[grade="000000 008000 4b0082"] العمل المصرفي بين الأمس واليوم [/grade]




عبدالهادي صادق

لا اريد ان استعرض تاريخ المصارف في العراق ولكن لي بعض الاسطر يمكن من خلالها التعرف على واقع العمل المصرفي بالامس واليوم. استهواني العمل في المصارف وانا فتى في الرابعة عشر من العمر، اذ كان والدي يصطحبني الى المصارف بحكم عمله التجاري وكان مما يستهويني في الواقع تلك الابنية الجميلة والاسماء اللامعة التي تشير اليها اللوحات على تلك الابنية، البنك العثماني والبنك الشرقي والبنك البريطاني للشرق الاوسط ويقف شامخا في المقدمة مصرف الرافدين بطوابقه الاربعة. وعندما ترعرعت اصبحت اتعامل مباشرة مع المصرف مكلفا بانجاز بعض الاعمال لاحظت اناقة الموقع واناقة موظفيه من الجنسين مع لطف ولباقة في الحديث كان ذلك هو العصر الذهبي للمصارف وتخرجت من الجامعة والتحقت باحد المصارف موظفا فيه في سنة 1969 وانذاك كان الذهب قد بدأ يفقد بريقه واستحال الى حديد يعلوه الصدأ وجئنا اليوم لنزيل الصدأ عن الحديد ونعيده ذهبا. هذه مقدمة تعكس بايجاز ما كانت عليه المصارف قبل عقود خلت وما اصبحت عليه، الا انه ينبغي الاشارة الى احداث مهمة في تاريخ المصارف في العراق اثرت تأثيرا مباشرا على اوضاعها جاءت الضربة القاصمة في تموز 1964 وذلك بتأميم المصارف الخاصة في قرارات طالت شركات صناعية وطنية وشركات تأمين ولم يكن قرار تأميم المصارف في رأيي ـ يستند على اسس علمية ـ وذلك بسبب ان اداء المصارف كان اداء عقلانيا وكان وجودها يبقي حالة المنافسة المشروعة فيما بينها وبين مصرف حكومي عملاق هو مصرف الرافدين الذي تأسس سنة 1941 وكان من الممكن ان يكون البديل في حينه هو تعزيز واحكام رقابة البنك المركزي العراقي عليها ومعالجة الثغرات التي يمكن ان تنفذ منها تلك المصارف لتمرير عمليات غيير سليمة ان وجدت، وبذا بدأ دور الدولة في الهيمنة على قطاع المصارف، وبعد عمليات دمج متعددة اصبح مصرف الرافدين اللاعب الوحيد في ساحة الصيرفة التجارية احتكر النشاط المصرفي في جو خلا من المنافسة تماما مع وجود ثلاثة مصارف حكومية متخصصة وعلى الرغم من ان عددا كبيرا من العاملين في المصارف الخاصة انتقل تلقائيا الى مصرف الرافدين، الا ان البيروقراطية والروتين وتدخل الدولة انعكس سلبا على مستوى الاداء وجاءت الحرب العراقية الايرانية.
والحدث الثاني هو تأسيس مصرف حكومي يبدأ عمله خاليا من اية التزامات ويمكنه الدخول في اتفاقات مالية خارجية، تأسس مصرف الرشيد في اواخر 1988 منشطرا عن مصرف الرافدين وباشر عمله في 1989/1/1 فانشأ هذا المصرف علاقات مع معظم مصارف العالم ومارس اعمال التحويل الخارجي وفتح الاعتمادات المستندية واصدار خطابات ضمان خارجية واستثمر امواله في مصارف عالمية وسعى الى فتح فروع له في الولايات المتحدة الامريكية وتركيا كما تعاقد مع احدى المؤسسات الامريكية لاجراء تطوير وتحديث لاساليب العمل وادخال النظام المصرفي الشامل وسارع بخطوات حثيثة في هذا المجال، وجاء دخول القوات العراقية الى الكويت وتوقفت المسيرة.
الحدث الاخر في تاريخ المصارف في العراق، هو ان الدولة اجازت في اوائل التسعينيات من القرن الماضي ـ وبعد فوات الاوان ـ انشاء مصارف عراقية خاصة على شكل شركات مساهمة لخلق حالة من المنافسة وكعودة لما كان عليه الحال قبل تموز 1964، الا ان تلك المصارف نشأت في بيئة تحد من حركتها وتقيد نشاطها بسبب الحصار والقيود المفروضة على التحويل الخارجي ولم تزاول العمل المصرفي بمعناه الحقيقي. وجاءت احداث نيسان 2003 لتحدث تغييرا ستراتيجيا في توجه الدولة الى اقتصاد السوق بعد ان كان العراق لفترة طويلة يعتمد مايسمى بالاقتصاد الموجه وهيمنة الدولة على النشاطات الاقتصادية الى ابعد مفاصلها، وهذا التغيير الستراتيجي اوجب اصدار التشريعات والتعليمات واللوائح التي تتفق مع هذا التوجه، فصدر قانون البنك المركزي العراقي وقانون المصارف وقانون الاستثمار ورفعت القيود عن التحويل الخارجي وحررت اسعار الفائدة، كل ذلك اثر على واقع العمل المصرفي واوجب على المصارف اتخاذ الاجراءات والترتيبات التي من شأنها ان تتناغم مع المستجدات ما جعلها ملزمة بالتكيف لمناخ جديد والا فعليها ان تترك الساحة، الا اننا في نفس الوقت ندعو السلطة النقدية وهي الراعية للجهاز المصرفي ليس للتساهل في مراقبة المصارف وانما لامهالها بعض الوقت لتعيد ترتيب اوضاعها وهذا لايتم الا عبر مناقشات ودية معها للوصول الى حل مقبول يحقق الهدف.
