن الظنّ بشيء يصدق الله ظنّه ، ويجري له الأمر على وفق ظنّه الحسن ، وكأنه من أفراد حسن الظنّ بالله ، إذ معنى ظنّ الخير بهذا الشخص يرجع إلى الظنّ بأن الله أودع فيه ذلك الخير للمقدمة المطوية المعلومة من أن كل خير من الله ، فالله سبحانه يصدق هذا الظنّ.

    وقد جاء خبر صريح بأن من ظنّ بحجرٍ خيراً جعل الله فيه سرّاً ، فقال له الراوي: بحجر!.. فقال له الإمام (ع): أو ما ترى الحجر الأسود(2).

    (2) لم ار الحديث في المصادر التي كانت متاحة لدي .. والرواية على فرض الصدور ، تريد أن تشير إلى أن عناصر هذا الوجود كلها قابلة لتلقي الفيض الخاص من المولى.. فان الموجودات وان كانت متساوية المثول بين يديه ، إلا أن المبدع لها - ولأمور لا يعلمها إلا هو - يختص بعضها بلطفه كالبقاع الشريفة ، والازمنة المباركة ، فتتحول بعد التشريف الانتسابي إلى شأن من شؤونه ، فتتميز في خواصها واثارها عما يشابهها من الموجودات .. فهذا قميص يوسف يلقى على وجه ابيه فيرتد بصيرا .. وهذا التابوت فيه سكينة من ربهم .. وهذه قبضة من اثر الرسول تعمل الأعاجيب .. وهذا الحجر الأسود – كما في الرواية – جعلها الله تعالى يمينه في الأرض .. هذا كله في عالم الجمادات ، فكيف اذا تحقق الأمر في عالم الناطقات ، وهي النفوس التي استسلمت لربها عن رضىً واختيار كنفوس المعصومين (ع)؟!..( المحقق )


    فيستفاد من هذا أنّ الله سبحانه وتعالى ، يصدق الظنون الحسنة من المؤمنين من بعضهم في بعض ، ويحقق لهم ذلك.

    ومن ذلك تصديق شهادة من يشهدون للميت بأنهم لا يعلمون منه إلا خيرا ً، للتنبيه على حسن الظنّ ، بل على عدم العلم بغير الحسن.. وقد ورد الحديث بأن الله يجيز شهادتهم ، ويغفر لهم وله ما يعلم لما لا يعلمون.

    فمقتضى حسن الظنّ أن يجريه الله للظانّ ولمن ظنّ به الخير ، إلا أن يمنع مانع قوي من جريانه في من ظنّ به ، فيجريه الله للظانّ.

    كما في بعض الأخبار أنّ الرجل قد يكرم رجلاً على أنه من أهل الخير ، فيدخله الله بذلك الجنة ، وإن كان في علم الله أن ذلك المكرم من أهل النار ، فهذا مما منع فيه المانع القوي من إجراء الظنّ في من ظنّ به فأجري للظانّ.

    والحاصل أنّ من امتثل ما أمر به من حسن الظنّ لإخوانه المؤمنين لا يخيب ، إذ هو إما أن يصدق ظنّـه ويقلب الأمر على وفق ظنّه برحمة الله ، أو يجري له ظنّه في حقه ، ولا يضرّه تخلّف ذلك في المظنون به الخير.

    وهذا باب عظيم في حسن الظنّ بالمؤمنين ، ولعله على هذا ابتني الأمر في قبول صلاة الجماعة ، فإنّ المأمومين أحسنوا الظنّ بالإمام ، وجعلوه واسطة بينهم وبين الله في قبول صلواتهم ، فأعطاهم الله ذلك فقبل صلاة الجميع بحسن الظنّ به.

    إلى غير ذلك من موارد حسن الظنّ ، كالذي يشرب من سؤر المؤمن تبركاً به ، وكماء زمزم فإنه لِمَا شُرب له ، قال الشهيدان: وقد شربه جملة من الأكابر لمقاصد دينية ودنيوية فنالوها . شرح اللمعة الدمشقية:2/329

    فلا تغفل عن أخذ حظك من حسن الظنّ.

  6. #6
    تاريخ التسجيل
    Aug 2008
    المشاركات
    26

    افتراضي

    وقد ورد في الدعاء جعله من أفضل الأرزاق التي تطلب ، فقال: اللهم ارزقني اليقين ، وحسن الظنّ بك. البحار:95/95..


    وقد ورد في الحديث ما هو أبلغ من ذلك ، وهو أنّ الله يجيز دعوى حسن الظنّ وإن كانت كاذبة.


    فعن الصادق (ع) قال: إذا كان يوم القيامة جيء بعبدٍ فيؤمر به إلى النار فيلتفت ، فيقول الله سبحانه وتعالى: ردّوه.
    فلما أتى به قال له: عبدي لِمَ التفتّ إليّ؟..
    فيقول: يا رب ما كان ظنّي بك هذا!..
    فيقول الله جلّ جلاله: فما كان ظنّك؟..
    فيقول: يار رب !.. كان ظنّي بك أن تغفر لي وتسكنني برحمتك جنتك.

    قال: فيقول الله جلّ جلاله: يا ملائكتي ، وعزتي وجلالي ، وآلائي وبلائي ، وارتفاعي في مكاني ، ما ظن بي هذا ساعة من خير قط ، ولو ظنّ بي ساعة من خير ما روّعته بالنار ، أجيزوا له كذبه وأدخلوه الجنة. انتهى الحديث . الجواهر السنية:270(3)


    (3) ان هذه الرواية من الروايات التي تبعث الامل الكبير في النفوس .. فانظر الى هذه الرحمة المستغرقة لادنى القابليات التي تدعى حسن الظن إدعاءً ، فكيف بمن يدعيه صدقا؟!.. وكيف بمن يمارسه تطبيقا في الحياة الدنيا؟!.. ونرجع فنقول : كَم مِنَ الذين يلتفتون إلى مثل مقالة ذلك العبد يوم القيامة ؟ ..ولو التفت اليها جميع أهل المحشر لنجوا بذلك !.. ولكنه تعالى هو الذي يلقن العبد حجته يوم لقائه ، لما رأي منه في دار الدنيا ما يوجب له هذا اللطف في ذلك اليوم العصيب.(المحقق )

    فتأمّل فيه ترى ما لا يوصف ، وبهذا الحديث الشريف وملاحظة أمثاله من مظان المواهب الإلهية ، والنفحات الربانية ، يتقوّى جانب من أن يكون ما عندنا من الظنون الحسنة ، والآمال بمواهب ذي الجلال ، مندرجة تحت حسن الظن بالله ، إذ هي إن لم تكن منه فلا أقلّ من أن تكون من أفراده الادعائية ، وقد عرفت إنه بكرمه يجيزها ويعاملها معاملة الأفراد الحقيقية ، وحكمه في الدارين واحد {>ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت} . سورة الملك/3


    واعلم أن حسن الظنّ ليس مقتضاه الخلود إلى الراحة ، وترك العمل معللاً بحسن الظنّ بالله ، فإن هذا من خدع الشيطان الرجيم - أعاذنا الله منه وجميع المؤمنين بمحمد وآله الطاهرين - بل مقتضاه الانجذاب إلى ما عند الله ، وشدة الرغبة في مواهب االله ، فإن من أنس بمواهب الله جذبه الطمع ، وهانت عنده الشدائد ، ومن عرف ما يطلب هان عليه ما يبذل.(4)



    (4) ان هذه الرواية من الروايات التي تبعث الامل الكبير في النفوس .. فانظر الى هذه الرحمة المستغرقة لادنى القابليات التي تدعى حسن الظن إدعاءً ، فكيف بمن يدعيه صدقا؟!.. وكيف بمن يمارسه تطبيقا في الحياة الدنيا؟!.. ونرجع فنقول : كَم مِنَ الذين يلتفتون إلى مثل مقالة ذلك العبد يوم القيامة ؟ ..ولو التفت اليها جميع أهل المحشر لنجوا بذلك !.. ولكنه تعالى هو الذي يلقن العبد حجته يوم لقائه ، لما رأي منه في دار الدنيا ما يوجب له هذا اللطف في ذلك اليوم العصيب.( المحقق )


    وعن مولانا الرضا (ع) قال: إنّ الله أوحى إلى داود (ع) قال: إنّ العبد من عبادي يأتيني بالحسنة فأدخله الجنة.
    قال: يا رب ، وما تلك الحسنة؟..
    قال: يفرّج عن المؤمن كربة ولو بشق تمرة.

