وأخيراً ...أتممت مناســك الـحـج


بســم الله الرحمـن الرحيم
( وأذن في الناس بالحج يأتوك رجـالا وعلى كـل ضـامر يأتين من كل فج عميق).سورة الحج, الآية 27
اولا / النيًة لتأدية الحج:

منذ ايام الطفولة وانا أســمع معظم الناس يتمنون لبعضهم البعض في عيد الأضحى , ويقول كل منهم للآخر:
(انشاء الله السـنه الجايًه حَجٍي!).
ومن دون ان تكون لديَ اي معرفه معمقة عن هذه الأمنية التي يتبادلها عامة الناس كنت ارددها في ذلك اليوم عند تهنئة غير الحجاج من افراد العائلة والأقارب والزملاء.
وما ان انهيت مرحلة الأبتدائية والثانوية حتى علمت عن كثب معنى الحج وسبب ما كان يتمناه الناس لبعضهم , وخاصة عندما ادى الفريضة جُل افراد العائلة.
سار بي قطار العمر, و مررت بمطبات عديدة كانت تحول دون تأدية ذلك الواجب الديني, الى ان وصلت في هذه السنة الى حالة من الأستفرارالنسبي ,او قل الى حالة من الأكتفاء الذاتي لدى جميع اولادي, وصاروا يقدمون العون لي بسخاء, فزادت رغبتي بتأدية الحج مع رفيقة عمري وأم اولادي, الا ان الشرع الديني, يشـترط توفر الأستطاعة بكل اشـكالها, ومن اهمها, المادية والجسدية في تأدية ذلك الواجب!
وقبل حلول شـهر رمضان طلبت من احد اولادي الحجزلي ولأمهم على احدى الشركات الجوية للسـفر الى كندا, لصـوم شـهر رمضان عند ابنتا وزوجها في مدينة تورنتو..., وبعد ايام تم الحجز وتحدد موعد السـفر في15 سـبتمبر / 2007 وبدأ العد التنازلي , واعلمت وكيلي , بن اختي في بغداد عن رغبتي في تأدية مناسـك الحج لهذا العام الا ان ما في حوزتي من المال لا يكفي هذا الغرض, وشـرحت له سـبب ذلك,..واذا به يرسـل بالبريد الألكتروني رصيدي في احد بنوك بغداد, حيث تمَ استلامه لرواتب تقاعدي منذ مغادرتي العراق في ايلول (سبتمبر),1992ولغاية ك- الثاني(جنوري) سنة 2008, فوجدت مبلغاً من المال يغطي تكاليف الرحلة الى مكة المكرمة, و لهذا لا مفربعد الآن من التوكل على الله, للبحث عن المتعهد لمساعدتنا لتأدية مناسك الحج هذا العام , بعد ان اختفت كل المبرات التي كانت تحول دون ذلك!!

وفي منتصف شهر رمضان طلبت من (صهري), الذهاب الى مســجد المدينة لتأدية صلاة الجمعة , والأستفسـار من ذوي التخصص عن مناسـك الحج, وتوجيهنا نحو الطريقة الأحسـن لأختيار الشـركة الناقلة للحجيج في هذا العام. وفي الساعة العاشرة من ذلك الصباح عاد صـهري من العمل وهو في حالة مزرية, شـاكياً من ألـم حاد في بطنه وطلب من ابنتي ( زوجته ), نقله الى المستشفى !!
وبسـرعة متناهية قمت بمسـاعدتها ووضعنا المريض في المقعد الخلفي , وهو يصـرخ من الألم, وتوجهت به الى اقرب مشـفى, وفي الساعة الخامسة مساء اتصلت ابنتي بنا, لتعلمنا بتحسن حالة زوجها, وسوف تظهر نتيجة التحاليل وقرار الطبيب صباح الغد!
وما ان حلً الصباح حنى هرعنا جميعا الى المستشفى, ونحن في حالة رعب وقلق ,.. الى ان قرر الطبيب المداوي اسـتئصال المرارة, حيث كانت على وشك الأنفجار وتمت العملية بنجاح وبات تلك الليلة في المستشفى وعدنا به في اليوم التالي, وتلاشى عن ذهننا الأستفسار عن مواكب الحجيج, او قل صـرفنا النظر عن ذلك الأمر لأشعار آخر!
- في منتصف رمضان, ذهبت وابنتي للتسـوق من احد المخازن العربية في مدينة تورنتو /كندا, وهناك وجدت العديد من الصحف العربية, فألتقطت جميعها, وما ان وصلنا الدار, حتى رحت اتصفحها بشغف, ولفت نظري الأعلانات المتعددة لشركات تقدم خدماتها لحج بيت الله, فأتصلت ببعضها ممن كانت شروطها ضمن امكانياتي المادية, وهكذا سجلت المعلومات الأولية لدى احداها, وقد بين لي المتكلم ان البت النهائي في ذلك يتم حين عودة والده من خارج كندا!
وبعد اسـبوع, اي في الأيام الأخيرة من شهر رمضان, اتصل بنا ذلك الشاب ليعلمنا اسـتحالة قبولنا في الحملة, لعدم امتلاكنا للأقامة الكندية, ولم ينفع معه العتاب بعدم اعلامنا عن ذلك في حينه !!
اتصلت فورا بأحد اولادي في باتون روج / امريكا , وطلبت منه الحجز لنا في واحدة من حملاة الحج ,.. وبعد ايام اعلمني بأستحالة ذلك, حيث لكل متعهد عدد محدد, ولا يجوز تجاوز هذا العدد مطلقاً!
اتصلت بمعظم الأصدقاء الذين قدموا لنا التهنئة لنية الحج, واعلمتهم بتأجيل الحج الى العام القادم, وان الخير ما اختاره الله, او قل :
ويدور الفلك الدوار دورته وتقدرون وتضحك الأقدار
انهينا مراسم عيد رمضان,... واستلمت من صديق لي في رومانيا, رسالة بعنوان (اقتراح), ويطلب مني الأتصال بصديقه , الحاج ابا أحسان في تورنتو ,... وأروي له حالتي, ... وما ان تم ذلك, حتى طلب مني التريث لبعض الوقت, ..وبعد ساعة من الزمن طلب مني ابا أحسان الأتصال بأبي نور متعهد حملة السلام للحج والمقيم في سانتياكو في امريكا وشرح ما اصبو اليه,.. وبعد الأستفسار عن وضعي طلب مني ارسال جوازالسفرو(الكرين كارت والمني اوردر)وشهادة التلقيح وفي يوم واحد اكملت كل شيئ وارسلت الرزمة في البريد السريع , وبعد يومين علمت تلفونيا من مسؤل حملة السلام ابو نور, بأسـتلامه للرزمة وان كل شيئ طبيعي, وسيعلمني فوراً عندما يتم وضع الفيزة السعودية, ......وهكذا دبت الروح مرة اخرى وبزغ الأمل لحج بيت الله هذا العام. ولكن وكما يقال المثل يافرحه ما تمت او كما قال الأمام علي كرم الله وجهه:
لكل شـيئ اذا ما تمً نقصـان فلا يغر بطيب العيش انسـان
حيث اعلمني ابا النور برفص السفارة السعودية منحي تأشيرة الحج , بسبب انتهاء العمل بالجواز بعد اربعة اشهر وتعليمات السفارة تؤكد او قل تشترط وجود ستة اشهر قبل انتهاء العمل بالجواز!!
اتصلت فوراً بأبي أحسان, فهون الأمر وقال اركب باص فجر الغد الى أتاوا عاصمة كندا, وقابل السفير العراقي, واشرح له الأمر وسوف يمدد لك الجواز وتعود بنفس اليوم!
اتصلت بسفارة العراق بكندا ولم يرحب بقدومي لعدم أقامتي في كندا, ولذا اتصلت بقنصل العراق في واشنطن ورحب بحضوري وتعهد بتمديد صلاحية الجواز, فشكرته على موقفه وحجزت في اليوم التالي على اول طائرة متجهة الى واشنطن, ونمت تلك الليلة في فندق قريب من السفارة, لأتجنب زحمة السيارات اثناء الدوام الرسمي!
اوصيت على تكسي عند السادسة صباحا, لأتجنب اي عرقلة تحول دون وصولي الى مقر السفارة وفق الموعد المحدد مسبقاً,.. وهكذا تم كل شيئ ووصلت امام بوابة السفارة العراقية,... وما ان فتح الباب حتى كنت اول الزبائن .
رحب بي موظف الأستقبال , واستلم مني كافة الوثائق, وطلب مني الأستراحة في البهو اوالذهاب لأقرب مقهى. كان الجو مشمساً, ولذا فضلت التسكع بشوارع واشنطن المحيطة بالسفارة, ومن ثم عرجت على احدى المقاهي, وبقيت اتطلع الى الناس وبساطة ملابسهم والحيوية المتدفقة في وجوههم, فحسدتهم على ما هم عليه, وتمنيت لأهلي في وطني ان ينعموا بالحياة ويتركوا الكراهية ويعيشوا مع بعضهم بحب كسائر شعوب الدنيا!
عدِت والعودة حميدة, الى القنصلية في الموعد المحدد, ونهض الموظف الشاب ورحب بي, ومن ثم توجه نحو دائرة القنصل وجلب لي جواز سفر جديد ووضع عليه بصمة الأبهام, وسلمه لي, وشكرته وسألت عن اسمه, فقال...الدليمي, فقلت له ارغب ان اهديك هدية, فلم يوافق!! ..فقلت له لا تتسرع انها مقالة تدحض الذين يروجون للكراهية بين افراد الشعب العراقي, .. فهذا الآن اكبر دليل على حبنا لبعضنا فأنا من الشطرة محافظة ذي قار وانت من الدليم اي من محافظة الأنبار, وفورا قدمت له جريد ( أكد الغراء), الصادرة في تورنتو, كندا, فقد نشرت لي مقالة بعنوان:
من الذي اوقد نار الطائفية في العراق؟
استلم ذلك الشاب الدليمي الجريدة بوجه بشوش واثنى على عملي,.. وتم الوداع ولسان كلينا يعجز عن وصف الفرحة والسعادة التي غمرت كلينا, وانني على ثقة تامة ان جلً ابناء العراق يتمنون عودة الوئام والمودة فيما بينهم.
خرجت مهرولا الى الشارع وسألت فوراً على أقرب موقع للبريد السريع, فأشار لي احد المارة الى عمارة ليست بالبعيدة , وتوجهت نحوها, وما ان دخلتها حتى استقبلتني أمرأة وسيمة وسألتني بوجه بشوش عن غرضي, فشرحت لها الأمر , وتلقفت مني الوثائق وجوازالسفر, وأتمت عملها بهمة, واديت ما طلبت مني من معلومات ومال, وقالت غداً سوف تكون الرزمة في الجهة المرسلة لها !
تنفست الصعداء وخرجت اتسكع في الشوارع القريبة من السفارة العراقية في واشنطن, وشعرت بأنتمائي الوطني , وسرحت مع رحلتي عنه منذ السبعينات, ورحت اتمنى له التقدم والأمان وكل ما هو جميل امامي,.. ولكن هل ينفع التمني؟ .. وقد قيل في الأمثال, التمني رأس مال المفلسين !!
بدأت اشعر بالتعب, ولذا قررت التوجه الى المطار والأستراحة هناك لحين موعد اقلاع الطائرة والعودة الى تورنتو, وما هي الا لحظات, حتى وجدت نفسي قرب محطة للتكسيات, فأشار لي احد السواق بالصعود الى السيارة الأمامية, فأمتثلمت لأمره, .. وبعد التحية طلبت من السائق التوجه الى المطار, .. وتحرك من دون ان يفتح العداد, وصبرت قليلاً , واستفسرت منه عن السبب,.. فقال : الأجرة مقطوعة الى المطار!! .. ولما طلبت اعلامي عن مقدارها, سمعته يقول (70 سـفنتي دولار!!), وفوراً طلبت منه التوقف, فأستغرب وسأل عن السبب , وبينت استحالة دفع مثل هذا المقدار!.. فقال لي كم تدفع؟ .. فقلت ( ففتين15 دولار) , فقال اجعلها (16 سكستين دولار), .. وهنا ادركت عدم عدم فهمي للمقدار المطلوب , حيث كان السائق آسوي,وفوراً قلت له اعطيك ( 20 دولار) !!
اســتـغرب السائق, وشرحت له السبب, فضحك , ثم بدأنا بالتعارف, ورحنا نتحدث بالسياسة,.. ثم قال: لديك متسع من الوقت وسوف نتجول معاً في شوارع واشنطن لكي تشاهد اهم معالمها,وهكذا اطلعني على البيت الأبيض, والبنتاكون وأمكنة عديدة أخرى اشتهرت بها العاصمة الأمريكية , الى ان حان ميعاد اقلاع الطائرة,اوصلني الى المطار واعطاني عنوانه على امل ان استدعيه ان شاء القدران ازور واشــنطن مرة اخرى !
اتصل المشرف على حملة السلام للحج بعد يومين من وصول الرزمة, ووعدني بأرسال الفيزة حين انجازها , .. وبدأت الأيام تسـرع , وانقضى اكثر من اسبوع , ولا خبر عن ما تم بشأن التأشـيرة السعودية, .. واخيراً جاءت البشرى بوضع الفيزة على الجواز, ووعدني بأرسالها فوراً, .. وبدأ الأنتظار مرة اخرى, ولما استفسرت عن السبب قيل ان حريقاً قد شب في كاليفورنيا!!!... وقد يعيق وصول الرزمة لعدة ايام !!
لا اريد ان أسـرد مشاعري وانا انتظر سماع رنين جرس البيت, .. وبعد مرور عشرة ايام وصلت الرزمة بالبريد السريع وبها كل الوثائق والجوازات, واصبحت انا وزوجتي مؤهلين لحج بيت الله هذا العام,.. ولم يبقى سـوى شراء التذاكر من تورنتو الى جده, وفق اتفاق مسبق مع شركة عريقة في تورنتو, .. حيث طلبوا مني اعلامهم عن وصول الفيزة,.. وهكذا تناولت سماعة التلفون لأتصل بمسؤلة شركة الطيران , لأزف لها البشرى, فقيل لي انها مجازة!! .. اذن ما العمل , فلدي حجزعندكم, على الخطوط البريطانية على ان اكون في (جده), في 5/12/2007,.. فقال لي المتكلم من المحال ان تحصل على تذاكر!!! فشرحت له ما وعد ت به الموظفة العراقية في تلك الشركة,.. الا انه راح يموه الحقيقة, .. واخيرا صرت موقنا بوقوعي في تحايل مثل تلك الشركة حينما يدب لديهم الأحساس بلهفة المسافر على تذكرة السفر,.. وبعد بذل اقصى ما املكه من قدرة بكسب مودة ذلك الموظف من اجل تنفيذ الحجز المتفق عليه, الا انه تعند ورمى اللوم على تلك الموظفة العراقية, .. وضاعت فرحة حصولنا على الفيزة, ودب اليأس مرة اخرى, وقلنا الخير ما اختاره الله, وراح الأهل يخففون الحزن عنا, واتصلت بالحج ابا نور(المسؤل عن حملة السلام للحج), .. وفوراً قال: سـأحجز لكم معنا,.. ولا يهمك!! .. دب الأمل فينا مرة اخرى, وبقيت انتظر التفاصيل, وآمنت بكل طارئ, فقد تعبت بما فيه الكفاية, او قل انهارت قواي العقلية والجسدية, وتركت الأمر لله وله !
بقيت على اتصال مع مسؤل حملة السلام للحج, وطلب منا ان نكون في المدينة المنورة في 5/12/2007 وها نحن الآن في الأسبوع الأخير, و من المفروض ان احجزعلى اي خطوط من ديترويت الى المدينة المنورة في 3-12-2007
وهكذا تم اختيار الخط الملائم, وبقيت بأنتظار توجيهات مسؤل الحملة, الحاج علي, ومكان اللقاء مع افراد الحملة في سوريا او الكويت,.. وفي احد الأيام كان يتكلم مع صديق له في السعودية, وسمعته يستفسر عن امكانية طيراننا من تورنتو عبر فرانكفورت والى جدة, ودار حديث بينهما, واخيراً, اعلمني الحاج علي بأمكانية تسفيرنا على هذا الخط, ..فتنفست الصعداء, ورحنا ننتظر التذاكر بفارغ الصبر, والأصدقاء يتمنون اللقاء معنا قبل الوداع, واخيراً قبلت دعوة من أخ عديلي ( ابو نمير), قبل اربعة ايام من موعد السفر الى بيت الله, اي في الجمعة 31/11/2007 .
توجهنا نحو داره العامرة في اطراف تورنتو, وبعد مسيرة ساعة او يزدي, اعلمني صهري عن قرب وصولنا, وبعد لحظة من كلامه, فوجئنا بسيارة تستدير مسرعة من يمين الشارع في الجهة المعاكسة, وتتمركز امام سيارتنا, وفوراً استخدم صهري كامل قوته لأيقاف السيارة, الا انه خبط تلك السيارة المخالفة, وانفجرت امامنا الواقيات بقوة واصابت وجهي وعيني , .. وتوقف الجميع, ورحنا نتفقد بعضنا البعض, وحمدنا الله لعدم حدوث اي مضاعفات تستوجب النقل الى المستشفى,.. وبعد دقائق قليلة هبطنا من السيارة, ثم وصلوا شرطة المرور, وبعد التحري, تبين ان سائق السيارة التي خبطتنا سكران, ولم يتجاوز الثامنة عشر من عمره, واعترف بخطأه وتمنى لنا السلامة,.. وفوراً اتصلنا بمضيفنا, وحضر على الفور مع ولده لمكان الحادث, ..وبعد انتهاء التحقيق نقلونا الى دارهم ونحن نحمد الله الذي انقذنا من ذلك الحادث المميت او قل الذي كاد ان يدخلنا المستشفى, الا ان رحمة الله كانت واسعة, وخرجنا من تلك المحنة ونحن في دهشـة مما اصابنا, وفرحون لسلامتتنا من اي اصابة جسـدية, واهم من كل ذلك, عدم تغير موعد رحلتنا الى بيت الله.
لم يبقى لنا سوى اربعة ايام وما زلنا نجهل اي معلومة عن تذاكر الطيران,.. وطال الأنتظار والنداءات مستمرة مع الحاج علي, وكذلك المدير للشركة الناقلة للبريد السريع, وقيل لنا ان الرزمة وصلت الى الحدود الكندية, الا ان عاصفة ثلجية ستحول دون وصولها الا في يوم الثلاثاء 4/12/2007 .اي في نفس موعد اقلاع الطائرة من تورنتو!! ...ولذا كررنا الأتصال بالبريد السريع وبينا خطورة ذلك واحتمال حرماننا من تأدية فريضة الحج, واذا بالمتكلمة تجيب باللغة العربية, و اعطتنا رقم تلفون احد المتنفذين بالبريد السريع وطلبت منا اعلامه عن الموضوع,... وفوراً, اتصلنا وجاء الجواب مطمئننا, بتوصيل الرزمة في مساء الأثنين, ..اي في 3/12 , وقد تم ذلك فعلا, وصارت التذاكر بين ايدينا, او قل صرنا على يقين بأن ( الحج), سوف يتم وفق ما خطط له, واتصلت فورا بالحاج علي مثمناً جهوده, آملين اللقاء معه في المدينة المنورة انشاء الله.
التوجه الى الأراضي المقدسـة :
في صباح يوم الثلثاء 3/12/2007 توجهت برفقة أم اولادي الى المطار في مدينة تورنتو/ كندا, .. وبعد أتمام أجراءات فحص التذاكر ووزن الحقائب في المطار, ودعناالأحبة,..ثم غمرتني مشاعراً غريبة, او قل شعرت بمخاوف لم اعهدها من قبل, وخاصة حينما قبلت حفيدتي التي أتمت عامها الأول قبل ايام,.. وتذكرت في الحال أبياتاً من قصـيدة للشـاعربن زريق البغدادي و منها :
ودعته وبودي لو يودعني صفو الحياة واني لا أودعه
كم قد تشفع بي ألا أفارقه وللضرورات,.. حال لا تشفعه
دخلت وزوجتي منطقة التفتيش الألكتروني , وعبرنا الأختبار بسلام,.. الا احدى العاملات طلبت مني فتح شنطتي اليدوية, .. وامتثلت لأمرها ثم اتصلت تلفونياً بشخص ما,..فحضر فوراً, وطلب مني استخراج قنينة الماء الصغيرة, وسألني عن محتوياتها؟,.. فذكرت له الحقيقة,..وسلمتها له فوراً, وبعد ان شمها, اعلمني بمنع نقل الماء في حقيبة المسافر, ثم صادرها وسمح لنا بالدخول,. فشكرته على مضض,.. وقالت زوجتي:
كيف سيتسنى لنا جلب ماء زمزم عند العودة من مكه المكرمه؟,..فالجميع طلبوا مني ماء زمزم عند العودة !
هونت على زوجتي ألإمر وذكرتها بقول الحاج علي الأسدي, مسؤل حملة السلام :
عليك بالصبر,.. تره راح تشوف بالسفر أمور عجيبة وغريبة!
وهكذا سرت وزوجتي بأتجاه البوابة التي سندخل منها الى الطائرة,.. واخذنا مقعداً بالقرب منها,.. وبعد استراحة قصيرة, نهضت لجلب القهوة وبعض الحلوى, ورحنا نحتسي القهوة, ونتبادل الأحاديث,... الى ان حان وقت اقلاع الطائرة, وقفنا مع المغادرين في الطابور,.. وتم فحص وثائق السفر والتذاكر, وسمحوا لنا بالدخول الى الطائرة,.. واستقبلتنا بترحاب المضبفة, وتوجهنا الى مقاعدنا, حامدين الله على اتمامنا هذه المرحلة.
لا اريد الأطناب بالشرح عما دار في الطائرة من خدمات لأسعاد المسافرين والتخفيف من عناء تسعة ساعات بين السماء والأرض,.. لحين سماع (الكابتن), وهو يصدر الأوامر بريط الأحزمة حيت ستهبط الطائرة بعد دقائق في مطار فرانكفورت بألمانية,.. وما ان تبادر الى سمعي صوت عجلات الطائرة وهي تمس الأرض, حتى حمدت الله على سلامة الهبوط,.. وبدأنا نتأهب لمغادرة الطائرة,..وتم كل شيئ بهدوء, وصرنا الآن في قاعة (الترانزيت) في مطار فرانكفورت, وبعد اربعة ساعات من الأنتظار الممل,.. سمعنا عبر المذياع منادياً يدعونا للتوجه الى بوابة معينة لندخل الطائرة التي ستقلنا الى جدة, وهكذا تمت المرحلة الثانية من الرحلة, بعد ثمان ساعات من الطيران المتواصل,.. ووصلنا الى مطار جده عند الساعة الثامنة مساءاً,. ووقفت الطائرة بعيداً عن بناية المطار,.. وما ان هبطنا مع عدد كبير من الحجاج حتى وجهنا شاب سعودي نحو احدى الحافلات لنقلنا الى بهو المطار,.. امتثل الجميع للأمر وتكدسنا كالسردين داخل الحافلة,.. وبعد دقائق, قادنا مسؤل آخر الى داخل قاعة كبيرة في حجمها, و رديئة البناء والتأثيث, ولقد صدمت للوهلة الأولى, وقدت زوجتي وفق توجيهات المسؤل في القاعة, والكل في صمت رهيب, وقد اكون انا اشد الجميع دهشة, لأنني قرأت عن مطارات العربية السعودية, ولم اصدق انني في واحد من مطاراتها المهمة,.. واترك ما احس به من حسرة وألم الى حدس القارئ,.. وهكذا جلس الجميع وعيونهم شاخصة نحو المسؤلين,.. وبعد لحظات قدم فوج آخر من الحجاج, وزجوا بهم بالقاعة بنفـس الطريقة, وصارت مجموعتناالأخيرة, حيث ابتدأ فحص الوثائق بأدخال عدد محدد من القادمين الذين وصولوا بعدنا, وقدرت الموقف, وتكهنت ان هذا الوضع ان استمر فسوف لن نصل الى قاعة الفحص الا بعد اربعة ساعات, ولذا توجهت الى ضابط سعودي يقف جانباً , وهو الذي يوجه شرطة المطارتلفونياً, ويراقب دخول أفواج الحجاج المتدفقة من الطائرات القادمة, حتى غصت بهم قاعة المطار, بالرغم من سعتها!.. وقد تبين لي ان هذا المكان ملحق بمطار جدًه, وهو لا يعدو عن كونه قاعات ومخيمات واسعة وعديدة لأواء المسافرين الى ان يتم نقلهم الى مكة المكرمة او المدينة المنورة.
توجهت على الفور الى ذلك الضابط السعودي, وشرحت له ما آل اليه وضعنا بسبب عدم الألتزام بالأسبقية, وان صحتي وزوجتي لا يمكن ان تتحمل انتظار قد يطول لعدة ساعات,.. فطلب مني جوازات سفري , وبعد تدقيقها طلب مني التكلم مع شابين يجلسان قرب قاعة فحص تأشيرة الدخول,.. وفوراً اشرت الى زوجتي وتوجهت نحوي وتمت المحادثة مع الشابين, وسمح لنا بالدخول,..فشكرتهم والضابط السعودي على مساعدتهم,.. وتمت اجراءات فحص الجوازات بسرعة,..ودخلنا قاعة اخرى لأستلام حقائبنا, .. فتلقفنا عدد من الفتية المغتربين, .. وساعدنا احدهم بنقل حقائبنا في عربته الخاصة, .. ثم اجتزنا الفحص النهائي للجوازات,.. وسمح لنا بالخروج الى ساحة وقوف الحافلات والمخيمات لأستراحة الحجاج,.. وذهلت لسعة المكان وتكدس البشر به, وقام احد الشبان العامل كعتال بعربته الخاصة,..وحمل الحقائب, ثم جلب كرسي متحرك واجلس عليه زوجتي,.. واستفسر مني عن وجهة سفري,فقلت (اريد الحجز بالطائرة الى المدينة المنورة),.. واومئ لنا برأسه لنتبعه, .. وسرنا بصحبته مسافة تزيد على الأربعة كيلومترات, ..واشر الى شباك صغير, وطلب مني التوجه نحوه للحجز,.. وامتثلت لأمره, وتحدثت مع الموظف , ونفى وجود اي مقعد بالطائرة المتوجهة الى المدينة المنورة, ولا يمكن الحجز الا بعد ثلاثة ايام!!
عدت الى زوجتي خائباً, وسلمت العتال اكراميته, ووقفت جانباً بين افواج من الحجيج , وكأنهم خلية نحل,.. الكل في حركة منكوكية, واصوات بلغات مختلفة,.. وأنا واقف ( كالأطرش بالزفة),.. ورحت اتطلع بأي وجه عربي, واستفسر منه عن طريقة ما توصلنا الى المدينة المنورة او اي فندق نأوي اليه هذه الليلة, ولم افلح مطلقاً بأي حل يخفف من حيرتي,.. وقد اشرفت الساعة الثانية عشر, واقترح عليً احدهم ان افترش الأرض وانام تحت احدى الخيام المنتشرة في هذة البقعة المرفقة بالمطار,.. ولا اريد ان اشرع بوصف المكان, لأن ذلك مناف للشرع !,... حيث ان الأجر على قدر المشقة, وليس من اللائق التذمر من اية صعوبات البته!... وان كل نقد قد يفسر بنكران فضل وزارة الحج للخدمات التي وفرتها لضيوف الرحمن.
دب اليأس وانهارت مقاومتي وتصببت عرقاً, لشدة الحر, حيث مازلت مرتدياً الملابس الشتوية, وانزويت بأحد اركان القاعة التي تموج بالبشر, وخلعت الملابس الداخلية الصوفية, من دون اي مبالات لنظرات الناس!
اوشكت الساعة على منتصف الليل,.. وجلست على احد الحقائب, وزوجتي انهكها التعب, وخطر ببالي بيت الشعرالتالي :
مابين غمضة عين والتفاتها يغير الله من حال الى حال
لا اريد المبالغة بوصف المكان المخصص لنقل الحجاج الى مكة المكرمة او المدينة المنورة, من ناحية السـعة والمخيمات العديدة المنتشرة في ارجائه , وقد فرشت ارضها بسجاد متهري, لا ينم على اي اهتمام بضيوف الرحمن ولا على امكانية وزارة الحج,.. ولم اجد تفسيراً لذلك, وكما يقول المثل :" دع الخلق للخالق",
لذا اعطيت ذهني اجازة, لكي اتفرغ لما هو أهم من نقد ليس من ورائه اي جدوى,.. فحالة زوجتي بدأت بالأنهيار, فمنذ يومين ونحن في حالة طوارئ,.. بين طيران دام سـبعة عشر ساعة, وانتظاراً زاد على العشرة ساعات ! بدأت اطلب من الباري عزً وجل ان يتمم علينا نعمته ونصل الى المدينة المنورة لنلحق بأفراد حملة السلام التي سـلكت طريقاً آخراً,.. فخطرت ببالي الأتصال بمشرف الحملة الحاج علي الأسدي, والذي من المفروض وجوده الآن في المدينة المنورة. ..وقد سبق وان زودني بكافة الهواتف لشركته في امريكا وفي المدن المقدسة,.. وما ان اكملت ضغط ارقام تلفونه في المدينة المنورة,.. حتى سمعت صوته ليقول: السلام عليكم ابو مالك الحمد لله على السلامة,.. ورحت اشرح له وضعنا, وفي الحال طلب مني الذهاب الى المسؤل عن الحافلات,... حيث لا توجد تاكسيات في هذه المنطقة,.. شكرته وتوجهت الى ذلك الشخص, فوجدته محاطاً بعشرات من سواق الحافلات, وهو في سـجال معهم, وانتهزت نظرته لي , فأبتسمت له على مضض, وطلبت منه المساعدة, .. واصغى الي بكل ادب, وتفهم مشكلتي,.. وفي الحال طلب من احد السواق ان يأخذنا معه الى المدينة المنورة,... وهكذا طلب مني ذلك السائق ان اتبعه نحو موقف حافلته, وطلب من احد العتالين ان يعينني بنقل حقائبي, ويوصلها الى حافلته,.. وانا بين الحقيقة والخيال وجدت نفسي وزوجتي اول الداخلين في الحافلة المتجهة للمدينة المنورة!
وما ان استقر بنا المقام داخل الحافلة حتى هرعت لشراء الماء وما يسد رمقنا, حيث لم يدخل جوفنا الزاد منذ وجبة الغداء التي قدمت لنا في الطائرة الألمانية! .. وهكذا عثرت على بائع زودني بما احتاج,..وعدت مسرعاً الى الحافلة, وقد اكتضت بمسافرين جدد,.. وحمدت الله على اتمام رحلتنا, ويدأنا نتناول ماانعم الله علينا من نعمه,.. وما ان اكتمل عدد المسافرين في هذه الحافلة,... قام السائق او مساعده بجمع جوازات السفر والتدقيق في تأشيرة الدخول الى المملكة السعودية.
تحركت الحافلة من البناية الملحقة بمطار جدة, وسارت نحو الطريق العام, وقد مرت بأبنية مزينة بالأضوية الكهربائية الملونة, ولم يتضح لي هوية تلك البنايات ذات الطابع الهندسي الحديث,.... وهكذا سارت بنا الحافلة والركاب بين نائم وبين متسامر مع من هو بجنبه, ولا اريد الأطناب في الحديث والتعليق الصادر من ركاب الحافلة من مختلف شعوب العالم,.. و بعد سـتة سـاعات, وصلت الحافلة الى منطقة تجمع السيارات القادمة للمدينة المنورة, والتي يتم فيها فحص الجوازات قبل السماح لأي حافلة بالدخول الى مركز المدينة المنورة وتوزيع المسافرين وفق الفنادق المحجوزة لهم من الشركة المتعهدة بهم, وفق تعاليم وزارة الحج السعودية,.. وان هذا الأجراء هو اشبه بأي اجراء عندما تدخل من دولة الى اخرى,.. الا انه لم نلاحظ اي زي عسكري, بل شـاهدنا شباب سعوديين بالزي العربي وعلى صدورهم باجات بأسمائهم وعنوان وظيفتهم, .. وهكذا صعد احد الشباب الى الحافلة وحيا الجميع بكل ادب,.. وما ان تم له التأكد من صلاحية كل جواز, . اخذ الجوازات وتوجه الى الجهة الختصة في مثل تلك الأمور,... وبقى من بقى من الركاب في الحافلة, ومنهم من هبط ليبحث عن(التواليت), بيت الراحة, اوعن مطعم لشراء ما يسد الرمق !
لقد اتيحت لي الفرصة بالسفر الى معظم دول العالم المتحضر منذ الخمسينات والى يومنا هذا, .. واكثر ما لفت نظري هوالنظام و التحضر في تلك الأقطار, والذي لا تجد له مثيلا له في معظم اقطارنا العربية والأسلامية, عدا ماليزيا التي فاقت حتى الدول الأسكندنافية! .. وبخاصة في المرافق العامة, سواءاً الموجودة في المطاعم اوالمقاهي على قارعة الطريق او داخل المدن!! .. ولا ادري اي سبباً يحول دون الأهتمام بتلك المرافق؟!..ولقد قرأت تقريراً يبين ان اكبر انجازات البشر في القرن التاسع عشر,(الذي فاق صناعة القطار والبواخر والطائرة وحتى ثورة الأتصالات), منذ تلك الحقبة من الزمن والى يومنا هذا, كانت متمثلة بما يعرف الآن:
بنظام الصرف الصحي, ( المجاري)!!
ان ديننا الحنيف يفرض علينا النظافة الى درجة كبرى لا لبس فيها ولا تهاون, في حين من النادر ان تجد اي مرفق صحي في معظم الدول العربية ملتزم بأبسط قواعد النظافة!!
لم استغرب عندما دخلت الى بيت الراحة القريب من المسجد في منطقة وقوف الحافلات لخدمة ضيوف الرحمن وبعد ان وقفت (بالطابور) حوالي الربع ساعة, حيث كانت اربعة حمامات للرجال ومثلها للنساء, وامام كل حمام اكثر من عشرة اشخاص بأنتظار دورهم!!
لا اريد التوسع بالشرح حتى لا اتهم بخدمة الأستعمار وانا اذكر حقائق
يقشعر منها وجدان اي انسان لديه قيراط من القواعد الأسلامية !!
اسعدني الحظ ,.. ووصلت بعد طول انتظار الى البيت الذي اطلقوا عليه زوراً( بيتاً للراحة),,.. فقد كان اقذر مكان شاهدته في حياتي, .. وكان من الصعب العثور على موطئ قدم ليس فيه( نجاسة), بالرغم من توفر الماء وفوهة للمرحاض, فلماذا يتغوط الشخص في غير المكان المخصص؟؟
لا ادري و لغاية هذه اللحظة كيف تمكنت من التخلص من( الأدرار), واقفاً حيث من المستحيل ان (أكعمز), كما يقال باللهجة الليبية!
خرجت مسرعاً, ومتألماً للتخلف المهيمن علينا ليومنا هذا, ولأن هذه البقعة تقع في اقدس بقعة على الكرة الأرضية وتحت اشراف اغنى دولة في العالم العربي,... صرخت بصمت, متسائلاً : من المسؤل عن هذا الوضع المزري والمقزز والمخالف لتعاليم الأسلام, ولماذا نبقى هكذا,
ألم نكن خير امة اخرجت للناس ؟!
لا اريد ان ادخل في سجالات اوأ تهامات لتبرير اي خطأ يسبب الأزعاج للحجاج, فوزارة الحج تستقطع 274 دولار عن كل حاج لتصرف على التنقل وتوفير الحماية والعلاج والراحة لضيوف الرحمن في كافة المرافق التي يتواجدون فيها منذ دخولهم المملكة الى حين عودتهم الى دياره !!
تنشد " أم كلثوم", في احدى اغانيها (العيب فيكم مش بحبايبكم), ولذا يجب عدم صب كل اللوم على المشرفين السعوديين, فلا بد لدولة اي وفد من حجاج بيت الله من تثقيف حجيجها قبل سفرهم الى الديارالمقدسة وخير مثال على ذلك,.. المستوى الثقافي لحجاج ماليزيا, وقد لمست ذلك عندما رأيتهم اثناء تأديتهم للشعائر الدينية, اضافة الى ما رأيته في مساجدهم عند زيارتي العاصمة (كوالا لمبور), و مرد ذلك ثقافة المجتمع المسلم وتمسكهم بتعاليم القرآن الكريم وعدم التهاون مع اي شخص غير ملتزم ,.. وان الزائر لماليزيا ,..سوف يندهش للنظام والنظافة
التي تغمر كافة المرافق العامة في مدنها,... وللعلم , ان ماليزيا بلد اسلامي نال استقلاله سنة 1945!
انني على اطلاع تام بالتقدم العمراني والحضاري لبعض المدن السعودية فاق ما هو موجود في اوربا, الا ان ما
شاهدته في الطرق المؤدية الى المدن المقدسة, لم يكن في المستوى الحضاري الذي وصلت له المملكة في القرن الحادي والعشرين, كما انني على ثقة تامة ان اي مسؤل في وزارة الحج سوف لن يضيره اي نقد شفاف, الغرض منه, رفع الضرر عن ضيوفهم والله من وراء القصد.
ان احد قواعد التقدم العلمي, ما يعرف (بالتطوير), اي وجوب التفكير بتحسين الطريقة التي نتبعها في اي عمل, او التفتيش عن طريقة جديدة! ولذا لا اريد تبرئة المسؤلين عن عملية الحج من اي خلل في تلك العملية,.. بسبب خبرتهم الطويلة, وبسبب ما لدى المملكة من المال الوفير الذي تتقاضاه من الحجاج , و بما وهبها الله من نعمة البترول الذي يفوق انتاجه السنوي اي قطر آخر منتج!! .. ولذا فأن اي خلل في مسيرة الحج ممكن معالجتها من قبل ذوي الخبرة السعوديين, او الأستعانة بشركات اجنبية تأخذ على عاتقها التخطيط لتقديم كل الخدمات الضرورية لحجاج بيت الله.

مرارة الأنتظار..
وبعد مرور اكثر من اربعة ساعات قضيناها في صراع مع الزمن في قاعة الوافدين في مطار جدًه, محاولين ايجاد اي واسطة نقل للسفر الى المدينة المنورة,...
اننا الآن داخل حافلة لنقل الركاب انهكها الزمن, ومنذ نهاية يوم ( 5/ 6 /2008 ), اي منذ الساعة الثانية عشر مساءاً, ولغاية الساعة الثانية بعد الظهرمن اليوم التالي,..نتصارع مع السأم والهم ومرارة الأنتظار الممل, ولقد نفذ صبرنا لعدم اطلالة أي مسؤل ليعلمنا عن سبب هذا التأخير!!
سرحت واخذتني سِنة من النوم,..واذا بصوت نسائي يقرع بأذني, فنبهتني زوجتي,.. والتفت ,.واذا بأمرأة وسـيمة
ومحجبة بحجاب انيق, توجه سـؤالها لزوجتي ولي وتقول :
(هل انتما عراقيان ؟ ),.... وفوراً هززت رأسي ورحبت بها , واعادت السؤال, وعلمت من لهجتها انها مغربية, واجبتها بلهجتي العراقية: ( نعم,..نعم,..من انتي ؟!.)... فقالت انني من ضمن حملة السلام للحج , ..وان مسؤل الحملة الحاج علي الأسدي,..اتصل بنا عدة مرات يطلب منا البحث عنكما! .. حمدت الله وشكرت المرأة ,.. وقلت لزوجتي: (الحمد لله فرجت),.. فمعنا الآن حجاج من نفس مجموعتنا,.. وهكذا دب الأمل فينا,..وبعد اقل من ساعة عادت تلك المرأة المغربية الفاضلة السـيدة ياسـمين ومعها زوجها السيد حكيم,(ابو حمزه), ..يصحبان مسؤل سعودي وبيده مجموعة من جوازات سفرجميع ركاب الحافلة,.. وما ان استقر به المقام داخل الحافلة, حتى بدأ بتدقيق جوازات سفر الركاب , ..وما ان تم له ذلك, سلم الجوازات الى سائق السيارة,.. ثم غادر الحافلة معتذراً عن التأخير ومتمنياً للركاب حج مبروك واقامة طيبة في المدينة المنورة!
تنفسنا الصعداء عندما غادر المسؤل السعودي معلناً موافقته على التحرك ,.. وسارت الحافلة وعين الله ترعاها,.. وصرنا نتطلع الى الجبال والسهول,.. وبدأنا نقترب من مشارف المدينة المنورة,ودخلت الحافلة في ازقتها موزعة الركاب على فنادق اقامتهم,.. وكنا ستة افراد من مجموعة حملة السلام للعمرة والحج,.. اقامتنا في فندق ( دلًه طيبه),.. وهكذا انعم الله علينا بسلامة الوصول وهبطنا من الحافلة , وتولى امر نقل العفش وادخالها عمال الفندق,..وما ان حللنا في بهو الفندق حتى وجدنا رئيس بعثة السلام الحاج علي الأسدي يرحب بنا بشدة, فقد كان قلقا على سلامتنا,.. وطلب منا تغيير ملابسنا والذهاب الى المسجد النبوي للسلام و لتأدية صلاة المغرب,..ومن ثم العودة لتناول وجبة العشاء.
لا اريد الأطناب في وصف الخدمات التي قدمها المشرف على حملة السلام, ..فكل شيئ يخص المبيت والطعام لثلاثة وجبلت بموائد احتوت ما لذ وطاب من كل اصناف الطعام والحلوى وفواكه متنوعة,.. وكلها وضعت في قاعة خاصة بنظام (البوفيه), الدخول فيها في اوقات معينة و لمدة ساعتين لكل وجبة.
كان الفندق المخصص لنا في محيط المسجد النبوي ولا يبعد بأكثرمن مآت الأمتارمن الصـحن الشـريف,.. والمنطقة عامرة بمختلف المخازن ,..العمل مستمر بها و لا ينقطع الا في اوقات الصلاة فقط. وان شرح تهافت الجماهير الغفيرة لتأدية الصلاة يحتاج الى مقدرة ادبية لصياغة ما تراه العين من ظاهرة تهتز لها الأبدان,.. فالأفواج المتوجه الى الحرم النبوي تسري بصفوف متراصة وبهمة ونشاط لتصل الى المسجد قبل انتهاء الآذان,.. ومن المحال ان تخترق تلك الجموع بالأتجاه المعاكس, بل عليك السير بنفس الأتجاه, حتى تجد مكاناً تأم به صلاتك مع المصلين.
كانت جميع الشعائر الدينية في حملة السلام للعمرة والحج تحت اشراف السيدان مصطفى ومحمد القزويني, كما كانا يتناوبان في مرافقتنا عندما نزور اي معلم ديني اومساجد تأريخية مثل قبورأئمة البقيع عليهم السلام.
استمرت زيارتنا للمدينة المنورة خمسة ايام, بعد ذلك توجهنا الى مكة المكرمة, في حافلات خاصة, وتمتعنا بمشاهد الجبال الجرداء المحيطة بمكة المكرمة من كل الجهات,.. ورددت قوله تعالى:
بسم الله الرحمن الرحيم:

:" ربنا اني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك
المحرم ربنا ليقيموا الصلاة فأجعل أفئدة من الناس تهوى اليهم".
أقمنا في مكة المكرمة في عمارة خاصة تقع في المنطقة الشرقية, في بقعة تعتبر ضمن الكعبة المشرفة ومتكونة من اربعة طوابق, ثلاثة منها خصصت للرجال والرابع خصص للنساء, وقاعة ارضية استخدمت كمصلى وقاعة للمحاضرات وتناول الطعام بثلاثة وجبات بطريقة (البوفيه), ومقهى زود بالشاي والقهوة والفواكهة وكل ما طاب من الحلويات والعسل والتمر, بسخاء طول النهاروالمســاء وبلا حساب!
لا اريد الخوض في شرح المشاعر الدينية التي استوجب القيام بها منذ وصولنا الأراضي المقدسة,.. حيث كنت ضمن اعضاء وفد حملة السـلام للعمرة والحج,.. وان المشاعر الدينية كنا نؤديها وفق تعاليم المرشد الديني المرافق, والذي كان يشرح لنا الواجبات الملزمة وفق المذاهب الأربعة في اي نقطة فيها اختلاف ,.. وكان حريصاً على تلقيننا القول عند تأدية العمرة والحج, والدعاء للتقرب الى الله تعالى. ولهذا السبب, سأقتصر في حديثي عن مشاهداتي اثناء تأدية تلك المشاعر والأحاسيس الروحية التي كانت تلهبني بشكل لم اعهده من قبل!
فبعد ان احرمت توجهت برفقة مجموعة من اعضاء الحملة يزيد تعدادها المائة, ووقفنا على بعد امتار من الكعبة المشرفة, .. بدأ ســماحة السـيد محمد القزويني (مرشـد الحملة الديني), بألقاء النص الكامل لتأدية الفريضة, ونحن نردد خلفه, وما ان انتهينا حتى بدأت الحناجر تصدح بأعلى صوتها:
لبيك اللهم لبَيك, لَبَيك لا شريك لك لبَيك,
ان الحمد والنًعمة لك والمُلك, لا شريك لك لبَيك.

وما ان وقعت عيني على الكعبة وصارت على بعد امتار مني,. وانا والجمع المحيط بي من رفاق الحملة, اضافة الى حشد هائل من البشر نردد,( لبيك اللهم لبيك, لبيك..),.... و لقد شعرت فوراً بقشـعريرة سـرت في بدني لم اعهدها من قبل,.. وها نحن تهيأنا للطوف حول البيت العتيق سـبعة أشــواط , مبتدئين بالحجر الأسود ومختتمين به,...وما ان بدأنا الطواف الأول حتى هجمت علينا موجة من البشـر من مختلف الأجناس, اندفعت بأتجاهنا ممزقة جمعنا شـذرمذر فهلعت مما حدث وامسكت بزوجتي التي كانت بجانبي وقلت لها لقد ضعنا ورب الكعبة !! .. الا انها كانت متماسـكة الأعصاب,.. وطلبت مني التريث وعدم الخروج من الطواف, فقد تشتتنا عن الجمع من اعضاء الحملة, .. وفي هذه الأثناء شـعرت بيد تمتد لي وتمسـك بذراعي, فقد كانت تلك اليد لشخص من حملتنا, قادني بجانبه, وكذلك فعلت زوجته ,...
حيث مسـكت بذراع زوجتي , وطلبوا منا مرافقتهم, حيث كان الرجل يدفع بكرسي متحرك يجلس فيه حفيده المعاق والذي لم يتجاوز عمر الزهور,.. وهكذا توفر لنا المجال بالطواف بيسـرعندما يشاهد الحاج منظر الصبي المعاق وهو يطوف ويردد لبيك اللهم لبيك,.. يرق لها قلب كل سـامع له, ولذا يفسح المجال لسـيرذلك الصبي المعاق, الى ان اتمننا الشوط السـابع, حمدت الله على ذلك, فقد دب اليأس عندي وكدت اغادر الطواف لولا توسـل زوجتي بي و حثها لي على الصمود وعدم التخاذل, ممسـكة بذراعي كما تمسك الأم رضيعها!
صلينا بعد الفراغ من الطواف ركعتين, خلف مقام ابراهيم عليه السلام, وتوجهنا بعد ذلك للسـعي بين الصفا والمروة سبعة أشـواط, مبتدئين بالصفا ومختتمين بالمروة. وما ان انتهينا حتى اقترب مني السـيد محمد القزويني وبيده مقص صغير, فقص شيئاً من شـعر رأسـي.
وهكذا اتممنا حج العمرة, منتظراين اليوم الثامن من ذي الحجة (يوم التروية), لنحرم للحج هذه المرة وليس للعمرة, وما ان حلً اليوم الثامن حتى لبسـنا ثوب الأحرام ثانية, ونوينا لأحرام الحج,.. ولبينا, لبيكً اللهم لبيكَ,..وتوجهنا بالسيارات عند الغروب الى عرفات, حيث يجب علينا الوقوف هناك,.. الى غروب الشمس يوم التاسع من ذي الحجة, وان ليلة عرفة مباركة, وهي ليلة مناجاة, والتوبة فيها مقبولة, والدعاء فيها مسـتجاب,.. وهكذا وقفنا بشـكل مجاميع نردد الدعاء خلف احدنا ممن يجيد قراءة الدعاء بصوت مرتفع, .. ثم أنزوى كلاً منا على حدة لمناجات الخالق ليغفر الذنوب التي اقترفها في حياته,.. طالباً التوبة,.. وعدم اقتراف اي ذنب مسـتقبلاً.
وما ان حان غروب شمس يوم التاسع , توجهنا الى (المزدلفة), وبتنا فيها ليلة العاشر من ذي الحجة, حيث يجب ان يطلع علينا فجر اليوم العاشر ونحن بالمزدلفة, وان نبقى بها الى قبيل طلوع الفجر.
تركنا المزدلفة الى منى, ومعنا الحصى اللازم لرمي جمرة العقبة بسبع حصيات واحدة تلو الأخرى, وما ان انتهينا من ذلك الواجب حتى وقفنا ننتظر نتائج النحر, حيث دفع كل حاج مبلغ 400 ريال سعودي عن كل كبش ينحر بأسمه,
اوبأسم موكله, وما ان سمعنا ان النحر قد تمً, حتى توجه كل حاج ذكر ادى المناسك لأول مرة للحلاقة بالموس! وهكذا, ووفق التعاليم تحللنا من كل ما حرم علينا ما عدا الأستمتاع بالنساء والطيب و(الصيد).
عدنا الى مقر سكننا في مكة, .. ومن ثم توجهنا الى الكعبة, من اجل طواف الحج, وصلينا صلاة الطواف, وسعينا بين الصفا والمروة, كما في المرة الأولى , ثم طفنا ما يسـمى بطواف النساء او( الوداع), وصلينا صلاة الطواف.

عدنا بعد ذلك الى منى, حيث وجوب المبيت فيها ليلة الحادي عشر, حتى الى ما بعد ظهر اليوم الثاني عشر,... ولقد رمينا خلال تلك الفترة, الجمرات الثلاث الأولى والوسطى و العقبة بالترتيب في اليوم الحادي عشر, ثم عدنا ورمينا ثانية الجمرات في اليوم الثاني عشر كما رميناها بالأمس.
وما ان بزغ ظهر اليوم الثاني عشربمنى, حتى صلينا فرض الظهر, ثم غادرناها الى محل اقامتناغيرالبعيد عنها, في منطقة الشرقية, ثم صلينا صلاة الظهر, وبهذاانتهينا من كل واجبات الحج.
كنت أتسائل قبل ان يمنحني الله فرصة حج بيته العتيق لماذا يهنئ الناس الذين لم يؤدوا حج بيت الله, بعضهم البعض,.وهم قابعون في بيوتهم,.. بالرغم من انهم لم يعانومعشار المليون مما عاناه معظم الحجاج؟ ,..فوالله انني احتاج الى كتيب آخر لسـرد معاناة كل حاج منذ بداية نيته للحج والى حين عودته الى مكان اقامته في وطنه! .
انني مؤمن بأن الأجر على قدر المشقة, الا انني اختلف مع من لم يميز بين ظرف طارئ على الحاج تحمله, وبين اهمال سـدنة من ادعوا انهم في خدمة ضيوف الرحمان,.. فمن المحال ان يرضى الرحمن بتعرض ضيوفة الى (النجاســة), في بيوت الراحة, وفي فوضى نقلهم من دون اي تخطيط او توفر ابسط قواعد الأمان عند اجتياز الحافلات بأقصى سـرعتها او توقفها لسـاعات طويلة بســبب الأختناق المجهول الأســباب, والذي حفز ملايين الحجاج على ترك الحافلات والسـير على الأقدام للوصول الى المزدلفة او منى قبل بزوغ الفجر, ..و ان هذه الظاهرة, لا يمكن السكوت عنها, حيث وهب الله المملكة المضيفة الغنى الذي لم يتوفرفي اي دولة اسلامية على الأطلاق!..
ان هذا النقد نابع من الألم الذي عانيته, وخاصة في عرفات والمزدلفة ومنى,ولا اقصد هنا التعب اوالغذاء اوعدم النوم مطلقاً.
لقد كان الحج بالنسبة لي, فرصة للتقرب الى الله عزَ وجًل, والتمتع بالدعاء ليل نهار. ولذا أحث كل من له قدرة جسـدية وامتلك مالاً يكفيه للحج, ان لا يتردد لحظة في تأدية الركن الخامس, فالحياة فقاعة, ..وعلى المسلم الحج ان اسـتطاع, ووفق الله الجميع لأداء الواجبات الدينية والأحسان الى بني البشر وحثهم على عمل الخير.



















ً