آفاق المعاصرة والتنمية في فكر الامام الشهيد محمد باقر الصدر
محمد حسن الأمين

يستمد الشهيد الصدر اهميته البالغة مفكراً وفقيهاً وفيلسوفاً من عناصر متعددة قد يكون من نافل القول ان نعدد منها صفة الاحاطة والشمول ووضوح المنهج ودقة التحليل وتسلسل عناصر الفكرة وترابطها في معظم ما دونه الشهيد الصدر من كتب ومقالات ودروس.. ومن نافل القول أيضاً ان نضيف إلى هذه العناصر المتعددة ألمعية خاصة وتفوقاً نادراً تميز بهما عقل الشهيد وشخصيته معاً.
على ان هذه المعطيات ـ على اهميتها وندرة توفرها مجتمعة في عالم أو باحث أو مفكر آخر.. لم تكن كافية وحدها ـ من وجهة نظرنا ـ لتحقق للشهيد الصدر هذه المكانة الاستثنائية التي يحتلها في عقول عارفيه وقارئيه وتلامذته.. فثمة ـ من وجهة نظرنا ـ عنصر آخر توفر عليه فكر الشهيد الصدر نقدر ان له دوراً نوعياً في توفير المكانة الاستثنائية لمعظم ما كتبه من دراسات وابحاث. عنيت بهذا العنصر صفة «المعاصرة» ونعني بهذه الصفة جميع الخصائص التي جعلت الشهيد الصدر حاضراً في عصره متوفراً على مشكلات هذا العصر وادواته المعرفية مدركاً ـ على الاخص ـ أزمة عصره متصدياً لتحدياته مضطلعاً بصياغة مشروع فكري معرفي شامل لمواجهة اشكالات النهوض الحضاري على مستوى الاُمّة الإسلامية في عصرنا الراهن.
لن تتيح لنا هذه المقاربة لفكر الشهيد الصدر ان نتوسع في بحث معطيات المعاصرة من جوانبها الغنية والمتعددة في المادة العلمية والفكرية التي انتجها هذا الفكر المميز لكونها «هذه المقاربة» مقتصرة على استشراف جانب من جوانب هذه المعاصرة متمثلاً في الجانب الحضاري التنموي خاصة.. كما تجلى في اطروحاته المباشرة حول هذا الموضوع أو كما تجلى بصورة غير مباشرة في بحثه للموضوعات الاقتصادية والفلسفية وحتى الفقهية ذات الاتصال المباشر بهموم التحديث والمعاصرة.
وفي الحدود المتاحة لهذه المقاربة رأينا ان تسليط الضوء على الجانب الحضاري التنموي في فكر الشهيد الصدر يشترط التمهيد لذلك باضاءة يتم تسليطها على ازمة الفكر الاسلامي الحديث تجاه المعاصرة واضاءة اخرى يتم تسليطها على ازمة المعاصرة كما تجلت في الفكر والتطبيق على مستوى العالم العربي والاسلامي منذ بدايات هذا القرن «العشرين».
ان فكراً اسلامياً يتحرك خارج معطيات الزمن واشكالاته الحية ما كان بوسعه ان يثير كل هذا الاهتمام الذي اثاره ويثيره فكر الشهيد الصدر.. مهما تكن القدرات الذهنية التي تنتج هذا الفكر خارقة واستثنائية..
لقد وصل فكر الشهيد الصدر ومارس تأثيره البالغ في حركة النهوض الاسلامي المعاصر بسبب تحرره وخروجه من دائرة «الذهنية» التي سببت ازمة الفكر الاسلامي في العصور الحديثة ويتحلى بالطابع «الذهني» للفكر الاسلامي الحديث بالمظهرين التاليين:
1ـ تقديس الذهن بوصفه المصدر الاعلى للمعرفة ولصياغة شروط الواقع والتعامل معه واحتقار معطيات الواقع الخارجي بوصفها مادة احصاء واستقراء وتحليل تنتج معرفة متغيرة ومتحركة ونسبية تغاير ما يستقل به الذهن من المعارف الثابتة.
2ـ المظهر الثاني لهذا الطابع الذهني هو «اللاتاريخية» بما يؤدي إلى التعامل مع الظواهر الفكرية والاجتماعية والعلمية والاقتصادية والمنهجية خارج سياقها التاريخي والحكم عليها بمعيار ذهني ثابت وعدم الاخذ بنسبية المعايير في نقد المعرفة ووقائع التاريخ والحاضر بالنظر إلى ظروف انتاجها.
وقد انعكست هذه النزعة «اللاتاريخية» على الفكر الاسلامي الحديث في تعامله مع التراث الاسلامي فغابت روح النقد الحقيقية للتراث وبرزت مكانها ثنائية القبول والرفض.. الابيض والاسود.. المقدس والمرذول.