    فقـال داود (ع) : حـق لمن عرفك أن لا ينقطع رجاؤه منك. [العيون:1/313 ، الجواهر السنيّة:79] .. انتهى.



    فإذا كان عزّ وجلّ يعطي هذه الجنة العظيمة التي عرضها السماوات والأرض بشق تمرة ، وفي بعض الروايات أنه يحكم بالجنة بشق تمرة.


    فبالله عليك كيف يسوغ ترك المعاملة مع هذا الكريم ، والتغافل عن معاملته طرفة عين؟.. وبأي شيء يستبدل عنه؟.. ومن فاتته لحظة لم يقبل فيها على الله فأي شيء يكون عوض ما فاته؟!.. هيهات !.. هيات!.. لقد فاته شيء لا عوض له ، وغبن غبناً لا جبر له.



    ومن أجل هذا المعنى وشدة رأفة الله بعباده المؤمنين ، جاءت الشريعة الغرّاء بترتيب المثوبات العظيمة على حركات المؤمنين وسكناتهم ، وحتى علّم علي بن الحسين (ع)شيعته الدعاء بقوله:

    اللهم !.. اجعل همسات قلوبنا ، وحركات أعضائنا ، ولمحات أعيننا ، ولهجات ألسنتنا في موجبات ثوابك<. الصحيفة السجادية:60

    وقال (ع)في بعض أدعيته:

    وأستغفرك من كلّ لذّةٍ بغير ذكرك .( المناجاة الخمسة عشر)


    فمراد الله سبحانه في عباده المؤمنين ، أن لا يخسروا خسراناً لا جبر له بالغفلة عن معاملته ، وفقد أجرته طرفة عين.

    ولهذا جعل الطرق إليه بعدد أنفاس الخلائق بحيث أنّ >من شرب الماء وذكر الحسين (ع) وأهل بيته ولعن قاتله ، كتب الله له مائة ألف حسنة ، ومحى عنه مائة ألف سيئة ، ورفع له مائة ألف درجة ، وكان كأنما أعتق مائة ألف نسمة ، وبعثه الله يوم القيامة ثلج الفؤاد< . الكافي : 6/193..

    أترى صاحب هذا العطاء ، والمُعد لهذا الجزاء يرضى أن يضيع على عبده - المحتاج إليه وهو الغني المطلق - نفساً من أنفاسه؟!..



    حاشا وكلا!.. بل يريد من هذا العبد المسكين أن يكون مقبلاً على ربه ، حيث إنه لا خير إلا عنده ، ولا شرف إلا في الإقبال إليه ، فإذا أقبل هو على الله أقبل هو عليه ، وإذا أقبل عليه عامله بفضله وكرمه وهداه لأن يقصد بكل خطراته وحركاته وسكناته ونومه ويقظته رضاء ربه ، بما يقتضيه كرمه وجوده ومنّه.




    ومنه ما عن الباقر (ع) قال: إنّ الله أوحى إلى داود (ع): بلّغ قومك أنه ليس من عبدٍ منهم آمره فيطيعني ، إلا كان حقاً عليّ أن أطيعه وأعينه على طاعتي ، وإن سألني أعطيته ، وإن دعاني أجبته ، وإن اعتصم بي عصمته ، وإن استكفاني كفيته ، وإن توكّل عليّ حفظته من وراء عــوراته ، وإن كاده جميع خلقي كنت دونه.. انتهى . الجواهر السنية : 74



    وكذلك تأتي رأفته البالغة ورحمته الواسعة ، أن يبالغ في تحذير عبده المسكين عن التخطي إلى ما لا يعنيه فضلاً عما يضرّه.



    وفي بعض الخطابات القدسية على ما في (الجواهر السنية):


    يا بن آدم !.. إذا وجدت قساوة في قلبك ، وسقما في جسمك ، ونقصاً في مالك ، وحريمة في رزقك ، فاعلم أنك قد تكلّمت فيما لا يعنيك . الجواهر السنية : 66



    وهو الفضول من الكلام ، فضلاً عن المحرّم فهــو أضرّ على الإنسان من السمّ ، إذ منتهاه أن يؤثّر في الجسم ، والفضول من الكلام يؤثر قساوة في القلب ، والنقيصة في المال ، والحرمان في الرزق ، مع السقم في الجسد ، فكيف يرضى له الرب الرؤوف بأن يعرّض نفسه لهذه المهلكة العظيمة.



    بل ورد أنّ الله سبحانه يحاسب العبد على فضول النظر ، كما يحاسبه على فضول الكلام.(5)


    (5) وهذا هو مقتضى المراقبة الدقيقة للسلوك في ارقى مراتبه، فان لحظات العيون مما لا يعد عند العامة فعلا ليترتب عليه الحساب ، إذ أن العين تبصر ما لم تغمض سواء أراد صاحبها أم لم يرد.. ولكن المراقب لنفسه يحوّل هذه العملية اللاإرادية إلى حالة شعورية ..فلا يسلط نظره إلى ما ليس مأمورا به ، فكيف اذا كان منهيا عنه؟!.. بهذا الحديث واشباهه يعلم ان الطريق الى الله تعالى كالصراط يوم القيامة احد من السيف.. ومن هنا صعب الوصول إلا بفضل الله ورحمته.(المحقق )



    فمن أجل أنه لا يريد أن يضيّع على عبده البائس المسكين نظرة من نظراته ، جعل له النظر إلى وجه العالم عبادة ، والنظر إلى الكعبة عبادة ، والنظر إلى ذرية رسول الله (ص) عبادة ، والنظر إلى المخلوقات بعين الاعتبار عبادة ، وأي عبادة !.. فإنه التفكير الذي ساعة منه تعدل عبادة ستين سنة { فأينما تولوا فثم وجه الله } . البقرة/115



    وعن الصادق جعفر بن محمد بن علي ، عن أبيه ، عن آبائه (ع) ، عن النبي (ص) قال:
    أوحى الله تعالى إلى داود (ع) : يا دواود !.. وكما لا تضيق الشمس على من جلس فيها ، كذلك لا تضيق رحمتي على من دخل فيها ، وكما لا تضرّ الطِّيرة من لا يتطير ، كذلك لا ينجو من الفتنة المتطيّرون. [ الجواهر السنية : 77] .. انتهى.



    وهذا الخطاب الإلهي القدسي من أكبر وأعظم الشواهد على ما أصّلناه من أن المتطير لسوء ظنه بربّه لا ينجو من الفتنة ، فيقع في الهلكة ، ومن لا يتطيّر لحسن ظنّه بربّه لا تضرّه الأشياء التي يُتطيّر منها ، وتُدفع عنه ببركات حسن الظن بالله.




    ومن دخل في رحمة الله بالانقطاع (6).....


