النتائج 1 إلى 3 من 3
  1. #1
    تاريخ التسجيل
    Jul 2004
    الدولة
    أرض الله الواسعة
    المشاركات
    6,631

    Lightbulb شرح دعاء وداع شهر رمضان المبارك - العلامة المرجع السيد فضل الله (رض)

    شرح دعاء وداع شهر رمضان المبارك









    في أجواء الأيام الأخيرة من الشهر المبارك، ننشر لكم دعاء "وداع شهر رمضان"، مع شرحٍ وافٍ له، من سماحة العلامة المرجع، السيّد محمّد حسين فضل الله(رض)، ويتمحور شرحه في المقطع الأوّل، حول إيحاءات شهر رمضان، وفرصة الانفتاح على الآفاق الإلهية الرّحبة، والعطاء الإلهيّ اللامتناهي لعباده...التفاصيل




    شرح دعاء "وداع شهر رمضان المبارك" - الحلقة الأولى



    إيحاءات شهر رمضان

    إذا كان استقبال شهر رمضان للمؤمن، فرصةً للانفتاح على الآفاق الإلهيّة الرّحبة في امتداد المعاني الرّوحيّة التي يُراد له أن يعيشها في روحه وفي وجدانه، فإنّ وداع شهر رمضان قد يحمل له بعضاً من الألم واللّوعة، في ما يفتقده من أجواء، أو في ما يخسره من نتائج على مستوى الثّواب الإلهيّ على الأعمال الّتي يحتويها هذا الشّهر في واجباته ومستحبّاته، ما يجعل الإنسان خاضعاً للمشاعر السّلبيّة، تماماً كما لو كان في واحةٍ خضراء وانتقل إلى صحراء قاحلة، لأنَّ الزَّمن القادم قد يختزن في داخله بعض الفرص، ولكنَّها لن ترقى إلى فرصة هذا الشَّهر المبارك، الّذي جعله الله شهره الّذي يُدخل فيه عباده إلى ضيافته الرّوحيّة في ما يُسبغه عليهم من الألطاف، ويفيض عليهم من الرّحمات، ويمنحهم من البركات، بما يفتح لهم فيه أبواب جنّاته، ويقودهم إلى ساحات رضوانه.


    شهر رمضان، هو الموسم الّذي ينفتح على كلّ قضايا الإنسان وحاجاته، في ما يحقّقه الله له منها، ممّا يتناسب مع مواقع صلاحه في دنياه وآخرته، ولذلك كان المحروم المحروم، هو الّذي حُرم غفران الله في هذا الشّهر العظيم، كما جاء في خطبة رسول الله(ص)، الّتي استقبل بها شهر رمضان في آخر جمعةٍ من شعبان. ولكنّ الإمام زين العابدين(ع) في أسلوب الدّعاء، يتّجه في المسألة اتّجاهاً آخر، حيث يفتح وعي الإنسان المؤمن على النّتائج الكبيرة الّتي حصل عليها فيه، ويحرِّك المشاعر الحميمة الّتي تجعل بين شعور الإنسان وأيّام هذا الشّهر رابطةً قويّةً تؤدّي إلى اختزان المعاني الرّوحيّة في كيانه، فلا تذهب بذهاب هذا الشّهر، بل تعمل على التّخطيط للاستفادة منها في إغناء الزّمن القادم في غيره من الشّهور، بكلّ ما يحمله من الخصائص الفريدة الّتي يمكن أن يحملها الزّمن من خلال العمق الإنسانيّ في معرفة الله والشّعور بالمسؤوليّة.


    وفي ضوء ذلك، لا يكون الزّمن مجرّد لحظاتٍ طائرةٍ في الفراغ، بل يكون قيمةً تمتلئ بالإنسان في فكره وشعوره وحركته في الحياة، حيث يأخذ الزّمن من الإنسان معناه وروحه، كما يأخذ الإنسان منه حركته وخطّ سيره، وبذلك يفقد الزّمن معناه التّجريديّ كعنصرٍ مستقلّ في إعطاء الحياة خطّها الطّويل، بل يكون شيئاً في الإنسان، فيما يكون الإنسان شيئاً في عمليّة تداخلٍ وامتداد.


    ثمّ يثير التطلّع الفكريّ والرّوحيّ في ابتهال الإنسان لله، أن يمدَّ في عمره ليلتقي برمضان جديد في فرصةٍ جديدةٍ للعمل والحياة.

    ولعلّ قيمة هذا الدّعاء في بعض فقراته، من النّاحية الفنيّة، أنّه يحوِّل الشّهر إلى كائنٍ صديقٍ في مشاعره ومواقفه، فيخاطبه كما يخاطب صديقه، ويتحدّث إليه بالجانب الشّعوريّ الّذي يتفجّر في الوجدان حبّاً وحزناً وتطلّعاً إلى اللّقاء الجديد.

    وهو في الوقت نفسه، يأخذ من العناوين الكبيرة لإيحاءات هذا الشّهر، عناوين متحرّكة للحياة الّتي يستمرّ في مواجهتها بمنطق المسؤوليَّة، لتبقى معه في النّتائج الحاسمة لقضيَّة المصير الأبديّ في موقفه أمام الله، في ما يريده الله منه من مواقف وأعمال.


    اللَّهُمَّ يَا مَنْ لَا يَرْغَبُ فِي الْجَزَاءِ، وَيَا مَنْ لَا يَنْدَمُ عَلَى الْعَطَاءِ، وَيَا مَنْ لَا يُكَافِئُ عَبْدَهُ عَلَى السَّوَاءِ، مِنَّتُكَ ابْتِدَاءٌ، وَعَفْوُكَ تَفَضُّلٌ، وَعُقُوبَتُكَ عَدْلٌ، وَقَضَاؤُكَ خِيَرَةٌ، إِنْ أَعْطَيْتَ لَمْ تَشُبْ عَطَاءَكَ بِمَنٍّ، وَإِنْ مَنَعْتَ لَمْ يَكُنْ مَنْعُكَ تَعَدِّياً، تَشْكُرُ مَنْ شَكَرَكَ وَأَنْتَ أَلْهَمْتَهُ شُكْرَكَ، وَتُكَافِئُ مَنْ حَمِدَكَ وَأَنْتَ عَلَّمْتَهُ حَمْدَكَ.


    العطاء سرّ الذات الإلهيّة

    إنّها البداية الّتي يُراد لها أن تطوف بالإنسان المؤمن في آفاق التصوّر الإيمانيّ لله في صفاته الإلهيّة، الّتي تطلّ على شؤون المخلوقين في علاقة الخالق بهم، ليتعرَّف من خلال ذلك، موقعه من ربّه، من خلال موقع الله من عباده في رعايته لهم ولطفه بهم، ليكون الدّعاء حالة وعيٍ في العقيدة، من حيث هو حالة ابتهالٍ في الحاجة، وفي المعرفة العميقة الواسعة.


    فالله هو سرّ العطاء الّذي لا يقف عند حدّ، ولا يجتذب أيّ شيء في مقابله، وذلك من خلال انفتاح رحمته على عباده في ما يحتاجون إليه في شؤون حياتهم وحركة وجودهم، لأنّه خالقهم ورازقهم، فكما أعطاهم الوجود من دون مقابل، فإنّه يعطيهم حاجات الوجود بالطّريقة نفسها.

    ثم ما هي حاجته إلى الجزاء وهو الغنيّ عن خلقه، وما هي قدرة عباده على تقديم العِوَض لألطاف الله ورحماته، وماذا يملكون من كلّ ما بأيديهم وما حولهم ما دام ذلك كلّه من الله؟!

