بقلـــــــــم :عبدالمنعم الأعسم
[mark=66FFCC]حركة القرضاوي ..أبعد من الشيعة[/mark]
Tuesday, 14 October 2008


الحملة "المفاجئة" التي اطلقها الداعية الاسلامي، الشهير والنافذ، يوسف القرضاوي لمنع انتشار المذهب الشيعي في مصر (وهي ليست جديدة في مضمونها) حققت هدفها في مفصلين اعلاميين، فيما يجري، بهدوء، طهي الهدف الرئيسي المبيّت من وراء هذه الحملة، ويُعتقد انه، هو الاخر، سيحقق نجاحا ما نظرا للظروف المواتية ولما يتمتع به صاحب الحملة من عناصر قوة ونفوذ وسلطان لم يسبقه اليها داعية اسلامي بعد الامام الخميني. لنتذكر ان الامريكان، مثلا، عملوا المستحيل من اجل "مد جسور الصداقة" اليه في الدوحة رغم دعواته لطردهم من المنطقة، على حسب تقارير نشرت العام 2004 في الولايات المتحدة.


[frame="7 50"]
لم يكن لحركة القرضاوي - لجهة التجييش ضد الشيعة - أن تنتشر لولا ردود فعل الخطاب الشيعي الانشائي الذي أكل الطعم باثارته ملفات الانشقاق التاريخية وإنتاج روايات عن "ازمة الفكر السني" وقرب انهيار السدود من أمام "شعلة قم" حيث ساهمت بتزييت الماكنة الطائفية التكفيرية في المعسكر الآخر وتقريب حركة القرضاوي من هدفها المرسوم [/frame]


اما على الجبهة الاعلامية، فان حركة القرضاوي (اولا) اوصلت صوتها الى اوسع دائرة من الرأي العام، وجمهور "الصحوة" الجهادية (وهو المهم) انطلاقا من مصر وليس من خارجها، ويستمد هذا البرنامج بضاعته من اجواء وردود الافعال لتحذير المجتمعات السنية مما سماه بالتوسع الايراني المذهبي في مصر، الامر الذي يهدد باندلاع فتنة تفتح الباب نحو حرب (وحروب) اهلية، او كما قال بالنص في المقابلة الصحفية التي افتتحت الحملة: "وقوع مذابح مثلما يحدث في العراق بين السنة والشيعة اذا حدث اختراق شيعي في بلادنا" وطبعا، لامست الرسالة قلق غالبية تلك المجتمعات (الخليجية بخاصة) حيال السياسات الايرانية، من دون ان يفرط بعامل المناورة المحسوبة حين اضاف القول "رغم تحفظي على موقف الشيعة من اختراق المجتمعات السنية، وقفت مع ايران بقوة في حقها في امتلاك الطاقة النووية السلمية، وأدنت بشدة التهديدات الأمريكية لها".

ونجحت الحركة (ثانيا) في جر الخطاب الشيعي الى معركة مذهبية غير متكافئة وبأدوات وحجج متهافتة وانفعالية، يشار هنا الى رد العلامة اللبناني محمد حسين فضل الله الذي اخذ على القرضاوي عيب السكوت على ما اسماه اخطار التنصير والعلمانية على الاسلام، كما يشارالى موجة الردود في الصحافة الايرانية التي (صدّقت) كذبة الاختراق الشيعي الداهم لاتباع المذهب السني وقامت باستعراض القوة باحياء مقولات عتيقة عفا عليها الزمن، وطبعا، ثمة القليل من وجهات النظر الشيعية تحررت من الحرفية الفقهية الى ما هو فكري وسياسي ذي قيمة، مثل مطالعة الدكتور ابراهيم العاتي.

وهكذا، لم يكن لحركة القرضاوي لجهة التجييش ضد الشيعة ان تنتشر على هذا النحو الواسع وتستقطب جمهورا عريضا من الشارع السني (حكاما ومحكومين) من دون ردود الفعل الانشائية للخطاب الشيعي الذي اكل الطعم باثارة ملفات الانشقاق في التاريخ الاسلامي، وانتاج روايات عن "ازمة الفكر السني" وقرب انهيار السدود من امام "شعلة قم" وغير ذلك من الافتتاحيات التي ساهمت بتزييت الماكنة الطائفية التكفيرية في المعسكر الآخر وتقريب حركة القرضاوي من هدفها المرسوم الذي هو ابعد ما يكون عن الخوف من خطر شيعي مزعوم، وذلك في مناخ اعلامي يتسم بالاثارة والتحيز، وبالكثير من الحساسية حيال ايران.

