الظلم الأكبر ترك العدل

الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين وأصحابه المنتجبين وعلى جميع أنبياء الله والمرسلين، السلام عليكم أيها الأخوة المؤمنون والأخوات المؤمنات ورحمة الله وبركاته.

تقدم الحديث عن ظلم الإنسان لنفسه، وعن عدل الإنسان، لأن الله يريد للإنسان أن يكون عادلاً مع ربه، ومع نفسه، ومع الناس، لأنّ لربه عليه حقاً، ولنفسه عليه حقاً، وللناس وللحياة من حوله عليه حقاً، وعليه أن يؤدّي لكلّ ذي حقّ حقه، لأنه إذا لم يؤدّ الحقوق لمن له عليه حق يكون ظالماً. وهكذا فإن على الإنسان أن يقوم بحق نفسه عليه، لأن الله خلق للإنسان عقلاً يعرف به ما له وما عليه، وخلق له إرادةً تثبت أقدامه على الطريق وأعطاه من الوسائل ما يملك فيه أن يحرك جسده وعقله في خط مسؤوليته، فإن على الإنسان أن يعيش كشخصيتين، شخصية تملك الحق وشخصية تؤدي الحق، فالإنسان يمثِّل وحدة، لذلك عندما يخدمها ويوجهها إلى ما فيه صلاحها وسلامتها، فإن معنى ذلك أنه يمثل شخصية تحاول أن تنقذ شخصية أخرى.

وقد حدثنا الله سبحانه وتعالى عن أشدّ الظلم، فيما يظلم به الإنسان نفسه، فيقول سبحانه وتعالى في سورة الأنعام: {ومن أظلم ممن افترى على الله كذباً أو كذَّب بآياته} (الأنعام/21). إن هذه الآية تتحدث عن حالتين من حالات ظلم الإنسان لنفسه، وهي أن يفتري على الله كذباً بأن ينسب إليه شيئاً لم يوحِ الله به ولم يتحدث به رسوله (ص)، كالكثيرين من الناس الذين يحرموِّن شيئاً لم يوح الله بحرمته، أو يحللون شيئاً لم يوح الله بحلّيته، افتراءً وكذباً على الله، وهذا قد يتمثل أيضاً في الذين يدّعون بأنهم ينطقون عن الله ولم يعطهم الله هذه الصلاحية، فيقدمون للناس أموراً على أنها من الله وهي ليست منه، فهذا يعتبر أشدَّ الظلم، أولاً لأنهم يظلمون حق الله عندما يفترون على الله بالكذب، فإنهم يسيئون إلى قداسة الله تعالى من جهة أنهم ينسبون إليه ما لم يقله، والجانب الثاني، هو أنَّ الإنسان عندما يكذب على الله، يحدِّث الناس بأن شيئاً أوحى الله به إليه، دون أن يكون ذلك صحيحاً، فيتبعه الناس في ذلك ويعملون بما حدَّثهم به، وقد يخضعون كلَّ حياتهم له، لذلك فقد ينتهي بهم ذلك إلى الهلاك أو إلى الفساد أو إلى أي خطٍ أو سلوكٍ ليس في مصلحتهم. هذا من يفتري على الله.

والقسم الثاني هو الذي يكذّب بآيات الله، يعني هو الذي يحدثه الأنبياء عمّا أنزل الله من وحي، أو يحدثه الأولياء عن ذلك أو العلماء، فيقف ليكذب بآيات الله، ليجحدها وينكرها وهي واضحة أمامه، ما يعطِّل تأثيرها في نفسه، لأنه يحرم نفسه من الحقائق التي جاءت بها آيات الله سبحانه وتعالى، كما أن تكذيبه وإنكاره وجحوده قد يجر بعض الناس إلى أن يسيروا بمسيرته ويأخذوا بتكذيبه فيضلّهم عن الطريق.

وهذا ما عبَّر الله عنه بقوله: {ويوم يعضّ الظالم على يديه يقول يا ليتني اتخذت مع الرسول سبيلاً* يا ويلتي ليتني لم أتخذ فلاناً خليلاً* لقد أضلّني عن الذكر بعد إذ جاءني} (الفرقان/27-29)، فهو الذي أبعدني عن ذكر الله بتكذيبه لله. وهذا ما نجده في كلِّ زمان ومكان، ممن يكذِّبون بالحقائق التي جاء بها القرآن الكريم مما يكلِّف الله به الناس في أعمالهم وفي أوضاعهم وفي كل مواقفهم.

ثم يقول الله: {إنه لا يفلح الظالمون} (الأنعام/ 21) هؤلاء الذين ظلموا أنفسهم، وظلموا الناس من حولهم، كما أنهم ظلموا ربهم، لا ظلم القوة، ولكن ظلم الحق، لأنهم لم يقوموا بحق الله تعالى في ذلك. {إن الله لا يهدي القوم الظالمين}، بل يتركهم لأنفسهم، فإذا ترك الله عبداً لنفسه وسلب منه لطفه ورحمته، فإنه لا بد أن يسير في طريق الغي ولا يسير في طريق الهدى.