    وهو المعطي الّذي لا يندم على العطاء، لأنّ العطاء ينطلق من حكمته بالمعنى نفسه الّذي ينطلق فيه من كرمه، من خلال تدبيره للوجود، على أساس أنّه أهل العطاء الّذي ينطلق من فيض الرّحمة في ذاته، ليشمل من يستحقّ ذلك من خلال العمل، ومن لا يستحقّه، وذلك هو الإيحاء في الفقرة المأثورة في بعض الأدعية: "فإنْ لم أكنْ أهلاً أن أبلُغَ رحمتك، فرحمتُكَ أهلٌ أن تبلغَني وتسَعَني لأنّها وسِعَتْ كلّ شيء".

    ولذلك، فلا معنى للنّدم، ما دامت المسألة خاضعةً لخطّ الرّحمة، وما دامت القضيّة منطلقةً من سعة الكرم، فإنّ الّذين يندمون هم البخلاء، أو الّذين يخافون الفقر من خلال العطاء.


    وإذا كان العطاء سرّ ذاته، فإنّه لا يخضع للحسابات الدّقيقة على أساس أفعال العبد الحسنة والقبيحة، ليزيده في جانبٍ أو لينقصه في جانبٍ آخر... ولذلك، فإنّه لا يكافئ عبده على السّواء، بل يضاعف له الأجر إن كان العمل خيراً، وقد يغفر له إن كان شرّاً، وذلك هو قوله تعالى في مضاعفة الحسنة: {مَن جَاء بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} [الأنعام: 160]. وفي المغفرة قوله تعالى: {وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِّلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ} [الرّعد: 6]. أمّا الّذي يبقى في دائرة المسؤوليّة والعذاب، فإنّه لا يستعجله، بل يمهله ويترك له فرصة التّراجع والتّوبة، وذلك مما لا تفرضه طبيعة المعصية.

    "مِنّتُك ابتداء" : والمراد بها النّعمة التي يتفضّل الله بها على الإنسان من دون استحقاق، لأنّ الإنسان لم يبدأ عملاً يجتذب النّعمة، بل الله هو البادئ في ذلك على كلّ عباده.

    "وعفوك تفضُّل" : لأنّ المذنب لا يستحقّه في موقع ذنبه، بل يستحقّ ـ بدلاً من ذلك ـ العذاب، ولكنّ الله ينفتح عليه من موقع الرّحمة، من خلال ألطافه في ما يعرفه من نقاط ضعفه، ليفسح له في المجال للثّقة بالله والانفتاح عليه من أبواب الحِلْم الكبير.

    "وعقوبتُك عدْلٌ" : لأنّ الله أقام الحجّة على عباده في ما ألزمهم به من أوامره ونواهيه، وفي ما أغدقه عليهم من نِعَمِهِ، فإذا أخطؤوا، فإنّهم يواجهون المسؤوليّة في خطّ التّوازن بين العمل والجزاء. والمقدّمات والنّتائج.

    ثم إنّ الظّلم ينطلق من عقدة ضعفٍ يختزن الخوف والحاجة في نفس الظّالم، والله هو القويّ القادر الّذي لا يحتاج إلى عباده ولا يخاف قوّتهم، لأنّه القاهر فوقهم، والمهيمنُ عليهم، من موقع أنّهم المخلوقون له، الخاضعون لتدبيره، فكيف يكون ضعف الخالق أمام المخلوقين، وما هو سرّ الحاجة إلى الظّلم، وهذا ما عبَّرت عنه الآية الكريمة: {فَالْيَوْمَ لَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَلَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [يس:54].


    "وقضاؤكَ خِيَرةٌ" : والقضاء هو حكم الله الّذي يحتوي حياة الإنسان في ما يتّصل بكلّ أوضاعه، من حيث هو أحد الموجودات في حركة النّظام الكونيّ الّذي يدبّره الله على أساس المصلحة الكامنة في عمق الوجود لكلّ المخلوقات، في الدّوائر العامّة والخاصّة، حتّى في ما قد يبدو مثيراً للآلام والمشاكل، فإنّ النتائج السلبيّة الخاصّة في وعي الإنسان وشعوره، لا تعني السّلبيّة المطلقة في طبيعة القضايا المتّصلة بها، لأنّ من الممكن أن يكون ما هو سلبيّ من جهةٍ، إيجابيّاً من جهةٍ أخرى، وهذا ما نلاحظه في اختلاف النّظرة إلى الأمور على مستوى النّظرة العامّة أو الخاصّة، حيث يختلف جانب التّقويم للمسألة على أساس اختلاف طبيعة النّتائج هنا وهناك: وهو ما أشار إليه القرآن الكريم في قوله تعالى: {وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ} [البقرة:216]، في حديث الله عن القتال الّذي إذا نظرنا إليه في الدّائرة الضيّقة في حياة الفرد كان شرّاً، لأنّه يهدّد سلامته، بينما يكون خيراً في دائرة المجتمع الواسعة، في ما يحقِّقه من نتائج كبيرة على مستوى العزّة والكرامة والحريّة والعدالة.


    وفي قوله تعالى في علاقة الأزواج بزوجاتهم: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِن كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً} [النّساء: 19]. فإنّ الفكرة هي أن لا يحكم النّاس على الأشياء من خلال النّظرة السطحيّة الّتي تنظر إلى الجانب الظّاهر منها، بعيداً عمّا تستبطنه من الخصائص العميقة في الجذور، وهذا هو الّذي يجب أن يدرسه الإنسان في كلّ القضايا المتعلّقة بحياته على مستوى المصير الّذي يمثّل عاقبة الأمور، في ما قد تبدو فيه النّهاية على عكس البدايات، كما أنّ من الضّروريّ له أن لا يحدّق بها من زاوية واحدة، فإنّ الاستغراق في جانبٍ واحدٍ، قد يُبعده عن النّظرة الحقيقيّة الواقعيّة التي تحتاج إلى دراسة الأمور من جميع الزّوايا، لتجمع كلّ عناصرها الذّاتيّة.

    وربّما يحتاج الإنسان ـ في هذا المجال ـ إلى أن يدرس موقعه من حيث هو فرد مستقلّ في حاجاته الشَّخصيَّة وتطلّعاته الذاتيَّة، ومن حيث هو جزء من المجتمع الصَّغير أو الكبير في ارتباط قضاياه بقضايا النَّاس، في المنافع والمضارّ، فقد تتعارض الصِّفة الفرديَّة مع الصّفة الاجتماعيّة في طبيعة الأوضاع العامّة والخاصّة، ما يجعل المسألة إيجابيّةً من النّاحية العامّة، وسلبيّةً من النّاحية الخاصّة، فلا بدَّ له من أن يتحمّل السّلبيّات الذاتيّة لمصلحة الإيجابيّات الكبيرة، وبذلك تستقيم النّظرة إلى الواقع الإنسانيّ في دائرة النّظام الكونيّ الّذي هو جزءٌ منه في خطّ التّوازن في النّظرة والحكم على أساس المقدّمات والنّتائج.


    وقد نلاحظ في بعض الأدعية، الخطّ التّربويّ الّذي يُوحي للإنسان بأن يشكر الله على الحرمان كما يشكره على العطاء، من موقع الثّقة المطلقة بالخير في قضاء الله، الّذي يعرف من مصلحة الإنسان ما لا يعرفه الإنسان من نفسه، وذلك هو قول الإمام عليّ بن الحسين زين العابدين(ع) في دعائه في الرّضا إذا نظر إلى أصحاب الدّنيا: "اللّهمّ وطيّب بقضائك نفسي، ووسّع بمواقع حُكمِكَ صدري، وهبْ لي الثّقة، لأقرّ معها بأنّ قضاءك لم يجر إلا بالخِيَرة، واجعل شكري إيّاك على ما زويت عنّي، أوفرَ من شكري إيّاك ما خوّلتني".
    فإنّ الإيمان بالله الحكيم العادل الرّحيم اللّطيف بعباده، يوحي للمؤمن بهذا الشّعور الّذي لا ينطلق من حالة انسحاقٍ في القبول بالنّتائج السلبيّة، بل من حالة اقتناعٍ روحيّ ينطلق من القناعة الفكريّة بالعمق الذي يتحرّك فيه القضاء من موقع الرّحمة والحكمة والعدالة واللّطف الإلهيّ الكبير.