[frame="7 50"]
يتضح الاسم الخادع للاعتدال، بل الاسم الخادع لتطرف القرضاوي ، فاعتداله ليس موقفا بين موقفين، لكونه ينأى بنفسه عن المواجهة والمقابلة وترسيم الحدود الفقهية والسياسية للقضايا موضع الجدل، بين القوى المُكفِّرة والقوى المكفَرة ..وعليه يمكن تسمية مشروع اعتدال القرضاوي حيال الارهاب بما يفيده ويجعله يحتفظ بمكانة متنفذة في العسكرين المتصارعين.. في صفوف المجاهدين وحظوة الحكومات، وفي ما بين القبلية والمدينية، وما بين الشرق والغرب وهذا هو جوهر مشروع القرضاوي الذي بدأ في حركته للتجييش على الشيعة طوره الثاني
[/frame]

اقول، ان حركة القرضاوي الجديدة، استخدمت البوابة الشيعية لتمرير مشروع من رأسين..

الاول : اللعب في ساحة الوسط السني الراديكالي المتعاطف مع تيار الجهاد المسلح.

الثاني: إحتواء وترويض القطيعة بين جمهور السنة وانظمة الحكم العربية المحافظة.

وشاءت المرحلة ان يكون صاحب هذا المشروع إسما يهابه الجمهور وتخافه الانظمة.

وفي خلال العقود الثلاثة الماضية التي شهدت تحولا (او سقوطا) لمسار "الصحوة الاسلامية" نحو التطرف والجهاد الارهابي المسلح (بدأ بدعم امريكي ضد الشيوعية والوجود السوفيتي في افغانستان) صُنّف الشيخ يوسف القرضاوي كداعية معتدل، في الفقه والسياسة، وقد وطّد هذا التوصيف في كتابه الشهير (الصحوة الاسلامية بين الجمود والتطرف) ومن يتملّى هذا الكتاب يتلمس مهارة القرضاوي "الإقناعية" في التوسط بين الانظمة الحاكمة المحافِظة والجمهور الاسلامي الساخط، بين الجهاد بالسلاح وقتل النفس (الانتحار) والجهاد بالكلمة الطيبة والنصيحة، بين المؤسسة السياسية للاسلام السني المعارضة (الاخوان المسلمون) وبين المؤسسات الاخرى التابعة لـ(أولي الامر) بين الدعوات الى تكفير الشيعة والدعوات الى تبرئتهم من الابتداع والضَلال.

والنص التالي من الكتاب الذي يتحدث فيه القرضاوي عن التطرف غنيّ في التعبير عن نوع وسطيته وكيمياء مشروعه، يقول:

"فالمتطرف، كإنما يقول لك: من حقي ان اتكلم، ومن واجبك ان تسمع، رأيي صواب لا يحتمل الخطأ، ورأيك خطأ لا يحتمل الصواب، وبهذا لا يمكن ان يلتقي بغيره ابدا، لأن اللقاء يمكن ويسهّل منتصف الطريق ووسطه، وهو لا يعرف الوسط ولا يعترف به، فهو من الناس كالمشرق والمغرب، لا تقترب من احدهما إلا بمقدار ما تبتعد من الآخر"

وتتركز الملاحظات هنا على اجتهاد في سياق الخطأ والصواب، من غير ان يمس القرضاوي جناية التطرف وخطاياه، بل انه في نص آخر يهوّن من الامر ويعد التطرف خاضعا للرد والبدل والخلاف في وجهات النظر..

يقول "ليس من الإنصاف ان نتهم انسانا بالتطرف في دينه لمجرد انه اختار رأيا من الاراء الفقهية المتشددة ما دام يعتقد انه الاصوب والارجح.. وإن كان غيره يرى رأيا مرجوحا، او ضعيفا"

وقد استفزت هذه المطالعة القرضاوية الاضافية باحثين اسلاميين معتدلين رأوا فيها إمعانا، مقصودا ومحسوبا، في مداراة المتطرفين في دينهم "الذين ينعتون غيرهم بأبشع الاوصاف، ويرون الحق محتكرا عليهم" كما ذهب الباحث الاسلامي عمر عبدالله كامل.