    (1) إن تعبير المصنف في هذا الموضع تعبير رائع .. فمن ناحية جعل الدخول إلى أخبارهم من موجبات الرحمة الإلهية ، فإن نفس الميل إلى أخبارهم والأنس بما ورد عنهم من علامات المسانخة لطينتهم ، والاستعداد لتلقي الفيض منهم ، وإلا فإن النفوس الاجنبية لا تألف هذه الكلمات الصادرة ممن اتصلوا بعالم الغيب.. ومن ناحية اخرى اكد على ضرورة الانقطاع إليهم ، فكيف يهتدي الى طريق الله الاعظم من لم يستوعب حقيقة الولاية الالهية المتمثلة في النبي (ص) وأوصيائه (ع) ؟!..إن هذه النفوس التي لم تفهم أكثر الحقائق بداهةً في عالم المعرفة – اذ ما نودي بشيء مثلما نودي بالولاية (الكافي ج 2 ص 18) – كيف لها أن تفهم دقائق السير إلى رب الأرباب؟!.. (المحقق )


    ....... إلى أخبار أهل البيت (ع) ، واقتفى آثارهم لم تضق عليه ، بل لا تزال تتسع وتنفتح له الأبواب التي كل باب ينفتح منه ألف باب ، حتى يوصله إلى مقام انشراح الصدر بنور العلم والمعرفة ، وهو من أفضل ما أثنى الله على نبيه (ص) حيث يقول:
    { ألم نشرح لك صدرك } . الإنشراح/1


    فإذا مَنَّ الله عليه بالوصول إلى هذه الرتبة ، فهو من الذين لا يصلهم بلاء الدنيا ، ولا بلاء الآخرة ، وبمعنى أنه لو أصابه نوع من البلاء فهو عند غيره بلاء ، وبحسب نظر الناس ، وإلا فهو عنده في جنب ما عرّفه الله من إيصاله إلى رضاء الله ، وبحسب ما يطلب منه من المراتب السامية عند الله تعالى، من أكبر الملاذ وأهنأ العطاء.


    ولذا كان بعض خواص الحسين (ع) من أهل الطف ، كلما اشتد عليهم البلاء تشرق وجوههم ، وتستبشر نفوسهم ،

    رزقنا الله وإياكم هذه المقامات ، وأين أبناء الملوك عن هذه اللذات ، وحسبنا الله ونِعْمَ الوكيل ، ونِعْمَ المولى ونعم النصير .


    يتبع

  7. #7
    تاريخ التسجيل
    Aug 2008
    المشاركات
    26

    افتراضي

    أيها الأخ الغافل عن إصلاح نفسه ، والمتغافل عن حقيقة أمره !.. إنّ لك أيّها المسكين جهتين واعتبارين



    أحدهما من حيث نفسك وذاتك ، ومن حيث أنت أنت ، وإلى هذه الجهة غالب نظرك وملاحظتك ، وأنت من هذه الجهة فانٍ مضمحل زائل لا قدر لك ولا قيمة ولا اعتداد بك ، ولا مبالاة بك ولا احتفال ، بل لست شيئاً مذكوراً.

    والجهة الثانية لك من حيث أنك متعلّق القدرة الإلهية ، ومظهر العظمة الربانية ، ومخلوق لهذا الخالق العظيم الشأن عزَّ وجل َّ، وبهذه الجهة صرت مرتبطاً بكل العالم من العرش إلى الثرى ، ومن السماء السابعة العليا إلى الأرض السابعة السفلى ، فضلاً عما بين المشرق والمغرب ، وجميع من في أقطار الأرض.


    فإن أنت فعلت بنفسك خيراً أثّرت في جميع العالم خيراً ، وبالعكس (1) فإن أشكل عليك.....
    (1) هذه العبارة على إيجازها ، تكشف السرّ عن حقيقة تأثير بعض الأولياء في الأمور بإذن الله تعالى ، بما لا يمكن إنكاره لكثرة وقوعه وتواتر نقله قديماً وحديثاً .. فإنّ العبد إذا صار محبوباً لمولاه فإنّ شؤون ذلك العبد كلها محبوبة لديه ومنها إرادته للشيء ودعاؤه ، فإنّ الله تعالى - لشدة حبّه له - يجعل إرادته الربوبية مطابقة لإرادة عبده المستوجبة للإجابة لو خلى الأمر من الموانع .. ومن هنا جعل الله تعالى الإحياء - وهو من أعجب الأمور - منتسباً إلى المسيح بإذنه ، وهذه هي المعادلة التي ترفع الاستغراب عما يقع من خرق العادة في جميع الموارد التي صح فيها النقل.. ( المحقق )

    .....ذلك ، فإنّ لك مثالاً تحت العرش يعمل مثل ما تعمل ، فإن عملت قبيحاً ألقى الله على مثالك ستراً وغطاه ، لئلا تفتضح عند أهل العرش.

    وإن عملت حسناً أظهره الله لهم وهو معنى قوله: يا من أظهر الجميل وستر القبيح على ما رواه شيخنا البهائي في مفتاحه عن الصادق (ع) أنه قال:
    ما من مؤمن إلا وله مثال في العرش ، فإذا اشتغل بالركوع والسجود ونحوهما فعل مثاله مثل فعله ، فعند ذلك تراه الملائكة فيصلون ويستغفرون له ، وإذا اشتغل العبد بمعصية أرخى الله على مثاله ستراً لئلا تطلع الملائكة عليها . مفتاح الفلاح : 156

    وكذلك لا شك أن أعمالك كل يوم ، وكل صباح ، وكل مساء ، تعرض على النبي صلى الله عليه وآله ، وعلى الأئمة (ع) ، خصوصا صاحب العصر - عجّل الله فرجه - ولي الأمر.
    فما كان منها حسنا سرّهم ، حتى قال أحدهم: والله لرسول الله (ص) أسرّ بالحاجة يقضيها المؤمن لأخيه من صاحب الحاجة . الكافي : 2/156


    ولا شكّ أنّ النبي (ص) ، وأهل بيته أقطاب العالم وأركانه ، والعالم كله رعية ، من الملائكة وغيرهم ، فمن أدخل السرور على سلطان العالم فقد أثر في الرعية كلها سروراً ، تبعاً لسرور الملك والسلطان ، فيضجّ العالم بالدعاء لهذا العبد المحسن: سرّك الله كما سررتنا.

    وإن أساء أساء النبي صلى الله عليه وآله وأهل بيته ، ولذا تجف الأشجار ، وتفسد الثمار ، وتقلّ الأمطار ، وتغلى الأسعار.


    وقد بان لك أيها المسكين !.. تأثير طاعتك ومعصيتك في كل العالم ، فضلاً عن خصوص الملائكة الموكلين بك ، وفضلاً عما تقدمت الإشارة إليه من تأثير الطاعة والمعصية في الأعقاب ، وفي أعقاب الأعقاب ، ومن وصول النفع لكل المؤمنين ممن مضى وممن بقي ممن يقول:
    اللهم !.. اغفر للمؤمنين والمؤمنات حتى ورد: أن جميع المؤمنين والمؤمنات يشفعون لمن يقول ذلك ويقولون: هذا الذي كان يستغفر لنا . الوسائل : 4/151

    ورد في الأخبار: أنّ العالم يستغفر له من في السماوات ومن في الأرض حتى الحيتان في البحار . الكافي : 1/34

    وقال سبحانه: { الذين يحملون العرش ومن حوله يسبحون بحمد ربهم ويؤمنون به ويستغفرون للذين آمنوا } . [ غافر/7 ] .. ولا يخفى أنّ من يكون مجتهدا مشهوراً ينتفع بتقليده من في المشرق ومن في المغرب ، كما ينتفعون بكتبه ومصنفاته ، وسائر أنواع هدايته وإرشاداته في حياته وبعد وفاته.


    فإذاً قد ظهر لك سريان تأثيرك في كلّ العالم من الجهة الثانية فيك ، وكونك متعلّق القدرة الإلهية ، ومظهر العظمة ، فكيف يسوغ أيها المسكين فلتك وتغافلك ، ملتفتاً إلى الجهة الأولى التي لست بها شيئاً مذكوراً !..

