عندما نقف مع الإمام الحسين(ع) فإننا نجد له نصين فيما يتصل بالواقع الذي عاشه والتحديات التي واجهها الإسلام، فقد أعطى في الخطبة المعروفة التي خطبها عند خروجه عنواناً لحركته، لا تقترب منه السلبيات، فقال: "إني لم أخرج أشراً ولا بطراً ولا مفسداً ولا ظالماً وإنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي(ص) أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر وأسير بسيرة جدي وأبي علي بن أبي طالب(ع) فمن قبلني بقبول الحق فالله ولى بالحق، ومن ردّ عليّ هذا أصبر حتى يقضي الله بيني وبين القوم بالحق وهو خير الحاكمين"، كما نجده(ع) يعلن أن الهدف من تحركه ليس من أجل الظلم، بل لأنه انطلق من أجل أن يرفع الظلم، وهذا هو شأنه وهذه هي رسالته، وليس مفسداً لأنه انطلق من أجل أن يسقط الفساد، وليس أشراً ولا بطراً، بل انطلق بعيداً عن ذاتياته كلها في خط رسالته كله.
"إنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي"، وكلمة الإصلاح تتسع لكل الآفاق التي دلف إليها الفساد، فعندما نواجه الواقع الإسلامي آنذاك نجد أن المفهوم الاسلامي للقيادة تعرض لانحراف أساسي على مستوى عناصره الأصلية، وعلى مستوى علاقة الناس بالقيادة وطبيعة التحرك الذي كان الناس يتحركون به، علماً انهم كانوا قد عرفوا علموا من رسول الله(ص) ومن كتاب الله معه أن العدل ركن رئيسي من أركان القيادة، كما تعلموا أن لا يسكتوا على ظلم، سواء كان في دائرة القيادة أو في دائرة القاعدة. وهكذا رأينا أن هناك مفاهيم اختلطت على الناس بفعل كثير من عناصر الدس والوضع للأحاديث لخدمة الذين كانوا يحتاجون إلى حديث عن رسول الله(ص) يبرر انحرافهم، وإلى نص نبوي يبرّر كثيراً من تعقيدات أوضاعهم.
ولقد انطلق الفساد في الواقعين السياسي والاجتماعي، بحيث تحوّلت الخلافة إلى ملك عضوض، وأصبحت بيعاً وشراءً، كما ذكر في طريقة معاوية في أخذ البيعة ليزيد عندما وقف شخص يحمل صرراً من الدراهم بيد والسيف بيد ليقول: من بايع فله هذا ومن لم يبايع فله هذا، فلم تكن البيعة حتى على مستوى الشورى بين المسلمين التي درجت كعنوان للحكم آنذاك بعيداً عن التعقيدات التي أثيرت حول ذلك. ولذلك كانت حركة الإمام الحسين(ع) من أجل تغيير الواقع الفاسد إلى واقع صالح، سواء في الجانب الثقافي في الإسلام في مسألة التصور لمفاهيم الإسلام، أو الجانب العملي الذي يتحرك في الخطوط السياسية المنحرفة، أو في الخطوط الاجتماعية المنحرفة والمتصلة بعلاقات الناس مع بعضهم البعض، ولذا عقّب الإمام(ع) فقال: "أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر"، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإن اختصا بالجانب العملي للناس في خط الانحراف، ولكن لما كان الجانب العملي منطلقاً من الخطأ في الجانب الثقافي، فإن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يتحرك في تحديد ماهية المعروف وماهية المنكر لمواجهته على مستوى الواقع.
ونستطيع أن نتعرف على المسألة في خطيها الفكري والواقعي في الخطبة الثانية التي أطلقها الإمام الحسين(ع)، فمما روي عنه أنه قال: "أما بعد فقد علمت أن رسول الله(ص) قد قال في حياته: من رأى منكم سلطاناً جائراً مستحلاً لحرم الله ناكثاً لعهد الله مخالفاً لسنة رسول الله يعمل في عباد الله بالإثم والعدوان ثم لم يغيّر بقول ولا فعل كان حقيقاً على الله أن يدخله مدخله". فلقد ركّز المسألة حول الحاكمية في خط الإيجاب والموقف من الحاكم في خط السلب، ومن ذلك نفهم أنه لا بد أن يكون السلطان عادلاً يحترم حرمات الله وأن يفي بعهده للناس، وأن يسير على سنّة رسول الله، وأن يعمل في عباد الله فيما أحله الله وما أراده، وأن لا يعتدي عليه ليكون الحاكم في خط السلب في الجانب الآخر الذي صرّح به الإمام الحسين(ع)، فالإمام يريد أن يؤكد من خلال كلمة رسول الله(ص) الذي يمثل الشرعية الإسلامية، أن الثورة على الحاكم الجائر الذي يتصف بهذه الصفات في الواقع الإسلامي هي أمر واجب على المسلمين، وإذا لم يقوموا بذلك مع تمكنهم منه فإن مصيرهم يكون مصير هذا الحاكم. ثم ينطلق إلى واقع هؤلاء الذين يتسلمون القيادة ويتبعهم الناس في ذلك "ألا وإن هؤلاء القوم قد لزموا طاعة الشيطان وتركوا طاعة الرحمن وأحلوا حرام الله وحرموا حلاله واستأثروا بالفيء وعطّلوا الحدود وأنا أحق من غيّر"، لذلك كان الإمام الحسين(ع) يعمل على تغيير الواقع، ولم يكن يريد في البداية أن يعلن الحرب، بل كان يسعى إلى أن يغيّر نمط التفكير عند المسلمين من خلال قيادته، وكان ما يريد أن يصل إليه من تلك القيادة هو أن يغيّر الواقع الفكري للمسلمين في النظرة إلى شخصية القائد، وهذا ما قاله لـ(الوليد) أمير المدينة: "إنّا أهل بيت النبوة ومعدن الرسالة ومختلف الملائكة، بنا فتح الله وبنا ختم الله، ويزيد رجل فاسق شارب الخمر قاتل النفس المحرّمة، معلن بالفسق ومثلي لا يبايع مثله". ثم قال له بعد الجدال الذي حدث في المجلس "ولكن نصبح وتصبحون وننظر وتنظرون أيّنا أحقّ بالبيعة والخلافة"، إنه هنا لم يكن يؤكد ذاته ولكنه أراد أن يؤكد خط الشرعية الإسلامية لمسألة القيادة.
لذلك لم ينطلق الإمام الحسين(ع) من خلال هذا النص محارباً، بل داعية إلى الله، مصلحاً مغيّراً للواقع. فلقد كان حديثه عندما التقى بجيش (الحر) حديث الموعظة والتذكير، ولم يكن حديث المواجهة بالحرب، ولذلك أعطاهم محبته كلها وحنانه كله وسقاهم الماء وتكلّم معهم بالكلمات التي تفتح قلوبهم، ولكن قلوبهم كانت مغلقة إلا من خلال بعض الثغرات التي كان ينفذ إليها بعض النور كما في موقف (الحر بن يزيد) ـ رضوان الله عليه ـ إلى أن يقول(ع): "فمن قبلني بقبول الحق فالله أولى بالحق"، أي إن من يقبلني لا يقبلني لشخصي، ولكنه يقبل الحق الذي هو من الله وإلى الله سبحانه وتعالى: "ومن ردّ علي أصبر حتى يقضي الله بيني وبين القوم وهو خير الحاكمين". أما انطلاقته في الحرب فقد كانت من خلال أن القوم قالوا ما ندري ما تقول يابن فاطمة، ولكن إنزل على حكم بني عمك، وعند ذلك قال كلمته الشهيرة: "لا والله لا أعطيكم بيدي إعطاء الذليل ولا أقرّ لكم إقرار العبيد"، لأنه خرج من أجل تأكيد الشرعية الإسلامية ونزوله على حكم (يزيد) و(ابن زياد) يعني الانحراف عن الشرعية الإسلامية وإعطاء الشرعية لهذا الحكم الذي رأى فيه(ع) حكماً مخالفاً لسنة رسول الله(ص)، وقال: "ألا وإن الدعيّ ابن الدعيّ قد ركز بين اثنتين بين السلة والذلّة وهيهات منا الذلة"، فالحسين(ع) انطلق من خلال الإسلام في خطيه الفكري والعملي في واقع المسلمين.
مقتطفات من كتاب:"من وحي عاشوراء"