ان المصارف الخاصة لها القدرة على التكيف مع الواقع الجديد لما تتمتع به من حرية في اتخاذ القرارات السريعة متجاوزة الروتين الذي يتسم به العمل في المصارف الحكومية اذ نرى ان المصارف الحكومية واجهت صعوبة في التكيف بسرعة وذلك للتركة الثقيلة الموروثة عبر سنوات عديدة، الا انها ملزمة للتكيف وذلك يتطلب وضع خطة ستراتيجية شاملة للاصلاح المالي والتشغيلي ولابأس من الاستعانة بجهات عراقية في وضع الخطة كوزارة المالية والبنك المركزي العراقي ووزارة التخطيط وديوان الرقابة المالية واية جهات عراقية يمكن ان تشارك في ذلك. ففي الاصلاح المالي يتطلب اعادة تقييم موجودات ومطلوبات المصرف كافة والالتزام بالمعايير الدولية في المحاسبة واعتماد مبدأي الشفافية والافصاح والاتزام بمقررات بازل، لكي يتم الوصول الى وضع مالي حقيقي وشفاف يعكس بوضوح الواقع الفعلي لوضع المصرف المالي وكفاءة رأس ماله وبالتالي وفي ضوء ذلك يمكن اعادة الهيكلة المالية وفق المعايير والاسس والمبادئ المذكورة. اما الاصلاح في اعادة الهيكلة التشغيلية فيتطلب اعادة النظر في الهيكل الاداري للادارة العامة والفروع والموارد البشرية عدداً وكفاءة ووضع خطة واسعة للتدريب لمختلف المستويات الادارية خاصة في فن الادارة وادارة المخاطر والتسويق والدبلوماسية واللغة الانكليزية باعتبارها اللغة السائدة في العمل التجاري والمصرفي الدولي وكذلك وضع نظام حوافز للعاملين على اسس علمية هادفة والتدريب على استخدام الحاسوب والاجهزة المكتبية الحديثة، كما تتطلب وضع وصف للوظائف وشاغليها واعادة النظر في هيكلية مجلس الادارة وكذلك السعي الى تحسين مواقع العمل بكل ما تعنيه هذه الكلمة.
كما تتطلب اعادة الهيكلة ايجاد مصادر تمويل متنوعة، كشهادات الايداع وسندات القرض وودائع طويلة الاجل وادخال خدمات مصرفية حديثة، والبحث عن اوجه استثمار امنة ورابحة ومتنوعة وفتح منفذ للصيرفة الاسلامية (التي بدأت تنتشر انتشارا واسعا في بعض الدول العربية والاوروبية والولايات المتحدة) واعادة النظر في اسس ومبادئ منح الائتمان والالتزام باللائحة الارشادية واحكام الرقابة على تبييض الاموال واعادة النظر في مرتكزات وبرامج الرقابة الداخلية وتفعيل دور مكتب الامتثال والسعي لفتح قنوات مع العالم الخارجي واخضاع جميع معاملات دوائر الدولة الى العمولات والاجور واعادة النظر باسعار الفوائد والعمولات والاجور بين حين واخر بمراعاة الكلف الادارية والمخاطرة واسعار المنافسين، ووضع خطة لاستعادة الديون المتعثرة والسعي لدى الجهات ذات العلاقة لانشاء محكمة خاصة تنظر في دعاوى المصارف توخيا للسرعة في اتخاذ القرارات، وتزامنا مع ذلك كله السعي للحصول على نظام مصرفي شامل معزز بشبكة اتصالات كفوءة واستخدام الصــراف الالي واصــدار بطاقات الائتمان.
وختاما، نود ان نبين بان المصارف الحكومية ما لم تتخذ الاجراءات الكفيلة بالاصلاح المالي والتشغيلي فانها ستراوح في مكانها وستتسع الهوة والفجوة بينها وبين المنافسين الحاليين والقادمين وستضطر الى مغادرة الساحة ـ فالبقاء للاصلح ـ تاركة لغيرها لعب الدور والوظيفة الاقتصادية والاجتماعية للمصارف.