ومن آثار هذه النزعة اللاتاريخية على الفكر الاسلامي الحديث هو تورط الكثير بالاعتقاد ان الحقائق العلمية والفكرية والاجتماعية قد قيلت سابقاً وان مهمة المعاصرين هي فهم ما قيل وشرحه وتشذيبه بقليل من الحذف والزيادة. ولم يميز الكثير منهم بين ما هو مقدس من النص الاسلامي «القرآن والسنة الثابتة» وبين ما هو ثمرة فكر وتأمل ووعي بشري تاريخي لهذا المقدس فانسحبت القداسة لديهم على الفكر الاسلامي نفسه اي على قراءة المتقدمين والمناهج التي اتبعوها في فهم النصوص وتأويلها الامر الذي ساهم في اضعاف حركة التطور والتحول والتجديد في الحياة وفي الفكر الاسلامي، ودفع البعض لمقاربة مشكلات جديدة في الفكر والاجتماع والاقتصاد بمناهج قديمة تنتمي إلى عصور وظروف مختلفة.
لقد تحرر فكر الشهيد الصدر من هذه النزعة «اللاتاريخية» وكانت مدرسة النجف الاشرف التي ينتمي اليها عاملاً مساعداً من جهة وعائقاً من جهة اخرى:
1ـ اما العامل المساعد فيتجلى في منهج البحث والتفكير العلمي الذي ارست تقاليده هذه المدرسة عبر قرون طويلة على قاعدة تحرير العقل من اي مسبقات خارجة عن قواعد العقل نفسه في مواجهته لأي مسألة من مسائل العلوم الإسلامية التي اضطلعت هذه المدرسة في تدريسها وبحثها وتطويرها.. ويعرف الباحثون المختصون هذه الحقيقة في أجرأ تجلياتها المتمثلة بمسائل علمي الاصول وقواعد الفقه ـ كما انتهت اليهما في عصرنا الراهن.
2ـ ولكن من جهة اخرى فان تقاليد جامعة النجف الاشرف اتسمت بالصرامة والقسوة ـ احياناً ـ تجاه الانفتاح على قضايا العصر ومشكلاته ولهذه الصرامة والقسوة اسبابها ومبرراتها ومجال بحثها الخاص.. المهم ان الشهيد الصدر واجه هذا التحدي واستطاع ان يتحمل قسوة المواجهة ولكن بعد ان انتزع اعترافاً بمكانته العلمية الرفيعة ومؤهلاته القيادية الدينية وبشروط الحوزة العلمية الدينية نفسها.
ان العودة إلى مؤلفات الشهيد الصدر سواء منها التي بحثت موضوعات جديدة على الفكر الاسلامي ودخلت في سجال مباشر مع المعارف الغربية المعاصرة «كفلسفتنا.. واقتصادنا.. والبنك اللاربوي.. والاسس المنطقية للاستقراء» أو تلك التي بحثت موضوعات فقهية واصولية وتاريخية تقليدية «كموسوعة معالم الاصول.. والرسالة العملية.. والتفسير الموضوعي للقرآن الكريم وفدك وغيرها» تضيء امامنا مستوين من مستويات تحرر فكر الشهيد من ازمة الفكر الاسلامي الحديث تجاه المعاصرة:
1ـ احدهما يتعلق في تحرير منهج البحث العلمي الاسلامي تجاه تحفظ هذا المنهج على معطيات العلوم العقلية والإنسانيّة المستجدة.. بحيث يلاحظ القارىء الباحث في نصوف الشهيد الصدر حتى الاصول الفقهية والتاريخية منها بروز صيغ وتقنيات وحتى عبارات ومصطلحات تبدو غريبة عن ادوات الابحاث التقليدية في هذه العلوم وهي مشتقة من مناهج البحث المعاصرة في العلوم الإنسانيّة
السؤال هنا كيف تم للشهيد الصدر مثل هذا الانفتاح على صيغ وتقنيات ومناهج لعلوم تنتمي إلى سياق حضاري غربي مختلف واحياناً مناقض للسياق الحضاري الاسلامي؟! اقول كيف تم له ذلك مع كونه المفكر الذي يتميز بامتلاك حساسية عالية وبالغة الدقة تجاه الخصوصية الحضارية الإسلامية وتميزها.. وامتلاكه ـ في الوقت نفسه ـ معرفة دقيقة بمكونات الحضارة الغربية وتجلياتها في العلوم والافكار والفلسفات وحرصه على تعزيز مناعة الشخصية الإسلامية ضد الذوبان في ثقافة الغرب ومفاهيمه؟
الجواب.. من وجهة نظرنا فان الشهيد الصدر كان مفكراً يميز بدقة بين معطيات العلوم والفنون والفكر الغربي بل ومجمل معطيات الحضارة الغربية.. كان يميز بين المعطيات ذات العلاقة بالعقيدة الغربية وبنظرة الغرب إلى الكون والحياة والإنسان وبين المعطيات «الحيادية» لعلوم الغرب وتقنياته ومناهجه التي لا تلابس العقيدة.. ويرى ان هذه المعطيات الاخيرة هي مما لا يشكل الاخذ بها اي شكل من اشكال الاستسلام لثقافة الغرب اي لعقيدته وروحه الخاصة.. بل من الضروري ان ننفتح عليها ونضيفها إلى ادواتنا المعرفية طبقاً للقاعدة الإسلامية المعروفة «الحكمة ضالة المؤمن يأخذها اينما وجدها».
