على أكتاف سور الصين العظيم - يوميات عراقي في الصين - 2


كتابات - عدنان جبار الربيعي



" مات الآلاف من شدة البرد والجوع والتعب والأمراض،

فدفنت جثثهم داخل الأسوار،

وعرف السور العظيم بعدها بجدار الدموع ..."





ها أنذا أقف أخيرا على سور الصين العظيم الذي طالما حلمت بأن تطأ قدماي أحجاره

أفرك عينيّ جيدا لأصدق ما أرى أمامي من بناء يمتد عبر سلاسل الجبال على إمتداد البصر

أقف مذهولا وأفكر .. كيف بني هذا السور ؟ ولماذا ؟

أي قوة عظيمة جعلت من تلك الجموع صانعة لتلك العجيبة من عجائب الدنيا السبع ؟



في صباح يوم من أيام شهر تموز خرجنا مبكرين قاصدين سور الصين العظيم .. قال لي أخي الأكبر أن الطريق إلى أحد أهم المواقع الشهيرة في السور يستغرق ساعتين إنطلاقا من الحي الدبلوماسي في العاصمة بكين ..

كنت مرتبكا وأنا أجلس في السيارة مفكرا بأهمية ذلك الحدث الذي سيجعلني في عداد من زار ذلك السور .. سأقف حيث وقف أبرز الشخصيات التي زارته من قبل .. سألتقط العديد من الصور هناك وسأصيخ السمع لوقع أقدام المحاربين القدامى ناظرا حبات العرق النازلة على وجوه من ساهم في بنائه ليظل خالدا هكذا ممتدا مع تعرجات الجبال وعلى قممها الشامخة ...



كانت السيارة تقطع الشوارع بإتجاه قطاع ( بادلينغ ) أكثر قطاعات السور متانة والأفضل حفظا .. بدأت العمارات الشاهقة تختفي ولم يتبق أخيرا سوى الشوارع العريضة ومساحات شاسعة من الأراضي التي تمتد حتى سلاسل جبال خضراء بعيدة

كنت قد إستيقضت مبكرا قبل الجميع لأقرأ بعض المعلومات عن السور ووددت في البدء معرفة الرجل الذي أمر ببنائه فإذا بي أتعرف على َمنْ سميت الصين بإسمه ، وفي السيارة بدأت أروي الحكاية كاملة لمن كان معي في الرحلة ...



تقول القصة أنه في القرن الثالث قبل الميلاد كانت الأراضي التي تعرف بـ( كل ما تحت السماء ) منطقة حروب دائمة فقد كانت الممالك السبعة تخوض حربا طاحنة فيما بينها بلا كلل على السلطة .. نشرت جيوش النهب والسلب الدمار في جميع الأرياف ، وكانت مواسم الفلاحين المكافحين في سبيل البقاء على قيد الحياة تصادر بكاملها و كثيرًا ما كان يحدث ما هو أسوأ إذ كانت زوجاتهم تسلب وبناتهم ويجبر أبنائهم على الخدمة في الجيوش الغازية ذلك الحين .. لجأ بعضهم إلى كهوف الجبال ولكن لا مفر، فقد كان قدرهم الموت كمشاة في ساحات المعارك ..

دامت حرب الممالك المتحاربة أكثر من 250 عاما حتى برز إسم الإمبراطور ( تشين شي هوانغ ) الذي إستطاع ، عبر مزيج من القسوة والدبلوماسية ، وقبل أن يبلغ الخامسة والعشرين من عمره أن يهزم الملوك الستة الآخرين ويضع الدول الصينية جميعا تحت إمرته جاعلا من هذه الممالك المتحاربة مملكة متحدة متعددة القوميات تحمل إسمه ، وهكذا ولدت ( الصين ) ، ثم قرر أن يحمي إمبراطوريته الجديدة بتشييد أضخم بناء صنعه الإنسان في العالم ( سور الصين العظيم ) ...