ويحدثنا الله عن نموذج آخر من الناس بقوله تعالى: {ومن أظلم ممن ذُكّر بآيات ربه فأعرض عنها ونسي ما قدمت يداه إنّا جعلنا على قلوبهم أكِنّةَ أن يفقهوه وفي آذانهم وقراً وإن تدعهم إلى الهدى فلن يهتدوا إذاً أبداً} (الكهف/57)، هذا نموذجٌ من النّاس يتمثَّل في الإنسان الذي تعظه وترشده وتتلو عليه آيات الله تعالى لتذكّره بأن عليه أن يتقي ربه، وأن يخاف ربه ويجري على حسب ما حمّله من مسؤوليته، وعندما تذكره لا يتذكّر، وإن تعظه لا يتّعظ، لأنه إنسان أعرض عن ذكر ربه، فأبعد نفسه عن ذلك وأهمل ذكر ربه ونسي ما قدَّمت يداه، ونسي مسؤوليته عن كل أعماله التي قام بها مما أساء به إلى نفسه وإلى ربه وإلى الناس من حوله.

وهذه الحالة؛ حالة الإنسان الذي تذكِّره بالمسؤولية وتذكره بالتقوى وبالخوف من الله، فيعرض عن ذلك ويغلق عقله وقلبه، هؤلاء عبّر الله عنهم بقوله تعالى: {إنَّا جعلنا على قلوبهم أكنَّةً} أي غطاءً، وليس معنى ذلك أن الله أغلق قلوبهم بشكل جبري، ولكن معناه أنهم أغلقوا قلوبهم فأغلقها الله، فالله يفتح قلب الإنسان عندما يريد الإنسان ذلك. والمقصود من القلب هنا، العقل الذي يفكر، وهناك الكثير من الناس عندما تقول لهم فكروا معي، يقولون نحن غير مستعدين، فنحن عقلنا هكذا، ولسنا مستعدين لأن نغير عقولنا وأن نفكر، وإذا قلت لهم اسمعوا مني، فيقولون لسنا مستعدين لأن نسمع، {وفي آذانهم وقراً}، والوقر هو الضجيج الذي يحدث بالأذن. فهؤلاء قد أغلقوا قلوبهم عمّا يقدم لهم من مواعظ وذكر لآيات الله، وأغلقوا أسماعهم عن السمع.

{إنَّا جعلنا على قلوبهم أكنّةً أن يفقهوه}، الإنسان إذا أغلق عقله، فيصبح كالإنسان الذي لا عقل له، لأن قيمة العقل بأن يفتحه، وقيمة العقل بأن يجعله يفكر في ما يعرض عليه ويتأمل في كل ما يدور في داخله، أما الإنسان الذي ليس مستعداً لأن يفكر وأن يسمع وأن يتأمل كلية، وليس مستعداً لأن يأخذ ويعطي، فمن الطبيعي أنه لا فرق بينه وبين الذي لا عقل له، لأن قيمة العقل إنما هو أن تحركه، وأما إذا جمدته وأغلقته فلا فرق بينك وبين الإنسان الذي لا عقل له.

ولذلك، نحن نلاحظ، من خلال استيحاء هذه الآية لبعض الشخصيات، أن هناك اتجاهاً موجوداً حتى في أجواء بعض المتدينين وبعض الاتجاهات الدينية التي تقول للإنسان إن عليك أن لا تفكر، لكن نحن نعطيك، فخذ ما نعطيك إياه وتعبَّد ولا تفكر ولا تناقش ولا تحاور، أي أغلق عقلك وتقبَّل منّا كل شيء!! هذا أمر يرفضه المنهج الإسلامي، لأن الله يريد للإنسان أن يفكر {ويتفكرون في خلق السماوات والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلاً} (آل عمران/191)، {قل انظروا ماذا في السموات والأرض}. (يونس/101)، فكِّر بالكون وبكلّ شيء يعرض عليك، لأنَّ الله أعطاك العقل لتحركه في التفكير، ولتكتشف فيه الحقيقة والخطأ والصواب. الآخرون عندما يفكرون لك يفكرون على طريقتهم، وبحسب ثقافتهم، وربما تكون لك طريقة أخرى للتفكير، يمكن أن تكون لك ثقافة أخرى. لذلك على الإنسان أن لا يعطي عقله إجازة، وعلينا أن لا نبيع عقولنا لأحد، وأن لا نؤجّر عقولنا لأحد ولا نعيرها لأحد، ولا نجمّدها لمصلحة أحد.