    ولقد صدق مولانا أمير المؤمنين (ع)حيث يقول:
    دواؤك فيك ولا تبصـر ----- وداؤك منك ولا تشـعر
    اتحسب انك جرم صغير----- وفيك انطوى العالم الاكبر
    وانت الكتاب المبين الذي ----- بآياته يظهر المضـمر

    ديوان أمير المؤمنين (ع)/175

    ولئن أهملت نفسك فما ربك بمهمل لك ، قال الله تعالى :
    { أيحسب الإنسان أن يترك سدى } . القيامة/36


    فتيقّظ أيها الغافل !.. والحظْ الجهة الثانية التي صرت بها إنسانا ً، وكذلك سمّاك ربك ، فإن كنت ترى نفسك من أهل الشقاوة ، وعن السعادة نائياً ، فاعلم أيها المسكين أنّ الله يمحو ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب.


    واحذر أن تكون شيطاناً في صورة إنسان ، واعلم أنك إن اخترت لنفسك ذلك فقد أضعت توجّه العناية الإلهية إليك ، وأفسدت العالم كله بفسادك ، وكدّرت قلوب الأنبياء والمرسلين ، والملائكة المقربين ، وجميع أهل السموات والأرضين ، وضجّت الأرض إلى الله من مشيك عليها ، والسماء من استظلالك بها.

    وورد أن الأرض تضجّ إلى الله من بول الأغلـف أربعين صباحاً [ البحار : 101/110 ] .. وهو فعل مكروه من المكروهات فكيف بك؟..


    وبالجملة يا مسكين أنت مبارز لله ، وجميع من هو ملك لله تعالى أعداء لك ، فأين تذهب عن ملكه (2) وجميع مخلوقاته تطلب الاذن منه بالانتقام منك ، فأنّى بمقاومتها....

    (2) إنها حقّاً لحقيقة مخيفة وهي ليست من المعاني الإنشائية التخيلية ، إذ أنّ كل ما في الوجود – ما عدا الإنسان – منقادٌ لله تعالى بطبعه ، ومن المعلوم أنّ الشاذ عن حركة الوجود في الطاعة محاربٌ لربّ العالمين ، وهو الذي له جنود السماوات والأرض ، وهل وظيفة الجند إلا امتثال أمر من هم جنودٌ مجندةٌ بين يديه ؟!.. وعليه فإنّ بقاء العاصين في أمنٍ وسلامةٍ ، إنما بتدخلٍ من الربّ الرؤوف في منع جنوده من الانتقام من أعدائه .. وما نار جهنم وإحاطتها بالكافرين إلا صورة من صور جنود الربّ ، إذ أُذن لها في الانتقام ، ومن هنا كان لسان حالها : هل من مزيد ؟!..( المحقق )

    ..... كلها ، وأنت الضعيف الحقير ، ومن يؤويك وقد بارزته وحاربته ، فلا مفرّ لك منه إلا إليه { ففروا إلى الله إني لكم منه نذير مبين } . الذاريات/50

    وكلّ من خاف من أحد هرب منه إلا الخائف من الله فإنه يهرب إليه ، فإن أنت هربت إليه عزّ وجلّ فاستمع لما رواه الصادق (ع) عن جده رسول (ص) عن الله عزّ وجلّ أنه يقول:
    لا أطلع على قلب عبدٍ ، فأعلم فيه حبّ الإخلاص لطاعتي ، وابتغاء وجهي ، إلا تولّيت تقويمه وسياسته . الجواهر السنية : 133

    وعن النبي (ص) عن الله عزّ وجلّ قال:
    إذا علمت أن الغالب على عبدي الاشتغال بي ، نقلت شهوته في مسألتي ومناجاتي ، فإذا كان عبدي كذلك فأراد أن يسهو حلت بينه وبين أن يسهو ، أولئك أوليائي حقاً ، أولئك الأبطال حقا ً، أولئك الذين إذا أردت أن أهلك أهل الأرض بعقوبة زويتها عنهم من أجل أولئك الأبطال . البحار : 90/162

    انتهى هذا الحديث الشريف ، أنظر إليه كيف اشتمل آخره على أن الله كيف يدفع العقوبة والهلكة عن أهل الأرض بوجود أولئك الأولياء ، فنفس وجودهم صدقة عن العالم ، حيث كان باعثاً على حفظهم من الهلكة.

    وبالجملة فهذا العالم مرتبط بعضه ببعض ، وهو بمنزلة الشخص الواحد إذا دخل ألم في عضو من أعضائه سرى إلى الكل ، فإذا نزل ذلك الألم عن ذلك العضو فقد أراح الكل من ذلك الألم.


    وورد في الحديث أن العبد إذا حمد الله شمله ذلك الدعاء من كل المصلين ، لأن المصلين يقولون: ( سمع الله لمن حمده ). الوسائل : 4/2
    فانظر إلى العبد كيف ارتبط بكل المصلين في العالم ، ودخل تحت دعائهم بكلمة واحدة.
    كذلك من عمل عملاً باتقان ، دخل تحت دعاء النبي صلى الله عليه وآله بقوله: رحم الله من عمل عملاً فأتقنه . كنز العمال : 9128

    ولا ريب أنّ دعاء النبي (ص) مستجابٌ ، ومن أدركته الرحمة من الله نجى من الهلكة.

    ومن في هذا العصر يتمنون ويشتاقون أن يكونوا في عصر النبي (ص) حتى تدركهم منه دعوة ، ويتخيلون أن هذا أمر قد فات ، ولا تدارك له ، وهو اشتباه ، فإنّ تعرضهم لدعاء النبي (ص) ووصوله إليهم ممكن في هذا العصر بأيسر وجه كالذي قلنا:
    من عمل عملاً بإتقان ، فيدخل تحت دعاء النبي صلى الله عليه وآله بالرحمة.
    ومن كان يصوم يوما من شعبان مثلاً ، فيدخل تحت دعاء النبي (ص) بقولـه: شعبان شـهري ، رحـم الله من أعـانني على شـهري . الوســائل : 10/492


    وحاشا النبي صلى الله عليه وآله أن يحرم أهل هذا الوقت من بركات دعائه الشريف ، بل وقد وضع أدعية شريفة لأهل عناوين عامة ، فمن شاء أدخل نفسه تحت عنوان من تلك العناوين الشريفة ، فيشمله ذلك الدعاء المستجاب.


    أنظر إلى نفسك يا أخي كيف عرّضك لرحمته بالدخول تحت هذه العناوين الشريفة ، التي هيأت لك لأن تدخل نفسك فيها ، وأنت بغفلتك وتغافلك تريد أن تدخل نفسك تحت عناوين خبيثة ، يتوجّه إليك كل من في العالم بالدعاء عليك.
    فإنه من كدّر مؤمناً من المؤمنين كدّر رسول الله (ص) لذلك ، ثم عليا (ع) ، ثم الحسن ، ثم الحسين ، ثم الأئمة (ع) ، ثم من في العالم كلّه ، فيضجّ عليـك العالم ضجة واحـدة: كـدّرك الله كما كدّرتنا . الكافي : 1/90..


    فيا أخي !.. شأنك عظيم ، وخطرك جسيم ، وأنت بين حالتين في كل أطوارك وأحوالك : إما أن تُقبل على الله ، أو تعرض عنه (3) .....
    (3) إنّ هذا المعنى من المعاني التي لو استوعبها العبد على حقيقته ، لأحدث تغييراً جوهرياً في حياته ، إذ أنّ النفس قد تحدّث صاحبها بالتسويف ، لكون العذاب الإلهي في الآخرة أمراً مؤجّلاً ..ولكن كيف يهمل الإعراض الإلهي المعجّل عند المعصية .. فهذا إمامنا السجاد (ع) يقول لأهله بعد أن سقط ولدها في البئر والإمام (ع) مقبلٌ على صلاته : لو ملت بوجهي عنه لمال بوجهه عني ، فمن ترين أرحم بعبده منه ؟.. ( دلائل الإمامة ص198 ) .. وهذه حقيقةٌ واضحةٌ عند الخواص وهي أنّ الإعراض الإلهي أشدّ إيلاماً للعبد من عقوبة البدن ..( المحقق )
    .....فإن أقبلت عليه أقبل هو عليك ، وإن أعرضت عنه أعرض عنك ، وأعرض لأعراضه عنك كل شيء ، وأنت بينهما لا تنفك عنهما.