كان ( تشين ) إبنا غير شرعي ، إعتلى العرش حين بلغ الثالثة عشرة من عمره ، وصفه أحد معاونيه بأنه : ( كان عديم الرحمة ، في صدره قلب نمر أو ذئب ، من السهل عليه حين يواجه المشاكل أن يكون متواضعا بسيطا ، أما وهو يحقق النجاحات فكان من السهل عليه أن يأكل لحوم البشر ! )

كان الإمبراطور الأول يعلم أن عليه إجراء بعض التعديلات الجذرية ، تغيرات لا تترك المجال لمنافسيه بالتمرد عليه...أراد أن يغير سبل الحياة على طول الصين وعرضها ، كان مزارعو الشمال يعيشون دائماً حياة الرحل فأجبرهم ( تشين ) على الإستقرار، وهكذا أصبح من السهل فرض الضرائب عليهم ، ثم ربط الأنهر والجداول الكبيرة عبر بعض القنوات ليؤسس بذلك أدق نظام إتصالات مائية عبر الأنهر في العالم

أنشأ ( تشين ) الطرق لمرور جيوشه وأسلحته إلى جميع أنحاء الإمبراطورية ، ووضع الضرائب على العربات بحيث يمكن جمعها بسهولة، كانت العربات تمر عبر تلك الشوارع ما جعل عملية التنقل أسرع ، وهكذا أحكمت الإمبراطورية سيطرتها على إنتاج المزارع وتجارة الأسلحة على طول الإمبراطورية وعرضها وكانت كل الشوارع تنطلق من عاصمة الإمبراطورية...



في الطريق سارت السيارة بنا داخل نفق طويل ، أنير سقفه المقوس بصفين من المصابيح الكبيرة ، مخترقا أحد الجبال الهائلة .. أشارت لوحة عند مدخل النفق أن طوله يبلغ 120 مترا.. أحسست بشعور غريب وأنا أمر مرورا سريعا من تحت جبل !

كنت أنظر إلى الشوارع الحديثة المنطلقة من العاصمة بكين بينما كان ذهني ينصرف لرؤية شوارع الإمبراطور القديمة وأنا أكمل بقية الحكاية ..



كان الإمبراطور ( تشين ) يؤمن بـ ( أن الإنسان كائن شيطاني في طبعه وأنه يحتاج إلى سلطة شيطانية تفرض النظام عليه) ، بخلاف ما كان يؤمن به أكثر رجال البلاط حكمة ممن يتبعون مباديء ( كونفشيوس ) الذي كان يقول: ( إن على الإنسان أن يصنع الخير وإن على الحاكم أن يكون المثل الأعلى في الحكمة وعمل الخير) ما كان للمبدأين أن يتعايشا معا ، فحدثت المواجهة بين الإمبراطور والحكماء الذين بدأوا بمساءلته أمام العامة ..

قام ( تشين ) بانتزاع القلب الفكري من إمبراطوريته فأطلق الحرب على الماضي معلنا نهاية التاريخ من وجهة نظره وأحرق جميع الكتب ، معتقدا بأنه إذا تمكن من تدمير تاريخ الصين الرسمي فسيكون بإمكانه تأليف نظريته الخاصة عن الماضي و هكذا بدأ الإمبراطور بالتدمير المنهجي بكل ما يتعلق بالتقاليد القديمة لكونفشيوس ثم حاصر الحكماء متهما إياهم بتشويه الماضي وتزييفه ولكي يقدم نموذجا لما تبقى من حاشيته ، أمر بدفن أربعمائة وستين مفكرًا وهم أحياء ، هادفا من وراء هذا الإرهاب قمع كل أشكال المعارضة ..

علم تشين أن قتل المفكرين لن يمنحه سوى مزيد من الوقت فأعداؤه في الشمال ( المنغول ) كانوا يشكلون تهديدًا مستمرًا فألهمه ذلك للقيام بإنجازه الذي نتوجه إليه ، قاصدين زيارته ، ( السور العظيم )



في العام الرابع عشر بعد المائتين قبل الميلاد وجه ( تشين ) أمرًا لـ( مين تين ) أكثر جنرالاته ثقة بأن يوسع ويوحد الأسوار التي بنتها كل مملكة سابقة حول الحدود الشمالية لإمبراطوريته فيحولها إلى خطوط دفاعية واحدة..

أجبر مئات الآلاف شخص من الأيدي العاملة بين فلاحين ومفكرين وحكماء وجنود فارين وأسرى حرب على العمل المتواصل في بناء السور العظيم الذي إمتد عبر الجبال والتلال والصحارى ..

مات الآلاف من شدة البرد والجوع والتعب والأمراض، فدفنت جثثهم داخل الأسوار، يعتقد الصينيون أن أرواحهم ستعمل حراسًا ضد أعداء الشمال ، فعرف السور العظيم بعدها بجدار الدموع ..



