السيدة سبيكة الخيزران أم الإمام الجواد سلام الله عليه
كان المشهور أن اسمها سبيكة النوبيّة . وقيل : سكن المريسية وقيل أيضاً سكينة المريسيّة، وقيل: ريحانة، وتُسمّى درّة ويقال سمّاها الإمام الرضا عليه السّلام خَيزُران.
وتُكنّى بأُمّ الحسن.
وكانت نُوبيّة والنُّوب: والنوبيون قبائل تسكن المنطقة الواقعة في شمال السودان وجنوب مصر.
وقد ورد في بعض المصادر منها كتاب ( بحار الأنوار ) إنّ الإمام الرضا عليه السلام لما اشتراها لاستيلادها أطلق عليها اسم « خيزران » ، وتؤكد مصادر التاريخ انها تنحدر من قبيلة مارية القبطية زوجة النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
والسيدة سبيكة كانت من جلالة والقدر أن عُدَّت في زمانها أفضل بنات جنسها ، و الثابت بين كل المؤرخين الذين ذكروها أنها كانت من أفضل نساء زمانها ، وقد أشار إليها النبي الأعظم ( صلى الله عليه وآله ) وهو في معرض إشارته الى حفيده الإمام محمد الجواد عليه السلام كما في كتاب (الارشاد ج 2) :
( بأبي ابن خيرة الإماء النوبية الطيّبة ) .
وهو مدح كبير وثناء جليل أتحف به النبي هذه السيدة حين جعلها خير الإماء ونحن نعلم أن الإماء عبر التاريخ فيهن من الصالحات المؤمنات الكثير .
نقل في كتاب ( إعلام الورى ص 319 ) حادثة يزيد بن سليط وملاقاته للإمام الكاظم ( عليه السلام ) في طريق مكّة ، وهم يريدون العمرة :
قال الإمام الكاظم ( عليه السلام ) لي :
( إنّي أُؤخذ في هذه السنة ، والأمر إلى ابني علي سَمِي علي وعلي ، فأمّا علي الأوّل فعلي بن أبي طالب ( عليه السلام ) ، وأمّا علي الآخر فعلي بن الحسين ( عليهما السلام ) ، أُعطي فهم الأوّل وحكمته وبصره وودّه ودينه ومحنته ، ومحنة الآخر وصبره على ما يكره ، وليس له أن يتكلّم إلاّ بعد هارون بأربع سنين ) .
ثمّ قال الإمام الكاظم ( عليه السلام ) :
( يا يزيد ، فإذا مررت بالموضع ولقيته وستلقاه فبشّره أنّه سيولد له غلام أمين مأمون مبارك ، وسيعلمك أنّك لقيتني فأخبره عند ذلك أنّ الجارية التي يكون منها هذا الغلام جارية من أهل بيت مارية القبطية جارية رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، وإن قدرت أن تبلغها منّي السلام فافعل ذلك ) .
وجرى ما جرى ويلتقي يزيد بالإمام الرضا في نفس ذلك الموضع ويخبره ، ويقصّ عليه الخبر . فيجيبه الإمام عليه السلام :
« أما الجارية فلم تجيء بعد ، فإذا دخلت أبلغتها منك السلام » .
قال يزيد : فانطلقنا إلى مكة ، واشتراها في تلك السنة ، فلم تلبث إلاّ قليلاً حتى حملت ، فولدت ذلك الغلام .
و هذا غاية السمو لهذه السيدة الجليلة حيث أن المعصوم يطلب وصول سلامه لها قبل وصولها الى البيت العلوي الشريف وما ذلك الا لان الكاظم علم علو شانها عند الله تعالى ثم قال الإمام الكاظم (( وسيعلمك أنّك لقيتني فأخبره عند ذلك أنّ الجارية التي يكون منها هذا الغلام جارية من أهل بيت مارية القبطية جارية رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، وإن قدرت أن تبلغها منّي السلام فافعل ذلك ))
والذي سيخبره هو الرضا (ع) بطبيعة الحال ولكنه طلب منه إخبار الإمام الرضا بشان نسب الجارية ولعل الإمام الكاظم (ع) أراد هنا التركيز على شخصها وبيان هذه المكرمة في نسبها وليس هنا من شك ان الرضا (ع) عالم بالأمر.
ثم طلب منه نقل السلام إليها أن قدر على ذلك ونفهم منه انه للإشارة انه من الصعب اللقاء بها من حيث عفافها وعدم لقائها بالناس إلا نادرا.
وقد ردت كثير من الروايات في الثناء عليها من قبل المعصومين (ع) ومن تلك الروايات :
في ( كتاب كشف الغمّة ) قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) في الإمام الجواد وفي أُمّه :
( بأبي ابن خيرة الإماء النوبية الطيّبة ، يكون من ولده الطريد الشريد ، الموتور بأبيه وجدّه ، صاحب الغيبة )
فالنبي يتفدى ولده الجواد بابيه ومن ثم يعبر عن أمه أنها خير الإماء ولعمري فان الإماء فيهن كثير من المؤمنات والتقيات والسيدة الخيزران خيرهن على حد تعبير النبي (ص) فيالها من شهادة لم تتأتى لغيرها عبر التاريخ .
و قال الإمام الرضا ( عليه السلام ) متحدثا مع أصحابه عند ولادة ابنه الجواد ( عليه السلام ) فقد ورد في ( عيون المعجزات ) عن كليم بن عمران قال :
(( قلت للرضا عليه السلام : ادع الله أن يرزقك ولدا ، فقال : إنما ارزق ولدا واحدا وهو يرثني فلما ولد أبوجعفر عليه السلام قال الرضا عليه السلام لا صحابه : قدولد لي شبيه موسى بن عمران ، فالق البحار ، وشبيه عيسى بن مريم قدست ام ولدته ، قد خلقت طاهرة مطهرة ، ثم قال الرضا عليه السلام : يقتل غصبا فيبكي له وعليه أهل السماء ، ويغضب الله تعالى على عدوه وظالمه ، فلا يلبث إلا يسيرا حتى يعجل الله به إلى عذابه الاليم وعقابه الشديد ، وكان طول ليلته يناغيه في مهده ))
يصفها الرضا (ع) بقوله (( قدست )) فيشير الى أنها (( مقدسة )) لكمالها وعلو شانها الإيماني والقداسة صفة جليلة تعبر عن صفاء الذات وطهارتها من النجاسة المادية والمعنوية وهو تعبير واضح عن علو شانها الإيماني عند الله تعالى.
ومن ثم يصفها (( طاهرة )) من الرجس المادي والمعنوي طبعا ويصفها (( مطهرة )) من حيث وقوع التطهير الإلهي عليها واصطفاء الله لها ببعدها عن الذنوب ونفهم من كلام الإمام الرضا (ع) أنها معصومة بالعصمة المكتسبة التي تمثل أعلى مراحل التقوى لغير المعصومين بالعصمة الواجبة.
وكباقي أمهات الأئمة حفت السيدة الخيزران بكرامات كبيرة عند ولادة مولودها المعصوم (ع) فقد روى ابن شهر آشوب في كتاب ( مناقب آل أبي طالب: ج4 ) :
عن حكيمة بنت الإمام موسى بن جعفر عليه السلام قالت: لما حضرت ولادة الخيزران أم أبي جعفر عليه السلام، دعاني الرضا عليه السلام، فقال لي: (( يا حكيمة، احضري ولادتها وأخلني وإياها والقابلة بيتاً ))
ووضع لنا مصباحاً وأغلق الباب علينا فلما أخذها الطلق طفي المصباح وبين يديها طست، فاغتمت بطفي المصباح، فبينا نحن كذلك إذ بدر أبو جعفر عليه السلام في الطست وإذ عليه شيء رقيق كهيئة الثوب يسطع نوره حتى أضاء البيت فأبصرناه، فأخذته فوضعته في حجري ونزعت عنه ذلك الغشاء. فجاء الرضا عليه السلام ففتح الباب وقد فرغنا من أمره، فأخذه فوضعه في المهد وقال لي:((يا حكيمة، الزمي مهده ))
قالت: فلما كان في اليوم الثالث رفع بصره إلى السماء، ثم نظر يمينه ويساره ثم قال:(( أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله )) فقمت ذعرة فزعة، فأتيت أبا الحسن عليه السلام فقلت: سمعت من هذا الصبي عجباً. فقال:(( وما ذاك )) ؟
فأخبرته الخبر فقال:(( يا حكيمة، ما ترون من عجائبه أكثر ))
نلاحظ هنا ان الرضا (ع) كان مهتما بشان هذا المولود حتى بادر بدعوة السيدة حكيمة أخته و قال الإمام لها
(( يا حكيمة، احضري ولادتها وأخلني وإياها والقابلة بيتاً ))
فهو لم يدعو السيدة حكيمة كقابلة بل دعاها للحضور ومشاهدة الحدث وتقديم العون عند الحاجة.
ثم تسترسل السيدة حكيمة في ذكر الكرامات التي وقعت للمولود الطاهر الذي كان نوره بديلا عن المصباح وكان مغشى بشيء رقيق يسطع نورا ومن ثم نطقه بالشهادتين وغيرها من كرامات المولود الطاهر ابن الطاهر والطاهرة.
ومن هنا يقول المؤرخون أن مولد الجواد عليه السلام كان في يوم الجمعة العاشر من رجب سنة ( 195 هـ ) الموافق لسنة ( 811 ) الميلادية . وهو التاريخ المشهور عند الشيعة .
وبعض العلماء يذهبون إلى أن ولادته كانت في شهر رمضان من عام ( 195 هـ ) ، وترددوا بين ( 15 ، 17 ، 18 ، 19 )
راجع كتاب ( إعلام الورى 2)
فقال أبو الحسن : أما إنه لا يولد لي إلا واحد ، ولكن الله ينشئ ذرية كثيرة ))
وقد ورد في ( الكافي ):
عن يحيى الصنعاني، قال: دخلت على أبي الحسن الرضا (ع) وهو بمكة, وهو يقشّر موزاً ويطعمه أبا جعفر (ع)، فقلت له:
جعلت فداك, هذا المولود المبارك ؟
قال: (نعم، يا يحيى, هذا المولود الذي لم يُولد في الإسلام مثله مولودٌ أعظم بركةً على شيعتنا منه).
فلنا ان نفهم تعبير الرضا (ع) (( لم يولد مولود أعظم بركة على شيعتنا منه )) بعدة أشكال وكلها صحيحة منها:
منها : انه إشارة لهذه المسالة حيث استمرار الإمامة ورفع الضيق الذي وقعت فيه الشيعة آنذاك وعودة الأمل في نفوسهم ودحر الشامتين الذين بثوا تشكيكهم السابق فصار مولد الجواد (ع) دليلا دامغا لصحة عقيدتهم وعزة مذهبهم.
منها: أن الرضا (ع) بقصد البركة بمعناها الكامل مقرونة بهذا المولود وليس فقط المعنى الأول بل كان الرضا (ع) مطلعا على حكمة الله تعالى وتخطيطه في أن هذا المولود سيكون مباركا وستعم بركته كافة الشيعة وهو مشابه لما أشار إليه القران في ولي أخر من أولياء الله تعالى حين ولادته وهو عيسى (ع) فقد قال جل جلاله:
(( فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَن كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا {مريم/29} قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا {مريم/30} وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا {مريم/31} وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا {مريم/32} وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدتُّ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا {مريم/33} ))
والجواد مباركا أينما كان بما يزيد على عيسى (ع) من البركات بطبيعة الحال.
ومن المشهور تاريخيا أن الإمام الجواد (صلوات الله عليه) قد تقلد الامامة في الثامنة من عمره الشريف، وهو عمر لا يمكن الإنسان العادي لتحمل مسؤولية صغيرة فضلا عن قيادة الامة بكاملها فازدادت الحيرة .
ولاسيما مع ما يوضفه خصوم اهل البيت ( ع ) من قوة إعلامية كبيرة على نشر الثغرات والسلبيات وتهويلها ونشرها بين الناس من اجل يقضون على منصب الإمامة .
لكن الجواد ( صلوات الله عليه ) فرض شخصيته بقوة على العدو قبل الصديق وبين السلطة ومعظم الناس فضلاً عن شيعته واتباع اهل البيت وبذلك حفظ الجواد ( ع ) للإمامة هيبتها وقدسيتها وجلالها وبهاءها.
ومن المتوقع انه قد لعبت الأيدي العباسية دورا في افتعال الحوادث و المواقف للنيل من إمامة الجواد عليه السلام والطعن فيها .
من هنا كانت معاناة الأمام الرضا عليه السلام تتزايد خاصة وقد وصل عمره الشريف إلى نحو الخامسة والأربعين ، ولم يكن قد أتى بعدُ ( المولود الموعود ) الذي يليه بالإمامة ، ولو تتبعنا التاريخ لوجدنا انه مما زاد المحنة سوءاً هو تكالب بعض اقاربه من العلويين والعباسيين عليه لسوء فهم بعضهم و حسداً من بعضهم وبغضاً وكرهاً من البعض الآخر حيث أثاروا جميعاً حول شخصية الإمام الإشكالات تلو الإشكالات .
لكنّ الإمام عليه السلام كان يقف بحزم الواثق المطمئن من انه سوف يرزقه الله ولداً يحمل ارث الامامه فكان الجواد (ع) هو ذاك . .
عن كتاب ( إعلام الورى وكتاب الإرشاد ) :
ابْنُ قُولَوَيْهِ عَنِ الْكُلَيْنِيِّ عَنِ الْحُسَيْنِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنِ الْخَيْرَانِيِّ عَنْ أَبِيهِ قَالَ كُنْتُ وَاقِفاً عِنْدَ أَبِي الْحَسَنِ الرِّضَا عليه السلام بِخُرَاسَانَ فَقَالَ قَائِلٌ: يَا سَيِّدِي إِنْ كَانَ كَوْنٌ فَإِلَى مَنْ ؟
قَالَ : إِلَى أَبِي جَعْفَرٍ ابنِي وَ كَأَنَّ القَائِلَ‏ استَصغَرَ سِنَّ
أَبِي جَعْفَرٍ فَقَالَ أَبُو الحَسَنِ عليه السلام اِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ بَعَثَ عِيسَى رَسُولا نَبِيّاً صَاحِبَ شَرِيعَةٍ مُبْتَدَأَةٍ فِي أَصْغَرَ مِنَ السِّنِّ الَّذِي فِيهِ أَبُو جَعْفَرٍ عليه السلام.


سلام الله عليك يا جواد الأئمة منا أبدا ما بقي الليل والنهار وجعلنا الله ممن يستحقون شفاعتك يوم لا ينفع مال و لا بنون الا من اتى الله بقلب سليم عامر بحبكم اهل البيت


أبو فاطمة العذاري