صرخة مجاهد

بقلم : قصي الغالبي
أذهلتني جرأة ذلك الفتى الفراتي ذو السحنة السمراء عندما أطلق صرخته الشجاعة بين صفوف البعثيين المنهزمين بعد هزيمة حرب الكويت 1990 وهو يقول (( لا حكم للطاغية بعد اليوم )) تلك الصرخة أرعبتهم وزلزلت عروشهم ولم يغمض لهم جفن في ليلتها حتى يقع ذلك الفتى بقبضتهم ، وما هي إلا أيام حتى علت أصوات البنادق وشمر المنتفضين الأبطال عن سواعدهم ولم يبق لفلول البعث وأجهزتهم الأمنية القمعية من باقية ولم استغرب حينها من أن أرى ذلك الفتى الشجاع بين صفوف الشعب منتفضاً ومقاتلاً لسلطة الطاغية ضمن المقاتلين في انتفاضة 1991 ، في منازلة غير متكافئة بين جيش متسلح بأقوى أنواع الأسلحة وبين ثوار لا يملكون سوى الأسلحة البسيطة وضمائرهم النقية .
كما إني لا استغرب كون هذا الفتى الفراتي هو من نفس الطينة التي تربى عليها في مدينة كانت على الدوام لا تربي وتنتج سوى الرجال الواقفين في صف الحق وتنتصر منذ أن خلقها الله لقضايا المستضعفين والمحرومين في مواجهة الطغاة والمستبدين.
كما لم استغرب ما سطرته مدينة الديوانية الأبية في ملحمة الشهادة في الانتفاضة الشعبانية 1991 التي ابلي بها شباب مدينة الديوانية بلاءاً حسناً حين تصدوا لقوات صدام بقيادة المقبور سيء الذكر صدام كامل المجيد .
ولم استغرب في قدرة الوالدة العلوية الجليلة ورفعة الرأس ( أم صالح ) على تحمل الوجع والمصاب ، وجهادها في سبيل إنقاذ جسد ولدها وفلذة كبدها البكر الشهيد صالح حبيب من أظافر وأنياب الوحوش التي تشبه بأشكالها البشر ولها قلوب لاتصل لمستوى الحيوانات الهائمة تتلبس عقل صدام كامل وحسين كامل وبقية الأسماء الممتلئة عفونة وبذاءة من الذين لم يستحقوا من ذاكرة العراقيين غير البصاق خلف أسماؤهم وهم ينتقمون من جثث الشهداء ويسحقون جثث الموتى بعقول متدنية ومريضة لا تستحق حتى بصاق العراقيين وشتائمهم على مر الزمن .
وأذهلني مقدار الألم الذي تحملته الوالدة الجليلة وهي تخفي خبر استشهاد ابنها الشهيد البطل صالح حبيب الغالبي الذي آثر أن يموت واقفاً كما يموت النخل في العراق ، والذي آثر أن يتصدى للطاغية فيقول له فعلاً لا قولاً ، ويقول له نرفض وجودك وعائلتك المريضة في السلطة التي ابتلي بها العراق ، وقدم الشهيد صالح حبيب الغالبي روحه الطاهرة كما قدمها إخوانه الشهداء في العراق .
والذي أذهلني فعلاً مقدار المعاناة التي تحملتها الوالدة الجليلة من لوعة الألم ولزمن طويل ، و من تساؤل المنظمة الحزبية واستفسارات المخبرين والعيون والمختار ، و ما تحملته في معرفتها بسر القبر وسط ارض الحفار وكتمانه عن الجميع لسبعة اشهر ، كان فيها صالح حبيب يرقد بسلام مطمئنا وبضمير صاف حين كان الطاغية ينشر الذل والظلم والموت بين أهل العراق حتى حلت النهاية التي كنا نحلم بها ونرسمها ونتغزل بها ، حتى حلت النهاية التي نتمناها كلنا في العراق أن لا يموت الطاغية حتى يشاهد بأم عينيه ما قرره الله سبحانه وتعالى من صور الذل والهوان ، فأراه صورته وأهل العراق تدوسها بالنعال وتصفه بأقذر الصفات ، ثم يموت كلبيه قصي وعدي شر موته هاربين مذعورين من سطوة الناس وانتقام العراقيين حاملين معهم لعنتهم الأبدية مع كل صلاة ، ويلقى القبض عليه مجحوراً في نفق الثعالب كأي جرذ فار وأرنب مذعور ، في حين يموت صالح حبيب مثل الرجال في معارك يوزن فيها أفعال الرجال يختار له موطناً بين الصفوة المختارة من كواكب شهداء العراق التي آثرت أن تموت ليحيا العراق حراً كريماً.