في هذا المجال نتوقف عند مثالين للتطور المنهجي في البحث ونختارهما من مؤلفاته في مجالات العلوم الإسلامية بالذات لنتمكن اكثر من تحديد آثار المناهج الحديثة في دراسة العلوم الإنسانيّة على ابحاث الشهيد الصدر:
أ ـ المثال الاول: موسوعته «معالم الاصول» وهو كتاب يشمل مباحث علم اصول الفقه التي هي من مقررات الدراسة الدينية في جامعة النجف الاشرف.
ما يعنينا من الاشارة إلى هذا الكتاب هو المقدمة التاريخية التي وضعها الشهيد حول نشأة علم الاصول وتطوره عبر المراحل التاريخية حتى يومنها الحاضر. وهذا جانب من المعرفة لم يعتد عليها الطالب في جامعة النجف الاشرف الذي يبدأ مباشرة بدراسة مباحث هذا العلم دون اي المام بنشأة هذا العلم وتطوره.
ان الشهيد الصدر ادرك هذا النقص الفادح في منهج الدراسة بالمقارنة مع المناهج المعاصرة التي كرست تاريخ كل علم من العلوم بوصفه جزءاً من هذا العلم ومدخلاً لفهم مباحثه.. وقد اطلقت هذه المقدمة آفاقاً واسعة وامكانات غير محدودة لاكتشاف مناهج معاصرة لتطوير هذا العلم.
ب ـ المثال الثاني: المبادىء التي اطلقها لما سماه «بالتفسير الموضوعي» للقرآن الكريم وهي مبادىء لاضافة مناهج جديدة لقراءة القرآن الكريم لا تقلل من قيمة المناهج التقليدية لتفسير القرآن ولكنها تستبطن عدم القبول بأن هذه المناهج التقليدية قد استنفدت امكانات النص القرآن وبالتالي فان الحاجة لقراءات جديدة اصبحت منتفية ولا مبرر لها.
الشهيد الصدر لم يصرح بأن ازمة الفكر الاسلامي الحديث تجاه القرآن الكريم تكمن في الاكتفاء فيما قدمه المفسرون السابقون لفهم النص القرآني.. ولكنه بالتأكيد سعى لوضع منهج يمكّن الفكر الاسلامي المعاصر من ان يقدم قراءته الخاصة للقرآن.. فالتفسير الموضوعي بعد ان يشرح مناهج المفسرين القدامى التي تقوم على قرارة النص القرآني بالترتيب وشرحه لغة وفقهاً وبلاغة وفق التداعيات التي يمليها النص على المفسر فانه يقترح شكلاً جديداً في استلهام القرآن الكريم يقوم على ان يستحضر المفسّر موضوعاً من موضوعات الفكر أو الحياة أو المجتمع أو الكون ثم يبدأ باستنطاق القرآن تجاه هذا الموضوع.. وقد احتوى بحث الشهيد الصدر على امثلة تطبيقية في هذا المجال.
ان الشهيد الصدر ادرك من خلال ملابسته الدقيقة لمشكلات عصرنا ان منهج التفسير الموضوعي سوف يستدرج الباحث المسلم للقيام بطرح مشكلات العصر على القرآن الكريم.. وبالتالي سوف يضطر الفكر الاسلامي الحديث لتقديم قراءته الخاصة اي تفسيره الخاص للقرآن الكريم وهذا ـ كما نلاحظه وجه متقدم من وجوه المعاصرة كما اضطلع بها فكر الشهيد الصدر.
2ـ ننتقل ـ الآن ـ إلى المستوى الثاني من تجليات المعاصرة في فكر الشهيد الصدر.. ولن نطيل في هذا الجانب لانه سيكون متضمناً في العناصر التالية للبحث والتي ستدور حول ازمة المعاصرة كما تجلت في الفكر وتطبيق الفكر الاسلامي على مستوى العالم العربي والاسلامي منذ بدايات القرن العشرين.. وحول رؤية الشهيد لمشكلة التنمية في العالم الاسلامي ومواجهة اشكالاتها.
