محاضرة القاها سماحته تقدست روحه الطاهرة في مناسبة لجمعية المبرات الخيرية بعنوان :

بناء الذات واستعادة مواقع القوة

العالم يتحرك باستمرار حتى لتشعر أنه لا يقف، ويتجدّد باستمرار حتى تشعر أنه في اللحظة الثانية غير اللحظة الأولى .. وهذا عالم يثير في كل يوم وفي كل حدث ألف مشكلة ومشكلة، تخترق في الإنسان أمنه السياسي والروحي والثقافي والاقتصادي والأمني، لأنه عالم يحرّك عقله في مناخ الجنون، ويبعث بجنونه حتى يدفع بالإنسان إلى اللاعقل.. لذا علينا أن نطلق مسيرة الجيل الجديد نحو المستقبل وهو يضع أقدامه في اهتزازات الحاضر في عملية مثقلة بالأعباء والفكر الذي يبحث عن موقعٍ له في كل مواقع اللافكر، لأننا عُدنا حتى في بعض مظاهر مسيرتنا الإسلامية ننكر على الناس أن يفكروا بحرية ونطلب منهم أن يلجموا حركة الفكر في عقولهم لمصلحة وضع اجتماعي هنا وسياسي هناك، وربّما ديني هنا وهناك.

ومشكلة البعض أنّ الدين تحوّل عندهم إلى تجارة مع الذين يملكون الجاه والمال والمواقع؛ بقدر ما تدفع يعطيك.. الموعظة لها ثمن والحركة وكل شيء. لم نستطع أن نعمق الدين في معناه الإنساني في نفوس الناس، أصبح جامداً وطقوساً وتقاليد وعادات تنطلق من الجسد لا من القلب.

ثم ونحن في عالمٍ يتحرك ليؤنسن التربية والتعليم، فإن الوسيلة هي الرفق لا العنف، "إن الرفق ما وضع على شيء إلا زانه وما رفع عن شيء إلا شانه" و"إن الله رفيق يحب الرفق ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف".

ينبغي أن نعلّم هذا الجيل الطاهر كيف يطلق كلماته ويختارها ويحركها، حتى لا تنتج إلا في مواسم الورود؛ الكلمة التي تجمع ولا تفرّق، الكلمة التي تحتضن الإنسان الآخر، أن نتعلم ونعلم هذا الجيل الصاعد أنه إذا واجه أية مشكلة ووقف بين أسلوبي العنف والرفق والعدوانية والمحبة، فعليه أن يعمل لتحويل أعدائه إلى أصدقاء وليس العكس كما نفعل في واقعنا.

ننطلق من العصبية

مشكلتنا في هذا العالم أنهم ينطلقون من الغرائز والعصبية والحمية، وكلماتهم تدعو إلى القطع والتنابذ والتحزب المنغلق والأوضاع الاجتماعية الحاقدة التي لا يشعر الإنسان بأن الآخر يفتح لنا قلبه، هذا لأننا نتعلّم في بيوتنا الحقد؛ حقد الأهل ومن خلالهم حقد الأبناء على من يحقد الأهل، لأن التربية تربية حقد .. وحتى في مدارسنا كلها، إسلامية وغير إسلامية، عندما دخلت العصبيات في داخل مدارسنا علّمنا الطلاب العصبية، فينشأ هذا الجيل الذي لا ذنب له متعصباً حاقداً، وتأتي الظروف ويتحول إلى قاتل ومجرم. من الذين قتل؟ إنه الذي زرع الحقد. فالحقد حاجز يجب أن نتخلص منه، ولا أدري كيف انطلقت الكلمات أن الحقد مقدّس والعصبية مقدّسة..

مصادفات 11 أيلول

لعل من المصادفات احتفالكم في يوم اهتز فيه العالم، وهو يوم "11 أيلول" الذي فجرت فيه أقوى المواقع للقوة في العالم، ولا سيما الاقتصادية وهو "مركز التجارة العالمي"، وأقوى مركز عسكري وهو البنتاغون، وكاد يهتز أقوى موقع سياسي وهو البيت الأبيض ومعه الكونغرس.

وعندما كان التحدي لأمريكا التي تعتبر نفسها أقوى دولة في العالم، فإنها عملت على أن تستعيد عنفوانها بالطريقة التي تحمل سيفاً وتقاتل به ضد العالم، باسم الحرب ضد الإرهاب. هذا المفهوم الذي لم تقبل أن يناقشه أحد ليحدّده. فقد رفضت مؤتمر تحديد الإرهاب، لأنها تريد أخذ الحرية في أن تدخل المجاهدين في الانتفاضة والمقاومة في لبنان في دائرة الإرهاب، وكذلك الذين يعارضون السياسة الأمريكية التي تصادر العالم الثالث وأمنه واقتصاده، فأدخلت العالم في دائرة الإرهاب، وحاولت إقناع كل المحاور، أن الانتفاضة إرهاب، وبعد حربها لأفغانستان، وهي حرب التنفيس للشعب الذي فقد ثقته بإدارته وأجهزة مخابراتها، بدأت تنتقي المواقع الحليفة لها وبعض عملائها لتحرّك حربها ضد الإرهاب، لا لتستعمل القوة من أجل الأهداف، بل لصناعة الأهداف من أجل القوة . فأمريكا الدولة التي لا مبادىء لها، تصنع أهدافاً تحرك القوة نحوها استعراضاً لعضلاتها.

وهكذا بدأت ترش القلق والفوضى في العالم الإسلامي: أفغانستان، باكستان، الصومال، إيران، العراق، وربما مصر والسعودية مروراً بسورية ولبنان. ففي موقع حرب عسكرية وفي آخر أمنية وفي آخر اقتصادية. أرادت الاستفادة من هذه الأحداث لاستعادة سيطرتها على العالم وإخضاع الدول، لتثبت أنها الدولة القائدة التي لا يملك أحد فيها أن ينكر عليها أي شيء، فإما معنا وإما مع الإرهاب. فالرئيس الأمريكي يقول أنا الخير والحرية وكل ما عداي هو التخلف والشر، فلا يمكن لأحد أن يناقشه.

إن علينا تثبيت أقدامنا على الأرض المهتزة تحتنا، أن نستعيد مواقع القوة، أن نعاقب من يعاقبوننا، ولهذا ففتوانا بمقاطعة البضائع الأميركية هي توعية للأمة لتقدّم مصلحتها على المصالح الأخرى .. إن العالم يحترم إسرائيل لأنها تعاقب بطريقتها كل من ينحرف عن مصالحها، ونحن نهتف من خلال السيجارة الحياة لأمريكا ولسانك يهتف الموت لأمريكا، وإن السيجارة ستنتصر لأنها تحرق الكلمة من خلال أنانية المزاج.

هذا عالمٌ يتجدّد باستمرار وينشر العدوان باستمرار، فهل ننتظر الضربة على رؤوسنا، وأن يحفروا لنا قبورنا، هل يحاول فريق منا التحالف مع أمريكا ضد شعبه على أساس أنها ستنتصر له من حاكمه الظالم، ونحن نعرف أن كل حكام الظلم وطالبان كانوا نتاج أمريكا .. هل نكون الحمل الوديع المنتظر للذئب كي يأكله؟