    فيا من هو على المقبلين عليه مقبل ، وبالعطف عليهم عائد متفضّل ، أرزقنا اللهم التوفيق لما يوجب دوام الإقبال عليك ، ودوام إقبالك علينا ، وحسن أدبنا بين يديك ، إنك أرحم الراحمين ، وصلى الله على محمد خير خلقه وآله الطيبين الطاهرين.

    يتبع

  8. #8
    تاريخ التسجيل
    Aug 2008
    المشاركات
    26

    افتراضي كيف يسلك عباد الله الطريق إليه


    الباب السادس : وكيف يسلك عباد الله الطريق إليه


    اعلم أنّ كل شيء يهون بالنظر إلى ما فوقه ، وما هو أشدّ منه ، بل يضمحل ويفنى ، ولا يكون شيئاً مذكوراً. كالذي تشوكه شوكة فيلدغه عقرب ، فلا ريب أن الشوكة تكون عنده نسياً منسياً ، ولا ذكر لها عنده بوجه من الوجوه ، فالباري سبحانه وتعالى قد قهر كل شيء من الأشياء بوجود ما فوقه.

    انظر إلى عظمة أمير المؤمنين (ع) ، وشدة بأسه وبطشه ، وبلوغه في كل كمال أقصاه ومنتهاه ، كيف يتصاغر عند ذكر محمد(ص) ، ويقرّ على نفسه بالعبوديـة حيث قــال: أنـا عبــد من عبيد محمد (ص). الكافي : 1/89
    وهذه قاعدة محسوسة في سائر الممكنات والموجودات ، فإذا أردت أن تهون عليك الدنيا وشدائدها فانظر إلى ما هو أشد وأصعب ، وتأمّل أن لو أضيف إلى ما أنت فيه شدة أخرى مما هو أشدّ عليك كيف كنت تصنع ، فحينئذ يهون عليك ما أنت فيه بالنسبة إلى ما هو فوقه ، وترى تلك الحال نعمة وتقول:
    الحمد لله الذي لم يشدده عليَّ ، ولو شاء لفعل.

    وكذلك إذا أردت أن يهون عليك استحسان ما يتفق لك من الأعمال الحسنة ، بحيث تخلص من الابتهاج الذي هو مادة العجب والافتخار ، فانسبه إلى ما هو فوقه من الأعمال الحسنة مما يعملها من هو فوقك ، ومن هو أحسن منك.
    أو أنت إذا ترقيت عن المقام الذي أنت فيه ، فإنك ترى ذلك العمل ذنباً وتقصيراً يحتاج إلى الاعتذار ، وتستحي من نسبته إلى نفسك ، فضلاً عن افتخارك وابتهاجك به.

    وأنت إذا اعتدت هذه الحالة بإذن الله الكريم المتعال سرت إلى الله بلا انقطاع ، إذ ليس لمحبته غاية ولا نهاية ، إذ كلما تدرجت إلى مقام في الإخلاص والعمل ، شاهدت مقاماً أعلى وأبهى وأسنى وأرفع.....(1)
    (1) إنّ الإحساس بالتجليات الإلهية - التي هي من أهم الهبات في عالم الوجود - نِعْمَ العون على المسير ، فإنّ العبد كلما كُشف له الغطاء في هذا المجال ازداد شوقاً لما هو أجلى وأحلى ، إذ لا تكرار في التجلّي .. فلكلّ إطلالةٍ من عالم الغيب بهاءٌ وجذبٌ خاصٌّ للعبد تختلف على سابقته ، ومن هنا فإنّ الأولياء المتنعّمين بلذّة التجليات ، لا يكاد ينتابهم ضيقٌ في الحياة بكلّ مراراتها ، لأنّ لذّة الوصل يُنسيهم ألم كلّ فراقٍ ، ولو كان ذلك الفراق عند أهل الدنيا عظيماً.( المحقق )
    .....فإن كنت تريد النهاية به فليس هناك نهاية تصل إليها ، وتقف عندها ، وإن كنت تريد الوقوف من دون مانع عن الترقي فلا يسوغ لك ذلك ، إذ الكريم سبحانه يستدعيك بلطفه وَجُوده إلى القرب منه ، فبأي شيء تستبدل منه !.. وإلى أي شيء تتحول عنه !.. لقد خاب من رضي دونك بدلا ً، ولقد خسر من بغى عنك متحولاً.
    فحيث اتضح بصريح العقل أنه لا بدّ من السير إلى الله بسلوك سبيل طاعته بلا انقطاع ، فاعلم أن ذلك إنما يتم لك بأن تكون في وقوفك عن الطاعة ملاحظاً وجهاً آخر من وجوه الطاعة ، فإنّ الله سبحانه يحب الأخذ برخصته ، كما يحب الأخذ بعزائمه.

    فمن يكون طالباً لمحبة الله سبحانه وتعالى ، يفتح الله له هذا الباب بأن يجعل فعله للعبادة المندوبة الراجحة جالبا لمحبته عزّ وجلّ ، فإنها بالذات كذلك ، وكذلك يحصل بتركه لها في مقام يخشى على نفسه الملل والنفرة عن الطاعة - كما هو مقتضى الطبع البشري - مرخصاً فيه من الله ، وهو يحب الأخذ برخصته ، فيكون تركها جالبا لمحبته عزّ وجلّ بالعرض ، وإن لم يكن بحسب الذات كذلك.
    فيكون العبد متعرّضاً لمحبته عزّ وجلّ في فعله وتركه ، إنّ هذا لهو الفوز العظيم ، لمثل هذا فليعمل العاملون.

    ويشهد لهذا المعنى اختلاف المروي عن أمير المؤمنين (ع)وعن مولانا الحسن بن علي.
    فعن الأمير (ع) أنه : إذا عرض له أمران كلاهما رضى الله اختار أشدهما على نفسه ، وعن الحسن (ع) أنه يختار أسهلهما على نفسه.
    فالثاني من باب أنّ الله يحب أن يؤخذ برخصته كما يحب أن يؤخذ بعزائمه ، ومن باب الاقتصاد في العبادة ، ومن قولهم:

    إنّ هذا الدين متين فأوغلوا فيه برفق ، ولا تُكرهوا إلى عباد الله طاعة الله. [ الكافي : 2/70 ] .. ومن باب مخادعة النفس بالجلب إلى طاعة الله.
    والأول وجهه ظاهر فإنه من باب المخالفة للنفس (2).....