فما هي تجليات هذا المستوى الثاني باختصار؟
انها تظهر في الطرح المباشر الذي اضطلع به الشهيد الصدر للمشكلات الفلسفية والاقتصادية والفكرية التي يزدحم بها عصرنا الراهن وتتحول إلى تحديات يشهرها الغرب من جهة والمسلمون المتغربون من جهة اخرى في وجه الإسلام.. اقول لقد اضطلع الشهيد الصدر بمنازلة فكرية حضارية مع هذا التحدي تعد من اجرأ وانبل ما عرفه الفكر الإنساني في هذا المجال وهي متضمنة في اربعة كتب هي «فلسفتنا» و«اقتصادنا» و«البنك اللاربوي» و«الاسس المنطقية للاستقراء» عدا عشرات المقالات والابحاث والدراسات المتفرقة. وهذه الكتب والابحاث ادخلت الفكر الاسلامي إلى قلب العصر وساهمت في تحرير الفكر الاسلامي من ازمته تجاه المعاصرة ولهذا الإسلام النوعي الذي قدمه فكر الشهيد دور في بلورة مفهوم الحداثة الإسلامية وارسائه ازاء تخبط مسألة الحداثة في العقل العربي والاسلامي المعاصر.. اي بين من يدعو من المسلمين إلى الالتحاق بالحداثة بمفهومها الغربي بالكامل وبين من يدعو إلى حداثة اسلامية بنهج انتقائي يلائم بين خصوصية الإسلام وضرورة الانفتاح على الغرب. وبين من يشجب مفهوم الحداثة بالكامل ويصر على اقامة النظم الإسلامية بمعزل كامل عن التجارب الحضارية الاخرى..
بين هؤلاء تميز مفهوم الشهيد الصدر للحداثة بالاصالة والشمول والهيكلية فهو ـ بالتأكيد ـ ليس نهجاً تحديثياً غربياً بل يتضمن نقداً شاملاً وجذرياً للحداثة الغربية في اسسها الفكرية والفلسفية وتجلياتها في السلوك والعقيدة.. وهو ـ اي نهج الشهيد الصدر ـ ليس نهجاً منغلقاً بدليل ان بلورته جاءت ثمرة سجال عميق وشامل مع الحداثة الغربية من جهة وجاءت متضمنة لكثير من تقنيات الحداثة الغربية ولكن بعد نقد هذه التقنيات واخضاعها لمقتضيات العقيدة الإسلامية.
اذن هل يعني ذلك انّه كان نهجاً انتقائياً؟
والجواب ان نهج التحديث لدى الشهيد الصدر كان ابعد ما يكون عن روح الانتقاء.. فالانتقاء نزعة تجميعية وهي بعيدة عن هيكلية الترابط العضوي والبناء الهرمي الذي ميز نهج الشهيد الصدر وجعل منه كياناً حياً نامياً ويشبه الشجرة التي تستمد عناصر نموها من مصادر مختلفة ولكنها مع ذلك تبقى هي هي وتحول هذه العناصر الغنية المختلفة التي تمتصها إلى قوّة اضافية ترسخ انتماءها للارض وتزيد جذورها متانة ورسوخاً.
ننتقل إلى ازمة المعاصر كما تجلت في الفكر والتطبيق على مستوى العالم العربي والاسلامي منذ بدايات هذا القرن (العشرين).
لقد رافق انحلال الدولة العثمانية (الكيان السياسي للمسلمين) نشوء تيارات واتجاهات متعددة لدى المفكرين العرب والمسلمين بشأن ما ينبغي ان تكون عليه مسارات الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية للمسلمين وللاقطار والكيانات التي كانت مندرجة في وحدة هذا الكيان السياسي الآيل إلى الانحلال.
ونظراً لانحصار بحثنا في تشخيص ازمة الفكر والتطبيق كما تجلت في المسار السياسي والفكري والتنموي للحياة الإسلامية بعد انحلال وحدة الكيان السياسي للمسلمين وذلك لتحديد الدور الذي لعبه فكر الشهيد الصدر في مواجهة هذه الازمة والمسارات التي اقترحها في هذا المجال.. فاننا سنعزف عن التعرض فتصيلاً لتلك الاتجاهات والتيارات التي برزت ـ آنذاك ـ وسنكتفي منها بما آلت إليه قيادة هذه المنطقة عملياً.. اي بالتجاهات التي امسكت بزمام القيادة السياسية اي بالسلطة السياسية وما يتفرع عنها من سلطات شاملة من ثقافية واقتصادية واجتماعية وتنموية.. الخ.
لقد آلت القيادة السياسية ـ وبسبب مباشر للاستعمار الذي حلّ في المنطقة ـ إلى الاتجاهات الاقرب فكرياً وسياسياً لهذا الاستعمار ومصالحه وهو الاتجاه العلماني عموماً والذي يتخذ الوجهة الغربية التحديثية نموذجاً له.. وتجلت ازمة المنطقة العربية والإسلامية في ظل هذا الاتجاه بالنتائج التالية:
1 ـ تم تكريس القطرية في المنطقة العربية والإسلامية رغم شعارات الوحدة القومية التي رفعتها الاتجاهات الحاكمة في المنطقة العربية هدفاً لمسيرتها السياسية.
