جديته ومثابرته:

كان (رض) جاداً، مثابراً، مكافحاً، حيث يقول: «كنت أعمل في طلب العلم كل يوم بقدر خمسة أشخاص مجدين» إذ أخصص عشرين ساعة من يومي للمطالعة والتفكير والكتابة حتى يرهقني الصداع الشديد لقلة النوم ولفرط العمل».
ويقول عنه السيد الشهيد محمد باقر الحكيم والذي عرفه على مدى اثنين وعشرين عاماً أنه لا يفرط بوقته الثمين بالتردد على المجالس والديوانيات وحضور المناسبات الاجتماعية العامة اللهم إلا مجالس العزاء والواجبات الضرورية لاعتقاده أنها مضيعة لوقته وهدر لطاقته.

عزة نفسه وشموخ كرامته:

كان رضوان الله عليه يعاني الفقر الشديد في أيام تحصيله العلمي لدرجة أنه لا يملك في جيبه عشرة فلوس وتأبى نفسه الشريفة أن يطالب بحقوقه كطالب علم حتى أنه كان يعيش في دار ملاصقة لدار خاله المرجع الكبير الشيخ «محمد رضا آل ياسين» حيث ترده الأموال الشرعية وظروف الشهيد في حالة من العسر والضيق لكن عزة نفسه تأبى عليه أن يطلب من هذا المال وهو له حق.

محاسبة النفس:

كان رضوان الله عليه قمة في محاسبة النفس والتواضع فبعد اشتهار كتاب (فلسفتنا) والدوي الكبير الذي أحدثه هذا الكتاب وشهرة الشهيد الواسعة تمنى لو تم طبعه باسم جماعة العلماء وليس باسمه خشية أن لا يداخله عجب في النفس، وقد أثارت شهرة هذا الكتاب حسدا كثيرا من الأساتذة والعلماء إذ أخذوا موقفاً سلبياً من السيد الصدر.

زهده في المأكل والملبس

ينقل مستخدمه الحاج (محمد علي المحقق) عن ملبسه ومأكله يقول: دخلت عليه ذات صباح فوجدته يأكل خبزة يابسة جلبتها له منذ أسبوع فلما رآني استحى ودار وجهه الشريف وأما عباءته فكانت قديمة مضت عليها السنون إذ كان يتقاسم ثوباًَ واحداً مع أخيه السيد إسماعيل الصدر والذي هو أطول منه.
لكنه يقدم لخادمه أفضل وأطيب الطعام وأفضل الملبس ويحنو عليه ويتفقده إذا مرض.

أخلاقه بين الناس

يقول الشهيد الحكيم (رض) إنه كان يحب أصدقاءه ويولي للصداقة عناية خاصة ويراها مجموعة من الحقوق المتبادلة التي عبر عنها الشارع المقدس في علاقة الإخوة الإيمانية.
وكان يومياً يجلس ساعة قبل صلاة الظهر ويوم الجمعة يستقبل الناس ويتعرف على مشاكلهم ويخاطب الشاب والصغير بـ(عمي) و(ابني) والآخرين بشيخنا وسيدنا، ويسبق غيره للسلام ويسلم على الصغير والكبير ويقول لكل طالب صغيراًَ كان أو كبيراً ويرحب بهم قائلاً «يرعاك الله ويحفظك الله».
ويعرف عنه أنه لين الجانب، أريحياً، طويل الصبر، ذو بشاشة يستمع إلى سائله مهما كان عمره ومكانته ويداعب الأطفال ويوليهم عناية خاصة إذا دخلوا مجالس الكبار.
جاءه شاب فقد أهله جميعاً بحادث سيارة فبدأ يواسيه بعاطفته الحارة وكلماته الرقيقة ويهون عليه مصابه ويشرح له حقيقة الموت وإنه بداية لطريق حياة جديدة ثم قال له: أنا أبوك وهذا جعفر ابني أخوك، هدئ الشاب وأحس بالسكينة والطمأنينة.
وكثيراً ما تعرض للأذى والمضايقات الشخصية التي تصل إلى حد الإهانة والتجريح لكنه يحلم ويصبر ويقول لمحبيه «هذه أمور بسيطة ينبغي أن لا ننجر إليها لأن أمامنا مهاما كبيرة علينا تحقيقها والتضحية من أجل الإسلام العظيم».
ويدعو رضوان الله عليه بالهداية لمن يؤذيه ويطعن فيه وذات مرة جرى الحديث عن بعض الأشخاص الذين يتقولون عليه فحاول أحدهم انتقاصه بذكر بعض عيوبه فمنعهم الشهيد من الدخول في هذه الأمور التي تؤدي إلى الغيبة.
كثير من حساده ينتقصون مرجعيته ويشككون في شخصيته فقد أثيرت حوله كثير من الشبهات وأبسطها أنه لا يصلح للمرجعية والقيادة فالمرجعية يجب أن تكون للأشداء الأقوياء فقط أما العاطفيون الذين ترق قلوبهم أو تدمع عيونهم لهذا أو ذاك فلا، وكان بأبي وأمي يتألم قائلاً:
ماذا يريد هؤلاء مني؟ هل يريدون أن أتعامل مع الناس بجفاء وخشونة؟ هل يريدون أن لا أمنحهم حبي إذ كيف للأب أن يربي أبناءه بقلب ناضب وبخُلق فظ أليس هؤلاء هم الذين سيحملون راية الإسلام ويدافعون عن كرامة القرآن إذا كنا لا نسع الناس بأحوالنا فلماذا لا نسعهم بأخلاقنا وقلوبنا وعواطفنا
فقد كان (رض) جياش العاطفة سريع الدمعة، رحيم القلب مرهف الإحساس رقيق المشاعر وهو في هذا التناقض الجميع يشبه جده أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام الذي قال فيه الشاعر

جمعت في صفاتك الأضداد،

فقد كان جلداً شجاعاً قوياً في الميدان لكنه رقيق القلب فوار العاطفة بكاءً حينما يناجي ربه.. وما أبدع هذا التناقض الذي تجلت فيه آيات الله سبحانه.

خُلقه مع أهل بيته

كان يقضي حاجات البيت بنفسه فيذهب إلى السوق صباحاً حاملاً السلة (الزبيل) ويجلس مع الباعة والكسبة ويتحدث إليهم، كما أنه كان يركب السيارة العمومية مع عائلته إلى وقت مرجعيته وإذا دخل البيت يسلم على والدته وأخته وزوجته والأطفال وكأنما فارقهم منذ زمن طويل ويحترم أخيه الأكبر السيد إسماعيل الصدر احتراماً مقدساً رغم تفوق الشهيد الصدر عليه.

الابن البار لأمه

عرف عنه ارتباطه الوثيق بأمه فقد كان يحبها إلى درجة لا توصف فإذا أصيبت بنوبات ضيق الصدر يتغير حاله وينهار ويبكي شفقة عليها ولا يتحرك إلا بموافقتها وإذنها وسعيه الدائم لطمأنتها ورضاها حتى انه يجلس لفترة طويلة معها يؤنسها يلاطفها، يحدثها لتستقر نفسيتها لأنها كثيراً ما كانت تقلق لغيابه خوفاً عليه من سلطة البعث.

الزوج الصالح

تزوج من السيدة فاطمة الصدر أخت السيد موسى الصدر وهي تعيش في قم وتتحدث الفارسية وقد عقد زواجهما في لبنان وقدم لها مهراً من عوائد كتابيه (فلسفتنا واقتصادنا) وأهداها نسخة من كتاب الله المجيد وخمسمائة درهم فضة على طبق السنة المحمدية.

وفي صبيحة أول يوم من زواجه وعلى مائدة الإفطار وفي شرفة مطلة على سهل كيفون ابتدر السيد الصدر زوجه قائلاً: «لا تحسبي انني أتعرف عليك لأول مرة فقد سكنتِ قلبي وعرفتكِ روحي مذ حدثني عنك أخيك السيد موسى لقد عرفني على شمائلك ووصف رجاحة عقلك وعلو همتك وكبر ذاتك وشفافية روحك وتفانيك في الخير وحبك للغير اعتماداً مني على شمائل الطهر هذه وحرصك على رضا الله وإيثارك للمصلحة وتفانيك لمن تحبين».

وتقول السيدة أم جعفر «إن الشهيد الصدر ليس زوجاً عادياً بل إنسان مقدس وولي من أولياء الله الصالحين وأستاذ كبير ولهذا كنت استنجد في زيارتي لحرم أمير المؤمنين أن يهب لي الصبر والثبات على هذه الصعوبات وقد أبقى على جنسيتي الإيرانية كي لا أتعرض إلى الأذى بعده لأنه كان يعلم أنه سيُقتل على أيدي البعثيين.

والسيد الشهيد كان رجلاً معطاءً، كريم النفس، جواد السجايا داخل بيته ومع خواص أهله رغم ضيق ذات اليد وعسر المعيشة وكثيراً ما كان يناديني بـ «حوريتي»، «نعيمي»، «فردوسي» وأعلم أنه كان صادقاً مخلصاً لا مجاملة وتصنعاً، هذا الفيلسوف العظيم، والمفكر المبدع كان يبدي رغبة صادقة في أن يكتب في حبه لي شعراً.

وكان راعياً لفئة الشباب والتفاف الطلبة الجامعيين حوله وتوجيههم برحابة صدر إذ كان يستمع إلى مشاكلهم بصبر وأناة وينصحهم في أمورهم الشخصية والعائلية ويتفقد من غاب عنهم كما لو كانوا أبناءه.

خُلقُه مع أولاده

كان مع ابنه وبناته في غاية الرقة والمحبة والحنان يلاعب صغارهم ويؤنسهم ولم يحاول يوماً أن يضربهم أو يهينهم بل كان لهم نعم الأب ونعم الصديق يؤدبهم، يعلمهم، يحاورهم ويربي فيهم أنهم ملك للإسلام وأن ما في أيديهم من أموال أمانة
يقول الشيخ رضا النعماني: كان أولاده يحضرون في بعض المجالس فيرون أكوام المال فيتعجبون، فكان يترك المال ويتحدث إليهم قائلاً «هذا المال ليس لي إنه ملك صاحب الزمان وأموال المسلمين أمانة بيدي، والمال ليس مهماً وهذه الدنيا لا قيمة لها، إننا نريد الآخرة فالآخرة خير وأبقى».

وقد رزق السيد الصدر بستة أولاد خمس بنات وولد واحد هو سيد جعفر وكبراهن (مرام) التي أنشدت فيها عمتها (آمنة الصدر) شعراً قائلة:

مـرام يا آســرة الأرواح *** يا نجمــة تلمـع في الصبــاح

فأعجب السيد بهذه الكلمات وصار يناديها على الدوام بـ (يا آسرة الأرواح)
وبناته الأخريات هن (نبوغ، صبا، حوراء، أسماء) وأسماء هي زوجة السيد (مقتدى الصدر)

وقرن السيد الشهيد بين بناته ومؤلفاته فواحدة فلسفتنا والثانية اقتصادنا والثالثة (أسس الاستقراء) والرابعة فدك والخامسة الفتاوى الواضحة وللشهيد الصدر ابنة اسماها ابتهال توفيت وعمرها 18 يوماً.

ومن شمائله رضوان الله عليه لا يقبل المديح والإطراء ولا يقبل أن تضاف قبل اسمه ألقاب أو صفات وكان يقول لطلبته وأولاده إذا أرادوا كتابة اسمه فقط اكتبوا السيد محمد باقر الصدر دون إضافات، ولم يهمل كتاباً طُلب منه قراءته ونقده بل كان يقرأه بوقت قياسي مع كتابة الملاحظات في الهوامش بالدقة والتفصيل ومهما كان مكانة ومنزلة هذا الكاتب.

مع أخته الشهيدة بنت الهدى

كان يجالس أخته آمنة الصدر ويراجع معها ما تكتبه ويجيبها عن كل ما تسأل ويعينها على كل ما تحتاج ويعطيها من وقته ساعات وهو الذي شجعها ودفعها لتكتب القصص الاجتماعية العقائدية للشابات اللاتي غزاهن الفكر البعثي.

عبادته والعشق الإلهي:

وكان رضوان الله عليه من عاداته منذ الطفولة أنه لا يصلي الا بحضور القلب فيضطر في بعض الأحيان أن ينتظر حتى يتمكن من طرد الأفكار من ذهنه كي يحصل له الصفاء والانقطاع.

وكان يعيش حالات العشق الرباني فتقول زوجته عن حالاته أثناء الدعاء والزيارة أنه كان يقرأ في اليوم العاشر من المحرم مقتل الإمام الحسين لنفسه وبصوت شجي والغريب أنه يقرأه بلسان دعاء وما أن يبدأ قراءة المقتل حتى تتغير أحواله ويبكي كما تبكي المرأة الثكلى حتى يصل إلى حالة نخشى عليه أن يفقد وعيه.

والأمر نفسه عندما يقرأ دعاء عرفه فأخشى أن يصاب بنوبة قلبية لفرط انفعاله وانقطاع نفسه، أقترب منه وألمسه وأحركه خشية أن تأخذه غيبوبة إذ كنت أسمعه يقرأ مراراً وتكراراً دعاء الندبة خصوصاً إذا ألمت به مشكلة فيقرأه تضرعاً متوسلاً بالحجة (عج)

وتقول أيضاً «إن للسيد الشهيد برنامجا يوميا لا يتخلف عنه كقراءة بعض الزيارات المخصوصة لأئمة أهل البيت (ع) ولخصوص الإمام الحسين (ع) والزيارة الجامعة كانت له برنامج ثابت ومعتقد راسخ فما كان لسانه يفتر عن اللهج بدعاء الندبة وزيارة عاشوراء إذ يقول أن كل هذه المأثورات إنما هي علائق ووشائج بين السماء والأرض ينبغي أن يتعبد بها الإنسان حرفياً لأنها باب عريضة إلى الملأ الأعلى ووسيلة لا محيص عنها لاستنزال الفيض والرحمة

وذات يوم كان السيد الصدر عند قبر الإمام الحسين (ع) في ليلة الجمعة يقرأ دعاء كميل فتقدم أحدهم بسؤال فاعترض عليه أحد الجالسين أن السيد مشغول بقراءة دعاء كميل فقال رضوان الله عليه (إن السؤال يقربني إلى الله أكثر من الدعاء)

ويقول نجله سيد جعفر إن أبي كان مواظباً على الزيارة الجامعة وزيارة عاشوراء ودعاء السمات ودعاء أبي حمزة الثمالي وكان له بدعاء كميل أنس خاص، كما كان يحمل أولاده في أيام محرم الحرام على قراءة زيارة عاشوراء كل يوم ابتداء من أول محرم إلى يوم الأربعين وكانوا أحياناً يقرأونها معه وأحياناً مع والدتهم.
وكان مواظباً على زيارة جده أمير المؤمنين يومياً خصوصاً عندما تعترضه معضلة أو مسألة علمية مستعصية.

هذا غيض من فيض، يعجز القلم، ويُحار الفكر، وتنزلق الأحرف المبتورة على سفوح العظمة خجلة، فإذا بكلماتي عصية وبلاغتي قاصرة، فالحديث عن عملاق بمهابة الصدر وشموخه الأبي صعب ومستصعب لأن الغوص في مجاهيل شخصه مخاطرة تأخذك في متاهة عشق لا متناه،


فالسلام عليك سيدي يوم ولدت ويوم استشهدت
فرويت المسيرة الظافرة بدمك الزكي ويوم تبعث حيّا.