الإصـلاح بيـن النـاس
الإصلاح بين الناس من المسائل التي أعطاها الإسلام الأهمية الكبرى، لأن الإسلام يهتم بالسلام الاجتماعي، سواء كان السلام في الدائرة العائلية المصغّرة، أو في كل الدوائر الاجتماعية الصغيرة أو الكبيرة، باعتبار أن السلام هو الذي يحقق التوازن في المجتمع على أساس انفتاح المجتمع بعضه على بعض ما يؤدي إلى التواصل والتكامل والتعاون على الخير وعلى البر والتقوى.
وقد تحدَّث القرآن عن بعض النماذج التي قد تعيش الخلاف، ولا سيّما في الجانب العائلي، فيتحدّث عن الحالة التي يواجه فيها الرجل زوجته بالتعسّف، بحيث يعرض عنها نتيجة عقدةٍ نفسيّة أو مزاج خاص، وقد يمنعها حقوقها التي أوجبها الله تعالى عليه، فالله سبحانه وتعالى أراد في البداية أن يُصار إلى حلّ المشكلة حلاً سلمياً قبل أن يؤخذ الزوج بالحدود الشرعية التي ربما تصل إلى العقوبة أو الانفصال من قِبَل الحاكم الشرعي يقول تعالى: {وإن امرأةٍ خافت من بعلها نشوزاً}، أي إذا ظهر من الزوج النشوز، والنشوز هو عبارة عن منع المرأة حقوقها الزوجية، سواء كان ذلك بامتناع الزوج عن الإنفاق على زوجته، أو بالامتناع عن أداء حقوقها الجنسية وما إلى ذلك، {أو إعراضاً}، بأن يهملها ويهجرها ولا يعاشرها بالمعروف بما يقتضيه الانفتاح على إنسانيتها وعلى احترام ذاتها في ما يجب للإنسان أن يحترم الإنسان الآخر، ولا سيما إذا كان على أساس العلاقة الزوجية.
{فلا جناح عليهما أن يصلحا بينهما صلحاً}، أي فلا مانع من أن يبادر الناس إلى الصلح بينهما، بدراسة الأسباب التي أدّت بهذا الزوج إلى الامتناع عن أداء حق الزوجة، أو الإعراض والإهمال لها بطريقة وبأخرى، فيبادر الناس الطيبون إلى دراسة هذه الأسباب ومحاولة حل المشكلة بالطريقة التي تعيد الحياة إلى طبيعتها.
{والصلح خير}[النساء:128]، فالله تعالى يؤكد مبدأ الصلح بين الزوجين كموقع من مواقع الصلح العام بين الناس هو خير، لأنه يحفظ للعائلة سلامتها، ويحقق لكل هذا الكيان العائلي سلامته، سواء على مستوى الزوجين أو الأولاد، أو الناس الذين ترتبط علاقاتهم بعلاقة الزوجين، كأهل الزوجة، وأهل الزوج، فالإصلاح ينشر السلام ويحل المشاكل بين كل هؤلاء، سواء الذين يرتبطون بالبيت بشكل مباشر أو غير مباشر.
وفي حالة أخرى، قد تكون المسألة مسألة خلاف من طرف الزوج ومن طرف الزوجة، وهذا الذي يُعبَّر عنه بالشقاق، بحيث تثير الزوجة مشكلة، والزوج يثير مشكلة، فيحدث الشقاق بينهما، عندها يتحرّكان لإيجاد شقٍّ في داخل هذه العلاقة، وهذا ما يعبَّر عنه بالشقاق، فما هي الطريقة المناسبة لمواجهة مثل هذه المشكلة؟ وقد قلنا إن المشكلة إذا كانت من طرف الزوج، فتأتي مسألة الصلح، سواء قام بالصلح شخص واحد أو جماعة من الناس، أما إذا كانت المشكلة مشتركة بين الزوج والزوجة، فعندها: {وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكماً من أهله وحكماً من أهلها}، وهذا نسميه مجلس التحكيم العائلي، بحيث نختار شخصاً من أهل الزوجة وشخصاً من أهل الزوج ليدرسا المشكلة، ويحاول الذي من أهل الزوجة أن يدرس المشكلة مع الزوجة، ما هو السبب في ما صدر منها من سلبيات؟ وما هي جذور المشكلة؟ والشخص الذي من أهل الزوج أيضاً يدرس هذه المسألة مع الزوج، حتى يتعرف طبيعة المشكلة من طرفه في هذا المقام، ويعتبر هذا التحكيم تحكيماً عائلياً، بحيث يُصدران معاً بعد دراسة الأمور حكماً، وهذا الحكم يركِّز على جانب الصلح، ويمكن أن ينتهي إلى الحكم بالتفريق بينهما، لكن القرآن الكريم لم يتحدث عن مسألة الانفصال، لأنه أراد أن يغلب جانب الصلح فيما بينهما، للإيحاء لمجلس التحكيم العائلي بأن عليهما أن يتحركا في طريق الصلح.
{إن يريدا إصلاحاً}، إذا انطلق هذا المجلس، بحيث جعل الطرفين يتفقان على أساس الإصلاح بحسب شروطه التي تفرض على الزوجة أو تفرض على الزوج بحسب العناصر التي أوجدت هذا النوع من الخلاف الثنائي بينهما، {يوفق الله بينهما} [النساء:35]، عندما يريدان الإصلاح بفعل هذا التحكيم العائلي، فإن الله سبحانه وتعالى يعطي بلطفه ورحمته وتوفيقه الوفاق بينهما، فهذا معناه أن الأصل في مسألة الخلاف الزوجي هو القيام بعملية الإصلاح، وليس الأساس هو المبادرة إلى الطلاق أو ما أشبه ذلك، سواء من خلال الزوجين، أو من خلال الحكمين اللذين يُلجأ إليهما للتحاكم.
وعندما تنطلق القضية إلى حجم أكبر، وهو حجم الخلاف بين عشيرتين أو بين حزبين أو بين بلدين مثلاً، بحيث يؤدي هذا الخلاف إلى قتال بينهما، عند ذلك أيضاً تأتي مسألة الصلح: {وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما}، أن يدخل فريق من المسلمين المؤمنين في سبيل الصلح بينهما، وعليهما أن يتقبّلا هذا الصلح بين المسلمين، {فإن بغت إحداهما على الأخرى}، فإذا رفضت إحداهما الصلح وتحركت من أجل مواصلة الاعتداء على الطرف الآخر، هنا في هذه الصورة، على المسلمين أن يكونوا مع الطرف المعتدى عليه ضد الطرف المعتدي.
{فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله}، أي حتى ترجع إلى الحكم الشرعي الذي يفصل بين الطرفين المتقاتلين، ليعطي لكل واحد منهما حقه إن كان هناك حق، أو ليعطي لهما الحق معاً، أو يعطيهما حلاً آخر، {فإن فاءت}، أي إذا قالوا نحن مستعدّون للحكم الذي تحكمون به في الخط الشرعي، {فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا}، فإذا رضيا بالوفاق، فادخلوا معهما بالصلح على أساس العدل، أن يأخذ كل واحد منهما حقه، لأن هذا هو القسط، أن نعطي لكل صاحب حق حقه، {إنّ الله يحبّ المقسطين} [الحجرات:9].
ثم يعطي الله سبحانه وتعالى قاعدة عامةً في غير حالة القتال {إنما المؤمنون أخوة فأصلحوا بين أخويكم} [الحجرات:10]، وهي أنه عليكم أن تعتبروا أن المجتمع الإيماني هو مجتمع واحد، وأن العلاقة بين المؤمنين حتى لو كان هناك اختلاف في النسب أو القومية، فإن الله هو الذي يربط هذه العلاقة بالأخوة الإيمانية، وكما قيل إن ما يجمعه الله تعالى لا يفرّقه إنسان، فالله سبحانه وتعالى عندما يجمع المؤمنين على أساس قاعدة الأخوّة، فإن على المؤمنين أن يتصرفوا على أساس أن كل واحد صورة ومرآة للآخر، فإذا اختلف مؤمن مع أخيه المؤمن، فليكن هذا الاختلاف كما لو أنه خلاف مع أخٍ لك، وكما يهتمُّ أحدنا إذا اختلف أخوته فيما بينهم، فيبادر إلى الإصلاح بينهم، كذلك إذا اختلف المؤمنون بعضهم مع بعض، سواء كان الخلاف مالياً أو سياسياً أو اجتماعياً أو شخصياً، فعلى المؤمنين أن يبادروا إلى الإصلاح بينهم، تماماً كما يبادرون إلى الإصلاح في صورة ما إذا اختلف الأخوة في النسب، وهذا هو الخطُّ الإسلامي الذي يحمِّل الإسلام المسؤولية فيه لكلِّ المؤمنين والمؤمنات. والحمد لله رب العالمين.