تم أولاً بناء إثني عشر برجًا كدست فيها المؤن لتقاوم حصارًا يدوم أربعة أشهر، وقد تم ربطها باستحكامات يبلغ إرتفاعها ستة أمتار.. أصبح بالإمكان إرسال الأوامر والرسائل عبر مئات الأميال لأن الأبراج كانت مترابطة ببعضها بحيث يمكن أن تغطيها أسهم الرماة ، وقد ثبت البناءون منارات فوق أبراج إرشاد عبر مسافات تقارب الأحد عشر ميلاً تشتعل على مدار أربع وعشرين ساعة

شكل السور العظيم نظام إتصالات ممتاز بحيث كانت الوحدات العسكرية تتحرك بسهولة بين جهة من الإمبراطورية وأخرى، وتمكن الإمبراطور ( تشين ) ببراعة تامة من وضع أول جيش له لحماية السور ليؤكد بقاءها بعيدًا جدًا عن عاصمة الإمبراطورية وهي قادرة على سحق أي تمرد شعبي ..

كان بناء السور ضربة عبقرية تمكنت على الأقل من إحكام سيطرة ( تشين ) على إمبراطوريته وقد أثبتت أنها حدود نفسية ومادية حاسمة ..



بعد أن تمكن تشين من هزيمة أعدائه عاش أسير هواجسه بتحقيق الخلود الذي ظن أنه قادر على إحرازه ، في بحثه المستميت عن إكسير الحياة ... كان يجرب دائمًا الجرعات التي يحملها إليه الكيميائيون والسحرة العاملون لديه ، وكان بعض هذه الجرعات يحتوي على مواد سامة جدًا كالزئبق والفوسفات وقد مات أثناء جولة كان يقوم بها داخل إمبراطوريته ...



كان الإمبراطور قد أمر ببناء مقبرته الشهيرة الكبيرة ، وهو على قيد الحياة ، معتقدا بأن جيوشا من الطين سوف تتولى حمايته بعد موته فكان آلاف الجنود بحجمهم الطبيعي ينتصبون هناك بثيابهم القتالية وخيولهم وعرباتهم وقد أجبر أكثر من سبعمائة ألف عامل وحرفي على العمل في بنائها ..



تذكرت وأنا أصل إلى ذلك الفصل المهم من الحكاية ، ذلك اليوم ، في ووهان ، حين أخبرني أحد الأصدقاء العراقيين بزيارته لمقبرة الإمبراطور( تشين ) في مدينة ( شيآن ) عاصمة إقليم ( شنشي ) شمال غرب الصين حيث وصف لي المقبرة وأراني صورا إلتقطها لها هناك ..

وتابع صديقي روايته لي ، حينها ، موضحا أنه ذات يوم من شهر آذار 1974 إكتشفت المقبرة التي هزت العالم ، مصادفة ، من قبل مزارع كان يقوم بحفر بئر في الحقل ! ولقبت الـ8000 تمثال ، التي وجدت ، من الجنود والخيول والعربات الحربية الصلصالية بالحجم الواقعي بـ( الإعجوبة الثامنة في العالم )



وفي العام 2007 أعلن علماء الآثار إكتشافهم لوجود مبنى ترابي في المقبرة ، بإستخدام تقنية الإستشعار من بعد ، شبيه بالهرم إرتفاعه 30 متر يقع فوق الهيكل الرئيسي للقبر تحت الأرض بمسافة 51 متر محاط بأربعة جدران شبيهة بالسلالم ، وإعتقد العلماء أنه بني لخروج روح الإمبراطور !

ثم ذكر لي صديقي بأنه شاهد رجلا مسنا قد أحاط به الناس وإتضح فيما بعد أنه ذلك المزارع الذي إكتشف المقبرة .. كان الرجل مشغولا بإمضاء توقيعه على الكتب التي تتحدث عن المقبرة لقاء مبلغ باهض !

وقال لي صديقي ضاحكا أنه ومنذ إفتتاح المقبرة عام 1979 أصبح ذلك المزارع الفقير من الأثرياء بفضل تلك المصادفة وتلك الإمضاءة النادرة !



من بعيد لاحت لنا جبال خضراء إنتصبت على قممها أجزاء من سور الصين .. أبهرني ذلك المنظر كثيرا ، وحين وصلنا أحد المداخل الرئيسية للسور بدأت رحلتنا المثيرة التي ستكون مادة لحديثنا القادم ، إن شاء الله ، لنرى ما أبدع ذلك الشعب من بناء عظيم ....

الصين - بكين