    "إن أعْطَيْتَ لمْ تشُب عطاءَكَ بِمَنٍّ، وإنْ منَعْتَ لم يكُن منْعُكَ تعدِّياً".

    إنّك تعطي ـ يا ربّ ـ كلّ عبادك، لأنّ العطاء سرّ ذاتك فيما هو سرّ كرمك وعمق رحمتك، فليس هو شيئاً يُراد به اجتذاب اعترافٍ بالجميل منهم، في ما يتطلّبه أهل العطاء من ذلك ممن يُعطونه، لتغذية الفراغ الذّاتيّ الّذي يبحث عمّا يملؤه من مدح النّاس وحمدهم، كما يبحث الصّوت عن الصّدى، والله هو الغنيّ عن عباده في كلّ شيء من خلال غناه الذّاتيّ، فلا معنى للمنّ في معنى عطاء الله لعباده، لأنّهم ليسوا شيئاً منفصلاً عنه، فهم خلْقُه ومُلْكُه وموقعُ تدبيره، وهم بعض عطائه في وجوده، كما أنّ نِعَمَه التي يُفيضها عليهم، من توابع ذلك ومن شؤونه، فكيف يمنّ المعطي على عطائه مع غناه المطلق.

    إنّك قد تمنع عنّي بعض نعمك، فقد لا تمنحني المال وأنا في حاجةٍ إليه، وقد لا تُسبغ عليّ العافية وأنا أتطلّع إليها، وقد لا تعطيني الكثير مما أطلب وأرغب فيه... ولكن هل يكون منعك لوناً من ألوان التعدّي عليّ، كما هو شأن المخلوقين عندما يمنع بعضهم بعضاً ما يحتاجون إليه مما يملكونه، في ما هو حقّ المخلوق على المخلوق في تبادل الحاجات، وتقابل الحقوق؟

    إنّ التعدّي في التصرّف السلبيّ، في ما هو المنع والحرمان، يفرض حقّاً للمحروم لدى الحارم، ودَيْناً للممنوع لدى المانع.. وهنا نتساءل يا ربّ: أيّ حقٍّ لنا عليك، وكلّ وجودنا هبةٌ منك وملكٌ لك، فأنت صاحبُ الحقّ في المنع، كما أنت صاحب الحقّ في العطاء، وأنت تفرض لعبادك الحقَّ في ما تجعله من الحقّ لهم عليك، فهو مستمدٌّ منك، وليس شيئاً من الذّات في علاقاتها الطبيعيّة بغيرها، ولذلك فإنّ المتعدّي لا معنى له، فأنت المحسن إن أعطيت، وأنت الحكيم إن منعت، وقد جاء في الحديث عن الإمام عليّ بن موسى الرّضا(ع) ما يشير إلى ذلك، فقد سأله بعض النّاس فقال: أخبرني عن الجواد، فقال: "إنّ لكلامك وجهين: فإنْ كنتً تسألُ عن المخلوق، فإنّ الجواد الّذي يؤدّي ما افترض الله عليه، وإن كنتَ تسألُ عن الخالق، فهو الجواد إنْ أعطى، وهو الجواد إنْ منع، لأنّه إنْ أعطاك أعطاك ما ليس لك، وإن منعك منعك ما ليس لك". وهذا ما جاء في كلام أمير المؤمنين(ع): "وكلّ مانعٍ مذموم ما خلاه".


    "تشكر من شكرك وأنت ألهمته شكرك، وتكافئ من حمدك وأنت علّمته حمدك".

    يا ربّ... إنّه لطفك وحنانك وكرمك.. إنّك تفتح لي في قلبي المنفتح عليك وعلى نعمك، نافذةً على الإحساس بكلّ جميلك الّذي لا يُحدّ، فينطلق عقلي وقلبي وشعوري ولساني بالشّكر لك على ما أوليتني من نعمك الّتي احتضنت وجودي كلّه بالخير والفرح والسّعادة الرّوحيّة والجسديّة... ويفاجئني ـ يا ربّ ـ وأنا المُثقلُ بكلّ هذا اللّطف الإلهيّ الّذي يفيض عليّ بالحنان والرّحمة، أنّك تشكرني على أنّي شكرتك، فأذوب وأذوب حتّى أشعر بكلّ كياني يذوب أمامك، لأنّي أفكّر وأشعر بأنّ هذا الشّكر من إلهامك، فأنت الّذي أعطيتني العقل الّذي اكتشفت به عمق نعمتك في وجودي، ومنحتني الحواسّ التي أشعر فيها بكلّ مواقع النِّعَم في حياتي، ليكون الشّكر نتيجة عقلٍ يفكّر، وحسٍّ يُبصر ويسمع ويشمّ ويذوق ويلمس، فأيّ ربٍّ عظيم لطيف أنت، عندما تشكر من شكرك وأنت ألهمته شكرك.


    وتحمدك نفسي على كلِّ مواقع الحمد في الكون، وفي كياني الدّاخليّ، في ما تمثِّله آفاق عظمتك وامتداد نعمك، وفي ما تنفتح عليه روحي من ذلك كلّه، في ما علّمتني من أسرار الحمد ومن أساليبه ووسائله؛ فمنك المعرفة الّتي انطلقت من حقائق الجمال والجلال والكمال في ذاتك، لتدخل في مواضع الفكر من عقلي، ومواقع الإحساس من شعوري.. وإذا بي أطلّ من جديدٍ على كرمك الواسع في فيض العطاء، فأجد منك ـ يا ربّ ـ لطف المكافأة على هذا الحمد الّذي هو هبةٌ منك، لأنّ إحساسي بالحمد ليس شيئاً أمنحك إيّاه فيزيد في عظمتك، ولكنّه شيء يرتفع بروحي إليك في آفاق المعرفة العليا الرّحبة الّتي تجعلني كبيراً في القرب منك.

  2. #2
    تاريخ التسجيل
    Jul 2004
    الدولة
    أرض الله الواسعة
    المشاركات
    6,631

    Lightbulb

    شرح دعاء وداع شهر رمضان - الحلقة الثانية








    في هذه الحلقة من شرح دعاء "وداع شهر رمضان"، يتناول سماحة العلامة المرجع، السيِّد محمد حسين فضل الله(رض)، الحديث عن النّعم والألطاف الإلهيّة الّتي تغمر العباد وترعى مصيرهم، وروحيّة الرّجاء بمغفرته تعالى من خلال التّوبة....التفاصيل



    شرح دعاء وداع شهر رمضان ـ الحلقة الثانية


    تَسْتُرُ عَلَى مَنْ لَوْ شِئْتَ فَضَحْتَهُ، وَتَجُودُ عَلَى مَنْ لَوْ شِئْتَ مَنَعْتَهُ، وَكِلَاهُمَا أَهْلٌ مِنْكَ لِلْفَضِيحَةِ وَالْمَنْعِ، غَيْرَ أَنَّكَ بَنَيْتَ أَفْعَالَكَ عَلَى التَّفَضُّلِ، وَأَجْرَيْتَ قُدْرَتَكَ عَلَى التَّجَاوُزِ، وَتَلَقَّيْتَ مَنْ عَصَاكَ بِالْحِلْمِ، وَأَمْهَلْتَ مَنْ قَصَدَ لِنَفْسِهِ بِالظُّلْمِ، تَسْتَنْظِرُهُمْ بِأَنَاتِكَ إِلَى الْإِنَابَةِ، وَتَتْرُكُ مُعَالجتَهُمْ إِلَى التَّوْبَةِ، لِكَيْلَا يَهْلِكَ عَلَيْكَ هَالِكُهُمْ، وَلَا يَشْقَى بِنِعْمَتِكَ شَقِيُّهُمْ، إِلَّا عَنْ طُولِ الْإِعْذَارِ إِلَيْهِ، وَبَعْدَ تَرَادُفِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِ، كَرَماً مِنْ عَفْوِكَ يَا كَرِيمُ، وَعَائِدَةً مِنْ عَطْفِكَ يَا حَلِيمُ.


    فعل الله مبنيّ على التّفضّل

    يا ربّ، إنّني عندما أتطلّع إليك في آفاق الألوهيّة الرّحبة الّتي لا تضيق على أحد، بل تتّسع ألطافها لكلّ النّاس، فماذا أرى؟ إنّني أرى السموّ يرتفع ويعلو في كلّ مدارج الرّفعة والعلوّ، فينظر إلى خلقه بعين الرّحمة لا بعين الانتقام، فيتفضّل عليهم بما يفتح لهم أبواب الانفتاح عليه بالاطمئنان إلى الأمل الكبير في العودة إلى مواقع رضاه في مواقع طاعته، لأنّه لم يغلق عليهم أبواب رحمته ومغفرته في ما فتح لهم من أبواب التّوبة إليه.

    إنَّك ـ يا ربّ ـ تعلم ما يقوم به عبادك الخاطئون من فضائح وخطايا في سرِّهم وعلانيتهم، وتطَّلع على ما يكنُّونه في وجدانهم من أسرارٍ عميقةٍ تتَّصل بموقع النيَّة في أفعالهم، وبموطن الإحساس في مشاعرهم، مما لا يريدون ظهوره وإطلاع الآخرين عليه، وأنت القادر على أن تفضحهم أمام النّاس بما تملكه من وسائل ذلك، وهم يستحقّون الفضيحة لسوء نيّتهم وفعلهم، ولكنّك ـ برحمتك ـ لم تفضحهم، حتّى تترك لهم الفرصة للتّراجع وللإحساس برحمتك في سترك عليهم، فيدفعهم ذلك إلى الحياء منك في ما يتمرّدون وفي ما تستر عليهم.


    وهناك البعض من الّذين تعقَّدت أفكارهم ومشاعرهم وأفعالهم، فابتعدت عن مواقع رضاك في خطوط طاعتك، وابتعدوا ـ بذلك ـ عن آفاق رحمتك، فاستحقّوا المنع من جودك وعطائك، ولكنَّك تبادرهم بالعطاء السّخيّ من رزقك، لينفتحوا عليك من عمق أفضالك وألطافك. وهكذا كان الخطّ الرّحيم الحليم الكريم الغفور، في ما تتصرّف به في واقع عبادك الخاطئين، فقد بنيت أفعالك على التفضّل، فأعطيتهم ما لا يستحقّونه، وأجريت قدرتك على التّجاوز، فلم تؤاخذهم بسوء أعمالهم، وتلقّيت من عصاك بالحلم، ففتحت له أبواب التّوبة، وأمهلت من قصد لنفسه بالظّلم، فتركت له الفرصة ليعدل معها بالاستقامة في الطّريق، والرّجوع عن الانحراف، لأنّك الواسع في كرمك، والعظيم في رحمتك، فلا يضيق عليك عفو ولا رحمة، ولا يرهقك انتظار الخاطئين ليرجعوا إليك من قاعدة التّوبة، لأنّك خلقت عبادك بيدك، وعرفت نقاط ضعفهم ونقاط قوّتهم، فأردت لهم أن يمتدّوا في ساحات الفكر الّذي يهديهم إلى سواء السَّبيل، عندما تترادف الحجج عليهم، ويكثر الإعذار إليهم، فيكتشفون ما ينتظرهم في آفاق رحمتك، فيرجعون إليك، ويستريحون إلى عفوك، ويهرعون إلى وعدك بقبول التّائبين والغفران للخاطئين المذنبين.. وذلك هو الّذي يقودهم إلى التّوازن في وعي المسؤوليّة، في ما يملكونه من طاقات، وفي ما يحرّكونه من خطوات، وفي ما يركّزونه من علاقات ببعضهم البعض، ما يجعلهم في موقف الطّاعة لله وإسلام الأمر كلّه له.


    وذلك هو الّذي يعطي الإنسان الصُّورة الحيَّة عن لطف الله بعباده، في ما يقودهم إلى مواقع العودة إليه بكلِّ الوسائل الّتي تختزن الرَّحمة، وتحرِّك الأفكار والمشاعر في خطِّ الواقعيَّة الرّساليّة في ما يأخذون به أو يتركونه، فلا يهلك هالكهم ـ في حال اختيارهم الهلاك ـ إلا بعد استنفاد كلِّ الحجج، ولا يشقى شقيّهم إلا بعد ابتعاده عن كلِّ ما وفَّره الله له من أسباب السَّعادة، وذلك في نطاق عنوانٍ واحدٍ يتَّسع لكلِّ أفعال الإنسان وأقواله وعلاقاته، وهو التَّوبة.

    أَنْتَ الَّذِي فَتَحْتَ لِعِبَادِكَ بَاباً إِلَى عَفْوِكَ وَسَمَّيْتَهُ التَّوْبَةَ، وَجَعَلْتَ عَلَى ذَلِكَ الْبَابِ دَلِيلًا مِنْ وَحْيِكَ لِئَلَّا يَضِلُّوا عَنْهُ، فَقُلْتَ تَبَارَكَ اسْمُكَ: {تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحاً عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْ‏ءٍ قَدِيرٌ} [التّحريم: 8]. فَمَا عُذْرُ مَنْ أَغْفَلَ دُخُولَ ذَلِكَ الْمَنْزِلِ بَعْدَ فَتْحِ الْبَابِ وَإِقَامَةِ الدَّلِيلِ؟!


    نداء المحبَّة الدّائم

    يا ربّ، كيف لا ينفتح عليك عبادُك بكلِّ الأمل والرّجاء في القُرب إليك، مهما ابتعدت بهم الذّنوب عن ساحة قُدْسِك، وأنت الّذي لا تترك مجالاً لانفتاحهم عليك إلاّ لتفسح لهم أكثر من فرصةٍ لذلك، لأنّك تعرف سرّهم وعلانيتهم في ما ينحرفون فيه عن الطّريق، أو في ما يمارسونه من الخطيئة، انطلاقاً من مواقع الاهتزاز في مشاعرهم، وعناصر الإثارة في غرائزهم، وإيحاءات الانحراف في أوضاعهم، مما يحتاجون فيه إلى الكثير من الرّحمة التي تجتذبهم إلى الخير وتُبعدهم عن الشّرّ، في ما تهيّئ لهم من ظروف التّراجع عن ذلك كلّه، عندما يواجهون ألطاف الخير في شخصيّاتهم، من خلال الإيحاء الرّوحيّ بأنّ الله يدعوهم إلى العودة إليه، وإلى الثَّبات في مواقع رضاه، وإلى الاتجاه نحو الهدوء في العقل، والاستقامة في الخطوات على الطّريق المستقيم، ليكون الانحراف في حركتهم مجرّد حالةٍ طارئةٍ لا تستقرّ في الاتجاه، وليكون الاهتزاز في مناطق الإثارة مجرّد وضعٍ سريع لا يلبث أن يزول بفعل عناصر الثّبات في الإيمان وفي التّقوى.


    وهكذا دعوْتَ عبادك إلى عفوك، ولكن لا ليحصلوا عليه بدون إرادةٍ أو معاناة، بل أردْتَ لهم أن يحصلوا عليه من خلال الباب الرّوحيِّ الّذي يمتزجُ فيه الوعي للمسألة الإلهيَّة بالمسألة الإنسانيَّة، في ما هو حقُّ الله على عباده، من الإحساس بالعبوديّة المطلقة الّتي لا يملكون معها أيَّ شيء من حريّة الاختيار خارج نطاق الطّاعة، ويتحرّك فيه العنصر الرّوحيّ في دائرة العنصر العمليّ، وهو التّوبة الّتي تختصر في حركة الإنسان كلّ معاني الانفتاح على الله، والانغلاق عن كلّ مواقع الشّيطان، في عمليّة إرادةٍ قويّةٍ وتصميمٍ حاسم.

