بدر شاكر السياب
1926 - 1964م

قدم بدر شاكر السياب من قرية "جيكور" في جنوب العراق إلى بغداد طالبًا، فصدمته المدينة بصخبها، وتعلق بحياة الريف والقرية. تخرج في دار المعلمين العالية في بغداد سنة 1948 متضلعًا في الأدب الإنكليزي، كما تثقف بالأدب العربي وبخاصة المتنبي والجاحظ وأبو العلاء المعري، الذين كان يُلقبهم بالعمالقة الثلاثة‍‍.
مرّ بدر بهذه الدنيا مرورًا سريعًا، على مدار تسع وثلاثين سنة، كانت مسرحًا للألم والإنفعال، فحُرم حنان الأم صغيرًا، وعاش فقيرًا، مريضًا مشردًا، يسعى وراء تيارات سياسية ثائرة، فتخبط بكثير من المحن وقد صقل شعره العذاب، فراح يذوب حنينًا لاهبًا إلى عطف أمه وإلى مسقط رأسه جيكور. كما صار يتحسس آلام الفقراء والمظلومين، منطلقًا من حدود الزمان والمكان إلى التجربة الشعرية الفذّة.
يضعه الشعراء في المرتبة الأولى من رواد الشعر الحديث، بما فيه من تجدد وطابع خاص.
أشهر دواوينه: "أزهار وأساطير", "المعبد الفريق", "منزل الأقنان", "أنشودة المطر"، و" شناشيل ابنة الجلبي".
تأثر السّياب لغةً بما قرأه في الآداب العربية القديمة، فجاءت لغته قوية التراكيب، وتأثر في شعره من حيث الفكر والأسلوب بالأدب الإنكليزي وأعلامه، فقاده هذا إلى ابتكار أسلوب جديد في الشعر العربي. فكان بذلك أحد الرائدين الأولين السياب ونازك الملائكة للشعر الحديث، المعروف بالحرّ، لتحرره من قيود العروض والقوافي.
من قصائده:...

نهر العذارى

بدر شاكر السياب
يا نهر لولا منحاك و ما يشابك من فروع ** ما كانت البسمات في عيني تطفأ بالدموع
**
حجبت بالشأو البعيد تسد بابيه الظلال ** وجهاً تلاقي في محياه الوداعة و الجمال
مرآتك الخضراء منذ جلوتها تحت السماء ** ما لاح فيها مثل ذاك الوجه في ذاك الصفاء
**
إن أوقد الليل العميق نجومه في جانبيك ** لّماحة الأضواء تغمر بالأشعة ضفتيك
**
ناشدت ألحاظ الكواكب و هي تخترق الظلام ** الا ينمن و إن تشهّين الكرى حتى تنام:
**
أنتن أسعد ما أظل الكون يا زهر النجوم ** أنتن أبصرتنّ ذاك الوجه في الليل البهيم!
**
حتى إذا ما رنح النجم الأخير سنا الصباح ** فانقضّ تحت القبة الزرقاء مقصوص الجناح
**
أصبحت فوق المعبر المهجور أرقب منحناك ** فأبوح بالشكوى و تسكت عن شكاتي ضفتاك
**
الفتنة السمراء تسرقها مياهك بعد حين:** الشعر و العينين و الثغر المنضّر و الجبين
**
فإذا الهجيرة أطلقتها زرقة الأفق البعيد ** فالظلّ مقصوص الجناح يفرّ من عود لعود
**
سارت إليك بطيئة الخطوات ذابلة الشّفاه** جاءتك ظمأى بالبنان الرخص تغترف المياه
**
كم عدت مخمور الفؤاد بموعد المدّ القريب **جذلان أقتحم الظهيرة بالتطلع و الوثوب
**
التوت فوق الشاطيء الغربي و السّعف الصموت ** لا يجهلان تنهّداتي و هي بينهما تموت
**
و الغاب ساعتي الحبيبة من ظلال عقرباها كم ** أنبآني أن طرفي بعد حين قد يراها
**
و اليوم يسقي مدّك العاتي أواخر كل جزر ** لا ذاك يجلوها و لا هذا بما أرجوه يجري
* *
و اليوم إن سكر الخرير و عاد يحتضن الجرارا !** لم ألق عذرائي فكيف الصّبر يا نهر العذارى ؟