2 ـ تم تفصل الدين عن الدولة ـ وفقاً للنموذج الغربي ـ ولم تقم مع ذلك الدولة الحديثة ولا مؤسسات المجتمع الاهلي على مثال الصيغة التي قام عليها المجتمع والدولة في الغرب.. ولم تستطع المؤسسات الشكلية للديمقراطية التي قامت في بعض الاقطار العربية والإسلامية ان تحدث اي تغيير حقيقي باتجاه قيام الدولة الحديثة وفق النموذج الغربي.
3 ـ فشلت تجارب التنمية الاقتصادية التي قامت في كل قطر على حدة سواء منها التي استعارت نموذج الاقتصاد الحر أو التي طبقت نموذج الاقتصاد الموجه. وبرزت ـ علاجاً لهذا الفشل فكرة الوحدة الاقتصادية بين الاقطار العربية ولكن التجزئة السياسية افشلتها وافشلت معها صيغة نظرية اقل منها هي صيغة التكامل الاقتصادي بين الاقطار.
4 ـ ومن نافل القول ان المنطقة لم يقيض لها ان تدخل مرحلة النهوض التقني الصناعي والزراعي وظلت تنتمي إلى العالم الثالث المتخلف رغم ثرواتها الطبيعية الهائلة.
ابان هذه المرحلة الزمنية الممتدة من بداية الاستعمار الغربي الحديث للمنطقة كانت مسألة النهوض والتنمية على مستوى المنطقة تتراوح بين اتجاهين هما الاتجاهات التي قامت عليهما حركة التنمية في الغرب احدهما الاتجاه الرأسمالي الحر والآخر الاتجاه الاشتراكي الموجه. ولكن الاتجاهين كلاهما لم يحقق اي منهما تنمية تماثل أو تقارب ما تحقق على يد كل من هذين الاتجاهين في كل من المعسكرين الغربيين الرأسمالي والاشتراكي. وحتى يومنا هذا فان مشكلة مناهج التنمية واطرها ما زالت مطروحة بل يزداد طرحها الحاحاً امام المتغيرات العاصفة في النظام العالمي لصالح المنهج الراسمالي الحر ولصالح تعميم هذا النهج الرأسمالي بمعزل عن خصوصيات ودرجات نمو الشعوب والمناطق المختلفة في هذا العالم.
ان ازمة التنمية على مستوى المنطقة العربية والإسلامية هي جزء لا يتجزأ من ازمة فشل المعاصرة كما طرحتها وتولت مشروعها التيارات والاتجاهات والنخب التي مارست السلطة القيادية خلال العقودالماضية من هذا القرن وما زالت في موقع السلطة والقيادة حتى اللحظة الراهنة
ان رؤية الامام الشهيد الصدر لمسألة النهوض والتنمية هي بدورها جزء لا يتجزا من مشروع النهوض الحضاري كما اقترحه وارسى قواعده وأجاب على اسئلته هذا المفكر النهضوي الشمولي.. واننا اذ ندعو جميع المعنيين من المفكرين من الاسلاميين وغيرهم بمناهج وأطر النهوض والتنمية عربياً واسلامياً ان ندعوهم لقراءة عميقة ومتأنية لمشروع الشهيد الصدر ومنهجه الذي اقترحه فاننا سنحاول ـ وبالحدود المتاحة ـ ان نضيء ما نعتقد انّه يشكل العناصر والسمات الرئيسية لمنهج الشهيد الصدر في النهوض والتنمية:
يقوم منهج الشهيد الصدر على مسارين.. احدهما نقد مناهج التنمية وأطرها كما تجلت في الفكر والتطبيق والنتائج على مستوى العالم الاسلامي في عصرنا الراهن.. وثانيهما اطروحة البديل كما يقترحها هو استناداً إلى اطار اشمل منه هو مشروع النهوض الشامل للامة..
المسار النقدي: يميز الشهيد الصدر بين ما هو منهج للتنمية والتنمية الاقتصادية وبين ما هو اطار لهذه التنمية ويرى ان ما تمت تجربته حتى الآن على هذا الصعيد في المنطقة العربية والإسلامية ان هو الا محاولات تستعير أو تستلهم اطراً للتنمية الغربية ويرى ان التبعية للغرب التي كانت سمة هذه الاطر المستعارة مرت بثلاث مراحل
1 ـ مرحلة التبعية السياسية: وهي مرحلة حكم الاستعمار المباشر للامة والتي مارست فيها الشعوب الاوربية الراقية اقتصادياً حكم الشعوب المتخلفة بصورة مباشرة.