    ثمَّ أكَّدْتَ ذلك في الخطِّ الَّذي رسمته لهم بكلِّ وضوحٍ في وحيك، في ما أظهرت لهم من خصائصه، وبيَّنت لهم من ملامحه، حتَّى يتعرَّفوا إليه بطريقةٍ دقيقة.. وتلك هي التَّوبة النّصوح الّتي تعبِّر عن توافق ظواهرهم وبواطنهم في عمليَّة التَّغيير، وعن صدق النيَّة وقوَّة العزم وإرادة الثَّبات، بحيث لا مجال فيه لأيِّ تراجعٍ أو اهتزاز.


    وهذا هو ما تحدَّثْتَ به إليهم في كتابك الّذي أطلقتَ فيه نداء الدّعوة إلى التّوبة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحاً} [التّحريم:8].

    إنَّك تدعوهم إلى العودة إليك من موقع الصِّدق الّذي يعبِّر عن الاستقامة في خطّ طاعتك، من خلال إرادة التّغيير الّذي ينتقلون به من خطّ الشيطان إلى خطّ الله.. فهذا هو الطّريق الوحيد الّذي يربطهم بك من جديد، إنّك توحي إليهم بأنّك لا ترفضهم لمجرّد أنّهم عصوك وتمرّدوا عليك، بل تعلن لهم أنّك تتقبّلهم في أيّة لحظةٍ يريدون فيها العودة، وتدعوهم إلى أن ينفتحوا على ذلك في نداء محبّةٍ ولطفٍ وحنانٍ ورحمة.

    ثمّ تابعت النّداء بالإيحاء إليهم بأنَّ عليهم أن يعيشوا روحيّة الرّجاء بمغفرة الله من خلال التّوبة... وإذا كانت المسألة عندهم رجاءً يحمل في داخله بعض عناصر الخوف، في ما تريد أن توحي إليهم بالتحرّك نحوك، في شعورٍ تمتزج فيه الرّغبة بالرّهبة كوسيلةٍ من وسائل التّربية الرّوحيّة الّتي يتحرَّك فيها الإنسان في روحيَّة العبوديَّة بين الخوف والرّجاء ليتأكّد موقعه في إخلاصه لله، في قلق الإنسان الباحث عن مواقع رضاه، إذا كانت المسألة عندهم رجاءً في الخطّ التّربويّ، فإنّها عندك ـ يا ربّ ـ قرار بالعفو عمّن يعيش في أعماقه الرّغبة الحقيقيّة في التطلّع نحو رضاك، وهذا هو قولك: {عسى ربُّكُم أن يُكفِّر سيّئاتِكُم ويُدخِلْكُم جنّاتٍ تجري من تحتها الأنهار} [التّحريم: 8].


    فذلك هو الأفق الجديد للتّوبة، أن يتحوّل الماضي في نتائج مسؤوليّته إلى صحيفة بيضاء لا أثر فيها للخطيئة السّوداء، ولا للانحراف الأعمى، لأنّ الحاضر التّائب يهيّئ جوّ الغفران للماضي الخاطئ، وأن يكون المستقبل البعيد هو مستقبل النّعيم الّذي يلقاه النّاس التّائبون في الجنّات الّتي تجري من تحتها الأنهار، حيث يعيشون فيها الإحساس بالجمال والشّعور بالطّمأنينة.. هناك في ذلك اليوم الّذي يؤكّد الله فيه رعايته لعباده الصّالحين.

    {يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [التّحريم: 8].

    فأنت ـ يا ربّ ـ لا تُدخل الخزي والعار على عبادك الصّالحين الّذين عاشوا في مجتمع الإيمان بالله، والسّير في خطّ شريعته، بقيادة النبيّ الّذي حمل الرّسالة ودعا إلى الله وإلى طاعته، لأنّك اطّلعت على قلوبهم، فرأيت فيها النّور الّذي يشعّ بالإيمان، فيتفايض على ساحاتهم في طريقهم الطّويل، وينطلق في أيمَانهم الّتي يحرّكونها في خطّ الجهاد وفي سبيل الله... فإذا شعروا بأنّ هناك نقصاً في هذا النّور الّذي أرادوه أن يتكامل، توجّهوا إليك بكلّ إشراقة الحقيقة الإلهيّة في كيانهم، ليطلبوا منك أن تكمل لهم هذا النّور الذي ضاع بعضه منهم بفعل ظلام الخطيئة، وأن تغفر لهم، حتّى تكون الحياة لديهم نوراً في حركة الإيمان والطّاعة، ونوراً في حركة العفو والمغفرة، وهكذا يبتهل إليك عبادك، لأنّك القادر على كلّ شيء، والمهيمن على الوجود كلّه وعلى الجزاء كلّه، فأيّ ربٍّ عظيمٍ أنت يا ربّ، وأيّ خالقٍ رحيمٍ أنت يا ربّ.. وكيف يبتعد عبادك عن الدّخول إلى عفوك من باب التّوبة المفتوح على مصراعيه، وما هو عذركم في ذلك كلّه؟

    وَأَنْتَ الَّذِي زِدْتَ فِي السَّوْمِ عَلَى نَفْسِكَ لِعِبَادِكَ، تُرِيدُ رِبْحَهُمْ فِي مُتَاجَرَتِهِمْ لَكَ، وَفَوْزَهُمْ بِالْوِفَادَةِ عَلَيْكَ، وَالزِّيَادَةِ مِنْكَ، فَقُلْتَ تَبَارَكَ اسْمُكَ وَتَعَالَيْتَ : {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا} [الأنعام:160]، وَقُلْتَ: {مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ} [القرة:261]، وَمَا أَنْزَلْتَ مِنْ نَظَائِرِهِنَّ فِي الْقُرْآنِ مِنْ تَضَاعِيفِ الْحَسَنَاتِ.


    التّجارة مع الله

    لقد كان وجودنا بعض عطائك وكرمك، كما كانت نعمك الوافرة في حركة هذا الوجود شاهداً على لطفك ورحمتك، وهذا ما يعيشه عبادك المؤمنون بك، المبتهلون إليك في وجدانهم الإيمانيّ، عندما يرون الفيض الإلهيّ ينهمر عليهم من كلّ جانبٍ، من دون أن يكون لديهم أيّ عملٍ يقدّمونه بين أيديهم ليستحقّوا به ذلك. ولقد دعوتنا إلى العمل في كلِّ مواقع طاعتك، في ما يتَّصل بحياتنا الخاصَّة، وفي ما يتحرّك به وجودنا الذاتيّ من رغباتٍ وحاجات، وفي ما يتّصل بحياتنا مع الناس في ما تفيضه علينا من مسؤوليّات وأوضاع، فأردتنا أن نعيش العطاء في طاقاتنا في ما نقدّمه من خيرٍ لأنفسنا وللنّاس وللحياة في نطاق أوامرك ونواهيك، ليكون وجودنا فاعلاً منتجاً على مستوى الوجود كلّه، ولم تجعل عملنا هذا مجرّد مسؤوليّة عباديَّة نتعبَّد فيها إليك على أساس ما يجب علينا لك من أنواع الطّاعة، من دون أن نحصل من ذلك على شيء في ربح الذّات لنفسها في ما تريده من خير، بل جعلته نوعاً من التّجارة معك في ما تجتذبه من الرّبح المخزون عندك، واعتبرته قرضاً يحمل لنا فرص الزِّيادة المضاعفة، وهكذا دعوتهم إلى التِّجارة معك، وأنت الّذي رزقتهم ما يتاجرون به، وزدتهم في الرِّبح، لتزيدهم رغبةً في التَّسامي إلى درجات القرب إليك، وحركةً في خطِّ المسؤوليَّة في تحريك الحياة نحو الانطلاق إلى مواقع الخير للإنسان كلّه في جميع مجالاته، ليكون الإنسان إنسان العمل الصّالح الخيّر في ما تحتاجه الحياة من طاقاته، وليكون إنسان الله في ما تفرضه عليه من كلّ مواقع الطّاعة، وملامح العبوديّة له في وجوده.


    وهكذا كان، أنّ من جاء بالحسنة ـ أيّة حسنة ـ فله عشر أمثالها، وكان الإنفاق {فِي سَبِيلِ اللّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّئَةُ حَبَّةٍ وَاللّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاءُ} [البقرة: 261]، وكأنّ الّذي يقرض الله قرضاً حسناً في ما يقدّمه للآخرين من طاقته وماله، يستحقّ الأضعاف الكثيرة من الرّبح والأجر الكريم، وذلك في عمليّةٍ تربويّةٍ إيحائيّةٍ بأنّ قضيّة العمل الصّالح ليست مجرّدَ قضيّةٍ ترتبط بالمبدأ في ما يخطّط له من مواقع ومواقف، ولكنّها قضيّة الذّات في ما تتطلّع إليه من أرباحٍ ومنافع... وأنّ الذّاتيّة في حساب العمل تمثّل قيمةً كبيرةً في ميزان الله، عندما يكون العمل لله في ما يتقرّب به الإنسان إليه في خدمة الإنسان والحياة، قربةً إلى الله، لأنَّ الله أراد للإنسان أن يطيعه ويتعبَّد له، طمعاً في جنَّته، وخوفاً من ناره، ورغبةً في الأجر العظيم، ولم يفرضْ عليه أن يفعل ذلك من دون ثمنٍ، على أساس استحقاق الله للعبادة في ذاته، وذلك على أساس أنّ الله لا يريد للإنسان أن يبتعد عن خصائص إنسانيّته في نطاق بشريّته، فيكون ملكاً يفكّر في العمل من ناحية التّجريد، بل أراد له أن يكون بشراً في نطاق حاجاته الحاضرة والمستقبلة على مستوى الدّنيا والآخرة.

    ولهذا أعطى السّعي نحو المسؤوليّات العامّة والخاصّة معنى التّجارة والبيع، في ما يجتذبانه من قضايا الرّبح والتّعويض في الطّموحات الذاتيّة، ليعيش الإنسان هاجس ذلك في دنياه وآخرته على أساس الخطّ المستقيم.

    وَأَنْتَ الَّذِي دَلَلْتَهُمْ بِقَوْلِكَ مِنْ غَيْبِكَ وَتَرْغِيبِكَ الَّذِي فِيهِ حَظُّهُمْ عَلَى مَا لَوْ سَتَرْتَهُ عَنْهُمْ لَمْ تُدْرِكْهُ أَبْصَارُهُمْ، وَلَمْ تَعِهِ أَسْمَاعُهُمْ، وَلَمْ تَلْحَقْهُ أَوْهَامُهُمْ ، فَقُلْتَ: {فاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ} [البقرة:152]، وَقُلْتَ: {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} [إبراهيم:7]، وَقُلْتَ: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} [غافر:60]، فَسَمَّيْتَ دُعَاءَكَ عِبَادَةً، وَتَرْكَهُ اسْتِكْبَاراً، وَتَوَعَّدْتَ عَلَى تَرْكِهِ دُخُولَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ، فَذَكَرُوكَ بِمَنِّكَ، وَشَكَرُوكَ بِفَضْلِكَ، وَدَعَوْكَ بِأَمْرِكَ، وَتَصَدَّقُوا لَكَ طَلَباً لِمَزِيدِكَ، وَفِيهَا كَانَتْ نَجَاتُهُمْ مِنْ غَضَبِكَ، وَفَوْزُهُمْ بِرِضَاكَ، وَلَوْ دَلَّ مَخْلُوقٌ مَخْلُوقاً مِنْ نَفْسِهِ عَلَى مِثْلِ الَّذِي دَلَلْتَ عَلَيْهِ عِبَادَكَ مِنْكَ، كَانَ مَوْصُوفاً بِالْإِحْسَانِ، وَمَنْعُوتاً بِالِامْتِنَانِ، وَمَحْمُوداً بِكُلِّ لِسَان.


    ذكر الله حاجة إنسانيّة

    ويبقى لطفك بعبادك يغمر حياتهم، ويرعى مصيرهم، عندما تدلّهم على الطّريق الّذي يؤدّي إليك، فيرفع درجتهم عندك، ويحقِّق لهم السّعادة لديك، في ما يوحي به ذلك كلّه من علاقة العبد بربِّه، وعلاقة الرّبِّ بعبده، فهناك مبادرة من الإنسان تتحرَّك في طريقته في التَّعبير عن شعوره بحضور الله في وجدانه وفي الوجود كلّه، بحيث يجده في أجواء الغيب السّابح في المطلق، كما لو كان في أجواء الشُّهود الغارق في الحسّ، فيذكره في آفاق ألوهيَّته بكلِّ مواقع عظمته وموارد نعمه، بأسمائه الحسنى وصفاته العليا، ويتحوَّل الذِّكر عنده إلى حقيقةٍ حيّةٍ في عقله وإحساسه وحركته في الحياة.. وهنا تلتقي المبادرة الإنسانيّة في خطّ العبوديّة الخالصة المخلصة، بالرّحمة الإلهيّة، فيذكر الله عبده بالرّحمة واللّطف والحنان والمغفرة، كما ذكره عبده بالإخلاص والاعتراف والتوسّل والعبادة.


    وهكذا أراد الله لعباده أن يذكروه ليذكرهم، في ما يريد أن يثيره في تفكيرهم من أنَّ نسيانهم له في كلِّ مواقع الحياة عندهم، سيكون تأثيره لديه أن ينساهم، فيهملهم في عمق مسألة المصير، وهذا ما عبَّر عنه الله في حديثه عن أمثال هؤلاء في موقفهم يوم القيامة في ساعة الحساب، في حوارهم مع الله، بقوله: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيراً * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى} [طه:124-126]، وقوله تعالى: {نسُوا الله فنَسِيَهُم} [التَّوبة: 67].

    وليست المسألة مسألة حاجةٍ إلهيَّةٍ في ذكر الإنسان لربِّه، بل هي حاجةٌ إنسانيَّةٌ في انفتاح الإنسان على مصالحه في الحياة وفي المصير من خلال ذلك، حيث يكون نسيانه لله نسياناً لنفسه، عندما يستولي عليه الشّيطان في كلِّ مصادره وموارده، وذلك هو قوله تعالى: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ أُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [الحشر:19].

    وبذلك يكون ذكر الله في وعي الإنسان وسيلةً من وسائل ذكر الإنسان لنفسه، وإذا كان الذِّكر حركةً في وعي الإنسان لربِّه، فإنَّه يجتذب الشّكر الّذي يمثِّل وعي الإنسان لنعم الله في حياته في كلِّ مواقع وجوده في تفاصيلها الصَّغيرة والكبيرة، بحيث لا معنى له بدونها، ولا قيمة لأيّة سعادةٍ بعيداً عنها.. وهذا هو الّذي يعمِّق في الإنسان إحساسه بإنسانيَّته، في يما يعنيه الاعتراف بالجميل من المعنى الإنسانيّ، وذلك هو الّذي يجسِّد انفعاله بألطاف الله عليه، وكما هو الذِّكر في علاقته بمصلحة الإنسان في الدّاخل، كذلك الشّكر في علاقته بالله في امتداد النّعم عليه وزيادةُ فُرصِها في حياته، وهذا في مقابل الكُفران والجحود ونكران الجميل، في زوال النّعمة عنه وتحوّلها إلى عذابٍ شديد، وهذا ما عبّر الله سبحانه بقوله في دعوته الإنسان إلى الشّكر وتحذيره من الكفر بالنّعمة: {وَاشْكُرُواْ لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ} [البقرة:152].


    وقوله تعالى: {لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} [إبراهيم:7 ].

    هكذا كانت دعوة الله للإنسان إلى الذّكر، ودعوته إلى الشّكر، وسيلةً من وسائل انفتاحه على ربّه، ليبقى ذكره في وجدانه، حيث يشرق الله في كلّ فكره وشعوره، ليمتدّ حضوره عنده في مواقع المسؤوليّة في حياته، ولينطلق شكره له ليعمّق في ذاته الإحساس بارتباط كلّ حياته بربِّه، من خلال علاقة النّعم الإلهيّة بحياته، في وعيٍ لحاجته المطلقة إلى الله، وشعورٍ بتلبية الله له في ذلك كلّه.


    مميّزات الدّعاء

    ثم كان الدّعاء الّذي دعوتنا إليه يا ربّ، الّذي هو المظهر الحيّ للتّواصل الدائم بيننا ـ نحن عبادك ـ وبينك، فهو الّذي يمثّل النّجوى التي تنطلق من عمق الشّعور الحيّ في قلوبنا، لنتحدَّث معك من موقع الحاجة إليك، والرَّغبة في الحصول على لفتةٍ من كرمك، ونظرةٍ من رحمتك، لأنَّك سرُّ وجودنا، ومعنى الامتداد في مسيرة هذا الوجود، وهو الَّذي يعبِّر عن الاعتراف بألوهيَّتك في خطِّ عبوديَّتنا لك، على أساس المضمون الإيمانيّ الّذي تتحرَّك فيه كلّ مفردات العقيدة والحياة، في تعدادٍ متنوّع الأبعاد والأساليب، بروح عباديّةٍ تعبيريّةٍ عن كلّ ما يفكّر فيه الإنسان ويُحسّه ليعرضه أمام الله، حيث يمثّل ذلك اعترافاً وإقراراً وإخلاصاً بما يعتقد أنّه الحقيقة الخاضعة لكلمات الله ورسالاته، حيث تتميَّز عبادة الدّعاء عن أيِّ عبادةٍ أخرى، بتنويع الأفكار والأوضاع، فلا تجد هناك تشريعاً محدّداً في الكيفيّة والكميّة، فللإنسان أن يدعو ربَّه وهو قائمٌ أو قاعدٌ أو مستلقٍ على ظهره أو راكعٌ أو ساجدٌ أو واقفٌ أو سائرٌ، ولا توجد كلمات محدّدة لما يقوله في الدّعاء، ولا لغات معيّنة، بل يمكنه الدّعاء بأيِّ لغةٍ وأيّة كلمةٍ، في أيِّ مضمونٍ روحيّ أو شعوريّ أو فكريّ، مما يريد أن يقدِّمه الإنسان بين يدي الله.. وبهذا كان الدّعاء عبادةً متحرِّكةً على أكثر من صعيد، ومنفتحةً على كلِّ إنسان، بحيث ينطلق فيها الإنسان بشكلٍ عفويّ عند حدوث أيّة مشكلةٍ، أو طروء أيّة حاجةٍ لا يرى فيها لقدرته مجالاً لحلّ المشكلة أو لقضاء الحاجة، فيلجأ إلى الله ويرفع حاجته إليه.


    وهو الّذي ينمّي في روح الإنسان الصّلة الرّوحيّة بالله، حيث يشعر بأنّ الله قريب منه ومن آلامه وآماله ومشاكله وحاجاته، ليفتح عليه أبواب رحمته، فيخفِّف عنه ما ثَقُل عليه من ذلك، وليقضي له ما صعُب منها، فيجد حاجته عند ربِّه بما لا يجدها عند غيره، وهذا هو ما عبَّرت عنه الآية الكريمة: {فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} [البقرة: 186].

    ويتصاعد الاهتمام بهذه العبادة الدّعائيّة، حيث تمثِّل الدَّعوة الحاسمة الّتي تجعل من الإقبال عليها مظهراً للعبادة الخالصة المنفتحة على معنى عبوديّة الإنسان لله، كما تجعل من الابتعاد عنها مظهراً من مظاهر الاستكبار عن عبادة الله الّذي يؤدّي إلى دخول جهنّم، وهذا هو قوله تعالى: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} [غافر:60].
    وهكذا عاش النّاس الذِّكر والشّكرَ والعبادة من خلال الإحساس بمنِّك، والانفتاح على فضلك، والخضوع لأمرك، فكان ذلك سبباً للوصول إلى مواقع رضاك من خلال مواقع طاعتك.. في ما يقودهم ذلك إلى رحاب جنَّتك.. وهذا هو الغاية، كلّ الغاية، في حركة السّعادة الإنسانيّة الّتي يتطلّع إليها المؤمنون، وينطلق نحوها المخلصون.

  3. #3
    تاريخ التسجيل
    Jul 2004
    الدولة
    أرض الله الواسعة
    المشاركات
    6,631

    Lightbulb

    محاضرات رمضانية / وداع شهر رمضان








    في اجواء وداع شهر رمضان، تحدث سماحة العلامة المرجع، السيِّد محمد حسين فضل الله(رض)، عن معنى الزمن في التراث الإسلامي، مفسّراً مقاطع من دعاء الإمام زين العابدين(ع)، ومتناولاً منزلة هذا الشهر العظيم وأثره ومميّزاته...


    التفاصيل

    إستماع



    بسم الله الرّحمن الرّحيم، الحمد لله ربّ العالمين، والصّلاة والسّلام على سيّدنا محمّد وعلى آله الطيّبين الطّاهرين وأصحابه المنتجبين وعلى جميع الأنبياء والمرسلين.


    مراقبة الزّمن لأعمالنا

    للزّمن في التّراث الإسلاميّ معناه، بحيث يتجسّد في الإنسان، حتّى يشعر الإنسان بأنّ الزمن يمثّل شخصاً حيّاً يراقبه، فيمدحه إذا عمل خيراً، ويذمّه إذا عمل شراً، وهذا ما نستوحيه من دعاء الصّباح والمساء للإمام عليّ بن الحسين زين العابدين(ع): "اللّهمّ وهذا يوم حادثٌ جديد"، عندما يقبل الصّباح على الإنسان، فيحسّ بأنّ هناك يوماً جديداً قد دخل في امتداد عمره، "وهو علينا شاهدٌ عتيد"، يعني شاهدٌ حاضر .. فهذا اليوم ليس مجرّد دقائق وساعات، بل هو شاهدٌ على الإنسان، يشهد له إذا عمل خيراً، ويشهد عليه إذا عمل شرّاً .


    كيف ينظر إلينا هذا الزّمن؟ هذا الزّمن يراقبنا، "فإن أحسنّا" في أعمالنا وقمنا بمسؤوليّاتنا فيما كلّفنا الله به، "ودّعنا بحمد".

    نحن من نودّع؟ حين يأتينا زائر ونريد تكريمه، نودِّعه إلى مأمنه أو إلى الباب أو إلى ما أشبه ذلك.. فاليوم إذا أحسنّا في نهاره، يودّعنا عندما يأتي اللّيل حامداً لنا ومقدّراً لنا، لأنّنا قضينا هذه السّاعات وهذه الدّقائق في طاعة الله، "وإن أسأنا"، وقضينا هذا النّهار في المعاصي، بأن لم نطع الله في عباداته وفيما نهانا عنه من المحرّمات، "فارقنا بذمّ"، بأن يدير لنا ظهره، كما يقال في الطّريقة الشّعبيّة، وهو يذمّنا لأنّنا لم نشكر نعمة الله في هذا اليوم الّذي جعله الله لنا من عمرنا، لأنَّ كلَّ يومٍ يمضي على الإنسان هو نعمة من الله تستحقّ الشّكر، فقد ورد في دعاء يوم الأربعاء: "لك الحمد أن بعثتني من مرقدي"، يحمد الإنسان ربّه لأنّ حياته بقيت.


    "ولو شئت جعلته سرمداً"، نحن نعيش بمشيئتك يا ربّ، ولو شئت لجعلته سرمداً.