    (2) إنّ تعبير المصنّف ( بكون مخالفة النفس مفتاح البركات ) ليس مبالغاً فيه ، إذ أنّ من قواعد السفر إلى الله تعالى التي لا تنخرم أبداً ، هي استحالة السير من دون السيطرة على زمام النفس ، إذ كيف يمكن سوق دابةٍ ولجامها بيد غير صاحبها .. وعليه فالخطوة الأولى في الحركة هو تطويع الوجود الإنساني بجوارحه وجوانحه للإرادة ، ومن المعلوم أنّ هذه المرحلة يمكن أن تعدّ قطعاً لنصف الطريق ، إذ أنّ الميل والشهوة والخيال من الأبواب التي تجرّ العبد إلى الهاوية مهما كان العبد جادّاً في قطع الطريق ، فإنّ الأمر لا يتمّ بالإيمان واليقين فضلاً عن الأماني .. ومن هنا قال الإمام الكاظم (ع) : وقد علمت أنّ أفضل زاد الراحل إليك عزمُ إرادة يختارك بها ، وقد ناجاك بعزم الإرادة قلبي . ( الإقبال ج3 ص277 ).( المحقق )

    .....الذي هو مفتاح البركات ، وكلاهما في مقام الإرشاد للعباد والهداية للخلق ، وإلا فمقاماتهم في أنفسهم بما تقصر عنه العقول والأحلام ، وهم أعرف بها.
    وكذلك لا بدّ لك من التروي في العمل والتدبر فيه حتى يتأتى إيقاعه على الوجه المطلوب ، وحتى يتحرر أنه منبعث عن داعي الإخلاص ، وذلك في الغالب يقتضي مدة ومهلة ، مع أن كل شيء أخرته فللشيطان فيه نظرة ، وللتأخير فيه آفات ، وفيه يُخشى الفوات.

    فإذا تعارض عليك هذان الأمران ، حيث إنك بالتأخر تخشى الفوات ، وبالتقديم والاستعجال تخشى فساد العمل بعدم التروي والتأمل ، ومخادعة الشيطان (لعنه الله) بإبرازه لك في صورة الطاعة ، وهو في الحقيقة لداعي النفس والشيطان فيكون من نوع المعصية.


    فطريق الخلاص من هذا التعارض ، أن تعلم أنّ التأخر الذي للشيطان فيه نظرة ، وفي الغالب أن يكون مفتوتاً للعمل ، إنما هو التأخــر عجــزاً وكسلا ً، وحرصا على المال ، ومحبة لأن يبقى في قبضتك ولا تنفقه فيخرج من يدك ، هذا هو التسويف المهلك للعالم ، وهذا لا شكّ في قبحه ، ووجوب مجاهدة النفس ومخادعتها لأن تسلم منه.

    وأما التأخّر لأجل التروي والإتقان ، فهو مطلوب ومحبوب ومأمور به من قبل ربّ العزّة ، فلا يستتبع ندامة ، ولا يكون مفوتاً للخير ، لأنك محسنٌ بامتثالك الأمور و{ ما على المحسنين من سبيل } . التوبة/91 (1)
    (3) إنّ معرفة التوقيت المناسب للإقدام أو الإحجام عن العمل ، يحتاج حقيقةً إلى بصيرةٍ وتسديدٍ من الله تعالى ، فلطالما فوتنا على أنفسنا المنافع العظيمة ، نظراً لعدم ترقّب الفرص التي تمرّ كما تمرّ السحاب ، فإنّ قطف الثمار في وقتها من هموم السالك.. فكم من الخسارة أن يستيقظ الزارع بعد موسم القطاف ، أو أثناء الموسم وقت ذبول الحصاد؟! ..( المحقق )



    مع ذلك إذا أردت أن تتقن الأمر وتضبطه ، فاجعل تأخيرك مقروناً بالتوكّل على الله ، في أن يمكّنك منه في الوقت الذي تؤخّره إليه ويعينــك ، واجعل تقديمك للشيء عند مجاذبة داعي الكسل والحرص إلى التأخير ، مقروناً بالتوكّل على الله في أن يعينك على إخلاص المشيئة فيه ، وإيقاعه على وجهٍ محبوبٍ إليه ، وجالبٍ لرضاه.
    فإذا قرنت الأمر بالتوكل في كل من التأخير والتقديم ، واجتهدت في تشخيص الداعي إلى التقديم والتأخير ، فإن كان هو الحرص على الشيء بالرغبة النفسانية والكسل ، والحرص على ما في يديك ، لم تنبعث لهذا الداعي الفاسد.

    وإن كان المحرّك على كلّ من التقديم والتأخير داع صحيح انبعث له ، فأنت محسنٌ في تقديمك وتأخيرك ، وما عليك من سبيل ، وأنت جالبٌ لمحبة الله بكلٍٍّ من التقديم والتأخير ، كالذي قدّمناه لك من أنك متعرّضٌ لمحبة الله في فعلك وتركك.
    فإن كان العبد متعرّضاً لمحبة الله بفعله وتركه ، وتقديمه وتأخيره ، تمّ له السير إلى الله بسلوك سبيل طاعته بلا انقطاع ، وحاشاه حاشاه أن يقطع من انقطع إليه وقرع بابه. (4)
    (4) هذه العبارة على إيجازها دقيقةٌ جداً ، فإنه جمع بين التعرّض للمحبة الإلهيـة – فإنه قوام الجذب الإلهي للعبد – وبين السلوك العملي أداءً للواجب وتركاً للحرام ، فإنّ البعض يتوهم أنّ إظهار المحبة من دون عمل مما يحقق للعبد درجات من القرب ، فتراهم يهيمون في عالم من التحليق الروحي ، مستخدمين الشعر تارةً والنثر تارةً أخرى ، ليرجعوا من تحليقهم إلى واقعهم المعاش بما فيه من موجبات إثارة سخط المولى ، سواء في مجال التعامل الفردي أو الإجتماعي أو الأسري..( المحقق )

    ثم لا تتوهم انحصار طريق القرب إلى الله بالعبادة المعلومة من الصلاة ، والصيام ، وتلاوة القرآن ، والتعلم ، والتعليم ، واستعمال الأدعية ، والزيارات ، ونحو ذلك ، بحيث يكون كل ما خرج عن ذلك لغوا ً، وتضييعاً للعمر فيما لا فائدة به ، كما ظنّه كثيرٌ من إخواننا الصلحاء ، فإنّ ذلك قصورٌ واشتباهٌ للأمر بك. (5)
    (5) هذا بابٌ من الأبواب التي تفتح على صاحبه أبواباً من المعرفة والبصيرة في السير إلى الله تعالى .. فترى البعض يلخّص الطريق في مجموعة من الأذكار والأوراد ، ناسياً أنّ الدين ليس من مقولة اللفظ ، وإنما الدين قوامه المعرفة والمعاملة ، وهما يفرزان الذكر الذي ينسجم مع طبيعة الشريعة .

    ولطالما كان الإنشغال بالأوراد – بغير طريقة أهل البيت (ع) - من موجبات التخدير الباطني ، فيرى أنه على شيء وليس على شيء .. أضف إلى ذلك كله أنّ حقيقة الدعاء وهي الحركة النابعة من القلب من مقولة المعاني .. والدعاء اللفظي ليس إلا كاشفاً عن تلك المعاني الباطنية .. فإذا خلي اللفظ عن استحضار المعاني المناسبة لها كان الكاشف مما لا منكشف له.. وما قيمة القالب الذي لا قلب له ؟..( المحقق )

    يتبع

  9. #9
    تاريخ التسجيل
    Aug 2008
    المشاركات
    26

    افتراضي


    الباب السابع : كيف نسلك الطريق إلى الله ؟



    اعلم أن السالك سبيل الله ، والمتوجّه لما عند الله يجب عليه أمور حتى لا ينقطع عليه الطريق ، فإنّ أدلاّء هذا الطريق وهم أهل البيت عليهم السلام قد أرشدوا إلى أمور من عرفها سهل عليه ، وإلا انقطع به الطريق ، ورجع إلى خلفٍ رجوع القهقرى.



    الاول

    : أن يعرف أن الخير كله عند الله ، فلا يلتمس الخير إلا عنده ، ولا يطلب من سواه.



    فإذا عاشرت الخلق وباشرتهم فليكن ذلك طلبا لما عند الله، وابتغاء لرضا الله ، بأن يكون همّك الإحسان إليهم ، وإدخال النفع عليهم ، فإنّ الخلـق عيـال الله ، وأحب الخلق إلى الله من أدخل النفع على عيــال الله . [ الكافي : 2/131 ] .. كما في أخبار أهل البيت(ع). (1)



    (1) إنّ هذا المعنى قد يغيب عن قلوب الكثيرين حتى من الخواص .. فإنهم عند الإحسان إلى الخلق يعيشون حالة لا شعورية من المنّة على من أحسنوا إليه ، ويبدو ذلك من خلال فلتات ألسنتهم ولحظات عيونهم ..


    فهذا المعنى الذي ذكره المؤلف من مقتضيات المعرفة العميقة بحقّ الله تعالى وبحقّ من أمر الله تعالى بصلتهم .. كما أنها من مقتضيات الرقابة الدقيقة ، لما يدور في خبايا النفوس ، فإنّ القلب لا يصير محطةً لأنوار الملكوت إلا إذا تخلى حتى عن هذه الشوائب الخفيّة ، التي هي بمثابة السيئات عند المقربين وإن كانت تبدو بصورة الحسنات عند الأبرار .


    ( المحقق )
    فإذا أردت المرتبة العليا بأن تكون أحب الخلق إلى الله على ما اقتضاه الحديث الشريف ، فاتقن هذه المقدمة أولا ً، وهي أن تعلم بأن انتفاعك منهم بهذا الطريق أعظم من نفعك لهم ، حيث أنك بسببهم توصلّت إلى أن تكون أحب الخلق إلى الله ، فلا تطلب منهم نفعاً غير هذ ا، واقطع النظر عن كل ما سواه .. فما وراء عبادان قرية.


    فإذا كان أصل معاشرتك لأجل أن تنفعهم ، ويصل منك الإحسان إليهم فوطّن نفسك أولاً على تحمل الإساءة منهم ، وعدم مكافأتهم بها ، وهذا أول إحسان منك إليهم.


    ثم إذا وطّنت نفسك على أن لا تكافئ المسيء بإساءته فلا تقنع بذلك ، فإنك تريد الاقتداء بأهل بيت سجيتهم الإحسان إلى من أساء إليهم ، والعفو عمن ظلمهم ، والوصل مع من قطعهم ، والإعطاء لمن حرمهم.



    فلا بدّ لك من توطين نفسك على أن تتمنى أن يسيء إليك أحد ثم تحسن إليه ، حتى تتوصل بسببه إلى تحصيل فضيلة الإحسان إلى من أساء إليك ، فتُحصّل التأسي بالنبي (ص) وأهل بيته (ع) حيث إن سجيتهم ذلك ، وقد قال مولانا أمير المؤمنين (ع): إن أحب الخلق إلى الله المتأسي بنبيه . نهج البلاغة : الخطبة 160..



    فتحصل بإساءته إليك ومقابلتك له بالإحسان على هذا المقام العالي أولا ً، ثم أنك مع فقرك ولؤمك وحاجتك ، إذا كافأت المسيء بالإحسان فالله سبحانه وتعالى بكرمه وغناه أولى على أن يكافئك على الأعمال السيئة بالإحسان ، فتحصل لك الحجة على إكرامه بذلك ثانياً.



    بل هو سبحانه إنما أمرك بالإحسان إلى من أساء إليك ، لينبّهك على أنك فعلت ذلك فأنا أولى بذلك منك ، وأنت أحوج إلى إجراء المعاملة هذه معك ، فأمرك بأن تجري هذه المعاملة.



    ونفع هذه المعاملة العائد لك أعظم من النفع الذي أمرتك بأن توصله إلى من أحسنت المعاملة معه ، فلو أنك نظرت بعين البصيرة لرأيت إساءته إليك ، حيث أوصلك إلى هذه المقامات إحساناً يستحق الشكر عليه ، فضلاً عن المجازاة له بالإساءة.


    (2)
    (2) إنّ هذا القول من آثار تبدل نظرة السالك إلى الوجود وحركة الحياة ، ومن هنا كانت المعرفة والبصيرة المقدمة الأولى للسير نحو الكمال .. فانظر كيف أنّ السالك يحوّل الخصومة التي تحمل في طيّاتها الكثير من الظلمة والظلامة إلى أداة للتقرب إلى المولى الحق ،


    فيثبت العبد فيها أنه عبدٌ لمولاه في كل حركاته وسكناته ، وخاصةً عند إثارة دواعي الغضب أو الشهوة فإنهما من مزال أقدام العوام والخواص ، ولطالما كانا من موجبات الإبتلاء الدائم ، إما بالجحيم أو بنار البعد عن الحقّ ، والذي لا تقلّ إحراقاً عن سابقتها عند من كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد ..


    ( المحقق )


    وهذا كله على تقدير تحقق الإساءة إليك من الغير ، وإلا فعلى تقدير أنك ظالم أو تتظلم كما هو المشاهد في أحوال غالب الخلق ، فالأمر أجلى وأوضح ، فإنا ما رأينا أحداً من الناس إلا وهو يشتكي ويتظلم ، ولم نر إلى الآن متنازعين ومتخاصمين من الأخيار ولا من الأشرار ، وأحدهما يقرّ للآخر : أني ظالمٌ لك ومتعدّ عليك.



    بل لم نزل نرى الأخيار وأهل الصلاح والتقوى يتخاصمون ، وكلّ يدعي المظلومية من الآخر ، وأنه صاحب الإحسان عليه ، والتحمل منه ، وهم ممن لا يتعمدون الكذب ولا يتجرؤون عليه ، فاعلم أن ذلك من مكائد النفس الأمّارة ، وتلبيسها الباطل بصورة الحق حتى تشبّه الأمر على صاحبها.



    ولهذا ردّ الشارع الحكيم شهادة العدل لنفسه ، ولم يجز التعويل في ذلك على عدالته ، فوجب على العاقل المنصف أن يتهم نفسه في حق نفسه ، ولا يقبل شهادته لنفسه ، كما لا يقبله الشارع.



    فهذا غير الذي تعاشره وتباشره ، إن كان أصل معاشرتك أن تنفعه لا لأجل أن تنتفع منه ، فقد أرحت قلبك أولاً بقطع الآمال من الناس ، وقطع الطمع عنهم ، وهذا هو الغنى الأكبر الذي هو غنى النفس.



    ثم أن أول صدقة منك عليهم أن تكفّ الأذى عنهم ، وأول ذلك أن ترفع أذاك عنهم ، فلا تتعرّض لهم بما يؤذيهم ، ثم توطن نفسك على تحمل الأذى منهم ، ثم اجعل همك إيصال الإحسان إليهم.
    فإذا توطّنت نفسك على ذلك ، فإن وصل إليك مكافأة بإحسان فهذه نعمة غير مترقبة ، فتكون أوقع في النفس وألذ.



    وإن رأيت أنهم قد قطعوا النظر عنها ، وتعلّقت نفوسهم بأن تقبلها منهم فاقبلها منهم ، فإن قبولها الإحسان عليهم ولو لم تكن محتاجاً إليها ، فإنّ ردّها يكدّر خواطرهم ، وهو إساءة إليهم وقد وطنت نفسك على ترك الإساءة إليهم ، وأنت مأمور بذلك.

    (3) هذه صورةٌ أخرى من صور الواقعية في نهج المؤلف ، فإنّ الرقة ودماثة الأخلاق ، من الصفات الأساسية في السالك ، ولطالما رأينا غير ذوي البصيرة في هذا الطريق يلحقون الأذى بالغير بقولٍ أو فعلٍ .. او يوجبون لهم الوهن ،


    أو يدخلون عليه الهمّ والغمّ ، بدعوى الترفع عن الدنيا والإعراض عن الخلق ، غافلين عن حقيقة أنّ من كسر مؤمناً فعليه جبره ( الكافي 2-45 ) .. ومن دون هذا الجبر قد يكسر الله منه ، ما لا جبر له في الدنيا ولا في الآخرة ..( المحقق )



    وإن كان إحسانهم الذي وقع مكأفاة مجرد تعارف ، ويتوقعون منك أن تردهّا عليهم ، فاقبلها منهم ثم ردّها عليهم من باب الهدية الجديدة كما هو وفق إرادتهم.



