العدل منهج حياة

القاعدة التي يرتكز عليها كلُّ الخط التشريعي المستقيم في المنهج الإسلامي هي العدل، فكلمة العدل في كلِّ أبعادها التشريعية تختصر كل الإسلام في عقائده وشرائعه ومناهجه، وفي حركيته في العلاقات والمعاملات بين الناس.

وهذا ما أكّدته الآية القرآنية الكريمة في سورة الحديد: {لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط} (الحديد/25) فالآية تؤكد أن قيام الناس بالقسط، أي بالعدل، هو الهدف والخطّ لكل الرسالات، ودعوة كلِّ الرسل وركيزة كل الحجج والبراهين التي يقدمونها، وهو الميزان الذي يزن الله به مستوى القيمة في النشاط الإنساني، لأنّ العدل هو أن يُعطى صاحب الحق حقه، فهناك في النظام الكوني والنظام الإنساني حقوق كونية تكوينية وحقوق اختيارية إنسانية، فالحقوق الكونية هي ما أودعه الله تعالى في النظام الكوني من حق كل ظاهرة كونية على الظاهرة الكونية الأخرى، فكل ما يحتاج إلى الدفء وإلى الحرارة له حق على الشمس، وكل ما يحتاج إلى الري له حق على المطر، وعلى السحاب والغمام وما إلى ذلك.

وهكذا كل الموجودات الحية والنامية، ولا سيّما الحيوانات التي لها حق وعليها حق، والنبات له حق وعليه حق، فالكون بكل ظواهره المتحركة والجامدة والحية والنامية، يخضع للعدل التكويني، لأن كل ظاهرة تعطي ما تحتاجه الظاهرة الأخرى، وهذا هو الذي قدَّره الله تعالى في الكون كله.

إنّ الله تعالى خلق كل شيء وقدَّره تقديراً، وأعطى كل شيء حاجته، بحيث إنّ هذا الشيء لا يملك أن يمتنع عن تقديم هذه الحاجة للموجودات الأخرى، وهذا هو العدل الوجودي والعدل التكويني، ثم نرتفع فنلاحظ أن قيام الناس بالقسط يفرض عليهم حقاً لله، وحق الله تعالى على خلقه أن يوحّدوه في إيمانهم في وجوده، وأن يعبدوه ويطيعوه، هذه العناوين الثلاثة: التوحيد والعبادة والطاعة، هي من مفردات عدل الإنسان مع ربه، لأن علاقة الرب بعباده، أي علاقة الربوبية بالعبودية، تفرض هذا النوع من الانفتاح على الحقيقة التوحيدية التي غرسها الله في فطرة الإنسان {فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم} (الروم/30).

فالحقيقة التوحيدية كامنة في فطرة الإنسان، وهي حق الله على الإنسان أن يدركها وأن يحركها وأن يفتح عقله عليها، وأن يركز كل سلوكه في اتجاهها، وذلك بأن يعبد الله وحده، وهذا ما نلاحظه من أن الأنبياء خلال دعواتهم للناس لم يدخلوا معهم في جدالٍ حول فلسفة التوحيد كفكرة تجريدية فلسفية، وإنما دعوهم بشكل واقعي: {اعبدوا الله ما لكم من إله غيره}.

كما إنهم لم يقولوا للنّاس وحِّدوا الله، ولم يدخلوا معهم في جدل حول التوحيد والشّرك، لأنَّ مسألة التوحيد تكمن في عمق الفطرة الإنسانية، بحيث إذا تعمَّق الإنسان في فطرته أدرك التوحيد، فتكون المسألة بعد ذلك هي الالتزام بمفاعيل التّوحيد في إدراك الإنسان له، وذلك بالعبادة والطاعة: {وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم}، فالطاعة تعتبر من مفردات العبادة، لأن العبادة هي الخضوع لله تعالى في ما أمر به أو نهى عنه، وهذه هي العبادة التي تمتد في كل حياة الإنسان، ولهذا ورد: أن «العبادة سبعون جزءاً أفضلها طلب الحلال».

