نعيش هذه الايام ذكرى شهادة الإمام محمد الجواد سلام الله عليه وهو شمس من شموس الإيمان وبدر من بدور التقى تألق في سماء العصمة وورث عن جده الرسول وجدته فاطمة وأجداده الائمة كل صفات الكمال والرفعة حتى دان له بالفضل العدو قبل الصديق .
عندما نتحدث عن جواد الأئمة نشعر بالتصاغر امام شخصه الكريم فلا قيمة لخطابنا ولا لأقلامنا أمام تلك الروح الكبيرة فهو كالبحر من اين جئت اليه تغترف هديا وعلما وجهادا هذا مع قلة عمره الشريف حيث أنه الإمام الوحيد الذي قبض عن عمر لا يناهز الخامسة والعشرين عاما.
وهو كما اشتهر على المشهور التاريخي انه الابن الوحيد للإمام الرضا ( ع ) وأمه السيدة سبيكة وسماها الإمام الرضا (ع) الخيزران وكانت من أهل بيت ينحدرون إلى ماريه القبطية أم إبراهيم ابن الرسول (ص) وهي من أفضل نساء زمانها وقد أشار إليها النبي (ص) بقوله :
( بأبي ابن خيرة الإماء النوبية الطيِّبة )
لقد استشهد الإمام الجواد عليه السلام ببغداد مسموماً بأمر الخليفة العباسي المعتصم الذي تأمر مع زوجه الإمام ( ع ) أم الفضل بنت المأمون .
ولنكمل مع القارئ ما ابتدئ من الوقفات :

الوقفة الثانية والعشرون :
كان الرضا ( عليه السلام ) يشيد دوماً بالإمام الجواد ( عليه السلام ) وقد روي انه بعث الفضل بن سهل إلى محمد بن أبي عباد كاتب الإمام الرضا ( عليه السلام ) يسأله عن مدى علاقة الإمام الرضا بولده الجواد ( عليهما السلام ) .
فأجابه : ما كان الرضا يذكر محمداً ( عليهما السلام ) إلا بكنيته ، فيقول : كتب لي أبو جعفر ، وكنتُ أكتب إلى أبي جعفر .
ونقل المؤرخون الكثير عن تعظيم الإمام الرضا لولده الجواد ( عليهما السلام ) ، فقالوا : إنَّ عباد بن إسماعيل ، وابن أسباط ، كانا عند الإمام الرضا ( عليه السلام ) بمنى إذ جيء بأبي جعفر ( عليه السلام ) فقالا له : هذا المولود المبارك ؟!!
فاستبشر الإمام ( عليه السلام ) وقال : نعم هذا المولود الذي لم يولد في الإسلام أعظم بركة منه .
وأحيط الإمام الجواد ( عليه السلام ) بالتكريم من قبل الأخيار والموالين
حتى أنَّ علي بن جعفر الفقيه الورع ، وشقيق الإمام الكاظم ( عليه السلام ) كان يقدس الجواد ( عليه السلام )
فقد روى محمد بن الحسن بن عمارة قال : كنت عند علي بن جعفر جالساً بالمدينة ، وكنت أقمت عنده سنتين أكتب ما سمع من أخيه – يعني الإمام الكاظم ( عليه السلام ) – إذ دخل أبو جعفر محمد بن علي الرضا ( عليه السلام ) مسجد رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، فوثب علي بن جعفر بلا حذاء ولا رداء ، فقبّل يده وعظّمه ، والتفت إليه الإمام الجواد ( عليه السلام ) قائلاً : اجلس يا عَم ، رحمك الله .
وانحنى علي بن جعفر بكل خضوع قائلاً : يا سيدي ، كيف أجلس وأنت قائم ؟!
ولما انصرف الإمام الجواد ( عليه السلام ) ، رجع علي بن جعفر إلى أصحابه فأقبلوا عليه يوبّخونه على تعظيمه للإمام ( عليه السلام ) مع حداثة سِنِّه قائلين له : أنتَ عَمُّ أبيه ، وأنت تفعل به هذا الفعل ؟!!
فأجابهم علي بن جعفر جواب المؤمن بِرَبِّه ودينه ، والعارف بمنزلة الإمامة قائلاً : اسكتوا ، إذا كان الله – وقبض على لحيته – لم يؤهل هذه الشيبة – للإمامة – وأهَّل هذا الفتى ، ووضعه حيث وضعه ، نعوذ بالله ممّا تقولون ، بل أنا عبد له .
بل اشاد بفضله العلماء من كافة المذاهب وكان بعض ما قالوه :
قال الذهبي : كان محمد يُلقَّب بـ ( الجواد ) ، وبـ ( القانع ) ، و( المرتضى ) ، وكان من سروات آل بيت النبي ( صلى الله عليه وآله ) ، وكان أحد الموصوفين بالسخاء ، فلذلك لُقِّب بـ ( الجواد ) .
قال السبط بن الجوزي : محمد الجواد كان على منهاج أبيه في العلم والتقى والجود .
قال الشيخ محمود بن وهيب : محمد الجواد هو الوارث لأبيه علماً وفضلاً ، وأجلُّ أخوته قَدراً وكمالاً .
قال خير الدين الزركلي : محمد بن الرضي بن موسى الكاظم ، الطالبي ، الهاشمي ، القرشي ، أبو جعفر ، المُلقَّب بـ ( الجواد ) ، تاسع الأئمة الإثني عشر عند الإمامية ، كان رفيع القدر كأسلافه ، ذكياً ، طليق اللسان ، قوي البديهة .
قال الشيخ كمال الدين محمد بن طلحة : أما مناقب أبي جعفر الجواد فما اتَّسَعت حلبات مجالها ، ولا امتدَّت أوقات آجالها ، بل قضت عليه الأقدار الإلهية بِقِلَّة بقائه في الدنيا بحكمها وأسجالها ، فَقَلَّ في الدنيا مقامه ، وعجَّل القدوم عليه كزيارة حمامه ، فلم تَطُل بها مدَّتُه ، ولا امتدَّت فيها أيامُه .

الوقفة الثالثة والعشرون :
بعد شهادة الرضا ( عليه السلام ) اقبلت إلى المدينة المنورة مجموعة من كبار العلماء والفقهاء يمثلون مجاميع من الجماهير الشيعية في بغداد وغيرها من المدن للتعرُّف على معرفة الإمام الجواد بعد وفاة أبيه الإمام الرضا ( عليهما السلام ) ، فكان عددهم فيما يقول المؤرخون ثمانين رجلاً .
فقد روي :
ولما انتهوا إلى يثرب قصدوا دار الإمام الصادق ( عليه السلام ) ، فَفُرِشَ لهم بساط أحمر .
وخرج إليهم عبد الله ابن الإمام الكاظم ( عليه السلام ) فجلس في صدر المجلس مُضفِياً على نفسه المرجعيَّة للأمَّة وأنه الإمام بعد أخيه الإمام الرضا ( عليه السلام ) .
فقام رجل ونادى بين العلماء : هذا ابن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فمن أراد السؤال فَلْيَسأل .
فقام إليه أحد العلماء فسأله : ما تقول في رجل قال لامرأته : أنت طالق عدد نجوم السماء ؟
فأجابه عبد الله بجواب يخالف فقه أهل البيت ( عليهم السلام ) قائلاً : طُلِّقَتْ ثلاثاً دون الجوزاء .
وذُهل العلماء والفقهاء من هذا الجواب الذي شذَّ عما قرره الأئمة الطاهرون ( عليهم السلام ) من أن الطلاق يقع واحداً ، كما أنهم لم يعلموا لِمَ استثنَى عبد الله الجوزاء عن بقية الكواكب .
ثم انبرى إليه أحد الفقهاء فقال له : ما تقول في رجل أتى بهيمة ؟
فأجابه على خلاف ما شرع الله قائلاً : تقطع يده ، ويجلد مائة جلدة .
وَبُهِتَ الحاضرون من هذه الفتاوى التي خالفت أحكام الله ، وحارُوا في أمرهم ، وبينما هم في حيرة وذهول إذ فُتِح باب من صدر المجلس ، وخرج شاب ، ثمَّ أطل عليهم الإمام الجواد ( عليه السلام ) وهو بهيبته التي تعنو لها الجباه ، فقام الفقهاء والعلماء إجلالاً وإكباراً له .
وانبرى شخص فَعرَّفَهُم بأنه الإمام بعد أبيه الرضا ( عليهما السلام ) ، والحُجَّة الكبرى على المسلمين .
ثم قام إليه صاحب السؤال الأول فقال له : ما تقول فيمن قال لامرأته : أنت طالق عدد نجوم السماء ؟
فأجابه الإمام ( عليه السلام ) : ( يا هذا اقرأ كتاب الله تبارك وتعالى : ( الطَّلاَقُ مَرَّتَانِ فَإِمسَاكٌ بِمَعرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ ) البقرة : 229 ، وهي في الثالثة ) .
وبُهِرَ الحاضرون من مواهب الإمام ( عليه السلام ) ، وقد أيقنوا أنَّهم وصلوا إلى الغاية التي ينشدونها .
ورفع السائل إلى الإمام ( عليه السلام ) فُتْيَا عَمِّهِ في المسألة ، فالتفت ( عليه السلام ) إليه قائلاً : ( يا عَم ، اتَّقِ الله ولا تُفتِ ، وفي الأمة من هو أعلم منك ) .
فأطرق عبد الله برأسه إلى الأرض ولم يدرِ ماذا يقول ، وقام إلى الإمام صاحب المسألة الثانية فقال له : ما تقول فيمن أتى بهيمة ؟
فقال ( عليه السلام ) : ( يُعزَّرُ ، وتُحمَى ظهر البهيمة ، وتُخرج من البلد لئلاً يبقى على الرجل عَارُهَا ) .
وعرض السائل على الإمام ( عليه السلام ) فتوى عَمِّه ، فأنكر عليه أَشَدَّ الإنكار ، وقال له متأثراً : ( لا إله إلا الله ، يا عبد الله ، إنه لعظيم عند الله أن تقف غداً بين يدي الله فيقول لك : لِمَ أفتَيتَ عبادي بما لا تعلم ، وفي الأمة من هو أعلم منك ) ؟
وأخذ عبد الله يلتمس له المعاذير قائلاً : رأيت أخي الرضا ( عليه السلام ) ، وقد أجاب في هذه المسألة بهذا الجواب .
فأنكر عليه الإمام ( عليه السلام ) وصاح به قائلاً : ( إنَّما سُئل الرضا ( عليه السلام ) عَن نَبَّاش ، نَبَشَ قبر امرأة ففجر بها وأخذ ثيابها ، فَأمر ( عليه السلام ) بقطع يده للسرقة ، وجَلدِه للزنا ، ونَفْيِهِ لِلمُثلةِ بالميت ) .
وسأله العلماء والفقهاء عن مسائل كثيرة في مختلف أبواب الفقه ، وقد بلغت فيما يقول المؤرخون ثلاثين ألف مسألة ، وصرح بعضهم أنه ( عليه السلام ) سئل في مجلس واحد عن ثلاثين ألف مسألة فأجاب ( عليه السلام ) عنها .
والظاهر أنَّه ( عليه السلام ) سُئل عن ثلاثين ألف مسألة في أيامٍ متفرقة وليس في نفس المجلس واليوم .

ثم أنَّ بعض الشيعة سألوا الإمام الرضا ( عليه السلام ) عن مسائل فأجابهم عنها ، فذهبوا إلى الإمام الجواد بعد وفاة أبيه ( عليهما السلام ) فسألوه عنها ليمتحنوه فأجابهم عنها نفس جواب أبيه ( عليه السلام ) .
وقد روى أبو خراش النهدي قال :
كنت حضرت مجلس الرضا فأتاه رجل فقال له : جُعلتُ فداك ، أمُّ ولد لي وهي صدوق ، أرضعت جارية لي بلبن ابني ، أَيُحرَم عليَّ نكاحها ؟
فقال الرضا ( عليه السلام ) : ( لا رِضاع بعد فِطَام ) .
ثم سأله عن الصلاة في الحرمين فقال ( عليه السلام ) : ( إن شئتَ قَصَّرتَ ، وإن شئتَ أَتمَمتَ ) .
قال أبو خراش : فحججتُ بعد ذلك ، فدخلت على أبي جعفر ( عليه السلام ) فسألته عن المسائل ، فأجابني بعين ما أجاب به أبوه ( عليهما السلام ) .


سلام الله عليك يا جواد الأئمة منا أبدا ما بقي الليل والنهار وجعلنا الله ممن يستحقون شفاعتك يوم لا ينفع مال و لا بنون الا من اتى الله بقلب سليم عامر بحبكم اهل البيت


أبو فاطمة العذاري