    وإن كان مرادهم أن تقبلها منهم وتكافيهم عنها بعوض آخر أزيد منها فاقبلها منهم وكافئهم بالأزيد ، وهو الإحسان إليهم ، ولا تظهر لهم أنك فهمت أنهم أتوا بها لأجل العوض ، بل أجْرِ الأمر على ظاهره ، فهو إحسان منك إليهم.



    والحاصل يا أخي !.. أنّ الله يأمر بالعدل والإحسان وكما تدين تدان.


    واعلم أن عمدة الإحسان إلى الناس ليس ببذل المال ، فإنا رأينا كثيرا من الناس يبذلون المال ولا يكون ذلك إحسانا ، بل يستتبع إساءة ، وتكدير خاطر ، ويكون من قبيل صدقة يتبعها أذى بحسب الخارج ، وإن كان أصل قصدهم الإحسان ، لأنهم لا يعرفون وجهه ، وكلّ ذلك من إهمال قواعد أهل البيت (ع) ، وعدم الالتفات إلى طريقتهم.


    فإذا أردت أن تقضي حاجة لأخيك المؤمن على وفق طريقة أهل البيت (ع) ، فاعلم أنهم قالوا : إن قضاء الحاجة تتم بأمور : تصغيرها لتكبُر ، وتعجيلها لتهنأ ، وكتمانها لتظهر. [ تحف العقول : 403قريب منه ] ..


    وما لم تجتمع هذه الأمور لا تكون الحاجة تامة ، بــل تكون ناقصة مكدّرة ، بل ربما كانت أذية على صاحب الحاجة.


    وعادة الخلق أنهم إذا قضوا حاجة يُخلّون بهذه الأمور كلها ، فلا يتم في أعمالهم قضاء حاجة على وجهها ، وهذا هو العظيم حيث أنهم يتجرّعون مرارة إنفاق المال ، ولا يترتب عليه الثمرة المطلوبة الذي هو إدخال السرور في قلب المؤمن.


    وتراهم إذا قضوا حاجة يوعدونه بها أولاً ، ثم يماطلونه ، فيبقى يتجرّع مرارة الانتظار الذي هو أشدّ من القتل ، ثم يتجرّع مرارة اليأس من الحاجة مراراً معددة ، ثم بعد حين تقضى الحاجة وقد تحمّل مرارة المطالبة ، ومرارة الخجل ، مع مرارة الانتظار ،


    ومرارة اليأس ، ومرارة الفشل من الناس الذين وعدهم ، معتمداً على وعدهم الذي وعدوه فأخلفوه ، فأي لذة تبقى بعد هذا ، بل كان إثمها أكبر من نفعها.


    وكذا عادتهم في الحاجة أنهم لا يصغرونها ، ويقولون : هذا أمر جزئي بالنظر إلى قدر المؤمن الذي في بعض الروايات : أنّ حرمته أعظم من حرمة الكعبة . [ البحار : 64/71] .. بل يظهرون أنا قد فعلنا معك إحساناً عظيماً ، بحيث يتوقعون أن يترك العبودية لله عزّ وجلّ ويصير عبداً لهم !..



    وكذلك لا يخفونها على الناس حتى تقرب من الإخلاص وتبعد عن الرياء ، وتكون من قبيل العمل الخالص الذي في الحديث: عليك إخفاؤه وعليّ إظهاره.


    بل يظهرونها لجميع الخلق ، ويذلونه في جميع العالم ، فهذه عادة الخلق المنحوسة، والعيان فيها يغني عن البيان.

    فعلم مما ذكرناه أن الإحسان ليس عمدته بذل المال ، بل عمدته ملاحظة الأمور التي ذكرناها.
    والإحسان إلى كل شخص إجراء الأمر على وفق مراده ، والتحذير من تكدير خاطره.....



    (4) إنّ مسألة تحاشي تكدير الخواطر - وخاصةً ذوي النفوس البريئة - من الأمور التي ينبغي أن يلتفت إليها السالك ، فلطالما كان سببا لأنواع من الخذلان ، وكلما صفا العبد وازدادت درجة قربه من الرب ، كلما عظمت الخطورة بتكدير خاطره ،


    فإنّ الله تعالى عند المنكسرة قلوبهم ( دعوات الراوندي –120) ، وهو سريع إلى نصرة عبده المؤمن .. وقد روى أنّ امرأةً دخلت النار في هرةٍ ربطتها فلم تطعمها ولم تدعها تأكل من حشاش الأرض ( الحدائق 7-271 ) ، فكيف بمن آذى من تجلى الله تعالى في قلبه فصار شأنا من شؤونه ؟..


    ( المحقق )
    ..... فمن يكون مراده أن تقبل منه فإحسانك بقبول ذلك الشيء منه ، وإن أردت أن تكون يدك العليا فكافئه عنه بأحسن منه ، أو مثله إلى غير ذلك مما لا يخفى على المتأمّل المراعي لدقائق أهل البيت (ع) لوصاياهم وسجاياهم.




    فإذا تمت لك المعاشرة مع الخلق لأن تنفعهم ، وقطعت نظرك عن الانتفاع بهم بالمرة ، بحيث أنّ كلّ نفعٍ تؤمله منهم تعدل به إلى من لا تخيب عنده ، ولا يقربه البخل في حال ، فلا تستغرق أوقاتك بالخلق ، وتجعلهم شغلك وهمك ، فإنك مأمور من أهل البيت (ع) : أقلل معارفك ، وأنكر من عرفت. ( المستدرك 11-387)



    والحكمة في ذلك أن لا يشغلوك عن التوجّه إلى خالقك ، فإن في التفرغ للعبادة ، وخلو البال عن كل شاغل يشغلك عن الله معنوية لا تُنال بمعاشرة الخلق ، وفي الحميّة معنى ليس في العنب.



    ولهذا قال أحد الأئمة (ع) لمن قال له: خلوت بالعقيق وتعجّلت بالوحدة: يا هذا !.. لو ذقت حلاوة الوحدة لاستوحشت من نفسك . البحار : 75/254..
    فالمراد أنك حيث تحتاج إلى معاشرة الخلق لا بدّ أن يكون طورها على ما وصفناه لك.



    وليس المراد أنك تجعل شغلك الاشتغال بمصالح (الخلق) فلا بدّ من توزيع الوقت وتقسيمه ، فتجعل لك وقتا للتضرّع إلى الله ووقتا لمعاشرة الخلق ، بأن يكون جالبا لرضاء الله ، ومقصوداً به وجهه ، وليكن حظك من الأول أوفى ، وليكن هو همّك وبغيتك ، فإنه المطلوب منك بالأصالة .....


    (5)إن قيد بالأصالة من القيود ، التي لا ينبغي أن لا يغفل عنها أبداً.. فالملاحظ أنّ البعض من المبتدئين ، يشتغل بالقيام بما لله تعالى رضا في أصله ، ثم يستغرق في ذلك بما يوجب له الذهول عن الله تعالى ، كما لو دخل مجلساً لإصلاح ذات البين ، فيتوغل في عالم إصلاح ذات البين بما يجعله يتعامل وكأنه أحد المتخاصمين ،


    فيقسو في القول ، وقد يجيز لنفسه أن يستمع إلى ما لا يجوز الاستماع له ، كما إذا تجاوز الخصم حدّه فذكر ظلماً مستورا لا يتعلّق بالمظلوم ، وهكذا بدأ بقصد القربة ابتداء لا استدامة.. والحال أن الدوام أشق من الإبتداء كما هو معلوم .. ( المحقق )


    يتبع

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •  
 
شبكة المحسن عليه السلام لخدمات التصميم   شبكة حنة الحسين عليه السلام للانتاج الفني