والخلاصة هي أن كلمة العدل، فيما يريد الله للإنسان أن يأخذ بالعدل في علاقته به، تختصر كل العقيدة، وإذا قرأنا قوله تعالى: {من يطع الرسول فقد أطاع الله} (النساء/80)، أو {إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله} (آل عمران/31)، نعرف أيضاً أن الإيمان بالرسول والطاعة له في ما بلّغه عن الله هي من شؤون العدل، لأنها من شؤون طاعة الله التي هي خطّ من خطوط العدل، ومن خلال ذلك ننفتح على كلِّ التشريعات الإسلامية في حقوق الناس بعضهم على بعض، إن على مستوى تنظيم الأسرة، كحق الأب والأم على الأولاد، أو حق الأولاد على الأب والأم، أو حق الزوج على زوجته، أو حق الزوجة على زوجها، وإن على مستوى المحيط الاجتماعي، كحق الجيران بعضهم على بعض، أو حق المعلم على المتعلم، أو حق المتعلم على المعلم، أو حق الحاكم على المحكوم، فهذه كلها تمثل العدل، بإعطاء كلّ ذي حق حقه، والحق هو ما يفرضه الله على الإنسان مما يدخل في حساب الطاعة، لأن حركة التشريعات تنطلق من العقيدة، والعقيدة عندما تفرض عبادة الله وطاعته، فإن ذلك يتمثل في الالتزام في كلِّ ما شرعه الله سبحانه وتعالى.

وهكذا تمتدُّ المسألة في الحقوق الخاصة والعامّة بين النّاس داخل المجتمع الإنساني في قضايا الحرب والسلم، والمعاملات والعقود، وفي قضايا المعاهدات في كل التنظيم الإنساني، فهناك حق لإنسان وحق على إنسان آخر، وأداء الحق يمثل العدل في هذا المجال أو ذاك المجال، وتمتدُّ المسألة أيضاً إلى عدل الإنسان مع الحيوان، فالله أباح للإنسان أن يذبح الحيوان ويأكله، ولكن ضمن نظام وقانون معين وأخلاقية معينة، فالإنسان يجوز له أن يذبح الحيوان أو يصطاده لغذائه ولكنّه لا يجوز له أن يعذبه كأن يحرقه بالنار، ولا يجوز له أن يجعله يموت جوعاً أو يموت عطشاً أو ما أشبه ذلك.

وهناك أيضاً عدل وظلم بالنسبة للبيئة، هذه البيئة التي يتنفس فيها الناس ما يضمن لهم سلامة حياتهم، ولذلك نحن قلنا بعدم جواز ما تعارف عليه الناس في عملية الاحتجاج بإحراق الدواليب لأنهم يريدون أن يقطعوا طريقاً، من حق الإنسان أن يحتج على ما له حق فيه ليضغط على الآخرين ليمنحوه حقه، ولكن ليس له أن يحتج بما يضرُّ الناس، وهذا يدخل في ضرر الناس، لأنه يلوّث الهواء، وهكذا في كل ما يلوث الهواء بالميكروبات أو يلوث الهواء بالسموم أو ما أشبه ذلك من الأمور، فللبيئة حق عليك، وعليك أن تؤدي إلى البيئة حقها، ولا يجوز لك مثلاً أن تجري الصرف الصحي إلى البحار والأنهار، لأن ذلك يضر بالثروة السمكية، أو أن تضع بعض النفايات النووية كما تفعل بعض الدول، سواء كانت تدفنها في مكان أو تضعها في البحر، لأن هذا يؤثر على الثروة السمكية، وكذلك ما تفعله بعض السفن الآن من إراقة البترول في البحر أو في الأنهار.

إذاً نفهم من الآية الكريمة: {لقد أرسلنا رسلنا بالبينات}، بالحجج والبراهين التي تثبت لهم الحقيقة التوحيدية الرسالية الشرعية، {وأنزلنا معهم الكتاب} الذي هو وحي الله {والميزان} الذي يبيّن موازين الحق والباطل وموازين العدل والظلم والخير والشر {ليقوم النّاس بالقسط} (الحديد/25) وهو العدل. ولعلَّ الفكرة أو العقيدة المتّصلة بمسألة الإمام الحجة (ع)، هو أنه يملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً، لم يقل إنه يملأ الأرض بالإسلام، ولم يتحدَّث عن الإسلام، ولم يتحدَّث عن تطبيق الشريعة، بل تحدث عن العدل العالمي الشامل، لأن كلمتي العدل والظلم تختصران ما أراده الله تعالى وما حرّمه الله، فعندما يقال يملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً، فإنه يملأ الأرض بالإسلام كله في خط العقيدة وفي خط الشريعة.

وعلى ضوء هذا نفهم أنّ من لا عدل له لا دين له، لأن أساس الدين هو العدل، وقد فصّل الله تعالى العدل في خطوطه العامة؛ العدل مع الأصدقاء ومع الأقرباء والأعداء، العدل في الشهادة، العدل في الكلمة، العدل في الحكم.

والحمد لله رب العالمين والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته