السيّد المرجع (رض) في خطبة الوداع

لقد حملتُ همّ الإسلام، وفتحت لكم به طريق النّور في الحياة، وهو مسؤوليّتكم أن تحفظوه وتستقيموا عليه ..

في 28 صفر 1431، الّذي يصادف ذكرى وفاة الرّسول الأكرم(ص)، الموافق: 12-2-2010م
اعتلى سماحة العلامة المرجع، السيّد محمد حسين فضل الله (رضوان الله عليه)، للمرّة الأخيرة، منبر مسجد الإمامين الحسنين(ع) , هذا المسجد المبارك الّذي شكّل مركز إشعاع المرجعيّة الرّشيدة إلى العالم الإسلاميّ بأسره، فمن رحاب هذا المسجد، كان سماحته يكتب مستقبل الأمّة، ويبعث الوعي في صفوف أجيالها , وفيه تعلّم المؤمنون مدرسة الإسلام والرّسول، ونهلوا علم أمير المؤمنين وسيّدة النّساء(ع) وأهل البيت الأطهار...

وفيه كان يعلو صوت سماحته بالدّعاء، مناجياً الله الّذي باع نفسه له، فتترقرق أصوات الملائك خشوعاً لصوته الرّحمانيّ الشّجيّ، وترقّ قلوب المؤمنين , وفيه تأصّلت حركة الوعي، وتهاوت أشباح الخرافة والغلوّ والتخلّف، لأنّ الإسلام كما علّمنا، هو دين الفكر والعقل والحوار والحياة , وفيه تردّدت أصداء نداءاته للوحدة الإسلاميّة الّتي كان رائدها الأوّل، كما كان ملهم الإنسانيّة الأوّل , وفيه ارتفع صوت الحسين(ع) في كلّ عاشوراء، باعثاً الحرارة في دماء كربلاء التي أرادها السيّد دائماً إسلاميّةً بحجم العالم...

وفي روضةٍ من رياضه المباركة، كان مرقد الجسد الطّاهر، في المكان نفسه الذي أقام فيه خلال حرب تموز، حيث صمد مع النّاس، ومع المجاهدين الّذين ربّاهم، فشبّوا في مدرسته الحركية الجهادية، وكان لهم الأب والمعلّم والمرشد، لم يعبأ بعتوّ العدوان الصهيوني، وبأطنان الصّواريخ التي تتهاوى على الأبنية والبيوت، وكيف يخاف وقلبه عرش الله، فكانت خطبته التّاريخيّة في 15 تموز 2006 من مسجد الحسنين(ع)، تهزأ بالعدوّ وطائراته وصواريخه، وتؤكّد عزيمة الجهاد في الأمّة، من خلال عزيمته المحمديّة العلويّة الحسنيّة الحسينيّة التي تزول الجبال ولا تزول... وكانت نداءاته تشدّ من أزر المجاهدين البدريّين، فتنـزل كلماته برداً وسلاماً عليهم، ليثبّت بها أقدامهم في ساحات النّـزال، فيصنعوا فجر الانتصارات للأمّة..

...لم يكن المؤمنون في مسجد الحسنين(ع)، كما كلّ الجيل الإسلاميّ الّذي ربّاه على امتداد العالم الإسلاميّ، يتخيّلون للحظةٍ أنّ خطبة سماحة السيّد في 28 صفر الماضي في ذكرى وفاة الرّسول الأكرم، ستكون خطبة الوداع الأخير , فالسيّد الّذي كان يتمثّل رسول الله(ص) في خطّه ونهجه وسيرته وأخلاقه، تحدّث للمرّة الأخيرة في ذكرى وفاة الرّسول(ص)، ولم نعلم حينها أنها ستكون المرّة الأخيرة قبل التحاقه بالرّسول الأكرم(مع النبيّين والصدّيقين والشّهداء، وحسن أولئك رفيقاً , كان يخطب فينا خطبة الوداع، ويحدّثنا بلسان خير البشر، ليوصينا وصيّته الأخيرة، وقد كانت كلّ حياته وكتبه وكلماته وصايا لنا وللأمّة بأجمعها، لأنّه كان مرجع الأمّة، وباعث نهضتها، ومجدّد دينها، وقائد حركة الإصلاح فيها، كسيّد الشّهداء(ع)...

نبقى مع خطبة الوداع الأخير في مسجد الإمامين الحسنين(ع) ..

مع الوصية:

يقول الله تعالى في كتابه المجيد مخاطباً رسوله: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ}[الزّمر:30]. ويقول أيضاً: {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِّن قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِن مِّتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ}[الأنبياء:34].
في الثّامن والعشرين من شهر صفر، نلتقي بذكرى وفاة النبيّ محمّد(ص)، الذي انقطع بموته وحيُ السّماء، وفُقِدَ أحد الأمانيْن لأهل الأرض، كما قال تعالى: {وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ}[الأنفال: 33].
وقد كان(ص) نوراً كلّه، وخيراً كلّه، ورحمةً كلّه، ورسالةً وخلقاً ليس فوقه خلق. ونحن عندما نقف في ذكرى وفاته، فإنّنا نتذكّر الهمّ الكبير الّذي كان يشغل باله وهو في مرض الموت، ولذلك انطلق ليوصي، لا بمالٍ يورّثه، ولا بدنيا يمنحها أقرباءه، بل بالإسلام الّذي كان كلّ همّه أن لا يضعفه المسلمون بعصبيّاتهم وأحقادهم وجهلهم، ولذلك وقف في حجّة الوداع، في يوم النّحر في مِنى خطيباً، وقال: «أيّها النّاس، إنّ دماءكم وأموالكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا، في بلدكم هذا، في شهركم هذا... لا ترجعوا بعدي كفّاراً يضرب بعضكم رقاب بعض...".
وقد كان(ص) يعرف من خلال الغيب، أنّ المسلمين سيتقاتلون، وسيختلفون، وسيكفّر بعضهم بعضاً، وسوف يكيد بعضهم لبعض، ولذلك كانت هذه الوصيّة آخر ما أراد للنّاس أن يسمعوه ويعوه، وقد حجّ أكثرهم في تلك الحجّة مع رسول الله.
وفي موقفٍ آخر، وكان عنده في مرضه عددٌ من أقاربه، فالتفت إليهم وقال: «يا بني عبدِ مناف، اعملوا لما عند الله فإنّي لا أغني عنكم من الله شيئاً. يا عبّاس بن عبد المطّلب، يا عمّ رسول الله، اعمل لما عند الله فإنّي لا أغني عنك من الله شيئاً. يا صفيّة بنت عبد المطّلب، يا عمّة رسول الله، اعملي لما عند الله فإنّي لا أغني عنك من الله شيئاً. يا فاطمة بنت محمّد، يا بنت رسول الله، اعملي لما عند الله فإنّي لا أغني عنك من الله شيئاً». وكان يتوجّه إلى المسلمين ليقول: «لا يدّعِ مدّعٍ، ولا يتمنّ متمنٍّ؛ والذي بعثني بالحقّ نبيّاً، لا يُنجي إلا عمل مع رحمة، ولو عصيتُ لهويت».
هكذا أيّها الأحبّة، يطلّ علينا رسول الله في يوم ذكراه، ليقول لنا: لقد حملتُ همّ الإسلام، وفتحت لكم به طريق النّور في الحياة، وهو مسؤوليّتكم؛ أن تحفظوه لتحفظوا من خلاله أنفسكم، وأن تعزّوه لتكونوا من خلاله الأمّة العزيزة، وأن تستقيموا عليه، وأن تنطلقوا به في حياتكم الخاصّة والعامّة؛ لأنّ الإسلام هو أساس عزّتكم وقوّتكم ونجاتكم في الدّنيا والآخرة.
والسّلام عليك يا رسول الله، يوم ولدتَ، ويوم ارتفعت روحك إلى الله، ويوم تُبعث حيّاً.