2 ـ المرحلة الثانية: هي مرحلة التبعية الاقتصادية التي رافقت قيام كيانات سياسية مستقلة في البلدان المتخلفة ولكنها تركت المجال للاقتصاد الاوربي ان يستثمر موارد تلك البلاد ويوجه اقتصادها حسب مصالحه محتكراً مواردها الاولية عدداً من مرافق الحياة الاقتصادية فيها مالئاً فراغاتها برؤوس اموال اجنبية بحجة تمرين ابناء هذه البلدان المتخلفة على تحمل اعباء التطوير الاقتصادي.
3 ـ المرحلة الثالثة: مرحلة التبعية في المنهج وقد مارستها تجارب عديدة في العالم الاسلامي حاولت ان تستقل سياسياً وتتخلص من سيطرة الاقتصاد الاوربي بالاعتماد على قدرتها الذاتية ولكنها لم تستطع ان تخرج في فهمها لطبيعة المشكلة التي يجسدها تخلفها الاقتصادي عن اطار الفهم الاوروبي لها فظلت اسيرة المنهج الذي سلكه الإنسان الاوروبي في بناء اقتصاده
ان الشهيد الصدر لم يتوقف عند المرحلتين الاولى والثانية من مراحل تبعية الاقتصاد الاسلامي وتجاربه للاقتصاد الاوروبي لانهما كانتا مرحلتين قسريتين وتجسدان النفوذ المباشر للاستعمار الغربي على المنطقة ولكنه توقف طويلاً امام المرحلة الثالثة وهي مرحلة التبعية المنهجية لانها تميزت بمحاولة جديدة للتخطيط والتنمية المستقلة ولكنها ـ بالرغم من ذلك ـ عجزت عن تحقيق اهدافهاويعود سبب الفشل ـ بنظر الشهيد الصدر ـ إلى ان تجربة النهوض الاقتصادي الاوروبي ليست تجربة حيادية مطلقة السداد والصحة أو وصفة قابلة للتطبيق في كل زمان ومكان.. انها تجربة الإنسان الاوروبي المتصلة بظروفه وخصائصه الروحية والفكرية والاجتماعية وهي ايضاً جزء من فلسفته في العلاقة مع الكون والحياة والمجتمع والثروة.. وقد استطاعت لهذه الاسباب ان تحقق نجاحها وتؤتي ثمارها على هذا النحو الكبير
ويرى الشهيد الصدر ايضاً ان فشل تجارب التنمية المستندة إلى التجارب الاوروبية يعود ايضاً إلى علاقة التناقض والصراع بين الاُمّة الإسلامية والاستعمار الغربي بما يجعل كل شكل من اشكال التبعية لهذا الاستعمار مصدراً لحساسية الاُمّة وعدم استجابتها.. وبديهي ان اي مشروع للتنمية لا يحظى بالحماس والاستجابة على صعيد الاُمّة مآله إلى الفشل.
(ان حاجة التنمية الاقتصادية إلى منهج اقتصادي ـ كما يقول الشهيد الصدر ـ ليست مجرد حاجة إلى اطار من اطر التنظيم الاجتماعي تتبناه الدولة فحسب، لكي يمكن ان توضع التنمية ضمن هذا الاطار أو ذاك بمجرد تبني الدولة له والتزامها به. بل لا يمكن للتنمية الاقتصادية والمعركة ضد التخلف ان تؤدي دورها المطلوب الا إذا اكتسبت اطاراً يستطيع ان يدمج الاُمّة ضمنه وقامت على اساس يتفاعل معها.. فحركة الاُمّة كلها شرط اساسي لانجاح اي تنمية واي معركة شاملة ضد التخلف لان حركتها تعبير عن نموها ونمو ارادتها وانطلاق مواهبها الداخلية فالتنمية للثروة الخارجية والنمو الداخلي للامة يجب ان يسيرا في خط واحد
نلاحظ هنا ان الشهيد الصدر يعتبر التنمية الاقتصادية معركة حقيقية وهو اذ يلتقي في هذا الاعتبار مع الادبيات القومية والاشتراكية في نظرتها إلى مشروع التنمية كما قدمتها التجارب التي شهدتها المنطقة العربية والإسلامية على ايدي التيارات القومية والاشتراكية فانه يختلف مع هذه التيارات في انها خاضت معركة التنمية للاستقلال الاقتصادي عن الغرب ومصالحه بمنهج الغرب نفسه. وهو يرى ان المعركة لا تتجزأ وان خوض المعركة في مجال التنمية والاستقلال يتطلب ثورة على المنهج نفسه باشتقاق منهج للتنمية يخاطب مكونات الاُمّة نفسها ويجسد عقيدتها وثقافتها.
ويرى الشهيد الصدر ان من بين تجارب التنمية المتعددة والمختلفة في هذه المنطقة لا توجد تجربة وادحة توفرت لها عناصر الاستجابة والحماس الضرورين لخوض المعركة ضد التخلف. لان اياً من هذه التجارب لم تشتمل على منهج تنموي مستقل وظلت التبعية ـ في المنهج على الاقل ـ سمة كل هذه التجارب
كما نلاحظ ان نظرية الشهيد الصدر في التلازم بين التنمية للثروة الخارجية والنمو الداخلي للامة هو من الحقائق التي لا يقتصر انطباقها على حالة الشعوب الإسلامية بل يرى ان «تجربة الإنسان الاوروبي الحديث هي بالذات تعبير تاريخي واضح عن هذه الحقيقة.. وان مناهج الاقتصاد الاوروبي كاطارات لعملية التنمية لم تسجل نجاحها الباهر على المستوى المادي في تاريخ اوروبا الحديث الا بسبب تفاعل الشعوب الاوروبية مع تلك المناهج ومتطلباتها واستعدادها النفسي اللامتناهي خلال تاريخ طويل لهذا الاندماج والتفاعل.
لذلك فان منهج الشهيد الصدر للبديل الاسلامي لمشروع النهوض والتنمية اتسم بطابع السجال الشامل مع الفكر الغربي ومناهجه واطره. ورأى ان الاُمّة الإسلامية لا يمكن ان تنتزع استقلالها الاقتصادي ونموذجها المستقل للتنمية وان تنتصر في معركتها ضد التخلف والتخلف الاقتصادي الا من خلال تعبئة فكرية وروحية ونفسية شاملة تستطيع من خلالها ان تواجه كل اشكال الضغط والمصادرة التي مارسها وسوف يمارسها الاقتصاد الرأسمالي الغربي ـ بالتأكيد ـ ضد اي محاولة لانتاج تنمية اسلامية مزدهرة ومستقلة..
ان الجديد النوعي في منهج الشهيد الصدر هو ادراكه استحالة الانتصار في معركة التنمية المستقلة بدون نسق من القيم المستقلة والمستمدة من عقيدة الاُمّة نفسها.. فقيمة الاستهلاك ـ مثلاً ـ وهي من ابرز قيم المجتمع الغربي المتقدم اقتصادياً حين تتسلل إلى البلاد المتخلفة وتصبح قيمة بارزة من قيم مجتمعاتها فان معركة الاستقلال الاقتصادي تصبح مستحيلة اذ كيف بوسع مجتمع يعلي من قيم الاستهلاك ويحرص عليه ان يخوض معركة ناجحة في التحرر والانفصال عن الدول المنتجة والمصدرة للسلع الاستهلاكية
لذلك قام منهج الشهيد الصدر على التلازم بين فعل التنمية بوصفها معركة مع تحديات التخلف والتبعية ونمو الحوافز الروحية والفكرية للامة مما يتناسب مع تحمل الضغوط والتحديات التي تفرضها هذه المعركة
ولقد ادرك الشهيد الصدر في هذا المجال ان الاُمّة لكي تخوض معركتها ضد عوامل التخلف والتبعية الاقتصادية لابد لها ان تستعيد ثقتها بمخزونها الحضاري الكبير.. وان الاُمّة الإسلامية بفعل الهزائم والتجارب الاستعمارية القاسية وبفعل التفكك الذي اصاب وحدتها السياسية فقدت الكثير من عناصر الثقة بذاتها ومكوناتها وداهمتها مشاعر الدونية تجاه مدنية الغرب العملاقة فاستسلمت كثير من قطاعاتها لهذه التبعية ولما يسميه الشهيد الصدر (الامامة الفكرية للغرب
لذلك فان مشورع الشهيد الصدر للنهوض والتنمية لم يكتف بالدعوة إلى استعادة العقيدة الإسلامية إلى حياة الاُمّة بل خاض مقارعة طويلة ذات طابع فكري فلسفي شامل ضد البنية الفكرية للغرب وضد ادعاءات الصحة المطلقة لنظرياته ومناهجه وشكلت حصيلة هذه المقارعة التي تتضمنها كتبه (فلسفتنا) و(اقتصادنا) و(البنك اللاربوي) و(الاسس المنطقية للاستقراء) وغيرها من المداخلات والابحاث الاساس لكسر حدة الانبهار بفكر الغرب ونظرياته واعادة الثقة للنخب المسلمة بالمخزون الحضاري والمعرفي للامة الإسلامية مما يؤهلها ان تستعيد مكانتها ودورها المصادر في تقرير مصيرها والمساهمة في تقرير النظام العالمي نفسه. فها هي النظريات الغربية سواء في مجال الفلسفة أو الاقتصاد والسياسة تتهاوى امام النقد العلمي الرصين وتعود إلى حجمها الطبيعي واطارها النسبي من الصحة ولا تعود مطلقة وقابلة للتعميم في كل زمان ومكان.. وها هو الإسلام يملك في المقابل امكانات غير محدودة لتأطير حركة النهوض والتحرر الإسلاميين في مجالات المعرفة والتطبيق
ان الشهيد الصدر بطرحه للاسلام منهجاً شاملاً لحركة التحرر والنهوض والتنمية على مستوى العالم الاسلامي يكون قد وضع مشكلة التنمية في اطارها الصحيح وواجه ازمة التخبط التي تعاني منها تجارب التنمية الفاشلة في العالم العربي والاسلامي.. ومن جهة اخرى يكون قد ارسى اساساً نظرياً وتطبيقياً لملء الفراغ الذي يشكون منه الخطاب الاسلامي المعاصر تجاه احد اهم اسئلة العصر وتحدياته التي هي مسألة التنمية
يبقى في ختام هذه الصفحات ان نتساءل: ترى هل جاءت عاصفة المتغيرات الاخيرة في النظام العالمي وسقوط النظام الاشتراكي وامبراطوريته المتمثلة بالاتحاد السوفياتي واستتباب الامر للرأسمالية الدولية المتمثلة بصورة خاصة بالولات المتحدة الامريكية وعودة الحيوية لفكرة تعميم النمط الاقتصادي الرأسمالي على العالم باسره واعلان نهاية التاريخ على لسان فيلسوف الرأسمالية الامريكية (فرنسيس فوكوياما) وورشة توليد النظام الشرق اوسطي في هذه المنطقة استباقاً لولادة اي نظام عربي أو اسلامي وتكريس الكيان الصهيوني محوراً لهذا النظام واستسلام الانظمة السياسية العربية لمخططات نظام اقتصادي للمنطقة يعيدها إلى مراحل التبعية الاولى المباشرة لعجلة الاقتصاد الرأسمالي الامريكي هل جاءت هذه التطورات لتطوي صفحة مشروع النهضة والتنمية كما طرحه الشهيد الصدر ابتداء من ستينات هذا القرن؟
من وجهة نظرنا فان عاصفة المتغيرات المذكورة وانعكاساتها الخطيرة على المنطقة العربية والإسلامية جاءت لتحسم بصورة نهائية موضوع النزاع حول منهج الشهيد الصدر بوصفه المنهج البديل لحركة التحرر والنهوض والتنمية على مستوى العالمين العربي والاسلامي
ان الاُمّة الإسلامية التي خاضت تجارب التنمية طيلة هذا القرن وفق التدخل الغربي المباشر تارة ووفق منهج الغرب تارة اخرى انتهت في ظل النظام العالمي الجديد إلى ارتهان اقتصادي استعماري جديد يطال جميع ثرواتها بدون استثناء ويمنع توظيف اي من هذه الثروات في اي مشروع تنمية مستقل حتى عندما يكون هذا المشروع وفق اطر ومناهج الاقتصاد الغربي نفسه.. لقد انتهى ـ وفق النظام الدولي الجديد ـ زمن الهوامش الحرة للامم المستضعفة من اجل تطوير تجاربها الخاصة في النمو وفق عقائدها وثقافتها وظروفها الخاصة.. انتهت هذه الهوامش وصودرت خاصة بالنسبة للمنطقة العربية وثروة النفط التي كان الاستراتيجي الامريكي هنري كيسنجر صريحاً عندما قال اثناء حرب الخليج «ان ثروة النفط ليست ملكاً للدول التي تنتجها انها ثروة برسم المدنية والتحكم فيها يتم من مراكز المدنية في هذا العالم». هذه الثروة باتت في دائرة التحكم المباشر من قبل السياسية الامريكية وغير مسموح لها ان تصب في عروق المنطقة العربية.
هل يبقى في ظل هذه الوقائع مجال للشك بان معركة النهوض والتنمية هي معركة شاملة
تبدأ بالمنهج الذي يحرر عقيدة الاُمّة وثقافتها ودوافعها من التبعية والارتهان ويجدد الحوافز الروحية للامة ويقوم على اطلاق اقوى عناصر الممانعة في شخصيتها استناداً إلى مخزونها الحضاري الهائل المتمثل بالاسلام عقيدة وشريعة وتاريخاً بحيث تأتي صياغتها لاطر التنمية المستقلة ثمرة لهذا المنهج ويأتي تفاعلها مع واقع الاقتصاد العالمي ونظرياته محكومة لخياراتها وحاجاتها وحجم اعتراضها وممانعتها لذل التبعية والارتهان
رحم الله الشهيد الصدر الذي كان شاهداً على عصره حتى الاستشهاد واسكنه في اعلى عليين مع الانبياء والشهداء والصديقين وحسن اولئك رفيق