على ان تطبيقات هذا الاعتدال تظهر بوضوح في مطالعات القرضاوي بصدد الجدل حول الربا والبنوك والفائدة، وقد ضاق من رأي الشيخ شلتوت الذي فتح باب "الضرورات" على ما هو محرم شرعا، فاغلقها القرضاوي بخفة واحتراف، لكنه فتحها بمهارة من جانب آخر ليبرر لسلاطين المال في الخليج واصحاب المليارات في البنوك الغربية، وكذلك لخلايا الجهاد المسلح التعامل مع البنوك والتصرف بالربا المحرم، يقول: "ما دام مال فوائد البنوك، المسلم ليس مالكاً له، جاز له أخذه والتصدق به على الفقراء والمساكين، أو يتبرع به لمشروع خيري، أو غير ذلك مما يرى المودع أنه في صالح الإسلام والمسلمين"

لنتأمل العبارة المدسوسة في ثنايا الورع الفائض عن المودع الذي يستخدم المال الحرام في صالح الإسلام والمسلمين، ويضيف القول "فالفائدة ليست ملكاً للبنك ولا للمودع، وإنما تكون ملكاً للمصلحة العامة، وهذا هو الشأن في كل مال حرام" فهل ثمة خدمة اكثر من هذه يمكن ان يقدمها داعية معتدل الى مخاوير الارهاب في العالم لتتحول فوائد البنوك (الربا) الى اسلحة وصواريخ وسيارات مفخخة واعمال حرب وعنف وتجييش.. وتجارة المخدرات ايضا؟.

[frame="7 50"]
يمكن احتساب مواقف القرضاوي في قوام التناقضات التي افرزها الصراع مع الارهاب.. تكفي الاشارة الى انه حرم شرعا العام 2001 اقامة قواعد امريكية على ارض المسلمين ثم رفض العام 2003 الاحتجاج على اقامة هذه القواعد في امارة قطر حيث يحمل جنسيتها !.. و أيد التفجيرات التي شهدتها خطوط مواصلات لندن منتصف عام 2005 وأودت بحياة اكثر من خمسين راكبا، وسرعان ما انتقد التعريض بحياة المدنيين ! .. وانه حتى اللحظة لم يتعرض الى الوجود الدبلوماسي والتجاري الاسرائيلي في الدوحة فيما كفّر العواصم العربية التي استقبلت باراك واقامت علاقات دبلوماسية مع اسرائيل!
[/frame]

ان اعتدال القرضاوي يختلف في تطبيقاته عن التعريف المدرسي للاعتدال، بوصفه موقفا بين موقفين، إذ ينأى القرضاوي بنفسه عن المواجهة والمقابلة وترسيم الحدود الفقهية والسياسية للقضايا موضع الجدل، بين القوى المُكفِّرة والقوى المكفَرة.. بين معسكر التطرف والمعسكرات الاخرى التي ابتدأت بالشيوعية ثم الغرب ثم حكومات العالم (باستثناء حكومات قليلة تسهِّل تمرير اموال الارهاب وعناصره) والشيعة والمسيحيين واليهود وانتهت بالمدنيين الذين يدفعون ضرائب لحكوماتهم، كما ينأى عن الظهور في العواصف التي ضربت احوال الاسلام والعرب، في خلال العقد الماضي، ضمن حسابات هذا الاعتدال. وحول شرعية او عدم شرعية استخدام السلاح في الجهاد كان القرضاوي يبشر بالشيء ونقيضه، فمن تحبيذه للتفجيرات الانتحارية بالقول "ان المجاهد يقاتل عدو الله وعدوه بهذا السلاح الجديد، الذي وضعه القدر في يد المستضعفين ليقاوموا به جبروت الأقوياء المستكبرين" الى القول "أن الإسلام لم ينتصر بالسيف بل انتصر على السيف الذي سلط عليه منذ البداية".
يتضح الاسم الخادع للاعتدال، بل الاسم الخادع لتطرف القرضاوي.

وباختصار يمكن تسمية مشروع اعتدال القرضاوي حيال الارهاب بالاعتدال الايجابي بالمعنى الذي يفيد احتفاظ صاحب المشروع (وهذا ما حدث) بمكانة متنفذة في العسكرين المتصارعين.. في صفوف المجاهدين وحظوة الحكومات، وفي ما بين القبلية والمدينية، وما بين الشرق والغرب، وهذا هو جوهر مشروع القرضاوي الذي بدأ، في حركته للتجييش على الشيعة طوره الثاني الذي سنتحدث عنه في ما بعد، لكن ليس قبل ان نقرأ مواقف وتأشيرات بعض الاطراف المعنية والمنشغلة بموضوع الارهاب، فهي تضع بين ايدينا مؤشرات ثمينة لجهة تحليل الحركة الجديدة للقرضاوي.

ففيما تلقت الدوائر الامريكية تصريحات القرضاوي ضد ايران والتوسع الشيعي في مصر بصمت (مُفسّر بالترحيب) عبرت جماعة الاخوان المسلمين المصريين عن الامتعاض من اثارة قضية لا وجود لها على ارض الواقع، وربما عدّت الجماعة حركة القرضاوي الجديدة بمثابة إحراج ثقيل لها في المقام الاول لأن شيعة مصر لم يكونوا يوما جزء من معادلة الصراع الداخلي وان "الاختراق" الذي تحدث عنه القرضاوي لا يعدو عن انضمام افراد الى "حب آل البيت"، او، ان الحركة تستهدف تقكيك العلاقة الطيبة بين الاخوان وايران، لكن الرد العنيف لقياديي الاخوان على القرضاوي لا يترك مجالا للشك في ان الموضوع يحز في رقبة الاخوان من موضع حساس، وفي هذا يقول القطب الإخواني المصري إبراهيم صلاح في مقال منشور في القاهرة:

"أن تصريحات القرضاوي خلقت لأميركا فرصة فريدة يستحيل تكرارها لعمل فتنة كبرى بين السنة والشيعة" وأضاف "يمكن أن تبدأ الفتنة باغتيال القرضاوي على طريقة اغتيال الحريري واتهام إيران أو حزب الله أو أي منظمة شيعية مجهولة باغتياله لتبدأ الحرب ضد إيران في جو سُني معاد لها"

في حين دعا المفكر الإسلامي المصري د. أحمد كمال أبو المجد رئيس الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين القرضاوي الى سحب ملف القضية "وكأن شيئا لم يكن". اما الباحث وحيد عبدالكريم فقد لامس جوهر حركة القرضاوي الجديدة وموقفه من الشيعة بالقول، انه: "موقف يشاركه فيه بدرجات مختلفة معظم الإسلاميين (وليس المسلمين طبعا) السنة على اختلاف اتجاهاتهم، وتناقض توجهاتهم.. ولا يختلف عليه معتدلوهم ومتطرفوهم".

[frame="7 50"]
كان القرضاوي في قلب الصراع.. ليس كمراقب ، بل كمشارك في ما تقتضيه حسابات المستقبل، فلا يمحض القاعدة تأييده، ولا يوافق على التصدي لها.. لا يتهمها بالاسم حين يتحدث عن التطرف، ولا يذكرها بالموصوف حين يتحدث عما كان يسميه واجب الجهاد في سبيل الله.. يجيّش ضد القوات الامريكية التي يقول انها غازية لارض العرب والمسلمين ويسكت عن القوات الامريكية التي لا تبعد عن منزله في الدوحة غير اربعة كيلومترات !
[/frame]

وفي تلك المساحة الممتدة بين التطرف والاعتدال يمكن ان نتهجأ حركة القرضاوي وبضاعتها الجديدة والمدى الذي تقطعه في المرحلة المقبلة.

فمنذ حوالي عام بدأ العد التنازلي لفكر وتطبيقات التطرف الاسلامي التكفيري، وصيغته الأكثر حداثة وبشاعة، ممثلة بشبكة القاعدة ومقولات أيمن الظواهري، لكن فروض الحياة وتجارب صعود وسقوط المنظومات العقائدية تحذر من تبسيط هذا الانكفاء، او التعجل بنعي جثته، لسبب مهم ذي صلة..

(اولا) : بسعة الجمهور (الجهادي) الذي استقطبه التطرف

و (ثانيا): باستمرار مشاعر الجزع والاستياء، بدائرة أوسع، مما آل أليه حال الإسلام والمسلمين

و (ثالثا): بالثقوب الكثيرة (الايديولوجية والادارية) في حملة الانظمة السياسية في العالم الاسلامي لمكافحة الارهاب، او التغاضي المقصود حيال انشطة القاعدة، طالما تجري في ما وراء الحدود.

أما النقطة التي سجلت نهاية، او ما بعد ذروة اندفاع التطرف التكفيري، فيمكن رصدها في افتراق المشروع الارهابي مع حركات أصولية لها شأن في الحالة الاسلامية مثل حماس الفلسطينية وحزب الاخوان المسلمين في مصر امتدادا حتى الحركة الاسلامية التركية، وليس من دون مغزى ان تهاجم القاعدة أكثر من مرة مواقف حماس منذ أن انخرطت الاخيرة في لعبة الانتخابات والمفاوضات مع الاسرائيليين في ما بعد، وتكرار التعريض بخيار المشاركة في الانتخابات المصرية من قبل الإخوان، كما لا ينبغي التقليل هنا، من تزايد حالات الانشقاق والهروب والتخلي في صفوف القاعدة، وبوتيرة متزايدة، وملحوظة، ابتداء من منتصف العام 2007 حين تضخّم السجل الاجرامي للقاعدة بعمليات قتل المدنيين في العراق والمغرب والجزائر وأوربا، وتطوّر الى اباحة دماء الشيعة في الصيغة المُنكرة للزرقاوي في العراق.

يضاف الى ذلك تأثيرات الحرب العالمية التي شنتها الولايات المتحدة وحلفاؤها لتحجيم حركة القاعدة وطالبان في حدود ضيقة، و(المهم) تلك القرارات التي وضعتها الامم المتحدة والزمت فيها الدول الاعضاء كبح انشطة الجماعات الارهابية المسلحة، وبخاصة في مجالات حركة الاموال والمعلومات والتوعية والتعليم ونشر أفكار التسامح والاعتدال في مختلف الاشكال، ومقابل ذلك كله، كان المشروع الارهابي الجهادي قد عجز عن تقديم برنامج سياسي صالح للتطبيق على اي بقعة على وجه الارض، وبقي يتخبط في حمية وحدود الانتقام والافتداء والتباهي والزهو باثارة الذعر والخوف في عواصم العالم، وعدّ ذلك، وحده، بمثابة انتصار لمشروعه.

في هذا، لا يمكن نكران الطابع المتناقض لمسار المواجهة مع الارهاب، وبخاصة تردي سمعة السياسة الامريكية في قوس العالم الاسلامي، وفي دعم (او تغطية) شرائح نافذة من النخب الحاكمة في الخليج لشبكة القاعدة، وفي تلك الارضية التعليمية الاسلامية المحافظة التي ما فتئت تفرّخ العنف والتطرف والكراهية وتمول القاعدة بالبشر والاموال، واخيرا، في تواطؤ (او تأييد) بعض المراكز الشيعية مع المشروع الارهابي طالما يتجه ضد الغرب واسرائيل.



صورة لقاعدة العديد الأمريكية الضخمة في قطر


ومن زاوية، يمكن احتساب مواقف القرضاوي في قوام التناقضات التي افرزها الصراع مع الارهاب، تكفي الاشارة الى انه حرم شرعا العام 2001 اقامة قواعد امريكية على ارض المسلمين ثم رفض العام 2003 الاحتجاج على اقامة هذه القواعد في امارة قطر حيث يحمل جنسيتها، وانه أيد التفجيرات التي شهدتها خطوط مواصلات لندن منتصف عام 2005 وأودت بحياة اكثر من خمسين راكبا، وسرعان ما انتقد التعريض بحياة المدنيين..


الزيارة الأخيرة للرئيس الاسرائيلي شمعون بيريز لقطر
واستقبال أمير قطر له


وانه حتى اللحظة لم يتعرض الى الوجود الدبلوماسي والتجاري الاسرائيلي في الدوحة فيما كفّر العواصم العربية التي استقبلت باراك واقامت علاقات دبلوماسية مع اسرائيل.

من هذه الزاوية لم يكن الشيخ يوسف القرضاوي بعيدا عن تصدع وتناقضات العقيدة التكفيرية المسلحة وخيبة الجمهور المتعاطف الذي كان في غالبيته من اتباع المذهب السني، واقلية من الشيعة العقائديين والقوميين والبعثيين، فقد كانت حاضرته في الدوحة مرجعا للاستشارة من قبل المنشقين عن القاعدة، والفارين من طالبان، وكان في قلب الصراع، ليس كمراقب، بل كمشارك في ما تقتضيه حسابات المستقبل، فلا يمحض القاعدة تأييده، ولا يوافق على التصدي لها.. لا يتهمها بالاسم حين يتحدث عن التطرف، ولا يذكرها بالموصوف حين يتحدث عما كان يسميه واجب الجهاد في سبيل الله.. يجيّش ضد القوات الامريكية التي يقول انها غازية لارض العرب والمسلمين ويسكت عن القوات الامريكية التي لا تبعد عن منزله في الدوحة غير اربعة كيلومترات.. ينافح ضد الغزو الثقافي الاجنبي في مقالات ودراسات وخطب رنانة فيما يُرسل ابناءه للدراسة واغتراف الثقافة في لندن ونيويورك.

أما نشاطات القرضاوي واتصالاته خارج الدعوة فقد اتسمت بالحذر والتوازن والانضباط، سمحت له ان يكون ضيفا مقبولا ومحتفى به في طهران ولندن والقاهرة والرياض على ما بين هذه العواصم من تجاذبات ومشاكل وحساسيات، وصارت اراؤه ومواقفه مادة لتحليل اتجاهات "الصحوة الاسلامية" في معاهد التحليل والدراسات الاستراتيجية.

وفيما انحسرت هجمات القاعدة (او تلاشت) ضد الاهداف العسكرية للقوات الاجنبية في العالم الاسلامي (لا وجود لها في اسرائيل) فقد كانت المذابح المروعة والتفجيرات والهجمات الانتحارية واعمدة الدخان التي حصدت الالاف من المدنيين الامنين في كل مكان، من العراق الى بالي الى مدريد، تقدم الاسلام الى الرأي العام العالمي بوصفه دعوة للكراهية والعنف، وتقدم المسلم نموذجا للارهابي الذي يجدر نبذه والارتياب حياله، الامر الذي انعكس في سلسلة قوانين واجراءات وتضييقات على دور العبادة والمتدينين في اوربا (لنتذكر الرسوم الكاركاتيرية التي اعتبرت مسيئة للدين الاسلامي) فضلا عن الحروب والصراعات الداخلية التي شملت الكثير من الدول الاسلامية واضعفت حركة التنمية فيها وافقرت ملايينها وعزلتها عن العالم، كما شملت المنظمات والواجهات الاسلامية لتصبح موضع شبهة وريبة على نطاق واسع.

وفي غضون ذلك ايضا، ضاقت دعوات التجييش الجهادي الى ادنى منسوب لها، وبات التطرف الجهادي المسلح صفة للعبث والاساءة الى الاسلام بالنسبة الى جمهور عريض من المتعاطفين مع القاعدة ومشروعها الارهابي.. جمهورعانى ايضا من نتائج المواجهات واعمال التخريب والقتل المجاني وكفر بشعارات الجهاد (انقلاب عشائر غرب العراق) فيما بقيت حثالة محترفة منبوذة من الارهابيين تدير، من افغانستان وبعض مناطق العراق، صيغة آخر معارك الجهاد التكفيري المسلح.

من هذه الزاوية ينبغي النظر الى حركة القرضاوي الجديدة ضد الطائفة الشيعية، حيث انطلقت من نقطة اندحار فكر الارهاب ومشروعه لغرض الإمساك بالجمهور العريض، المضطرب، الموالي للقاعدة والتطرف قبل ان ينصرف بعيدا، خارج الحضيرة..
خارج الانضباط.. ولم يكن هذا التجييش غير محاولة افتتاحية ليصبح القرضاوي وريثا، بلا منازع، لاسلاب القاعدة.

ــــــــــــــــــــــ
كلام مفيد:

"في الوقت الذي تكون فيه الكذبة تركض حول العالم، تكون الحقيقة ما زالت ترتدي احذيتها" (جوناثان التر).

[email protected]