    "اللّهم فارزقنا حسن مصاحبته واعصمنا من سوء مفارقته"، اجعلنا نصاحب هذا اليوم مصاحبةً حسنةً، بأن نطيعك في هذا اليوم ولا نعصيك، لترضى عنَّا فيه.


    دعاء وداع شهر رمضان

    وهكذا نلاحظ كيف أنَّ الإمام زين العابدين(ع) يجسِّد شهر رمضان كما لو كان مخلوقاً حيّاً يسلّم عليه، فنرى مثلاً عندما يقول الإمام(ع): "فقد أقام فينا هذا الشّهر مقام حمد"، لأنّك وفّقتنا لأن نحمدك، ولأنّك أعطيتنا فضيلة الحمد، "وصحبنا صحبة مبرور، وأربحنا أفضل أرباح العالمين"، عندما صمنا نهاره وقمنا ليله، وعندما ذكرناك فيه وتضرّعنا إليك، ربحنا رضاك ومحبّتك، وربحنا أفضل أرباح العالمين، "ثم قد فارقنا" انتهى شهر رمضان، وندخل في يوم العيد بعد إتمام العدّة، مع أنّ المسلمين، مع الأسف، عادةً عندما يأتي العيد، بعضهم يشرّق وبعضهم يغرّب، وسنرى أحداً يقول العيد الأحد، وآخر يقول الإثنين، وأحدهم يقول الثّلاثاء. "ثم قد فارقنا عند تمام وقته وانقطاع مدّته ووفاء عدده، فنحن مودّعوه"، لأنّه أقام فينا وعاش معنا وسيفارقنا، ويجب أن نودّعه كأيّ شخصٍ محبوبٍ لنا.


    "فنحن مودّعوه وداع من عزَّ فراقه علينا"، كنّا نعيش مع شهر رمضان، وكان يعطينا في كلّ يوم حسنةً ولطفاً من ألطافك، "وغمّنا وأوحشنا انصرافه عنّا" .. فليس لدينا شهرٌ كشهر رمضان إلى السَّنة القادمة، "ولزمنا له الزّمام المحفوظ"، يعني صار له ذمّة عندنا، "والحرمة المرعيّة، والحقّ المقضيّ.

    فنحن قائلون" وهذا في محلّ الشّاهد أنّنا نخاطبه مخاطبة الموجود الحيّ:
    "السّلام عليك يا شهر الله الأكبر"، يعني نحن نسلّم على شهر رمضان، ونعرف أنَّ كلّ الشّهور هي أصغر من شهر رمضان، "ويا عيد أوليائه الأعظم"، لأنّه في نهايته عيد الأولياء، "السّلام عليك يا أكرم مصحوب من الأوقات"، يعني نحن لم نصحب وقتاً كما صحبنا وقت شهر رمضان الّذي هو "خير شهرٍ في الأيّام والسّاعات".


    "السّلام عليك من شهرٍ قربت فيه الآمال، ونشرت فيه الأعمال"، يعني أصبحنا نؤمّل في رضا الله ومغفرته ورحمته ولطفه ورزقه...

    "وزكِّيت فيه الأموال"، حشد الله فيه كلّ ما يقرِّبنا إليه سبحانه: فهناك صلاةٌ واجبةٌ، وهناك صلوات مستحبّة وهناك دعاء وقراءة القرآن الكريم، ودفع الحقوق الشّرعيّة الّتي أمرنا الله بها {وَآتُوهُم مِّن مَّالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ} [النّور: 33]، {وَأَنفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ} [الحديد: 7]، يعني المال الّذي تملكونه ليس لكم؛ أنتم وكلاء لله تعالى في صرف هذا المال فيما أمركم به، وتأتي في آخر شهر رمضان وأوّل شهر شوّال زكاة الفطرة.


    "السّلام عليك من قرينٍ يقارننا"، يعني صديق، "جلّ قدره موجوداً"، عندما يكون معنا، نشعر بأنّه هو الشّهر الجليل، "وأفجع فقده مفقوداً، ومرجوّ آلم فراقه"، شعرنا بالفجيعة كمن يفقد عزيزاً.

    "السّلام عليك من أليفٍ ألفناه، آنس مقبلاً فسرّ، وأوحش منقضياً فمضّ"، أي آلمنا. "السّلام عليك من مجاورٍ رقّت فيه القلوب"، لأنّ الإنسان عندما يدعو الله ويقرأ القرآن، لا شكّ بأن قلبه يرقّ وتزول منه القسوة، "وقلّت فيه الذّنوب"، حيث أن طاعة الله والاستغفار في هذا الشّهر تقلُّ الذّنوب.


    "السّلام عليك من ناصرٍ أعان على الشّيطان"، لأنّه كما ورد: "إنّ الشّياطين في هذا الشّهر مغلولة، فادعوا الله أن لا يسلّطها عليكم"، فالإنسان بالإرادة الإيمانيّة التّقوائيّة يطرد الشّيطان.

    "وصاحبٍ سهّل سبل الإحسان"، يحسن فيه الإنسان إلى نفسه بالطّاعة والإخلاص، ويحسن إلى النّاس بالعمل الصّالح.

    "السّلام عليك ما أكثر عتقاء الله فيك!"، في كلّ ليلة هناك عتقاء من النّار، ويقال إنّه في العشر الأواخر، يعتق الله من الذّنوب، كما أعتق في بقيّة أيّام الشّهر.

    "وما أسعد من راعى حرمتك بك!" الّذي راعى حرمة الشّهر ولم يهتك حرمته، بعض النّاس يتجاهر بالإفطار ويمشي ويأكل ويشرب، فيهتك حرمة الشّهر.

    "السّلام عليك ما كان أمحاك للذّنوب!"، لأنّ الله يغفر للإنسان ذنوبه في هذا الشّهر، "وأسترك لأنواع العيوب"، يستر الله على المؤمن عيوبه.

    "السّلام عليك ما كان أطولك على المجرمين!" المجرمين الّذين لا يطيقون هذا الشّهر، لأنّهم يعيشون نوعاً من أنواع القيود في المجتمع، فيرونه طويلاً ويريدونه أن ينتهي.

    "وأهيبك في صدور المؤمنين. السَّلام عليك من شهرٍ لا تنافسه الأيَّام"، هو الأكثر فضلاً من كلِّ الأيّام، "السّلام عليك من شهرٍ هو من كلِّ أمرٍ سلام".

    "السّلام عليك غير كريه المصاحبة"، نحن لا نكرهك، "و لا ذميم الملابسة".

    "السّلام عليك كما وفدت علينا بالبركات، وغسلت عنّا دنس الخطيئات. السّلام عليك غير مودّعٍ برماً"، نحن لا نودّعك وقد مللنا منك، "ومتروكٍ صيامه سأماً. السّلام عليك من مطلوبٍ قبل وقته"، كلّنا ننتظر شهر رمضان أن يأتينا، "ومحزون عليه قبل فوته. السّلام عليك كم من سوءٍ صرف بك عنّا"، صرفه الله عنّا بك، "وكم من خيرٍ أفيض بك علينا. السّلام عليك وعلى ليلة القدر الّتي هي خير من ألف شهر. السّلام عليك ما كان أحرصنا بالأمس عليك!"، نريدك أن تأتي، "وأشدّ شوقنا إليك. السّلام عليك وعلى فضلك الّذي حرمناه، وعلى ماضٍ من بركاتك سلبناه".


    هذا هو الجوّ الّذي يريدنا الإمام زين العابدين(ع) أن نعيشه، ونحن نودّع هذا الشّهر، لنتصوَّره مخلوقاً حيّاً يفيض بالنِّعمة والبركة والرَّحمة والمغفرة.


    والحمد لله ربِّ العالمين


    ألقيت في 30 رمضان 1430 هـ



    للإستماع الى المحاضرة

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •  
 
شبكة المحسن عليه السلام لخدمات التصميم   شبكة حنة الحسين عليه السلام للانتاج الفني