نعم، نحن نحرك عقولنا مع عقول الآخرين، وهذا ما ورد عن الشورى في المجتمع المسلم، يقول تعالى: {وأمرهم شورى بينهم} (الشورى/38)، وفي الحديث:«من شاور الرجال شاركها في عقولها»، وهي أن تضم عقلك إلى عقل الآخر، في الحوار وفي الاستشارة، أما أن تغلق عقلك وتقول للآخر فكّر عني، فهذا ما ليس مقبولاً، لأنك كما تنمي جسدك وتغذيه وتحاول أن تأتي بما يقوي الدم والأعصاب وكل عضو ضعيف فيه، حتى تستطيع أن تكتسب القوة في حياتك، لأنك إذا لم تقوِّ جسدك بما يبعث القوة في أجهزته، فإنك تصبح إنساناً ضعيفاً لا حول له ولا قوة، كذلك عليك أن تقوي عقلك. وهكذا على الإنسان أن يحاول دائماً أن يقوّي كل أجهزته، لأنه يعيش من خلال أجهزته التي تحركه تجاه كل ما يطلبه من حاجات، وإذا كانت الأجهزة ضعيفة، سواء من جهة الجهاز العقلي أو الجهاز العصبي أو الجهاز الهضمي أو جهاز الحواس البصرية أو السمعية، فمن الطبيعي أنه سيفقد طاقته التي تمكنه من الاستمرار، ولذلك عندما يكون الإنسان على هذا الشكل من إغفال البصر، وصم السمع وغير ذلك، فإنَّ الله يقول من أظلم من هذا الإنسان الذي يظلم نفسه فيمنع عنها الانفتاح على حقائق الأشياء التي تمثلها آيات الله في ما يتصل بما يحمل من فكر أو بما يتحرك به من نشاط ومن سلوك، أو في ما يقوم به من معاملات ومن علاقات وما إلى ذلك.

وفي آية أخرى يقول تعالى: {فمن أظلم ممن كذب على الله} بحيث نسب إلى الله ما لم يقله {وكذّب بالصدق إذ جاءه}، وقد عبر الله عن القرآن وعن الوحي والذكر بأنه هو الصدق وهو الحق الذي أوحى الله به وأنزله الله على رسوله، ومع ذلك فقد كذّب بما جاء من عند الله.

نتيجة لذلك فإنه يكفر ويشرك بالله، {أليس في جهنّم مثوى للكافرين} لزمر/32)، لأن الإنسان إذا كذب بالرسالة وكذب بالوحي، فإنه يمثل الإنسان الذي يجحد بالحقائق التي أوحى بها الله وأنزلها، وهذا جزاؤه جهنم، لأن الله أقام عليه الحجة في ما أوحى به إليه، وأعطاه العقل ليفكر في ما أنزل عليه من الحجة.

وفي مقابل الذي كذّب بالصدق، هناك {والذي جاء بالصدق} بالحقِّ {وصدَّق به أولئك هم المتقون}، لأنهم هم الذين يخافون الله ويخافون مقام ربهم، فهم يحرّكون عقولهم في اتجاه وعي ما أوحى به الله، من أجل أن يقودهم ذلك إلى الإيمان بالله وإلى الاعتقاد بتوحيده؛ توحيده في العقيدة وفي الطاعة وفي العبادة، {أولئك هم المتقون* لهم ما يشاؤون عند ربّهم ذلك جزاء المحسنين* ليكفِّر الله عنهم أسوأ الذي عملوا ويجزيهم أجرهم بأحسن الذي كانوا يعملون} (الزمر/33-35).

وهناك آية أخرى تتحدَّث عن هؤلاء الذين يمنعون الناس من الصلاة في المساجد، ويعملون على إبعادهم عنها نتيجة كفر أو عصبية، أو نتيجة العقد النفسية التي تعيش في داخل نفوسهم، يقول تعالى: {ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه} (البقرة/114) أي يحاول أن يمنع الناس من الإتيان إلى المساجد ومن ذكر الله والصلاة فيها، كما قلنا، إما نتيجة عقدة نفسية ضد الطاعة وضد الصلاة وضد المساجد أو من جهة بعض العصبيات أو من بعض الحزبيات.

ومع الأسف، أصبحت العصبيات الحزبية التي كانت أيام المشركين والمنافقين، أصبحت الآن حتى بين المؤمنين، وبدأ القول هذا المسجد لا تصلوا فيه فهو ليس لجماعتنا، وذاك المسجد لا تصلّوا فيه، وهذا المسجد خربوا الأجواء فيه، وإذا صلى شخص في هذا المسجد عطّلوا عليه صلاته وشاغبوا فيه وما إلى ذلك، هؤلاء تنطبق عليهم هذه الآية: {ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يُذكر فيها اسمه وسعى في خرابها أولئك ما كان لهم أن يدخلوها إلا خائفين}، أي إن على الناس أن يمنعوهم من ذلك، وأن يعطّلوا كل وسائلهم وأساليبهم، {لهم في الدنيا خزي ولهم في الآخرة عذاب عظيم} (البقرة/114).

هذا نموذج ممن عبر الله عنهم بأنهم من أظلم الناس، لأنه أيّ ظلم أكبر من أن الله يريد لعباده أن يعبدوه وأن يطيعوه وأن يذكروه، فيأتي بعض الناس من أجل أن يمنعوا الناس من الطاعة، ويمنعوهم عن العبادة ويمنعوهم عن ذكر الله، نتيجة بعض العصبيات الشخصية أو الحزبية أو ما أشبه ذلك من الأمور.

والحمد لله رب العالمين والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته