على ضفاف نهر اليانغتسي* - يوميات عراقي في الصين / 27



كتابات - عدنان جبارالربيعي



" لابد لي في الحياة أن أجد بين كل إثنين معلما " - كونفشيوس



في طفولتي كنت أنظر إلى معلمي كملاك !

لم أكن لأصدق أن هذا الرجل الذي يرتدي بدلة رسمية وربطة عنق دائما من الممكن أن يأكل الطعام كباقي البشر أو يمشي في الأسواق !

كنت أظن أنه كالشمس يشرق صباح كل يوم في المدرسة ويغرب عند إنتهاء حصص الدروس دون أن أعرف إلى أين ( يتوارى )

بقيت تلك الصورة راسخة ببالي حتى شاهدت يوما معلمي وهو يقود طفلته الصغيرة في شارعنا دون ربطة عنق !

أدركت حينها أن معلمي من البشر وبدأت أفكر كباقي زملائي في اليوم الذي أقف فيه معلما معتقدا أن العالم ليس فيه إلا إثنين فإما أن يكون طالبا صغيرا أو معلما حين يصبح رجلا !



حل عيد المعلم في الصين في العاشر من أيلول

لم أكن أعرف أن للمعلمين يوما هنا قبل ذلك الحين حتى أخبرني أحد الأصدقاء الصينيين بأنه ينوي زيارة أستاذي المشرف في بيته ليلة عيد المعلم في بيته برفقة الأصدقاء داعيا إياي للذهاب معهم وفرحت بتلك الدعوة شاكرا لصديقي تنبيهي لتلك المناسبة مقررا إصطحاب زوجتي وطفلتي معي في زيارتنا تلك ..

ما زلت أذكر ذلك اليوم الذي إلتقيت بأستاذي أول مرة في الجامعة حين رشحوا لي مشرفا يستطيع التحدث باللغة الإنكليزية بطلب مني .. شاهدت التواضع والبساطة في ذلك العالم الذي يحمل لقب البروفيسور ثم تواصلت لقاءاتي به حتى طلبت منه ذات يوم تخصيص مكان لي في غرفة المختبر وتوفير حاسوب ألكتروني قبل بدء المباشرة ببحث التخرج .. كنت أظن حينها أن الأمر سيستغرق أياما طويلة لكنه فاجأني بتوفير ذلك خلال نصف ساعة فقط !

بدأ أستاذي حينها بترتيب مكاني بنفسه .. حمل أولا مجموعة كبيرة من الكتب التي كانت تصطف على المنضدة وبدأ يساعدني في حمل جهاز الكومبيوتر ثم فوجئت به وهو يحمل مكنسة محاولا تنظيف أرضية المكان بنفسه !

لم أحتمل ذلك المشهد فأسرعت لأخذ المكنسة من يده شاكرا إياه على تواضعه الكبير فما كان منه إلا أن ذهب مهرولا لجلب سلة النفايات !

تساءلت في سري وأنا أنظر إلى تواضع ذلك الأستاذ الكبير عن سبب عجرفة الكثير من حملة الشهادات العليا في بلداننا العربية وعن إعتقاد أغلبهم في وطني أن الناس يجب أن يسخروا لخدمتهم !

لقد لمست هنا بحق صدق تلك الحكمة الصينية القديمة التي تقول بأنه كلما كبرت السنبلة إنحنت وكلما إزداد العالم علما تواضع



في الجامعة انتشرت سلال الزهور الرائعة التي تهدى في مثل تلك المناسبة ..

إتفقت مع أصدقائي الصينيين أن يكون موعد ذهابنا إلى بيت الأستاذ المشرف بعد تناول طعام الإفطار مباشرة ، إذ أننا ما زلنا ، حينها ، في شهر رمضان ، وكان عليّ شراء هدية مناسبة لأستاذي قبل الذهاب إلى بيته ليلا

في السوق كان الناس يتزاحمون لشراء ( كعك القمر ) إستعدادا لعيد منتصف الخريف الذي سيصادف حلوله اليوم الخامس عشر من شهر رمضان وهناك وقع إختياري على علبة فاخرة من الشاي الأخضر الصيني



يحتل المعلم في الصين مكانة متميزة وتعد مهنة التدريس هنا من أكثر المهن المحترمة بل يعده الناس هنا مهندس روح وهناك عدد كبير من الحكم التي يتداولها الصينيون والتي تدل على عظيم الإحترام للمعلم فهناك حكمة تقول ( من علمني حرفا فهو أبي مدى الحياة ) و (من كان لي معلما يوما غدا لي صديقا دوما ) فيما تعكس الحكم الأخرى أهمية العلم والتعلم : ( لا تخجل مما لا تعرف بل إخجل مما لم تدرس ) وأن ( الرجل الذي لا يتعلم شأنه شأن الأرض الجرداء التي لا تنبت شيئا ) و ( أثمن الأشياء في الدنيا ثلاثة : العلم والغذاء والصداقة ) و( جمال الطير في ريشه وجمال الرجل في علمه (

ويعود سبب إختيار يوم العاشر من أيلول عيدا للمعلم هنا إلى العام 1984 حين تقدم أحد رؤساء جامعة بكين الطبيعية بمقترح أن يخصص ذلك اليوم للإحتفال بعيد المعلم في الصين وقد أقرت الحكومة الصينية ذلك في العام 1985



تمتلك الصين الآن نظاما تعليميا يعد الأكبر حجما فى العالم و تعتبر أكبر دول العالم من حيث عدد الذين يتلقون التعليم فى مختلف المراحل فقد تجاوز200 مليون نسمة بينما بلغ عدد المعلمين والمعلمات في الصين في العام 2003 ، على سبيل المثال ، 613,000 ألف معلم ومعلمة لرياض الأطفال و5.7 مليون للمدارس الإبتدائية و 4.5 مليون لمدارس التعليم الثانوي العام و199,000 ألف للمدارس الثانوية و 289,000 ألف للمدارس الزراعيةَ والمهنية و 30,000 ألف للمدارس الخاصة فيما بلغ عدد أساتذة الجامعات 725,000 ألف فقط !



توجهت مع زوجتي وطفلتي إلى الجامعة بعد الثامنة مساء للقاء الأصدقاء الذين وقفوا بإنتظاري عند نقطة محددة وقد جلب عدد منهم بعض الهدايا والعلب الفاخرة ثم تحركنا راجلين بإتجاه شقة الأستاذ التي تقع داخل الجامعة يتقدمنا أحد الزملاء وهو يحمل سلة زهور كبيرة ..



في الشقة كان أستاذنا بإنتظارنا وحين وصلنا إستقبلنا بحفاوة بالغة ولم تفارق شفتيه إبتسامته المعتادة المحببة ...

إحتفى أستاذي بطفلتي بشكل خاص ولم يستقر لحظة دون أن يأتي لها بشيء ما .. أتى لها أولا بطبق من التفاح الذي قشره وقطعه لها بنفسه ، ثم أتى لها بطبق من الحلوى ، ثم ما لبث أن غاب فجأة ليأتي لها بمروحة يدوية أنيقة !

ثم قدم لنا أقداح الشاي الصيني الأخضر جالسا بيننا معتذرا عن صغر الشقة وبساطة المكان وهكذا تجاذبنا أطراف الحديث ليسألني عن الأماكن التي زرتها في ووهان ثم ليدعوني للإنضمام إلى بعض الفعاليات الرياضية التي يقوم بها مع طلبته أسبوعيا وقال إن ذلك يجعلنا نعيش كأسرة واحدة واعتذرت عن الإنضمام إليهم لغاية نهاية شهر رمضان وحين سألني عن السبب أوضحت له بأننا ، كمسلمين ، نصوم طيلة أيام هذا الشهر فأجابني متسائلا إن كنا نمتنع عن أكل اللحوم فقط في هذا الشهر ؟ وأجبته بأننا نمتنع عن أكل وشرب أي شيء منذ شروق الشمس وحتى غروبها ففوجئ بذلك كثيرا واستفسر ضاحكا إن كنت جادا في ذلك لأنه لا يصدق أن شخصا يمتنع بملء إرادته عن تناول أي شيء خلال يوم كامل !

وهكذا كان رد فعل الأصدقاء وبدأت أشرح للجميع فوائد الصوم وأثره الإيجابي على الفرد والمجتمع



كنت أنظر إلى عظيم إحترام زملائي وجميعهم كان من طلبة الدكتوراه والماجستير لأستاذنا فيما رافقنا أستاذ آخر كان قد تتلمذ على يده في الماضي .. لم يكن صوت أحد ليعلو أبدا ولم يكن أحدا منهم ليتكلم إلا بعد إستئذانه بالتحدث بكلمات خجولة

أخيرا طلبت من أستاذي إلتقاط عدد من الصور معه قبل الخروج فطلب مني ضاحكا الإنتظار لدقيقة واحدة دخل بعدها إلى الغرفة وخرج بوجه محمر خجلا وهو يرتدي قميصا جديدا وقابله زملائي الطلبة بموجة من الضحك المحبب وإنتهت زيارتنا بإلتقاط العديد من الصور التذكارية ...



بعد أيام كان لي عدة لقاءات مع أستاذ آخر لأحد المواد الدراسية التي لم أنته منها بعد وكان ذلك الأستاذ قد آثر أن يعطيني المحاضرات منفردا باللغة الإنكليزية في غرفته الخاصة في إحدى البنايات التي لم أكن أعلم بوجودها ولم أرها في الجامعة رغم مرور عام كامل على وجودي فيها .. إكتشفت وجود ملاعب جديدة وساحات ومبان وأحياء سكنية جديدة وأدركت حينها وأنا أتبع دراجة أستاذي ممتطيا دراجتي عظيم مساحة تلك الجامعة وتعدد مبانيها وساحاتها وملاعبها وبحيراتها ..



ذات يوم سألني ، في فترة الإستراحة ، عن مدينتي في العراق فأخبرته بأنني من بغداد فقال لي بأنها مدينة مشهورة جدا سائلا إياي عن تاريخها وأخبرته بأنه يعود إلى ما يقارب 1300 عام وحين سألته عن مدينته هو أجابني بأنه من مدينة ( تشو تسون ) في مقاطعة ( شاندونغ ) التي تقع شمال الصين وأخبرني بأن مدينته تعد نقطة الإنطلاق لطريق الحرير القديم منذ 2000 سنة إذ يعد الحرير رمزا لمدينته بشكل خاص كما يعد الحرير رمزا للصين بشكل عام إذ أن الغربيين بدأوا التعرف على الصين من الحرير، وسموا هذا البلد البعيد في الشرق ( بلد الحرير ) وقال لي أن بإمكانه القول بأن حضارة مدينته مدينة ( تشو تسون ) إعتمدت على إنتاج الحرير وتجارته

ثم قال لي بمزيد من الفخر بأن فيلسوف الصين العظيم ( كونفشيوس ) من مواطني مقاطعة ( شاندونغ ) وبالتحديد من مدينة تشيويفو وعن كونفشيوس والكونفشيوسية ومدينة تشيويفو سيكون حديثنا القادم ....